مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/فصل الأقوال نوعان
فصل الأقوال نوعان
عدلالأقوال نوعان:
أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقًا، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، والبحث عنها إنما هو عما أرادته الأنبياء، فمن كان مقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى، ومن قصد أن يجعل ما قالوه تبعًا له، فإن وافقه قبله وإلا رده، وتكلف له من التحريف ما يسميه تأويلا، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرًا من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء، فهو محرف للكلم عن مواضعه، لا طالبٌ لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم.
النوع الثاني: ما ليس منقولا عن الأنبياء، فمن سواهم ليس معصومًا، فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده، ومعرفة صلاحه من فساده، فمن قال من أهل الكلام: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، ولا في الأفعال المأمور بها ما لأجله كانت حسنة، ولا المنهي عنها ما لأجله كانت سيئة، فهذا مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة من السلف.
وأول من قاله في الإسلام جهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فإنه أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات، وأول من قال بخلق كلام الله وإنكار رؤيته في الآخرة.
ونصوص الكتاب والسنة في إبطال هذا كثيرة جدًا كقوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 1، فسلب النار طبيعتها، وقوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} 2، وقوله: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} 3، فأخبر أن الرياح تقل السحاب، أي تحمله، فجعل هذا الجماد فاعلا بطبعه، وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ} 4، فجعلها فاعلة بطبعها، وقوله: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} 5 وهو الكثير المنفعة، والزوج: الصنف.
والأدلة في ذلك كثيرة، يخبر فيها أنه يخلق بالأسباب والحكم، وأخبر أنه قائم بالقسط، وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في غير موضعه، ولا يسوي بين مختلفين، ولا يفرق بين متماثلين، كما قال: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ} الآية 6، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية 7، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} الآية 8، وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ}الآية 9 وغيرها كثير.
وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الآية 10، فدلت هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مصلح لفسادها، وليس معنى كونه معروفًا أنه مأمور به؛ إذ هذا قدر مشترك، فعلم أن ما يأمر به الرسول مختص، وما نهى عنه مختص بأنه منكر محذور، وما يحله مختص بأنه طيب، وما يحرمه مختص بأنه خبيث، ومثل هذا كثير في القرآن وغيره من الكتب، كالتوراة والإنجيل، والزبور، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
- ↑ [الأنبياء: 69]
- ↑ [النبأ: 15]
- ↑ [الأعراف: 57]
- ↑ [الحج: 5]
- ↑ [لقمان: 10]
- ↑ [الجاثية: 21]
- ↑ [ص: 28]
- ↑ [القلم: 35]
- ↑ [فاطر: 19، 20]
- ↑ [الأعراف: 157]