الصواعق المرسلة/الفصل الرابع والعشرون/الطاغوت الأول/العشر السابعة


الوجه الحادي والستون إنه من أعظم المحال أن يكون المصنفون في جميع العلوم قد بينوا مرادهم وعلم الناس مرادهم منها يقينا سواء كان ذلك المعلوم مطابقا للحق أو غير مطابق له ويكون الله ورسوله لم يبين مراده بكلامه ولا تيقنت الأمة إلى الآن ما أراد بكلامه فهذا لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس بالله ورسوله وكلامه ونحن لا ننكر أن في أرباب المعقولات من هو في غاية البعد عن معرفة الله ورسوله وما جاء به وأنه لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله وذلك لبعده منه وعدم الثقة به وسوء ظنه به واعتقاده أن كلامه خطابة لا برهان وإنه تخييل خيل به إلى النفوس وشبه لها الأمور العقلية وأخرجها في الصور المحسوسة وأن القرآن إنما هو خطاب للعرب الجهال الذين هم من أجهل الأمم بالعلوم والحقائق وأنهم لم تمكن دعوتهم إلا بالطريق الخطابية التخييلية لا بالطريق البرهانية العقلية الحكمية وأن طريق الحكمة والبرهان هي طرق الفلاسفة والمنطقيين والصابئة وأتباعهم فلا ريب أن القرآن في حق مثل هذا لا يفيده اليقين بل هو عمى عليه وضلال في حقه كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } 1 قال مجاهد بعيد من قلوبهم فهم ما يتلى عليهم وقال الفراء تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك أنت تنادي من مكان بعيد وقال صاحب النظم أي أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم وهذا حال هؤلاء الذين لا يستفيدون من كلام الله ورسوله يقينا ولا علما وهذه أيضا حال الجهال ومن نشأ بالبوادي ومن لا فهم له من أهل البله والبلادة وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء لا يستفيدون من كلام الله ورسوله علما ولا يقينا فقول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لم يذكر المفعول بل حذفه فإن أراد أنها لا تفيد اليقين لهاتين الطائفتين فصدق وإن أراد أنها لا تفيده للراسخين في العلم وأهل الذكاء الذين هم أحسن الناس قصودا وأصحهم أذهانا فقد كذب عليهم وبهتهم فإنهم قد استفادوا منها من اليقين مالم يستفده أهل منطق اليونان وأتباع الفلاسفة وأفراخ الصابئة وورثة الملاحدة وأوقاح الجهمية من قواعدهم الباطلة فدعواهم أنهم لم يستفيدوا منها يقينا مكابرة لهم في الأمور الوجدانية الحاصلة لهم.

وإن قالوا نحن لم نستفد منها يقينا قيل لهم لا يلزم من ذلك أن لا تفيد اليقين لأهل العلم والإيمان وقد قال من لم يستفد العلم واليقين من القرآن للنبي ما حكاه الله عنهم بقوله: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } 2 ولم يمنع هذا ارتفاع هذه الموانع واستفادة الهدى واليقين في حق المؤمنين المصدقين بل كان في حقهم هدى وشفاء.

وإن قال هي لا تفيد اليقين في نفسها وليست موضعا لذلك فهذا غاية البهت والإلحاد يوضحه:

الوجه الثاني والستون أن يقال لهم ما تريدون بهذا النفي أتريدون بالأدلة اللفظية جنس كلام بني آدم الدال على مرادهم في الخطاب والتصنيف وغيره أو كلام الله ورسوله وهل مرادكم بهذا السلب أن شيئا منها لا يفيد اليقين أو أن مجموعها لا يفيده وإن أفاده بعضها. وهل المراد أنه لا يستفيد أحد منها اليقين البتة أو أن الناس كلهم لا يستفيدون منها اليقين بل يستفيده بعضهم دون البعض.

وهل المراد بها لا تفيد اليقين بمراد المتكلم بها أو لا تفيد اليقين بثبوت ما أخبر بثبوته ونفي ما أخبر بنفيه وإن تيقنا مراده فهما مقامان والفرق بينهما معلوم فهذه ثمانية تقادير فبينوا مرادكم منها فإن أحدا من العقلاء لا يمكنه أن ينفي حصول اليقين منها على هذه التقادير كلها.

