محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الثالثة عشر


كتاب الطهارة

137 - مسألة : والبول كله من كل حيوان - إنسان أو غير إنسان ، مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه نحو ما ذكرنا كذلك ، أو من طائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه ، فكل ذلك حرام أكله وشربه إلا لضرورة تداو أو إكراه أو جوع أو عطش فقط وفرض اجتنابه في الطهارة والصلاة إلا ما لا يمكن التحفظ منه إلا بحرج فهو معفو عنه كونيم الذباب ونجو البراغيث . وقال أبو حنيفة : أما البول فكله نجس ، سواء كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه ، إلا أن بعضه أغلظ نجاسة من بعض ، فبول كل ما يؤكل لحمه - من فرس أو شاة أو بعير أو بقرة أو غير ذلك - لا ينجس الثوب ولا تعاد منه الصلاة ، إلا أن يكون كثيرا فاحشا فينجس حينئذ وتعاد منه الصلاة أبدا . ولم يحد أبو حنيفة في المشهور عنه في الكثير حدا . وحده أبو يوسف بأن يكون شبرا في شبر . قال : فلو بالت شاة في بئر فقد تنجست وتنزح كلها . قالوا : وأما بول الإنسان وما لا يؤكل لحمه فلا تعاد منه الصلاة ولا ينجس الثوب ، إلا أن يكون أكثر من قدر الدرهم البغلي ، فإن كان كذلك نجس الثوب وأعيدت منه الصلاة أبدا - فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل لم ينجس الثوب ولم تعد منه الصلاة ، وكل ما ذكرنا - قبل وبعد - فالعمد عندهم والنسيان سواء في كل ذلك . قال : وأما الروث فإنه سواء كله كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه من بقر كان أو من فرس أو من حمار أو غير ذلك ، إن كان في الثوب منه أو النعل أو الخف أو الجسد أكثر من قدر الدرهم البغلي : بطلت الصلاة وأعادها أبدا . وإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل لم يضر شيئا ، فإن وقع في البئر بعرتان فأقل من أبعار الإبل أو الغنم لم يضر شيئا ، فإن كان من الروث المذكور في الخف والنعل أكثر من قدر الدرهم ، فإن كان يابسا أجزأ فيه الحك ، وإن كان رطبا لم يجز فيه إلا الغسل ، فإن كان مكان الروث بول لم يجز فيه إلا الغسل يبس أو لم ييبس . قال فإن صلى وفي ثوبه من خرء الطير الذي يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه أكثر من قدر الدرهم لم يضر شيئا ولا أعيدت منه الصلاة ، إلا أن يكون كثيرا فاحشا فتعاد منه الصلاة إلا أن يكون خرء دجاج ، فإنه من صلى وفي ثوبه أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة أبدا ، فلو وقع في الماء خرء حمام أو عصفور لم يضره شيئا . وقال زفر : بول كل ما يؤكل لحمه طاهر كثر أم قل . وأما بول ما لا يؤكل لحمه ونجوه ونجو ما يؤكل لحمه فكل ذلك نجس .


وقال مالك : بول ما لا يؤكل لحمه ونجوه نجس ، وبول ما يؤكل لحمه ونجوه طاهران إلا أن يشرب ماء نجسا فبوله حينئذ نجس ، وكذلك ما يأكل الدجاج من نجاسات فخرؤها نجس . وقال داود : بول كل حيوان ونجوه - أكل لحمه أو لم يؤكل - فهو طاهر ، حاشا بول الإنسان ونجوه فقط فهما نجسان . وقال الشافعي مثل قولنا الذي صدرنا به . قال علي : أما قول أبي حنيفة ففي غاية التخليط والتناقض والفساد ، لا تعلق له بسنة لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا بقرآن ولا بقياس ولا بدليل إجماع ولا بقول صاحب ولا برأي سديد ، وما نعلم أحدا قسم النجاسات قبل أبي حنيفة هذا التقسيم بل نقطع على أنه لم يقل بهذا الترتيب فيها أحد قبله ، فوجب إطراح هذا القول بيقين . وأما قول أصحابنا فإنهم قالوا : الأشياء على الطهارة حتى يأتي نص بتحريم شيء أو تنجيسه فيوقف عنده . قالوا : ولا نص ولا إجماع في تنجيس بول شيء من الحيوان ونجوه ، حاشا بول الإنسان ونجوه ، فوجب أن لا يقال بتنجيس شيء من ذلك ، وذكروا ما رويناه من طريق أنس { أن قوما من عكل وعرينة قدموا على رسول الله وتكلموا بالإسلام فقالوا : يا رسول الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف ، واستوخموا المدينة ، فأمر لهم رسول الله بذود وراع ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها } وذكر الحديث . وبحديث روينا أيضا من طريق أنس { أن رسول الله كان يصلي في المدينة حيث أدركته الصلاة وفي مرابض الغنم } وبحديث رويناه من طريق ابن مسعود { كان رسول الله يصلي عند البيت وملأ من قريش جلوس وقد نحروا جزورا لهم ، فقال بعضهم : أيكم يأخذ هذا الفرث بدمه ثم يمهله حتى يضع وجهه ساجدا فيضعه على ظهره ، قال عبد الله : فانبعث أشقاها فأخذ الفرث ، فأمهله ، فلما خر ساجدا وضعه على ظهره ، فأخبرت فاطمة بنت رسول الله وهي جارية فجاءت تسعى فأخذته من ظهره ، فلما فرغ من صلاته قال : اللهم عليك بقريش } وذكر الحديث . وبحديث رويناه من طريق { ابن عمر كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله وكنت شابا عزبا ، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك } . ذكروا في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ما رويناه من طريق شعبة وسفيان ، كلاهما عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبيه قال " صلى بنا أبو موسى الأشعري على مكان فيه سرقين هذا لفظ سفيان ، وقال شعبة " روث الدواب " وروينا من طريق غيرهما " والصحراء أمامه ، وقال : هنا وهناك سواء " وعن أنس " لا بأس ببول كل ذات كرش " وعن إبراهيم النخعي . قال منصور : سألته عن السرقين يصيب خف الإنسان أو نعله أو قدمه ؟ قال لا بأس . وعن إبراهيم أنه رأى رجلا قد تنحى عن بغل يبول ، فقال له إبراهيم : ما عليك لو أصابك . وقد صح عنه أنه كان لا يجيز أكل البغل . وعن الحسن البصري : لا بأس بأبوال الغنم . وعن محمد بن علي بن الحسين ونافع مولى ابن عمر فيمن أصاب عمامته بول بعير قالا جميعا : لا يغسله . وعن عبد الله بن مغفل أنه كان يصلي وعلى رجليه أثر السرقين . وعن عبيد بن عمير قال : إن لي عنيقا تبعر في مسجدي . قال أبو محمد : أما الآثار التي ذكرنا فكلها صحيح ، إلا أنها لا حجة لهم في شيء منها : أما حديث ابن عمر فغير مسند ؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله عرف ببول الكلاب في المسجد فأقره ، وإذ ليس هذا في الخبر فلا حجة فيه ، إذ لا حجة إلا في قوله عليه السلام أو في عمله أو فيما صح أنه عرفه فأقره ، فسقط هذا الاحتجاج بهذا الخبر ، لكن يلزم من احتج بحديث أبي سعيد { كنا نخرج على عهد رسول الله صدقة الفطر صاعا من طعام } أن يحتج بهذا الخبر ؛ لأنه أقرب إلى أن يعرفه رسول الله منه إلى أن يعرف عمل بني خدرة في جهة من جهات المدينة ، ويلزم من شنع لعمل الصحابة رضي الله عنهم أن يأخذ بحديث ابن عمر هذا ، فلا يرى أبوال الكلاب ولا غيرها نجسا ، ولكن هذا مما تناقضوا فيه . وأما حديث ابن مسعود فلا حجة لهم فيه ، لأن فيه أن الفرث كان معه دم ، وليس هذا دليلا عندهم ، على طهارة الدم ، فمن الباطل أن يكون دليلا على طهارة الفرث دون طهارة الدم ، وكلاهما مذكوران معا . وأيضا فإن شعبة وسفيان وزكريا بن أبي زائدة رووا كلهم هذا الخبر عن الذي رواه عنه علي بن صالح وهو أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ، فذكروا أن ذلك كان سلى جزور ، وهم أوثق وأحفظ من علي بن صالح ، وروايتهم زائدة على روايته ، فإذا كان الفرث والدم في السلى فهما غير طاهرين ، فلا حكم لهما ، والقاطع ههنا أن هذا الخبر كان بمكة قبل ورود الحكم بتحريم النجو والدم ، فصار منسوخا بلا شك وبطل الاحتجاج به بكل حال . وأما حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم ، فإنهم قالوا : إن مرابض الغنم لا تخلو من أبوالها ولا من أبعارها . فقلنا لهم : أما قولكم إنها لا تخلو من أبوالها ولا من أبعارها فقد يبول الراعي أيضا بينها ، وليس ذلك دليلا على طهارة بول الإنسان . وأيضا فإن عبد الله بن ربيع حدثنا قال : ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود السجستاني ثنا محمد بن كريب ثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت { أمر رسول الله ببناء المساجد في الدور وأن تطيب وتنظف } . قال علي : الدور هي دور السكنى وهي أيضا المحلات . تقول : دار بني ساعدة ، ودار بني النجار ، دار بني عبد الأشهل . هكذا قال رسول الله وهو كذلك في لغة العرب ، فقد صح أمره عليه السلام بتنظيف المساجد وتطييبها ، وهذا يوجب الكنس لها من كل بول وبعر وغيره . وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج ثنا شيبان بن فروخ وأبو الربيع الزهراني ، كلاهما عن عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس بن مالك قال { كان رسول الله أحسن الناس خلقا ، فربما رأيته تحضر الصلاة فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح ثم يؤم رسول الله ونقوم خلفه فيصلي بنا } فهذا أمر منه بكنس ما يصلى عليه ونضحه . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا إسماعيل ابن علية عن ابن عون هو عبد الله - عن أنس بن سيرين عن عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن { أنس بن مالك قال صنع بعض عمومتي للنبي طعاما وقال : إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه فأتاه وفي البيت فحل من تلك الفحول - يعني حصيرا - فأمر عليه السلام بجانب منه فكنس ورش فصلى وصلينا معه } فهذا أمر منه عليه الصلاة والسلام بكنس ما يصلى عليه ورشه بالماء ، فدخل في ذلك مرابض الغنم وغيرها . وأيضا فإن هذا الحديث نفسه إنما رويناه من طريق عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس ، وقد رويناه من طريق البخاري عن سليمان بن حرب عن شعبة عن أبي التياح عن أنس { كان رسول الله يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبنى المسجد } فصح أن هذا كان في أول الهجرة قبل ورود الأخبار باجتناب كل نجو وبول . وأيضا فإن يونس بن عبد الله قال : ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : { إذا لم تجدوا إلا مرابض الغنم وأعطان الإبل ، فصلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في معاطن الإبل } . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب { أن رسول الله سئل : أنصلي في أعطان الإبل ؟ فقال لا ، قال : أنصلي في مرابض الغنم ؟ قال نعم } . قال علي عبد الله هذا هو عبد الله بن عبد الله ثقة كوفي ولي قضاء الري . حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن محمد البرتي ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث بن سعيد ثنا يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال : { قال رسول الله  : إذا أتيتم على مرابض الغنم فصلوا فيها ، وإذا أتيتم على مبارك الإبل فلا تصلوا فيها ، فإنها خلقت من الشياطين } .


قال أبو محمد : فلو كان أمره عليه السلام بالصلاة في مرابض الغنم دليلا على طهارة أبوالها وأبعارها ، كان نهيه عليه السلام عن الصلاة في أعطان الإبل دليلا على نجاسة أبوالها وأبعارها ، وإن كان نهيه عليه السلام عن الصلاة في أعطان الإبل ليس دليلا على نجاسة أبوالها ، فليس أمره عليه السلام بالصلاة في مرابض الغنم دليلا على طهارة أبوالها وأبعارها ، والمفرق بين ذلك متحكم بالباطل ، لا يعجز من لا ورع له عن أن يأخذ بالطرف الثاني بدعوى كدعواه . فإن قال : إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل ، لأنها خلقت من الشياطين كما في الحديث قيل له : وإنما أمر بالصلاة في مرابض الغنم لأنها من دواب الجنة كما قد صح ذلك أيضا في الحديث ، فخرجت الطهارة والنجاسة من كلا الخبرين ، فسقط التعلق بهذا الخبر جملة . وبالله تعالى التوفيق . وأما حديث أنس في أبوال الإبل وألبانها فلا حجة لهم فيه ؛ لأن رسول الله إنما أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبان الإبل على سبيل التداوي من المرض ، كما روينا من طريق مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا ابن علية عن حجاج بن أبي عثمان حدثني أبو رجاء مولى أبي قلابة عن أبي قلابة حدثني أنس بن مالك { أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله فبايعوه على الإسلام ، فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله فقال : ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها فصحوا ، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل } وذكر الحديث فصح يقينا أن رسول الله أمرهم بذلك على سبيل الدواء من السقم الذي كان أصابهم ، وأنهم صحت أجسامهم بذلك ، والتداوي بمنزلة ضرورة ، وقد قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المأكل والمشرب ، فإن قيل : قد قال رسول الله ما رويتموه من طريق شعبة عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه قال : { ذكر طارق بن سويد أو سويد بن طارق أنه سأل رسول الله عن الخمر فنهاه ثم سأله فنهاه ، فقال : يا نبي الله إنها دواء فقال النبي  : لا ، ولكنها داء } وحديث يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة قال { نهى رسول الله عن الدواء الخبيث } . وما روي من طريق جرير عن سليمان الشيباني عن حسان بن المخارق عن أم سلمة عن النبي { إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم } . فهذا كله لا حجة فيه ؛ لأن حديث علقمة بن وائل إنما جاء من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين ، شهد عليه بذلك شعبة وغيره ، ثم لو صح لم يكن فيه حجة ؛ لأن فيه أن الخمر ليست دواء ، وإذ ليست دواء فلا خلاف بيننا في أن ما ليس دواء فلا يحل تناوله إذا كان حراما ، وإنما خالفناهم في الدواء ، وجميع الحاضرين لا يقولون بهذا ، بل أصحابنا والمالكيون يبيحون للمختنق شرب الخمر إذا لم يجد ما يسيغ أكله به غيرها ، والحنفيون والشافعيون يبيحونها عند شدة العطش . وأما حديث الدواء الخبيث فنعم وما أباحه الله تعالى عند الضرورة فليس في تلك الحال خبيثا ، بل هو حلال طيب ؛ لأن الحلال ليس خبيثا ، فصح أن الدواء الخبيث هو القتال المخوف ، على أن يونس بن أبي إسحاق الذي انفرد به ليس بالقوي . وأما حديث { لم يجعل الله شفاءكم فيما حرم عليكم } فباطل لأن راويه سليمان الشيباني وهو مجهول . وقد جاء اليقين بإباحة الميتة والخنزير عند خوف الهلاك من الجوع فقد جعل تعالى شفاءنا من الجوع المهلك فيما حرم علينا في غير تلك الحال ونقول : نعم إن الشيء ما دام حراما علينا فلا شفاء لنا فيه ، فإذا اضطررنا إليه فلم يحرم علينا حينئذ بل هو حلال ، فهو لنا حينئذ شفاء ، وهذا ظاهر الخبر . وقد قال الله تعالى فيما حرم علينا : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقد قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وصح أن رسول الله قال : { الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها } وقال { : إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة } من الطرق الثابتة الموجبة للعلم . روى تحريم الحرير عمر وابنه وابن الزبير وأبو موسى وغيرهم ، ثم صح يقينا { أنه عليه السلام أباح لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام لباس الحرير على سبيل التداوي من الحكة والقمل والوجع } ، فسقط كل ما تعلقوا به . وأما قولهم : إن الأشياء على الإباحة بقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وبقوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } فصحيح ، وهكذا نقول : إننا إن لم نجد نصا على تحريم الأبوال جملة والأنجاء جملة ، وإلا فلا يحرم من ذلك شيء إلا ما أجمع عليه من بول ابن آدم ونجوه . كما قالوا : فإن وجدنا نصا في تحريم كل ذلك ووجوب اجتنابه ، فالقول بذلك واجب ، فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا ابن سلام أخبرنا عبيدة بن حميد أبو عبد الرحمن عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس { أن رسول الله سمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال عليه السلام : يعذبان وما يعذبان في كبير وإنه لكبير ، كان أحدهما لا يستتر من البول ، وكان الآخر يمشي بالنميمة } وذكر الحديث . قال أبو محمد : كل كبير فهو صغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه من الشرك أو القتل . ومن طريق البخاري : حدثنا محمد بن المثنى ثنا أبو معاوية الضرير هو محمد بن خازم ثنا الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال { مر رسول الله بقبرين فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة } وذكر باقي الخبر . ورويناه أيضا من طريق أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر عن شعبة عن الأعمش ، ومن طريق وكيع عن الأعمش ، ومن طريق جرير وشعبة عن منصور بن المعتمر عن مجاهد . حدثنا يونس عبد الله بن مغيث ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عفان بن مسلم ثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال : { أكثر عذاب القبر في البول } ورويناه أيضا من طريق أبي معاوية عن الأعمش بإسناده . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا يحيى بن سعيد هو القطان - عن أبي حزرة هو يعقوب بن مجاهد القاص ، ثنا عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخو القاسم بن محمد قال : كنا عند عائشة أم المؤمنين فقالت : سمعت رسول الله يقول : { لا يصلى بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان يعني البول والنجو } . ورويناه أيضا من طريق مسدد عن يحيى بن سعيد بإسناده . ومن طريق مسلم عن محمد بن عباد عن حاتم بن إسماعيل عن أبي حزرة . قال أبو محمد : فافترض رسول الله على الناس اجتناب البول جملة ، وتوعد على ذلك بالعذاب ، وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه بول دون بول ، فيكون فاعل ذلك مدعيا على الله تعالى وعلى رسوله ما لا علم له به بالباطل إلا بنص ثابت جلي ، ووجدناه قد سمى البول جملة والنجو جملة " الأخبثين " والخبيث محرم ، قال الله تعالى : { يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فصح أن كل أخبث وخبيث فهو حرام . فإن قيل : إنما خاطب عليه السلام الناس فإنما أراد نجوهم وبولهم فقط . قلنا : نعم إنما خاطب عليه السلام الناس ولكن أتى بالاسم الأعم الذي يدخل تحته جنس البول والنجو . ولا فرق بين من قال : إنما أراد عليه السلام نجو الناس خاصة وبولهم وبين من قال : بل إنما أراد عليه السلام بول كل إنسان عليه خاصة لا بول غيره من الناس ، وكذلك في النجو فصح أن الواجب حمل ذلك على ما تحت الاسم الجامع للجنس كله . فإن قيل : إن هذا الخبر الذي فيه العذاب في البول إنما هو من رواية الأعمش عن مجاهد ، وقد تكلم فيها ، وأيضا فإنه مرة رواه عن مجاهد عن ابن عباس ، ومرة عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس ، وأيضا فإن ابن راهويه ومحمد بن العلاء ويحيى وأبا سعيد الأشج رووه عن وكيع عن الأعمش فقالوا فيه { كان لا يستتر من بوله } وهكذا رواه عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن مجاهد . قال أبو محمد : هذا كله لا شيء . أما رواية الأعمش عن مجاهد فإن الإمامين شعبة ووكيعا ذكرا في هذا الحديث سماع الأعمش له من مجاهد فسقط هذا الاعتراض ، وأيضا فقد رويناه آنفا من غير طريق الأعمش لكن من طريق منصور عن مجاهد عن ابن عباس ، فسقط التعلل جملة . وأما رواية هذا الخبر مرة عن مجاهد عن ابن عباس ومرة عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس فهذا قوة للحديث ، ولا يتعلل بهذا إلا جاهل مكابر للحقائق ؛ لأن كليهما إمام ، وكلاهما صحب ابن عباس الصحبة الطويلة ، فسمعه مجاهد من ابن عباس . وسمعه أيضا من طاوس عن ابن عباس فرواه كذلك ، وإلا فأي شيء في هذا مما يقدح في الرواية ؟ وددنا أن تبينوا لنا ذلك ولا سبيل إليه إلا بدعوى فاسدة لهج بها قوم من أصحاب الحديث ، وهم فيها مخطئون عين الخطأ ، ومن قلدهم أسوأ حالا منهم . وأما رواية من روى " من بوله " فقد عارضهم من هو فوقهم ، فروى هناد بن السري وزهير بن حرب ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلهم عن وكيع فقالوا " من البول " ورواه ابن عون وابن جرير عن أبيه عن منصور عن مجاهد فقالا : " من البول " ورواه شعبة وعبيدة بن حميد ، كلاهما عن منصور عن مجاهد فقالا : " من البول " ورواه شعبة وأبو معاوية الضرير وعبد الواحد بن زياد كلهم عن الأعمش فقالوا " من البول " فكلا الروايتين حق ، ورواية هؤلاء تزيد على رواية الآخرين وزيادة العدل واجب قبولها ، فسقط كل ما تعللوا به ، وصح فرضا وجوب اجتناب كل بول ونجو . وممن قال بهذا جملة من السلف ، كما حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن محمد البرتي القاضي ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث بن سعيد ثنا عمارة بن أبي حفصة حدثني أبو مجلز قال : - سألت ابن عمر عن بول ناقتي قال اغسل ما أصابك منه . وعن أحمد بن حنبل عن المعتمر بن سليمان التيمي عن سلم بن أبي الذيال عن صالح الدهان عن جابر بن زيد قال : الأبوال كلها أنجاس . وعن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن قال " البول كله يغسل " وعن قتادة عن سعيد بن المسيب قال " الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلها " وعن معمر عن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال " ينضح " وعن سفيان بن عيينة عن أبي موسى إسرائيل قال " كنت مع محمد بن سيرين فسقط عليه بول خفاش فنضحه ، وقال ما كنت أرى النضح شيئا حتى بلغني عن سبعة من أصحاب رسول الله . وعن وكيع عن شعبة قال " سألت حماد بن أبي سليمان عن بول الشاة ، فقال اغسله . وعن حماد أيضا في بول البعير مثل ذلك . قال أبو محمد " وأما قول زفر فلا متعلق له بشيء من هذه الأخبار ، لما نذكره في إفساد قول مالك إن شاء الله تعالى - لكن تعلق من ذهب مذهبه بحديث رواه عيسى بن موسى بن أبي حرب الصفار عن يحيى بن بكير عن سوار بن مصعب عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب عن رسول الله { ما أكل لحمه فلا بأس ببوله } . قال علي : هذا خبر باطل موضوع ؛ لأن سوار بن مصعب متروك عند جميع أهل النقل ، متفق على ترك الرواية عنه ، يروي الموضوعات . فإذا سقط هذا فإن زفر قاس بعض الأبوال على بعض ، ولم يقس النجو على البول ، وهذا هو الذي أنكره أصحابه علينا في تفريقنا بين حكم البائل في الماء الراكد وبين المتغوط فيه ، إلا أننا نحن قلناه اتباعا لرسول الله وقال زفر برأيه الفاسد . وأما قول مالك فظاهر الخطإ ، لأنه ليس فيما احتج به إلا أبوال الإبل فقط ، واستدلال على بول الغنم وبعرها فقط ، فأدخل هو في حكم الطهارة أبوال البقر وأخثاءها وأبعار الإبل وبعر كل ما يؤكل لحمه وبوله . فإن قالوا فعلنا ذلك قياسا لما يؤكل لحمه على ما لا يؤكل لحمه ، قلنا لهم فهلا قستم على الإبل والغنم كل ذي أربع ؛ لأنها ذوات أربع وذوات أربع ؟ أو كل حيوان ، لأنه حيوان وحيوان ؟ أو هلا قستم كل ما عدا الإبل والغنم المذكورين في الخبر على بول الإنسان ونجوه المحرمين ؟ فهذه علة أعم من علتكم إن كنتم تقولون بالأعم في العلل ، فإن لجأتم ههنا إلى القول بالأخص في العلل قلنا لكم ، فهلا قستم من الأنعام المسكوت عنها على الإبل والغنم ، وهي ما تكون أضحية من البقر فقط ، كما الإبل والغنم تكون أضحية ، أو ما يكون فيه الزكاة من البقر فقط ، كما يكون في الإبل والغنم ، أو ما يجوز ذبحه للمحرم من البقر خاصة ، كما يجوز ذلك في الإبل والغنم ، دون أن تقيسوا على الإبل والغنم والصيد والطير فهذا أخص من علتكم ، فظهر فساد قياسهم جملة يقينا . فإن قالوا : قسنا أبوال كل ما يؤكل لحمه وأنجاءها على ألبانها . قلنا لهم : فهلا قستم أبوالها على دمائها فأوجبتم نجاسة كل ذلك ؟ وأيضا فليس للذكور منها ولا للطير ألبان فتقاس أبوالها وأنجاؤها عليها . وأيضا فقد جاء القرآن والسنة والإجماع المتيقن بإفساد علتكم هذه وإبطال قياسكم هذا ، لصحة كل ذلك بأن لا تقاس أبوال النساء ونجوهن على ألبانهن في الطهارة والاستحلال . وهذا لا مخلص منه ألبتة . وهلا قاسوا كل ذي رجلين من الطير في نجوه على نجو الإنسان فهو ذو رجلين ؟ فكل هذه قياسات كقياسكم أو أظهر ، وهذا يرى من نصح نفسه إبطال القياس جملة ، وصح أن قول أبي حنيفة ومالك وأصحاب أبي حنيفة في هذه المسألة باطل بيقين ، لأنهم لا شيئا من النصوص اتبعوا ولا شيئا من القياس ضبطوا ، ولا بقول أحد من المتقدمين تعلقوا ، لا سيما تفريق مالك بين بول ما شرب ماء نجسا فقال بنجاسة بوله ، وبين بول ما شرب ماء طاهرا فقال بطهارة بوله ، وهو يرى لحم الدجاج حلالا طيبا ، هذا وهو يراه متولدا عن الميتات والعذرة ، وهذا تناقض لا خفاء به . وبالله تعالى التوفيق


138 - مسألة : والصوف والوبر والقرن والسن يؤخذ من حي فهو طاهر ولا يحل أكله . برهان ذلك أن الحي طاهر وبعض الطاهر طاهر ، والحي لا يحل أكله ، وبعض ما لا يحل أكله لا يحل أكله .

139 - مسألة : وكل ذلك من الكافر نجس ومن المؤمن طاهر ، والقيح من المسلم والقلس والقصة البيضاء وكل ما قطع منه حيا أو ميتا ولبن المؤمنة ، كل ذلك طاهر ، وكل ذلك من الكافر والكافرة نجس . برهان ذلك ما قد ذكرنا من قول الله عز وجل : { إنما المشركون نجس } وقول رسول الله  : { المؤمن لا ينجس } وقد ذكرناه بإسناده قبل ، وبعض النجس نجس ، وبعض الطهر طاهر ، لأن الكل ليس هو شيئا غير أبعاضه وبالله تعالى التوفيق .


140 - مسألة : وألبان الجلالة حرام ، وهي الإبل التي تأكل الجلة - وهي العذرة - والبقر والغنم كذلك ، فإن منعت من أكلها حتى سقط عنها اسم جلالة ، فألبانها حلال طاهرة . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا محمد بن المثنى وعثمان بن أبي شيبة ، قال ابن المثنى ثنا أبو عامر العقدي ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس { أن رسول الله نهى عن لبن الجلالة } وقال عثمان بن أبي شيبة : حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال { نهى رسول الله عن أكل الجلالة وألبانها } .

محلى ابن حزم - المجلد الأول/كتاب الطهارة
كتاب الطهارة (مسألة 110 - 120) | كتاب الطهارة (مسألة121 - 125) | كتاب الطهارة (مسألة 126 - 130) | كتاب الطهارة (مسألة 131 - 135) | كتاب الطهارة (مسألة 136) | كتاب الطهارة يتبع (مسألة 136) | كتاب الطهارة (مسألة 137 - 140) | كتاب الطهارة (مسألة 141 - 147) | كتاب الطهارة (مسألة 148 - 157) | كتاب الطهارة (مسألة 158 - 163) | كتاب الطهارة (مسألة 164 - 168) | كتاب الطهارة (مسألة 169) | كتاب الطهارة (مسألة 170 - 178) | كتاب الطهارة (مسألة 179 - 187) | كتاب الطهارة (مسألة 188 - 193) | كتاب الطهارة (مسألة 194 - 199) | كتاب الطهارة (مسألة 200 - 206) | كتاب الطهارة (مسألة 207 - 211) | كتاب الطهارة (مسألة 212 - 215) | كتاب الطهارة (مسألة 216 - 223) | كتاب الطهارة (مسألة 224 - 235) | كتاب الطهارة (مسألة 236 - 245) | كتاب الطهارة (مسألة 246 - 249) | كتاب الطهارة (مسألة 250 - 253) | كتاب الطهارة (مسألة 254 - 256) | كتاب الطهارة (مسألة 257 - 262) | كتاب الطهارة (مسألة 263 - 266) | كتاب الطهارة (مسألة 267 - 269) | كتاب الطهارة (مسألة 270 - 274)