الصواعق المرسلة/الفصل الرابع والعشرون/الطاغوت الثاني/العشر الثانية والعشرون


فصل الوجه الحادي عشر والمائتان: إن قولك يستحيل أن يخلق الملتذ به في الأزل وأن لا يخلقه في الأزل إلى آخره مبني الحجة على مقدمتين

إحداهما: إنكار وجود الملتذ به قبل وجوده

والثانية: وجوب حصوله إذا كان كذلك ونحن نتكلم عن المقدمتين فنقول لا نسلم وجوب وجود الملتذ به والحالة هذه ولا أنه يكون كالملجأ إليه فإن قلت داعية اللذة إذا تحققت خالية عن الموانع وكان الملتذ به ممكن الحصول فالعلم الضروري حاصل بوجوب حصوله فالجواب أن الداعي الجازم مع القدرة التامة توجب وجود المقدور بلا ريب والداعي هو إما الإرادة الحادثة أو العلم المقتضي للإرادة أو مجموعهما وإما مجرد كون الشيء سببا للذة فهذا لا يوجب الإرادة الحادثة بل العلم الضروري الحاصل بضد ذلك فقد يحصل للإنسان نوع ما من أنواع الالتذاذ بالشيء مع قدرته عليه ولا يفعله وذلك أن اللذة تتبع المحبة وقد لا تتم محبة الملتذ به وإرادته فلا يوجد لضعف المحبة والإرادة المتعلقة به أو لاستلزامه فوات ما هو أحب إليه منه أو لحصول ما هو أكره إليه والمعهود في بني آدم أن الإرادة الجارية لا يجب حصولها منهم إلا للذة التي يوجب فقدها ألما فمتى استلزم عدم اللذة بالعرض وقد يتعلق القصد الذاتي بالأمرين وقد يغيب بشعوره بأحدهما عن الآخر لاستيلاء سلطانه على الآخر أما إذا لم يكن أحدهم متألما بعدم اللذة ولكن في وجود الملتذ به زيادة لذة فقط وليس في فقده ألم فهذا ليس الواقع وجوب تعلق الإرادة به بل قد يريد ذلك وقد لا يريده استغناء بما عنده من اللذة عن تلك الزيادة فلا يجب فيه حصول الداعي التام وهذا أمر محسوس.

الوجه الثاني عشر والمائتان: إنا لو فرضنا في حقنا أنه يجب تحصيل المفروح به مع القدرة عليه فلم قلت إنه في حق الرب تعالى كذلك؟ وليس معك إلا مجرد القياس التمثيلي الذي يتضمن تمثيل الله بخلقه والقضية الكلية التي ادعيتها ممنوعة والعلم الضروري إذا سلم فإنما هو في حق المخلوق فأما في حق الخالق فيس هناك إلا مجرد القياس وهو منتقض بسائر الأمور الفارقة بين الله وبين خلقه ومن جملتها الإرادة والمحبة والرضى فإن الإنسان إذا أراد الفعل وهو قادر عليه وجب وجوده منه والله تعالى مريد لجميع الكائنات وهو قادر عليها ومع هذا فلا توجد إلا في مواقيتها لا توجد قبل ذلك والعبد يقع مراده حين قدرته عليه والله تعالى متأخر مراده مع دوام قدرته عليه.

الوجه الثالث عشر والمائتان: أن العبد إنما يجب مع قدرته وداعية حصول مراده ولذته لأنه يتضرر بعدم حصوله فإن كماله وصلاحه بحصول ما يحبه ويريده ويلتذ به وبعدمه يكون متضررا ناقصا والله سبحانه لا يلحقه الضرر بوجه ما.

الوجه الرابع عشر والمائتان: لم قلت بأن كل ما يحبه الرب سبحانه ويرضاه ويفرح به يمكن وجوده في وقت واحد؟ فإن ذلك قد يستلزم الجمع بين النقيضين فإن الحوادث المتعاقبة يستحيل اجتماعها في آن واحد فإذا كان يحب ما يمتنع حصوله كله في آن واحد كانت محبته ورضاه وفرحه به متعلقا به وقت وجوده وحصوله ووجوده قبل ذلك محال والمحال لاتتعلق به المحبة والفرح يوضحه.

الوجه الخامس عشر والمائتان: إنه سبحانه إذا كان يحب أمورا وتلك الأمور المحبوبة لها لوازم يمتنع وجودها بدونها كان وجود تلك الأمور مستلزما للوازمها التي لا توجد بدونها مثاله محبته للعفو والمغفرة والتوبة وهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه ويغفره ويتوب إليه العبد منه ووجود الملزوم بدون لازمه محال فلا يمكن حصول محبوباته سبحانه من التوبة والمغفرة والعفو بدون الذي يتاب منه ويغفره ويعفو عن صاحبه ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم" وهذا هو الذي وردت الأحاديث الصحيحة بالفرح به وهذا المفروح به يمتنع وجوده قبل الذنب فضلا عن أن يكون قديما فهذا المفروح به يحب تأخره قطعا ومثل هذا ما روي "أن آدم لما رأى بنيه ورأى تفاوتهم قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" ومعلوم أن محبته للشكر على ما فضل به بعضهم على بعض يوجب تفضيل بعضهم على بعض ولا يحصل ذلك مع التسوية بينهم فإن الجمع بين التسوية والتفضيل جمع بين النقيضين وذلك محال.

الوجه السادس عشر والمائتان: أن يقال اللذة التي هي الفرح والرضى والسرور ونحوها يجب وجودها من القادر إذا كان مستغنيا عنها بلذة أخرى أكمل منها أم مطلقا إن قلتم بالثاني فهو ممنوع وإن قلتم بالأول قيل فإن الله سبحانه مستغن عن أن يحدث كل ما يقدر عليه من هذه الأمور في وقت واحد بل إذا كان العبد مستغنيا عن فعل ا هو من جنس اللذات مع قدرته على ذلك فالله أجل وأعظم فإن قال إذا كان غنيا عنها لم تكن لذة قيل غن صح هذا فهو حجة عليكم ومبطل لحجتكم.

الوجه السابع عشر والمائتان: أن يقال هو لا يحدثها إلا إذا أحبها ورضيها ونضمنت فرحه بها وحيث لا يكون ذلك لا تكون محبوبة ولا مرضية له ولا مفروحا بها فالأمور التي يحبها الله ويرضاها ويفرح بها لها صفات ومقادير تقتضي أن تكون محبوبة مرضية مفروحا بها في وقت دون وقت كما تقتضي أن يكون مراده في وقت دون وقت ما فإن قلت هذا يقتضي حلول الحوادث به قيل هذا لا يمتنع على أصول الطائفتين فمن قال بهذه المسألة من المتكلمين والصوفية والفقهاء وجمهور أهل الحديث وأكثر الفلاسفة لم يرد هذا عليه ومن منع ذلك فإنه يقول فيه ما يقوله في محبته ورضاه أنه قديم أزلي لم يزل محبا راضيا مواليا لمن أحبه ورضيه وولاه ولم يزل غضبان مبغضا لمن غضب عليه وأبغضه وعاداه ويقول إن المتجدد هو التعلق فقط وهذا قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقه من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين.

الوجه الثامن عشر والمائتان: أن يقال لو صح ما ذكرته كان مستلزما أن لا يخلق الرب تعالى شيئا أو يخلق كل شيء قبل خلقه إياه وهو من جنس شبه الدهرية الفلاسفة في قدم العالم قالوا المقتضي لوجود العالم إن كان تاما في الأزل وجب وجوده وإن لم يكن تاما لزم أن لا يوجد وهذا منقوض بما يوجد من الحوادث اليومية ووجه الإلزام أن يقال لو صح عليه الخلق والإبداع والإرادة لكان إما خالقا لمراده في الأزل وهو محال وإما أن لا يخلقه في الأزل وهو محال لأنه ممكن مقدور وكل من صحت عليه الإرادة والخلق والإبداع إذا كان عالما بقدرته على تحصيل مراده وهو ممكن مقدور فإنه يكون كالملجأ إلى إيجاد مراده فإن قلت الإرادة من شأنها أن تخصص وتميز والله سبحانه أراد وجود كل شيء في وقته على صفة ومقدار وجعل لك شيء قدرا قلت هذا حق في نفسه ولكن هو حجة عليك لا لك فإنه سبحانه كما أراد وجود كل شيء في وقته على صفة ومقدار يختص به فهكذا محبته ورضاه لما يرضى به وفرحه بما يفرح به سواء.

الوجه التاسع عشر والمائتان: إنا متى رجعنا إلى الموجود فمتى علمنا أن أحدنا إذا كانت إرادته جازمة وقدرته تامة وجب وجود الفعل منه مقترنا بإرادته وقدرته ولا يتأخر الفعل إلا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه وهذا النافي لا ينازع في ذلك ويقر به ويقرره فإذا كان هذا حالنا فيما نريده ونقدر عليه فإذا كان الله عندك قادرا مريدا إرادة جازمة وجب وجود جميع مراده في الأزل وذلك محال ووجب أن لا يكون في الأزل لأنه متعاقب وهو محال لوجود القدرة التامة والإرادة الجازمة وما أفضى إلى المحال فهو محال فيلزم انتفاء القدرة والإرادة كما ذكرت في انتفاء المحبة والفرح والرضى الذي أدخلته في قسم اللذة سواء بسواء ومهما أجيب به عن هذا فهو بعينه جوابنا لك إن قلت إن إرادة الله لا تقاس بإرادة خلقه قيل لك وفرحه ورضاه لا يقاس بفرحهم ورضاهم وإن قلت إرادة الله تخصيص الأشياء بخواصها قيل لك هذا بعينه موجود في محبته ورضاه فإنه مستلزم للإرادة أو نوع منها وذلك مستلزم لما نفيته من لوازمه وهو للفلاسفة ألزم فإن كل كائن له ما يختص به صفة وقدرا وللحوادث أوقات يختص بها فذاته سبحانه إن كانت مقتضية لوجود كل موجود وجب وجود كل ممكن مقارنا لوجوده وإن لم تكن مقتضية للوجود لزم أن لا يوجد عنه شيء فإذا قالوا لا يمكن للأمر إلا كذا كان هذا جوابنا بعينه في هذا المقام.

الوجه العشرون والمائتان: إنهم فسروا في مسألة التحسين والتقبيح الحمد والذم بما يستلزم اللذة والألم كما فعل ابن الخطيب وغيره لما ناظروا القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين قال بعد مطالبته لهم بحقيقة المدح والذم فإن قيل فما حقيقة المدح والذم عندكم؟ قلنا المدح هو الإخبار عن كون الممدوح مستحقا لأن يفعل به ما يفرح به أو يلتذ به والذم هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يحزن به قال ولكن إذا فسرنا مستحق المدح والذم بذلك استحال تصوره في حق الله لاستحالة الفرح والغم عليه قال وقد حكينا أن توجه هذا السؤال ابتداء على سبيل المطالبة من غير التزام لنقسيم خاص فنقول معنى الاتضاع والاتفاع الأمر الذي يسوءه ويحزن به والذي يسره ويفرح به أو أمر آخر وراء ذلك فإن كان الأول لم يتقرر معناه في حق الله تعالى لاستحالة الفرح والحزن عليه وإن كان الثاني فبينوه فإنا بعد الإنصاف جربنا أنفسنا فلم نجد للمدح والذم حاصلا وراء الفعل المؤدي إلى الفرح والحزن فليتدبر العاقل هذا الكلام حتى التدبر وما يلزم منه فإنه إذا كان حقيقة المدح هو الخبر الذي يتضمن فرح الممدوح ولذته والذم حبر يتضمن ألم المذموم فلا يتصور مدح ولا ذم عنده إلا مع اللذة والألم وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين كلهم بل ومن دين جميع الرسل أن الله سبحانه يحمد ويمدح ويثنى عليه وأنه يحب ذلك ويرضاه ويأمر به بل حمده والثناء عليه من أعظم الطاعات وأجل القربات.

وفي المسند من حديث الأسود بن سريع قال أتيت رسول الله فقلت يا رسول الله إني قد حمدت ربي تبارك وتعالى بمحامد ومدح وإياك فقال رسول الله : "أما إن ربك تعالى يحب المدح هات ما امتدحت به ربك فقال فجعلت أنشده" وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله : "لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه" ولمسلم "وليس أحد أحب إليه العذر من الله ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ومن محبته سبحانه الثناء عليه صدق المثني عليه بأوصاف كماله" كما في النسائي والترمذي وابن ماجة من حديث الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله قال: "إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر قال يقول تبارك وتعالى لا إله إلا أنا وأنا الله أكبر وإذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا شريك لي وإذا قال ولا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي" فمن محبته للثناء عليه صسدق المثني عليه ووافقه في ثنائه عليه.

ونظير هذا ما في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه "يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله حمدني عبدي فإذا قال { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال الله مجدني عبدي فإذا قال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال هذه بيني وبين عبدي فإذا قال { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل".

ولما كان حمده والثناء عليه وتمجيده هو مقصود الصلاة التي هي عماد اإسلام ورأس الطاعات شرع في أولها ووسططها وآخرها وجميع أركانها ففي دعاء الاستفتاح يحمد ويثنى عليه ويمجد وفي ركن القراءة يحمد ويثنى عليه ويمجد وفي الركوع يثنى عليه بالتسبيح والتعظيم وبعد رفع الرأس منه يحمد ويثنى عليه ويمجد كما كان النبي يقول: "ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وفي السجود يثنى عليه بالتسبيح المتضمن لكماله المقدس والعلو المتضمن لمباينته لخلقه وفي التشهد يثنى عليه بأطيب الثناء من التحيات ويختم ذلك بذكر حمده ومجده.

فصل ومن محبته للثناء عليه شرعه للداعي قبل سؤاله ودعائه ليكون وسيلة له بين يدي حاجته كالمتقرب إلى المسؤول بما يحبه ويسأله بين يدي مطلوبه كما في السنن والمسند من حديث فضالة بن عبيد قال جاء رجل فصلى فقال اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله "عجلت أيها المصلي إذا صليت ففرغت فاحمد الله ما هو أهله ثم صل على النبي ثم ادعه" قال ثم صلى رجل آخر بعد ذلك "فحمد الله وصلى على النبي فقال له النبي أيها المصلي ادع تجب" وفي السنن عن ابن مسعود قال كنت أصلي فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على النبي ثم دعوت لنفسي فقال النبي : "سل تعطه سل تعطه".

وهكذا في أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح لما يأتوا إلى النبي ليشفع لهم فقال: "فأقول أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي فيلهمني محامد فأحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقول يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع" وفي لفظ فأثني على ربي بثناء وتمجيد يعلمنيه فمن محبته سبحانه للثناء عليه ألهم رسوله منه في ذلك المقام ما يكون وسيلة بين يدي شفاعته.

وفي الصحيح عنه أنه كان يقول في سجوده: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله : "ما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك وعد الجنة " وقد تقدم ذلك من حديث ابن مسعود وفي الدعاء المأثور "اللهم لك الحمد حمدا يشرق له وجهك" وفي الأثر الآخر "اللهم لك الحمد حتى ترضى" وفي الحديث الآخر "سبحان الله عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" أي تسبيح يبلغ رضى نفسه.

فصل ومن محبته لحمده والثناء عليه أنه جعل حمده مفتاح كل كلام ذي بال وخاتمة كل أمر وافتتح كتابه بحمده ختم آخره بحمده وافتتح خلقه بحمده وجعل حمده خاتمة الفصل بينهم فقال تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } 1 وقال { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } 2 وقال { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 3 فافتتح خلقه وأمره بحمده وختمهما بحمده.

وفي المسند والسنن عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" ولهذا كانت سنة المسلمين في صلاتهم وخطبهم كلها افتتاحها بالحمد حتى خطبة الحاجة ولقد كان أول من يدعى إلى الجنة الحامدون والنبي يوم القيامة بيده لواء الحمد وآدم ومن دونه تحت ذلك اللواء فخص اللواء بالحمد لأنه أحب شيء إلى الله واشتق لأحب خلقه إليه وألزمهم عليه من الحمد اسمين يتضمنان كثرة حمده وفضله وهما محمد وأحمد وسمى أمته الحامدين وأخبر النبي أن أفضل الدعاء الحمد.

فصل ومن محبته للثناء عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أنه أمر من ذكره بما لم يأمر به في غيره فقال تعالى { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } 4 فعلق الفلاح بكثرة ذكره وقال { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } 5 فعم بذكره أحوال العباد كلها لأن العبد إما أن يكون قائما أو قاعدا أو مضطجعا فأراد منه ذكره في هذه الأحوال كلها وأخبر أنه من ألهاه ماله وولده عن ذكره فهو خاسر فقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } 6 وأمر بذكره في أعظم المواطن التي يذهل الإنسان فيها عن نفسه وهي حاله عند ملاقاة عدوه فقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } 7 وفي الترمذي وغيره عن النبي أنه قال: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه". وجعل سبحانه ذكره سببا لصلاته على عبده وذكره له فقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } 8 وقال تعالى { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } 9 وجعل ترك ذكره والثناء عليه سببا لنسيانه لعبده وإنسائه نفسه فلا يلهمه مصالحه ولا يوفقه لإرادتها وطلبها فقال تعالى { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } 10 وقال تعالة { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } 11 فلما نسوا ذكره والثناء عليه وتحميده وتمجيده نسيهم من رحمته وأنساهم مصالح نفوسهم فلم يعرفوها ولم يطلبوها بل تركوها مهملة معطلة مع نقصها وعيوبها.

فصل ومن محبته للثناء عليه وتحميده وتمجيده أنه وعد عليه بما لم يعد به على غيره كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" وأخبر النبي أن مجالس الذكر رياض الجنة كما في السنن والمسند من حديث جابر قال خرج علينا النبي فقال: "يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض فارتعوا في رياض الجنة قالوا وأين رياض الجنة ؟ قال مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكروه أنفسكم من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه" وفي الترمذي وصحيح الحاكم عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني بشيء أتشبث به فقال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله". وفي السنن وصحيح الحاكم عن أبي هريرة قال قال رسول الله : "سبق المفردون قالوا يا رسول الله وما المفردون؟ قال الذين يهمزون في ذكر الله" وفي لفظ "وضع الذكر عنهم أثقالهم فوردوا القيامة خفافا". وفيهما عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله يقول: "أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه" وفيهما عنه أيضا "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرا لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا وما ذاك يا رسول الله ؟ قال ذكر الله" وقال معاذ بن جبل ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله وفيهما أيضا من حديث النعمان بن بشير قال قال رسول الله : "الذين يذكرون من جلال الله التحميد والتسبيح والتكبير والتهليل ينعطفن حول عرش الرحمن لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن أفلا يحب أحدكم أن يكون له عند الرحمن شيء يذكر به" وفي صحيح الحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله : "من قال في يوم مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لم يسبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد كان بعده إلا من عمل عملا أفضل من عمله". وفيه أيضا عن خالد أن النبي قال: "من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة " وفي الترمذي وصحيح الحاكم أيضا عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله : "ما على الأرض رجل يقول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر" وفي صحيح الحاكم أيضا عن أنس قال قال رسول الله : "قال الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معك إذا ذكرتني وفي صحيح الحاكم ابن حبان عن أنس قال كنا مع النبي في حلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد تشهد ودعا فقال اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي : "لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى" وفيهما أيضا عن بريدة أن النبي سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال النبي : "لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" فأخبر أن هذا هو الاسم الأعظم لما تضمنه من الحمد والثناء والمجد والتوحيد ولمحبة الرب تعالى لذلك أجاب من دعا به وهذا باب يطول تتبعه جدا.

والمقصود أنه إذا كان لا معنى للمدح إلا الإخبار المتضمن فرح الممدوح وليس أحد أحب إليه المدح من الله وحمده والثناء عليه وذلك عنده بالمنزلة التي لا يمكن وصفها ولا يحيط بها البشر كان المنكر لفرحه وما يستلزمه فرحه منكر لحقيقة حمده ومدحه والثناء عليه وتمجيده وحينئذ فنقول في


هامش

  1. [فاطر1]
  2. [الأنعام1]
  3. [الزمر75]
  4. [الجمعة 10]
  5. [آل عمران191]
  6. [المنافقون9]
  7. [الأنفال45]
  8. [الأحزاب 41، 43]
  9. [البقرة 152]
  10. [التوبة 67]
  11. [الحشر 19]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة