مجموع الفتاوى/المجلد الخامس/كفر من زعم أن الرب يقبل التفرق والانقسام
كفر من زعم أن الرب يقبل التفرق والانقسام
عدلوكذلك من زعم أن الرب مركب مؤلف؛ بمعنى أنه يقبل التفريق والانقسام والتجزئة، فهذا من أكفر الناس وأجهلهم، وقوله شر من قول الذين يقولون: إن لله ولدًا؛ بمعنى أنه انفصل منه جزء فصار ولدًا له، وقد بسطنا الكلام على هذا في تفسير: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} 1، وفي غير ذلك. وكذلك إذا قيل: هو جسم؛ بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة، أو المادة والصورة، فهذا باطل، بل هو أيضا باطل في المخلوقات، فكيف في الخالق سبحانه وتعالى؟ وهذا مما يمكن أن يكون قد قاله بعض المجسمة الهشامية، والكرامية وغيرهم ممن يحكى عنهم التجسيم؛ إذ من هؤلاء من يقول: إن كل جسم فإنه مركب من الجواهر المنفردة، ويقولون مع ذلك: إن الرب جسم، وأظن هذا قول بعض الكرامية، فإنهم يختلفون في إثبات الجوهر الفرد، وهم متفقون على أنه سبحانه جسم.
لكن يحكى عنهم نزاع في المراد بالجسم، هل المراد به أنه موجود قائم بنفسه، أو المراد به أنه مركب؟ فالمشهور عن أبي الهَيْصَم وغيره من نظارهم أنه يفسر مراده؛ بأنه موجود قائم بنفسه مشار إليه، لا بمعنى أنه مؤلف مركب. وهؤلاء ممن اعترف نفاة الجسم بأنهم لا يكفرون؛ فإنهم لم يثبتوا معنى فاسدًا في حق الله تعالى لكن قالوا: إنهم أخطؤوا في تسمية كل ما هو قائم بنفسه، أو ما هو موجود جسمًا، من جهة اللغة؛ قالوا: فإن أهل اللغة لا يطلقون لفظ الجسم إلا على المركب.
والتحقيق أن كلا الطائفتين مخطئة على اللغة، أولئك الذين يسمون كل ما هو قائم بنفسه جسمًا، وهؤلاء الذين سموا كل ما يشار إليه وترفع الأيدي إليه جسمًا، وادعوا أن كل ما كان كذلك فهو مركب، وأن أهل اللغة يطلقون لفظ الجسم على كل ما كان مركبًا. فالخطأ في اللغة، والابتداع في الشرع مشترك بين الطائفتين.
وأما المعاني: فمن أثبت من الطائفتين ما نفاه الله ورسوله، أو نفي ما أثبت الله ورسوله، فهو مخطئ عقلا، كما هو مخطئ شرعا. بل أولئك يقولون لهم: نحن وأنتم اتفقنا على أن القائم بنفسه يسمى جسمًا في غير محل النزاع، ثم ادعيتم أن الخالق القائم بنفسه يختص بما يمنع هذه التسمية التي اتفقنا نحن وأنتم عليها، فبينا أنه لا يختص؛ لأن ذلك مبني على أن الأجسام مركبة، ونحن نمنع ذلك ونقول: ليست مركبة من الجواهر المنفردة.
ولهذا كره السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره أن ترد البدعة بالبدعة، فكان أحمد في مناظرته للجهمية لما ناظروه على أن القرآن مخلوق، وألزمه أبو عيسى محمد ابن عيسى برغوث 2 أنه إذا كان غير مخلوق لزم أن يكون الله جسمًا وهذا منتف، فلم يوافقه أحمد، لا على نفي ذلك، ولا على إثباته؛ بل قال: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3.
ونبه أحمد على أن هذا اللفظ لا يدرى ما يريدون به. وإذا لم يعرف مراد المتكلم به لم يوافقه، لا على إثباته، ولا على نفيه. فإن ذكر معنى أثبته الله ورسوله أثبتناه، وإن ذكر معنى نفاه الله ورسوله نفيناه باللسان العربي المبين، ولم نحتج إلى ألفاظ مبتدعة في الشرع، محرفة في اللغة، ومعانيها متناقضة في العقل، فيفسد الشرع واللغة والعقل؛ كما فعل أهل البدع من أهل الكلام الباطل المخالف للكتاب والسنة.
وكذلك أيضا لفظ الجبر كره السلف أن يقال: جبر، وأن يقال: ما جبر؛ فروى الخلال في كتاب السنة عن أبي إسحاق الفزاري الإمام قال: قال الأوزاعي: أتاني رجلان، فسألاني عن القدر، فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما. قلت: رحمك الله، أنت أولى بالجواب. قال: فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان، فقال: تكلما، فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر فنازعونا في القدر، ونازعناهم حتى بلغ بنا وبهم الجواب، إلى أن قلنا: إن الله قد جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا، فقال: أجبهما يا أبا إسحاق، قلت: رحمك الله، أنت أولى بالجواب، فقال: أجبهما، فكرهت أن أخالفه، فقلت: يا هؤلاء، إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثًا، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه، فقال: أجبت وأحسنت يا أبا إسحاق.
وروي أيضا عن بَقِيَّة بن الوليد قال: سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحب. وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلًا من القرآن والسنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله ﷺ، وإنما وضعت هذا مخافة أن يرتاب رجل من أهل الجماعة والتصديق.
وروي عن أبي بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: تقول: إن الله أجبر العباد؟ فقال: هكذا لا تقول، وأنكر هذا. وقال: يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
وقال المروذى: كتب إلى عبد الوهاب في أمر حسين بن خلف العكبري وقال: إنه تنزه عن ميراث أبيه، فقال رجل قدري: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي؛ فرد عليه أحمد بن رجاء فقال: إن الله جبر العباد أراد بذلك إثبات القدر فوضع أحمد بن علي كتابًا يحتج فيه، فأدخلته على أبي عبد الله وأخبرته بالقصة قال: ويضع كتابًا؟ وأنكر عليهما جميعًا: علي بن رجاء حين قال: جبر العباد، وعلى القدري الذي قال: لم يجبر، وأنكر على أحمد بن علي وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب، وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال: جبر العباد. فقلت لأبي عبد الله: فما الجواب في هذه المسألة؟ فقال: يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
قال الخلال: وأخبرنا المروذي في هذه المسألة: أنه سمع أبا عبد الله لما أنكر على الذي قال: لم يجبر، وعلى من رد عليه جبر، فقال أبو عبد الله: كلما ابتدع رجل بدعة اتسعوا في جوابها، وقال: يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثة، وأنكر على من رد شيئا من جنس الكلام إذا لم يكن له فيه إمام تقدم.
قال المروذي: فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبرا ومعه نسخة وكتاب من أهل عكبرا، فأدخلت أحمد بن علي على أبي عبد الله، فقال: يا أبا عبد الله، هذا الكتاب ادفعه إلى أبي بكر حتى يقطعه، وأنا أقوم على منبر عكبرا وأستغفر الله، فقال أبو عبد الله لي: ينبغي أن تقبلوا منه وارجعوا إليه.
قال المروذي: سمعت بعض المشيخة يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أنكر سفيان الثوري جبر، وقال: الله تعالى جبل العباد. قال المروذي: أظنه أراد قول النبي ﷺ لأشَجِّ عبد القيس.
قلت: هذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، وإنما المقصود التنبيه على أن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات، بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول ﷺ. والألفاظ المبتدعة ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها معنى غير المعنى الذي أراده أولئك؛ كلفظ الجسم، والجهة، والحيز، والجبر ونحو ذلك، بخلاف ألفاظ الرسول فإن مراده بها يعلم كما يعلم مراده بسائر ألفاظه، ولو يعلم الرجل مراده لوجب عليه الإيمان بما قاله مجملًا. ولو قدر معنى صحيح والرسول ﷺ لم يخبر به لم يحل لأحد أن يدخله في دين المسلمين، بخلاف ما أخبر به الرسول ﷺ فإن التصديق به واجب.
