محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الرابعة عشر


كتاب الطهارة

141 مسألة : والوضوء بالماء المستعمل جائز ، وكذلك الغسل به للجنابة ، وسواء وجد ماء آخر غيره أو لم يوجد ، وهو الماء الذي توضأ به بعينه لفريضة أو نافلة أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها ، وسواء كان المتوضئ به رجلا أو امرأة . برهان ذلك قول الله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } فعم تعالى كل ماء ولم يخصه ، فلا يحل لأحد أن يترك الماء في وضوئه وغسله الواجب وهو يجده إلا ما منعه منه نص ثابت أو إجماع متيقن مقطوع بصحته . وقال رسول الله  : { وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } فعم أيضا عليه السلام ولم يخص ، فلا يحل تخصيص ماء بالمنع لم يخصه نص آخر أو إجماع متيقن . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا مسدد ثنا عبد الله بن داود وهو الخريبي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت { إن رسول الله مسح برأسه من فضل ماء كان بيده } . وأما من الإجماع فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن كل متوضئ فإنه يأخذ الماء فيغسل به ذراعيه من أطراف أصابعه إلى مرفقه ، وهكذا كل عضو في الوضوء وفي غسل الجنابة ، وبالضرورة والحس يدري كل مشاهد لذلك أن ذلك الماء قد وضئت به الكف وغسلت ، ثم غسل به أول الذراع ثم آخره ، وهذا ماء مستعمل بيقين ، ثم إنه يرد يده إلى الإناء وهي تقطر من الماء الذي طهر به العضو ، فيأخذ ماء آخر للعضو الآخر ، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر وهذا ما لا مخلص منه . وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح ، وهو أيضا قول سفيان الثوري وأبي ثور وداود وجميع أصحابنا . وقال مالك : يتوضأ به إن لم يجد غيره ولا يتيمم . وقال أبو حنيفة : لا يجوز الغسل ولا الوضوء بماء قد توضأ به أو اغتسل به ، ويكره شربه ، وروي عنه أنه طاهر ، والأظهر عنه أنه نجس ، وهو الذي روي عنه نصا ، وأنه لا ينجس الثوب إذا أصابه الماء المستعمل إلا أن يكون كثيرا فاحشا . وقال أبو يوسف : إن كان الذي أصاب الثوب منه شبر في شبر فقد نجسه ، وإن كان أقل لم ينجسه . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إن كان رجل طاهر قد توضأ للصلاة أو لم يتوضأ لها فتوضأ في بئر فقد تنجس ماؤها كله وتنزح كلها ، ولا يجزيه ذلك الوضوء إن كان غير متوضئ ، فإن اغتسل فيها أرضا أنجسها كلها . وكذلك لو اغتسل وهو طاهر غير جنب في سبعة آبار نجسها كلها . وقال أبو يوسف : ينجسها كلها ولو أنها عشرون بئرا ، وقالا جميعا : لا يجزيه ذلك الغسل ، فإن طهر فيها يده أو رجله فقد تنجست كلها ، فإن كان على ذراعيه جبائر أو على أصابع رجليه جبائر فغمسها في البئر ينوي بذلك المسح عليها لم يجزه وتنجس ماؤها كله ، فلو كان على أصابع يده جبائر فغمسها في البئر ينوي بذلك المسح عليها أجزأه ولم ينجس ماؤها اليد بخلاف سائر الأعضاء ، فلو انغمس فيها ولم ينو غسلا ولا وضوءا ولا تدلك فيها لم ينجس الماء حتى ينوي الغسل أو الوضوء وقال أبو يوسف : لا يطهر بذلك الانغماس ، وقال محمد بن الحسن : يطهر به . قال أبو يوسف : فإن غمس رأسه ينوي المسح عليه لم ينجس الماء ، وإنما ينجسه نية تطهير عضو يلزم فيه الغسل ، قال فلو غسل بعض يده بنية الوضوء أو الغسل لم ينجس الماء حتى يغسل العضو بكماله ، فلو غمس رأسه أو خفه ينوي بذلك المسح أجزأه ولم يفسد الماء ، وإنما يفسده نية الغسل لا نية المسح . وهذه أقول هي إلى الهوس أقرب منها إلى ما يعقل . وقال الشافعي : لا يجزئ الوضوء ولا الغسل بماء قد اغتسل به أو توضأ به وهو طاهر كله ، وأصفق أصحابه على أن من أدخل يده في الإناء ليتوضأ فأخذ الماء فتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثم أدخل يده في الإناء فقد حرم الوضوء بذلك الماء ؛ لأنه قد صار ماء مستعملا ، وإنما يجب أن يصب منه على يده ، فإذا وضأها أدخلها حينئذ في الإناء . قال أبو محمد : واحتج من منع ذلك بالحديث الثابت عن { رسول الله من نهيه الجنب أن يغتسل في الماء الدائم } . قال أبو محمد : وقالوا : إنما نهى رسول الله عن ذلك ، لأن الماء يصير مستعملا ، وقال بعض من خالفهم : بل ما نهى عن ذلك عليه السلام إلا خوف أن يخرج من إحليله شيء ينجس الماء . قال أبو محمد : وكلا القولين باطل نعوذ بالله من مثله ، ومن أن نقول رسول الله ما لم يقل ، وأن نخبر عنه ما لم يخبر به عن نفسه ولا فعله ، فهذا هو الكذب على رسول الله وهو من أكبر الكبائر ممن قطع به ، فإن لم يقطع به فإنما هو ظن ، وقد قال عز وجل : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } وقال رسول الله  : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } ولا بد لمن قال بأحد هذين التأويلين من إحدى هاتين المنزلتين ، فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة . واحتج بعضهم فقال : لم يقل أحد للمتوضئ ولا للمغتسل أن يردد ذلك الماء على أعضائه ، بل أوجبوا عليه أخذ ماء جديد ، وبذلك جاء عمل النبي في الوضوء والغسل فوجب أن لا يجزئ . قال أبو محمد : وهذا باطل ، لأنه لم ينه أحد من السلف عن ترديد الماء على الأعضاء في الوضوء والغسل ، ولا نهى عنه عليه السلام قط . ويقال للحنفيين : قد أجزتم تنكيس الوضوء ، ولم يأت قط عن النبي أنه نكس وضوءه ، ولا أن أحدا من المسلمين فعل ذلك ، فأخذه عليه السلام ماء جديدا لكل عضو إنما هو فعل منه عليه السلام ، وأفعاله عليه السلام لا تلزم . وقد صح عنه مسح رأسه المقدس بفضل ماء مستعمل . فإن قيل : قد روي يؤخذ للرأس ماء جديد . قلنا : إنما رواه دهثم بن قران وهو ساقط لا يحتج به عن نمران بن جارية وهو غير معروف فكيف وقد أباح عليه السلام غسل الجنابة بغير تجديد ماء . كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر كلهم عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة { أن رسول الله قال لها في غسل الجنابة إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين ثنا معمر بن يحيى بن سام حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين { قال لي جابر سألني ابن عمك فقال : كيف الغسل من الجنابة ؟ فقلت : كان رسول الله يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه ثم يفيض على سائر جسده } . قال أبو محمد ولو كان ما قاله أصحاب أبي حنيفة من تنجس الماء المستعمل لما صح طهر ولا وضوء ولا صلاة لأحد أبدا ، لأن الماء الذي يفيضه المغتسل على جسده يطهر منكبيه وصدره ، ثم ينحدر إلى ظهره وبطنه ، فكان يكون كل أحد مغتسلا بماء نجس ، ومعاذ الله من هذا ، وهكذا في غسله ذراعه ووجهه ورجله في الوضوء ، لأنه لا يغسل ذراعه إلا بالماء الذي غسل به كفه ، ولا يغسل أسفل وجهه إلا بالماء الذي قد غسل به أعلاه وكذلك رجله . وقال بعضهم : الماء المستعمل لا بد من أن يصحبه من عرق الجسم في الغسل والوضوء شيء فهو ماء مضاف . قال أبو محمد : وهذا غث جدا ، وحتى لو كان كما قالوا فكان ماذا ؟ ومتى حرم الوضوء والغسل بماء فيه شيء طاهر لا يظهر له في الماء رسم فكيف وهم يجيزون الوضوء بماء قد تبرد فيه من الحر وهذا أكثر في أن يكون فيه العرق من الماء المستعمل . وقال بعضهم : قد جاء أثر بأن الخطايا تخرج مع غسل أعضاء الوضوء . قلنا : نعم ولله الحمد فكان ماذا ؟ وإن هذا لمما يغيط باستعماله مرارا إن أمكن لفضله ، وما علمنا للخطايا أجراما تحل في الماء . وقال بعضهم : الماء المستعمل كحصى الجمار الذي رمى به لا يجوز أن يرمي به ثانية . قال أبو محمد : وهذا باطل ، بل حصى الجمار إذا رمى بها فجائز أخذها والرمي بها ثانية ، وما ندري شيئا يمنع من ذلك ، وكذلك التراب الذي تيمم به فالتيمم به جائز والثوب الذي سترت به العورة في الصلاة جائز أن تستر به أيضا العورة في صلاة أخرى ، فإن كانوا أهل قياس فهذا كله باب واحد . وقال بعضهم : الماء المستعمل بمنزلة الماء الذي طبخ فيه فول أو حمص . قال علي : وهذا هوس مردود على قائله ، وما ندري شيئا يمنع من جواز الوضوء والغسل بماء طبخ فيه فول أو حمص أو ترمس أو لوبيا ، ما دام يقع عليه اسم ماء . وقال بعضهم : لما لم يطلق على الماء المستعمل اسم الماء مفردا دون أن يتبع باسم آخر وجب أن لا يكون في حكم الماء المطلق . قال أبو محمد : وهذه حماقة ، بل يطلق عليه اسم ماء فقط ، ثم لا فرق بين قولنا ماء مستعمل فيوصف بذلك ، وبين قولنا ماء مطلق فيوصف بذلك ، وقولنا ماء ملح أو ماء عذب ، أو ماء مر ، أو ماء سخن أو ماء مطر ، وكل ذلك لا يمنع من جواز الوضوء به والغسل . ولو صح قول أبي حنيفة في نجاسة الماء المتوضأ به والمغتسل به لبطل أكثر الدين ؛ لأنه كان الإنسان إذا اغتسل أو توضأ ثم لبس ثوبه لا يصلي إلا بثوب نجس كله ، وللزمه أن يطهر أعضاءه منه بماء آخر . وقال بعضهم : لا ينجس إلا إذا فارق الأعضاء . قال أبو محمد : وهذه جرأة على القول بالباطل في الدين بالدعوى ، ويقال لهم : هل تنجس عندكم إلا بالاستعمال ؟ فلا بد من نعم ، فمن المحال أن لا ينجس في الحال المنجسة له ثم ينجس بعد ذلك ، ولا جرأة أعظم من أن يقال : هذا ماء طاهر تؤدى به الفرائض ، فإذا تقرب به إلى الله في أفضل الأعمال من الوضوء والغسل تنجس أو حرم أن يتقرب إلى الله تعالى به ، وما ندري من أين وقع لهم هذا التخليط . وقال بعضهم : قد جاء عن ابن عباس أن الجنب إذا اغتسل في الحوض أفسد ماءه ، وهذا لا يصح ، بل هو موضوع ، وإنما ذكره الحنفيون عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن ابن عباس ، ولا نعلم من هو قبل حماد ، ولا نعرف لإبراهيم سماعا من ابن عباس والصحيح عن ابن عباس خلاف هذا . قال أبو محمد : وقد ذكرنا عن ابن عباس قبل خلاف هذا من قوله : أربع لا تنجس الماء والأرض والإنسان ، وذكر رابعا . وذكروا عن رسول الله في تحريمه الصدقة على آل محمد { إنما هي غسالة أيدي الناس } . وعن عمر مثل ذلك . قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه أصلا ، لأن اللازم لهم في احتجاجهم بهذا الخبر أن لا يحرم ذلك إلا على آل محمد خاصة ، فإنه عليه السلام لم يكره ذلك ولا منعه أحدا غيرهم ، بل أباحه لسائر الناس . وأما احتجاجهم بقول عمر فإنهم مخالفون له لأنهم يجيزون في أصل أقوالهم شرب ذلك الماء . وأيضا فإن غسالة أيدي الناس غير وضوئهم الذي يتقربون به إلى الله تعالى ، ولا عجب أكثر من إباحتهم غسالة أيدي الناس وفيها جاء ما احتجوا به . وقولهم إنها طاهرة ، وتحريمهم الماء الذي قد توضأ به قربة إلى الله تعالى وليس في شيء من هذين الأثرين نهي عنه ، ونعوذ بالله من الضلال وتحريف الكلم عن مواضعه . ونسأل أصحاب الشافعي عمن وضأ عضوا من أعضاء وضوئه فقط ينوي به الوضوء في ماء دائم أو غسله كذلك وهو جنب ، أو بعض عضو أو بعض أصبع أو شعرة واحدة أو مسح شعرة من رأسه أو خفه أو بعض خفه  : حتى نعرف أقوالهم في ذلك . وقد صح { أن رسول الله توضأ وسقى إنسانا ذلك الوضوء } ، وأنه عليه السلام { توضأ وصب وضوءه على جابر بن عبد الله } ، وأنه عليه السلام { كان إذا توضأ تمسح الناس بوضوئه } ، فقالوا بآرائهم الملعونة : إن المسلم الطاهر النظيف إذا توضأ بماء طاهر ثم صب ذلك الماء في بئر فهي بمنزلة لو صب فيها فأر ميت أو نجس ، ونسأل الله العافية من هذا القول .

142 مسألة : وونيم الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش إن كان لا يمكن التحفظ منه وكان في غسله حرج أو عسر لم يلزم من غسله إلا ما لا حرج فيه ولا عسر . قال أبو محمد : قد قدمنا قول الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فالحرج والعسر مرفوعان عنا ، وما كان لا حرج في غسله ولا عسر فهو لازم غسله ، لأنه بول ورجيع .

143 مسألة : والقيء من كل مسلم أو كافر حرام يجب اجتنابه ، لقول رسول الله  : { العائد في هبته كالعائد في قيئه } وإنما قال عليه السلام ذلك على منع العودة في الهبة .

144 مسألة : والخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس حرام واجب اجتنابه ، فمن صلى حاملا شيئا منها بطلت صلاته . قال الله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } فمن لم يجتنب ذلك في صلاته فلم يصل كما أمر ، ومن لم يصل كما أمر فلم يصل .

145 مسألة : ونبيذ البسر والتمر والزهو والرطب والزبيب إذا جمع نبيذ واحد من هذه إلى نبيذ غيره فهو حرام واجب اجتنابه . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبان هو ابن يزيد العطار ثنا يحيى هو ابن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن رسول الله  : { أنه نهى عن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط البسر والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب ، وقال : انتبذوا كل واحد على حدة } وليس كذلك الخليطان من غير هذه الخمسة بل هو طاهر حلال ما لم يسكر ؛ لأنه لم ينه إلا عما ذكرنا .

146 مسألة : ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول ، لا في بنيان ولا في صحراء ، ولا يجوز استقبال القبلة فقط كذلك في حال الاستنجاء . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى قال قلت لسفيان بن عيينة : سمعت الزهري يذكر عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب " أن رسول الله قال : { إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا } ؟ قال سفيان نعم . وقد روى أيضا النهي عن ذلك أبو هريرة وغيره ، وقد ذكرنا قبل حديث سلمان عن النبي { : ألا يستنجي أحد مستقبل القبلة } ، في باب الاستنجاء . وممن أنكر ذلك أبو أيوب الأنصاري كما ذكرنا في البيوت نصا عنه ، وكذلك أيضا أبو هريرة وابن مسعود ، وعن سراقة بن مالك ألا تستقبل القبلة بذلك ، وعن السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جملة ، وعن عطاء وإبراهيم النخعي ، وبقولنا في ذلك يقول سفيان الثوري والأوزاعي وأبو ثور ومنع أبو حنيفة من استقبالها لبول أو غائط ، وكل هؤلاء لم يفرق بين الصحاري والبناء في ذلك ، وروينا من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يكره أن تستقبل القبلتان بالفروج ، وهو قول مجاهد . قال أبو محمد : لا نرى ذلك في بيت المقدس ، لأن النهي عن ذلك لم يصح . وقال عروة بن الزبير وداود بن علي : يجوز استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط ، وروينا ذلك عن ابن عمر من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن نافع عن ابن عمر ، وروينا عن ابن عمر من طريق أبي داود عن محمد بن يحيى بن فارس عن صفوان بن عيسى عن الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر عن ابن عمر أنه قال : إنما نهي عن ذلك في الفضاء ، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس ، وروينا أيضا هذا عن الشعبي ، وهو قول مالك والشافعي . فأما من أباح ذلك جملة فاحتجوا بحديث رويناه عن ابن عمر في بعض ألفاظه { رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله قاعدا لحاجته مستقبل القبلة } وفي بعضها { رأيت رسول الله يبول حيال القبلة } وفي بعضها : { اطلعت يوما ورسول الله على ظهر بيت يقضي حاجته محجورا عليه بلبن فرأيته مستقبل القبلة } . وبحديث من طريق جابر { نهى رسول الله أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } وبحديث من طريق عائشة { أن رسول الله ذكر عنده أن ناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله  : قد فعلوها ؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة } . قال علي : لا حجة لهم غير ما ذكرنا ، ولا حجة لهم في شيء منه . أما حديث ابن عمر ، فليس فيه أن ذلك كان بعد النهي ، وإذا لم يكن ذلك فيه فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل أن ينهى النبي عن ذلك ، هذا ما لا شك فيه ، فإذا لا شك في ذلك فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعا بنهي النبي عن ذلك ، هذا يعلم ضرورة ومن الباطل المحرم ترك اليقين بالظنون ، وأخذ المتيقن نسخه وترك المتيقن أنه ناسخ . وقد أوضحنا في غير هذا المكان أن كل ما صح أنه ناسخ لحكم منسوخ فمن المحال الباطل أن يكون الله تعالى يعيد الناسخ منسوخا والمنسوخ ناسخا ولا يبين ذلك تبيانا لا إشكال فيه ، إذ لو كان هذا لكان الدين مشكلا غير بين ، ناقصا غير كامل ، وهذا باطل ، قال الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } وأيضا فإنما في حديث ابن عمر ذكر استقبال القبلة فقط ، فلو صح أنه ناسخ لما كان فيه نسخ تحريم استدبارها ، ولكان من أقحم في ذلك إباحة استدبارها كاذبا مبطلا لشريعة ثابتة ، وهذا حرام ، فبطل تعلقهم بحديث ابن عمر . وأما حديث عائشة فهو ساقط ؛ لأنه رواية خالد الحذاء وهو ثقة عن خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا يدرى من هو ، وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت ، وهذا أبطل وأبطل ؛ لأن خالدا الحذاء لم يدرك كثير بن الصلت ، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ، لأن نصه يبين أنه إنما كان قبل النهي ؛ لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله ينهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك ، هذا ما لا يظنه مسلم ولا ذو عقل ، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم ، فلو صح لكان منسوخا بلا شك ، ثم لو صح لما كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط ، لا إباحة الاستدبار أصلا ، فبطل تعلقهم بحديث عائشة جملة . وأما حديث جابر فإنه رواية أبان بن صالح وليس بالمشهور ، وأيضا فليس فيه بيان أن استقباله القبلة عليه السلام كان بعد نهيه ، ولو كان ذلك لقال جابر ، ثم رأيته ، وأيضا فلو صح لما كان فيه إلا النسخ للاستقبال فقط ، وأما الاستدبار فلا أصلا ، ولا يحل أن يزاد في الأخبار ما ليس فيها ، فيكون من فعل ذلك كاذبا ، وليس إذا نهى عن شيئين ثم نسخ أحدهما وجب نسخ الآخر ، فبطل كل ما شغبوا به وبالله تعالى التوفيق ، وسقط قولهم لتعريه عن البرهان . وأما من فرق بين الصحاري والبناء في ذلك فقول لا يقوم عليه دليل أصلا ، إذ ليس في شيء من هذه الآثار فرق بين صحراء وبنيان ، فالقول بذلك ظن ، والظن أكذب الحديث ، ولا يغني عن الحق شيئا ، ولا فرق بين من حمل النهي على الصحاري دون البنيان ، وبين آخر قال بل النهي عن ذلك في المدينة أو مكة خاصة ، وبين آخر قال في أيام الحج خاصة ، وكل هذا تخليط لا وجه له . وقال بعضهم : إنما كان في الصحاري ، لأن هنالك قوما يصلون فيؤذون بذلك . قال أبو محمد : هذا باطل ؛ لأن وقوع الغائط كيفما وقع في الصحراء فموضعه لا بد أن يكون قبلة لجهة ما ، وغير قبلة لجهة أخرى ، فخرج قول مالك عن أن يكون له متعلق بسنة أو بدليل أصلا ، وهو قول خالف جميع أقوال الصحابة رضي الله عنهم إلا رواية عن ابن عمر قد روي عنه خلافها ، وبالله تعالى التوفيق .

147 مسألة : وكل ماء خالطه شيء طاهر مباح فظهر فيه لونه وريحه وطعمه إلا أنه لم يزل عنه اسم الماء ، فالوضوء به جائز والغسل به للجنابة جائز . برهان ذلك قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وهذا ماء ، سواء كان الواقع فيه مسكا أو عسلا أو زعفرانا أو غير ذلك . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني عطاء بن أبي رباح عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت : { دخلت على النبي يوم الفتح وهو في قبة له ، فوجدته قد اغتسل بماء كان في صحفة ، إني لأرى فيها أثر العجين ، فوجدته يصلي الضحى } . وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أم هانئ قالت { نزل رسول الله يوم الفتح بأعلى مكة فأتيته بماء في جفنة إني لأرى أثر العجين فيها ، فستره أبو ذر فاغتسل رسول الله ثم ستر عليه السلام أبا ذر فاغتسل ، ثم صلى ثماني ركعات وذلك في الضحى } . حدثنا يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب العكلي عن إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم هانئ { أن ميمونة أم المؤمنين ورسول الله اغتسلا من قصعة فيها أثر العجين } . قال علي : وهذا قول ثابت عن ابن مسعود قال : إذا غسل الجنب رأسه بالخطمي أجزأه ، وكذلك نصا عن ابن عباس . وروي أيضا هذا عن علي بن أبي طالب ، وثبت عن سعيد بن المسيب وابن جريج وعن صواحب النبي من نساء الأنصار والتابعات منهن : أن المرأة الجنب والحائض إذا امتشطت بحناء رقيق أن ذلك يجزئها من غسل رأسها للحيضة والجنابة ولا تعيد غسله ، وثبت عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن جبير أنهم قالوا في الجنب : يغسل رأسه بالسدر والخطمي : إنه يجزئه ذلك من غسل رأسه للجنابة . وقولنا في هذا هو قول أبي حنيفة والشافعي وداود . وروي عن مالك نحو هذا أيضا . وروى سحنون عن ابن القاسم أنه سأل مالكا عن الغدير ترده المواشي فتبول فيه وتبعر حتى يتغير لون الماء وريحه : أيتوضأ منه للصلاة ؟ قال مالك : أكرهه ولا أحرمه ، كان ابن عمر يقول : إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال . والذي عليه أصحابه بخلاف هذا ، وهو أنه روي عنه في الماء يبل فيه الخبز أو يقع فيه الدهن : أنه لا يجوز الوضوء به وكذلك الماء ينقع فيه الجلد ، وهذا خطأ من القول ، لأنه لا دليل عليه من قرآن ولا من سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل خالفوا فيه ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف ، وخالفوا فيه فقهاء المدينة كما ذكرنا ، وما نعلمهم احتجوا بأكثر من أن قالوا : ليس هو ماء مطلقا . قال أبو محمد : وهذا خطأ ، بل هو ماء مطلق وإن كان فيه شيء آخر ، ولا فرق بين ذلك الذي فيه وبين حجر يكون فيه ، وهم يجيزون الوضوء بالماء الذي تغير من طين موضعه ، وهذا تناقض . ومن العجب أنهم لم يجعلوا حكم الماء للماء الذي مازجه شيء طاهر لم يزل عنه اسم الماء ، وجعلوا للفضة المخلوطة بالنحاس خلطا يغيرها حكم الفضة المحصنة ، وكذلك في الذهب الممزوج فجعلوه كالذهب الصرف في الزكاة والصرف ، وهذا هو الخطأ وعكس الحقائق ، لأنهم أوجبوا الزكاة في الصفر الممازج للفضة ، وهذا باطل وأباحوا صرف فضة وصفر بمثل وزن الجميع من فضة محضة ، وهذا هو الربا بعينه وأما الوضوء بماء قد مازجه شيء طاهر فإنما يتوضأ ويغتسل بالماء ، ولا يضره مرور شيء طاهر على أعضائه مع الماء . وقال بعضهم : هو كماء الورد . قال أبو محمد وهذا باطل ، لأن ماء الورد ليس ماء أصلا ، وهذا ماء وشيء آخر معه فقط .

محلى ابن حزم - المجلد الأول/كتاب الطهارة
كتاب الطهارة (مسألة 110 - 120) | كتاب الطهارة (مسألة121 - 125) | كتاب الطهارة (مسألة 126 - 130) | كتاب الطهارة (مسألة 131 - 135) | كتاب الطهارة (مسألة 136) | كتاب الطهارة يتبع (مسألة 136) | كتاب الطهارة (مسألة 137 - 140) | كتاب الطهارة (مسألة 141 - 147) | كتاب الطهارة (مسألة 148 - 157) | كتاب الطهارة (مسألة 158 - 163) | كتاب الطهارة (مسألة 164 - 168) | كتاب الطهارة (مسألة 169) | كتاب الطهارة (مسألة 170 - 178) | كتاب الطهارة (مسألة 179 - 187) | كتاب الطهارة (مسألة 188 - 193) | كتاب الطهارة (مسألة 194 - 199) | كتاب الطهارة (مسألة 200 - 206) | كتاب الطهارة (مسألة 207 - 211) | كتاب الطهارة (مسألة 212 - 215) | كتاب الطهارة (مسألة 216 - 223) | كتاب الطهارة (مسألة 224 - 235) | كتاب الطهارة (مسألة 236 - 245) | كتاب الطهارة (مسألة 246 - 249) | كتاب الطهارة (مسألة 250 - 253) | كتاب الطهارة (مسألة 254 - 256) | كتاب الطهارة (مسألة 257 - 262) | كتاب الطهارة (مسألة 263 - 266) | كتاب الطهارة (مسألة 267 - 269) | كتاب الطهارة (مسألة 270 - 274)