وإذا كان المراد نفي اليقين على بعض التقادير المذكورة فبينوه بالدعوى ليتوارد النفي والإثبات على محل واحد والظاهر والله أعلم أنكم تريدون أن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم ولا يقين في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وإثبات ملائكته وصفاتهم وأنواعهم وإذا لم يفد اليقين في ذلك وهو أعظم أقسام القرآن وأظهرها وأكثرها ورودا فيه فكيف يفيد في باب المعاد والأحكام كما تقدم تقريره

الوجه الثالث والستون: إن هذا القانون مضمونه جحد الرسالة في الحقيقة وإن أقر بها صاحبه بلسانه بل مضمونه إن ترك الناس بلا رسول يرسل إليهم خير من أن يرسل إليهم رسول وإن الرسل لم يهتد بهم أحد في أصول الدين بل ضل بهم الناس وذلك أن القرآن على ما اعتقده أرباب هذا القانون لا يستفاد منه علم ولا حجة بل إذا علمنا بعقولنا سببا اعتقدناه ثم نظرنا في القرآن فإن كان موافقا لذلك أقررناه على ظاهره لكونه معلوما بذلك الدليل العقلي الذي استفدناه به لا بكون الرسول أخبر به وإن كان ظاهره مخالفا لما عرفناه واستنبطناه بعقولنا اتبعنا العقل وسلكنا في السمع طريقة التأويل أو الإعراض والتفويض فأي فائدة حصلت إذا بإخبار الرسول بل مضمون ذلك أنا حصلنا على العناء الطويل لاستخراج وجوه التأويلات المستلزمة أو التعرض لاعتقاد الباطل والضلال بحمل الكلام على ظاهره فكانت الأدلة اللفظية مقتضية لضلال هؤلاء ولعناء أولئك فأين الهدى والشفاء الذي حصل بها لهؤلاء وهؤلاء ومن العجب اعتراف أرباب هذا القانون بهذا وجوابهم عنه بجواب أهل الإلحاد وهو أن المخاطبين لم يكونوا يفهمون الحقائق فضربت لهم الأمثال من غير أن يكون المخبر ثابتا في نفس الأمر فراجع كتب القوم تجد ذلك فيها.

الوجه الرابع والستون: إن أصحاب هذا القانون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك فتارة يقولون نحن نعلم انتفاء الظاهر قطعا وأنه غير المراد وإن كنا لا نعلم عين المراد وتارة يقولون بل الرسول خاطب الخلق خطابا جمهوريا يوافق ما عندهم وما ألفوه ولو خاطبهم بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يتكلم ولا يكلم ولا يرى عيانا ولا يشار إليه لقالوا هذه صفات معدوم لا موجود فوقعوا في التعطيل فكان الأصلح أن يأتي بألفاظ دالة على ما يناسب ما نحلوه وألفوه فيخلصهم من التعطيل.

فكيف يجمع هذا القول وقولهم إن الظاهر غير مراد فإن كان قد أراد منهم الظاهر بطل قولهم إن الظاهر غير مراد وإن أراد منهم التأويل يبطل قولهم إنه قصد خطابهم بما يخيل إليهم ويتمكنون معه من إثبات الصانع ويتخلصون من التعطيل فأي تناقض أشد من هذا فإن اراد الظاهر فقد أراد عندكم إفهام الباطل الذي دل عليه لفظه وإن لم يرد الظاهر بل أراد منهم التأويل لم يحصل الغرض الذي ذكرتموه ولم يخلصوا من التعطيل وهذا لا حيلة لكم في دفعه. فهما طريقتان باطلتان مضادتان لقصد الرسالة هؤلاء يقولون أراد منهم أن يتخيلوا ما ينفعهم وإن لم يكن حقا في نفس الأمر وأصحاب التأويل يقولون أراد منهم ضد ذلك المعنى الذي دل عليه كلامه ونصه وتارة يقولون أراد منهم تأويل النصوص وتارة يقولون أراد منهم تفويضها وقد نزه الله رسوله عن أن يريد المعاني الباطلة أو يقصر في بيان ما أراده فإن الأول كذب وتدليس وتلبيس والثاني تقصير في البيان وإذا كان الرسول منزها عن هذا وهذا فالرب تعالى أولى بتنزيهه عن الأمرين.

وقد قام الدليل القطعي على تنزيه الله ورسوله عن ذلك فلا يقدح فيه بالشبه الخيالية الفاسدة.

الوجه الخامس والستون: إن الله سبحانه قسم الأدلة السمعية إلى قسمين محكم ومتشابه وجعل المحكم أصلا للمتشابه وأما له يرد إليه فما خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يرد إلى المحكم وقد اتفق المسلمون على هذا وأن المحكم هو الأصل والمتشابه مردود إليه وأصحاب هذا القانون جعلوا الأصل المحكم ما يدعونه من العقليات وجعلوا القرآن كله مردودا إليه فما خالفه فهو متشابه وما وافقه فهو المحكم ولم يبق عند أهل القانون في القرآن محكم يرد إليه المتشابه ولا هو أم الكتاب وأصله.

الوجه السادس والستون إنه على قول أرباب القانون لا سبيل لأحد أن يعرف أن شيئا من القرآن محكم فإن ذلك إنما يعرف إذا حصل اليقين بانتفاء المعارض العقلي وهذا النفي غير معلوم إذ غاية ما يمكن انتفاء العلم بالمعارض لا العلم بانتفائه.

فإن قلتم نحن نقول إن صرف اللفظ عن ظاهره وإخراجه عن كونه محكما لا يجوز إلا عند قيام الدليل العقلي القطعي على أن ظاهره محال ممتنع قيل وأنتم تقولون مع ذلك إن حمله على ظاهره لا يجب إلا إذا قام الدليل العقلي على أن ظاهره حق فما لم يعضده دليل عقلي لم يجزم بثبوته فالمعتمد إذا عندكم في النفي والإثبات على الدليل العقلي والقرآن عديم التأثير لا يجزم بنفي ما نفاه ولا بإثبات ما أثبته وهذا قول من لم يؤمن بما أنزل الله من الكتاب ولا بما أرسل به الرسول.

الوجه السابع والستون: إن أصحاب القانون لا يمكنهم إنكار أن الأدلة اللفظية تفيد ظنا غالبا وإن لم تفدهم يقينا وما عندهم مما يسمونه أدلة عقلية على نفي ما دل عليه القرآن والسنة من الصفات إنما هي أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علما ولا ظنا بل جهلا مركبا يظن صاحبها أن معه علما وإنما معه الجهل المركب فهي في العلوم كأعمال من خالف الرسل في الأعمال: { كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } 3 فهذا مثل أعمال هؤلاء وعلوم أولئك ولا ريب أن الظن المستفاد من الأدلة السمعية خير من هذا الجهل المركب إلا أن يقول أرباب القانون إن الأدلة اللفظية لا يستفاد منها علم ولا ظن البتة ولا يبتعد هذا من قولهم. وهم يقولون إن ظاهرها باطل وتشبيه وتجسيم وإذا انتهى الأمر إلى هنا انتقلنا إلى إثبات أن محمدا رسول الله فإن زاعم ذلك غير مقر برسالته في نفس الأمر كما تقدم والله أعلم.

الوجه الثامن والستون: إن هذا يتضمن القدح في أعظم آيات الرب الدالة على ربوبيته وحكمته وجحد ما هو من أعظم نعمه على عباده. أما الأول فلأن الله سبحانه جعل من آيات ربوبيته الهداية العامة لخلقه كما قال: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } 4 وقال فرعون لموسى { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } 5 فهدى كل نفس لجلب ما يصلحها وينفعها ودفع ما يضرها ويفسدها وخص النوع الإنساني بأنواع أخر من الهداية التي يعرفها ويتمكن من النطق بها لهداية غيره ومن أعلى أنواع هذا الهدى هدى البيان والدلالة وتعريف الإنسان ومعرفته مراده ومراد غيره وذلك إنما هو بصفة النطق التي هي أظهر ما في الإنسان ولذلك شبه الله سبحانه بها ما أخبر به من الغيب فقال: { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } 6. وأما أن ذلك من أعظم نعم الله على عباده فلأن الإنسان إنما يميز عن سائر الحيوان بكمال هذه القوة وتمامها فيه واقتداره منها على مالم تقتدر عليه الحيوانات العجم.

ولذلك عدد ذلك من نعمه على عباده في جملة ما أنعم به عليهم فقال: { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } 7 وقال { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 8 وقال: { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } 9 فإنكار حصول العلم واليقين من كلام المتكلم قدح في أعظم آيات الله وجحد لما هو من أعظم نعمه. وكنا نظن أن قائل ذلك أراد أن بعض الأدلة اللفظية لا تفيد العلم واليقين حتى رأيناه قد صرح بأن شيئا منها لا يفيد اليقين البتة ولا قدح في آياته ولا جحد لنعمه أبلغ من ذلك.

الوجه التاسع والستون: إن هذا القول الذي قاله أصحاب القانون لم يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم لا طوائف المسلمين ولا اليهود ولا النصارى ولا أحد من أهل الملل ولا طوائف الأطباء ولا النحاة ولا أهل اللغة ولا أهل المعاني والبيان ولا غيرهم قبل هؤلاء وذلك لظهور العلم بفساده فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق فإن بني آدم يتخاطبون ويكلم بعضهم بعضا مخاطبة ومكاتبة وقد أنطق الله سبحانه بعض الجمادات وبعض أنواع الحيوانات بمثل نطق بني آدم فلم يسترب سامع ذلك النطق في حصول العلم واليقين به بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية.

