محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الثالثة والثلاثون

ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب الحيض والاستحاضة (مسألة 263 - 266)


كتاب الطهارة

كتاب الحيض والاستحاضة

263 - مسألة : ومن وطئ حائضا فقد عصى الله تعالى ، وفرض عليه التوبة والاستغفار ، ولا كفارة عليه في ذلك . وقال ابن عباس : إن أصابها في الدم فيتصدق بدينار ، وإن كان في انقطاع الدم فنصف دينار . وروينا عنه أيضا قال : من وطئ حائضا فعليه عتق رقبة ، وروينا عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في الذي يطأ امرأته وهي حائض : يتصدق بدينار . وروينا عن قتادة : إن كان واجدا فدينار وإن لم يجد فنصف دينار . وقال الأوزاعي ومحمد بن الحسن : يتصدق بدينار ، وقال أحمد بن حنبل : يتصدق بدينار وإن شاء بنصف دينار ، وقال الحسن البصري : يعتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا . فأما من قال : يتصدق بدينار أو نصف دينار فاحتجوا بحديث رويناه من طريق مقسم عن ابن عباس " أن رسول الله قال : { يتصدق بدينار أو بنصف دينار } وفي بعض ألفاظ هذا الخبر { إن كان الدم عبيطا فدينار ، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار } وبحديث رويناه من طريق شريك عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس { عن النبي في الذي يأتي أهله حائضا يتصدق بنصف دينار } وبحديث روي من طريق الأوزاعي عن يزيد بن أبي مالك { عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن رسول الله أمره - يعني الذي يعمد وطء حائض - أن يتصدق بخمسي دينار } وبحديث رويناه من طريق عبد الملك بن حبيب ثنا أصبغ بن الفرج عن السبيعي عن زيد بن عبد الحميد عن أبيه { أن عمر بن الخطاب وطئ جاريته فإذا بها حائض ، فأتى رسول الله فأخبره ، فقال له رسول الله تصدق بنصف دينار } وآخر رويناه من طريق عبد الملك بن حبيب عن المكفوف عن أيوب بن خوط عن قتادة عن ابن عباس عن النبي { فليتصدق بدينار أو بنصف دينار } وبحديث آخر رويناه من طريق موسى بن أيوب عن الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { أن رسول الله أمر رجلا أصاب حائضا بعتق نسمة } . ورويناه أيضا من طريق محمود بن خالد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد السلمي عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي بمثله نصا ، واحتج من أوجب عليه العتق أو الصيام أو الإطعام بقياسه على الوطء نهارا في رمضان . قال أبو محمد : كل هذا لا يصح منه شيء . أما حديث مقسم فمقسم ليس بالقوي فسقط الاحتجاج به ، وأما حديث عكرمة ، فرواه شريك عن خصيف ، وكلاهما ضعيف . وأما حديث الأوزاعي فمرسل ، وأما حديثا عبد الملك بن حبيب فلو لم يكن غيره لكفى به سقوطا ، فكيف وأحدهما عن السبيعي ، ولا يدرى من هو ؟ ومرسل مع ذلك ، والآخر مع المكفوف ، ولا يدرى من هو ؟ عن أيوب بن خوط وهو ساقط . وأما حديثا الوليد بن مسلم فمن طريق موسى بن أيوب وعبد الرحمن بن يزيد وهما ضعيفان ، فسقط جميع الآثار في هذا الباب . وأما قياس الواطئ حائضا على الواطئ في رمضان فالقياس باطل . ولقد كان يلزم الآخذين بالآثار الواهية كحديث حزام في الاستظهار وأحاديث الوضوء بالنبيذ ، وأحاديث الجعل في الأنف ، وحديث الوضوء من القهقهة ، وأحاديث جسرة بنت دجاجة وغيرها في أن لا يدخل المسجد حائض ولا جنب ، وبالأخبار الواهية في أن لا يقرأ القرآن الجنب ، أن يقولوا بهذه الآثار فهي أحسن على علاتها من تلك الصلع الدبرة التي أخذوا بها ههنا ، ولكن هذا يليح اضطرابهم ، وأنهم لا يتعلقون بمرسل ولا مسند ولا قوي ولا ضعيف إلا ما وافق تقليدهم ، ولقد كان يلزم من قاس الأكل في رمضان ، على الواطئ فيه في إيجاب الكفارة أن يقيس واطئ الحائض على الواطئ في رمضان ، لأن كليهما وطئ فرجا حلالا في الأصل حراما بصفة تدور ، وهذا أصح من قياساتهم الفاسدة ، فإن الواطئ أشبه بالواطئ من الآكل بالواطئ . نعم ومن الزيت بالسمن ومن المتغوط بالبائل ، ومن الخنزير بالكلب ومن فرج الزوجة المسلمة بيد السارق الملعون ، وسائر تلك المقاييس الفاسدة ، وبهذا يتبين كل ذي فهم أنهم لا النصوص يلتزمون ، ولا القياس يتبعون ، وإنما هم مقلدون أو مستحسنون ، وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وأما نحن فلو صح شيء من هذه الآثار لأخذنا به ، فإذ لم يصح في إيجاب شيء على واطئ الحائض فماله حرام ، فلا يجوز أن يلزم حكما أكثر مما ألزمه الله من التوبة من المعصية التي عمل ، والاستغفار والتعزير ، لقول رسول الله { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده } وقد ذكرناه بإسناده ، وسنذكر مقدار التعزير في موضعه إن شاء الله عز وجل وبه نتأيد .


264 - مسألة : وكل دم رأته الحامل ما لم تضع آخر ولد في بطنها ، فليس حيضا ولا نفاسا ، ولا يمنع من شيء ، وقد ذكرنا أنه ليس حيضا قبل وبرهانه ، وليس أيضا نفاسا لأنها لم تنفس ولا وضعت حملها بعد ولا حائض ، ولا إجماع بأنه حيض أو نفاس ، وبالله تعالى التوفيق ، فلا يسقط عنها ما قد صح وجوبه من الصلاة والصوم وإباحة الجماع إلا بنص ثابت لا بالدعوى الكاذبة .

265 - مسألة : وإن رأت العجوز المسنة دما أسود فهو حيض مانع من الصلاة والصوم والطواف والوطء . برهان ذلك قول رسول الله الذي ذكرناه قبل بإسناده { إن دم الحيض أسود يعرف وأمر رسول الله إذا رأته بترك الصلاة } وقوله عليه السلام في الحيض { هذا شيء كتبه الله على بنات آدم } فهذا دم أسود وهي من بنات آدم ، ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس حيضا ، كما جاء به النص في الحامل ، فإن ذكروا قول الله عز وجل { : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } قلنا : إنما أخبر الله تعالى عنهن بيأسهن ، ولم يخبر تعالى أن يأسهن حق قاطع لحيضهن ، ولم ننكر يأسهن من الحيض ، لكن قلنا : إن يأسهن من الحيض ، ليس مانعا من أن يحدث الله تعالى لهن حيضا ، ولا أخبر تعالى بأن ذلك لا يكون ، ولا رسوله وقد قال تعالى { : والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا } فأخبر تعالى أنهن يائسات من النكاح ، ولم يكن ذلك مانعا من أن ينكحن بلا خلاف من أحد ، ولا فرق بين ورود الكلامين من الله تعالى في اللائي يئسن من المحيض واللاتي لا يرجون نكاحا ، وكلاهما حكم وارد في اللواتي يظنن هذين الظنين ، وكلاهما لا يمنع مما يئسن منه ، من المحيض والنكاح ، وبقولنا في العجوز يقول الشافعي وبالله تعالى التوفيق .


266 - مسألة : وأقل الحيض دفعة ، فإذا رأت المرأة الدم الأسود من فرجها أمسكت عن الصلاة والصوم وحرم وطؤها على بعلها وسيدها ، فإن رأت أثر الدم الأحمر أو كغسالة اللحم أو الصفرة أو الكدرة أو البياض أو الجفوف التام - فقد طهرت وتغتسل أو تتيمم إن كانت من أهل التيمم ، وتصلي وتصوم ويأتيها بعلها أو سيدها ، وهكذا أبدا متى رأت الدم الأسود فهو حيض ، ومتى رأت غيره فهو طهر ، وتعتد بذلك من الطلاق ، فإن تمادى الأسود فهو حيض إلى تمام سبعة عشر يوما ، فإن زاد ما قل أو كثر فليس حيضا ، ونذكر حكم ذلك بعد هذا إن شاء الله عز وجل . برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النص بأن دم الحيض أسود يعرف ، وما عداه ليس حيضا ، ولم يخص عليه السلام لذلك عدد أوقات من عدد ، بل أوجب برؤيته أن لا تصلي ولا تصوم ، وحرم تعالى نكاحهن فيه ، وأمر عليه السلام بالصلاة عند إدباره والصوم ، وأباح تعالى الوطء عند الطهر منه ، فلا يجوز تخصيص وقت دون وقت بذلك ، وما دام يوجد الحيض فله حكمه الذي جعله الله تعالى له ، حتى يأتي نص أو إجماع على أنه ليس حيضا ، ولا نص ولا إجماع في أقل من سبعة عشر يوما ، فما صح الإجماع فيه أنه ليس حيضا وقف عنده ، وانتقلت عن حكم الحائض وما اختلف فيه فمردود إلى النبي وهو عليه السلام جعل للدم الأسود حكم الحيض ، فهو حيض مانع مما ذكرنا ، ولم يأت نص ولا إجماع على أن بعض الطهر المبيح للصلاة والصوم لا يكون قرءا في العدة ، فالمفرق بين ذلك مخطئ متيقن الخطأ ، قائل ما لا قرآن جاء به ولا سنة ، لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا قياس ولا إجماع ، بل القرآن والسنة كلاهما يوجب ما قلنا : من امتناع الصلاة والصوم بالحيض ، ووجودهما بعدم الحيض ، ووجود الطهر وكون الطهر بين الحيضتين قرءا يحتسب به في العدة . قال الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } فمن حد في أيام القرء حدا فهو مبطل ، وقاف ما لا علم له به ، وما لم يأت به نص ولا إجماع . وفي هذا خلاف في ثلاثة مواضع : أحدها أقل مدة الحيض ، والثاني أكثر مدة الحيض ، والثالث الفرق بين العدة في ذلك وبين الصلاة والصوم ، فأما أقل مدة الحيض فإن طائفة قالت : أقل الحيض دفعة تترك لها الصلاة والصوم ويحرم الوطء وأما في العدة فأقله ثلاثة أيام ، وهو قول مالك ، وقد روي عن مالك : أقله في العدة خمسة أيام . وقالت طائفة : أقل الحيض دفعة واحدة في الصلاة والصوم والوطء والعدة ، وهو قول الأوزاعي وأحد قولي الشافعي وداود وأصحابه . وقالت طائفة : أقل الحيض يوم وليلة ، وهو الأشهر من قولي الشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول عطاء وقالت طائفة : أقل الحيض ثلاثة أيام ، فإن انقطع قبل الثلاثة الأيام فهو استحاضة وليس حيضا ولا تترك له صلاة ولا صوم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وسفيان وقالت طائفة : حيض النساء ست أو سبع ، وهو قول لأحمد بن حنبل . قال علي : أما من فرق بين الصلاة والصوم وتحريم الوطء وبين العدة ، فقول ظاهر الخطأ ، ولا نعلم له حجة أصلا ، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من احتياط ولا من رأي له وجه ، فوجب تركه . ثم نظرنا في قول من قال : حيض النساء يدور على ست أو سبع ، فلم نجد لهم حجة إلا أن قالوا : هذا هو المعهود في النساء ، وذكروا حديثا رويناه من طريق ابن جريج عن عبد الله بن محمد عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة { عن أم حبيبة أنها استحيضت فجعل رسول الله أجل حيضتها ستة أيام أو سبعة } . ورويناه أيضا من طريق الحارث بن أبي أسامة عن زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش { أن رسول الله قال لها : تحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله - عز وجل - ثم اغتسلي ، فإذا استنقأت فصلي أربعا وعشرين أو ثلاثا وعشرين وأيامها وصومي كذلك ، وافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن } . وقد أخذ بهذا الحديث أبو عبيد فجعل هذا حكم المبتدأة . قال علي : أما هذان الخبران فلا يصحان ، أما أحدهما فإن ابن جريج لم يسمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل . كذلك حدثناه حمام عن عباس بن أصبغ عن ابن أيمن عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه - وذكر هذا الحديث فقال - قال ابن جريج : حدثت عن ابن عقيل ، ولم يسمعه ، قال أحمد : وقد رواه ابن جريج عن النعمان بن راشد قال أحمد : والنعمان يعرف فيه الضعف . وقد رواه أيضا شريك وزهير بن محمد وكلاهما ضعيف . وعن عمرو بن ثابت وهو ضعيف . وأيضا فعمر بن طلحة غير مخلوق ، لا يعرف لطلحة ابن اسمه عمر . وأما الآخر فمن طريق الحارث بن أبي أسامة ، وقد ترك حديثه فسقط الخبر جملة . وأما قولهم : إن هذا هو المعهود من حيض النساء فلا حجة في هذا ، لأنه لم يوجب مراعاة ذلك قرآن ولا سنة ولا إجماع ، وقد يوجد في النساء من لا تحيض أصلا فلا يجعل لها حكم الحيض ، فبطل حملهن على المعهود ، وقد يوجد من تحيض أقل وأكثر ، فسقط هذا القول . ثم نظرنا في قول من قال : أقل الحيض خمس ، فوجدناه قولا بلا دليل ، وما كان هكذا فهو ساقط . ثم نظرنا في قول من جعل أقل الحيض ثلاثة أيام فوجدناهم يحتجون بقول رسول الله { دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي } رويناه من طريق أبي أمامة : سمعت هشام بن عروة أخبرني أبي عن عائشة أن رسول الله قال ذلك لفاطمة بنت أبي حبيش ، ورويناه أيضا من طريق سهيل بن أبي صالح عن الزهري { عن عروة بن الزبير : حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء ، أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل } . قال أبو محمد : وقالوا : أقل ما يقع عليه اسم أيام فثلاثة ، وبحديث رويناه من طريق جعفر بن محمد بن بريق عن عبد الرحمن بن نافع درخت ثنا أسد بن سعيد البلخي عن محمد بن الحسن الصدفي عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل عن النبي { لا حيض أقل من ثلاث ولا فوق عشر } قالوا : وهو قول أنس بن مالك ، رويناه من طريق الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك ، وروينا أيضا عن عائشة أفتت بذلك بعد موت رسول الله من طريق ابن عقيل عن نهيه وهو قول الحسن . قال علي : أما الخبر الصحيح في هذا من طريق عائشة وفاطمة وأسماء فلا حجة لهم فيه ، لأن رسول الله أمر بذلك من كانت لها أيام معهودة ، هذا نص ذلك الخبر الذي لا يحل أن يحال عنه ولم يأمر عليه السلام بذلك من لا أيام لها . برهان ذلك أن الناس والجم الغفير يحيى بن سعيد القطان وزهير بن معاوية وحماد بن زيد وسفيان وأبو معاوية وجرير وعبد الله بن نمير وابن جريج والدراوردي ووكيع بن الجراح ، كلهم رووا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن رسول الله { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي } ورواه مالك والليث بن سعد وسعيد بن عبد الرحمن وحماد بن سلمة وعمرو بن الحارث كلهم رووا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي } ورواه الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة ، والمنذر بن المغيرة عن عروة كلهم { إذا جاءت الحيضة وإذا جاء قرؤك و إذا جاء الدم الأسود } دون ذكر أيام . وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رمح وقتيبة ، كلاهما عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت { إن أم حبيبة سألت رسول الله عن الدم . قالت عائشة : رأيت مركنها ملآن ، فقال لها رسول الله  : امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي } فهذا أمر لمن كانت حيضتها أقل من ثلاثة أيام ، ومن يوم وأكثر من عشرة أيام أيضا . وهذه كلها فتاوى حق لا يحل تركها ، ولا إحالة شيء منها عن ظاهرها ، ولا يحل لأحد أن يقول إن مراده عليه السلام بقوله كل ما ذكرنا : إنما أراد ثلاثة أيام ، فإن أقدم على ذلك مقدم كان كاذبا على رسول الله فسقط تعلقهم بالحديث . وأما خبر معاذ ففي غاية السقوط ؛ لأنه من طريق محمد بن الحسن الصدفي وهو مجهول ، فهو موضوع بلا شك ، والعجب من انتصارهم ههنا على أنه لا يقع اسم الأيام إلا على ثلاث لا أقل ، وهم يقولون : إن قول الله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } أنه لا يقع على أخوين فقط فهلا جعلوا لفظة الأيام تقع ههنا على يومين ؟ وأما احتجاجهم بقول أنس وعائشة فلا يصح عنهما ، لأنه من طريق الجلد بن أيوب وهو ضعيف ، ومن طريق ابن عقيل وليس بالقوي ، ثم لو صح عنه وعن أم المؤمنين لما كان في ذلك حجة ، لأنه قد خالفهما غيرهما من الصحابة على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ، فكيف وإنما أفتت أم المؤمنين بذلك من لها أيام معهودة ، وبالله تعالى التوفيق ، فسقط هذا القول . وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في قول من قال : أقل الحيض يوم وليلة ، فوجدناه أيضا لا حجة لهم في شيء من النصوص ، فإن ادعى مدع إجماعا في ذلك فهذا خطأ لأن الأوزاعي يقول : إنه يعرف امرأة تطهر عشية وتحيض غدوة ، وأيضا فإن مالكا والشافعي قد أوجبا برؤية دفعة من الدم ترك الصلاة وفطر الصائمة وتحريم الوطء ، وهذه أحكام الحيض ، فسقط أيضا هذا القول . وبالله تعالى التوفيق . قال علي : ثم نسألهم عمن رأت الدم في أيام حيضتها : بماذا تفتونها ؟ فلا يختلف منهم أحد في أنها حائض ولا تصلي ولا تصوم ، فنسألهم : إن رأت الطهر إثرها ؟ فكلهم يقول : تغتسلي وتصلي ، فظهر فساد قولهم ، وكان يلزمهم إذا رأت الدم في أيام حيضتها ألا تفطر ولا تدع الصلاة وألا يحرم وطؤها إلا حتى تتم يوما وليلة في قول من يرى ذلك أقل الحيض ، أو ثلاثة أيام بلياليها في قول من رأى ذلك أقل الحيض ، فإذ لا يقولون بهذا ولا يقوله أحد من أهل الإسلام فقد ظهر فساد قولهم ، وصح الإجماع على صحة قولنا ، والحمد لله . وأيضا فإن الآثار الصحاح كما ذكرنا عن رسول الله { إذا جاءت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي } دون تحديد وقت ، وهذا هو قولنا ، وقد ذكرنا قبل - بأصح إسناد يكون - عن ابن عباس أنه أفتى إذا رأت الدم البحراني أن تدع الصلاة ، فإذا رأت الطهر ولو ساعة من نهار فلتغتسل وتصلي .

وأما أكثر مدة الحيض فإن مالكا والشافعي قالا : أكثره خمسة عشر يوما لا يكون أكثر ، وقال سعيد بن جبير : أكثر الحيض ثلاثة عشر يوما . وقال أبو حنيفة وسفيان : أكثره عشرة أيام . فاحتج أبو حنيفة بالأخبار التي ذكرنا وقال : لا يقع اسم أيام إلا على عشرة ، وادعى بعضهم أنه لم يقل أحد إن الحيض أقل من ذلك . قال علي : أما قولهم إن اسم أيام لا يقع على أكثر من عشرة فكذب لا توجبه لغة ولا شريعة ، وقد قال عز وجل : { فعدة من أيام أخر } وهذا يقع على ثلاثين يوما بلا خلاف ، وحديث معاذ قد ذكرنا بطلانه ، وأما قولهم : إنه لم يقل أحد إن أيام الحيض أقل من عشرة فهو كذب ، وقد ذكرنا قول من قال : إن أيام الحيض ستة أو سبعة ، وقول مالك أقل الحيض خمسة أيام ، فحصل قولهم دعوى بلا برهان وهذا باطل . وأما من حد ثلاثة عشر يوما فكذلك أيضا ، وأما من قال خمسة عشر يوما فإنهم ادعوا الإجماع على أنه لا يكون حيض أكثر من ذلك . قال علي : وهذا باطل ، قد روي من طريق عبد الرحمن بن مهدي : أن الثقة أخبره أن امرأة كانت تحيض سبعة عشر يوما ، ورويناه عن أحمد بن حنبل قال : أكثر ما سمعنا سبعة عشر يوما ، وعن نساء آل الماجشون أنهن كن يحضن سبعة عشر يوما . قال علي : قد صح عن رسول الله أن دم الحيض أسود فإذا رأته المرأة لم تصل ، فوجب الانقياد لذلك ، وصح أنها ما دامت تراه فهي حائض لها حكم الحيض ما لم يأت نص أو إجماع في دم أسود أنه ليس حيضا . وقد صح النص بأنه قد يكون دم أسود وليس حيضا ، ولم يوقت لنا في أكثر عدة الحيض من شيء ، فوجب أن نراعي أكثر ما قيل ، فلم نجد إلا سبعة عشر يوما ، فقلنا بذلك ، وأوجبنا ترك الصلاة برؤية الدم الأسود هذه المدة - لا مزيد - فأقل ، وكان ما زاد على ذلك إجماعا متيقنا أنه ليس حيضا . وقالوا : إن كان الحيض أكثر من خمسة عشر يوما ، فإنه يجب من ذلك أن يكون الحيض أكثر من الطهر وهذا محال ، فقلنا لهم : من أين لكم أنه محال ؟ وما المانع إن وجدنا ذلك ألا يوقف عنده ؟ فما نعلم منع من هذا قرآن ولا سنة أصلا ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الأول/كتاب الطهارة
كتاب الطهارة (مسألة 110 - 120) | كتاب الطهارة (مسألة121 - 125) | كتاب الطهارة (مسألة 126 - 130) | كتاب الطهارة (مسألة 131 - 135) | كتاب الطهارة (مسألة 136) | كتاب الطهارة يتبع (مسألة 136) | كتاب الطهارة (مسألة 137 - 140) | كتاب الطهارة (مسألة 141 - 147) | كتاب الطهارة (مسألة 148 - 157) | كتاب الطهارة (مسألة 158 - 163) | كتاب الطهارة (مسألة 164 - 168) | كتاب الطهارة (مسألة 169) | كتاب الطهارة (مسألة 170 - 178) | كتاب الطهارة (مسألة 179 - 187) | كتاب الطهارة (مسألة 188 - 193) | كتاب الطهارة (مسألة 194 - 199) | كتاب الطهارة (مسألة 200 - 206) | كتاب الطهارة (مسألة 207 - 211) | كتاب الطهارة (مسألة 212 - 215) | كتاب الطهارة (مسألة 216 - 223) | كتاب الطهارة (مسألة 224 - 235) | كتاب الطهارة (مسألة 236 - 245) | كتاب الطهارة (مسألة 246 - 249) | كتاب الطهارة (مسألة 250 - 253) | كتاب الطهارة (مسألة 254 - 256) | كتاب الطهارة (مسألة 257 - 262) | كتاب الطهارة (مسألة 263 - 266) | كتاب الطهارة (مسألة 267 - 269) | كتاب الطهارة (مسألة 270 - 274)