الصواعق المرسلة/الفصل الرابع عشر

الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة المؤلف ابن قيم الجوزية
الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال



الفصل الرابع عشر

في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال


لما جعل الله سبحانه نوع الإنسان يحتاج بعضه إلى بعض فلا يمكن لإنسان أن يعيش وحده بل لا بد له من مشارك ومعاون من بني جنسه كما قيل الإنسان مدني بالطبع وكان لا يعرف كل منهم ما يريد صاحبه من الأفعال والتروك إلا بعلامة تدل على ذلك وتلك العلامة إما تحريك جسم من الأجسام المنفصلة عنه أو تحريك بعض أعضائه فيجعل لكل معنى حركة خاصة ومعلوم أن في الأول من العسر والمشقة وعدم الإحاطة بالتعريف ما يمنع وضعه فكان تحريك الأعضاء أسهل وأدل وأعم وكانت حركة الأعضاء نوعين نوع للبصر ونوع للأذن والذي للأذن أعم والإنسان إليه أحوج وكان أولى هذه الأعضاء بأن يجعل حركاتها دالة معرفة هو اللسان لأن حركته أخف وأسهل وتنوعها أعظم وأكثر من تنوع حركة غيره وترجمته عما في القلب أظهر من ترجمة غيره ويتمكن المعرف بحركاته من حركات مفردة ومؤلفة يحصل بها من الفرق والتمييز ما لا يحصل بغيره كان أقرب الطرق إلى هذا المقصد هو الكلام الذي جعله الله سبحانه في اللسان وجعله دليلا على ما في الجنان وجعل ذلك من دلائل ربوبيته ووحدانيته وكمال علمه وحكمته.

قال الله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } 1 وقال تعالى { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } 2

وقال الشاعر

إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

هكذا قال الشاعر هذا البيت وهكذا هو في ديوانه. قال أبو البيان أنا رأيته في ديوانه كذلك فحرفه عليه بعض النفاة وقالوا:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا

والمقصود أن العبد لا يعلم ما في ضمير صاحبه إلا بالألفاظ الدالة على ذلك فإذا حمل السامع كلام المتكلم على خلاف ماوضع له وخلاف ما يفهم منه عند التخاطب عاد على مقصود اللغات بالإبطال ولم يحصل مقصود المتكلم ولا مصلحة المخاطب وكان ذلك أقبح من تعطيل اللسان عن كلامه. فإن غاية ذلك أن تفوت مصلحة البيان وإذا حمل على ضد مقصوده فوت مصلحة البيان وأوقع في ضد المقصود ولهذا قال بعض العقلاء اللسان الكذوب شر من لسان الأخرس لأن لسان الأخرس قد تعطلت منفعته ولم يحدث منه فساد ولسان الكذوب قد تعطلت منفعته وزاد بمفسدة الكذب فالمتكلم بما ظاهره وحقيقته ووضعه باطل وضلال وهو يريد به أن يفهم منه خلاف وضعه وحقيقته أضر على المخاطب ولسان الأخرس أقل مفسدة منه فترك وضع اللغات أنفع للناس من تعريضها للتأويل المخالف لمفهومها وحقائقها وهكذا كل عضو خلق لمنفعة إذا لم يحصل منه إلا ضد تلك المنفعة كان عدمه خيرا من وجوده.

يوضح ذلك أن المتكلم بكلام له حقيقة وظاهر لا يفهم منه غيره مريد بكلامه خلاف حقيقته وما يدل عليه ويفهم منه فإذا ادعى أني أردت بكلامي خلاف ظاهره وما يفهم منه كان كاذبا إما في دعوى إرادة ذلك أو في دعوى إرادة البيان والإفهام فحمل كلامه على التأويل الباطل تكذيب له في أحد الأمرين ولا بد. ولهذا كان التأويل الباطل فتحا لباب الزندقة والإلحاد وتطريقا لأعداء الدين على نقضه وبيانه بذكر.


هامش

  1. [الرحمن4-1]
  2. [البلد10-8]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة