محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة السادسة والعشرون

ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا (مسألة 216 - 223)


كتاب الطهارة

صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا

216 - مسألة : فإن كان في الخفين أو فيما لبس على الرجلين خرق صغير أو كبير ، طولا أو عرضا ، فظهر منه شيء من القدم ، أقل القدم أو أكثرها أو كلاهما فكل ذلك سواء ، والمسح على كل ذلك جائز ، ما دام يتعلق بالرجلين منهما شيء ، وهو قول سفيان الثوري وداود وأبي ثور وإسحاق بن راهويه ويزيد بن هارون . قال أبو حنيفة : إن كان في كل واحد من الخفين خرق عرضا يبرز من كل خرق أصبعان فأقل أو مقدار أصبعين فأقل : جاز المسح عليهما ، فإن ظهر من أحدهما دون الآخر ثلاثة أصابع أو مقدارها فأكثر لم يجز المسح عليهما قال : فإن كان الخرق طويلا مما لو فتح ظهر منه أكثر من ثلاثة أصابع جاز المسح . وقال مالك : إن كان الخرق يسيرا لا يظهر منه القدم جاز المسح ، وإن كان كبيرا فاحشا لم يجز المسح عليهما ، فيهما كان أو في أحدهما . وقال الحسن بن حي والشافعي وأحمد : إن ظهر من القدم شيء من الخرق لم يجز المسح عليهما ، فإن لم يظهر من الخرق شيء من القدم جاز المسح عليهما . قال الحسن بن حي : فإن كان من تحت الخرق قل أو كثر جورب يستر القدم جاز المسح . وقال الأوزاعي : إن انكشف من الخرق في الخف شيء من القدم مسح على الخفين وغسل ما انكشف من القدم أو القدمين وصلى ، فإن لم يغسل ما ظهر أعاد الصلاة . قال علي : فلما اختلفوا وجب أن ننظر ما احتجت به كل طائفة لقولها ، فوجدنا قول مالك لا معنى له ، لأنه منع من المسح في حال ما وأباحه في حال أخرى ، ولم يبين لمقلديه ولا لمريدي معرفة قوله ولا لمن استفتاه ، ما هي الحال التي يحل فيها المسح ، ولا ما الحال الذي يحرم فيها المسح فهذا إنشاب للمستفتي فيما لا يعرف وأيضا فإنه قول لا دليل على صحته ، ودعوى لا برهان عليها ، فسقط هذا القول . ثم نظرنا في قول أبي حنيفة فكان تحكما بلا دليل ، وفرقا بلا برهان ، لا يعجز عن مثله أحد ، ولا يحل القول في الدين بمثل هذا ، وأيضا فالأصابع تختلف في الكبر والصغر تفاوتا شديدا ، فليت شعري أي الأصابع أراد وما نعلم أحدا سبقه إلى هذا القول مع فساده ، فسقط أيضا هذا القول بيقين . ثم نظرنا في قول الحسن بن حي والشافعي وأحمد فوجدنا حجتهم أن فرض الرجلين الغسل إن كانتا مكشوفتين أو المسح إن كانتا مستورتين ، فإذا انكشف شيء منهما وإن قل فقد انكشف شيء فرضه الغسل ، قالوا : ولا يجتمع غسل ومسح في رجل واحدة ، ما نعلم لهم حجة غير هذا . قال علي : كل ما قالوه صحيح ، إلا قولهم إذا انكشف من القدم شيء فقد انكشف شيء فرضه الغسل ، فإنه قول غير صحيح ، ولا يوافقون عليه ، إذ لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ، لكن الحق في ذلك ما جاءت به السنة المبينة للقرآن من أن حكم القدمين اللتين ليس عليهما شيء ملبوس يمسح عليه أن يغسلا ، وحكمهما إذا كان عليهما شيء ملبوس أن يمسح على ذلك الشيء ، بهذا جاءت السنة { وما كان ربك نسيا } . وقد علم رسول الله - إذ أمر بالمسح على الخفين وما يلبس في الرجلين ومسح على الجوربين - أن من الخفاف والجوارب وغير ذلك مما يلبس على الرجلين المخرق خرقا فاحشا أو غير فاحش ، وغير المخرق ، والأحمر والأسود والأبيض ، والجديد والبالي ، فما خص عليه السلام بعض ذلك دون بعض ، ولو كان حكم ذلك في الدين يختلف لما أغفله الله تعالى أن يوحي به ، ولا أهمله رسول الله المفترض عليه البيان ، حاشا له من ذلك فصح أن حكم ذلك المسح على كل حال ، والمسح لا يقتضي الاستيعاب في اللغة التي بها خوطبنا ، وهكذا روينا عن سفيان الثوري أنه قال : امسح ما دام يسمى خفا ، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مشققة مخرقة ممزقة ؟ وأما قول الأوزاعي فنذكره إن شاء الله في المسألة التالية لهذه وبالله التوفيق .


217 - مسألة : فإن كان الخفان مقطوعين تحت الكعبين فالمسح جائز عليهما ، وهو قول الأوزاعي ، روي عنه أنه قال : يمسح المحرم على الخفين المقطوعين تحت الكعبين ، وقال غيره لا يمسح عليها إلا أن يكونا فوق الكعبين . قال علي : قد { صح عن رسول الله الأمر بالمسح على الخفين ، وأنه مسح على الجوربين } ، ولو كان ههنا حد محدود لما أهمله عليه السلام ولا أغفله فوجب أن كل ما يقع عليه اسم خف أو جورب أو لبس على الرجلين فالمسح عليه جائز ، وقد ذكرنا بطلان قول من قال : إن المسح لا يجوز إلا على ما يستر جميع الرجلين والكعبين . وبذلك الدليل يبطل هذا القول الذي لهم في هذه المسألة ، لا سيما قول أبي حنيفة المجيز المسح على الخفين اللذين يظهر منهما مقدار أصبعين من كل خف ، فإنه يلزمه إن ظهر من الكعبين من كل قدم فوق الخف مقدار أصبعين فالمسح جائز وإلا فلا . وكذلك يلزم المالكيين أن يقولوا : إن كان الظاهر من الكعبين فوق الخف يسيرا جاز المسح ، وإن كان فاحشا لم يجز ، وما ندري علام بنوا هذين القولين فإنهما لا نص ولا قياس ولا اتباع . وبالله التوفيق . قال علي : وأما قول الأوزاعي في الجمع بين الغسل والمسح في رجل واحدة فقول لا دليل على صحته ، لا من نص ولا من إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ، وحكم الرجلين الملبوس عليهما شيء المسح فقط بالسنن الثابتة ، فلا معنى لزيادة الغسل على ذلك .


218 - مسألة : ومن لبس خفيه أو جوربيه أو غير ذلك على طهارة ثم خلع أحدهما دون الآخر ، فإن فرضه أن يخلع الآخر إن كان قد أحدث ولا بد ، ويغسل قدميه . وقد روى المعافى بن عمران ومحمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري أنه يغسل الرجل المكشوفة ويمسح على الأخرى المستورة . وروى الفضل بن دكين عنه ، أنه ينزع ما على الرجل الأخرى ويغسلهما ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي . قال علي : فنظرنا في ذلك فوجدنا نص حكمه عليه السلام أنه مسح عليهما لأنه أدخلهما طاهرتين . وأمر عليه السلام بغسل القدمين المكشوفتين فكان هذان النصان لا يحل الخروج عنهما . ووجدنا من غسل رجلا ومسح على الأخرى قد عمل عملا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا دليل من لفظيهما . ولا يجوز في الدين إلا ما وجد في كلام الله تعالى أو كلام نبيه عليه السلام . فوجب أن لا يجزئ غسل رجل ومسح على الأخرى . وأنه لا بد من غسلهما أو المسح عليهما . سواء في ذلك في الابتداء أو بعد المسح عليهما . وقد حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث قال : ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس - هو الأودي - عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد - هو المقبري - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله { إذا لبس أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا خلعه فليبدأ باليسرى ، ولا يمشي في نعل واحدة ولا خف واحدة ، ليخلعهما جميعا أو ليمش فيهما جميعا } . فأوجب عليه السلام خلعهما ولا بد أو تركهما جميعا ، فإن خلع إحداهما دون الأخرى فقد عصى الله في إبقائه الذي أبقى ، وإذا كان بإبقائه عاصيا فلا يحل له المسح على خف فرضه نزعه ، فإن كان ذلك لعلة برجله لم يلزمه في تلك الرجل شيء أصلا ، لا مسح ولا غسل ، لأن فرضه قد سقط . ووجدنا بعض الموافقين لنا قد احتج في هذا بأنه لما لم يجز عند أحد ابتداء الوضوء بغسل رجل ومسح على خف على أخرى لم يجز ذلك بعد نزع أحد الخفين . قال أبو محمد : وهذا كلام فاسد ؛ لأن ابتداء الوضوء يرد على رجلين غير طاهرتين ، وليس كذلك الأمر بعد صحة المسح عليهما بعد إدخالهما طاهرتين . فبين الأمرين أعظم فرق . وبالله تعالى التوفيق .


219 - مسألة : ومن مسح كما ذكرنا على ما في رجليه ثم خلعهما لم يضره ذلك شيئا ، ولا يلزمه إعادة وضوء ولا غسل رجليه ، بل هو طاهر كما كان ويصلي كذلك وكذلك لو مسح على عمامة أو خمار ثم نزعهما فليس عليه إعادة وضوء ولا مسح رأسه بل هو طاهر كما كان ويصلي كذلك ، وكذلك لو مسح على خف على خف ثم نزع الأعلى فلا يضره ذلك شيئا ، ويصلي كما هو دون أن يعيد مسحا . وكذلك من توضأ أو اغتسل ثم حلق شعره أو تقصص أو قلم أظفاره ، فهو في كل ذلك على وضوئه وطهارته ويصلي كما هو دون أن يمسح مواضع القص . وهذا قول طائفة من السلف ، كما روينا عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن هشام بن حسان ، وروينا عن سفيان الثوري عن الفضيل بن عمرو عن إبراهيم النخعي : أنه كان يحدث ثم يمسح على جرموقين له من لبود ثم ينزعهما ، فإذا قام إلى الصلاة لبسهما وصلى . وأما أبو حنيفة فإنه قال : من توضأ ثم مسح على خفيه ثم أخرج قدمه الواحدة من موضعها إلى موضع الساق ، أو أخرج كلتيهما كذلك فقد بطل مسحه ، ويلزمه أن يخرج قدميه جميعا ويغسلهما ، وكذلك عنده لو أخرجهما بالكل . قال أبو يوسف وكذلك إذا أخرج أكثر من نصف القدم إلى موضع الساق . قال فلو لبس جرموقين على خفين ثم مسح عليهما ثم خلع أحد الجرموقين فعليه أن يمسح على الخف الذي كان تحت الجرموق ويمسح أيضا على الجرموق الثاني ولا بد ، لأن بعض المسح إذا انتقض انتقض كله . قال : فلو توضأ ثم جز شعره وقص شاربه وأظفاره فهو على طهارته ، وليس عليه أن يمس الماء شيئا من ذلك . وأما مالك فإنه قال : من مسح على خفيه ثم خلع أحدهما فإنه يلزمه أن يخلع الثاني ويغسل رجليه . وكذلك لو خلعهما جميعا . وكذلك من أخرج إحدى رجليه أو كلتيهما من موضع القدم إلى موضع الساق فإنه يخلعهما جميعا ولا بد ويغسل قدميه فإن لم يغسل قدميه في فوره ذلك لزمه ابتداء الوضوء ، فلو توضأ وجز بعد ذلك شعره أو قص أظفاره فليس عليه أن يمس شيئا من ذلك الماء ، قال فلو أخرج عقبيه أو إحداهما من موضع القدم إلى موضع الساق إلا أن سائر قدميه في موضع القدم فليس عليه أن يخرج رجليه لذلك وهو على طهارته . وقال الشافعي : من خلع أحد خفيه لزمه خلع الثاني وغسل قدميه ، فإن خلعهما جميعا فكذلك ، فلو أخرج رجليه كليهما عن موضعهما ولم يخرجهما ولا شيئا منهما عن موضع ساق الخف فهو على طهارته ، ولا شيء عليه حتى يخرج شيئا مما يجب غسله عن جميع الخف ، فيلزمه أن يخلعهما حينئذ ويغسلهما ، فإن توضأ ثم جز شعره أو قص أظفاره فهو على طهارته ، وليس عليه أن يمس الماء شيئا من ذلك . وقال الأوزاعي : إن خلع خفيه أو جز شعره أو قص أظفاره لزمه أن يبتدئ الوضوء في خلع الخفين وأن يمسح على رأسه ويمس الماء موضع القطع من أظفاره في الجز والقص ، وهو قول عطاء . وكذلك قال الأوزاعي فيمن مسح على عمامته ثم نزعها فإنه يمسح رأسه بالماء . قال علي : أما قول أبي يوسف في مراعاة إخراج أكثر من نصف القدم عن موضعها فيلزمه الغسل في رجليه معا أو إخراج نصفها فأقل فلا يلزمه غسل رجليه ، فتحكم في الدين ظاهر وشرع لم يأذن به الله تعالى ، ولا أوجبه قرآن ولا سنة ، ولا قياس ولا قول صاحب ولا رأي مطرد ، لأنهم يرون مرة الكثير أكثر من النصف ، ومرة الثلث ، ومرة الربع ، ومرة شبرا في شبر ، ومرة أكثر من قدر الدرهم ، وكل هذا تخليط . وأما فرق مالك بين إخراج العقب إلى موضع الساق فلا ينتقض المسح ، وبين إخراج القدم كلها إلى موضع الساق فينتقض المسح ، فتحكم أيضا لا يجوز القول به ولا يوجبه قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي مطرد ؛ لأنه يرى أن بقاء العقب في الوضوء لا يطهر ، إن فاعل ذلك لا وضوء له ، فإن كان المسح قد انتقض عن الرجل بخروجها عن موضع القدم ، فلا بد من انتقاض المسح عن العقب بخروجها عن موضعها إلى موضع الساق ، لا يجوز غير ذلك ، وإن كان المسح لا ينتقض عن العقب بخروجها إلى موضع الساق ، فإنه لا ينتقض أيضا بخروج القدم إلى موضع الساق كما قال الشافعي . وأما تفريقهم جميعهم بين المسح على الخفين ثم يخلعان فينتقض المسح ويلزم إتمام الوضوء ، وبين الوضوء ثم يجز الشعر وتقص الأظفار فلا ينتقض الغسل عن مقص الأظفار ولا المسح على الرأس ففرق فاسد ظاهر التناقض ولو عكس إنسان هذا القول فأوجب مسح الرأس على من حلق شعره ومس مجز الأظفار بالماء ولم ير المسح على من خلع خفيه ، لما كان بينها فرق . قال علي : وما وجدنا لهم في ذلك متعلقا أصلا إلا أن بعضهم قال : وجدنا مسح الرأس وغسل القدمين في الوضوء إنما قصد به الرأس لا الشعر ، وإنما قصد به الأصابع لا الأظافر ، فلما جز الشعر وقطعت الأظفار بقي الوضوء بحسبه ، وأما المسح فإنما قصد به الخفان لا الرجلان ، فلما نزعا بقيت الرجلان لم توضآ ، فهو يصلي برجلين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما فهو ناقص الوضوء . قال أبو محمد : وهذا لا شيء لأنه باطل وتحكم بالباطل ، فلو عكس عليه قوله فقيل له : بل المسح على الرأس وغسل الأظفار إنما قصد به الشعر والأظفار فقط ، بدليل أنه لو كان على الشعر حناء وعلى الأظفار كذلك لم يجز الوضوء ، وأما الخفان فالمقصود بالمسح القدمان لا الخفان ، لأن الخفين لولا القدمان لم يجز المسح عليهما فصح أن حكم القدمين الغسل ، إن كانتا مكشوفتين ، والمسح إن كانتا في خفين لما كان بين القولين فرق . ثم يقال لهم : هبكم أن الأمر كما قلتم في أن المقصود بالمسح الخفان ، وبالمسح في الوضوء الرأس ، وبغسل اليدين للأصابع لا للأظفار . فكان ماذا ؟ أو من أين وجب من هذا أن يعاد المسح بخلع الخفين ولا يعاد بحلق الشعر ؟ قال علي : فظهر فساد هذا القول . وأما قولهم : إنه يصلي بقدمين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما - فباطل ، بل ما يصلي - إلا على قدمين ممسوح على خفين عليهما . قال علي : فبطل هذا القول كما بينا ، وكذلك قولهم : يغسل رجليه فقط ، فهو باطل متيقن ، لأنه قد كان بإقرارهم قد تم وضوءه وجازت له الصلاة به ثم أمرتموه بغسل رجليه فقط ، ولا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون الوضوء الذي قد كان تم قد بطل أو يكون لم يبطل ، فإن كان لم يبطل فهذا قولنا وإن كان قد بطل فعليه أن يبتدئ الوضوء ، وإلا فمن المحال الباطل الذي لا يخيل أن يكون وضوء قد تم ثم ينقض بعضه ولا ينقض بعضه ، هذا أمر لا يوجبه نص ولا قياس ولا رأي يصح . فبطلت هذه الأقوال كلها ولم يبق إلا قولنا أو قول الأوزاعي . فنظرنا في ذلك فوجدنا البرهان قد صح بنص السنة والقرآن على أن من توضأ ومسح على عمامته وخفيه فإنه قد تم وضوءه وارتفع حدثه وجازت له الصلاة . وأجمع هؤلاء المخالفون لنا على ذلك فيمن مسح رأسه وخفيه ثم إنه لما خلع خفيه وعمامته وحلق رأسه أو تقصص وقطع أظفاره : قال قوم : قد انتقض وضوءه ، وقال آخرون لم ينتقض وضوءه فنظرنا في ذلك فوجدنا الحلق وقص الشعر وقص الأظفار وخلع الخفين والعمامة ليس شيء منه حدثا ، والطهارة لا ينقضها إلا الأحداث ، أو نص وارد بانتقاضها وأنه لم يكن حدث ولا نص ههنا على انتقاض طهارته ولا على انتقاض بعضها فبطل هذا القول ، وصح القول بأنه على طهارته ، وأنه يصلي ما لم يحدث ، ولا يلزمه مسح رأسه ولا أظفاره ولا غسل رجليه ولا إعادة وضوئه ، وكان من أوجب الوضوء من ذلك كمن أوجبه من المشي أو من الكلام أو من خلع قميصه ولا فرق . وبالله التوفيق .


220 - مسألة : ومن تعمد لباس الخفين على طهارة ليمسح عليهما أو خضب رجليه أو حمل عليهما دواء ثم لبسهما ليمسح على ذلك . أو خضب رأسه أو حمل عليه دواء ثم لبس العمامة أو الخمار ليمسح على ذلك ، فقد أحسن . وذلك لأنه قد جاء النص بإباحة المسح على كل ذلك مطلقا . ولم يحظر عليه شيئا من هذا كله نص : { وما كان ربك نسيا } وبلغنا عن بعض المتقدمين أنه قال : من توضأ ثم لبس خفيه ليبيت فيها ليمسح عليهما فلا يجوز له المسح . وهذا خطأ لأنه دعوى بلا برهان وتخصيص للسنة بلا دليل . وكل قول لم يصححه النص فهو باطل . وبالله تعالى التوفيق .

221 - مسألة : ومن مسح في الحضر ثم سافر - قبل انقضاء اليوم والليلة أو بعد انقضائهما - مسح أيضا حتى يتم لمسحه في كل ما مسح في حضره وسفره معا ثلاثة أيام بلياليها . ثم لا يحل له المسح ، فإن مسح في سفر ثم أقام أو دخل موضعه ابتدأ مسح يوم وليلة إن كان قد مسح في السفر يومين وليلتين فأقل ، ثم لا يحل له المسح ، فإن كان مسح في سفره أقل من ثلاثة أيام بلياليها وأكثر من يومين وليلتين مسح باقي اليوم الثالث وليلته فقط ، ثم لا يحل له المسح ، فإن كان قد أتم في السفر مسح ثلاثة أيام بلياليها خلع ولا بد ، ولا يحل له المسح حتى يغسل رجليه . برهان ذلك ما قد ذكرناه من أن رسول الله لم يبح المسح إلا ثلاثة أيام للمسافر بلياليها ويوما وليلة للمقيم ، فصح يقينا أنه لم يبح لأحد أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام بلياليها ، لا مقيما ولا مسافرا ، وإنما نهى عن ابتداء المسح - لا عن الصلاة بالمسح المتقدم - فوجب ما قلنا ، فلو مسح في الحضر يوما وليلة ثم سافر ثم رجع قبل أن يتم يوما وليلة في السفر أو بعد أن أتمهما لم يجز له المسح أصلا ، لأنه لو مسح لكان قد مسح وهو في الحضر أكثر من يوم وليلة ، وهذا لا يحل ألبتة . وقال أبو حنيفة وسفيان : من مسح وهو مقيم فإن كان لم يتم يوما وليلة حتى سافر مسح حتى يتم ثلاثة أيام بلياليها من حين أحدث وهو مقيم ، فإن كان قد أتم يوما وليلة في حضره ثم سافر لم يجز له المسح ، ولا بد له من غسل رجليه . قال : فإن سافر فمسح يوما وليلة فأكثر ثم قدم أو أقام لم يجز له المسح حتى يغسل رجليه فلو مسح في سفره أقل من يوم وليلة ثم قدم أو أقام كان له أن يمسح تمام ذلك اليوم والليلة فقط ، وليس له أن يستأنف مسح يوم وليلة . وقال الشافعي : من مسح في الحضر ثم سافر ، فإن كان قد أتم اليوم والليلة خلع ولا بد ، وإن كان لم يتم يوما وليلة مسح باقي ذلك اليوم فقط ثم يخلع . وكذلك لو مسح في السفر ثم قدم سواء سواء ، إن كان مسح في سفره يوما وليلة وقدم أو أقام فإنه يخلع ولا بد ، وإن كان مسح أقل من يوم وليلة في سفره أتم باقي ذلك اليوم والليلة بالمسح فقط . واختلف أصحابنا ، فقال بعضهم كما قلنا ، وقال بعضهم : إذا مسح في سفره أقل من ثلاثة أيام بلياليها ، أو ثلاثة أيام بلياليها لا أكثر وقدم استأنف مسح يوم وليلة فإن لم يزد على ذلك حتى سافر استأنف ثلاثة أيام بلياليها ، واحتج هؤلاء بظاهر لفظ الخبر في ذلك . قال علي : وظاهر لفظه يوجب صحة قولنا ، لأن الناس قسمان : مقيم ومسافر ، ولم يبح عليه السلام للمسافر إلا ثلاثا ، ولا أباح للمقيم إلا بعض الثلاث فلم يبح لأحد - لا مقيم ولا مسافر - أكثر من ثلاث ، ومن خرج إلى سفر تقصر في مثله الصلاة مسح مسح مسافر ، ثلاثا بلياليهن ، ومن خرج دون ذلك مسح مسح مقيم ؛ لأن حكم هذا البروز حكم الحضر وبالله تعالى التوفيق .

222 - مسألة : والمسح على الخفين وما لبس على الرجلين إنما هو على ظاهرهما فقط ، ولا يصح معنى لمسح باطنهما الأسفل تحت القدم ، ولا لاستيعاب ظاهرهما ، وما مسح من ظاهرهما بأصبع أو أكثر أجزأ . برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث ثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير عن { علي قال : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله يمسح على ظاهر الخفين } . وبه يقول أبو حنيفة وسفيان الثوري وداود ، وهو قول علي بن أبي طالب كما ذكرنا وقيس بن سعد . كما روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري ثنا أبو إسحاق هو السبيعي عن يزيد بن أبي العلاء قال : رأيت قيس بن سعد بال ثم أتى رحله فتوضأ ومسح على خفيه على أعلاهما حتى رأيت أثر أصابعه على خفيه . وروينا عن معمر بن أيوب السختياني قال : رأيت الحسن بال ثم توضأ ثم مسح على خفيه على ظاهرهما مسحة واحدة ، فرأيت أثر أصابعه على الخفين . وروينا عن ابن جريج قلت لعطاء : أمسح على بطون الخفين ؟ قال لا إلا بظهورهما . قال علي : والمسح لا يقتضي الاستيعاب ، فما وقع عليه اسم مسح فقد أدى فرضه إلا أن أبا حنيفة قال : لا يجزئ المسح على الخفين إلا بثلاثة أصابع لا بأقل ، وقال سفيان وزفر والشافعي وداود : إن مسح بأصبع واحدة أجزأه ، قال زفر : إذا مسح على أكثر الخفين . قال أبو محمد : تحديد الثلاث أصابع وأكثر الخفين كلام فاسد وشرع في الدين بارد لم يأذن به الله تعالى . واحتج بعضهم بأنهم قد اتفقوا على أنه إن مسح بثلاث أصابع أجزأه ، وإن مسح بأقل فقد اختلفوا . قال علي : وهذا يهدم عليهم أكثر مذاهبهم ، ويقال لهم مثل هذا في فور الوضوء وفي الاستنشاق والاستنثار وفي الوضوء بالنبيذ وغير ذلك ، فكيف ولا تحل مراعاة إجماع إذا وجد النص يشهد لقول بعض العلماء ، وقد جاء النص بالمسح دون تحديد ثلاثة أصابع أو أقل { وما كان ربك نسيا } بل هذا الذي قالوا هو إيجاب الفرائض بالدعوى المختلف فيها بلا نص ، وهذا الباطل المجمع على أنه باطل . ويعارضون بأن يقال لهم : قد صح إجماعهم على وجوب المسح بأصبع واحدة واختلفوا في وجوب المسح بما زاد ، فلا يجب ما اختلف فيه ، وإنما الواجب ما اتفق عليه ، وهذا أصح في الاستدلال إذا لم يوجد لفظ مروي . وقال الشافعي : يستحب مسح ظاهر الخفين وباطنهما ، فإن اقتصر على ظاهرهما دون الباطن أجزأه ، وإن اقتصر على الباطن دون الظاهر لم يجزه . قال علي : وهذا لا معنى له ، لأنه إذا كان مسح الأسفل ليس فرضا ولا جاء ندب إليه : فلا معنى له . وقال مالك : يمسح ظاهرهما وباطنهما ، قال ابن القاسم صاحبه : إن مسح الظاهر دون الباطن أعاد في الوقت ، وإن مسح الباطن دون الظاهر أعاد أبدا . وقد روينا مسح ظاهر الخفين وباطنهما عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر وعن معمر عن الزهري . قال علي : الإعادة في الوقت على أصول هؤلاء القوم لا معنى لها ، لأنه إن كان أدى فرض طهارته وصلاته فلا معنى للإعادة ، وإن كان لم يؤدهما فيلزمه عندهم أن يصلي أبدا . واحتج من رأي مسح باطن الخفين مع ظاهرهما بحديث رويناه من طريق الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة { أن رسول الله مسح أعلى الخفين وأسفلهما } وحديث آخر رويناه عن بن وهب عن سليمان بن يزيد الكعبي عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن ابن شهاب عن المغيرة بن شعبة { أنه رأى رسول الله يمسح أعلى الخفين وأسفلهما } وآخر رويناه من طريق بن وهب : حدثني رجل عن رجل من أعين عن أشياخ لهم عن أبي أمامة الباهلي وعبادة بن الصامت { أنهم رأوا رسول الله يمسح أعلى الخفين وأسفلهما . } قال علي : هذا كله لا شيء ، أما حديث أبي أمامة وعبادة فأسقط من أن يخفى على ذي لب ؛ لأنه عمن لا يسمى عمن لا يدرى من هو عمن لا يعرف ، وهذا فضيحة . وأما حديثا المغيرة فأحدهما عن ابن شهاب عن المغيرة ، ولم يولد ابن شهاب إلا بعد موت المغيرة بدهر طويل ، والثاني مدلس أخطأ فيه الوليد بن مسلم في موضعين ، وهذا خبر حدثناه حمام قال ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي قال : قال عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن المبارك عن ثور بن يزيد قال : حدثت عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة { أن رسول الله مسح أعلى الخفين وأسفلهما } فصح أن ثورا لم يسمعه من رجاء بن حيوة ، وأنه مرسل لم يذكر فيه المغيرة ، وعلة ثالثة وهي أنه لم يسم فيه كاتب المغيرة ، فسقط كل ما في هذا الباب ، وبالله تعالى التوفيق .

223 - مسألة : ومن لبس على رجليه شيئا مما يجوز المسح عليه على غير طهارة ثم أحدث ، فلما أراد الوضوء وتوضأ ولم يبق له غير رجليه فجاءه خوف شديد لم يدرك معه غسل رجليه بعد نزع خفيه ، فإنه ينهض ولا يمسح عليهما ، ويصلي كما هو ، وصلاته تامة ، فإذا أمكنه نزع خفيه ووجد الماء بعد تمام صلاته فقد قال قوم : يلزمه نزعهما وغسل رجليه فرضا ولا يعيد ما صلى ، فإن قدر على ذلك قبل أن يسلم بطلت صلاته ونزع ما على رجليه وغسلهما وابتدأ الصلاة ، وقال آخرون : قد تم وضوءه ويصلي بذلك الوضوء ما لم ينتقض بحدث لا بوجود الماء ، وهذا أصح . برهان ذلك قول رسول الله - وقد ذكرناه بإسناده فيما مضى من كتابنا هذا { إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم } وقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فلما عجز هذا عن غسل رجليه سقط حكمهما ، وبقي عليه ما قدر عليه من وضوء سائر أعضائه ، وإذا كان كذلك فقد توضأ كما أمره الله عز وجل ، ومن توضأ كما أمر الله فصلاته تامة . وأما من قال : إنه إذا قدر على الماء لزمه إتمام وضوئه فرضا وقد تمت صلاته ، فلو قدر على ذلك في صلاته فقد لزمه فرضا أن لا يتم ما بقي من صلاته إلا بوضوء تام ، والصلاة لا يحل أن يفرق بين أعمالها بما ليس منها ، فقول غير صحيح ودعوى بلا برهان ، بل قد قام البرهان من النص من القرآن والسنة على أنه قد توضأ كما أمر ، وقد تمت طهارته وأن له أن يصلي ، فمن الباطل أن يعود عليه حكم الحدث من غير أن يحدث ، إلا أن يوجب ذلك نص فيوقف عنده ، ولا نص في هذه المسألة يوجب عليه إعادة الوضوء ، فلا يلزمه إعادته ولا غسل رجليه ، لأنه على طهارة تامة ، لكن يصلي بذلك الوضوء ما لم يحدث لما ذكرناه . فإن قيل : قسنا ذلك على التيمم . قلنا : القياس باطل كله ، ومن أين لكم إذا وجب ذلك في التيمم أن يجب في العاجز عن بعض أعضائه ؟ فليس بأيديكم غير دعواكم أن هذا وجب في العاجز كما وجب في التيمم ، وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ، ومن أراد أن يعطي بدعواه فقد أراد الباطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا ، لأنهم موافقون لنا على أن العاجز عن بعض أعضائه - كمن ذهبت رجلاه أو نحو ذلك - لا يجوز له التيمم ، وأن حكمه إنما هو غسل ما بقي من وجهه وذراعيه ومسح رأسه فقط ، وأن وضوءه بذلك تام وصلاته جائزة ، فلما لم يجعلوا له أن يتيمم لم يجز أن يجعل له حكم التيمم ، وهذا أصح من قياسهم . والحمد لله رب العالمين .

محلى ابن حزم - المجلد الأول/كتاب الطهارة
كتاب الطهارة (مسألة 110 - 120) | كتاب الطهارة (مسألة121 - 125) | كتاب الطهارة (مسألة 126 - 130) | كتاب الطهارة (مسألة 131 - 135) | كتاب الطهارة (مسألة 136) | كتاب الطهارة يتبع (مسألة 136) | كتاب الطهارة (مسألة 137 - 140) | كتاب الطهارة (مسألة 141 - 147) | كتاب الطهارة (مسألة 148 - 157) | كتاب الطهارة (مسألة 158 - 163) | كتاب الطهارة (مسألة 164 - 168) | كتاب الطهارة (مسألة 169) | كتاب الطهارة (مسألة 170 - 178) | كتاب الطهارة (مسألة 179 - 187) | كتاب الطهارة (مسألة 188 - 193) | كتاب الطهارة (مسألة 194 - 199) | كتاب الطهارة (مسألة 200 - 206) | كتاب الطهارة (مسألة 207 - 211) | كتاب الطهارة (مسألة 212 - 215) | كتاب الطهارة (مسألة 216 - 223) | كتاب الطهارة (مسألة 224 - 235) | كتاب الطهارة (مسألة 236 - 245) | كتاب الطهارة (مسألة 246 - 249) | كتاب الطهارة (مسألة 250 - 253) | كتاب الطهارة (مسألة 254 - 256) | كتاب الطهارة (مسألة 257 - 262) | كتاب الطهارة (مسألة 263 - 266) | كتاب الطهارة (مسألة 267 - 269) | كتاب الطهارة (مسألة 270 - 274)