محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة السابعة والعشرون


كتاب الطهارة

كتاب التـــيمم

224 - مسألة : لا يتيمم من المرضى إلا من لا يجد الماء ، أو من عليه مشقة وحرج في الوضوء بالماء أو في الغسل به أو المسافر الذي لا يجد الماء الذي يقدر على الوضوء به أو الغسل به برهان ذلك قول الله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } فهذا نص ما قلناه وإسقاط الحرج ، وقال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فالحرج والعسر ساقطان - ولله تعالى الحمد - سواء زادت علته أو لم تزد ، وكذلك إن خشي زيادة علته فهو أيضا عسر وحرج . وقال عطاء والحسن : المريض لا يتيمم أصلا ما دام يجد الماء ، ولا يجزيه إلا الغسل والوضوء ، المجدور وغير المجدور سواء .

225 - مسألة : وسواء كان السفر قريبا أو بعيدا ، سفر طاعة كان أو سفر معصية أو مباحا ، هذا مما لا نعلم فيه خلافا ، إلا أن بعض العلماء ذكر قولا لم ينسبه إلى أحد ، وهو أن التيمم لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة . قال علي : ولقد كان يلزم من حد في قصر الصلاة والفطر سفرا دون سفر ، في بعض المسافات دون بعض ، وفي بعض الأسفار دون بعض ، وفرق بين سفر الطاعة والمعصية في ذلك : أن يفعل ذلك في التيمم ، ولكن هذا مما تناقضوا فيه أقبح تناقض ، فإن ادعوا ههنا إجماعا لزمهم ، إذ هم أصحاب قياس بزعمهم أن يقيسوا ما اختلف فيه من صفة السفر في القصر والفطر والمسح على ما اتفق عليه من صفة السفر في التيمم ، وإلا فقد تركوا القياس ، وخالفوا القرآن والسنن وبالله التوفيق .

226 - مسألة : والمرض هو كل ما أحال الإنسان عن القوة والتصرف ، هذا حكم اللغة التي بها نزل القرآن ، وبالله تعالى التوفيق .


227 - مسألة : قال علي : ويتيمم من كان في الحضر صحيحا إذا كان لا يقدر على الماء إلا بعد خروج وقت الصلاة ، ولو أنه على شفير البئر والدلو في يده أو على شفير النهر والساقية والعين ، إلا أنه يوقن أنه لا يتم وضوءه أو غسله حتى يطلع أول قرن الشمس ، وكذلك المسجون والخائف . برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال : قال رسول الله { فضلنا على الناس بثلاث } ، فذكر فيها : { وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } . وبه إلى مسلم : حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا إسماعيل - هو ابن جعفر - عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي قال : { فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الناس كافة ، وختم بي النبيون . } فهذا عموم دخل فيه الحاضر والبادي . فإن قيل : فإن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } وقال رسول الله { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } فلم يبح عز وجل للجنب أن يقرب الصلاة حتى يغتسل أو يتوضأ إلا مسافرا . قلنا : نعم ، قال الله تعالى هذا ، وقال رسول الله ما ذكرتم ، وقال تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } فكانت هذه الآية زائدة حكما وواردة بشرع ليس في الآية التي ذكرتم بل فيها إباحة أن يقرب الصلاة الجنب دون أن يغتسل ، وهو غير عابر سبيل ، لكن إذا كان مريضا لا يجد الماء أو عليه حرج ، وكانت هذه الآية أيضا زائدة حكما على الخبر الذي لفظه { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } ثم جاء الخبران اللذان ذكرنا بزيادة وعموم على الآيتين والخبر المذكور ، فدخل في هذين الخبرين الصحيح المقيم إذا لم يجد الماء ، وكلام الله تعالى وكلام رسوله فرض جمع بعضه إلى بعض وكله من عند الله تعالى . وقولنا هذا هو قول مالك وسفيان والليث : وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يتيمم الحاضر ، لكن إن لم يقدر على الماء إلا حتى يفوت الوقت تيمم وصلى ، ثم أعاد ولا بد إذا وجد الماء ، وقال زفر : لا يتيمم الصحيح في الحضر ألبتة وإن خرج الوقت ، لكن يصبر حتى يخرج الوقت ويجد الماء فيصلي حينئذ . قال علي : أما قول أبي حنيفة والشافعي فظاهر الفساد ، لأنه لا يخلو أمرهما له بالتيمم والصلاة من أن يكونا أمراه بصلاة هي فرض الله تعالى عليه أو بصلاة لم يفرضها الله تعالى عليه ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ، فإن قال مقلدهما أمراه بصلاة : هي فرض عليه ، قلنا فلم يعيدها بعد الوقت إن كان قد أدى فرضه ؟ وإن قالوا : بل أمراه بصلاة ليست فرضا عليه ، أقرا بأنهما ألزماه ما لا يلزمه ، وهذا خطأ ، وأما قول زفر فخطأ ، لأنه أسقط فرض الله تعالى في الصلاة في الوقت الذي أمر الله تعالى بأدائها فيه ، وألزمه إياها في الوقت الذي حرم الله تعالى تأخيرها إليه . قال أبو محمد : والصلاة فرض معلق بوقت محدود ، والتأكيد فيها أعظم من أن يجهله مسلم ، وقد قال رسول الله { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فوجدنا هذا الذي حضرته الصلاة هو مأمور بالوضوء وبالغسل إن كان جنبا وبالصلاة ، فإذا عجز عن الغسل والوضوء سقطا عنه ، وقد نص عليه السلام على أن الأرض طهور إذا لم يجد الماء وهو غير قادر عليه ، فهو غير باق عليه ، وهو قادر على الصلاة فهي باقية عليه ، وهذا بين والحمد لله رب العالمين .


228 - مسألة : والسفر الذي يتيمم فيه هو الذي يسمى عند العرب سفرا سواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو مما لا تقصر فيه الصلاة ، وما كان دون ذلك - مما لا يقع عليه اسم السفر من البروز عن المنازل - فهو في حكم الحاضر ، فأما المسافر سفرا يقع عليه اسم سفر والمريض الذي له التيمم فالأفضل لهما أن يتيمما في أول الوقت ، سواء رجوا الماء أو أيقنا بوجوده قبل خروج الوقت ، أو أيقنا أنه لا يوجد حتى يخرج الوقت ، وكذلك رجاء الصحة ولا فرق ، وأما الحاضر الصحيح ومن له حكم الحاضر فلا يحل له التيمم إلا حتى يوقن بخروج الوقت قبل إمكان الماء . برهان ذلك أن النص ورد في المسافر الذي لا يجد الماء ، وفي المريض كذلك وفي المريض ذي الحرج ، وكان البدار إلى الصلاة أفضل ، لقول الله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } وأما الحاضر فلا خلاف من أحد في أنه ما دام يرجو بوجود الماء قبل خروج الوقت فإنه لا يحل له التيمم ، وما أبيح له التيمم عند تيقن خروج الوقت إلا باختلاف ، ولولا النص ما حل له . وقال أبو حنيفة في المشهور عنه : لا يتيمم المسافر إلا في آخر وقت الصلاة ، إلا أنه قد روي عنه أن هذا إنما هو ما دام يطمع في الماء فإن لم يرج به فليتيمم في أول الوقت . وقال سفيان : يؤخر المسافر التيمم إلى آخر الوقت لعله يجد الماء ، وهو قول أحمد بن حنبل . وروي أيضا عن علي وعطاء ، وقال مالك مرة : لا يعجل ولا يؤخر ، ولكن في وسط الوقت . وقال مرة : إن أيقن بوجود الماء قبل خروج وقت الصلاة فإنه يؤخر التيمم إلى آخر الوقت ، فإن وجد الماء وإلا تيمم وصلى ، وإن كان طامعا في وجود الماء قبل خروج الوقت أخر التيمم إلى وسط الوقت ، فيتيمم في وسطه ويصلي ، وإن كان موقنا أنه لا يجد الماء حتى يخرج الوقت فيتيمم في أول الوقت ويصلي . وقال الأوزاعي : كل ذلك سواء . قال علي : التعلق بتأخير التيمم لعله يجد الماء لا معنى له ؛ لأنه لا نص ولا إجماع على أن عمل المتوضئ أفضل من عمل المتيمم ، ولا على أن صلاة المتوضئ أفضل ولا أتم من صلاة المتيمم ، وكلا الأمرين طهارة تامة وصلاة تامة ، وفرض في حالة فإذ كان ذلك كذلك فتأخير الصلاة رجاء وجود الماء ترك للفضل في البدار إلى أفضل الأعمال بلا معنى ، وقد جاء مثل هذا عن رسول الله وعن ابن عمر وغيره . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج قال : سمعت عميرا مولى ابن عباس قال : أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري . قال { أقبل رسول الله من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام } . وروينا عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع : أن ابن عمر تيمم ثم صلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد . وعن مالك عن نافع : أنه أقبل مع ابن عمر من الجرف ، فلما أتى المربد لم يجد ماء ، فنزل فتيمم بالصعيد وصلى ثم لم يعد تلك الصلاة . قال علي : وهو قول داود وأصحابنا . وقال محمد بن الحسن : أما المسافر فإن كان الماء منه على أقل من ميل طلبه وإن خرج الوقت ، فإن كان على ميل لم يلزمه طلبه وتيمم . قال : وأما من خرج من مصره غير مسافر ، فإن كان بحيث لا يسمع حس الناس وأصواتهم تيمم . قال علي : وهذه أقوال نحمد الله على السلامة منها ومن مثلها


229 - مسألة : ومن كان الماء منه قريبا إلا أنه يخاف ضياع رحله أو فوت الرفقة أو حال بينه وبين الماء عدو ظالم أو نار أو أي خوف كان في القصد إليه مشقة ففرضه التيمم . برهان ذلك قول الله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } وكل هؤلاء لا يجدون ماء يقدرون على الطهارة به . 230 - مسألة : فإن طلب بحق فلا عذر له في ذلك ولا يجزيه التيمم ، لأن فرضا عليه أن لا يمتنع من كل حق قبله لله تعالى أو لعباده ، فإن امتنع فهو عاص ، قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وأمر رسول الله أن يعطى كل ذي حق حقه ، وبالله تعالى التوفيق .

231 - مسألة : فلو كان على بئر يراها ويعرفها في سفر وخاف فوات أصحابه أو فوت صلاة الجماعة أو خروج الوقت : تيمم وأجزأه ، لكن يتوضأ لما يستأنف لأن كل هذا عذر مانع من استعماله الماء ، فهو غير واجد الماء يمكنه استعماله بلا حرج .

232 - مسألة : ومن كان الماء في رحله فنسيه أو كان بقربه بئر أو عين لا يدري بها فتيمم وصلى أجزأه ، لأن هذين غير واجدين للماء ، ومن لم يجد الماء تيمم بنص كلام الله تعالى ، وهذا قول أبي حنيفة وداود . وقال مالك : يعيد في الوقت ولا يعيد إن خرج الوقت . وقال أبو يوسف والشافعي : يعيد أبدا . وقال أبو يوسف إن كانت البئر منه على رمية سهم أو نحوها وهو لا يعلم بها أجزأه التيمم ، فإن كان على شفيرها أو بقربها وهو لا يعلم بها لم يجزه التيمم .

233 - مسألة : وكل حدث ينقض الوضوء فإنه ينقض التيمم ، هذا ما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإسلام .

234 - مسألة : وينقض التيمم أيضا وجود الماء ، سواء وجده في صلاة أو بعد أن صلى أو قبل أن يصلي ، فإن صلاته التي هو فيها تنتقض لانتقاض طهارته ويتوضأ أو يغتسل ، ثم يبتدئ الصلاة ، ولا قضاء عليه فيما قد صلى بالتيمم . ولو وجد الماء إثر سلامه منها ، الخلاف في هذا في ثلاث مواضع : أحدها خلاف قديم في أن الماء إذا وجد لم يكن على المتيمم الوضوء به ولا الغسل ما لم يحدث منه ما يوجب الغسل أو الوضوء . وروينا ذلك عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : إذا كنت جنبا في سفر فتمسح ثم إذا وجدت الماء فلا تغتسل من جنابة إن شئت ، قال عبد الحميد : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال : ما يدريه ؟ إذا وجدت الماء فاغتسل . وبإحداث الغسل والوضوء يقول جمهور المتأخرين . وكان من حجة من لا يرى تجديد الوضوء والغسل أن قال : التيمم طهارة صحيحة فإذ ذلك كذلك فلا ينقضها إلا ما ينقض الطهارات ، وليس وجود الماء حدثا ، فوجود الماء لا ينقض طهارة التيمم . قال علي : وكان هذا قولا صحيحا لولا ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله قال ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد - هو القطان - ثنا عوف - هو ابن أبي جميلة - ثنا أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال { كنا مع رسول الله في سفر فذكر الحديث وفيه أن رسول الله صلى بالناس ، فلما انفتل رسول الله من صلاته إذ هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، فقال : ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟ قال : أصابتني جنابة ولا ماء ، قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك } ثم ذكر في حديثه ذلك أمر الماء الذي أحدثه الله تعالى آية لنبيه عليه السلام قال : " وكان آخر ذلك أن { أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء ، وقال : اذهب فأفرغه عليك } . حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري ببغداد ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي ثنا إسماعيل بن مسلم ثنا أبو رجاء العطاردي عن { عمران بن الحصين قال كنت مع رسول الله وفي القوم جنب ، فأمره رسول الله فتيمم وصلى ، ثم وجدنا الماء بعد ، فأمره رسول الله أن يغتسل ولا يعيد الصلاة } وقد ذكرنا حديث حذيفة عن رسول الله { وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } . فصح بهذه الأحاديث أن الطهور بالتراب إنما هو ما لم يوجد الماء ، وهذا لفظ يقتضي أن لا يجوز التطهر بالتراب إلا إذا لم يوجد الماء ، ويقتضي أن لا يصح طهور بالتراب إلا أن لا نجد الماء إلا لمن أباح له ذلك نص آخر ، وإذا كان هذا فلا يجوز أن يخص بالقبول أحد المعنيين دون الآخر ، بل فرض العمل بهما معا ، وصحح هذا أيضا أمره عليه السلام المجنب بالتيمم بالصعيد والصلاة ، ثم أمره عند وجود الماء بالغسل ، فصح ما قلناه نصا والحمد لله . والموضع الثاني : إن وجد الماء بعد الصلاة أيعيدها أم لا ؟ فقال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والشعبي والحسن وأبو سلمة بن عبد الرحمن : إنه يعيد ما دام في الوقت . رويناه من طريق معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن أبي سلمة ، وعن طريق حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن ، ومن طريق الحجاج بن المنهال عن سفيان الثوري عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن سعيد بن المسيب ، ومن طريق وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي ، ومن طريق سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن عطاء ، ومن طريق الحسن بن صالح عن العلاء بن المسيب عن طاوس . وقال مالك : المسافر والمريض والخائف يتيممون في وسط الوقت ، فإن تيمموا وصلوا ثم وجدوا الماء في الوقت فإن المسافر لا يعيد ، وأما المريض والخائف فيعيدان الصلاة . قال علي : أما قول مالك فظاهر الخطأ في تفريقه بين المريض والخائف وبين المسافر ، لأن المريض الذي لا يجد الماء مأمور بالتيمم والصلاة ، كما أمر به المسافر في آية واحدة ولا فرق . وأما المريض والخائف المباح لهما التيمم لرفع الحرج والعسر فكذلك أيضا ، وكل من ذكرنا ، فلم يأت بالفرق بين أحد منهم في ذلك قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي له وجه ، نعم ، ولا نعلم أحدا قال قبل مالك ، فسقط هذا القول جملة ولم يبق إلا قول من قال : يعيد الكل ، وقول من قال لا يعيد فنظرنا ، فوجدنا كل من ذكرنا مأمورا بالتيمم بنص القرآن ، فلما صلوا كانوا لا يخلون من أحد وجهين : إما أن يكونوا صلوا كما أمروا أو لم يصلوا كما أمروا . فإن قالوا لم يصلوا كما أمروا قلنا لهم : فهم إذا منهيون عن التيمم والصلاة ابتداء لا بد من هذه وهذا لا يقوله أحد ، ولو قاله لكان مخطئا مخالفا للقرآن والسنن والإجماع ، فإذ قد سقط هذا القسم بيقين فلم يبق إلا القسم الثاني ، وهو أنهم قد صلوا كما أمروا ، فإذ قد صلوا كما أمروا فلا تحل لهم إعادة صلاة واحدة في يوم مرتين ، لنهي رسول الله . حدثنا بذلك عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا أبو كامل ثنا يزيد - يعني ابن زريع - ثنا حسين - هو المعلم عن عمرو بن شعيب عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال : { أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون فقال : إني سمعت رسول الله يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين } فسقط الأمر بالإعادة جملة . والحمد لله رب العالمين . والثالث من رأى الماء وهو في الصلاة ، فإن مالكا والشافعي وأحمد بن حنبل وأبا ثور وداود . قالوا : إن رأى الماء وهو في الصلاة فليتماد على صلاته ولا يعيدها ولا تنتقض طهارته بذلك ، وإن رآه بعد الصلاة فليتوضأ وليغتسل ولا بد ، لا تجزيه صلاة مستأنفة إلا بذلك . وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري والأوزاعي : سواء وجد الماء في الصلاة أو بعد الصلاة يقطع الصلاة ولا بد ، ويتوضأ أو يغتسل ويبتديها ، وأما إن رآه بعد الصلاة فقد تمت صلاته تلك ، ولا بد له من الطهارة بالماء لما يستأنف لا تجزيه صلاة يستأنفها إلا بذلك . قال علي : فلما اختلفوا نظرنا في ذلك ، فوجدنا حجة من فرق بين وجود الماء في الصلاة ووجوده بعد الصلاة - إن قالوا قد دخل في الصلاة كما أمر ، فلا يجوز له أن ينقضها إلا بنص أو إجماع . قال أبو محمد : لا نعلم لهم حجة غير هذه ، ولا متعلق لهم بها ، لأنه - وإن كان قد دخل في الصلاة كما أمره الله تعالى - فلا يخلو وجود الماء من أن يكون ينقض الطهارة ويعيده في حكم المحدث أو المجنب ، أو يكون لا ينقض الطهارة ولا يعيده في حكم المجنب أو المحدث . فإن قالوا لا ينقض الطهارة ولا يعيده مجنبا ولا محدثا ، فهذا جواب أبي سليمان وأصحابنا ، قلنا فلا عليكم ، أنتم مقرون بأنه مع ذلك مفترض عليه الغسل أو الوضوء متى وجد الماء بلا خلاف منكم ، فمن قولهم نعم ، فقلنا لهم : فهو مأمور بذلك في حين وجوده في الصلاة وغير الصلاة بنص مذهبنا ومذهبكم في البدار إلى ما أمرنا به فإن قالوا : ليس مأمورا بذلك في الصلاة لشغله بها ، قلنا : هذا فرق لا دليل عليه ، ودعوى بلا برهان ، فإذ هو مأمور بذلك في الصلاة وغير الصلاة فقد صح إذ هو مأمور بذلك في الصلاة أن أمركم بالتمادي على ترك استعمال الماء خطأ ؛ لأنه على أصلكم لا تنتقض بذلك صلاته ، فكان اللازم على أصولكم أن يستعمل الماء ويبني على ما مضى من صلاته كما تقولون في المحدث ولا فرق ، وهم لا يقولون هذا فسقط قولهم . وأما المالكيون والشافعيون فجوابهم أن وجود الماء ينقض الطهارة ويعيد التيمم مجنبا ومحدثا في غير الصلاة ، ولا ينقض الطهارة في الصلاة . قال علي : فكان هذا قولا ظاهر الفساد ودعوى عارية عن الدليل ، وما جاء قط في قرآن ولا سنة ولا في قياس ولا في رأي له وجه أن شيئا يكون حدثا في غير الصلاة ولا يكون حدثا في الصلاة والدعوى لا يعجز عنها أحد ، وهي باطل ما لم يصححها برهان من قرآن أو سنة ، لا سيما قولهم : إن وجود المصلي الماء في حال صلاته لا ينقض صلاته ، فإذا سلم انتقضت طهارته بالوجود الذي كان في الصلاة ، وإن لم يتماد ذلك الوجود إلى بعد الصلاة ، فهذا أطرف ما يكون شيء ينقض الطهارة إذا عدم ولا ينقضها إذا وجد وهم قد أنكروا هذا بعينه على أبي حنيفة في قوله : إن القهقهة تنقض الوضوء في الصلاة ولا تنقضها في غير الصلاة . قال علي : فإذ قد ظهر أيضا فساد هذا القول فقد ذكرنا قول رسول الله  : { إن التراب طهور ما لم يوجد الماء } فصح أن لا طهارة تصح بتراب مع وجود الماء إلا لمن أجازه له النص من المريض الذي عليه من استعماله حرج ، فإذ ذلك كذلك فقد صح بطلان طهارة المتيمم إذا وجد الماء في صلاة كان أو في غير صلاة وصح قول سفيان ومن وافقه . إلا أن أبا حنيفة تناقض ههنا في موضعين ، أحدهما أنه يرى لمن أحدث مغلوبا أن يتوضأ ويبني ، وهذا أحدث مغلوبا ، فكان الواجب على أصله أن يأمره بأن يتوضأ ويبني ، والثاني : أنه يرى السلام من الصلاة ليس فرضا : وأن من قعد في آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمت صلاته ، وأنه إن أحدث عامدا أو ناسيا فقد صحت صلاته ولا إعادة عليه ، ثم رأى ههنا أنه وإن قعد في آخر صلاته مقدار التشهد ثم وجد الماء وإن لم يسلم فإن صلاته تلك قد بطلت وكذلك طهارته ، وعليه أن يتطهر ويعيدها أبدا ، وهذا تناقض في غاية القبح والبعد عن النصوص والقياس وسداد الرأي ، وما علمنا هذه التفاريق لأحد قبل أبي حنيفة .

235 - مسألة : والمريض المباح له التيمم مع وجود الماء بخلاف ما ذكرنا ، فإن صحته لا تنقض طهارته . برهان ذلك أن الخبر الذي أتبعنا إنما جاء فيمن لم يجد الماء ، فهو الذي تنتقض طهارته بوجود الماء ، وأما من أمره الله تعالى بالتيمم والصلاة مع وجود الماء فإن وجود الماء قد صح يقينا أنه لا ينقض طهارته ، بل هي صحيحة مع وجود الماء ، فإذ ذاك كذلك فإن الصحة ليست حدثا أصلا ، إذ لم يأت بأنها حدث لا قرآن ولا سنة فإن قالوا : قسنا المريض على المسافر ، قلنا القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه قياس الشيء على ضده ، وهذا باطل عند أصحاب القياس وهو قياس واجد الماء على عادمه ، وقياس مريض على صحيح ، وهم لا يختلفون أن أحكامهما في الصلاة وغيرها تختلف ، وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الأول/كتاب الطهارة
كتاب الطهارة (مسألة 110 - 120) | كتاب الطهارة (مسألة121 - 125) | كتاب الطهارة (مسألة 126 - 130) | كتاب الطهارة (مسألة 131 - 135) | كتاب الطهارة (مسألة 136) | كتاب الطهارة يتبع (مسألة 136) | كتاب الطهارة (مسألة 137 - 140) | كتاب الطهارة (مسألة 141 - 147) | كتاب الطهارة (مسألة 148 - 157) | كتاب الطهارة (مسألة 158 - 163) | كتاب الطهارة (مسألة 164 - 168) | كتاب الطهارة (مسألة 169) | كتاب الطهارة (مسألة 170 - 178) | كتاب الطهارة (مسألة 179 - 187) | كتاب الطهارة (مسألة 188 - 193) | كتاب الطهارة (مسألة 194 - 199) | كتاب الطهارة (مسألة 200 - 206) | كتاب الطهارة (مسألة 207 - 211) | كتاب الطهارة (مسألة 212 - 215) | كتاب الطهارة (مسألة 216 - 223) | كتاب الطهارة (مسألة 224 - 235) | كتاب الطهارة (مسألة 236 - 245) | كتاب الطهارة (مسألة 246 - 249) | كتاب الطهارة (مسألة 250 - 253) | كتاب الطهارة (مسألة 254 - 256) | كتاب الطهارة (مسألة 257 - 262) | كتاب الطهارة (مسألة 263 - 266) | كتاب الطهارة (مسألة 267 - 269) | كتاب الطهارة (مسألة 270 - 274)