فقالت النملة لأمة النمل { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } 10 فلم يشك النمل ولا سليمان في مرادها وفهموه يقينا ولما علم سليمان مرادها يقينا تبسم ضاحكا منه وخاطب الهدهد وخاطبه الهدهد فحصل للهدهد العلم اليقيني بمراد سليمان من كلامه وحصل لسليمان ذلك من كلام الهدهد وذهب الهدهد بكتاب سليمان لما حصل له اليقين من كلامه وأرسل سليمان الهدهد والكتاب وفعل ما حكى الله لما حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه.

وأنطق سبحانه الجبال بالتسبيح مع داود وعلم سليمان منطق الطير وسمع الصحابة تسبيح الطعام مع رسول الله وسمع رسوله تسليم الحجر عليه أفيقول مؤمن أو عاقل إن اليقين لم يكن يحصل للسامع بشيء من مدلول هذا الكلام فعلم أن هذا القول في غاية السفسطة ومجد الحقائق وقلبها وإفساد العقول والفطر.

الوجه السبعون: إن حاصل كلام أرباب القانون يدور على ثلاث مقدمات

الأولى: إن العلم بمراد المتكلم موقوف على حصول العلم بما يدل على مراده

الثانية: إنه لا سبيل إلى العلم بمراده إلا بانتفاء هذه الأمور العشرة

الثالثة: إنه لا سبيل إلى العلم بانتفائها فهذه ثلاث مقدمات الأولى منها صادقة والأخريان كاذبتان أما المقدمة الأولى فصحيحة والعلم بمراد المتكلم كثيرا ما يكون علما اضطراريا كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة فإن الإنسان إذا سمع مخبرا يخبر بأمر حصل عنده ظن ثم يقوى بالمخبر الآخر حتى يصير علما ضروريا فكذلك إذا سمع كلام المتكلم فقد يعلم مراده ابتداء بالضرورة وقد يظنه ثم يتكرر كلام المتكلم أو يتكرر سماعه له ولما يدل على مراده فيصير علمه بمراده ضروريا.

وقد يكون الكلام بالمراد استدلالا نظريا وحينئذ فقد يتوقف على مقدمة واحدة وقد يتوقف على مقدمتين أو أكثر بحسب حاجة السامع وما عنده من القوة القريبة والبعيدة وسرعة إدراكه وبطئه وقلة تحصيله وكثرته وحضور ذهنه وغيبته وكمال بيان المتكلم وضعفه فدعوى المدعي أن كل استدلال بدليل لفظي فإنه يتوقف على عشر مقدمات فهذا باطل قطعا.

وأبطل منه دعواه أن كل مقدمة فهي ظنية فإن عامة المقدمات التي يتوقف عليها فهم مراد المتكلم قطعية في الغالب.

وأبطل من ذلك دعواه أنه لا يعلم المراد إلا بعد العلم بانتفاء الدليل الدال على نقيضه فإن هذا باطل قطعا إذ من المعلوم أن العلم بثبوت أحد الضدين ينفي العلم بثبوت الضد الآخر فنفس العلم بالمراد ينفي كل احتمال يناقضه.

وهكذا الكلام في نفي المعارض العقلي والسمعي فإنه إذا علم المراد علم قطعا أنه لا ينفيه دليل آخر لا عقلي ولا سمعي لأن ذلك نقيض له. وإذا علم ثبوت الشيء علم انتفاء نقيضه وحينئذ فينقلب هذا القانون عليهم بأن نقول العلم بمدلول كلام الله ورسوله علم يقيني قطعي لا يحتمل النقيض فنحن نستدل على بطلان كل ما يخالفه ويناقضه بثبوت العلم به.

فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الضد الاخر وحينئذ فيقطع ببطلان كل شبهة عقلية تناقض مدلول كلام الله ورسوله وإن لم ينظر فيها على التفصيل.

وهذا الأصل العظيم أصح من قانونهم وأقرب إلى العقل والإيمان وتصديق الرسل وإقرار كلام الله ورسوله على حقيقته وما يظهر منه يوضحه.


هامش

  1. [فصلت44]
  2. [فصلت5]
  3. [النور39]
  4. [الأعلى3-1]
  5. [طه50، 49]
  6. [الذاريات23]
  7. [الرحمن4-1]
  8. [اقرأ5-3]
  9. [البلد10-8]
  10. [النمل18]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة