الصواعق المرسلة/الفصل الرابع والعشرون/الطاغوت الثاني/العشر الثامنة عشر


فصل الطريق الرابع والعشرون (الوجه الحادي و السبعون بعد المائة ): أنه قد دل البرهان الضروري والعقل الصريح على استغنائه سبحانه بنفسه وأنه الغني بذاته عن كل ما سواه فغناه من لوازم ذاته ولا يكون غنيا على الإطلاق إلا إذا كان قائما بنفسه إذ القيام بالغير يستلزم فقر القائم إلى ما قام به وعدم القيام بالنفس وبالغير يستلزم العدم فصح ضرورة وجوب قيامه بنفسه وهذا حقيقة المباينة ونفي المباينة والمداخلة كنفي القيام بالنفس وبالغير ولا تتصور العقول قط قائما بنفسه مع قائم بنفسه إلا إذا كان مباينا له أو محايثا والفرق بين هذا الوجه وبين الاستدلال بقيامه بنفسه أن ذاك استدلال بالقيام بالنفس وهذا استدلال بغناه المستلزم للأمرين.

فصل الطريق الخامس والعشرون (الوجه الثاني و السبعون بعد المائة ): أنه قد ثبت بالعقل إمكان رؤيته سبحانه وبالشرع وقوعها في الدار الآخرة فاتفق العقل والشرع على إمكان الرؤية ووقوعها وقد ذكرنا في كتاب صفة الجنة أربعين دليلا على مسألة الرؤية من الكتاب والسنة والعقل الصريح شاهد بذلك فإن الرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود وما كان أكمل وجودا كان أحق بأن يرى فالباري سبحانه أحق بأن يرى من كل ما سواه لأن وجوده أكمل من وجود كل ما سواه يوضحه أن تعذر الرؤية إما لخفاء المرئي وإما لآفة وضعف في الرائي والرب سبحانه أظهر من كل موجود وإنما تعذرت رؤيته في الدنيا لضعف القوة الباصرة عن النظر إليه فإذا كان الرائي في دار البقاء كانت قوة الباصرة في غاية القوة لأنها دائمة فقويت على رؤيته تعالى وإذا جاز أن يرى سبحانه فالرؤية المعقولة عند جميع بني آدم عربهم وعجمهم وتركهم وسائر طوائفهم أن يكون المرئي مقابلا للرائي مواجها له مباينا عنه لا تعقل الأمم رؤية غير ذلك وإذا كانت الرؤية مستلزمة لمواجهة الرائي ومباينته للمرئي لزم ضرورة أن يكون مرئيا له من فوقه أو من تحته أو عن يمينه أو عن شماله أو خلفه أو أمامه وقد دل النقل الصريح على أنهم إنما يرونه سبحانه من فوقهم لا من تحتهم كما قال بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم فقال يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ قوله { سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } 1 ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم فلا يجتمع الإقرار بالرؤية وإنكار الفوقية والمباينة لهذا ولهذا الجهمية المغل تنكر علوه على خلقه ورؤية المؤمنين له في الآخرة ومخانيثهم يقرون بالرؤية وينكرون العلو وقد ضحك جمهور العقلاء من القائلين بأن الرؤية تحصل من غير مواجهة للمرئي ومباينة له وقالوا هذا رد لما هو مركوز في أوائل العقول قال المنكرون الإنسان يرى صورته في المرآة وليست صورته في جهة منه قال العقلاء هذا تلبيس فإنه إنما يرى خيال صورته وهو عرض منطبع في الجسم الصقيل وهو في جهة منه ولا يرى حقيقة صورته القائمة به والذين قالوا يرى من غير مقابلة ولا مباينة قالوا مصحح الرؤية الوجود وكل موجود يصح أن يرى فالتزموا جواز رؤية الأصوات والروائح والعلوم والإرادات والمعاني كلها وجواز أكلها وشربها وشمها ولمسها فهذا منتهى عقلهم الذي عارضوا به الكتاب والسنة ثم قدموه عليهما وتقرير هذه المسألة له موضع آخر

فصل الطريق السادس والعشرون (الوجه الثالث و السبعون بعد المائة ): أنه قد ثبت بالعقل والنقل والفطرة أن الله سبحانه سميع بصير وهو سبحانه يرى كل المرئيات لا يخفى عليه منها شيء ورؤيته لخلقه تستلزم مباينته لهم ضرورة كما تقدم في الوجه الذي قبله فذاك استدلال بكونه مرئيا وهذا استدلال بكونه رائيا ولا يعقل واحد من الأمرين إلا مع مباينته لخلقه ولهذا لما علم منكرو العلو والفوقية أن هذا يلزمهم ولا بد قالوا لا يرى بالأبصار وإنما الحاصل في الآخرة مزيد علم ومعرفة به تسمى رؤية وطرد الجهمية هذا في رؤيته لخلقه فقالوا بصره ورؤيته هي علمه لا أن هناك بصرا حقيقة ورؤية حقيقة وأما مخانيثهم فتناقضوا فقالوا بل يبصر ويرى من غير مباينة للمرئي المبصر ولا مقابلة له فكانت فحولهم أقرب إلى العقل من هؤلاء وهؤلاء وإن تناقضوا تناقضا بينا فهم أقرب إلى الوحي بما أثبتوه من الرؤية وأبعد عنه مما نفوه من المباينة والعلو والطائفتان خارجتان عن حكم الوحي والعقل.

فصل الطريق السابع والعشرون (الوجه الرابع و السبعون بعد المائة ): إن كل من أثبت الصفات أو شيئا منها لزمه إثبات المباينة وإلا تناقض غاية التناقض فإن الصفات نوعان أحدهما ما له تعلق بالمخلوق كالقدرة والمشيئة والرحمة والعلم والسمع والبصر والثاني ما لا يتعلق به كالصفات اللازمة كالحياة والجمال وإثبات النوعين يستلزم المباينة أما النوع الأول فلأن تعلق تلك الصفات بمتعلقاتها لا تعقل إلا مع ثبوت المباينة بينهما وبين تلك المتعلقات كمباينة العلم للمعلوم والقدرة للمقدور والسمع للمسموع فلو قيل صفة السمع ليست مباينة للمسموع كان مكابرة وردا لأوائل العقول وبدائهها وإذا لزم من تحقق الصفة وإمكان تعلقها بمتعلقها مباينتها له فهذه المباينة تابعة لمباينة الذات فإن الصفة لا تقوم بنفسها فإذا باين العلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة لمتعلقاتها بمعنى انفصالها عنه فمباينة الذات أولى وهذا لا محيص عنه ويلزم من ثبوت هذه المباينة ثبوتها بين النوع الاخر وبين المخلوق بطريق الأولى.

فصل الطريق الثامن والعشرون (الوجه الخامس و السبعون بعد المائة ): أنهم إذا اعترفوا بقيام الصفات بالذات وأنها زائدة على الذات المجردة ولم يكن ذلك تجسيما ولا تركيبا يستلزم الحدوث بطلت كل شبهة لهم تمنع العلو والاستواء على العرش فإن مدارها على أن ذلك يستلزم التركيب والتجسيم وهو يستلزم الافتقار والحدوث وقد صرحوا هم بالتزام هذا القدر ولم ينكروه لأجل تسمية المعطلة له تركيبا وتجسيما وقالوا لخصومهم من نفاة الصفات التركيب خمسة أنواع أحدها تركيب الموجود من الوجود والماهية والثاني تركيب الحقيقة من الوجود والوجوب.

والثالث: تركيب الذات الموصوفة من الذات والصفات قالوا وهذه الأقسام الثلاثة لا تنافي وجوب الوجود ولا يتحاشى من إلقائها والدليل لا يدل على بطلانها لأن الدليل إنما دل على انتهاء الممكنات إلى واجب بذاته لا علة له ولم يدل على أنه لا ماهية له ولا صفة له.

والرابع: من التركيب تركب الجسم من الجواهر الفردة.

والخامس: تركبه من المادة والصورة عند من يقول بهذا وهذا ولا ريب أنه يمتنع وجود موجود قائم بنفسه بدون ثبوت الأقسام الثلاثة الأولى وتسميتهم لذلك تركيبا خطأ وكذب على اللغة وإن قالوا نحن اصطلحنا على تسميته تركيبا قيل فلا ترتفع بسبب اصطلاحكم المتضمن للتلبيس والإيهام الحقائق الموجودة والمعاني العقلية ولا تنكر بتشبيه علم الرب وحياته وقوته وسمعه وبصره وكلامه وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه فإنه ليس في العقل ما ينفي ذلك بل العقل الصريح يصدق السمع الدال على إثبات صفات الرب سبحانه ومباينته لمخلوقاته والعقل أثبت موجودا واجبا بنفسه غنيا عما سواه وأما كون ذلك الموجود مجردا عن الصفات الثبوتية لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات العدمية فالعقل لا يدل على ذلك بل يدل على خلافه كما يدل السمع.

فصل الطريق التاسع والعشرون (الوجه السادس و السبعون بعد المائة ): أن يقال ما أثبته هؤلاء المعطلة من المباينة لا يبطل الحلول والاتحاد فإنهم أثبتوا مباينة في المفهوم كمباينة طعم التفاحة للونها وريحها وشكلها ومعلوم أن هذه المباينة لا تقتضي انفصال كل من المتباينين من الآخر بل هي ثابتة مع قيام هذه الصفات كلها بمحل واحد وهذه المباينة معناها أن هذا غير هذا وهذا القدر الذي أثبته النفاة من المباينة لا ينافي كونه حالا في غيره ولا حلول غيره فيه ولا تقتضي قيامه بنفسه ولا انفصال ذاته عن ذات خلقه بل ولا يقتضي تنزيهه عن التشبيه والتمثيل وأما المباينة التي دل عليها العقل والنقل والفطرة فأعظم من ذلك فإنها مباينة تستلزم تفرده بصفات كماله ونعوت جلاله وكونه أعظم من كل شيء وفوق كل شيء وعاليا على كل شيء وأن يكون هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء فباين خلقه بذاته وصفاته وأفعاله وأوليته وآخريته ووجوب وجوده وامتناع عدمه وكثرة أوصافه التي ليس كمثله فيها شيء فهو العليم الذي ليس كمثله شيء في علمه البصير الذي ليس كمثله شيء في بصره القدير الذي ليس كمثله شيء في قدرته الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء في حياته وقيوميته العلي الذي ليس كمثله شيء في علوه بل هو منفرد بذاته وصفاته عن مماثلة مخلوقاته فله أعظم المباينة وأجلها وأكملها كما له من كل صفة كمال أعظمها وأكملها فهذه هي المباينة التي لا يليق به غيرها فأثبت له النفاة المعطلة مباينة لا حقيقة لها ولا ترجع إلى أمر وجودي بل المباينة التي أثبتوها من جنس مباينة العدم للوجود والمباينة التي أثبتها لنفسه مباينة فوق كل مباينة.

فصل الطريق الثلاثون (الوجه السابع و السبعون بعد المائة ): إنه لو لم يكن مباينا للعالم لزم أحد أمور ثلاثة قد قال بكل منها قائل أحدها أن يكون هو هذا العالم كما قال أهل وحدة الوجود والذي قادهم إلى هذا القول هو نفي المباينة كأن قلوبهم وفطرهم طلبت معبودا فلما اعتقدوا أنه غير مباين للعالم وتيقنوا أنه موجود قائم بنفسه قالوا فهو هذا العالم بعينه الثاني قول من يقول بل هو حال في العالم وهو قول الحلولية الثالث قول من يقول لا هو العالم ولا هو حال فيه ولا بائن عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه وهو قول الجهمية ومعلوم أنه إذا عرض على العقول الصحيحة هذه الأقوال الأربعة علمت أن الصواب منها القول بأنه سبحانه بائن من خلقه وإذا كان القولان الآخران مخالفين لصريح العقل فالقول الثالث أشد مخالفة لصريح العقل منهما لأنه يتضمن نفي النقيضين وإن كان ممكنا في العقل فالقولان أقرب إلى الإمكان منه. فإما أن يكون واجبا والقولان مخالفان للعقل فهذا تحكم باطل.

فهذه ثلاثون طريقا مضافة إلى الوجه السابع والأربعين بعد المائة في بيان عدم معارضة العقل للنقل وبيان موافقتهما وتطابقهما وحينئذ فنقول في

الوجه الثامن والسبعين بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم وعقولهم تتضمن معارضتهم الفرية على الوحي والعقل واللغة والفطرة وإفسادها.

أما فريتهم على الوحي فإنهم متى اعتقدوا معارضة العقل له لزمهم أحد أمرين باطلين إما أن يقولوا إن الرسل أرادوا من الناس اعتقاد الباطل وخلاف الصواب أو أنهم أتعبوهم غاية التعب وكلفوهم أعظم الحرج وهو اعتقاد خلاف ما دلت عليه النصوص ومعرفة الحق بعقولهم وفطرهم والاجتهاد في صرف ألفاظ الوحي عن حقائقها وظواهرها المفهومة منها وبيان ذلك أنهم إما أن يريدوا منهم اعتقاد الظاهر أو يريدوا منهم خلافه فإن أرادوا الأول وهو باطل عند النفاة فقد أرادوا منهم اعتقاد الباطل وإن أرادوا الثاني لزمت تلك المفاسد العظيمة وعلى التقديرين فلا يكونون قد بينوا الحق ولا هدوا الخلق.

وأما فريتهم على العقل فإنهم جاءوا إلى المقدمات الفطرية التي فطر الله عليها عباده فجعلوها من حكم الوهم والخيال وجاءوا إلى المقدمات الباطلة فجعلوها من أ ; كام العقل فافتروا على العقل في النفي والإثبات.

وأما فريتهم على الفطرة فإن الله فطر عباده على الإقرار بعلوه كما فطرهم على الإقرار بأنه ربهم وخالقهم فغيروا الفطرة وأفسدوها بإنكار ذلك.

وأما فريتهم على اللغة فإنهم أزالوا دلالة الألفاظ الدالة على ذلك دلالة صريحة لا يحتمل غير معناها عن مواضعها وأنشأوا لها معاني أخر حملوها عليها لقطع من له إلف بتلك اللغة أن المتكلم لم يرد بتلك الألفاظ ما ذكروه من المعاني كما حملوا قوله { يخافون ربهم من فوقهم } 2 على معنى قول القائل الذهب فوق الفضة والمسك فوق العنبر أي في القيمة والقدر ومعلوم أن هذا التركيب الخاص لا يحتمل هذا المعنى في لغة أمة من الأمم ولا يجوز أن يراد باللفظ وكذلك قوله: "إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب" فمثل هذا اللفظ إذا حمل على غير معناه الظاهر لكل أحد كان فرية على اللغة كما هو فرية على المتكلم به وعامة تأويلات النفاة المعطلة من هذا الباب لمن تدبرها ورزق هداية وإنصافا وأما الأعمى المتبع هواه فكما قال الله عز وجل { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } 3

الوجه التاسع والسبعون بعد المائة: إن المعارضين للوحي بعقولهم في الأصل هم أعداء الرسل المكذبون لهم كما تقدم ودونهم طوائف الجهمية المعطلة وملاحدة الصوفية وزنادقة الباطنية وخونة الولاة وظلمتهم فالجهمي يقول قال لي عقلي وملاحدة المتصوفة يقول قائلهم قال لي قلبي وزنادقة الباطنية يقولون لكل شيء تأويل وباطن يعلمه أهل الباطن وينكره أهل الظاهر وخونة الولاة يقولون لا تستقيم أمور الرعية إلا بهذه السياسة ولو وكلناهم إلى الشريعة لفسدت أمورهم ولقد وقعت على فصل من كلام أبي الوفاء بن عقيل في ذلك قال المتكلمون دققوا النظر بأدلة العقول فتفلسفوا والصوفية اهتموا بالمتوهمات على واقعهم فتكهنوا لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم والكهان اعتمدوا على ما يلقى إليهم من الاطلاع وهم جميعا خوارج على الشرائع هذا يتجاسر أن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول بمقتضى ما يزعم أنه حكم العقل وهذا يقول قال لي قلبي عن ربي فلا على هؤلاء أصبحت ولا على هؤلاء أمسيت لا كان مذهب جاء على غير طريق السفراء والرسل ولا نفق فقد طبع على غير السكة النبوية هل يعلم للصوفية عمل في إباحة دم أو فرج أو تحريم معاملة أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق أو تصيب للمتوهمة فتاوى وأحكاما إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء هؤلاء يروون أحاديث الشرع وينفون الكذب عن النقل ويحمون النقل عن الاختلاف والغلط وهؤلاء ينفون عن الأخبار تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وهؤلاء هم الذين عدلهم النبي بقوله يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله فهم العدول على سائر الطوائف فقبل قولهم على الناس ولا يقبل قول الناس عليهم والخارج عن هؤلاء وإن خفقت بنوده وكثرت جموعه وسعى حتى ضرب له الدرهم والدينار وخطب باسمه على رؤوس المنابر لا تكون أموره إلا على المغالطة والمجالسة لأنه كالخارج على الملك الذي دانت له الرعايا ونفذ حكمه في البلاد فالخارج عليه لا يزال خائفا مستوحشا يخشى من أن يقابله الملك بقتال أو يصافه بحرب لأن في نفس الخارجي بقية من الحماس الباطل والملك وإن قلت جموعه فعنده صولة الحق وهيبة الملك ولذلك الغريب المداوي للناس بزعمه مع الطبيب المقيم هذا مجتاز يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال ويضع على الأمراض الأدوية الحارة العاملة بسرعة فيأخذ الخلعة والعطية لسكون الألم وإزالة المرض ويصبح على أرض أخرى ومنزل بعيد فطبه مجازفة لأنه يأمن المعاتبة والمواقعة والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المركبة دون الحارة لأن الحارة من الأدوية وإن عجلت سكون الآلام فإنها غير مأمونة الغوائل ولا سليمة العواقب لأن ما يعطي الأدوية الحارة من السكون إنما هو لغلبة المرض وحينما غلبت الأمراض أوهشت قوى المحل الذي حلت به فهو كما قيل الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه كذلك كلما أحد الصابون وجاد أخلق الثوب فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن الاستقصاء في إزالة الشبهة لأنهم عن النقل يتكلمون وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويحققون فهم حال الأجوبة ينظرون في العواقب والمبتدعة والمتوهمة يهجمون فعلومهم فرح ساعة ليس لها ثبات فإن اشتبه على قوم ما دله جهال الصوفية عليهم من الأخذ بقوله في أمتي محدثون وملهمون وعمر منهم قيل لو نطق عمر برأيه ما نطق ولم يصدقه الوحي لم يلتفت إلى واقعاته وما يحدث به ولا يبنى الشرع والأحكام على فراسته ألا ترى إلى قول من هو خير منه أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي سبحان الله العظيم يقول الصديق هذا وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد على شمعة ويأكل من الحرام شبعة ويسمع الغناء في مجالس المردان من النساء الأجانب والصبيان تهزه الأشعار الخماريات وتثقل عليه الآيات البينات يرقص على ذكر المليح والمليحة طلبا ورغبا ويتواجد على المواصيل والألحان طربا قد اتخذ دينه لهوا ولعبا تقرب أولياء الله إليه بالقرآن وتقرب هو باستماع المعازف والألحان مفتون في نفسه فاتن لأشباهه وبني جنسه فإذا لمت أحدهم قال أنا خير أم الشيخ فلان وذاك لعمرو الله من أولياء الشيطان قد نصبه شبكة يصطاد به جهلة العوام ويحتج به على أشباه الأنعام فما أعظم على الناس فتنته وما أشد على الدين محنته يقول أتباعه المفتونون وحزبه المغرورون نسلم إلى الشيخ طريقته وأي طريقة مع الشرع هل أبقت الشريعة لقائل مقالا أو لمتصرف بعدها مجالا وهل جاءت إلا بهدم العوائد ونقض الطرائق ما على الشريعة أضر من مبتدعة المتكلمين وجهلة المتصوفين هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات وشبهات تشبه المعقول وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأزمان يحبون البطالات والاجتماعات على اللذات وسماع أصوات المشوشات للمعايش والطاعات أولئك يجرئون الشباب والأحداث على البحث وكثرة السؤال والاعتراضات وتتبع الشرع بالمعارضات والمناقضات وما عرفنا للسلف الصالح أحوال أولئك البطالين أصحاب الشهوات ولا أحوال هؤلاء المتكلمين أرباب الشبهات بل كانوا عبيد إيمان وتسليم عن معرفة تامة وبصيرة نافذة وجد وتشمير في الطاعات فنصيحتي لإخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبصار قلوبهم كلام المتكلمين ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين بل الشغل بالمعائش أولى من بطالة المتصوفة والوقوف على النصوص أولى من شبهات المتخيلة المتوهمة وقد خبرت طريق الفريقين غاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح قال والمتكلمون عندي خير من المتصوفة لأن المتكلمين مؤداهم مع التحقيق مزيد الشكوك في حق بعض الأشخاص ومؤدي المتصوفة إلى توهم الإشكال والتشبيه وهو الغاية في الإبطال بل هو حقيقة المحال.

ما يسقط المشايخ من عيني وإن نبلوا عند الناس أقدارا وأنسابا وعلوما وأخطارا إلا قول العاقل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع عادتنا كذا يشير إلى طريقة قد قننوها لأنفهسم تخرج عن سمت الشرع قد اختلقوا طريقة واستحدثوا رسوما وكل مختلق مستحدث فبدعة والاستمرار على ترك السنن خذلان قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل عن رجل استمر على ترك الوتر هذا رجل سوء إياك أن تتبع شيخا يقتدي بنفسه ولا يكون له إمام يعزى إليه ما يدعوك إليه ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير . الله الله، الثقة بالأشخاص ضلال والركون إلى الآراء ابتداع اللين والانطباع في الطريقة مع السنة أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة لا تتقرب إلى الله تعالى بالامتناع مما لم يمنع منه كما لا تتقرب إليه بعمل مالم يأذن فيه.

أصحاب الحديث رسل السفير إلينا والفقهاء تراجم لمعاني كلامه ولا يتم اتباع إلا بمنقول ولا فهم منقول إلا بترجمان وما عداهما تكلف لا يفيد إلا التعب والعناء وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله نقلة وفقهاء ولا يعرف فيهم ثالث إلا أصحاب المعاش والتجارات لا مشايخ ربط ولا مناخات البطالات ولا أصحاب زوايا ينتظرون الفتوحات ولا رقاصون على الغناء والأصوات المطربات ولا متكلمون بالتخيلات والشبهات ولا بالشطحات والتوهمات ولا بالكلمات الخمس والمقولات العشر والموجهات والمختلطات بل كانا بحبل الوحي معتصمين وبكتاب ربهم وسنة نبيهم متمسكين وهو في قلوبهم أجل من أن تضرب له الأمثال أو تتقدم إليه آراء الرجال.

يا أصحاب المخالطات والمعاملات عليكم بالورع ويا أصحاب الزوايا والانقطاع عليكم بحسم مواد الطمع ويا أرباب العلم والنظر إياكم واستحسان طرائق أهل العلم والخدع ليست السنة بحب معاوية ويزيد ولا بمجرد حب أبي بكر وعمر ولا بإزعاج أعضائك بالصلاة على السفر ولا بالاكتحال يوم عاشوراء والتوسعة على العيال السنة تتبع طريق الرسول واقتفاء آثاره والوقوف عند مراسمه وحدوده من غير تقصير ولا غلو وأن لا يتقدم بين يديه ولا تختار لنفسك قولا لم يتبين لك أنه جاء به فالسنة مقابلة أوامره بالامتثال ونواهيه بالانكفاف وأخباره بالتصديق ومجانبة الشبه والآراء وكل ما خالف النقل وإن كانت له حلاوة في السمع وقبول في القلب ليست القلوب والعقول والآراء معيارا على الشرع ليس لله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه وعن رسوله وما أحدثوا وعولوا على ما رووا لا على ما رأوا الوقوف مع النقل مقام الصديقين وورثة النبيين والمرسلين هذه نصيحتي لنفس ولإخواني من المؤمنين. فهذا كلام من دخل مع المتكلمين إلى غايتهم ووقف على نهايتهم وخبر الكلام وقلاه وعرف مداه ومنتهاه وقد تقدم حكاية كلام معاصره ومناظره أبي حامد الغزالي في ذم الكلام وهما من أعلم أهل عصرهما بمذاهب المتكلمين.

الوجه الثمانون بعد المائة: إنه من المعلوم عند جميع العقلاء أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هم أعقل الخلق وعقولهم أكمل العقول ولهذا كان ما جاءوا به فوق عقول البشر ولهذا حصل على أيديهم من الخير مالم يحصل على أيدي سواهم وصلح من أحوال النفوس والقلوب وعمارتها بالخير وتزكيتها بالعلم والعمل مالم يحصل لأحد غيرهم فعمارة القلوب والدنيا والآخرة على أيديهم وكل فساد في العالم عاما وخاصا فإنما سببه العدول عما جاءوا به ومخالفتهم فإذا استقريت جميع الشرور التي في العالم جزئياتها وكلياتها وكل فتنة وبلية ورزية رأيت سببها معصيتهم وكل خير ونعمة في الدنيا والآخرة فسببه طاعتهم واستقر هذا من زمن نوح إلى ساعتك التي أنت فيها وما عذبت به الأمم من أنواع العذاب وما جرى على هذه الأمة حتى ما أصيب به المسلمون مع نبيهم يوم أحد كان سببه معصية أمره وللعاقل البصير عبرة في نفسه وأحواله خاصة فهذا شأن هذه العقول الزاكية الكاملة وشأن من خلقهم بمعقوله وإذا كان هذا التفاوت بين عقولهم وعقول الناس في الأمور المتعلقة بالإرادات والأعمال والحب والبغض فما الظن بالتفاوت الذي بين عقولهم وعقول الناس في العلوم والمعارف فما الظن بما يتعلق بمعرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وشأنه ويالله العجب كيف يقدم قول من يقول قال لي عقلي عن ابن سينا والفارابي وارسطاطاليس وأشباههم أو عن أبي الهذيل العلاف والشحام والنظام وأضرابهم أو عمن تلقى عن هؤلاء على قول من يقول قال لي جبريل عن رب العالمين فالرسول يقول قال لي ربي وهذا المعارض يقول قال لي عقلي أو قال أرسطاطاليس ونحوه


هامش

  1. [يس58]
  2. [النحل50]
  3. [النور40]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة