محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الثالثة والخمسون


كتـاب الصلاة

أوقـــات الصـلاة

350 - مسألة : والعراة بعطب ، أو سلب ، أو فقر : يصلون كما هم في جماعة في صف خلف إمامهم ، يركعون ، ويسجدون ، ويقومون ، ويغضون أبصارهم . ومن تعمد في صلاته ؛ تأمل عورة رجل ، أو امرأة محرمة عليه : بطلت صلاته ؛ فإن تأملها ناسيا لم تبطل صلاته ، ولزمه سجود السهو . فإن تأمل عورة امرأته ، فإن ترك الإقبال على صلاته عامدا لذلك : بطلت صلاته ؛ كما لو فعل ذلك لسائر الأشياء ولا فرق ؛ وإن لم يترك لذلك الإقبال على صلاته : فصلاته تامة ، ولا شيء عليه . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } . فإذ هم غير مكلفين ما لا يقدرون عليه من ستر العورة : فهم مخاطبون بالصلاة كما يقدرون ، وبالإمامة فيها في جماعة ؛ فسقط عنهم ما لا يقدرون عليه ، وما ليس في وسعهم ، وبقي عليهم ما يستطيعون لقول رسول الله { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } . وأما من تأمل في صلاته عورة - لا يحل له النظر إليها - : فإن صلاته تبطل لأنه عمل فيها عملا لا يحل له ؛ فلم يصل كما أمر ، ومن لم يصل كما أمر فلم يأت بالصلاة التي أمره الله تعالى بها ؛ قال رسول الله  : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } . فإن فعل ذلك ناسيا فعليه سجود السهو ؛ لأنه زاد في صلاته نسيانا ما لو عمده لبطلت صلاته . وأما إذا تأمل عورة أبيح له النظر إليها فهي من جملة الأشياء التي لا بد له من وقوع النظر على بعضها في الصلاة ؛ ولا فرق بين مباح ومباح . فإن اشتغل بشيء من ذلك كله عن صلاته عمدا فقد عصى الله تعالى ، ولم يصل كما أمر - وبالله تعالى التوفيق . وقال أبو حنيفة : يصلي العراة فرادى قعودا يومئون للسجود والركوع فإن صلوا جماعة أجزأهم إلا أنهم يقعدون ويقعد الإمام في وسطهم . وقال بعض العلماء بقوله : أنهم إن صلوا قياما أجزأهم عند أبي حنيفة وأصحابه . وقال مالك : يصلون فرادى ، يتباعد بعضهم عن بعض قياما ، فإن كانوا في ليل مظلم صلوا في جماعة قياما ، يقف إمامهم أمامهم . وقال الشافعي : يصلي العراة فرادى ، أو جماعة قياما يركعون ويسجدون ويقوم إمامهم وسطهم ، ويغضون أبصارهم ؛ ويصرف الرجال وجوههم عن النساء ، والنساء وجوههن عن الرجال ، ولا إعادة على أحد منهم . وقال زفر بن الهذيل : يصلون قياما يركعون ويسجدون ، ولا يجزيهم غير ذلك - وقال أبو سليمان كقولنا . قال علي : قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي خطأ ؛ لأنها أقوال لم تخل من إسقاط أن يصلوا جماعة وهذا لا يجوز . أو من إسقاط القيام والركوع والسجود ، وهذا باطل . أو من إسقاط حق الإمام في تقدمه ؛ وهذا لا يجوز . وغض البصر يسقط كل ما شغبوا به في هذه الفتيا . وقول أبي حنيفة أكثرها تناقضا . والعجب أنهم بكل ذلك لا يوارون جميع عوراتهم من الأفخاذ وغيرها ، فكيف والنص قد ورد بما قلنا . حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن شاذان ثنا زكريا بن عدي ثنا عبيد الله بن عمرو هو الرقي - عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله يقول : { يا معشر النساء ، إذا سجدتن فاحفظوا أبصاركم ، لا ترين عورات الرجال ؛ من ضيق الأزر } . قال علي : هكذا في كتابي عن حمام ، وبالله ما لحن رسول الله ولولا أن ممكنا أن يخاطب رسول الله النساء ومن معهن من صغار أولادهن لما كتبناه إلا " فاخفضن أبصاركن " . فهذا نص على أن الفقراء من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون بعلم رسول الله ومعه ، وليس معهم من اللباس ما يواري عورتهم ، ولا يتركون القعود ولا الركوع ولا السجود ؛ إلا أن الأمر بغض البصر لازم في كل ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

351 - مسألة : واستقبال جهة الكعبة بالوجه والجسد فرض على المصلي حاشا المتطوع راكبا ، فمن كان مغلوبا بمرض أو بجهد أو بخوف أو بإكراه فتجزيه صلاته كما يقدر ؛ وينوي في كل ذلك التوجه إلى الكعبة برهان ذلك - : قوله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } . والمسجد الحرام في المبدأ : إنما هو البيت فقط ؛ ثم زيد فيه الشيء بعد الشيء . ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن امرءا لو كان بمكة بحيث يقدر على استقبال الكعبة في صلاته - : فصرف وجهه عامدا عنها إلى أبعاض المسجد الحرام من خارجه أو من داخله فإن صلاته باطل ، وأنه إن استجاز ذلك : كافر - وقد ذكرنا التطوع على الدابة قبل وأما المريض والجاهل والخائف والمكره فإن الله تعالى يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقال رسول الله { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم . }

352 - مسألة : ويلزم الجاهل أن يصدق في جهة القبلة من أخبره من أهل المعرفة إذا كان يعرفه بالصدق ؛ لأن هذا لا سبيل لمن غاب عن موضع القبلة إلى معرفة جهتها إلا بالخبر ؛ ولا يمكن غير ذلك . نعم ، ومن كان حاضرا فيها فإنه لا يعرف أن هذه هي الكعبة إلا بالخبر ولا بد ؛ وهذا من الشريعة التي قد ذكرنا البرهان على وجوب قبول خبر الواحد العدل فيها .

353 - مسألة : فمن صلى إلى غير القبلة ممن يقدر على معرفة جهتها - عامدا أو ناسيا - بطلت صلاته ، ويعيد ما كان في الوقت ، إن كان عامدا ، ويعيد أبدا إن كان ناسيا برهان ذلك - : أن هذين مخاطبان بالتوجه إلى المسجد الحرام في الصلاة ؛ فصليا بخلاف ما أمرا به ، ولا يجزئ ما نهى الله تعالى عنه عما أمر عز وجل به ، فقد ذكرنا الحجة في أمر الناسي قبل فإن ذكر ذاكر : حديث أهل قباء رضي الله عنهم ، وأنهم ابتدءوا الصلاة إلى بيت المقدس فأتاهم الخبر : بأن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا - كما كانوا في صلاتهم - إلى الكعبة ، واجتزءوا بما صلوا إلى بيت المقدس من تلك الصلاة بعينها . قلنا : هذا خبر صحيح ، ولا حجة فيه علينا ؛ ولا نخالفه ولله الحمد - : أول ذلك - أنه ليس فيه : أن رسول الله علم ذلك فأقره ، ولا حجة إلا في القرآن ، أو في كلامه عليه السلام . أو في عمله أو فيما علم عليه السلام من عمل غيره فلم ينكره ، وإنما العجب من المالكيين الذين يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم ؛ ثم قد خالفوا ههنا عمل طائفة عظيمة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف قال علي : أهل قباء رضي الله عنهم كان الفرض عليهم أن يصلوا إلى بيت المقدس ؛ فلو أنهم صلوا إلى الكعبة : لبطلت صلاتهم بلا خلاف . ولا تلزم الشريعة إلا من بلغته ، لا من لم تبلغه ، قال الله تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } . ولا شك عند أحد من الجن والإنس ، ولا الملائكة : أن من كان من المسلمين بأرض الحبشة ، أو بمكة من المستضعفين فإنهم تمادوا على الصلاة إلى بيت المقدس مدة طويلة - : أما أهل مكة فأياما كثيرة بعد نزول تحويل القبلة . وأما من بالحبشة : فلعلهم صلوا عاما أو أعواما حتى بلغهم تحويل القبلة ؛ فحينئذ لزمهم الفرض ، لا قبل ذلك ، فإنما لزم أهل قباء التحول حين بلغهم لا قبل ذلك فانتقلوا عن فرضهم إلى فرض ناسخ لما كانوا عليه ؛ وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد غيره ، وأما من بلغه فرض تحويل الكعبة وعلمه وكان مخاطبا به ولم يسقط تكليفه عنه لعذر مانع - : فلم يصل كما أمر ومن لم يصل كما أمر فلم يصل ؛ لأنه لا يجزئ ما نهى الله عنه عما أمر الله تعالى به ، وقال أبو حنيفة : من صلى في غير مكة إلى غير القبلة مجتهدا ولم يعلم إلا بعد أن سلم أجزأته صلاته . فإن صلى في ظلمة متحريا ولم يسأل من بحضرته ، ثم علم أنه صلى إلى غير القبلة : أعاد - وهو فرق فاسد ؛ لأن التحري نوع من الاجتهاد ، وقال مالك : من علم أنه صلى إلى غير القبلة ؛ فإن كان مستدبرا لها : أعاد ، وإن كان في الصلاة : قطع وابتدأ . وإن كان منحرفا إلى شرق أو غرب : لم يعد ، وبنى على ما صلى وانحرف وهذا فرق فاسد ؛ لأنه لا فرق عند أحد من الأمة في تعمد الانحراف عن القبلة أنه مبطل للصلاة ، وكبيرة من الكبائر كالاستدبار لها ولا فرق ، وأهل قباء كانوا مستدبرين إلى القبلة . ولا نعلم هذا التفريق - الذي فرقه أبو حنيفة ، ومالك - : عن أحد قبلهما ، وقال الشافعي : من خفيت عليه الدلائل والمحبوس في الظلمة ، والأعمى الذي لا دليل له - : يصلون إلى أي جهة أمكنهم ، ويعيدون إذا قدروا على معرفة القبلة . قال علي : وهذا خطأ ؛ لأنه إذا أمره بالصلاة لا يخلو من أن يكون أمرهم بصلاة تجزئ عنهم كما أمرهم الله بها أو أمرهم بصلاة لا تجزئ عنهم ، ولا أمرهم الله تعالى بها ولا سبيل إلى قسم ثالث - : فإن كان أمرهم بصلاة تجزئ عنهم ، وبالتي أمرهم الله تعالى بها ؛ فلأي معنى يصلونها ثانية ، وإن كان أمرهم بصلاة لا تجزئ عنهم ، ولا أمرهم الله تعالى بها ؛ فهذا أمر فاسد ، ولا يحل لآمره الأمر به ، ولا للمأمور به الائتمار به ، وقال أبو سليمان : تجزئهم على كل حال ، ويبنون إذا عرفوا وهم في الصلاة ، وقد ذكرنا الفرق آنفا . فإن قال قائل ، قد روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة { كنا مع رسول الله في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا حياله ، فأصبحنا : فذكرنا ذلك لرسول الله فأنزل الله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } . } وعن عطاء عن جابر بن عبد الله : { كنا في سرية فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فذكر : أنهم خطوا خطوطهم في جهات اختلافهم ؛ فلما أصبحوا أصبنا تلك الخطوط لغير القبلة ، فسألنا النبي فأنزل الله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } } فإن هذين الخبرين لا يصحان ؛ لأن حديث عبد الله بن عامر لم يروه إلا عاصم بن عبيد الله ولم يرو حديث جابر إلا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء - ، وعاصم وعبد الملك ساقطان . ثم لو صحا لكانا حجة لنا ؛ لأن هؤلاء جهلوا ، وصلاة الجاهل تامة ؛ وليس الناسي كذلك - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الأول/كتاب الصلاة

كتاب الصلاة (مسألة 275 - 280) | كتاب الصلاة (مسألة 281 - 284) | كتاب الصلاة (مسألة 285) | كتاب الصلاة (مسألة 286) | كتاب الصلاة (تتمة مسألة 286) | كتاب الصلاة (مسألة 287 - 295) | كتاب الصلاة (مسألة 296 - 300) | كتاب الصلاة (مسألة 301) | كتاب الصلاة (تتمة مسألة 301) | كتاب الصلاة (مسألة 302 - 313) | كتاب الصلاة (مسألة 314 - 321) | كتاب الصلاة (مسألة 322 - 334) | كتاب الصلاة (مسألة 335) | كتاب الصلاة (مسألة 336) | كتاب الصلاة (مسألة 337 - 347) | كتاب الصلاة (مسألة 344 - 348) | كتاب الصلاة (مسألة 349) | كتاب الصلاة (مسألة 350 - 353) | كتاب الصلاة (مسألة 354 - 360) | كتاب الصلاة (مسألة 361 - 368) | كتاب الصلاة (مسألة 369 - 371) | كتاب الصلاة (مسألة 372 - 376) | كتاب الصلاة (مسألة 377 - 384) | كتاب الصلاة (مسألة 385 - 391) | كتاب الصلاة (مسألة 392 - 394) | كتاب الصلاة (مسألة 395 - 412) | كتاب الصلاة (مسألة 413 - 420) | كتاب الصلاة (مسألة 421 - 434) | كتاب الصلاة (مسألة 435 - 442) | كتاب الصلاة (مسألة 443 - 446) | كتـاب الصلاة (مسألة 447 - 453) | كتـاب الصلاة (مسألة 454 - 458) | كتـاب الصلاة (مسألة 459 - 461) | كتـاب الصلاة (مسألة 462 - 466) | كتـاب الصلاة (مسألة 467 - 472) | كتـاب الصلاة (مسألة 473 - 484) | كتـاب الصلاة (مسألة 485) | كتـاب الصلاة (مسألة 486 - 488) | كتـاب الصلاة (مسألة 489 - 493) | كتـاب الصلاة (مسألة 494 - 496) | كتـاب الصلاة (مسألة 497 - 504) | كتـاب الصلاة (مسألة 505) | كتـاب الصلاة (مسألة 506 - 510) | كتـاب الصلاة (مسألة 511 - 512) | كتـاب الصلاة (مسألة 513) | كتـاب الصلاة (مسألة 514 - 518) | كتـاب الصلاة (مسألة 519 - 520) | كتاب الصلاة (مسألة 521 - 523) | كتاب الصلاة (مسألة 524 - 529) | كتاب الصلاة (مسألة 530 - 540) | كتاب الصلاة (مسألة 543 - 553) | كتاب الصلاة (مسألة 554 - 555) | كتاب الصلاة (مسألة 556 - 557)