مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/شرح حديث إنما الأعمال بالنيات


شرح حديث إنما الأعمال بالنيات عدل

وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المستوجب لصفات المدح والكمال، المستحق للحمد على كل حال، لا يحصي أحد ثناءً عليه، بل هو كما أثني على نفسه بأكمل الثناء وأحسن المقال، فهو المنعم على العباد بالخلق، وبإرسال الرسل إليهم، وبهداية المؤمنين منهم لصالح الأعمال. وهو المتفضل عليهم بالعفو عنهم، وبالثواب الدائم، بلا انقطاع ولا زوال. له الحمد في الأولى والآخرة، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، متصلا بلا انفصال.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي هدي به من الضلال، وأمر المؤمنين بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ووضع عنهم الآصار والأغلال، فصلى الله عليه وعلى آله خير آل، وعلى أصحابه الذين كانوا نصرة للدين، حتى ظهر الحق وانطمست أعلام الضلال.

أما بعد: فإن الله تعالى خلق الخلق لما شاء من حكمته، وأسبغ عليهم ما لا يحصونه من نعمته، وكَرَّمَ بني آدم بأصناف كرامته، وخص عباده المؤمنين باصطفائه وهدايته، وجعل أمة محمد خير أمة أخرجت للناس من بَرِيَّته. وبعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعلمون صدقه وأمانته وجميل سيرته، يتلو عليهم آياته؛ ليخرجهم من ظلمة الكفر وحيرته، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويدعوهم إلى عبادته.

وأنزل عليهم أفضل كتاب أنزله إلى خليقته، وجعله آية باقية إلى قيام ساعته، معجزة باهرة مُبْدِية عن حجته، وبينة ظاهرة موضحة لدعوته، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويدلهم على طريق جنته. فالسعيد من اعتصم بكتاب الله، واتبع الرسول في سنته وشريعته. والمهتدي بمناره، المقْتَفِي لآثاره هو أفضل الخلق في دنياه وآخرته، والمحيي لشيء من سنته له أجرها وأجر من عمل بها من غير نقصان في أجر طاعته، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يضاعف الحسنات بفضله ورحمته.

وإحياء سنته يشمل أنواعا من البر لسعة فضل الله وكرامته، فيكون بالتبليغ لها والبيان لأجل ظهور الحق ونصرته، ويكون بالإعانة عليها بإنفاق المال والجهاد؛ إعانة على دين الله وعلو كلمته، فالجهاد بالمال مقرون بالجهاد بالنفس، قد ذكره الله تعالى قبله وفي غير موضع لعظم منزلته وثمرته، وقد قال النبي : «من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خَلَفَهُ في أهله بخير فقد غزا» وقال: «من فطر صائما فله مثل أجره» ومثوبته، لا سيما ما يبقي نفعه بعد موت الإنسان ومصيره إلى تربته، كما قال في الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»، فهذه الثلاث هي من أعماله الباقية بعد ميتته، بخلاف ما ينفعه بعد موته من أعمال غيره من الدعاء والصدقة والعتق؛ فإن ذلك ليس من سعيه، بل من سَعْي غيره وشفاعته، وكما يلحق بالمؤمن من يدخله الله الجنة من ذريته.

وأصل العمل الصالح هو إخلاص العبد لله في نيته، فإنه سبحانه إنما أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وخلق الخلق لعبادته، وهي دعوة الرسل لكافة بريته، كما ذكر ذلك في كتابه على ألسنة رسله بأوضح دلالته؛ ولهذا كان السلف يستحبون أن يفتتحوا مجالسهم وكتبهم وغير ذلك بحديث: «إنما الأعمال بالنيات» في أول الأمر وبدايته فنجري في ذلك على منهاجهم؛ إذ كانوا أفضل جيش الإسلام ومقدمته، فنقول مستعينين بالله على سلوك سبيل أهل ولايته وأحبته:

عن يحيي بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التَّيمِي، عن علقمة بن وَقَّاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

هذا حديث صحيح متفق على صحته، تَلَقَّتْه الأمة بالقبول والتصديق، مع أنه من غرائب الصحيح؛ فإنه، وإن كان قد روي عن النبي من طرق متعددة، كما جمعها ابن مِنْدَه وغيره من الحفاظ، فأهل الحديث متفقون على أنه لا يصح منها إلا من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه المذكورة، ولم يروه عنه إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد إلا يحيي بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة.

ورواه عن يحيي بن سعيد أئمة الإسلام، يقال: إنه رواه عنه نحو من مائتي عالم، مثل: مالك، والثوري، وابن عيينة، وحماد، وحماد، وعبد الوهاب الثقفي، وأبي خالد الأحمر، وزائدة، ويحيي بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، وغير هؤلاء خلق من أهل مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام، وغيرها، من شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق وطبقتهم، ويحيي بن معين، وعلي بن المديني، وأبي عبيد.

ولهذا الحديث نظائر من غرائب الصحاح، مثل: حديث ابن عمر، عن النبي : أنه نهى عن بيع الولاء وهبته. أخرجاه، تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر.

ومثل حديث أنس: أن النبي دخل مكة وعلى رأسه المغفر فقيل: إن ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» أخرجاه، تفرد به الزهري عن أنس، وقيل: تفرد به مالك عن الزهري، فالحديث الغريب: ما تفرد به واحد، وقد يكون غريب المتن، أو غريب الإسناد، ومثل أن يكون متنه صحيحًا من طريق معروفة، وروي من طريق أخرى غريبة.

ومن الغرائب ما هو صحيح، وغالبها غير صحيح، كما قال أحمد: اتقوا هذه الغرائب فإن عامتها عن الكذابين؛ ولهذا يقول الترمذي في بعض الأحاديث: إنه غريب من هذا الوجه.

والترمذي أول من قسم الأحاديث إلى صحيح، وحسن، وغريب، وضعيف، ولم يعرف قبله هذا التقسيم عن أحد، لكن كانوا يقسمون الأحاديث إلى صحيح، وضعيف، كما يقسمون الرجال إلى ضعيف، وغير ضعيف، والضعيف عندهم نوعان: ضعيف لا يحتج به، وهو الضعيف في اصطلاح الترمذي، والثاني: ضعيف يحتج به، وهو الحسن في اصطلاح الترمذي، كما أن ضعف المرض في اصطلاح الفقهاء نوعان: نوع يجعل تبرعات صاحبه من الثلث، كما إذا صار صاحب فراش، ونوع يكون تبرعات صاحبه من رأس المال، كالمرض اليسير الذي لا يقطع صاحبه، ولهذا يوجد في كلام أحمد وغيره من الفقهاء أنهم يحتجون بالحديث الضعيف؛ كحديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهَجْري وغيرهما؛ فإن ذلك الذي سماه أولئك ضعيفًا هو أرفع من كثير من الحسن، بل هو مما يجعله كثير من الناس صحيحًا، والترمذي قد فسر مراده بالحسن أنه ما تعددت طرقه، ولم يكن فيها متهم، ولم يكن شاذًا.


هامش



مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن عشر - الحديث
سئل ما حد الحديث النبوي | فصل تعريف الحديث الواحد | فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا | فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف | فصل أنواع الرواية وأسماء الأنواع | أن يسمع من لفظ المحدث | أن يقرأ على المحدث فيقر به | المناولة والمكاتبة | الإجازة | معني قولهم حديث حسن أو مرسل أو غريب | شرط البخاري ومسلم | قولهم هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح | الخبر ينقسم ثلاثة أقسام | فصل الخطأ في الخبر يقع من الراوي إما عمدا أو سهوا | أسباب تعمد الكذب | فصل الراوي إما أن تقبل روايته مطلقا أو مقيدا | فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان | فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين | فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة | فصل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد | سئل عمن أنكر التواتر في الأحاديث | كلام الشيخ على كتاب الحلية لأبي نعيم | وسئل عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن | أحاديث رواها شيخ الإسلام بن تيمية بأسانيد لنفسه | بعض الأخبار الموضوعة | وسئل عن وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن | سئل عن حديث ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي | فصل في قوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا | فصل في قوله كلكم ضال إلا من هديته | فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته | فصل قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار | فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني | فصل قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم | فصل قوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم | فصل شرح حديث حديث عمران بن حصين | شرح حديث إنما الأعمال بالنيات | فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها | فصل في قوله وجلت قلوبهم | فصل في معنى حديث خطبة الحاجة | فصل حديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ | فصل حديث مثل أمتي كمثل الغيث | حديث سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء | فصل حديث أعطيت جوامع الكلم | حديث الكرب اللهم إني عبدك | فصل حديث المرء مع من أحب | وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا | فصل حديث من يستغن يغنه الله | فصل في حديث إن أكبر الكبائر الكفر والكبر | فصل فيما يتعلق بالثلاث المهلكات | سئل عن أحاديث هل هي صحيحة | سئل عن بعض الأحاديث | سئل عمن سمع رجلا يقول لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا | وسئل عن قصة إبليس | بيان ما في كتاب تنقلات الأنوار | سئل عن أحاديث يرويها قصاص | قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد | معنى حديث على كل مسلم صدقة | وسئل عن أحاديث يرويها القصاص