مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/فصل في التفضيل بين الملائكة والناس
فصل في التفضيل بين الملائكة والناس
عدلقَالَ شَيخُ الإسْلام:
في المسألة المشهورة بين الناس، في التفضيل بين الملائكة والناس قال: الكلام إما أن يكون في التفضيل بين الجنس: الملك، والبشر، أو بين صالحي الملك والبشر.
أما الأول، وهو أن يقال: أيما أفضل: الملائكة، والبشر؟ فهذه كلمة تحتمل أربعة أنواع:
النَّوعُ الأَول:
أن يقال: هل كل واحد من آحاد الناس أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة؟ فهذا لا يقوله عاقل، فإن في الناس: الكفار، والفجار، والجاهلين، والمستكبرين، والمؤمنين، وفيهم من هو مثل البهائم والأنعام السائمة، بل الأنعام أحسن حالًا من هؤلاء، كما نطق بذلك القرآن في مواضع، مثل قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ الله الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} 1، وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } 2، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3، والدواب جمع دابة، وهو كل ما دب في سماء وأرض من إنس وجن، وملك وبهيمة، ففي القرآن ما يدل على تفضيل البهائم على كثير من الناس في خمس آيات.
وقد وضع ابن المرزبان كتاب تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب وقد جاء في ذلك من المأثور ما لا نستطيع إحصاءه، مثل ما في مسند أحمد: «رب مركوبة أكثر ذكرًا من راكبها». وفضل البهائم عليهم من وجوه:
أحدها: أن البهيمة لا سبيل لها إلى كمال وصلاح أكثر مما تصنعه، والإنسان له سبيل لذلك، فإذا لم يبلغ صلاحه وكماله الذي خلق له، بان نقصه وخسرانه من هذا الوجه.
وثانيها: أن البهائم لها أهواء وشهوات، بحسب إحساسها وشعورها، ولم تؤت تمييزًا وفرقانا بين ما ينفعها ويضرها، والإنسان قد أوتى ذلك. وهذا الذي يقال: الملائكة لهم عقول بلا شهوات، والبهائم لها شهوات بلا عقول، والإنسان له شهوات وعقل. فمن غلب عقله شهوته، فهو أفضل من الملائكة، أو مثل الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه.
وثالثها: أن هؤلاء لهم العقاب والنكال، والخزي على ما يأتونه من الأعمال الخبيثة، فهذا يقتل، وهذا يعاقب، وهذا يقطع، وهذا يعذب ويحبس، هذا في العقوبات المشروعة، وأما العقوبات المقدرة فقوم أغرقوا، وقوم أهلكوا بأنواع العذاب، وقوم ابتلوا بالملوك الجائرة؛ تحريقًا، وتغريقًا، وتمثيلًا، وخنقا، وعمى. والبهائم في أمان من ذلك.
ورابعها: أن لفسقة الجن والإنس في الآخرة من الأهوال والنار والعذاب والأغلال وغير ذلك مما أمنت منه البهائم، ما بين فضل البهائم على هؤلاء إذا أضيف إلى حال هؤلاء.
وخامسها: أن البهائم جميعها مؤمنة بالله ورسوله ﷺ، مُسَبِّحة بحمده قانتة له، وقد قال النبي ﷺ: «إنه ليس على وجه الأرض شيء إلا وهو يعلم أني رسول الله، إلا فَسَقَة الجن والإنس».
النَوعُ الثَّاني:
أنه يقال: مجموع الناس أفضل من مجموع الملائكة من غير توزيع الأفراد، وهذا على القول بتفضيل صالحي البشر على الملائكة فيه نظر، لا علم لي بحقيقته، فإنا نفضل مجموع القرن الثاني على القرن الثالث، مع علمنا أن كثيرًا من أهل القرن الثالث أفضل من كثير من أهل القرن الثاني.
النَّوعُ الثَّالِث:
أنا إذا قابلنا الفاضل بالفاضل، والذي يلي الفاضل بمن يليه من الجنس الآخر، فأي القبيلين أفضل؟ فهذا مع القول بتفضيل صالحي البشر يقال: لا شك أن المفضولين من الملائكة أفضل من كثير من البشر، وفاضل البشر أفضل من فاضليهم، لكن التفاوت الذي بين فاضل الطائفتين أكثر، والتفاوت بين مفضولهم هذا غير معلوم، والله أعلم بخلقه.
النَّوعُ الرَّابع:
أن يقال: حقيقة الملك والطبيعة الملكية أفضل، أم حقيقة البشر والطبيعة البشرية؟ وهذا كما أنا نعلم أن حقيقة الحي إذ هو حي أفضل من الميت، وحقيقة القوة والعلم من حيث هي كذلك أفضل من حقيقة الضعف والجهل. وحقيقة الذكر أفضل من حقيقة الأنثى، وحقيقة الفرس أفضل من حقيقة الحمار، وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل؛ كالحمار والفأرة والفرس الزمن، والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر، والقوى الفاجر مع الضعيف الزَّمِن.
والوجه في انحصار القسمة في هذه الأنواع فإن كثيرًا من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبها، لفقد التمييز والتفضيل أن كل شيء إما أن نقيده من جهة الخصوص، أو العموم، أو الإطلاق. فإذا قلت: بشر وملك. وإما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خاصًا، أو جميع جنس البشر فيكون عامًا، أو تريد البشر مطلقًا مجردًا عن قيد العموم، والخصوص، وضبطه القليل والكثير، والنوع الأول في التفضيل عمومًا وخصوصًا، والثاني عمومًا، والثالث خصوصًا، والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة.
فنقول حينئذ: المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة، وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك، وبعضهم على تفضيل البشر، وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره.
لكن الذي سنح لي والله أعلم بالصواب أن حقيقة الملك أكمل وأرفع وحقيقة الإنسان أسهل وأجمع.
وتفسير ذلك: أنا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية، والتبعية اللازمة، الغالبة الحياة، والعلم، والقدرة: في اللذات والشهوات، وجدنا أولًا خلق الملك أعظم صورة، ومحله أرفع، وحياته أشد، وعلمه أكثر، وقواه أشد، وطهارته ونزاهته أتم، ونيل مطالبه أيسر وأتم، وهو عن المنافي والمضاد أبعد، لكن تجد هذه الصفات للإنسان بحسب حقيقته منها أوفر حظًا ونصيبًا من الحياة والخلق، والعلم والقدرة والطهارة، وغير ذلك.
وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الأشياء حسا، وعقلا وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه، وهو يأكل ويشرب وينكح، ويتمنى، ويتغذى، ويتفكر، إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يشاركه فيها الملك، لكن حظ الملك من القدر المشترك الذي بينهما أكثر، وما اشتركا فيه من الأمور أفضل بكثير مما اختص به الإنسان.
مثاله: مثل رجل معه مائة دينار، وآخر معه خمسون درهما، أو خمسون دينارًا، أو خمسون فلسًا، وإذا كان الأمر كذلك ففصل الجواب كما سبق.
وإن أردت الإطلاق، فالحقيقة الملكية بلوازمها أفضل من الحقيقة الإنسانية بلوازمها، هذا لا شك فيه، فإنما يلزم حقيقة الإنسان من حياة وحس، وعلم وعمل، ونيل لذة وإدراك شهوة، ليست بشيء. وإنما تعددت أصنافه إلى ما يشبه حقيقة الملك، كحال من علم من كل شيء طرفًا ليس بالكثير، إلى حال من أتقن العلم بالله وبأسمائه وآياته، ولا يشبه حال من معه درهم، إلى حال من معه درة، ولا يشبه حال من يسوس الناس كلهم، إلى حال من يسوس إنسانا وفرسا.
وقد دل على هذا دلالة بينة قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} 4، فدل على أنهم لم يفضلوا على الجميع، وقوله: {مِّنَ} للتبعيض. فإن قلت: هذا الاستدلال مفهوم للمخالف، وأنت مخالف لهذا، منازع فيه.
فيقال لك: تخصيص الكثير بالذكر لا يدل على مخالفة غيره بنفي، ولا إثبات، وأيضا فإن مفهومه: أنهم لم يفضلوا على ما سوى الكثير، فإذا لم يفضلوا فقد يساوون بهم، وقد يفضل أولئك عليهم، فإن الأحوال ثلاثة: إما أن يفضلوا على من بقى، أو يفضل أولئك عليهم، أو يساوون بهم.
قال: واختلاف الحقائق والذوات لا بد أنها تؤثر في اختلاف الأحكام والصفات، وإذا اختلفت حقيقة البشر والملك، فلا بد أن يكون أحد الحقيقتين أفضل، فإن كونهما متماثلتين متفاضلتين ممتنع.
وإذا ثبت أن أحدهما أفضل بهذه القضية المعقولة، وثبت عدم فضل البشر بتلك الكلمة الإلهية، ثبت فضل الملك، وهو المطلوب.
وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة: أن الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة. وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة على البشر، وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع فيهما بشيء.
وحكى عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة، وربما حكى ذلك عن بعض من يدعى السنة ويواليها.
وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال: أما الملائكة المدبرون للسموات والأرض وما بينهما والموكلون ببني آدم، فهؤلاء أفضل من هؤلاء الملائكة. وأما الكَرُوبيُّون الذين يرتفعون عن ذلك فلا أحد أفضل منهم، وربما خص بعضهم نبينا ﷺ. واستثناؤه من عموم البشر، إما تفضيلًا على جميع أعيان الملائكة، أو على المدبرين منهم أمر العالم.
هذا ما بلغني من كلمات الآخرين في هذه المسألة، وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتى رأيتها أثرية سلفية صحابية، فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها، فقلنا حينئذ بما قاله السلف، فروى أبو يعلي الموصلي في كتاب التفسير المشهور له عن عبد الله ابن سلام وكان عالمًا بالكتاب الأول، والكتاب الثاني؛ إذ كان كتابيًا، وقد شهد له النبي ﷺ بحسن الخاتمة، ووصية معاذ عند موته، وأنه أحد العلماء الأربعة الذين يبتغي العلم عندهم قال: ما خلق الله خلقًا أكرم عليه من محمد ﷺ. الحديث عنه.
قلت: ولا جبرائيل، ولا ميكائيل؟ قال: يا بن أخي، أو تدري ما جبرائيل وميكائيل؟ إنما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر، مثل: الشمس، والقمر، وما خلق الله تعالى خلقًا أكرم عليه من محمد ﷺ.
وروى عبد الله في التفسير وغيره عن مَعْمَر، عن زيد بن أسلم؛ أنه قال: قالت الملائكة: يا ربنا، جعلت لبني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويشربون، فاجعل لنا الآخرة. فقال: «وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقتُ بيدي كَمَنْ قلت له كن فكان».
وكذلك قصة سجود الملائكة كلهم أجمعين لآدم، ولعن الممتنع عن السجود له، وهذا تشريف وتكريم له.
وقد قال بعض الأغبياء: إن السجود إنما كان لله وجعل آدم قبلة لهم، يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة، وليس في هذا تفضيل له عليهم، كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند الله، بل حرمة المؤمن عند الله أفضل من حرمتها، وقالوا: السجود لغير الله محرم، بل كفر.
والجواب: أن السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه بإجماع من يسمع قوله ويدل على ذلك وجوه:
أحدها: قوله: لآدم، ولم يقل: إلى آدم. وكل حرف له معنى، ومن التمييز في اللسان أن يقال: سجدت له، وسجدت إليه، كما قال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 5 وقال {وَلله يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 6.
وأجمع المسلمون على أن السجود لغير الله محرم، وأما الكعبة فقد كان النبي ﷺ يصلي إلى بيت المقدس، ثم صلى إلى الكعبة، وكان يصلى إلى عنزَة 7، ولا يقال: لعنزة، وإلى عمود وشجرة، ولا يقال: لعمود ولا لشجرة، والساجد للشيء يخضع له بقلبه، ويخشع له بفؤاده، وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه وبدنه إليه ظاهرًا، كما يولى وجهه إلى بعض النواحي إذا أمه، كما قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} 8.
والثاني: أن آدم لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود، أو يزعم أنه خير منه؛ فإن القبلة قد تكون أحجارًا، وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها، وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير، وإلى رجل، ولا يتوهم أنه مفضل بذلك، فمن أي شيء فر الشيطان؟ هذا هو العجب العجيب!
والثالث: أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة؛ إذ جعلت قبلة دائمة في جميع أنواع الصلوات، فهذه القصة الطويلة التي قد جعلت علمًا له، ومن أفضل النعم عليه، وجاءت إلى العالم بأن الله رفعه بها، وامتن عليه، ليس فيها أكثر من أنه جعله كالكعبة في بعض الأوقات! مع أن بعض ما أوتيه من الإيمان والعلم، والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة، والكعبة إنما وضعت له ولذريته، أفيجعل من جسيم النعم عليه أو يشبه به في شيء نزرًا قليلًا جدًا؟ هذا ما لا يقوله عاقل.
وأما قولهم: لا يجوز السجود لغير الله، فيقال لهم: إن قيلت هذه الكلمة على الجملة فهي كلمة عامة، تنفي بعمومها جواز السجود لآدم، وقد دل دليل خاص على أنهم سجدوا له، والعام لا يعارض ما قابله من الخاص.
وثانيها: أن السجود لغير الله حرام علينا وعلى الملائكة. أما الأول فلا دليل وأما الثاني فما الحجة فيه؟
وثالثها: أنه حرام أمر الله به، أو حرام لم يأمر به، والثاني حق ولا شفاء فيه، وأما الأول فكيف يمكن أن يحرم بعد أن أمر الله تعالى به؟
ورابعها: أبو يوسف وإخوته خروا له سجدًا، ويقال: كانت تحيتهم، فكيف يقال:
إن السجود حرام مطلقًا ؟ وقد كانت البهائم تسجد للنبي ﷺ، والبهائم لا تعبد الله. فكيف يقال: يلزم من السجود لشيء عبادته؟ وقد قال النبي ﷺ: «ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعِظَمِ حقه عليها» ومعلوم أنه لم يقل: لو كنت آمرا أحدًا أن يعبد.
وسابعها: وفيه التفسير أن يقال: أما الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية، فهذا لا يكون على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهو في غيره ممتنع باطل.
وأما السجود فشريعة من الشرائع؛ إذ أمرنا الله تعالى أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة لله عز وجل إذ أحب أن نعظم من سجدنا له، ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتة فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له، وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم. وسجود أخوة يوسف له تحية وسلام، ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يكره له.
ولم يأت أن آدم سجد للملائكة، بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب العالمين، ولعل ذلك والله أعلم بحقائق الأمور لأنهم أشرف الأنواع، وهم صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا لله رب العالمين، وهم أكفاء بعضهم لبعض، فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود، ومن سواهم فقد سجد لهم من الملائكة للأب الأقوم، ومن البهائم للابن الأكرم.
وأما قولهم: لم يسبق لآدم ما يوجب الإكرام له بالسجود، فلغو من القول، هذى به بعض من اعتزل الجماعة، فإن نعم الله تعالى وأياديه وآلاءه على عباده ليست بسبب منهم، ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب، فهو المنعم به ويشكرهم على نعمه، وهو أيضا باطل على قاعدتهم، لا حاجة لنا إلى بيانه ههنا.
وقوله: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 9 فإنه إن سلم أنه يفيد الحصر، فالقصد منه والله أعلم الفضل بينهم وبين البشر الذين يشركون بربهم ويعبدون غيره، فأخبرهم أن الملائكة لا تعبد غيره، ثم هذا عام وتلك الآية خاصة فيستثنى آدم، ثم يقال: السجود على ضربين: سجود عبادة محضة، وسجود تشريف. فأما الأول: فلا يكون إلا لله، وأما الثاني: فلم قلت: إنه كذلك؟ والآية محمولة على الأول توفيقًا بين الدلائل.
وأما السؤال الثاني، فروى عن بعض الأولين: أن الملائكة الذين سجدوا لآدم ملائكة في الأرض فقط، لا ملائكة السموات. ومنهم من يقول: ملائكة السموات دون الكَرُوبِيِّين، وانتحى ذلك بعض المتأخرين، واستنكر سجود الأعلين من الملائكة لآدم مع عدم التفاتهم إلى ما سوى الله، ورووا في ذلك: «إن مِن خَلْقِ الله خَلْقًا لا يدرون: أخُلِقَ آدم أم لا ؟».
