مجموع الفتاوى/المجلد الخامس/فصل في الإخبار بكروية الأرض
فصل في الإخبار بكروية الأرض
عدلاعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل، وهي في الماء المحيط بأكثرها؛ إذ اليابس السدس وزيادة بقليل، والماء أيضا مقبب من كل جانب للأرض، والماء الذي فوقها بينه وبين السماء كما بيننا وبينها مما يلى رؤوسنا، وليس تحت وجه الأرض إلا وسطها ونهاية التحت المركز ؛ فلا يكون لنا جهة بينة إلا جهتان: العلو والسفل، وإنما تختلف الجهات باختلاف الإنسان .
فعلو الأرض وجهها من كل جانب، وأسفلها ما تحت وجهها ونهاية المركز هو الذي يسمى محط الأثقال، فمن وجه الأرض والماء من كل وجهة إلى المركز يكون هبوطًا، ومنه إلى وجهها صعودًا، وإذا كانت سماء الدنيا فوق الأرض محيطة بها فالثانية كُرِّية، وكذا الباقي. والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فَلاة، والجملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة .
والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع، فإن لفظ الفلك يدل على الاستدارة، ومنه قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1؛ قال ابن عباس: في فلكة كفلكة المغزل، ومنه قولهم: تَفَلَّكَ ثدى الجارية: إذا استدار، وأهل الهيئة والحساب متفقون على ذلك .
وأما العرش فإنه مقبب، لما روى في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله ﷺ أعرابي فقال: يارسول الله، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وذكر الحديث إلى أن قال رسول الله ﷺ: «إن الله على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا» وقال بإصبعه مثل القبة .
ولم يثبت أنه فلك مستدير مطلقًا، بل ثبت أنه فوق الأفلاك وأن له قوائم، كما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من إليهود إلى رسول الله ﷺ قد لُطِم وجهُه فقال: يامحمد، إن رجلا من أصحابك لَطم وجهى، فقال النبي ﷺ: «ادعوه» فدعوه. فقال: «لم لطمتَ وجهَه؟» فقال: يارسول الله، إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفي موسى على البشر، فقلت: يا خبيث، وعلى محمد، فأخذتني غضبة فلطمته، فقال النبي ﷺ: «لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يُصعَقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بِصَعْقَة الطور؟».
وفي علوه قوله ﷺ: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة».
فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات وسقفها، وأنه مقبب وأن له قوائم، وعلى كل تقدير فهو فوق، سواء كان محيطًا بالأفلاك أو غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلى بالنسبة إلى الخالق سبحانه وتعالى في غاية الصغر؛ لقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية 2.
هامش