الصواعق المرسلة/الفصل الرابع والعشرون/الطاغوت الثاني/العشر الثانية


الوجه الحادي عشر: إن الدليل الدال على صحة الشيء أو ثبوته أو عدالته أو قبول قوله لا يجب أن يكون أصلا له بحيث إذا قدم قول المشهود له والمدلول عليه على قوله يلزم إبطاله وهذا لا يقوله من يدري ما يقول غاية ما يقال إن العلم بالدليل أصل للعلم بالمدلول فإذا حصل العلم بالمدلول لم يلزم من ذلك تقديم الدليل عليه في كل شيء فإذا شهد الناس لرجل بأنه خبير بالطب أو التقويم أو العيافة دونهم ثم تنازع الشهود والمشهود له في ذلك وجب تقديم قول المشهود له فلو قال نحن شهدنا لكم وزكيناكم وبشهادتنا ثبتت أهليتكم فتقديم قولكم علينا والرجوع إليكم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولكم.

قالوا لهم أنتم شهدتم بما علمتم أنا أهل لذلك دونكم وأن أقوالنا فيه مقبولة دون أقوالكم فلو قدمنا قولكم على أقوالنا فيما اختلفنا فيه لكان ذلك قدحا في شهادتكم وعلمكم بأنا أعلم منكم وحينئذ فهذا

وجه ثاني عشر: مستقل بكسر هذا الطاغوت وهو أن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه وأنه لا نسبة له إليه وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي تعلق بالأصبع بالنسبة إلى البحر فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحا في شهادته وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع وهذا ظاهر لا خفاء به يوضحه

الوجه الثالث عشر: وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملكي والبشري بينه وبين عباده مؤيدا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة ويستحسنه تارة ويجوزه تارة ويكع عن دركه تارة ولا سبيل له إلى الإحاطة به ولا بد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول وهناك يسقط لم ويبطل كيف ويزول هلا ويذهب لو وليت في الريح لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة واعتراض المعترض عليه مردود واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سفه وجهل فالشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علما وعملا التي لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم يكنى لها إليها نسبة وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان فهي متكفلة بتعريف الخليقة ربها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه وكرامته والداعي لديه وتعريف حال السالكين بعد الوصول إليه ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الداعي إلى الباطل والطرق الموصلة إليه وحال السالكين تلك الطرق وإلى أين تنتهي بهم ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل وقابلتها بالتسليم والإذعان واستدارت حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها.

فبين ناصر باللغة السائغة وحام بالعقل الصريح وذاب عنه بالبراهين ومجاهد بالسيف والرمح والسنان ومتفقه في الحلال والحرام ومعني بتفسير القرآن وحافظ لمتون السنة وأسانيدها ومفتش عن أحوال رواتها وناقد لصحتها من سقيمها ومعلولها من سليمها فهي الشريعة ابتداؤها من الله وانتهاؤها إليه فمنه بدأت وإليه تعود ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك وهيآتها ومقادير الأجرام ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس والمقارنة ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها واشتباك الاستقصات وامتزاجها وقواها وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وما الفاعل منها وما المنفعل وكم درجاتها وإلى أين تسري قواها ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها وما الكرة وما الدائرة وما الخط المستقيم والمنحني ولا فيها هذيان المنطقيين وتحذلقهم في النوع والجنس والفصل والخاصة والعرض العام والمقولات العشر والمختلطات والموجهات الصادرة عن رجل مشرك من يونان كان يعبد الأوثان ولا يعرف الرحمن ولا يصدق بمعاد الأبدان ولا أن الله يرسل رسولا بكلامه إلى نوع الإنسان فجعل هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل عقل هذا الرجل عيارا على كتب الله المنزلة وما أرسل به رسله فما زكاه منطقه وآلته وقانونه الذي وضعه بعقله قبلوه وما لم يزكه تركوه ولو كانت هذه الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء وأتباعهم صحيحة لكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها ويكملها باستعمالها وكان الله سبحانه يثيبه عليها ويحض على التمسك بها ويتقدم إلى عباده بالتمسك بها وبعلمها وتعليمها ويفرض عليهم القيام بها.

فيا للعقول التي لم يخسف بها أين الدين من الفلسفة ؟ وأين كلام رب العالمين إلى آراء اليونان والمجوس وعباد الأصنام والصابئين وأين المعقولات المؤيدة بنور النبوة إلى المعقولات المتلقاة عن أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وأتباع هؤلاء ممن لا يؤمن بالله ولا صفاته ولا أفعاله ولا ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؟ وأين العلم المأخوذ عن الوحي النازل من عند رب العالمين من الشبه المأخوذة عن آراء المتهوكين والمتحيرين؟ فإن أدلوا بالعقل فلا عقل أكمل من عقول ورثة الأنبياء وإن أدلوا برؤسائهم وأئمتهم كفرعون ونمرود وبطليموس وأرسطاطاليس ومقلدتهم وأتباعهم فلم يزل أعداء الرسل يعارضونهم فهؤلاء وأمثالهم يقدمون عقولهم على ما جاءوا به ويالله العجب كيف يعرض قول الرسول بقول الفيلسوف وعلى الفيلسوف أن يتبع الرسل وليس على الرسل أن تتبع الفيلسوف فالرسول مبعوث والفيلسوف مبعوث إليه والوحي حاكم والعقل محكوم عليه ولو كان العقل يكتفي به لم يكن للوحي فائدة ولا غنى على أن منازل الخلق متفاوتة في العقل أعظم تفاوت وأبصارهم مختلفة وليس العقل بأسره في واحد من الناس أو طائفة معينة حتى يكون تقديم عقولهم على ما جاءت به الرسل بل لكل طائفة معقول مخالف معقول الأخرى فمن أظلم وأشد عداوة للرسل ممن جوز لكل طائفة من طوائف العقلاء أن يقدم عقولها على ما جاءت به الرسل فإن قالوا إنما نقدم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح الذي لا يختلف فيه اثنان وهذا وقد شهد الله وكفى به شهيدا وشهد بشهادته الملائكة وأولو العلم أن طريقة الرسل هي الطريقة البرهانية المتضمنة للحكمة كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ } 1 وقال { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ } 2 قالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي الناطقة بالرشد الداعية إلى الخير الواعدة بحسن المآب المبينة لحقائق الأنبياء المعرفة بصفات رب الأرض والسماء وأن التقليدية التخمينية الخرصية هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى التي ليس مع أصحابها إلا الرجوع إلى رجل من يونان كان يعبد الأوثان ويجحد الرحمن فوضع بعقله قانونا يصحح به بزعمه علوم الخلائق وعقولهم فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شيء من علوم بني آدم بل ما وزن به علم إلا أفسده وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان فما استفيد بهذا العقل العائل إلا تعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وعن أفعاله والكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ومن العجب أن هؤلاء الأوقاح جعلوا نصوص الأنبياء من باب الظنون وهي من الوحي وجعلوا كلمات المنطقيين وقواعد الفلاسفة والجهمية من باب اليقين ثم عارضوا بينهما وقدموا هذا على نصوص الأنبياء فالشريعة ظهرت من الله على لسان أكمل الخلق عقلا وأعظمهم معرفة وأتمهم يقينا وعقلياتكم ظهرت من جهة رجال فكروا وقدروا وظنوا وخرصوا وتعبوا وما أغنوا ونصبوا وما أخذوا وحاموا وما وردوا ونسجوا فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا. سافروا في درك المطالب العالية على غير الطريق فما ربحوا إلا أذى السفر وبعثوا في البلاد بغير دليل فلم يقفوا للمطلوب على عين ولا أثر.

رضوا بالدعاوى وابتلوا بخيالهم وخاضوا بحار الفكر والقوم ما ابتلوا

فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا

لهم كل وقت حيرة بعد حيرة وجهل على جهل فلا بورك الجهل

الوجه الرابع عشر: إن الأمة اختلفت ضروبا من الاختلاف في الأصول والفروع وتنازعوا فنونا من التنازع في المشكل من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والأخبار وتفرقت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافا وفرقا كالخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة فما فزعت طائفة من طوائف الأمة في اختلافها إلى منطق ولا فيلسوف ولا إلى عقل يخالف صريح النقل ولا قالت طائفة من هذه الطوائف عقولنا مقدمة على ما جاء به الرسول وإن أشقوا مذاهبهم بالتأويل بما جاء به فلم تقدم طائفة منهم على ما أقدمت عليه هذه الفرقة وقالوا العقل أولى بالاتباع مما جاء به الرسول ولا قالت فرقة من هذه الفرق لأصحاب هذه المعقولات أعينونا بما عندكم وأشهدوا لنا وعلينا بما قبلكم ولا حققت مقالتها بشهادتهم ولا استعانت بطريقتهم ولا وجدت عندها علما ومعرفة لم تجده في كتاب ربها وسنة نبيها وكما لم تجد أحدا من فرق هذه الأمة يفزع إلى أرباب هذه العقول في شيء من دينها فلذلك كانت أمة موسى وعيسى لم تعول على هؤلاء في شيء من أمر دينها بل ما زال أهل الملل يحذرون من هؤلاء أشد التحذير وينفرون منهم أشد التنفير علما بأنهم سوس الملل وأعداء الرسل وأنت إذا تأملت أصول الفرق الإسلامية كلها وجدتها متفقة على تقديم الوحي على العقل ولم يؤسسوا مقالاتهم على ما أسسها عليه هؤلاء من تقديم آرائهم وعقولهم على نصوص الوحي فإن هذا أساس طريقة أعداء الرسل فهم متفقون على هذا الأصل ومنهم أخذ وعنهم تلقي كما حكى الله سبحانه عنهم في كتابه أنهم عارضوا شرعه ودينه بآرائهم وعقولهم ولكن الفرق بينهم وبين هؤلاء أن أولئك جاهروا بتكذيب الرسل ومعاداتهم وهؤلاء أقروا برسالاتهم وانتسبوا في الظاهر إليهم ثم نقضوا ما أقروا به وقالوا يجب تقديم عقولنا وآرائنا على ما جاءوا به فهم أعظم ضررا على الإسلام وأهله من أولئك لأنهم انتسبوا إليه وأخذوا في هدم قواعده وقلع أساسه وهم يتوهمون ويوهمون أنهم ينصرونه.

الوجه الخامس عشر: إن التفاوت الذي بين الرسل وبين أرباب هذه المعقولات أعظم بكثير من التفاوت الذي بين هؤلاء وبين أجهل الناس على إلإطلاق فإن هذا الجاهل يمكنه مع الطلب والتعليم أن يصير عالما بما عند هؤلاء ولا يمكن أشد هؤلاء حرصا وذكاء وقوة وفراغا أن يصير نبيا فإن النبوة خاصة من الله يختص بها من يشاء من عباده لا تنال بكسب ولا باجتهاد فإذا علم الإنسان بعقله أن هذا الرسول وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينافي خبره كان الواجب عليه أن يسلم لما أخبر به الصادق الذي هو أعلم منه وينقاد له ويتهم عقله ويعلم أن عقله بالنسبة إليه أقل من عقل أجهل الخلق بالنسبة إليه هو وأن التفاوت الذي بينهما في العلم والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه أعظم بكثير كثير من التفاوت الذي بين من لا خبرة له بصناعة الطب ومن هو أعلم أهل زمانه بها فيا لله العجب إذا كان عقله يوجب عليه أن ينقاد لطبيب يهودي فيما يخبر به من قوى الأدوية والأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات وصفاتها وكمياتها ودرجاتها مع ما عليه في ذلك من الكلفة والألم ومقاساة المكروهات لظنه أن هذا اليهودي أعلم بهذا الشأن منه وأنه إذا صدقه كان في تصديقه حصول الشفاء والعافية مع علمه بأنه يخطىء كثيرا وأن كثيرا من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب بل يكون استعماله لما يصفه سببا من أسباب هلاكه وأن أسباب الموت أغلاط الأطباء فكم لهم من قتيل أسكنوه المقابر بغلطهم وخطئهم وإن كان خطأ الطبيب إصابة المقادير وكيف لا يسلك هذا المسلك مع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وهم الصادقون المصدقون ولا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به والذين عارضوا أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال المركب والبسيط ما لا يحصيه إلإ من هو بكل شيء محيط.

الوجه السادس عشر: أن يقال تقديم العقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف فوجب الثاني وامتنع الأول بيانه أن يكون الشيء معلوما بالعقل أو غير معلوم بالعقل ليس هو صفة لازمة لشيء من الأشياء بل هو من الأمور النسبية الإضافية فإن زيدا قد يعلم بعقله مالا يعلمه بكر بعقله وقد يعلم الأنسان في حال تعقله ما يجهله في وقت آخر والمسائل التي يقال قد تعارض فيها العقل والشرع جميعا قد اضطرب فيها أرباب العقل ولم يتفقوا فيها على أمر واحد بل كل منهم يقول إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر أن العقل نفاه أو أحاله أو منع منه بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية فيقول هذا نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر إنه غير معلوم بالضرورة العقلية وأبلغ من هذا أن يدعي بعضهم أن هذا محال بضرورة العقل فيدعي الآخر أنه ممكن بضرورة العقل فأكثر العقلاء يقولون نحن نعلم بضرورة العقل امتناع رؤيا مرئي من غير معاينة ومقابلة ويقول آخرون من المنتسبين إلى المعقولات بل ذلك ممكن لا يحيله العقل.

ويقول أكثر العقلاء نحن نعلم أن حدوث حادث بلا سبب حادث ممتنع ويقول آخرون بل ذلك ممكن.

ويقول أكثر العقلاء إن كون العالم عالما بلا علم وحيا بلا حياة ومريدا بلا إرادة وسميعا بصيرا بلا سمع ولا بصر محال بضرورة العقل وآخرون يقولون بل هو ممكن غير مستحيل بل هو الواجب في حق الله عز وجل.

ويقول جمهور العقلاء أن يكون المعنى الواحد أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا ممتنع في ضرورة العقل.

وآخرون يقولون هو ممكن واقع.

وجمهور العقلاء يقولون إن إثبات موجودين قائمين بأنفسهما ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له ولا داخلا فيه ولا خارجا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه مكابرة لصريح العقل وآخرون يقولون بل هو ممكن واجب في العقل.

وجمهور العقلاء يقولون إن إثبات كون المريد مريدا بإرادة لا في محل ممتنع في ضرورة العقل وآخرون ينازعونهم في ذلك وجمهور العقلاء يقولون إن الحروف والأصوات من المتكلم الواحد مقترنة بعضها ببعض في آن واحد محال بضرورة العقل.

وآخرون يقولون بل هو ممكن بل واجب في حق القديم إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا فلو قيل بتقديم العقل على نصوص الوحي وهذا شأن العقل لزم المحال واجتماع النقيضين أو أحيل الناس على شيء لا سبيل لهم إلى ثبوته ومعرفته.

وأما الوحي فهو قول الصادق وهو صفة لازمة لا تختلف باختلاف أحوال الناس والعلم بذلك ممكن ورد الناس إليه ممكن ولهذا جاء الوحي من الله سبحانه برد الناس عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } 3 فأمر المؤمنين عند التنازع بالرد إلى كتابه وسنة رسوله وهذا نص في تقديم السمع. قال هؤلاء بل الواجب الرد إلى العقل ورد السمع إن عارضه ولو رد الناس الأمر عند النزاع إلى عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافا واضطرابا وشكا وارتيابا فلا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء يرجع الجميع إلى حكمه وإلا فكل واحد من أرباب المعقولات يقول عقلي أولى بالثقة به من عقل منازعي وهذا يدلي بمعقول وهذا يدلي بمعقول.

الوجه السابع عشر: إن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف قال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا } 4 وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره فقال { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَة ً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } 5 ذكر هذا جوابا لطلبهم آية تدل على صدقه فأخبر أنه يكفيهم من كل آية فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلا على صدقه فضلا عن أن يكون كافيا وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهانا على صحة النبوة والمقصود ان الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه فلو عارضه العقل وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيا للأمة ولا كان تاما في نفسه في مراسيل أبي داود أن الرسول رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة فيها شيء من التوراة فقال: "كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتابهم أنزل على نبي غير نبيهم" فأنزل الله عز وجل { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَة ً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } 6 وقال سبحانه { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } 7 فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا بحكمه فلا يبقى منها حرج ونسلم لحكمه تسليما فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه وقال تعالى { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } 8 وهذا نص صريح في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده وهو الحاكم فيه على لسان رسوله فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه وقال تعالى { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } 9 فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهى عن اتباع ما خالفه وأخبر سبحانه أن كتابه بينة وشفاء وهدى ورحمة ونور وفضل وبرهان وحجة وبيان فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك بل كانت هذه الصفات للعقل دونه وكان عنها بمعزل فكيف يشفي ويهدي ويبين ويفصل ما يعارضه صريح العقل.

الوجه الثامن عشر: إن ما علم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء لايتصور أن يعارضه الشرع البتة ولا يأتي بخلافه ومن تأمل ذلك في ما ينازع العقلاء فيه من المسائل الكبار وجد ما خالفت النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للنقل فتأمل ذلك في مسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد تجد ما يدل عليه صريح العقل لم يخالفه سمع قط بل السمع الذي يخالفه إما أن يكون حديثا موضوعا أو لا تكون دلالته مخالفة لما دل عليه العقل.

ونحن نعلم قطعا أن الرسل لا يخبرون بمحال العقول وإن أخبروا بمحارات العقول فلا يخبرون بما يحيله العقل وإن أخبروا بما يحار فيه العقل ولا يستقل بمعرفته ومن تأمل أدلة نفاة الصفات والأفعال والقدر والحكمة والمعاد وأعطاها حقها من النظر العقلي علم بالعقل فسادها وثبوت نقيضها ولله الحمد.

الوجه التاسع عشر: إن المسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والسمع من المسائل المعلومة بصريح العقل كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات اليقينية.

فلم يجىء في القرآن ولا في السنة حرف واحد يخالف العقل في هذا الباب وما جاء من ذلك فهو مكذوب ومفترى كحديث إن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق وحديث نزوله عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان ويعانق المشاة.

وكقول اليهود إنه سبحانه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وإنه ندم على ذلك حتى عض أصابعه وإنه تبدى لإسرائيل وصارعه.

وكقول النصارى إنه اتخذ مريم زوجة وأولدها عيسى فهي صاحبته وعيسى ابنه تعالى الله عما يقول أعداؤه فيه علوا كبيرا وكقولهم إنه نزل عن كرسي عظمته ودخل في فرج مريم والتحم بناسوت المسيح.

وقول مشركي العرب إنه صاهر الجن فولدت له الملائكة وأمثال ذلك من الأقوال المخالفة لصريح العقل فكيف يجعل ما أثبته الله لنفسه في كتابه من صفاته وأفعاله وما صح عن رسوله أنه أثبته له من علوه فوق سماواته على عرشه واستوائه عليه وتكلمه وتكليمه وثبوت علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه الأعلى ورحمته وغضبه ورضاه وفرحه وضحكه ويديه التي يمسك بإحداهما السماوات السبع وبالأخرى الأرضين السبع ثم يهزهن ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ونحو ذلك من صفات كماله ونعوت جلاله كيف يجعل هذا بمنزلة ذاك في مخالفة كل منهما لصريح العقل؟ ويجعل إثبات هذا كإثبات ذلك ووصفه بهذا كوصفه بذاك كما صرح به النفاة وقالوا إن هذا تشبيه وتجسيم فلا فرق بينه وبين ذاك التشبيه والتجسيم فليبك على عقله وما أصيب به من سوى بين الأمرين أحسن الله عزاءه في عقله ولا بورك له في علم هذه غايته التي لا يرضاها أعظم الناس انغماسا في جهله.

الوجه العشرون: إنه لا يعلم آية من كتاب الله ولا نص صحيح عن رسول الله في باب أصول الدين اجتمعت الأمة على خلافه وغاية ما يقدر اختلاف الأمة في القول بموجبه ومن له خبرة بمذاهب الناس وأقوال السلف يعلم قطعا أن الأمة اجتمعت على القول به قبل ظهور المخالف كما اجتمعت بأن الله مستو على عرشه فوق سماواته وأن المؤمنين يرونه عيانا بالأبصار من فوقهم في الجنة وأنه سبحانه كلم نبيه موسى منه إليه بلا واسطة تكليما سمع به كلامه ولم يشك أنه هو الذي كان يكلمه. وأنه كتب مقادير الخلائق وقدرها قبل أن يخلقهم وأنه علم ما هم عاملوه قبل أن يعملوه وأنه يحب ويبغض ويرضى ويغضب ويضحك ويفرح وأن له وجها ويدين.

فهذا إجماع معلوم متيقن عند جميع أهل السنة والحديث فالعقل الذي يعارض هذا لم تجمع عليه الأمة ولم يعرف عن رجل واحد من السلف والأئمة أنه قاله وغايته أ، يكون عقل فرقة من الفرق اشتقت لأنفسها مذهبا وادعت له معقولا فلما صالت عليها نصوص الوحي التجأت إلى العقل وادعت أنه يخالفها وصدقت وكذبت. أما صدقها فإن نصوص الوحي تخالف معقولها هي وذلك من أدل دليل على فساده في نفسه إذ شهدت له نصوص الوحي بالبطلان.

وأما كذبها فزعمها أن نصوص الوحي تخالف العقل المتفق عليه بين العقلاء فهذا لم يقع ولا يقع ما دامت السماء سماء والأرض أرضا بل تزول السماء والأرض وهذا لا يكون فأي ذنب للنصوص إذا خالفت عقول بعض الناس فقد وافقت عقول أصح الناس عقلا { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } 10


هامش

  1. [النساء174]
  2. [113]
  3. [النساء59]
  4. [المائدة 3]
  5. [العنكبوت51]
  6. [العنكبوت51]
  7. [النساء65]
  8. [الشورى10]
  9. [الأعراف3]
  10. [الأنعام89]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة