مجموع الفتاوى/المجلد الخامس/فصل في قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه
فصل في قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه
عدلوأما قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه، فهذا أمر معروف لا يجهل؛ فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة، والذكر والخشية والتوكل، وهذا متفق عليه بين الناس كلهم، بخلاف القرب الذي قبله؛ فإن هذا ينكره الجهمي الذي يقول: ليس فوق السموات رب يعبد، ولا إله يصلى له ويسجد، وهذا كفر وفنَدٌ. 1
والأول تنكره الكُلابية ومن يقول: لا تقوم الأمور الاختيارية به.
ومن أتباع الأشعري من أصحاب أحمد وغيره من يجعل الرضا، والغضب، والفرح، والمحبة هي الإرادة، وتارة يجعلونها صفات أخرى قديمة غير الإرادة، وهذا القرب الذي في القلب المتفق عليه هو قرب المثال العلمي في الحقيقة، وذلك مستلزم لمحبته؛ فإن من أحب شخصًا تمثل في قلبه، ووجده قريبًا إلى قلبه، وإذا ذكره حضر في قلبه، وقد يحصل للإنسان بمحبوبه المخلوق فناء عن نفسه، كما قال القائل: غبت بك عني فظننتُ أنك أنِّي.
ومنه قول القائل:
حاضر في القلب أُبصره ** لست أنساه فأذكره
وقول الآخر:
مثالك في عيني وذكرك في فمي ** ومثواك في قلبي فأين تغيب؟
وهذا هو المثل الأعلى الذي قال الله فيه: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} 2، وكقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} 3، {وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 4، وهو المثل في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5، فإنه سبحانه لا يماثله شيء أصلًا، فنفسه المقدسة لا يماثلها شيء من الموجودات، وصفاتها لا يماثلها شيء من الصفات، وما في القلوب من معرفته لا يماثله شيء من المعارف، ومحبته لا يماثلها شيء، فله المثل الأعلى كما أنه في نفسه الأعلى.
وقد قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا} 6، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 7 وغير ذلك.
ويشبه مثل هذا بمثل هذا، وذلك يتضمن تشبيه ذات هذا بذات هذا؛ فإن الخبر عن الأشياء إنما يكون بعد معرفتها، وهو سبحانه أخبر أولًا عن المثل العلمي الذي يسمى الصورة الذهنية، ثم إذا كان الخبر صادقًا فإنه يستدل به على أن الحقيقة مطابقة لما تصوره؛ ولهذا كان الناس إنما يعبرون عن الشيء ويصفونه بما يعرفونه، وتتنوع أسماؤه عندهم لتنوع ما يعرفونه من صفاته.
ومن رأى الله عز وجل في المنام فإنه يراه في صورة من الصور بحسب حال الرائي، إن كان صالحًا رآه في صورة حسنة؛ ولهذا رآه النبي ﷺ في أحسن صورة.
والمشاهدات التي قد تحصل لبعض العارفين في اليقظة، كقول ابن عمر لابن الزبير لما خطب إليه ابنته في الطواف : أتحدثني في النساء ونحن نتراءى الله عز وجل في طوافنا؟ ! وأمثال ذلك، إنما يتعلق بالمثال العلمي المشهود، لكن رؤية النبي ﷺ لربه فيها كلام ليس هذا موضعه؛ فإن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين. فالنبي ﷺ مخصوص بما لم يشركه فيه غيره.
وهذا المثال العلمي يتنوع في القلوب بحسب المعرفة بالله والمحبة له تنوعًا لا ينحصر؛ بل الخلق في إيمانهم بالله وكتابه ورسوله متنوعون، فلكل منهم في قلبه للكتاب والرسول مثال علمي بحسب معرفته مع اشتراكهم في الإيمان بالله وبكتابه وبرسوله فهم متنوعون في ذلك متفاضلون. وكذلك إيمانهم بالمعاد والجنة والنار وغير ذلك من أمور الغيب. وكذلك ما يخبر به الناس بعضهم بعضًا من أمور الغيب هو كذلك، بل يشاهدون الأمور ويسمعون الأصوات، وهم متنوعون في الرؤية والسماع، فالواحد منهم يتبين له من حال المشهود ما لم يتبين للآخر، حتى قد يختلفون فيثبت هذا ما لا يثبت الآخر، فكيف فيما أخبروا به من الغيب؟
والنبي ﷺ أخبرهم عن الغيب بأحاديث كثيرة وليس كلهم سمعها مفصلة، والذين سمعوا ما سمعوا ليس كلهم فهم مراده، بل هم متفاضلون في السمع والفهم كتفاضل معرفتهم، وإيمانهم بحسب ذلك حتى يثبت أحدهم أمورًا كثيرة والآخر لا يثبتها، لاسيما من علق بقلبه شبه النفاة، فهو ينفي ما أثبته الكتاب والسنة وما عليه أهل الحق.
وهذا يبين لك أن هؤلاء كلهم مؤمنون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر وإن كانوا متفاضلين في الإيمان إلا من شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين.
ثم هم يتفاضلون في العلم والإرادة، فإذا كان أحدهم أكثر محبة لله وذكرًا وعبادة، كان الإيمان عنده أقوى وأرسخ من حيث المحبة والعبادة لله، وإن كان لغيره من العلم بالأسماء والصفات ما ليس له.
هامش
- ↑ [أي: الخَرَف وإنكار العقل لهرم أو مرض، والخطأ في القول والرأي والكذب]
- ↑ [الروم: 27]
- ↑ [الزخرف: 84]
- ↑ [الأنعام: 3]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [ البقرة: 17]
- ↑ [ البقرة: 265]