الروح/المسألة الثامنة عشرة/فصل الدليل على أن الأرواح خلقت بعد الأبدان
واحتجوا أيضا بما رواه أبو عبد اللّه بن منده أخبرنا محمد بن صابر البخاري، حدثنا محمد بن المنذر بن سعيد الهروي، حدثنا جعفر بن محمد بن هارون المصيصي، حدثنا عتبة بن السكن، حدثنا أرطاة بن المنذر، حدثنا عطاء بن عجلان، عن يونس بن حلبس، عن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «إن اللّه خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». فهذا بعض ما احتج به هؤلاء.
قال الآخرون: الكلام معكم في مقامين، أحدهما: ذكر الدليل على أن الأرواح خلقت بعد خلق الأبدان، الثاني: الجواب عما استدللتم به.
فأما المقام الأول: فقد قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ﴾ [الحجرات:13] وهذا خطاب للإنسان الذي هو روح وبدن فدل على أن جملته مخلوقة بعد خلق الأبوين وأصرح منه قوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:1] الآية، وهذا صريح في أن خلق جملة النوع الإنساني بعد خلق أصله.
فإن قيل: فهذا لا ينفي تقدم خلق الأرواح على أجسادها وإن خلقت بعد خلق أبي البشر كما دلت عليه الآثار المتقدمة.
قيل: سنبين إن شاء اللّه تعالى أن الآثار المذكورة لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا. وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها، وقدر كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد، ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله أبو محمد بن حزم، فهل تحمل الآثار ما لا طاقة لها به؟ نعم، الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا، فيجي ء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق، كشأنه تعالى في جميع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص منه.
فالآثار المذكورة إنما تدل على إثبات القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم له بالربوبية وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية، فمن قاله من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الآية، والآية لم تدل على هذا بل دلت على خلافه.
و أما حديث مالك فقال أبو عمر: هو حديث منقطع، مسلم بن يسار لم يلق عمر بن الخطاب، وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة، وهو أيضا مع الإسناد لا يقوم به حجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، قيل: إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري. قال ابن أبي خيثمة: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا عن زيد بن أبي أنيسة فكتب بيده على مسلم بن يسار «لا يعرف».
ثم ساقه أبو عمر من طريق النسائي (أخبرنا) محمد بن وهب حدثنا محمد ابن سلمة قال: حدثني أبو عبد الرحيم قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة. ثم ساقه من طريق سخبرة (حدثنا) أحمد بن عبد الملك بن واقد، حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم، قال أبو عمر: وزيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة أن الذي لم يذكره حفظ، وإنما الزيادة من الحافظ المتقن.
و جملة القول في هذا الحديث: أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم ابن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره جماعة يطول ذكرهم.
و مراد أبو عمر الأحاديث الدالة على القدر السابق، فإنها هي التي ساقها بعد ذلك، فذكر حديث عبد اللّه بن عمر في القدر وقال في آخره: وسأله رجل من مزينة أو جهينة، فقال: يا رسول اللّه ففيم العمل؟ فقال: «إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار».
قال: وروى هذا المعنى في القدر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعبد اللّه بن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو سريحة الغفاري وعبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن عمرو وعمران بن حصين وعائشة وأنس بن مالك وسراقة بن جعشم وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت، وأكثر أحاديث هؤلاء لها طرق شتى ثم ساق كثيرا منها بإسناده.
و أما حديث أبي صالح عن أبي هريرة فإنما يدل على استخراج الذرية وتمثلهم في صور الذر، وكان منهم حينئذ المشرق والمظلم، وليس فيه أنه سبحانه خلق أرواحهم قبل الأجساد وأقرها بموضع واحد، ثم سل كل روح من تلك الأرواح عند حدوث بدنها إليه، نعم هو سبحانه يخص كل بدن بالروح التي قدر أن يكون له في ذلك الوقت، وأما أنه خلق نفس ذلك البدن في ذلك الوقت وفرغ من خلقها وأودعها مكان في معطلة عن بدنها حتى إذا أحدث بدنها أرسلها إليه من ذلك المكان فلا بدل شي ء من الأحاديث ذلك البتة لمن تأملها.
و أما حديث أبي بن كعب فليس هو عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وغايته: لو صح، ولم يصح أن يكون من كلام أبي وهذا الإسناد يروي به أشياء منكرة جدا مرفوعة وموقوفة، وأبو جعفر الرازي وثق وضعف، وقال علي بن المديني: كان ثقة، وقال أيضا: كان يخلط، وقال ابن معين: هو ثقة، وقال أيضا:
يكتب حديثه إلا أنه يخطئ، وقال الإمام أحمد: ليس بقوي في الحديث، وقال أيضا: صالح الحديث، وقال الفلاس: سيئ الحفظ، وقال أبو زرعة: يهم كثيرا، وقال ابن حيان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
قلت: ومما ينكر هذا الحديث قوله: فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فدخل في فيها. ومعلوم أن الروح الذي أرسل إلى مريم ليس هو روح المسيح بل ذلك الروح [الذي] 1 نفخ فيها فحملت بالمسيح قال تعالى:
﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم:17]﴿قَالَتۡ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيࣰّا ١٨ قَالَ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰمࣰا زَكِيࣰّا ١٩﴾ [مريم:18–19] فروح المسيح لا يخاطبها عن نفسه بهذه المخاطبة قطعا، وفي بعض طرق حديث أبي جعفر هذا أن روح المسيح هو الذي خاطبها وهو الذي أرسل إليها.
و هاهنا أربع مقامات:
- أحدها: أن اللّه سبحانه وتعالى استخرج صورهم وأمثالهم فميز شقيهم وسعيدهم ومعافاهم ومبتلاهم.
- والثاني: أن اللّه سبحانه أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته.
- الثالث: أن هذا هو تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف:172].
- الرابع: أنه أقر تلك الأرواح كلها بعد إخراجها بمكان وفرغ من خلقها، وإنما يتجدد كل وقت إرسال جملة منها بعد جملة إلى أبدانها.
فأما المقام الأول فالآثار متظاهرة به مرفوعة وموقوفة.
و أما المقام الثاني فإنما أخذ من أخذه من المفسرين من الآية، وظنوا أنه تفسيرها، وهذا قول جمهور المفسرين من أهل الأثر، وقال أبو إسحاق: جائز أن يكون اللّه سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل:18]. وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير.
و قال ابن الأنباري: مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن اللّه أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر، فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد، والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت.
و قال الجرجاني: ليس بين قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته» وبين الآية اختلاف بحمد اللّه؛ لأنه عز وجل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم لذريته، بعضهم من بعض وقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أي عن الميثاق المأخوذ عليهم، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق. قال: وفي هذا دليل على التفسير الذي جاءت به الرواية من أن اللّه تعالى قال للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا. قال: وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد، لأن الأرواح هي التي تعقل وتفهم، ولها الثواب وعليها العقاب، والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم، قال: وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، وذكر أنه قول أبي هريرة، قال إسحاق: وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم، قال الجرجاني:
و احتجوا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ [آل عمران:169] والأجساد قد بليت [و اضمحلت] 2 في الأرض والأرواح ترزق وتفرح، وهي التي تلد وتألم وتفرح وتحزن وتعرف وتنكر، وبيان ذلك في الأحلام موجود، وأن الإنسان يصبح وأثر لذة الفرح وألم الحزن باق في نفسه مما تلاقي الروح دون الجسد، قال: وحاصل الفائدة في هذا الفصل أنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفي العالم، وبالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها، غير أنه عز وجل لا يطالب أحدا منهم من الطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة وركب فيهم من القدرة وآتاهم من الأدلة. وبين سبحانه ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجوز في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسأل عما يفعل، له الخلق والأمر، تبارك اللّه رب العالمين.
هامش