والأقوال المبتدعة تضمنت تكذيب كثير مما جاء به الرسول ﷺ، وذلك يعرفه من عرف مراد الرسول ﷺ ومراد أصحاب تلك الأقوال المبتدعة. ولما انتشر الكلام المحدث، ودخل فيه ما يناقض الكتاب والسنة، وصاروا يعارضون به الكتاب والسنة، صار بيان مرادهم بتلك الألفاظ وما احتجوا به لذلك من لغة وعقل، يبين للمؤمن ما يمنعه أن يقع في البدعة والضلال، أو يخلص منها إن كان قد وقع ويدفع عن نفسه في الباطن والظاهر ما يعارض إيمانه بالرسول ﷺ من ذلك. وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا أن ما جاء به الرسول ﷺ لا يدفع بالألفاظ المجملة كلفظ التجسيم وغيره مما قد يتضمن معنى باطلًا، والنافي له ينفي الحق والباطل. فإذا ذكرت المعاني الباطلة نفرت القلوب. وإذا ألزموه ما يلزمونه من التجسيم الذي يدعونه نفر إذا قالوا له: هذا يستلزم التجسيم؛ لأن هذا لا يعقل إلا في جسم لم يحسن نقض ما قالوه، ولم يحسن حله. وكلهم متناقضون.
وحقيقة كلامهم أن ما وصف به الرب نفسه، لا يعقل منه إلا ما يعقل في قليل من المخلوقات التي نشهدها كأبدان بني آدم. وهذا في غاية الجهل؛ فإن من المخلوقات مخلوقات لم نشهدها كالملائكة والجن حتى أرواحنا. ولا يلزم أن يكون ما أخبر به الرسول ﷺ مماثلًا لها، فكيف يكون مماثلًا لما شاهدوه؟
وهذا الكلام في لفظ الجسم من حيث اللغة
وأما الشرع، فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا سلف الأمة أن الله جسم، أو أن الله ليس بجسم، بل النفي والإثبات بدعة في الشرع.
وأما من جهة العقل فبينهم نزاع فيما اتفقوا على تسميته جسمًا: كالسماء والأرض، والريح والماء، ونحو ذلك مما يشار إليه ويختص بجهة وهو متحيز، قد تنازعوا: هل هو مركب من جواهر لا تقبل القسمة، أو من مادة وصورة، أو لا من هذا ولا من هذا؟ وأكثر العقلاء على القول الثالث. وكل من القولين الأولين قاله طائفة من النظار. والأول: كثير في أهل الكلام، والثاني: كثير في الفلاسفة، لكن قول الطائفتين باطل، معلوم بالعقل بطلانه عند أهل القول الثالث.
وإذا كان كذلك، فإذا قال القائل: أنا أقول: إنه فوق العرش، وأنه ترفع الأيدي إليه ونحو ذلك، وليس كل ما كان كذلك كان مركبًا من أجزاء مفردة، ولا من المادة والصورة العقليين، كان الكلام مع هذا في التلازم. فإذا قال الثاني: بل كل ما كان فوق غيره، وكل ما كان يشار إليه بالأيدي، فلا يكون إلا مركبًا إما من هذا، وإما من هذا: كان هذا بمنزلة قول الآخر: كل ما كان حيًا قادرًا عالمًا، فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، أو كل ما كان له حياة وعلم وقدرة، فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، أو كل ما كان سميعًا بصيرًا متكلمًا فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، بناء على أن كل موجود قائم بنفسه هو جسم، وكل جسم فهو مركب هذا التركيب.
ومعلوم أن هذا باطل عند جماهير العلماء والعقلاء باتفاقهم؛ فإني لا أعلم طائفة من العقلاء المعتبرين أنهم قالوا: هو جسم، وهو مركب هذا التركيب، بل الذي أعرف أنهم قالوا: هو جسم كالهشامية والكرامية لا يفسرون كلهم الجسم بما هو مركب هذا التركيب، بل إنما نقل هذا عن بعضهم، وقد ينقل عن بعضهم مقالات ينكرها بعضهم، كما نقل عن مقاتل بن سليمان، وهشام بن الحكم مقالات ردية. ومن الناس من رد هذا النقل عن مقاتل بن سليمان فرده كثير من الناس. وأما النقل عن هشام فرده كثير من أتباعه.
ومن قدر أنه قال ذلك من الناس، فقوله باطل كسائر من قال على الله الباطل، كما حكي عن بعض اليهود والرافضة والمجسمة، وإنهم يصفونه بالنقائص التي تعالى الله عنها، كوصفه أنه أجوف، وأنه بكى حتى رمد وعادته الملائكة، وعض أصابعه حتى خرج منها الدم، وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أوْرَق.
وأمثال هذه الأقوال التي فيها الافتراء على الله تعالى ووصفه بالنقائص، ما يعلم بطلانه بصريح المعقول وصحيح المنقول.
وهكذا إذا قال القائل: إنه لو نزل إلى سماء الدنيا، للزم الحركة، والانتقال والحركة والانتقال من خصائص الأجسام، أو قال: للزم أن يخلو منه العرش وذلك محال؛ فإن للناس في هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: قول من يقول: ينزل وليس بجسم.
وقول من يقول: ينزل وهو جسم.
وقول من لا ينفي الجسم ولا يثبته، إما إمساكًا عنهما؛ لكون ذلك بدعة وتلبيسًا كما تقدم، وإما مع تفصيل المراد، وإقرار الحق وبطلان الباطل، وبيان الصواب من المعاني العقلية التي اشتبهت في هذا؛ مثل أن يقال: النزول والصعود والمجيء والإتيان، ونحو ذلك، مما هو أنواع جنس الحركة، لا نسلم أنه مخصوص بالجسم الصناعي الذي يتكلم المتكلمون في إثباته ونفيه، بل يوصف به ما هو أعم من ذلك. ثم هنا طريقان:
أحدهما: أن هذه الأمور توصف بها الأجسام والأعراض فيقال: جاء البرد وجاء الحر، وجاءت الحمى، ونحو ذلك من الأعراض. وإذا كانت الأعراض توصف بالمجيء والإتيان، علم أن ذلك ليس من خصائص الأجسام، فلا يجوز أن يوصف بهذه الأفعال حقيقة مع أنه ليس بجسم، وهذه طريقة الأشعري ومن تبعه من نظار أهل الحديث وأتباع الأئمة الأربعة وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وغيره، وهذا معنى ما حكاه في المقالات عن أهل السنة والحديث.
ولهذا كان قول ابن كلاب والأشعري والقلانسي ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحاب أحمد وغيرهم، أن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش. وكذلك يقولون في النزول. ومعني ذلك أنه يحدث في العرش قربًا فيصير مستويًا عليه من غير أن يقوم به نفسه فعل اختياري، سواء قالوا: إن الفعل هو المفعول، أو لم يقولوا بذلك، وكذلك النزول عندهم، فهم يجعلون الأفعال اللازمة بمنزلة الأفعال المتعدية؛ وذلك لأنهم اعتقدوا أنه لا يقوم به فعل اختياري؛ لأن ذلك حادث، فقيامه به يستلزم أن تقوم به الحوادث، فنفوا ذلك لهذا الأصل الذي اعتقدوه.
الطريق الثاني: أنيقال: المجيء والإتيان والصعود والنزول توصف به روح الإنسان التي تفارقه بالموت، وتسمى النفس، وتوصف به الملائكة، وليس نزول الروح وصعودها من جنس نزول البدن وصعوده؛ فإن روح المؤمن تصعد إلى فوق السموات، ثم تهبط إلى الأرض، فيما بين قبضها ووضع الميت في قبره. وهذا زمن يسير، لا يصعد البدن إلى ما فوق السموات، ثم ينزل إلى الأرض في مثل هذا الزمان.
وكذلك صعودها ثم عودها إلى البدن في النوم واليقظة؛ ولهذا يشبه بعض الناس نزولها إلى القبر بالشعاع، لكن ليس هذا مثالا مطابقًا. فإن نفس الشمس لا تنزل، والشعاع الذي يظهر على الأرض هو عرض من الأعراض يحدث بسبب الشمس، ليس هو الشمس ولا صفة قائمة بها، والروح نفسها تصعد وتنزل، ففي الحديث المشهور حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في قبض الروح وفتنة القبر، وقد رواه الإمام أحمد وغيره، ورواه أبو داود أيضا واختصره، وكذلك النسائي، وابن ماجه، ورواه أبو عوانة في صحيحه بطوله، وفي روايته عن زاذان: سمعت البراء، وذلك يبطل قول من قال: إنه لم يسمعه منه.
ورواه الحاكم في صحيحه من حديث أبي معاوية، قال: حدثنا الأعمش، ثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عمرو زاذان، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في جنازة فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، وذكر الحديث بطوله. ورواه الحاكم أيضا من حديث محمد بن الفضل، قال: حدثنا الأعمش، فذكره. وقال في آخره: حدثنا فضيل، حدثني أبي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة بهذا الحديث، إلا أنه قال: «أرقد رقدة كرقدة من لا يوقظه إلا أحب الناس إليه».
قال: وقد رواه شعبة، وزائدة، وغيرهما، عن الأعمش، ورواه مُؤَمَّل، عن الثوري عنه، قال: وهو على شرطهما قد احتجا بالمنهال بن عمرو، قال: وقد روى ابن جرير عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: ذكر النبي ﷺ المؤمن والكافر، ثم ذكر طرفًا من حديث القبر، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن يونس بن خباب، عن المنهال بن عمرو، الحديث بطوله. قال: وكذلك أبوخالد الدالاني، وعمرو بن قيس الملائي، والحسن بن عبيد الله النخعي، عن المنهال، ورواه شعيب بن صفوان، عن يونس بن خباب، فقال: عن المنهال، عن زاذان، عن أبي البختري، قال، سمعت البراء قال: وهذا وَهْم من شعيب، فقد رواه معمر ومهدي بن ميمون وعباد بن عباد عن يونس التامر.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: وأما حديث البراء رواه المنهال بن عمرو عن زاذان، عن البراء، فحديث مشهور رواه عن المنهال الجَمُّ الغَفِير. ورواه عن البراء عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، وغيرهما. ورواه عن زاذان عطاء بن السائب. قال: وهو حديث أجمع رواة الأثر على شهرته واستفاضته، وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: هذا الحديث إسناده متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء.
وقال الإمام أحمد في المسند: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله ﷺوجلسنا حوله، كأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل عليه من السماء ملائكة بِيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كَفَن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حنوط الجنة، حتى يجلسون منه مَدَّ بَصَرِه، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان». قال: «فتخرج فتسيل كما تسيل القَطْرَة من فِي السِّقَاء، فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها ريح كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون يعني بها على ملأ من الملائكة بين السماء والأرض، إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له. فيُشيِّعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة، فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عِلِّيِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى»، قال: «فتعاد روحه، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: الله ربي، فيقولان له: وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله ﷺ، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادى مناد من السماء: أن صَدَقَ عبدي، فأفْرِشُوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة»، قال: «فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره». قال: «فيأتيه رجل حَسَن الوجه، حسن الثياب، طيِّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يَسُرُّك، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي».
وقال: «وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل عليه من السماء ملائكة سُود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجى إلى سخط من الله وغضب»، قال: «فتتفرق في جسده، فينزعها كما ينزع السَّفُّود مَن الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المُسُوح، ويخرج منها كأنتن ريح جِيفَة وُجِدَت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له». ثم قرأ رسول الله ﷺ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} 4 «فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا». ثم قرأ رسول الله ﷺ: {وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 5. «فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري: فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمُومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب، لا تقم الساعة».
قلت: هذا قد رواه عن البراء بن عازب غير واحد غير زاذان، منهم: عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد.
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده في كتاب الروح والنفس: حدثنا محمد بن يعقوب بن يوسف، ثنا محمد بن إسحاق الصَّغَاني، ثنا أبو النضر هاشم بن قاسم، ثنا عيسى بن المسيَّب، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ فيجنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس وجلسنا حوله، كأن على أكتافنا فلق الصخر، وعلى رءوسنا الطير، فأزم قليلا والإزمام: السكوت فلما رفع رأسه قال: «إن المؤمن إذا كان في قُبُل من الآخرة ودُبُر من الدنيا وحضره ملك الموت، نزلت عليه ملائكة من السماء، معهم كفن من الجنة، وحَنُوط من الجنة، فيجلسون منه مدَّ بَصَره، وجاءه ملك الموت فجلس عند رأسه، ثم يقول: اخرجي أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه، فتَسِيل نفسه كما تقطر القَطْرَة من السِّقاء. فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض إلا الثقلين، ثم يصعد به إلى السماء فتفتح له السماء ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة إلى العرش، مقربو كل سماء. فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين، فيقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى فيرد إلى مضجعه، فيأتيه مُنْكَر ونَكِير، يثيران الأرض بأنيابهما، ويَفْحَصَان الأرض بأشعارهما، فيجلسانه ثم يقال له: يا هذا من ربك؟ فيقول: الله ربي، فيقولان: صدقت. ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان له: صدقت. ثم يقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد رسول الله، فيقولان: صدقت. ثم يفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، طيب الريح، فيقول له: جزاك الله خيرًا، فوالله ما علمت إن كنت لسريعًا في طاعة الله، بطيئًا عن معصية الله، فيقول: وأنت، جزاك الله خيرًا، فمن أنت؟ فقال: أنا عملك الصالح. ثم يفتح له باب إلى الجنة، فينظر إلى مقعده ومنزله منها حتى تقوم الساعة.
وإن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة وحضره ملك الموت، نزل عليه من السماء ملائكة معهم كفن من نار، وحنوط من نار». قال: «فيجلسون منه مد بصره، وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه، ثم قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى غضب الله وسخطه، فتتفرق روحه في جسده، كراهة أن تخرج لما ترى وتعاين، فيستخرجها كما يستخرج السَّفُّود من الصوف المبلول، فإذا خرجت نفسه لعنه كل شيء بين السماء والأرض إلا الثقلين، ثم يصعد به إلى السماء الدنيا فتغلق دونه، فيقول الرب تبارك وتعالى: ردوا عبدي إلى مضجعه، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فترد روحه إلى مضجعه، فيأتيه منكر ونكير، يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه، ثم يقولان له: من ربك؟ فيقول: لا أدري، فينادى من جانب القبر: لا دريت، فيضربانه بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها من بين الخافقين لم تقل. ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: جزاك الله شرًا، فوالله ما علمت إن كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا في معصية الله، فيقول: من أنت؟ فيقول أنا عملك الخبيث، ثم يفتح له باب إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة».
وقال ابن منده: رواه الإمام أحمد بن حنبل، ومحمود بن غيلان، وغيرهما عن أبي النضر.
ومن ذلك حديث ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره. وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه. اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج على ابن أبي ذئب ومحمد بن عمرو بن عطاء، وسعيد بن يسار، وهم من شرطهما، ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب مثل ابن أبي فديك، وعنه دحيم بن إبراهيم.
قلت: وقد رواه عن ابن أبي ذئب غير واحد، ولكن هذا سياق حديث ابن أبي فديك لتقدمه. قال ابن أبي فديك: حدثني محمد بن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح فيقولون: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري برَوْح ورَيْحَان ورب غير غضبان»، قال: «فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء الدنيا فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: مرحبًا بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فيقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. اخرجي ذميمة، وأبشري بحَمِيم وغَسَّاق، وآخَرَ من شَكْله أزواج. فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لن تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى قبره. فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشغوف، ثم يقال: ما كنت تقول في الإسلام؟ فيقول: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات من قبل الله فآمنا وصدقنا». وذكر تمام الحديث.
والمقصود أن في حديث أبي هريرة قوله: «فيصير إلى قبره» كما في حديث البراء ابن عازب، وحديث أبي هريرة روي من طرق تصدق حديث البراء بن عازب، وفي بعض طرقه سياق حديث البراء بطوله، كما ذكره الحاكم، مع أن سائر الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح إلى البدن؛ إذ المسألة للبدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور، وكذلك السؤال للروح بلا بدن قاله ابن ميسرة وابن حزم، ولو كان كذلك لم يكن للقبر بالروح اختصاص.
هامش
- ↑ [الإخلاص: 1]
- ↑ [هو أحد مناظري الإمام أحمد وقت المحنة، صنف كتاب الاستطاعة والمقالات وغيرهما، توفي سنة 240ه وقيل: سنة 241ه]
- ↑ [سورة الإخلاص]
- ↑ [الأعراف: 40]
- ↑ [الحج: 31]