ونزع بقوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} 10 والعالون هم ملائكة السماء، وملائكة السماء لم يؤمروا بالسجود لآدم، فاعلم أن هذه المقالة أولا ليس معها ما يوجب قبولها، لا مسموع ولا معقول، إلا خواطر وسَوَانِح 11، ووساوس مادتها من عرش إبليس، يستفزهم بصوته ليرد عنهم النعمة التي حرص على ردها عن أبيهم قديمًا، أو مقالة قد قالها من يقول الحق والباطل، لكن معنا ما يوجب ردها من وجوه:
أحدها: أنه خلاف ما عليه العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة، وإذا كان لا بد من التقليد فتقليدهم أولى.
وثانيها: أنه خلاف ظاهر الكتاب العزيز، وخلاف نصه، فإن الاسم المجموع المعرف بالألف واللام يوجب استيعاب الجنس، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} 12، فسجود الملائكة يقتضي جميع الملائكة، هذا مقتضى اللسان الذي نزل به القرآن، فالعدول عن موجب القول العام إلى الخصوص لا بد له من دليل يصلح له، وهو معدوم.
وثالثها: أنه قال: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} ]13 فلو لم يكن الاسم الأول يقتضي الاستيعاب والاستغراق، لكان توكيده بصيغة كل موجبة لذلك ومقتضية له، ثم لو لم يفد تلك الإفادة، لكان قوله: {أَجْمَعُونَ} توكيدًا وتحقيقًا بعد توكيد وتحقيق، ومن نازع في موجب الأسماء العامة فإنه لا ينازع فيها بعد توكيدها بما يفيد العموم، بل إنما يجاء بصيغة التوكيد قطعًا لاحتمال الخصوص وأشباهه.
وقد بلغني عن بعض السلف أنه قال: ما ابتدع قوم بدعة إلا في القرآن ما يردها، ولكن لا يعلمون. فلعل قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} جىء به لزعم زاعم يقول: إنما سجد له بعض الملائكة لا كلهم، وكانت هذه الكلمة ردًا لمقالة هؤلاء. ومن اختلج في سره وجه الخصوص بعد هذا التحقيق والتوكيل فليعز نفسه في الاستدلال بالقرآن والفهم، فإنه لا يثق بشيء يؤخذ منه، ياليت شعري ! لو كانت الملائكة كلهم سجدوا وأراد الله أن يخبرنا بذلك، فأي كلمة أتم وأعم، أم يأتي قول يقال: أليس هذا من أبين البيان؟
ورابعها: أن هذه الكلمة تكررت في القرآن، وقال النبي ﷺ في حديث الشفاعة وأسجد لك ملائكته، وكذلك في محاجة موسى وآدم، ومن الناس من يقول: إن القول العام إذا قرن به الخاص وجب أن يقرن به البيان، فلا يجوز تأخيره عنه، لئلا يقع السامع في اعتقاد الجهل؛ ولم يقترن بشيء من هذه الكلمات دليل تخصيص، فوجب القطع بالعموم.
وقال آخرون وهو الأصوب: يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب لكن بعد البحث عن دليل التخصيص، والله أعلم. فيجب القول بالعموم، وإذا كانت القصة قد تكررت وليس فيها ما يدل على الخصوص فليس دعوى الخصوص فيها من البهتان.
وأما إنكارهم لسجود الكَروبِيِّين فليس بشيء؛ لأنهم سجدوا طاعة وعبادة لربهم، وزاد قائل: ذلك أنهم أفضل من آدم إذا ثبت أنهم لم يسجدوا، والحكايات المرسلة لا تقيم حقًا ولا تهدم باطلًا. وتفسيرهم{العالين} بالكروبيين، قول في كتاب الله سبحانه وتعالى بلا علم، ولا يعرف ذلك عن إمام متبع، ولا في اللفظ دليل عليه، وقيل: {أَسْتَكْبَرْتَ} أطلبت أن تكون كبيرًا من هذا الوقت؟ أم كنت عاليًا قبل ذلك؟ ولا حاجة بنا إلى تفسير كلام الله بآرائنا، والله أعلم بتفسيره.
وههنا سؤال ثالث وهو: أن السجود له، قد يكون الساجدون سجدوا له مع فضلهم عليه، فإن الفاضل قد يخدم المفضول، فنقول:
اعلم أن منفعة الأعلى للأدنى غير مستنكرة، فإن سيد القوم خادمهم، فالنبي ﷺ أفضل الناس، وأنفع الناس للناس، لكن منفعته في الحقيقة يعود إليه ثوابها، وتمام التقرب إلى الله يحصل بنفع خلقه، فهذا يصلح أن يورد على من احتج بتدبيرهم لنا، ففضلهم علينا لكثرة منفعتهم لنا، وأما نفس السجود فلا منفعة فيه للمسجود له إلا مجرد تعظيم وتشريف وتكريم، ولا يصلح البتة أن يكون من هو أفضل أسفل ممن دونه وتحته في الشرف، والمحقق، لا المتوهم، فافهم هذا فإن تحته سرا.
الدليل الثاني: قوله قصصًا عن إبليس: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} 14 فإن هذا نص في تكريم آدم على إبليس؛ إذ أمر بالسجود له.
الدليل الثالث: أن الله تعالى خلق آدم بيده، كما ذكر ذلك في الكتاب والسنة، والملائكة لم يخلقهم بيده بل بكلمته، وهذا يقوله جميع من يدعى الإسلام سنيهم ومبتدعهم بل وعليه أهل الكتاب، فإن الناس في يدي الله على ثلاثة أقوال:
أما أهل السنة فيقولون: يدا الله صفتان من صفات ذاته، حكمها حكم جميع صفاته؛ من حياته وعلمه، وقدرته وإرادته، وكلامه. فيثبتون جميع صفاته التي وصف بها نفسه، ووصفه بها أنبياؤه، وإن شاركت أسماء صفاته أسماء صفات غيره. كما أن له أسماء قد يسمى بها غيره، مثل: رؤوف، رحيم، عليم سميع، بصير، حليم، صبور، شكور، قدير، مؤمن، علي، عظيم، كبير، مع نفي المشابهة في الحقيقة والمماثلة، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 15، جمعت هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، ونسبة صفاته إليه كنسبة خلقه إليه، والنسبة والإضافة تشابه النسبة والإضافة.
ومن هذا الوجه جاء الاشتراك في أسمائه وأسماء صفاته، كما شبهت الرؤية برؤية الشمس والقمر، تشبيها للرؤية لا للمرئى، كما ضرب مثله مع عباده المملوكين كمثل بعض خلقه مع مملوكيهم، وله المثل الأعلى في السموات، فتدبر هذا فإنه مَجْلاة شُبْهَة ومَصْفَاة كَدَر، فجميع ما نسمعه، وينسب إليه، ويضاف من الأسماء والصفات، هو كما يليق بالله، ويصلح لذاته.
والفريقان الآخران أهل التشبيه والتمثيل: منهم من يقول: يد كيدي تعالى الله عن ذلك وأهل النفي والتعطيل يقولون: اليدان هما: النعمتان والقدرتان، والله أكبر كبيرًا.
وبكل حال، اتفق هؤلاء كلهم على أن لآدم فضيلة ومزية ليست لغيره؛ إذ خلقه بيده.
الوجه الثالث: أن ذلك معدود في النعم التي أنعم الله بها على آدم حين قال له موسى: «خلقك الله بيده». وكذلك يقال له يوم القيامة، وإنما ذكروا ذلك له في النعم التي خصه الله بها من بين المخلوقين دون الذي شورك فيها. فهذا بيان واضح دليل على فضله على سائر الخلق، كما ذكر زيد بن أسلم أن الله تعالى قال للملائكة: «لا أجعل صالح ذرية من خَلَقْتُ بِيَديّ كمن قُلْتُ له كن فكان».
الدليل الرابع: ما احتج به بعض أصحابنا على تفضيل الأنبياء على الملائكة بقوله: {إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} 16،
وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 17 واسم {الْعَالَمِينَ} يتناول الملائكة والجن والإنس، وفيه نظر؛ لأن أصناف العالمين قد يراد به جميع أصناف الخلق كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} 18، وقد يراد به الآدميون فقط على اختلاف أصنافهم، كما في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} 19، {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} 20 وهم كانوا لا يأتون البهائم ولا الجن.
وقد يراد بالعالمين أهل زمن واحد، كما في قوله: {اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ{.
فقوله: {إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} الآية، تحتمل جميع أصناف الخلق، ويحتمل أن المراد بنو آدم فقط. وللمحتج بها أن يقول: اسم {الْعَالَمِينَ} عام لجميع أصناف المخلوقات التي بها يعلم الله، وهي آيات له ودلالات عليه، لاسيما أولو العلم منهم، مثل الملائكة، فيجب إجراء الاسم على عمومه إلا إذا قام دليل يوجب الخصوص.
وقد احتج أيضا بقوله : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}الآية 21. وهو دليل ضعيف بل هو بالضد كما قررناه.
الدليل الخامس: قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 22، وفيها دليل على تفضيل الخليفة من وجهين: أولهما: أن الخليفة يفضل على من هو خليفة عليه، وقد كان في الأرض ملائكة، وهذا غايته أن يفضل على من في الأرض من الملائكة. وثانيهما: أن الملائكة طلبت من الله تعالى أن يكون الاستخلاف فيهم، والخليفة منهم، حيث قالوا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} الآية 23. فلولا أن الخلافة درجة عالية أعلى من درجاتهم لما طلبوها وغبطوا صاحبها.
الدليل السابع: تفضيل بني آدم عليهم بالعلم حين سألهم الله عز وجل عن علم الأسماء فلم يجيبوه؛ واعترفوا أنهم لا يحسنونها فأنبأهم آدم بذلك، وقد قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} 24.
والدليل الثامن: وهو أول الأحاديث ما رواه حماد بن سلمة عن أبي المِهْزَم، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «لَزَوَال الدنيا على الله أهون من قتل رجل مؤمن، والمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده».
وهذا نص في أن المؤمنين أكرم على الله من الملائكة المقربين.
ثم ذكر ما رواه الخلال عن أبي هريرة: خطبنا رسول الله ﷺ، وذكر كلامًا قال في آخره: «ادْنُو، ووَسِّعوا لمن خلفكم». فدنا الناس وانضم بعضهم إلى بعض. فقال رجل: أنوسع للملائكة أو للناس؟ قال: «للملائكة، إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا من بين أيديكم ولا من خلفكم، ولكن عن أيمانكم وشمائلكم». قالوا: ولم لا يكونون من بين أيدينا ومن خلفنا؟ أمن فضلنا عليهم أو من فضلهم علينا؟ قال: «نعم، أنتم أفضل من الملائكة».
رواه الخلال، وفيه القطع بفضل البشر على الملائكة، لكن لا يعرف حال إسناده، فهو موقوف على صحة إسناده.
وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عن عروة بن رُوَيْم قال: أخبرني الأنصاري عن النبي ﷺ أن الملائكة قالوا: ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم، فجعلتهم يأكلون ويشربون، ويلبسون ويأتون النساء، ويركبون الدواب، وينامون ويستريحون، ولم تجعل لنا شيئا من ذلك، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة.
وذكر الحديث مرفوعًا كما تقدم موقوفًا عن زيد بن أسلم عن أبيه. وزيد بن أسلم زيد في علمه وفقهه وورعه، حتى إن كان علي بن الحسين ليدع مجالس قومه ويأتي مجلسه، فلامه الزهري في ذلك فقال: إنما يجلس حيث ينتفع، أو قال: يجد صلاح قلبه.
وقد كان يحضر مجلسه نحو أربعمائة طالب للعلم، أدنى خصلة فيهم الباذل ما في يده من الدنيا، ولا يستأثر بعضهم على بعض، فلا يقول مثل هذا القول إلا عن. . . 25 بين والكذب على الله عز وجل أعظم من الكذب على رسوله.
وأقل ما في هذه الآثار أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم: أن صالحي البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك، ولم يخالف أحد منهم في ذلك، إنما ظهر الخلاف بعد تشتت الأهواء بأهلها، وتفرق الآراء، فقد كان ذلك كالمستقر عندهم.
الدليل الحادي عشر: أحاديث المباهاة مثل: أن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا وعشية عرفة فيباهي ملائكته بالحاج، وكذلك يباهي بهم المصلين، يقول: « انظروا إلى عبادي، قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى »، وكلا الحديثين في صحيح مسلم، والمباهاة لا تكون إلا بالأفاضل.
فإن قيل : هذه الأخبار رواها آحاد غير مشهورين، ولا هي بتلك الشهرة، فلا توجب علمًا، والمسألة علمية.
قلنا: أولا: من قال: إن المطلق في هذه القضية اليقين الذي لا يمكن نقيضه، بل يكفي فيها الظن الغالب، وهو حاصل.
ثم ما المراد بقوله: علمية؟ أتريد أنه لا علم ؟ فهذا مسلم. ولكن كل عقل راجح يستند إلى دليل فإنه علم، وإن كان فرقة من الناس لا يسمون علمًا إلا ما كان يقينًا لا يقبل الانتقاض، وقد قال تعالى : {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 26 وقد استوفي القول في ذلك في غير هذا الموضع، فإن أريد علمية؛ لأن المطلوب الاستيقان، فهذا لغو من القول لا دليل عليه، ولو كان حقًا لوجب الإمساك عن الكلام في كل أمر غير علمي إلا باليقين، وهو تهافت بين.
ثم نقول: هي بمجموعها وانضمام بعضها إلى بعض ومجيئها من طرق متباينة، قد توجب اليقين لأولى الخبرة بعلم الإسناد، وذوي البصيرة بمعرفة الحديث ورجاله، فإن هذا علم اختصوا به كما اختص كل قوم بعلم، وليس من لوازم حصول العلم لهم حصوله لغيرهم، إلا أن يعلموا ما علموا مما به يميزون بين صحيح الحديث وضعيفه.
والعلوم على اختلاف أصنافها وتباين صفاتها لا توجب اشتراك العقلاء فيها، لاسيما السمعيات الخبريات، وإن زعم فرقة من أولى الجدل أن الضروريات يجب الاشتراك فيها، فإن هذا حق في بعض الضروريات، لا في جميعها، مع تجويزنا عدم الاشتراك في شيء من الضروريات، لكن جرت سنة الاشتراك بوقوع الاشتراك في بعضها. فغلط أقوام فجعلوا وجوب الاشتراك في جميعها، فجحدوا كثيرًا من العلم الذي اختص به غيرهم.
ثم نقول: لو فرضنا أنها لا تفيد العلم وإنما تفيد ظنًا غالبًا، أو أن المطلوب هو الاستيقان، فنقول : المطلوب حاصل بغير هذه الأحاديث، وإنما هي مؤكدة مؤيدة لتجتمع أجناس الأدلة على هذه المقالة.
الدليل الثاني عشر: قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملائكة، وتروى على رؤوس الناس، ولو كان هذا منكرًا لأنكروه، فدل على اعتقادهم ذلك.
وهذا إن لم يفد اليقين القاطع، فإن بعض الظن لم يقصر عن القوى الغالب، وربما اختلف ذلك باختلاف الناس واختلاف أحوالهم.
الدليل الثالث عشر: وهو البحث الكاشف عن حقيقة المسألة وهو أن نقول: التفضيل إذا وقع بين شيئين فلا بد من معرفة الفضيلة ما هي؟، ثم ينظر أيهما أولى بها ؟
وأيضا، فإنا إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة، ونالوا الزلفى، وسكنوا الدرجات العلى، وحياهم الرحمن وخصهم بمزيد قربه، وتجلى لهم، يستمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وقامت الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم.
فلينظر الباحث في هذا الأمر، فإن أكثر الغالطين لما نظروا في الصنفين رأوا الملائكة بعين التمام والكمال، ونظروا الآدمي وهو في هذه الحياة الخسيسة الْكَدِرَة، التي لا تزن عند الله جناح بعوضة وليس هذا بالإنصاف.
فأقول: فضل أحد الذاتين على الأخرى إنما هو بقربها من الله تعالى ومن مزيد اصطفائه وفضل اجتبائه لنا، وإن كنا نحن لا ندرك حقيقة ذلك.
هذا على سبيل الإجمال، وعلى حسب الأمور التي هي في نفسها خبر محض، وكمال صرف، مثل: الحياة والعلم والقدرة، والزكاة والطهارة، والطيب والبراءة من النقائص والعيوب، فنتكلم على الفضلين:
أما الأول: فإن جنة عدن خلقها الله تعالى وغرسها بيده، ولم يطلع على ما فيها ملكًا مقربا، ولا نبيًا مرسلًا، وقال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} 27. جاء ذلك في أحاديث عديدة، وأنه ينظر إليها في كل سحر، وهي داره، فهذه كرامة الله تعالى لعباده المؤمنين، التي لم يطلع عليها أحد من الملائكة. ومعلوم أن الأعلين مطلعون على الأسفلين من غير عكس، ولا يقال: هذا في حق المرسلين، فإنها إنما بنيت لهم، لكن لم يبلغوا بعد إبان سكناها وإنما هي معدة لهم، فإنهم ذاهبون إلى كمال، ومنتقلون إلى علو وارتفاع، وهو جزاؤهم وثوابهم.
وأما الملائكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك، فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة، وتصديق هذا قوله تعالى : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 28.
فحقيقة ما أعده الله لأوليائه غيب عن الملائكة، وقد غيب عنهم أولًا حال آدم في النشأة الأولى وغيرها.
وفضل عباد الله الصالحين يبين فضل الواحد من نوعهم، فالواحد من نوعهم إذا ثبت فضلهم على جميع الأعيان والأشخاص، ثبت فضل نوعهم على جميع الأنواع؛ إذ من الممتنع ارتفاع شخص من أشخاص النوع المفضول إلى أن يفوق جميع الأشخاص والأنواع الفاضلة، فإن هذا تبديل الحقائق وقلب الأعيان عن صفاتها النفسية، لكن ربما فاق بعض أشخاص النوع الفاضل مع امتياز ذلك عليه بفضل نوعه وحقيقته، كما أن في بعض الخيل ما هو خير من بعض الخيل، ولا يكون خيرًا من جميع الخيل.
إذا تبين هذا، فقد حدَّثَ العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون: أن محمدًا رسول الله ﷺ يجلسه ربه على العرش معه.
روى ذلك محمد بن فُضَيل، عن ليث، عن مجاهد، في تفسير: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 29 وذكر ذلك من وجوه أخرى مرفوعة وغير مرفوعة. قال ابن جرير: وهذا ليس مناقضًا لما استفاضت به الأحاديث من أن المقام المحمود هو الشفاعة، باتفاق الأئمة من جميع من ينتحل الإسلام ويدعيه، لا يقول: إن إجلاسه على العرش منكر وإنما أنكره بعض الجهمية ولا ذكره في تفسير الآية منكر، وإذا ثبت فضل فاضلنا على فاضلهم ثبت فضل النوع على النوع أعنى صالحنا عليهم.
وأما الذوات، فإن ذات آدم خلقها الله بيده، وخلقها الله على صورته ونفخ فيه من روحه، ولم يثبت هذا لشيء من الذوات، وهذا بحر يغرق فيه السابح، لا يخوضه إلا كل مؤيد بنور الهداية، وإلا وقع إما في تمثيل، أو في تعطيل. فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة، وفوق كل ذي علم عليم. وليوقن كل الإيقان بأن ما جاءت به الآثار النبوية حق ظاهرًا وباطنًا وإن قصر عنه عقله ولم يبلغه علمه {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} 30 فلا تلجَنَّ باب إنكار، ورد وإمساك وإغماض ردا لظاهره وتعجبًا من باطنه حفظًا لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن جَنَاب مولاك.
إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وتَوَقّ التمثيل والتشبيه، ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم، الذي هو أَحَدَّ من السيف، وأدق من الشعر، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
وأما الصفات التي تتفاضل، فمن ذلك الحياة السرمدية والبقاء الأبدي في الدار الآخرة وليس للملك أكثر من هذا، وإن كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين، حتى لا يبقى إلا البقاء وغير ذلك من العلم الذي امتازت به الملائكة.
فنقول: غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للآخر، فإن الوحي للرسل على أنحاء، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} 31، فبين أن الكلام للبشر على ثلاثة أوجه: منها واحد يكون بتوسط الملك.
ووجهان آخران ليس للملك فيهما وحي، وأين الملك من ليلة المعراج، ويوم الطور، وتعليم الأسماء وأضعاف ذلك؟
ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا لا يكون إلا على أيدى الملائكة وهو والله باطل فكيف يصنعون بيوم القيامة؟ وقد قال النبي ﷺ: «فيفتح الله عليّ من محامده والثناء عليه بأشياء يلهمنيها، لم يفتحها على أحد قبلي».
وإذا تبين هذا، أن العلم مقسوم من الله، وليس كما زعم هذا الغبي بأنه لا يكون إلا بأيدي الملائكة على الإطلاق، وهو قول بلا علم، بل الذي يدل عليه القرآن أن الله تعالى اختص آدم بعلم لم يكن عند الملائكة، وهو علم الأسماء الذي هو أشرف العلوم، وحكم بفضله عليهم لمزيد العلم، فأين العدول عن هذا الموضع إلى بنيات الطريق؟ ومنها القدرة.
وزعم بعضهم أن الملك أقوى وأقدر، وذكر قصة جبرائيل بأنه شديد القوى، وأنه حمل قرية قوم لوط على ريشة من جناحه، فقد آتى الله بعض عباده أعظم من ذلك، فأغرق جميع أهل الأرض بدعوة نوح، وقال النبي ﷺ : «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَرّهُ، ورُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبَرَّهُ»! وهذا عام في كل الأشياء، وجاء تفسير ذلك في آثار: إن من عباد الله من لو أقسم على الله أن يزيل جبلًا، أو الجبال عن أماكنها لأزالها، وألا يقيم القيامة لما أقامها، وهذا مبالغة.
ولا يقال: إن ذلك يفضل بقوة خلقت فيه، وهذا بدعوة يدعوها؛ لأنهما في الحقيقة يؤولان إلى واحد، هو مقصود القدرة ومطلوب القوة، وما من أجله يفضل القوى على الضعيف، ثم هب أن هذا في الدنيا فكيف تصنعون في الآخرة ؟ وقد جاء في الأثر: «يا عبدي، أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون، يا عبدي، أنا الحي الذي لا يموت، أطعني أجعلك حيًا لا تموت»، وفي أثر: «أن المؤمن تأتيه التُّحَفُ من الله: من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت» فهذه غاية ليس وراءها مرمى، كيف لا، وهو بالله يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشى، فلا يقوم لقوته قوة؟
وأما الطهارة والنزاهة، والتقديس والبراءة عن النقائص والمعائب، والطاعة التامة الخاصة لله، التي ليس معها معصية ولا سهو ولا غفلة، وإنما أفعالهم وأقوالهم على وفق الأمر، فقد قال قائل: من أين للبشر هذه الصفات؟ وهذه الصفات على الحقيقة هي أسباب الفضل، كما قيل: لا أعدل بالسلامة شيئا. فالجواب من وجوه:
أحدها: أنا إذا نظرنا إلى هذه الأحوال في الآخرة، كانت في الآخرة للمؤمنين على أكمل حال وأتم وجه، وقد قدمنا أن الكلام ليس في تفضيلهم في هذه الحياة فقط، بل عند الكمال والتمام والاستقرار في دار الحيوان، وفيه وجه قاطع لكل ما كان من جنس هذا الكلام، فأين هم من أقوام تكون وجوههم مثل القمر ومثل الشمس، لا يبولون ولا يتمخطون، ولا يبصقون، ما فيهم ذرة من العيب ولا من النقص؟
الوجه الثاني: أن هذا بعينه هو الدليل على فضل الآدمي، والملائكة مخلوقون على طريقة واحدة، وصفة لازمة، لا سبيل إلى انفكاكهم عنها، والبشر بخلاف ذلك.
الوجه الثالث: أن ما يقع من صالحي البشر من الزلات والهفوات ترفع لهم به الدرجات، وتبدل لهم السيئات حسنات، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ومنهم من يعمل سيئة تكون سبب دخول الجنة، ولو لم يكن العفو أحب إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وكذلك فرحه بتوبة عبيده، وضحكه من علم العبد أنه لا يغفر الذنوب إلا الله، فافهم هذا فإنه من أسرار الربوبية، وبه ينكشف سبب مواقعة المقربين الذنوب.
الوجه الرابع: ما روى: «أن الملائكة لما استعظمت خطايا بني آدم ألقى الله تعالى على بعضهم الشهوة فواقعوا الخطيئة»، وهو احتجاج من الله تعالى على الملائكة، وأما العبادة فقد قالوا: إن الملائكة دائمو العبادة والتسبيح، ومنهم قيام لا يقعدون، وقعود لا يقومون، وركوع لا يسجدون، وسجود لا يركعون}يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونََ} 32
والجواب: أن الفضل بنفس العمل وجودته، لا بقدره وكثرته، كما قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا{33، وقال : {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} 34، ورب تسبيحة من إنسان أفضل من ملء الأرض من عمل غيره، وكان إدريس يرفع له في اليوم مثل عمل جميع أهل الأرض، وإن الرجلين ليكونان في الصف وأجر ما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض.
وقد روى: «أن أنِينَ المذنبين أحب إليَّ من زَجَل المسبحين».
وقد قالوا: إن علماء الآدميين مع وجود المنافي والمضاد أحسن وأفضل، ثم هم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يلهمون التسبيح، كما يلهمون النَّفَسَ، وأما النفع المتعدى، والنفع للخلق، وتدبير العالم، فقد قالوا : هم تجري أرزاق العباد على أيديهم، وينزلون بالعلوم والوحي، ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملائكة.
والجواب: أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه، ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين، وشفاعته في البشر كي يحاسبوا، وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة. ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملائكة، وأين هم من قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 35 ؟ وأين هم من الذين : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 36 ؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن سَنَّ سُنَّة حسنة؟ وأين هم من قوله ﷺ : «إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومُضَر» ؟ وأين هم من الأقطاب، والأوتاد، والأغواث، والأبدال، والنجباء؟.
فهذا هداك الله وجه التفضيل بالأسباب المعلومة، ذكرنا منه أنموذجًا نهجنا به السبيل، وفتحنا به الباب إلى درك فضائل الصالحين، من تدبر ذلك، وأوتى منه حظًا رأى وراءَ ذلك ما لا يحصيه إلا الله، وإنما عدل عن ذلك قوم لم يكن لهم من القول والعلم إلا ظاهره، ولا من الحقائق إلا رسومها، فوقعوا في بدع وشبهات، وتاهوا في مواقف ومجازات، وها نحن نذكر ما احتجوا به.
الحجة الأولى: قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدا لله وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 37، والذي يريد إثبات ذل الأعاظم، وانقياد الأكابر، إنما يبدأ بالأدنى فالأدنى مترقيًا إلى الأعلى فالأعلى، ليرقى المخاطب في فهم عظمة من انقيد له، وأطيع درجة درجة، وإلا فلو فوجئ بانقياد الأعظم ابتداء، لما حصل تبين مراتب العظمة، ولوقع ذكر الأدنى بعد ذلك ضائعًا، بل يكون رجوعًا ونقصًا.
ولهذا جرت فطرة الخلق أن يقال: فلان لا يأتيني، وفلان يأتيني، أي كيف يستنكف عن الإتيان إلى؟ وفلان أكرم منه وأعظم، وهو يأتيني، ولا يقال : لا يأبي فلان أن يكرمك، ولا من هو فوقه. فالانتقال من المسيح إلى الملائكة دليل على فضلهم، كيف وقد نعتوا بالقرب الذي هو عين الفضائل؟
والجواب: زعم القاضي أن هذا ليس من عطف الأعلى على الأدنى، وإنما هو عطف ساذج. قال: وذلك أن قومًا عبدوا المسيح وزعموا أنه ابن الله سبحانه وقومًا عبدوا الملائكة وزعموا أنها بنات الله، كما حكى الله تعالى عن الفريقين فبين الله تعالى في هذه أن هؤلاء الذين عبدتموهم من دوني هم عبادي لن يستنكفوا عن عبادتي، وأنهما لو استنكفا عن عبادتي لعذبتهما عذابًا أليما، والمسيح هو الظاهر وهو من نوع البشر، وهذا الكلام فيه نظر، والله أعلم بحقيقته.
ثم نقول: إن كان هذا هو المراد فلا كلام، وإن أريد أن الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فاعلم نور الله قلبك وشرح صدرك للإسلام أن للملائكة خصائص ليست للبشر، لا سيما في الدنيا. هذا ما لا يستريب فيه لبيب، أنهم اليوم على مكان، وأقرب إلى الله، وأظهر جسومًا، وأعظم خلقًا، وأجمل صورًا، وأطول أعمارًا، وأيمن آثارًا، إلى غير ذلك من الخصال الحميدة، مما نعلمه ومما لا نعلمه.
وللبشر أيضا خصائص ومزايا، لكن الكلام في مجموع كل واحدة من المزيتين أيهما أفضل ؟ هذا طريق ممهد لهذه الآية وما بعدها. وهو وراء ذلك، فحيث جرى ما يوجب تفضيل الملك فلما تميزوا به، واختصوا به من الأمور التي لا تنبغي لمن دونهم فيها أن يتفضل عليهم فيما هو من أسبابها.
وذلك أن المسيح لو فرض استنكافه عن عبادة الله، فإنما هو لما أيده الله من الآيات، كما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى وغير ذلك؛ ولأنه خرج في خلقه عن بني آدم، وفي عزوفه عن الدنيا، وما فيها: أعطى الزهد. وما من صفة من هذه الصفات إلا والملائكة أظهر منه فيها، فإنهم كلهم خلقوا من غير أبوين ومن غير أم، وقد كان فرس جبريل يحيى به التراب الذي يمر عليه ؛وعلم ما يدخر العباد في بيوتهم على الملائكة سهل.
وفي حديث أبرص، وأقرع، وأعمى: «أن الملك مسح عليهم فبرؤوا » فهذه الأمور التي من أجلها عبد المسيح، وجعل ابن الله عز وجل للملائكة منها أوفر نصيب، وأعلى منها، وأعظم مما للمسيح، وهم لا يستنكفون عن عبادته، فهو أحق خلق ألا يستنكف، وأما القرب من الله والزلفى لديه فأمور وراء هذه الآيات. وأيضا، فأقصى ما فيها تفضيلهم على المسيح؛ إذ هو في هذه الحياة الدنيا، وأما إذا استقر في الآخرة وكان ما كان مما لست أذكر، فمن أين يقال: إنهم هناك أفضل منه؟
الحجة الثانية: قوله تعالى لنبيه ﷺ: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} 38 ومثله في هود، فالاحتجاج في هذا من وجوه:
أحدها: أنه قرن استقرار خزائنه، وعلم الغيب بنفي القول بأنه ملك، وسلبها عن نفسه في نسق واحد، فإذا كان حال من يعلم الغيب، ويقدر على الخزائن أفضل من حال من لا يكون كذلك، وجب أن يكون حال الملك أفضل من حال من ليس بملك، وإن كان نبيا كما في الآية.
وثانيها: أنه إنما نفى عن نفسه حالا أعظم من حاله الثابتة، ولم ينف حالًا دون حاله، لأن من اتصف بالأعلى فهو على ما دونه أقدر، فدل على أن حال الملك أفضل من حاله أن يكون ملكًا وهو المطلوب.
وثالثها: ما ذكر القاضي أنه لولا ما استقر في نفوس المخاطبين من أن الملك أعظم؛ لما حسن مواجهتهم بسلب شيء هو دون مرتبته، وهذا الاعتقاد الذي كان في نفوس المخاطبين أمر قرروا عليه، ولم ينكره عليهم، فثبت أنه حق.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنه نفى أن يكون عالمًا بالغيب وعنده خزائن الله، ونفى أن يكون ملكًا لا يأكل ولا يشرب ولا يتمتع، وإذا نفى ذلك عن نفسه لم يجب أن يكون الملك أفضل منه، ألا ترى أنه لو قال: ولا أنا كاتب، ولا أنا قارئ، لم يدل على أن الكاتب والقارئ أفضل ممن ليس بكاتب ولا قارئ، فلم يكن في الآية حجة.
وأيضا، ما قال القاضي: إنهم طلبوا صفات الألوهية، وهي العلم والقدرة والغنى: وهي أن يكون عالمًا بكل شيء، قديرًا على كل شيء، غنيًا عن كل شيء، فسلب عن نفسه صفات الألوهية، ولهذا قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} 39، وقال تعالى: محتجًا عنه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} 40، فكأنهم أرادوا منه صفة الملائكة أن يكون متلبسًا بها، فإن الملائكة صُمَّد لا يأكلون ولا يشربون، والبشر لهم أجواف يأكلون ويشربون؛ فكان الأمر إلى هذه الصفة، وهذا بين إن شاء الله.
وثانيها: أن الآخر أكمل في أمر من الأمور، فنفى عن نفسه حال الملك في ذلك، ولم يلزم أن يكون له فضيلة يمتاز بها، وقد تقدم مثل هذا فيما ذكر من حال الملك وعظمته، وأنه ليس للبشر من نوعه مثله، ولكن لِمَ لمْ تقل: من غير نوعه للبشر ما هو أفضل منه؟
ولهذا إذا سئل الإنسان عما يعجز عنه، قد يقول: لست بملك، وإن كان المؤمن أفضل من حال الجن، والملك من الملوك.
وثالثها: أن أقصى ما فيه تفضيل الملك في تلك الحال، ولو سلم ذلك لم ينف أن يكون فيما بعد أفضل من الملك؛ولهذا تزيد قدرته وعلمه وغناه في الآخرة، وهذا كما لو قال الصبي: لا أقول: إني شيخ، ولا أقول: إني عالم، ومن الممكن ترقيه إلى ذلك، وأكمل منه.
الحجة الثالثة: قول إبليس لآدم وحواء: {إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} 41 تقديره: كراهة أن تكونا أو لئلا تكونا، فلولا أن كونهما ملكين حالة هي أكمل من كونهما بشرين؛ لما أغراهما بها، ولما ظنا أنها هي الحالة العليا؛ ولهذا قرنها بالخلود، والخالد أفضل من الفاني، والملك أطول حياة من الآدمي، فيكون أعظم عبادة وأفضل من الآدمي.
والجواب من وجوه:
أحدها: ما ذكره القاضي أن قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} ظن أن الملائكة خير منهما، كما ظن أنه خير من آدم وكان مخطئا. وقوله : {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ظنًا منه أنهما يؤثران الخلود، لما في ذلك من السلامة من الأمراض والأسقام والأوجاع، والآفات والموت؛ لأن الخالد في الجنة هذه حاله، ولم يخرج هذا مخرج التفضيل على الأنبياء. ألا ترى أن الحور والولدان المخلوقين في الجنة خالدون فيها وليسوا بأفضل من الأنبياء.
وثانيها: أن الملك أفضل من بعض الوجوه، وكذلك الخلود آثر عندهما فمالا إليه.
وثالثها: أن حالهما تلك كانت حال ابتداء لا حال انتهاء، فإنهما في الانتهاء قد صارا إلى الخلود الذي لا حظر فيه ولا معه، ولا يعقبه زوال، وكذلك يصيران في الانتهاء إلى حال هي أفضل وأكمل من حال الملك، الذي أراداها أولًا، وهذا بين.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} 42، فبدأ بهم، والابتداء إنما يكون بالأفضل والأشرف، فالأفضل والأشرف، كما بدأ بذلك في قوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} 43، فبدأ بالأكمل والأفضل.
والجواب: أن الابتداء قد يكون كثيرًا بغير الأفضل، بل يبتدأ بالشيء لأسباب متعددة، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} 44، ولم يدل ذلك على أن نوحًا أفضل من إبراهيم، والنبي ﷺ أفضل؛ وكذلك قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 45، لا يدل على أن المسلم أفضل من المؤمن، فلعله والله أعلم إنما بدأ بهم؛لأن الملائكة أسبق خلقًا ورسالة؛فإنهم أرسلوا إلى الجن والإنس، فذكر الأول، فالأول، في الخلق، والرسالة على ترتيبهم في الوجود.
وقد قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} 46، والذكور أفضل من الإناث، وقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} 47، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} الآيات 48، و{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} 49، إلى غير ذلك، ولم يدل التقديم في شيء من هذه المواضع على فضل المبدوء به، فعلم أن التقديم ليس لازمًا للفضل.
الحجة الخامسة: قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لله مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} 50، فدل على أن الملك أفضل من البشر، وهن إنما أردن أن يتبين لهن حال هي أعظم من حال البشر.
وقد أجابوا عنه بجوابين:
أحدهما: أنهن لم يعتقدن أن الملائكة أحسن من جميع النبيين وإن لم يروهم لمخبر أخبرهم فسكن إلى خبره، فلما هالهن حسنه قلن: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} لأن هذا الحسن ليس بصفة بشر.
وثانيهما: أنهن اعتقدن أن الملائكة خير من النبيين، فكان هذا الاعتقاد خطأ منهن، ولا يقال إنه لما لم يقرن بالإنكار دل على أنه حق، فإن قولهن {مَا هَذَا بَشَرًا ً} خطأ. وقولهن: {إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} خطأ أيضا في غيبتهن عنه أنه بشر وإثباتهن أنه ملك، وإن لم يقرن بالإنكار، دل على أنه حق، وأن قولهن: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} خطأ في نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملائكية، وإن لم يقرن بالإنكار لغيبة عقولهن عند رؤيته، فلم يلمن في تلك الحال على ذلك.
وأقول أيضا : إن النسوة لم يكن يقصدن أنه نبي، بل ولا أنه من الصالحين إذ ذاك، ولم يشهدن له فضلًا على غيره من البشر في الصلاح والدين، وإنما شهدن بالفضل في الجمال والحسن، وسَبَاهُنّ جماله فَشَبَّهْنه بحال الملائكة، وليس هذا من التفضيل في شيء من الذي نريد.
ثم نقول: إذا كان التفضيل بالجمال حقًا، فقد ثبت أن أهل الجنة تدخل الزُّمْرَةُ الأولى ووجوههم كالشمس، والذين يَلُونهم كالقمر. . . الحديث، فهذه حال السعداء عند المنتهى، وإن كان في الجمال والملك تفضيل، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا؛ لعلم علمه النساء وأكثر الناس.
وأما ما فضل الله عباده الصالحين، وما أعده الله من الكرامة، فأكثر الناس عنه بِمَعْزِل، ليس لهم نظر إليه، وكذلك ما آتاهم الله من العلم الذي غَبَطَتْهُم الملائكة به من أول ما خلقهم، وهو مما به يفضلون، فهذا الجواب وما قبله.
الحجة السادسة: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} 51، فهذه صفة جبرائيل.
ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} 52، فوصف جبرائيل بالكرم والرسالة، والقوة والتمكين عنده، وأنه مطاع وأنه أمين، فوصفه بهذه الصفات الفاضلة ثم عطف عليه بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ}فأضاف الرسول البشرى إلينا وسلب عنه الجنون، وأثبت له رؤية جبرائيل، ونفى عنه البخل والتهمة، وفي هذا تفاوت عظيم بين البشر والملائكة، وبين الصفات والنِّعَم، وهذا قاله بعض المعتزلة، زَلَّ به عن سواء السبيل.
والجواب: أولا: أين هو من قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} إلى آخرها 53، وقوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 54، وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} الآيات 55، و{عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 56 ؟
وأين هو عن قصة المعراج التي تأخر فيها جبرائيل عن مقامه؟ ثم أين هو عن الخلَّة؟ وهو التقريب؛ فهذا نزاع من لم يُقَدِّر النبي ﷺ قَدْرَه.
ثم نقول ثانيًا: لما كان جبرائيل هو الذي جاء بالرسالة، وهو صاحب الوحي وهو غيب عن الناس، لم يروه بأبصارهم، ولم يسمعوا كلامه بآذانهم، وزعم زاعمون أن الذي يأتيه شيطان يعلمه ما يقول، أو أنه إنما يعلمه إياه بعض الإنس.
أخبر الله العباد أن الرسول الذي جاء به، ونعته أحسن النعت، وبين حاله أحسن البيان، وذلك كله إنما هو تشريف لمحمد ﷺ، ونفي عنه ما زعموه، وتقرير للرسالة؛ إذ كان هو صاحبه الذي يأتيه بالوحي، فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} 57 أي: أن الرسول البشري لم ينطق به من عند نفسه، وإنما هو مبلغ يقول ما قيل له، فكان في اسم الرسول إشارة إلى محض التوسط والسعاية.
ثم وصفه بالصفات التي تنفي كل عيب، من القوة والمكنة، والأمانة والقرب من الله سبحانه فلما استقر حال الرسول الملكي، بين أنه من جهته وأنه لا يجيء إلا بالخير.
وكان الرسول البشري معلوم ظاهره عندهم، وهو الذي يبلغهم الرسالة، ولولا هؤلاء لما أطاقوا الأخذ عن الرسول الملكي، وإنما قال: {صاحبكم} إشارة إلى أنه قد صحبكم سنين قبل ذلك، ولا سابقة له بما تقولون فيه وترمونه، من الجنون والسحر وغير ذلك، وأنه لولا سابقته وصحبته إياكم لما استطعتم الأخذ عنه، ألا تسمعه يقول: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلا} 58 تمييزًا من المرسلين، ثم حقق رسالته بأنه رأى جبرائيل، وأنه مؤتمن على ما يأخذه عنه، فقام أمر الرسالة بهاتين الصفتين، وجاء على الوجه الأبلغ والأكمل والأصلح.
وقد احتجوا بآيات تقدم التنبيه على مقاصدها؛ من وصف الملائكة بالتسبيح، والطاعة، والعبادة وغير ذلك.
الحجة السابعة: الحديث المشهور الصحيح عن الله عز وجل أنه قال: «من ذَكَرَنِي في نَفْسِه ذكرته في نَفْسي، ومن ذكرني في مَلأ ذكرته في مَلأ خير منه».
والملأ الذي يذكر الله الذاكر فيه، هم: الملائكة وقد نطق الحديث بأنهم أفضل من الملأ الذين يذكر العبد فيهم ربه، وخير منهم، وقد قال بعضهم: وكم من ملأ ذكر الله فيه والرسول حاضر فيهم، بل وقع ذلك في مجالس الرسول كلهم، فأين العدول عن هذا الحديث الصحيح؟
الجواب: أن هذا الحديث صحيح، وهو أجود وأقوى ما احتجوا به، وقد أجابوا عنه بوجهين:
أحدهما: أضعف من الآخر، وهو أن الخبر يجوز أن يرجع إلى الذِّكْر، لا إلى المذكور فيهم، تقديره ذكرته ذكرًا خيرًا من ذكره؛ لأن ذكر الله كلامه، وهذا ليس بشيء، فإن الخبر مجرور صفة للملأ، وقد وصل بقوله: منهم، ولم يقل: منه، ولولا ذلك المعنى لقيل: ذكرته في ملأ خيرًا منه بالنصب، وصلة الضمير الذكر. وهذا من أوضح الكلام لمن له فقه بالعربية ونعوذ بالله من التنطع.
وثانيهما: أنه محمول على ملأ خير منه ليس فيهم نبي، فإن الحديث عام عمومًا مقصودًا شاملًا، كيف لا، والأنبياء والأولياء هم أهل الذكر، ومجالسهم مجالس الرحمة؟ فكيف يجيء استثناؤهم؟
لكن هنا أوجه متوجهة:
أحدها: أن الملأ الأعلى الذين يذكر الله من ذكره فيهم هم صفوة الملائكة وأفضلهم، والذاكر فيهم للعبد هو الله. يقال: ينبغي أن يفرض على موازنة أفضل بني آدم يجتمعون في مجلس نبيه ﷺ، وإن كان أفضل البشر، لكن الذين حوله ليس أفضل من بقى من البشر الفضلاء، فإن الرسل والأنبياء، أفضل منهم.
وثانيها: أن مجلس أهل الأرض إن كان فيه جماعة من الأنبياء يذكر العبد فيهم ربه، فالله تعالى يذكر العبد في جماعات من الملائكة أكثر من أولئك، فيقع الخير للكثرة التي لا يقوم لها شيء، فإن الجماعة كلما كثروا كانوا خيرًا من القليل.
وثالثها: أنه لعله في الملأ الأعلى جماعة من الأنبياء يذكر الله العبد فيهم؛ فإن أرواحهم هناك.
ورابعها: أن من الناس من فرق بين الخير والأفضل، فيقال: الخير للأنفع.
وخامسها: أنه لا يدل على أن الملأ الأعلى أفضل من هؤلاء الذاكرين إلا في هذه الدنيا، وفي هذه الحال؛ لأنهم لم يكملوا بعد، ولم يصلحوا أن يصيروا أفضل من الملأ الأعلى، فالملأ الأعلى خير منهم في هذه الحالة، كما يكون الشيخ العاقل خيرًا من عامة الصبيان؛ لأنه إذ ذاك فيه من الفضل ما ليس في الصبيان، ولعل في الصبيان في عاقبته أفضل منه بكثير، ونحن إنما نتكلم على عاقبة الأمر ومستقره.
فليتدبر هذا، فإنه جواب معتمد إن شاء الله، والله سبحانه أعلم بحقائق خلقه وأفاضلهم، وأحكم في تدبيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا ما تيسر تعليقه وأنا عَجْلان، في حين من الزمان، والله المستعان، وهو المسؤول أن يهدي قلوبنا ويسدد ألسنتنا وأيدينا، والحمد لله رب العالمين.
هامش
- ↑ [الأنفال: 22]
- ↑ [الأنفال: 55]
- ↑ [الأعراف: 179]
- ↑ [الإسراء: 70]
- ↑ [فصلت: 37]
- ↑ [الرعد: 15]
- ↑ [ العَنَزَة: رُمَيْح بين العصا والرُّمح]
- ↑ [البقرة: 144]
- ↑ [الأعراف: 206]
- ↑ [ص: 75]
- ↑ [ جمع السَّانح، وهو ما يعرض على الإنسان، وأصله: من سنح لي الشيء إذا عرض، فإذا كان هذا الشيء طائرًا وخلافه - يعرض من جهة اليمين سمى السانح وكان العرب يتيمنون به، وعكسه البارح]
- ↑ [البقرة: 34]
- ↑ الحجر: 30]
- ↑ [الإسراء: 62]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [آل عمران: 33]
- ↑ [الدخان: 32]
- ↑ [الفاتحة: 2]
- ↑ [الشعراء: 165]
- ↑ [الأعراف: 80]
- ↑ [الإسراء: 70]
- ↑ [البقرة: 30]
- ↑ [البقرة: 30]
- ↑ [الزمر: 9]
- ↑ [بياض]
- ↑ [الممتحنة : 10]
- ↑ [المؤمنون: 1]
- ↑ [السجدة: 17]
- ↑ [الإسراء: 79]
- ↑ [الذاريات: 23]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [الأنبياء: 20]
- ↑ [الكهف: 7]
- ↑ [الكهف: 30]
- ↑ [ الأنبياء: 107]
- ↑ [الحشر: 9]
- ↑ [النساء: 172]
- ↑ [الأنعام: 50]
- ↑ [الفرقان: 7]
- ↑ [الفرقان: 20]
- ↑ [الأعراف: 20]
- ↑ [الحج: 75]
- ↑ [النساء: 69]
- ↑ [الأحزاب: 7]
- ↑ [الأحزاب: 35]
- ↑ [الشورى: 49]
- ↑ [التين: 1]
- ↑ [الشمس : 1]
- ↑ [الرحمن: 68]
- ↑ [يوسف: 31]
- ↑ [التكوير: 1921]
- ↑ [التكوير: 22]
- ↑ [الشرح]
- ↑ [الضحى: 1، 2]
- ↑ [الفتح: 1]
- ↑ [الإسراء: 79]
- ↑ [ التكوير: 19]
- ↑ [الأنعام: 9]