الروح/المسألة السادسة عشرة/فصل الرد على أنه لو ساغ الإهداء للميت لجاز للحي
وأما قولكم لو ساغ الإهداء إلى الميت لساغ إلى الحي فجوابه من وجهين!
أحدهما: أنه قد ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، قال القاضي: وكلام أحمد لا يقتضي التخصيص بالميت، فإنه قال يفعل الخير ويجعل نصفه لأبيه وأمه لم يفرق. واعترض عليه أبو الوفاء بن عقيل وقال: هذا فيه بعد، وهو تلاعب بالشرع، وتصرف في أمانة اللّه، وإسجال على اللّه سبحانه بثواب على عمل يفعله إلى غيره، وبعد الموت قد جعل لنا طريقا إلى إيصال النفع كالاستغفار والصلاة على الميت.
ثم أورد على نفسه سؤالا وهو فإن قيل: أ ليس قضاء الدين وتحمل الكل حال الحياة كقضائه بعد الموت فقد استوى ضمان الحياة وضمان الموت في أنهما يزيلان المطالبة عنه، فإذا وصل قضاء الديون بعد الموت وحال الحياة فاجعلوا ثواب الإهداء واصلا حال الحياة بعد الموت.
و أجاب عنه بأنه: لو صح هذا وجب أن تكون الذنوب تكفر عن الحي بتوبة غيره عنه ويندفع عنه مآثم الآخرة بعمل غيره واستغفاره.
قلت: وهذا لا يلزم بل طرد لك انتفاع الحي بدعاء غيره له، واستغفاره له، وتصدقه عنه، وقضاء ديونه، وهذا حق، وقد أذن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أداء فريضة الحج عن الحي المعضوب والعاجز وهما حيان.
و قد أجاب غيره من الأصحاب بأن حال الحياة لا نثق بسلامة العاقبة خوفا أن يرتد المهدى له فلا ينتفع بما يهدى إليه.
قال ابن عقيل: وهذا عذر باطل بإهداء الحي فإنه لا يؤمن أن يرتد ويموت فيحبط عمله كله ومن جملته ثواب ما أهدي إلى الميت.
قلت: هذا لا يلزمهم، وموارد النص والإجماع تبطله وترده، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن في الحج والصوم عن الميت، وأجمع الناس على براءة ذمته من الدين إذا قضاه عنه الحي مع وجود ما ذكر من الاحتمال.
و الجواب أن يقال: ما أهداه من أعمال البر إلى الميت فقد صار ملكا له، فلا يبطل بردة فاعله بعد خروجه عن ملكه، كالتصرفات التي تصرفها قبل الردة من عتق وكفارة، بل لو حج عن معضوب ثم ارتد بعد ذلك لم يلزم المعضوب أن يقيم غيره بحج، فإنه لا يؤمن في الثاني والثالث ذلك.
على أن الفرق بين الحي والميت أن الحي ليس بمحتاج كحاجة الميت إذ يمكنه إن يباشر ذلك العمل أو نظيره، فعليه اكتساب الثواب بنفسه وسعيه بخلاف الميت.
و أيضا فإنه يقضي إلى اتكال بعض الأحياء على بعض، وهذه مفسدة كبيرة، فإن أرباب الأموال إذا فهموا ذلك واستشعروه استأجروا من يفعل ذلك عنهم، فتصير الطاعات معاوضات، وذلك يفضي إلى إسقاط العبادات والنوافل، ويصير ما يتقربه به إلى اللّه يتقرب به إلى الآدميين، فيخرج عن الإخلاص، فلا يحصل الثواب لواحد منهما.
و نحن نمنع من أخذ الأجرة عن كل قربة، ونحبط بأخذ الأجر عليها كالقضاء، والفتيا، وتعليم العلم، والصلاة، وقراءة القرآن وغيرها، فلا يثبت اللّه عليها إلا المخلص الذي أخلص العمل لوجهه، فإذا فعله للأجرة لم يثب عليه الفاعل ولا المستأجر، فلا يليق بمحاسن الشرع أن تجعل العبادات الخالصة له معاملات يقصد بها المعاوضات والأكساب والدنيوية. وفارق قضاء الديون وضمانها فإنها حقوق الآدميين ينوب بعضهم فيها عن بعض، فلذلك جازت في الحياة وبعد الموت.
هامش