الملحق بذيل الروذراوري

الملحق بذيل الروذراوري
  ►ذيل تجارب الأمم للروذرواوري وهو الجزء الثامن من تاريخ هلال الصابئ ◄  


بسم الله الرحمن الرحيم

(حوادث سنة 389 إلى 393 هجرية)

شرح الحال في قبض أبي شجاع بكران بن بلفوارس على أبي القاسم الحسين بن مما نقيب النقباء

استوحش أبو شجاع بكران من أبي القاسم ابن مما وسعى بينهما سعاة بالفساد. فقبض عليه بغير أمر بهاء الدولة والموفق واعتقله وقيّده ووكّل به أبا العباس كوشيار بن المرزبان وجماعة من الديلم وضيّق عليه ومنع كل أحد من الوصول اليه. وقلّد أبا الحسين محمد بن راشد نقابة النقباء وأنزله في دار أبي القاسم بسوق السلاح وتتبّع أسبابه وأصحابه وهمّ على ما قيل بالفتك به وطالبه بما يصححه ويقرره على نفسه. وتوسط أمره أبو الفتح منصور بن جعفر وضمن عنه عشرين ألف دينار وأخذه الى داره. وعرف أبو الحسن محمد بن عمر ما جرى فأمسك إمساك لا راض ولا منكر. فلما قيل له: إن أبا الحسين بن راشد يتقلد موضعه قامت القيامة عليه غيظا منه وتذكرا لما كان عامله به، وأطلق لسانه في أبي شجاع بكران وابن راشد بكلّ قول وكتب إلى الموفق بمثله، وجاءه ابن راشد فحجبه واجتهد في استعطاف رأيه فلم يجد إلى ذلك سبيلا.

ونفذت الكتب الى الموفق بالصورة فامتعض الامتعاض الشديد منها، وكاتب أبا شجاع بكران بما أغلظ له فيه، والشريف أبا الحسن بانتزاع أبي القاسم بن مما من يده وارتجاع الكفالات التي أخذهما منه بالمال الذي قرّره عليه. وكتب الى أبي العباس أحمد الفراش باعتناق هذا الأمر والمضيّ إلى أبي شجاع بكران وملازمته إلى أن يفرج عنه ويردّ عليه خطوط الكافلين به.

وفعلت الجماعة ما رسم لها وأفرج عن أبي القاسم في يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول، وردت عليه الكفالات بالمال المذكور. ثم انحدر من بعد إلى الأهواز وجدد عهدا بخدمة بهاء الدولة والموفق. وأنفذ الموفق أبا الحرب شيرزيل بن أبي الفوارس إلى بغداد للقيام مقام أبي شجاع وبكران أخيه. فكان وروده يوم الخميس لسبع بقين من شهر ربيع الآخر، وردّ أبا القاسم ابن مما فكان وروده يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى وقبض على أبي العباس كوشيار وأقطع إقطاعه وكان من أكبر الأسباب فيما جرى على أبي القاسم.

وفي يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول برز الأمير أبو منصور بويه بن بهاء الدولة إلى المعسكر بالاتانين متوجها إلى الأهواز وسار في يوم الجمعة بعده.

ووجدت في بعض التقاويم أنّه انقضّ في يوم الأحد المذكور كوكب كبير ضحوة النهار.

ذكر إحراق دار الحمولى

وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر ربيع الآخر أحرق العامة دار الحمولى، فمضت بأسرها ولم يبق فيها جدار قائم، واحترق ما كان فيها من حسبانات الدواوين.

ذكر السبب في ذلك

كان أبو نصر سابور قد حاول وضع العشر على ما يعمل من الثياب الأبريسميات والقطنيات بمدينة السلام. فثار أهل العتابيين وباب الشأم من ذلك وقصدوا المسجد الجامع بالمدينة يوم الجمعة العاشر من الشهر ومنعوا الخطبة والصلاة وضجّوا واستغاثوا وباكروا الأسواق على مثل هذه الصورة.

فلما كان في يوم الثلاثاء صاروا إلى دار أبي نصر سابور بدرب الديزج، فمنعهم أحداث العلويين منها وخرجوا من درب الديزج الى دجلة وطلبوا من جرى رسمه بالكون في دار الحمولى من الكتاب والمتصرفين.

فهربوا من بين أيديهم وطوحوا النار في الدار وأهمل إطفاؤها فاتت على جميعها.

وورد أبو حرب شيرزيل ناظرا في البلد على ما قدمنا ذكره فقبض على جماعة من القامة اتهموا بما جرى من الحريق وصلب أربعة أنفار على باب دار الحمولى، وذلك في يوم الخميس الذي دخل فيه. واستقر الأمر على أخذ العشر من قيم الثياب الابريسميات خاصة، ونودى بذلك بالجانب الغربي في يوم الأحد الرابع من جمادى الأولى وبالجانب الشرقي في يوم الاثنين.

وثبت هذا الرسم ورتّب في جبابته ناظرون ومتولّون وأفرد له ديوان في دار بالبركة، ووضعت الختوم على جميع ما يقطع من المناسج ويباع ويختم.

واستمرت الحال على ذلك إلى آخر أيام عميد الجيوش أبي على ثم أسقطه وأزال رسمه على ما سنذكره في موضعه.

وفي يوم الجمعة لستّ بقين منه توفّى أبو القاسم ابن حبابة المحدث وصلّى عليه أبو حامد الإسفراينى بمسجد الشرقية.

وفي يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى خلع على الشريف أبي الحسين محمد بن علي بن الحسن المربنى من دار الخلافة ولقّب: نقيب النقباء.

وفي يوم الاثنين الثاني من جمادى الآخرة توفّى أبو الحسين المتطبب تلميذ سنان.

وفي رجب قلد أبو العلاء الحسين بن محمد الإسكافي الخزائن والاستعمال فيه.

وفيه انحدر أبو شجاع بكران الى واسط.

وفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان توفّى أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله العلوي بالكوفة.

وفي يوم السبت الرابع من شهر رمضان توفّى أبو محمد حسان بن عمر الحريري الشاهد.

مقتل محمد بن علي الحاجب

وفي ليلة الجمعة مستهلّ شوال قتل أبو عبد الله محمد بن عليّ بن هدهد الحاجب الناظر في المعونة.

شرح الحال في ذلك

جرت بين ابن هدهد وبين أبي الحسن ابن رهزاذ الأحول نبوة لأمر سأله فيه وردّه عنه، وتزايد ما بينهما إلى أن بذل أبو الحسن فيه بذلا كثيرا. فقبض أبو نصر سابور عليه وسلّمه إليه واعتقل أبو الحسن في داره. فلما كان في ليلة يوم الجمعة كبسه العيارون وقتلوه واتهم ابن رهزاذ بأنه وضعهم على ذلك. فقبض عليهم وهم الشريف أبو الحسن محمد بن عمر بأن يقيده به.

فسأله أبو القاسم ابن مما في بابه وأخذه إلى داره وكتب إلى الموفق بما جرى ووقف الأمر على ما يعود من جوابه ثم أفرج عنه.

وفي يوم الثلاثاء لخمس خلون منه قلّد أبو الحسن على ابن أبي عليّ المعونة بجانبي مدينة السلام وخلع عليه. وفي هذا الشهر قصد أبو الحسن علي بن مزيد أبا الفواس قلج بدير العاقول، فانهزم من بين يديه ونهب البلد.

وفي يوم الأحد لليلتين خلتا من ذي القعدة ضربت الدراهم التي سمّيت « الفتحية ».

وفي يوم الاثنين العاشر منه ورد قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار ابن أحمد وأبو الحسين علي بن ميكال حاجين وتلقّاهما القضاة والفقهاء والشهود ووجوه الناس وأبو القاسم ابن مما وأصحاب الشريف أبي الحسن محمد بن عمر وابى نصر سابور وروعيا بالأنزال والملاطفات.

مقتل أصحاب محمد بن عناز

وفي ذي الحجّة قتل أصحاب أبي الفتح محمد بن عناز: زهمان بن هندي وأولاده دلف ومقداد وهندي.

شرح الحال في ذلك

حدثني أبو المعمر إبراهيم بن الحسين البسامي قال: كان زهمان مستوليا على خانقين وما يجاورهما. فلما قتل المعلم عليا ابنه ضعف أمره ولان غمزه. وعاد أبو الفتح محمد بن عناز من حرب بنى عقيل بالموصل مع أبي جعفر الحجاج فقلّد حماية الدسكرة وجرت بينه وبينه مجاذبات ومنازعات والأيام تقوّى أبا الفتح وتضعف زهمان، وكان منه في قصده ونهبه مع أبي على ابن إسماعيل على ما قدمنا ذكره.

وانتهت الحال بينهما الى الصلح والموادعة والاختلاط والألفة وأرخى أبو الفتح من عنانه وأعطاه من نفسه كل ما تأكد به أنسه. فصار إليه هو وأولاده وتمكن منهم فقبض عليهم ونقلهم إلى قلعة البردان فاعتقلهم فيها وتفرق أصحابه وملك عليهم نواحيهم.

ومضت على ذلك مدة فثار أولاد زهمان وكسروا قيودهم وحاولوا الفتك بالموكلين بهم والاستيلاء على القلعة. فصاح الموكلون واجتمع إليهم من عاونهم فقتلوا الثلاثة المذكورين من أولاد زهمان بحضرته وأخذوه فجعلوه في بيت وسدّوا بابه وكانوا [ يدخلون ] من كوّة فيه قرصة من شعير وقليل ماء، فبقى أيّاما ومات.

وقد جرت عادة الشيعة في الكرخ وباب الطاق بنصب القباب وتعليق الثياب وإظهار الزينة في يوم الغدير وإشعال النار في ليلته ونحر جمل في صبيحته. فأرادت الطائفة الأخرى من السنّة أن تعمل لأنفسها وفي محالّها وأسواقها ما يكون بإزاء ذلك. فادّعت أنّ اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل فيه النبي ، وأبو بكر رضي الله عنه، في الغار وعملت مثل ما تعمله الشيعة في يوم الغدير. وجعلت بإزاء يوم عاشوراء يوما بعده بثمانية أيام نسبته إلى مقتل مصعب بن الزبير وزارت قبره بمسكن كما يزار قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، بالحائر. وكان ابتداء ما عمل من يوم الغدير في يوم الجمعة لأربع بقين من ذي الحجة.

وحج بالناس في هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر. وحج فيها الوزير أبو منصور محمد بن الحسن بن صالحان والشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي والرضى أبو الحسن أخوه، والوزير أبو على الحسن بن أبي الريّان حمد بن محمد.

وفي هذه السنة حصل عمدة الدولة أبو اسحق إبراهيم ابن معز الدولة بالموصل واردا من مصر وكثر الارجاف له وبه وأقام مديدة ثم سار إلى الرّى وقصد أبرقويه وتلك الأعمال، وعاد بعد ذاك إلى مصر فكانت وفاته بها.

وفيها وافى برد شديد مع غيم مطبق وريح مغرب متصلة، فهلك من النخل في سواد مدينة السلام ألوف كثيرة وسلم ما سلم ضعيفا. فلم يرجع إلى جلاله وجملته إلّا بعد سنين.

وفيها استولى الأمير أبو القاسم محمود بن سبكتكين على أعمال خراسان بعد أن واقع عبد الملك بن نوح بن منصور وتوزون وفائق وابن سيمجور بظاهر مرو وهزمهم وأقام الدعوة لأمير المؤمنين القادر بالله أطال الله بقاءه وقد كان القائمون بالأمر من بنى سامان مستمرين على إقامتها للطائع لله، وورد من الأمير أبي القاسم محمود بهذا الذكر كتاب نسخته بعد التصدير الذي جرت العادة به في مكاتبة الخلفاء:

« بسم الله الرحمن الرحيم» « أما بعد، فالحمد لله العلى مكانه الرفيع سلطانه الواحد الأحد الفرد الصمد العزيز القهار القويّ الجبار الذي يكفل بإعلاء الحق ورفعه وإخزاء الباطل وقمعه، الحائق بشيع البغي والعدوان مكره اللاحق بفرق الطغيان، قهره وقسره الحاكم لأوليائه بالعلو والاقتدار، الحاتم على أعدائه بالثبور والتبار، المتفرد بجلاله أن يمانع المتعالي بكبريائه أن يدافع يمهل المغتر بأناته استدراجا ولا يمهل، ويملى المخدوع بحلمه احتجاجا ولا يغفل، بيده الخلق والأمر ومن عنده الفتح والنصر، فتبارك الله رب العالمين رب السموات والأرضين. والحمد لله الذي اصطفى محمدا   واختار له دين الإسلام، وفضّله على من تقدمه من الرسل، وأنار به مناهج الآيات والسبل، وأرسله إلى الخلق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، فهدى إلى القرآن والتوحيد ودلّ على الأمر الرشيد، وأهاب بالبرية إلى مستقيم الدين وأناف بهم على العلم اليقين. فصلوات الله عليهم أتمّ صلاة نماء، وأكملها بهاء صلاة، ترتقى إليه جل جلاله في أعلى الدرجات، وتحيى روحه في السموات، وعلى آله أجمعين.

« والحمد لله الذي أنشأ سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الإمام القادر بالله أطال الله بقاءه من ذلك السنخ الزكي والعرق النقي أحسن منشأ، وبوّأه من خلافته في أرضه أكرم مبوأ، وجعل دولته عالية والأقدار لإرادته مؤاتية، فلا يخالف رايته عدوّ إلّا حان حينه وسخنت عينه، ولا يجيب دعوته وليّ إلّا كان قدحه في القداح فائزا، وسعيه للنجاح حائزا، بذلك جرت عادة الله وسننه، ولن تجد لسنة الله تحويلا.

« وقد علم مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، حال الماضين من السامانية فما كانوا فيه من نفاذ الأمر وجمال الذكر وانتظام الأحوال واتساق الأعمال، بما كانوا يظهرونه من طاعة أمير المؤمنين ومبايعتهم، وينحلونه من موالاتهم ومشايعتهم.

ولمّا مضى صالح سلفهم وبقي خلف خلفهم خلعوا ربقة الطاعة، وشقّوا مخالفة لمولانا أمير المؤمنين أطال بقاءه عصا الجماعة، وأخلوا منابر خراسان عن ذكره واسمه، وخالفوا في إفاضة القول وحسم عادية الجور والخبل عالى أمره ورسمه، وعمّ البلاد والعباد فسادهم وبلاؤهم، ونهك الرعايا ظلمهم واعتداؤهم.

« ولم استجز مع ما جمع الله لي في طاعة مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، من عدّة وعدّة، وشكّة وشوكة، وقوّة أقران وإمكان، وكثرة أنصار وأعوان، إلّا أدعوهم إلى حسن الطاعة، ولا أبذل في إقامة الدعوة لمولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه تمام الوسع والاستطاعة. فدعوت منصور بن نوح إليها وبعثته بجدّى واجتهادي عليها ولم يصغ إلى إعذار وتذكير ولم يلتفت إلى إنذار وتبصير، ونهض من بخارا بخيله ورجله وحشده. حفله يجمع على أهل الضلالة من أشياعه، ويحشر من في البلاد من أتباعه. فكان من شؤم رأيه وسوء انحائه أن اصطلمه جنده فكحلوه، وبايعوا أخاه عبد الملك وملكوه.

وجريت على عادتي مع هذا الأخير أوفد إليه مرّة بعد أخرى وثانية عقب أولى، من يدعوه إلى الرشاد ويبصره من التمسك بطاعة مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه سبل الرشاد. فلم يزده ذلك إلّا ما زاد أخاه استعصاء واستغواء، وتهوّرا في الضلال واستشراء.

« فلما أيست من فيئه إلى واضح الجدد، ورجوعه الى الأحسن والأعود، ورأيته متتابعا في عمايته ومتكسّعا في مهاوي غوايته، نهضت إليه بمن معي من أولياء مولانا أمير المؤمنين أدام الله علوّه وأنصار الدين في جيوش يشرق بها الفضاء ويشفق من وقعها القضاء، تزحف في الحديد زحفا وتخد الأرض جرفا ونسفا، إلى أن وردت مرو يوم الثلاثاء لثلاث بقين من جمادى الأولى وهو البلد الميمون الذي به ابتدأ إشاعة الدولة العباسية، وزالت البدعة الأموية على أحسن تعبية وأكمل عتاد، وأجمل هيئة، ووليت أمر الميمنة عبد مولانا أمير المؤمنين أخي نصر بن ناصر الدولة والدين في عشرة آلاف رجل وثلاثين فيلا، وجعلت في الميسرة من الموالي الناصرية اثنى عشر ألف فارس وأربعين فيلا، ووقفت في القلب بقلب لا يتقلّب، وطاعة مولانا أمير المؤمنين شعاره عن أضداده، وعزم لا ينتقض ودعوة أمير المؤمنين عتاده في إصداره وإيراده، ومعي عشرون ألف فارس من سائف ورامح ودارع وتارس، وسبعون فيلا، وبرز عبد الملك بن نوح وعن يمينه ويساره بكتوزون أحد غواته وفائق رأس طغاته وعتاته، وابن سيمجور وغيرهم من مساعديه على ضلالته، مستعدين للكفاح مستلئمين في شك السلاح، وتلاقت الصفوف بالصفوف، واصطلت السيوف بالسيوف، وتوقّدت الحرب واحتدّت واضطرمت نيرانها واشتدت، واختلط الضرب بالطعن، وكبا القرن بالقرن، ولم ير إلّا تهاوى الصوارم على حجب الجماجم وأوداق النبال، في أحداق الكماة والابطال. وأهبّ الله ريح الظفر لأوليائه وكشفوا مقانب الأعداء وحملوا فيهم الحتوف وأرووا من دمائهم السيوف، وانجلت المعركة عن ألفى قتيل من شجعانهم وأبطالهم، وألفى وخمسمائة أسير من مشهوري ذادة رجالهم وصناديدهم، واقتفى الأولياء أثار الفلّ من عباديدهم يقتلون ويأسرون ويسلبون ويغنمون، إلى أن ألقت الشمس يمينها وأبرزت ظلمة الليل جنينها، وعاد الأولياء إلى معسكرهم في وفور من السلامة وتمام من النعمة، وقد ملئوا أيديهم من الغنيمة والنفائس الجمّة، ثم ما نضب منهم أحد ولم ينتقص لهم عدد. و [ أكتب ] كتابي هذا وقد فتح الله تعالى لمولانا أمير المؤمنين بلاد خراسان قاطبة، وجعل منابرها تذكر اسمه متباهية، وكلمة الحق به عالية والأهواء في موالاته متهادية.

« وبعد فلم أجدّد رسما في حلّ وعقد وإبرام ونقض، إلى أن يرد من عالى أمره ورسمه ما أبنى الأمر ببنائه، وأحتدى إلى حدائه بإرادة الله سبحانه وتعالى. فالحمد لله العزيز المنّان العظيم السلطان، الذي لا يضيع لمحسن عملا ولا يغفل عن مسيء وان أرخى له أجلا. ولا يعجزه متغلب بقوّته وحوله ولا يمتنع ممتنع عن سطوته وصوله. ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين رادّ، ولا يصدّ نقمته عن الظالمين صادّ، حمدا يمترى المزيد من إحسانه، ويقتضى الصنع الجديد من امتنانه. وإيّاه أسأل أن يهنئ مولانا أمير المؤمنين الإمام القادر بالله خير هذا الفتح الجليل خطره الواضح على وجه الزمان غرره. وان يواصل له الفتوح قربا وبعدا وغورا ونجدا وبرّا وبحرا وسهلا ووعرا، وأن يوفّقنى للقيام بشرائط خدمته والمناضلة عن بيضته، إنّه على ما يشاء قدير وبه جدير. فإن رأى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ان ينعم بالوقوف عليه وتصريف عبده بين أمره ونهيه فعل، إن شاء الله تعالى. »

سنة تسعين وثلاثمائة

أولها يوم الأربعاء والثالث عشر من كانون الأول سنة احدى عشرة وثلاثمائة وألف للإسكندر، وروز آسمان من ماه آذر سنة ثمان وستّين وثلاثمائة ليزدجرد.

في يوم الاثنين السادس من المحرم توفى أبو الحسين علي بن المؤمّل بن ميمان كاتب ديوان السواد.

وفي يوم الجمعة لعشر خلون منه توفّى أبو بكر أحمد بن علي السمسار المعروف بأبي شيخ البزاز.

وفي يوم الخميس لسبع بقين منه توفّى القاضي أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي موسى الهاشمي.

احتراق أرسلان البستي

وفي هذا الشهر احترق ارسلان البستي وذاك أنّه كان نائما في خركاه له وبه نقرس مزمن قد منعه الحركة والقدرة على النهضة وفرّاشوه وغلمانه بعيدون منه فسقطت شرارة من شمعة كانت في الخركاه على فراشه فأحرقته وانتبه ولا فضل فيه للقيام من موضعه والنجاة بنفسه فصاح صياحا حجز الليل ونوم الغلمان عن سماعه، وعملت النار في الفراش والخركاه. فما عرف الخبر إلّا بعد احتراقه وهلاكه.

وفيه خرج الموفّق أبو عليّ إلى جبل جيلويه في طلب أبي نصر ابن بختيار وانتهى إلى أبرقويه وعاد في صفر. وفي هذه الخرجة لقّب بعمدة الملك، مضافا إلى الموفّق، وأذن له في ضرب الطبل اوقات الصلوات الخمس، ولقّب أبو المغمر ولده بربيب النعمة.

وفي صفر ورد الكتاب من شيراز بتقليب المشطب أبي طاهر سباشى بالسعيد، والإشراك بينه وبين المناصح أبي الهيجاء تختكين الجرجاني في مراعاة أمور الأتراك في مدينة السلام.

وفي يوم [ الخميس ] السابع منه توفّى أبو منصور محمد بن أحمد بن الحوارى بالأهواز.

وفي يوم الاثنين العاشر من شهر ربيع الأول توفّى أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي ودفن في حجرة من داره بدرب منصور مدة، ثم نقل إلى المشهد بالكوفة، وحضر جنازته أبو نصر سابور بن أردشير وأبو حرب شيرزيل بن أبي الفوارس، والمناصح أبو الهيجاء تختكين الجرجاني وسائر طبقات الناس.

ذكر ما جرى عليه الأمر في تركته وضيعته

لما توفّى انفذ أبو نصر سابور فحظر على ما في داره وخزانته ووكل باصطبلاته وطلب كتّابه وجهابذته، فلم يجد أحدا منهم. لأنّ أبا الحسن علي بن الحسن بن إسحق هرب وهرب الجهبذ معه واستتر الباقون من أصحابه.

وأحضر أبا عبد الله البطحانى العلوي وطالبه بما عنده من وصيته وماله فامتنع من تسليم ذاك وأخلد فيه إلى الاعتلال والإنكار واعتقله اعتقالا جميلا. ونفذت الكتب إلى بهاء الدولة والموفق بما تجدّد وكتب أبو الحسن محمد بن الحسن ابن يحيى العلوي وقد كان عاد من الأهواز الى واسط بعد الفتح في أمر الورثة والتركة فعاد الجواب اليه بالإصعاد إلى بغداد والقيام بها مقام أبي الحسن محمد بن عمر. وتقرّر أمر التركة على خمسين ألف دينار تحمل إلى الخزانة.

فحدّثني أبو القاسم ابن المطلب قال: تقرر الأمر بفارس على خمسين ألف دينار صلحا عن التركة وأن يكون النصف من الأملاك للخاص والنصف للورثة. ثم أفرد قسط السلطان فحصل له به الثلثان لأنّه أخذ عيون الضياع وجمع موجود التركة فلم يف بالتقرير حتى تمم بأثمان أملاك بيعت من جملة ما حصل للورثة من الضياع على أبي على عمر بن محمد بن عمر وأبي عبد الله الحسين بن الحسن بن يحيى وأبي محمد عليّ وابن محمد بن الحسن بن يحيى وأبي على عمر بن محمد بن الحسن بن يحيى.

وأصعد أبو الحسن بن يحيى إلى بغداد فكان دخوله إياها في يوم الأربعاء الثاني من جمادى الأولى ومعه أبو على عمر بن محمد بن عمر وأبو الحسن ابن اسحق الكاتب وكان انحدر إلى واسط فلقيه في الطريق وعاد في صحبته وأطلق أبو عبد الله البطحانى وسلّم إليه وراعى أبو الحسن القسط السلطاني من المعمريات وتولّى (أبو) الحسن ابن إسحق النظر فيه.

وارتفع في هذه السنة وهي سنة تسع وثمانين وثلاثمائة الخراجية على ما ذكره أبو القاسم بن المطلب مع حق الورثة وسوى حقوق بيت المال بألفي كرّ ونيّف حنطة وشعيرا وأصنافا وتسعة عشر ألف دينار وكسر.

وفي يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر ربيع الأول قبل القاضي أبو محمد ابن الأكفانى شهادة أبي القاسم ابن المنذر وأبي الحسين بن الحرّانى وفي يوم الجمعة لليلتين بقيتا منه قبل شهادة أبي العلاء الواسطي.

وفي ليلة يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر ولد الأمير أبو الفوارس ابن بهاء الدولة بشيراز والطالع كوكب من العقرب.

وفي يوم الخميس لخمس بقين منه توفّى أبو عمر أحمد بن موسى العلاف الشاهد بالجانب الشرقي.

وفي يوم الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى خلع على الموفّق أبي على بفارس بالقباء والفرجية والسيف والمنطقة والدستى المذهّب، وحمل على دابّة بمركب ذهب وقيّد بين يديه دابّة بمركب مذهّب وبغلة بجناغ نمور ومركب بقبل مذهب وثلاثة أفراس بجلال ديباج، وأعطى دواة محلّاة بالذهب، وحمل معه ترس من ذهب وسائر السلاح وخلع على أبي نصر كاتبه وثلاثة من حجّابه ودوّاتيه وأستاذ داره، وخرج لقتال أبي نصر ابن بختيار ومعه العساكر بعد أن استناب أبا غالب محمد بن خلف بشيراز على مراعاة الأمور وأبا الفضل الإسكافي بحضرة بهاء الدولة.

شرح الحال في عود ابن بختيار وما جرى عليه أمر الموفق في قصده إياه وظفره به وأمر عسكر ابن بختيار بعد قتله

لما انهزم أبو نصر بن بختيار من باب شيراز صار إلى الأكراد وانتقل إلى أطراف بلاد الديلم. وكاتب الديلم بفارس وكرمان لما استقرت به الدار هناك وكاتبوه واستدعوه واستجرّوه. فصار إلى أبرقويه واجتمعت معه طائفة كبيرة من ديلم وأتراك وزطّ وأكراد وتردّد في نواحي فارس وتنقل في أطرافها وظهر أمره وشاع خبره وواصل مكاتبة الديلم ومراسلتهم واجتذابهم واستمالتهم. وخرج الموفق أبو عليّ في طلبه إلى جبل جيلويه وانتهى في اتّباعه إلى أبرقويه. وكان يهرب ويراوغ ويدافع ولا يواقف ومضى إلى السيرجان.

فحدّثني أبو عبد الله الفسوي قال: لمّا قصد ابن بختيار السيرجان لم يقبله الديلم الذين بها وكرهوا حصوله عندهم ومقامه بينهم.

وكان أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن بجيرفت فنبا بابن بختيار المقام بهذا المكان وسار إلى خانين والفرخان، وهما ناحيتان بين فارس وكرمان وفيهما خلق كثير من حملة السلاح وفي أكنافهما حلل الزطّ الذين هم أشد الرجالة الفارسيين شوكة وأكثرهم عدة، واستمال منهم طائفة كثيرة وأقبل الديلم وغيرهم إليه أرسالا من نواحي كورة درابجرد ومن سائر الأصقاع.

وعمل أستاذ هرمز على قصده قبل استفحال أمره، فجمع عساكر كرمان وتوجه لطلبه، وسبقه ابن بختيار الى دشتير، والتقيا في موضع يعرف بزيرل، من ظاهرها واستأمن إلى ابن بختيار كثير من الديلم الذين كانوا مع أستاذ هرمز، فانهزم أستاذ هرمز في خواصه وأقاربه من القوهية وصار الى السيرجان. ومضى ابن بختيار إلى جيرفت ورتب العمال وجبى الأموال وأنفذ الى شقّ بمّ من استغوى له الجند الذين فيها ودعاهم إلى طاعته وملك أكثر كرمان واستولى عليها وانتشر أصحابه فيها يطرقون أعمالها ويستخرجون ارتفاعها وأستاذ هرمز بالسيرجان ينفذ السرايا إلى النواحي ويكبس أصحاب ابن بختيار ويسلك سبيل الغيلة والمكيدة في طلبهم والإيقاع بهم.

ثم ورد عليه كتاب الموفق بأنّه سائر، ورسم له قصد بردشير وسبق ابن بختيار إليها. ففعل ذاك وحصل بباب بردشير وصعد من كان بها من ديلم ابن بختيار إلى قلعتها ومنعوا نفوسهم فيها وتوجه الموفّق إلى كرمان على طريق درابجرد. فلما وصل إلى فسا عسكر بظاهرها، وعرف أبو عبد الله الحسين بن محمد بن يوسف وهو عامل كورة درابجرد خروجه من شيراز فبادر لاستقباله وخدمته، فوافق وصوله إلى معسكره أن كان نائما، فما انتبه إلّا بصهيل الخيل وضجيج الأتباع والحشم فشاهد من كثرة حواشيه وضففه وسعة كراعه ورجله ما عظم في نفسه وحمله حسده عليه على أن قبض عليه وعلى أصحابه وأخذه معه محمولا على جمل، بعد أن احتوى على جميع ماله.

فكان إذا نزل في المنزل أحضره وطالبه وضربه وعذّبه حتى تقدم في بعض الأيام بأن يعلق بإحدى يديه في بعض أعمدة الخيم وأن يحمل على الجمل معلّقا، وهو مع هذه المعاملة لا يستجيب إلى التزام درهم ولا يذعن بقليل ولا كثير، وكان أكثر ما انتهى به الموفق إليه لغيظه من تقاعده وتماتنه.

فذكر أبو عبد الله أنّه عرف من بعض أصحابه - يعنى الموفق - انه قال:

« ما رأيت أشد نفسا من هذا الرجل فقد عذّب اليوم بكل نوع من العذاب وحلّ الساعة عن الشدّ والتعليق وهو جالس يسرح لحيته بيده وما عنده فكر في كل ما لحقه. »

وعرف ابن بختيار مسير الموفّق، فاستخلف الحسين بن مستر قرابة ملك ديلمان بجيرفت في جماعة من رجاله وسار طالبا لبردشير وعاملا على التحصن بها، إلى أن تلحق به أصحابه ببمّ ونرماسير، وقد كان كاتبهم واستدعاهم وهم جمرة قوية. فلما توسط الطريق إليها بلغه حصول أستاذ هرمز بها وصعود أصحابه إلى القلعة فعدل الى طريق بمّ ونرماسير وكاتب من بهما من عسكره بالمصير الى دار زين، وتمم هو إليها. فنزلها منتظرا لوصولهم اليه ورحل الموفق من فسا وطوى المنازل حتى أطلّ على جيرفت واستأمن إليه من بها من الديلم لأنّهم لم يجدوا مهربا ولا منصرفا وكانوا نحو أربع مائة رجل.

فاستوقف عندهم أبا الفتح ابن المؤمّل وأبا الفضل محمد ابن القاسم بن سودمند العارض وقال لهم:

« قد أقمتهما عندكم ليعرضاكم ويقررا أموركم ».

ووصاهما بأن يقتلاهم. فجمعاهم إلى بستان في دار الإمارة على أن يعرضوا فيه من غد ذلك اليوم ثم جمعا الرجالة الكوج واستدعيا واحدا واحدا على سبيل العرض وقتلاه وكان هذا الفعل منهما ليلا. ثم خافا أن ينقضي الليل ويدرك الصباح قبل الفراغ فرموا بقيتهم في بئر كرد كانت في البستان وطرح التراب فوقهم.

وعرف الموفق من جيرفت خبر ابن بختيار وأخذه طريق بمّ ونرماسير، فخلف أثقاله وسواده واتبعه فيمن خفّ ركابه وثبتت دوابّه وخاطر بنفسه وبالمملكة في هذا الفعل منه.

فحدثني أبو منصور مردوست بن بكران، وكان معه وإليه خزانة السلاح السلطانية التي في صحبته وهو داخل في ثقاته وخاصته قال: كلّت أجسامنا ودوابّنا من مواصلة السير وإغذاذه وترك الإراحة في ليل أو نهار، ووصلنا إلى جيرفت وما نعرف لابن بختيار خبرا. وقعد الموفق وجمع الوجوه من الديلم والأتراك واستشارهم. فكلّ أشار بالتوقف والتثبت وتجنب المخاطرة بالاقدام والتهجم فامتنع من قبول ذاك فأقام على أمره في الإسراء وراء ابن بختيار واستدعى منجما كان صحبه من شيراز فقال له: « أليس حكمت بأننى آخذ ابن بختيار وأظفر به في يوم الاثنين الآتي ».

قال: « نعم ».

قال: « أين ذاك ونحن على هذه الصورة والرجل مستعجم الخبر وانما بقي من الأيّام خمسة أيام؟ » فقال: « أنا مقيم على قولي في حكمي، ومتى لم تظفر في اليوم الذي ذكرته فدمى لك حلال، وإن ظفرت فأيّ شيء تعطيني؟ » قال [ أبو منصور ]: فتضاحكنا به وهزئنا منه وسار فكان الظفر في اليوم الذي نصّ عليه.

وحدثني أبو نصر السني كاتب الموفّق قال:

لمّا عظم أمر ابن بختيار وملك كرمان واجتمع عليه الديلم قلق بهاء الدولة بذلك وطالب الموفق بالخروج لقصده وحربه وكان مخاطبا له على الاستعفاء وقال له:

« لو أجبتك إلى الاستعفاء لما حسن بك ان تتقبّله في مثل هذا الوقت وقد علمت أنّنى لم أخرج من واسط إلّا برأيك ولا وصلت الى ما وصلت إليه من هذه الممالك إلّا برأيك واجتهادك. وإذا قعدت بي في هذه الضغطة فقد أسلمتنى وضيّعت ما قدّمته في خدمتي. ولكن تمضى في هذا الوجه وتدفع عني هذا العدوّ وتجعل للاستعفاء والخطاب عليه وقتا آخر فيما بعد. »

فلم يمكنه في جواب هذا القول إلّا الطاعة والقبول، وخلع عليه وسار والديلم والأتراك يخرجون معه أرسالا بغير مطالبة ولا تجريد، حتى إنّه كان يردّ قوما منهم فيسألونه ويضرعون إليه في استصحابهم.

ولمّا حصل بفسا وجد بها جوامرد أبا ذرعانى معتقلا عند أبي موسى خواجه بن سياهجنك، وهو إذ ذاك والى فسا. وقد كان جوامرد عند إفراج الموفق عنه بشيراز حصل في جملة خمارتكين البهائي وفارقه وهرب إلى ابن بختيار عند وروده وحصل معه واختص به. ثم أنفذه إلى الغلمان بفسا ليتخبرهم له وأنفذ وندرين بن بلفضل هركامج إلى الديلم ووندرين ممن كان بفسا وهو وجه متقدم وأصحبهما رقاعا وخواتيم.

فحدثني الحسين أبو عبد الله ابن الحسن قال:

أنفذ ابن بختيار وندرين ابن بلفضل إلى الديلم بفسا لاستمالتهم وإفسادهم وموافقتهم على الانحياز إليه والنداء بشعاره. فوصل واستتر في دار حبنة بن الاسبهسلار ولامج. وكان يحضر عنده طوائف الديلم سرا ويستجيبون له إلى ما يدعوهم إليه ويتسلمون الرقاع والخواتيم منه.

وكان أبو الفضل أحمد بن محمد الفسوي في الوقت متصرفا على باب دخول دار (كذا) خواجه بن سياهجنك (سباهجنك؟ ) لأنه كان والى الكورة.

فحدثني غير واحد أنّ أبا الفضل كان يعشق خادمة في دار حبنة الذي قدمنا ذكره وتواصله وتزوره في أكثر الأوقات، فتأخرت عنه. لأنّ حبنة وكّلها بخدمة المستتر عنده. فراسلها أبو الفضل يعاتبها ويستبطئ عادتها في زيارته.

فحضرته فأخبرته بعذرها وكان عارفا بالديلم فاستوصفها الرجل فوصفته وعرفه وسألها أن تتلطف في إدخاله الدار ليلا وخبئه ليشاهد من يجتمع به.

ففعلت ذلك وحضر الدار سرا وشاهد وندرين وخرج من فوره إلى وندرش بن خواجه بن سياهجنك فقال له:

« عندي نصيحة تتعلق بالدولة وفيها لوالدك زيادة جاه ومنزلة. فان أحسن إليّ وقرّبنى وجعلني من خواجائية الديلم وخلع عليّ وقدّمنى، أخبرته بها. » فحمله وندرش إلى خواجه أبيه حتى توثق منه فيما اشترطه لنفسه ثم حدّثه حديث وندرين. وكان الوقت ليلا فأشفق أبو موسى خواجه بن سياهجنك من تزايد الأمر وظهور الفساد وأنفذ وندرش وسياهجنك ابنيه وجماعة من خواصه إلى دار حبنة حتى كبسوها وقبضوا على وندرين وحملوه إليه فقتله.

ووفى لأبي الفضل بما كان وعده وكان هذا ابتداء أمر أبي الفضل وتقدمه حتى انتهت به الحال الى ما سنورده في موضعه.

وعرف أبو موسى خبر جوامرد أبي ذرعانى، فقبض عليه واستأذن الموفق في أمره، فرسم له اعتقاله.

قال أبو نصر:

فلمّا حصل الموفق بفسا أحضر جوامرد ليلا وقال له:

« قد سلمت اننى مننت عليك بنفسك أولا بشيراز وثانيا عند ما ظهر من إفسادك في هذه الدفعة، والآن فإن كان فيك خير وعندك مقابلة لهذه الصنيعة فعلت بك المنزلة العالية الرفيعة.

قال له:

« فيما أمرتنى به وجدتني عند إيثارك ورضاك فيه. » قال: أفرج عنك سرّا وتمضى إلى ابن بختيار وتظهر له أنّك جئته هاربا وتتوصّل إلى أخذه أسيرا. فإذا أطلت عليك أو ألفتك به ان لم تتمكن من أخذه، تصير إليّ لألحقك منازل الأكابر من نظرائك. » قال: « أفعل ».

وواقفه وعاهده وشرط عليه أن يقلّده حجبة حجاب الأمير أبي منصور وخلّاه ليلا، واشيع من غد بأنه هرب من الاعتقال، وصار جوامرد إلى ابن بختيار وعاود خدمته.

وسار الموفق مجدّا مغذّا حتى أطلّ على جيرفت واستأمن إليه من بها من أصحاب ابن بختيار ودخلها ونزل بظاهرها واجتمع إليه أبو سعد فناخسره ابن باجعفر وأبو الخير شهرستان بن ذكى وأبو موسى خواجه بن سياهجنك وغيرهم من الوجوه وقالوا له:

« قد أسرفت أيّها الموفق في هذا السير الذي سرته وحملت نفسك فيه على ما لا تؤمن عاقبته وأنت في فعلك بين حالين: إمّا أن تهجم هجوما ينعكس علينا فقد أهلكت نفسك ونعوذ بالله بيدك وأهلكتنا، وإمّا أن تظفر بهذا الرجل فقد زال به ما كانت الحاجة داعية إليك وإلينا فيه. ومتى أمن هذا الملك كان أمنه سببا للتدبير علينا وامتداد عينه إلى نعمنا وأحوالنا، وتركك الأمر على جملته ووقوفك فيه عند ما بلغته أولى وأصلح. » فقال لهم:

« قد صدقتم في قولكم ونصحتم في رأيكم، ولكني قد حملت هذا من قصد هذه البلاد على ما خالفت فيه كل أحد من نصحائه وأصحاب رأيه ولزمني بذلك وبحكم ما لبسته من نعمته أن أوفيه الحق في مناصحته وأبذل له الوسع في طلب عدوه. ولا بد أن تساعدونى وتحملوا على نفوسكم في انجاز هذا النجاز معي ».

فقالوا له:

« لم نقل ما قلناه لنخالف عليك أو نقعد عنك، وإنما أوردنا ما وقع لنا أنه خدمة لك وإذا لم ترد ذلك فنحن طوعك ».

وقال أبو نصر: وبينما هو في ذلك حضر من عرّفه أنّ ابن بختيار بدرفاذ وهي على ثمانية فراسخ من جيرفت. فاختار ثلاثمائة رجل من الوجوه وذوي القوة والعدة من الديلم والأتراك وأخذ معه الجمازات والبغال والدواب عليها الرجل الخفيف والسلاح الكثير ومن لا بد منه من الركابية والأتباع وترك السواد والأثقال والحواشي والحشم بجيرفت وسار.

فلما وصل إلى درفاذ لم يجد بها ابن بختيار. وقيل: إنّه كان بها ومضى إلى سروستان كرمان. فمضى على طيته ووافى سروستان وقد سار ابن بختيار إلى دارزين فاضطر إلى اتباعه وخبره على صحته كالمستعجم عليه.

وكان في ذلك وقد تقدم بضبط الطرق وأخذ كل وارد وصادر إذ أحضر رجل رستاقى معه كتابان لابن بختيار بخط ابن جمهور وزيره: أحدهما إلى أهل سروستان بأن يعدّوا الأنزال والميرة، فإنه على الانكفاء إليهم عند وصول عسكره من بمّ للتوجه إلى بردشير، والآخر إلى جانويه بن حكمويه أحد الدعاة بجبال جيرفت يقول فيه:

« بلغنا حصول ابن إسماعيل بالسيرجان وأنّه على المسير إلى جيرفت وينبغي أن تأخذ عليه المضيق الفلاني (لطريق بين جبلين لا بد من سلوكه إلى جيرفت ويمكن فيه الاعتراض على العساكر بالعدة القليلة ومنعها الاجتياز). » قال أبو نصر: وسأل الموفق الرسول عن ابن بختيار وأين هو؟ قال:

« تركته بدارزين ينتظر وصول عسكره من بمّ ونرماسير. » فسرّ بما تحقق من خبره وسار من ليلته فيما بين العشاء والعتمة.

فلما قطعنا فرسخين رأينا نارا تلوح فظننّا أن ابن بختيار قد عرف خبرنا وسار لتلقّينا وحربنا، وانزعجنا واضطربنا وبادر أبو دلف لشكرستان بن ذكيّ ونفر معه لتعرف الحال. فعادوا بعد ابعاد وذكروا أنهار نار صيادين وتثاقل الموفق في سيره إلى أن قدّر أن يكون وصوله إلى دارزين عند الصبح. فلمّا قربنا تسرّع عسكرنا وبادر ابن بختيار فركب وجمع أصحابه وحمل على أحد الديلم رماه بزوبين أثبته في جبهته ورمى مرداويج بن باكاليجار فجرح فرسه وصاح واشتلم وتراجع أصحابنا عنه، وتلاحقوا وصفّوا مصافّهم واجتمع أصحاب ابن بختيار ووقفوا يقاتلون ووصل الموفق - قال أبو نصر - فوقف على ظهر دابّته ومعه الصاحب أبو محمد ابن مكرم وأبو منصور مردوست وأنا وغلمان داره.

فقال أبو محمد:

« انزل أيها الموفق واركب الفرس الفلاني» - لفرس كان من عدده.

فقال: « إن نزلت لم آمن أن تضعف قلوب أصحابنا ويظنوا أنّ فعلى ذاك عن استظهار للهرب. » [ قال ] وتركنا وسار في غلمان داره حتى خرج على ابن بختيار من ورائه وحمل وصاح غلمانه صياح الأتراك. فقدّر ابن بختيار أنّ الغلمان كثيرون، وارتفع الغبار وحمل أصحابنا من إزاء القوم فكانت الهزيمة. وركب ابن بختيار فرسا كان من عدده وسار طالبا للنجاة بنفسه ومعه جوامرد أبو ذرعانى. فأراد أن يعبر نهرا بين يديه واعتقله جوامرد وضربه بلتّ كان في يده فسقط عن فرسه ونزل ليرفعه على الفرس ويحمله إلى الموفق فتكاثر عليه طلاب النهب وأخذوا فرسه وفرس جوامرد وسلاحه. فترك جوامرد ابن بختيار ومضى طالبا للموفق فلما لحقه قال:

« أنا فلان وقد قتلت ابن بختيار. » فاستهان بقوله ولم يصدقه وصار يقتص أثر ابن بختيار وعنده أنّه قدّامه وأنفذ مع جوامرد محمد بن أميرويه المجرى ليعرف حقيقة ما ذكره. وقد كان بعض الديلم عرف ابن بختيار فنزل إليه وشاله وأركبه دابة كانت تحته ليحمله إلى الموفق لأنه قال له: احملنى اليه. وبينما الديلمي في ذلك اعترضه غلام تركي من غلمان قلج، فقال له:

« تريد ان تبقى على من حاربنا ولو ملكونا لما أبقوا علينا. » - وعنده أنّ ابن بختيار أحد الديلم. فقال له:

« يا بنيّ، هذا ابن بختيار وأريد أن أحمله إلى الموفّق ».

فقال له: « تحمله أنت ويكون الأثر والجعالة التي جعلت لمن يحضره لك ».

قال: « لا، ولكن نتشارك في ذلك ».

وتراضيا. وعرف قوم من الساسة والأتباع ما هما فيه، فقالوا:

« بل نحن أحق بحمله. » ووقعت المنازعة فيه وقوعا انتهى إلى قتله وحزّ رأسه وأن أخذه التركي وركب فرسه وحرك ولقيه محمد بن أميرويه وجوامرد أبو ذرعانى فعادا معه.

فذكر أبو نصر أنّ ابن أميرويه بادر الى الموفق وقد حصل على فرسخ من دارزين وأعلمه الصورة. فانكفأ حينئذ عائدا وجلس على سطح دار وأحضر رأس ابن بختيار فطرح بين يديه. وصعد وجوه الديلم وهنّأوه بالظفر ودعوا له وفي وجوههم الوجوم وفي قلوبهم الغم إلّا رزمان بن زريزاذ، فانه لمّا رأى الرأس رفسه برجله وقال للموفق:

« الحمد لله الذي بلّغك غرضك وأجرى قتله وأخذ الثأر منه على يدك وحقق رؤياى التي كنت ذكرتها لك. » قال أبو نصر:

وقد كان رزمان قال للموفق في بعض الأيّام بشيراز:

« رأيت البارحة في المنام صمصام الدولة وهو يقول لي: امض الى الموفق فقل له حتى يأخذ بثأرى من ابن بختيار. » ثم نزل الموفق من السطح إلى خيمة لطيفة ضربت له وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح كتابا بخط يده نسخته:

« بسم الله الرحمن الرحيم» « علقت هذه الأحرف غدوة يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من جمادى الآخرة من الموضع المعروف بدارزين على خمسة فراسخ من بمّ وبين يدي رأس ابن بختيار وقد استولى القتل على أكثر من خمسمائة رجل من الديلم. وأما الرجّالة والزطّ فلم يقع عليهم إحصاء. بلّغ الله تعالى مولانا شاهانشاه في جميع أموره وسائر أعداء دولته نهاية آماله وآمال خدمه وكتابي ينفذ بالشرح ليوقف عليه ويعظم الشكر للَّه عز اسمه على ما وفق له من هذا الفتح المبارك بمنّه. وقد استوهب البشارة جماعة من الأولياء المقيمين معي وذكرت ذلك لئلا يوهب شيء منها لغيرها إن شاء الله تعالى. » قال أبو نصر: وأمرنى بإحضار هميان من جملة همايين كانت على أوساط غلمانه الأتراك وفتحه وصبّ دنانير كانت فيه وقال:

« نادوا من جاء بديلمى فله كذا وبراجل كوجيّ أو زطّيّ فله نصف ذلك. » فكان يؤتى بالديلمى والراجل فيقتلان على بعد من موضعه ومرأى من عينه حتى قتل عدد كثير. وحضره نيكور بن الداعي وولد للفاراضى وسألاه في قريب لهما قد كان أخذ وحمل ليقتل. ولم يزالا يخضعان ويقبلان الأرض وهو يقول لهما:

« قد عرفتم إحسانى إليكم وما جعل لكم من الذنوب عند الملك بالتوفر عليكم وهؤلاء القوم طلبوا الملك وساعدوا الأعداء ولا يجوز الإبقاء عليهم والصفح عنهم. » فبينما الخطاب يجرى بينهما وبينه، إذ دخل نقيب لهما فقال:

« قد قتل الرجل، » فنهضا من مجلسه وقعدا للعزاء به وصار إليهما معزّيا.

ما دار بين الموفق وبرنجشير المنجم

وسألت أبا نصر عن المنجم الذي ذكر أبو منصور مردوست من حكمه ما ذكره فقال:

« نعم. هذا رجل يكنى بأبي عبد الله ويعرف ببرنجشير، وكان يخدم صمصام الدولة. فلما قتل صار في جملة رزمان بن زريزاذ بالصمصامية.

وكان رزمان يحضر كثيرا بين يدي الموفق ويؤاكله ويشاربه وينادمه ويؤانسه. فجرى في بعض الليالي عند حصولنا بفسا ذكر للنجوم والأحكام، فقال:

« معي منجم يدّعى من علم ذلك طرفا. فان رسم إحضاره أحضرته. » فقال له الموفق:

« هاته. » فاستدعاه. فلما رآه قبلته عينه وقلبه وسقاه، وقال له:

« ما عندك فيما قصدناه. » قال: « الظفر لك يا مولانا، وأنت تملك وتقتل ابن بختيار في اليوم الفلاني. » قال له الموفق:

« ان كنت تقول هذا زرقا لتجعله فألا محمودا قبلناه، وإن كان عن علم وعلى حكم من أين استدللت عليه؟ » قال: « ما هو زرق، ولكنّه قول على أصل ومعي مولد ابن بختيار وعليه قطع في اليوم الذي ذكرته لبلوغ درجة قسمة طالعه في تربيع المريخ. » فقال له الموفق:

« إنّ صحّ حكمك خلعت عليك وأحسنت إليك واستخدمتك واختصصتك وإن بطل فبأى شيء تحكم على نفسك؟ » قال: « بما حكمت. »

[ قال ]: « ولما حصلنا بجيرفت عاودت هذا المنجم الخطاب وقلت له:

« أنت مقيم على ذلك الحكم؟ » قال: « نعم. » وكان قد جاءنا خبر ابن بختيار بأنّه بدرفاذ فقلت له:

« الرجل على منزل منّا ونحن سائرون إليه الليلة وقد بقي إلى اليوم الذي نصصت عليه خمسة أيام. » فقال: « أمّا ما حكمت به فأنا مقيم عليه، ولست أعلم ما بقي بينكم وبين ابن بختيار. » وكانت الوقعة وقتل ابن بختيار في اليوم الذي ذكره.

قال أبو عبد الله الفسوي:

ودفن جسد ابن بختيار في قبة بدارزين دفن فيها أبو طاهر سليمان بن محمد بن إلياس لما قتله زريزاذ عند عوده من خراسان لقتال كوركير بن جستان ومضى من كان مع ابن بختيار من الأتراك إلى خبيص وراسلوا الأتراك الذين مع الموفق حتى خاطبوه في ايمانهم وقبولهم وأجابهم فوردوا واختلطوا بالعسكر.

قال أبو نصر: وسار الموفق طالبا لبردشير وأبو جعفر أستاذ هرمز مقيم فيها على حصار من في القلعة من أصحاب ابن بختيار. فلما وردها وعرف القوم هلاك ابن بختيار راسلوا الديلم الذين مع الموفق وسألوهم أخذ الأمان لهم ليفتحوا القلعة ويدخلوا في الطاعة فخاطبوه على ذلك فقال:

« لا أمان لهم عندي إلّا على أن ينصرفوا بمرقعات ويخلوا عن أموالهم وأحوالهم. » فاستجابوا له إلى هذا الشرط. فكان الرجل ينزل هو وولده بمرقعات وكراريز ويركبون الطريق ووقع الاحتواء على ما في القلعة من المال والثياب والرحل والدواب.

قال أبو نصر: وأحضر إلى المعسكر ببردشير من لحقه الطلب وأسر من أصحاب ابن بختيار وفيهم بلفضل بن بويه فتقدم الموفق بأن ضربت له خيمة مفردة، ثم استدعى أبا دلف لشكرستان بن ذكى وأبا الفضل ابن سودمند العارض والوقت عتمة فقال لهما:

« أمضيا إلى بلفضل ووبّخاه على مفارقته هذه الدولة وخدمته ابن بختيار وبالغا له في القول والتعنيف. » وخرجا من بين يديه وبين أيديهما الفراشون بالشموع. وكانت الخيمة التي فيها أبو الفضل (كذا) ابن بويه قريبة من خيمته فنهض وقال لوندرش ابن خواجه بن سياهجنك وكان عنده:

« قم بنا لنسمع ما تقوله رسلنا لأبي الفضل وما يجيبهم به. » وقال لي:

« تعرف الطريق الذي يؤدى بنا إلى خيمته على الإصطبل؟ » قلت: « نعم. » قال: « كن دليلنا. » ومنع الفراشين من اتباعه ومضى في الظلمة وهو متكئ على يد وندرش وأنا بين يديه، حتى حصلنا من وراء الخيمة ووقفنا وهو قاعد بيني وبين وندرش فسمع أبادلف لشكرستان يعاتبه ويوبخه فقال له:

« يا أبادلف، دع هذا القول عنك فواللَّه ما بقي أحد من أكابر عسكركم وأصاغرهم إلّا وقد كاتب ابن بختيار واستدعاه وأطاعه ووالاه، حتى لو قلت إنّه ما تأخر عنه إلّا كتاب الملك والموفّق خاصّة لكنت صادقا. » وعاد الموفق إلى خيمته وعاد أبو دلف لشكرستان وأبو الفضل ابن سودمند بعده ودخلا اليه فقال لشكرستان:

« يا مولانا قد اعتذر فيما كان منه وسأل اقالته العثرة فيه. » فقال له الموفق:

« وما الذي قاله لكما وحدّثكما به؟ » فورّى لشكرستان ثم صدقه وقال:

« ما في عسكرك إلّا من هو متهم وما يمكنك أن تأخذ الجماعة بما فعلوه ولا أن تظاهرهم بما استعملوه وطيّ هذا الحديث أولى في السياسة. » وحمل بلفضل بن بويه والديلم المأسورون إلى شيراز عند عود الموفق.

فأمّا بلفضل ونفر معه فإنّهم اعتقلوا إلى أن قبض على الموفق ثم أفرج عنهم.

وأمّا الباقون فإنّ وجوه الديلم سألوا الموفق فيهم فخلّى سبيلهم.

ونرجع إلى ذكر ما فعله الموفق بعد ذلك ببردشير.

قال أبو نصر:

ثم جمع الديلم الكرمانية من سائر النواحي وقال لهم:

« من أراد المقام في هذه الدولة على أن يستأنف تقرير ديوانه ويوجب له ما يجوز إيجابه لمثله، فليقم على هذا الشرط وعلى أنّه لا ضيعة ولا إقطاع وإنّما هو عطاء وتسبيب ومن أراد الانصراف فالطريق بين يديه. » فاستقرّ الأمر معهم على أن يعرضوا وتحلّ الإقطاعات التي في أيديهم وتستقبل التقريرات معهم كما تستقبل بالعجم الذين يردّون من بلاد الديلم.

وجلس لذلك ووجوه الديلم عن يمينه ووجوه الأتراك عن يساره والعرّاض والكتّاب والجرائد بين يديه. فكان يحضر الديلمي الذي له بكرمان السنون الكثيرة وفي يده الإقطاعات الكثيرة وأقلّ المقرّر له: خمسمائة ألف درهم، فيقبّل الأرض ويقف ويسأل عن اسمه واسم أبيه وعن بلده ثم يقرّر له التقرير القريب إلى أن حلّ الإقطاعات كلّها وردّ أصول التقريرات إلى بعضها وصرف الحشو وارتبط الصفو.

ولما فرغ من ذلك صرف أبا جعفر أستاذ هرمز عن كرمان وأخذ حاله الظاهرة لأنه ينقم عليه قبضه على أبي محمد القاسم بن مهدر فروخ، لما كان مقيما معه بغير إذنه ولا أمره وقلّد أبا موسى خواجه بن سياهجنك الحرب وخلع عليه وحمله على فرس بمركب ذهب وعوّل على أبي محمد القاسم في أمر الخراج وخلع عليه وأخذ خطه بتصحيح ثلاثة آلاف ألف درهم من النواحي في مدة قريبة قررها معه.

واتفق أن ورد عليه كتاب من أبي الفضل الإسكافي يخبره فيه ما غاظه من ذكر الحواشي له عند ورود كتابه بالفتح بالطعن عليه والقدح فيه. فما ملك نفسه عند وقوفه على ذلك، وتداخله من الامتعاض ما أقلقه وأزعجه.

واستدعى أبا منصور مردوست وأنفذه إلى شيراز وقاد معه خيلا وبغالا وحمله رسالة الى بهاء الدولة يقول فيها:

« قد خدمت الملك أولا وأخيرا ووفيته حقّ الصنيعة وحكم النصيحة ووجب أن ينجز لي ما وعدنيه من الإعفاء بعد الفتح، فإني لا أصلح لخدمة ولا عمل بعد اليوم. »

وأظهر الانكفاء بعد إنفاذه أبا منصور مردوست، فاجتمع اليه وجوه الديلم الذين يسكن إليهم ويعول عليهم وعرّفوه غلط الرأي في عوده قبل أن يرتب الأمور ويمهدها ويسددها ويهذبها وأشاروا عليه بالتوقف والتوفر على إصلاح الأعمال من جمع الأموال وإذا تكامل له ما يريده بعد مدة حمل إلى بهاء الدولة ما يرضيه به. وكان بين أن يقيم بموضعه ان طاب له المقام، فيه أو يسير إلى أصبهان ويأخذها وينتقل منها الى الجبل أو الى العراق. وحذّروه من الاجتماع مع بهاء الدولة والكون عنده وأعلموه أنه غير مأمون عليه مع خلو ذرعه وأمنه الأعداء. فلم يقبل منهم ما صدقوه فيه ونصحوه به وحمله فرط الإدلال على أن عاد إلى شيراز. وكان دخوله إياها في يوم الأربعاء الثاني عشر من شعبان.

فحدّثني غير واحد أنّ بهاء الدولة خرج لاستقباله. فلمّا لقيه وخدمه ورجعا داخلين إلى البار، فارقه الموفق في وسط الطريق وعدل إلى داره والعسكر بأسره معه في موكبه وبقي الملك في غلمان خيله وخدمه وخاصته وانّ ذلك شق على بهاء الدولة وبلغ كل مبلغ منه وتحدّث به الناس وأكثروا الخوض فيه، وامتنع بهاء الدولة بعد هذا الاستقبال من استقبال أحد من وزرائه.

ونعود إلى ذكر الحوادث على سياقة الشهور

وفي يوم الاثنين الرابع من رجب توفى أبو الحسن أحمد بن علي بن شجاع الشاهد.

وفي يوم الاثنين الحادي عشر منه توفّى أبو حفص عمر بن إبراهيم الكناني المقرئ.

خروج لدفع القراد

وفي يوم الجمعة لثمان بقين منه توفى الأمير أبو سعد ابن بهاء الدولة ببغداد.

وفي يوم السبت لسبع بقين منه خرج أبو الحسن علي بن الحسن البغدادي وأبو طاهر يغما الكبير إلى بادوريا دافعين لأصحاب قرّاد بن اللديد عنها.

ذكر السبب في ذلك وما جرت عليه الحال فيه

كان لأبي طاهر يغما إقطاع جليل ببادوريا وانضاف إليه أن يقلّد ولايتها ونازع قراد بن اللديد فيها وأبو الحسن رشا الخلدى إذ ذاك كاتبه والمدبر لاموره وفيه استقصاء في المعاملة وغلظة ولجاج ومنافرة. فاستعمل الاستقصاء مع أبي طاهر يغما والمنافرة والغلظة مع أبي نصر سابور بن أردشير في أمور اعترض فيها وأوامر امتنع فيها وثقل على المقطعين والأكرة، وردما كان يؤخذ من مال الخفارة والحماية ورقا قيمة الدينار به مائة وخمسون درهما الى العين مصارفة عشرين درهما بدينار عتيق.

فتضاعف التقرير وزاد التثقيل. وعملت لأبي نصر سابور الأعمال في بادوريا وأطمع في مال يحصل له منها: إمّا على الحرب أو على الصلح وأدت الحال إلى خروج يغما واليا للحرب وأبي الحسن البغدادي ناظرا في استخراج الرسوم العربية، وأقاما مدة على ذلك. ووافى قراد ورشا في جمع جمعاه ونزلا بالسندية ويغما وأبو الحسن البغدادي بالفارسية وبينهما أربعة فراسخ. وتطرق أصحاب قراد فقتلوا ثلاثة غلمان من الأتراك يقال لأحدهما: بايتكين الياروخى، وللآخر: الهاروني، وللثالث: المجدر، وصلبوا الهاروني ببيذ على شاطئ نهر عيسى.

فخرج أبو نصر سابور وأيوب حرب شيرزيل بن بلفوارس بالعسكر الى الفارسية وقرب قراد وأصحابه منها وتسرع سياهجنك ابن خواجة بن سياهجنك في نفر من الديلم لمناوشة قوم من العرب. فاستجروه حتى فارق العسكر وحصل عند القرية المعروفة بالكلوذانية على رمية سهم من الفارسية.

ثم خرج من ورائه جماعة منهم قد كانوا تكمنوا في ذرة قائمة هناك فأخذوه أسيرا. واضطرب الناس بذاك وكاتب أبو نصر سابور قلج - وكان ببغداد - بالخروج، فخرج في عدّة من الغلمان والأكراد الذين برسمه، وسارت الجماعة إلى السندية وخيموا في الجانب الشرقي بازائها ومضى قراد إلى حديثة الأنبار وهي على أربعة فراسخ منها. فما مضت أيام يسيرة حتى غضب قلج من شيء سأله فتوقف أبو نصر سابور عنه وخلع خيمه وخلع الغلمان خيمهم معه وعادوا واضطرّ أبو نصر سابور وأبو حرب شيرزيل والديلم إلى العود بعودهم وذلك في شهر رمضان.

فأذكر وقد ورد عليّ كتاب أبي الحسن رشا يسألنى توسط أمره واستئذان أبي نصر سابور في ورود صاحب له. فصرت اليه وأقرأته الكتاب فتباعد في الجواب وقال:

« اكتب اليه وقل له: والله لا قرّرت معك أمرا إلّا بعد أن أشفى منك صدرا ». » وخرجت من حضرته وتوقفت في كتب الجواب ورد الرسول. فلم تمض ساعة حتى قلع قلج والغلمان ورحلوا فاستدعاني أبو نصر وقال: « ما الذي أجبت به رشا؟ » قلت: « ما قلته. » فقال: « وقد مضى رسوله. » قلت: « لا. » قال: « ارتجع الكتاب واكتب اليه: بأنّ وطأة الأولياء ثقلت على النواحي ولم أحب إخرابها بتطاول مقامي فيها وإذا كنت قد ندمت على ما مضى واستأنفت الطاعة والخدمة فأنفذ صاحبك ». » وركب عائدا إلى بغداد وكتبت الجواب قائما على رجلي لأنّ الأمر أعجل عن التلبث والتثبت، وخفنا أن يعرف العرب خبرنا فيكسبوا معسكرنا ويأخذوا من تأخر منّا أو يعارضونا في طريقنا فيبلغوا أغراضهم منّا مع تفرقنا ودخولنا كما يدخل المنهزمون.

ووصل كتابي إلى أبي الحسن رشا فأنفذ أبا الفضل ابن الصابوني الموصلي واستقرّ الأمر مع المنصرف القبيح والطمع المتجدد على إطلاق سياهجنك في الوقت وحده واندرجت القصّة على تزايد الفضيحة وتضاعف الأخلوقه. وقد كانت الكتب نفذت إلى الموفق بذكر ما فعل وعاد جوابه ينكره ويمنع من التعرض لبنى عقيل أو هياجهم.

وفي يوم الأحد لستّ بقين منه توفّى أبو الحسن علي بن محمد ابن عبيد الزجاج الشاهد، وكان مولده في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائتين.

وفي يوم الخميس لليلتين بقيتا منه توفى أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن حنيقا المحدّث.

وفي يوم الثلاثاء الرابع من شعبان توفّى القاضي أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن أحمد بن معروف.

وفي يوم الخميس السادس منه توفى أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الفراء الفقيه الشاهد بالجانب الشرقي.

ذكر القبض على الموفق بشيراز

وفي يوم الخميس لعشر بقين منه قبض على الموفّق أبي على ابن إسماعيل بشيراز.

شرح الحال في ذلك وفيما تقرر عليه أمر النظر بعده

لما عاد إلى شيراز على ما قدمنا ذكره أقام على الاستعفاء وأعاد القول فيه وكرّره. وكانت في قلب بهاء الدولة منه أمور قد ملأته وأوغرته وأحالت رأيه فيه وغيرته، وزال عنه ما كان يراعيه ويراقبه ويحتمله لأجله وبسببه.

وخافه الحواشي ومن كان بحضرة الملك لأنه ذكرهم وأطلق لسانه فيهم فأغروه به.

فحدّثني أبو نصر بشر بن إبراهيم السني قال: لما ورد الموفق قادما من كرمان أقام على الاستعفاء وواصل مراسلة بهاء الدولة فيه والإلحاح في مسألته إياه. فحضر عنده أبو سعد فناخسره بن باجعفر وأبو دلف لشكرستان ابن ذكى وكانا يختصان به في الليلة التي قبض عليه من غدها وقالا له وأبو العلاء الإسكافي حاضر:

« أيها الموفق أيّ شيء آخر ما أنت عليه من ركوب الهوى ومخالفة الرأي في هذا الاستعفاء، وما الذي تريده لنبلغه لك: إمّا بالملك أو بنفوسنا؟

فإن كان قد غاظك من أبي على ابن أستاذ هرمز أو أبي عبد الله الحسين بن أحمد فعل أو تريد بهما أمرا فنحن نضع عليهما من يفتك بهما ونقود الملك إلى أخذهما وتسليمهما إليك، أو كان في نفسك غير ذلك فاصدقنا عنه وأطلعنا عليه لنتبع هواك فيه. » فقال لهما:

« أمّا أبو على ابن أستاذ هرمز، فبيني وبينه عهد منذ كوننا بالأهواز وما أرجع عنه، وأمّا أن يكون في نفسي ما أطويه عنكما فمعاذ الله. ولكنني قد خدمت هذا الملك وبلغت له أغراضه وما أريد الجندية بعد ما مضى. » فقالا - وقال أبو العلاء الإسكافي - له:

« لا تفعل ودع ما قد ركبته من هذه الطريق وأقمت عليه من هذا اللجاج. فانه يؤدى إلى ما تندم عليه حين يتعذر الاستدراك ومتى قدّرت أنك تعفى وتقيم في منزلك وينظر بعدك ناظر، وقد بلغت من الدولة ما بلغته وتقدمت بك المنزلة إلى ما تقدمت اليه، فقد قدّرت محالا. والصواب أن تدعنا لنمضى إلى الملك ونعرّفه عدولك عن رأيك ومقامك على خدمته والنظر في أموره. » فأبى ثم قالوا له:

« فإذا كنت على ما أنت عليه فأخّر ركوبك في غد وارجع فكرك ونحضر عندك ويستقرّ بيننا في غير هذا المجلس ما يكون العمل به. » فلم يقبل وركب من غد إلى دار المملكة ومعه العسكر. فلما دخل وجلس في البيت الصلى نظر فيما جرت عادته بالنظر فيه وأوصل جماعة القواد اليه وخاطبهم وقضى حوائجهم.

ثم قال لأبي الفضل ابن سودمند العارض والنقباء:

« اخرجوا إلى الناس وانظروا في أمورهم وتسلّموا رقاعهم بمطالبهم. » وترددت المراسلات بينه وبين بهاء الدولة في حديث الإعفاء وبهاء الدولة يدفعه عن ذلك وهو مقيم عليه ومقيم على المطالبة به. ثم رأينا في الدار أمورا متغيرة ووجوها متنكرة.

فقال له الصاحب أبو محمد ابن مكرم:

« قد أحسست بما أنا مشفق منه، والرأي أن تقوم وتخرج، فانّ أحدا لا يقدم على منعك، وإذا حصلت في دارك دبّرت أمرك بما تراه صوابا لنفسك. » فقال له: قد خفت أيها الصاحب وخرت فقم وانصرف. فراجعه القول قليلا ثم انصرف وركب وتبين الموفق من بعد أمره.

[ قال أبو نصر ] فقال لي:

« امض وخذ لنفسك. » فقلت: « بل أقيم وأكون معك. » فزبرني وقال: « اخرج كما يقال لك. » فخرجت ولم يبق عنده إلّا أبو غالب بن خلف وأبو الفضل الإسكافي: فحدثت أنّ الحسين الساباطي الفراش خرج وقال لأبي غالب: « يا أستاذ اخرج. » وقال لأبي الفضل مثل ذلك وأغلق باب البيت وزرفنه ووكّل الفراشين به وأخذ أبو غالب وأبو الفضل واعتقلا ووكل بهما. وشاع الخبر بين الديلم الحاضرين في الدار فتسللوا واحدا واحدا وتفرقوا فريقا فريقا ولم يجر من أحدهم قول في ذلك. وأنفذ إلى دار الموفق من نقل جميع ما كان فيها من المال والثياب والرحل والسلاح والخدم والغلمان، وإلى اصطبلاته فحوّل ما فيها من الكراع والحمال.

[ قال أبو نصر ]: وترشح الأمين أبو عبد الله للنظر وأمر ونهى في ذلك اليوم.

فلما كان آخره استدعى الصاحب أبو على الحسن بن أستاذ هرمز - وقد كان بعد فتح الأهواز اعتزل الأمور وأقام في منزله واقتصر على حضور الدار في الأوقات التي يجلس فيها بهاء الدولة الجلوس العام - واستخلف له أبو الفضل بن ماوزند فوقفت الأمور ولم تكن له ولا لأبي الفضل دربة بالتمشية والتنفيذ وخلّى أبو العباس الوكيل وقد كان قبض عليه وقرر أمره وأعيد إلى ما كان ناظرا فيه.

[ قال أبو نصر ]: وكان أبو الخطاب يكره أبا غالب ابن خلف ولا يريده فقال له أبو منصور مردوست:

« أراك تكاتب الوزير أبا العباس ابن ماسرجس وغيره في الورود ليردّ إليهم النظر في الأمور وقد عوّلت من الصاحب أبي عليّ على من ليس يحلى ولا يمرّ فيما يراد منه. وهذه أسباب تدعو إلى الوقوف والحاجة الى ردّ الموفق وما كان يمشى الأمر ويخفف فيه إلّا أبو غالب. فلو أطلقته واستخدمته لترخّى على يده ما لا يترخى على يد غيره وكفينا دخول من لا يؤمن بيننا. » فقبل منه وأطلقه وجعله خليفة للصاحب أبي عليّ ونظر وكفى. وكان بهاء الدولة يرعى له ما كان يخدمه به في أيام الموفق والحواشي يحتمونه لانبساطه في عطائهم وقضاء حوائجهم. ومضت مديدة فأعجب أبا الخطاب تخفيفه عنه، واستمال الجند وتوفر عليهم وأعطته الكفاية والسعادة ما كان له في ضمنهما وتمسك بأبي الخطّاب وتمسك أبو الخطاب به وتفرد بالأمور وتقلدها وزارة ورئاسة. وخرج الصاحب أبو على من الوسط.

حوادث عدة

وفي ليلة الجمعة لليلتين بقيتا منه توفّى أبو الحسن محمد بن عبد الله بن أخي ميمى المحدث.

وفي يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان ورد الكتاب إلى أبي نصر سابور بذكر القبض على الموفق وأن يقبض على ولده وأهله وأصحابه وأسبابه فاستعمل الجميل وأنذر ولده وأقاربه حتى انصرفوا عن دورهم وأخذوا لنفوسهم. ثم أنفذ إلى منازلهم فكانت خالية منهم وأجاب عن الكتاب بأنّ الخبر سبق الى القوم قبل ورود ما ورد عليه به واقتصر على ان أدخل يده في ضياعه بطريق خراسان مديدة. ثم كتب من فارس بالإفراج لولده أبي المعمر وأقرّ أبو نصر سابور وأبو القاسم الحسين بن محمد بن مما وأبو نعيم المحسن بن الحسن على ما كانوا يتولّونه.

وفي يوم السبت لليلتين بقيتا منه توفّى أبو الحسين ابن أبي الزيال الشاهد.

وفي روز أبان من ماه شهريور الواقع في هذا الشهر أخرج الصاحب أبو محمد بن مكرّم إلى عمان متقلدا لها.

وفي روز مهر من ماه شهرير الواقع فيه أخرج أبو جعفر أستاذ هرمز ابن الحسن الى كرمان.

وفي ليلة يوم الاثنين الثالث عشر من شوال احترق سوق الزرّادين بباب الشعير.

وفي يوم الخميس لسبع بقين منه قلد القاضي أبو عبد الله الحسين بن هرون الضبي مدينة المنصور رحمة الله عليه مضافة إلى الكرخ والكوفة وسقى الفرات وقلد القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد الأكفانى الرصافة وأعمالها عوضا عن المدينة التي كان يليها وقلد القاضي أبو الحسن الخرزي طريقي دجلة وخراسان مضافا إلى عمله بالحضرة وقرئت عهودهم على ذلك.

وفي هذا الشهر ورد الخبر بأنّ المقلد بن المسيب ملك دقوقا وخانيجار.

وأقرّ بها أبا محمد جبرائيل الملقب بدبوس الدولة نائبا عنه.

وفي يوم الخميس مستهل ذي القعدة ورد الكتاب من فارس بتقليد أبي على ابن سهل الدورقي ديوان السواد واستخلافه عليه أبا منصور عبد الله ابن الإصطخرى الكاتب فيه.

وفي يوم الأحد الرابع منه توفّى أبو محمد القاسم بن الحسين الموسوي العلوي.

وفي يوم الاثنين الخامس منه تكلّم الديلم في أمر النقد وفساده وكانت المعاملات يومئذ بالورق وقصدوا دار أبي نصر سابور بدرب الديزج على سبيل الشغب.

أقوى الأسباب في تملك الخانية وانقراض السامانية

وفي هذا الشهر ورد الخبر بأنّ بغرا خاقان قصد بخارا واستولى عليها ودفع ولد أبي القاسم نوح بن منصور عنها.

وحدثني أبو الحسين ابن زيرك قال: حدثني أبو الحسين ابن اليسع التميمي الفارسي وكان من أعيان التجار قال:

كنت ببخارا حين وردت عساكر الخانية فصعد خطباء السامانية إلى منابر الجوامع واستنفروا الناس وقالوا عن السامانية قد عرفتم حسن سيرتنا فيكم وجميل صحبتنا لكم وقد أطلنا هذا العدوّ وتعيّن عليكم نصرنا والمجاهدة دوننا، فاستخيروا الله تعالى في مساعدتنا ومضافرتنا.

وأكثر أهل بخارا حملة سلاح وأهل ما وراء النهر كذلك. فلما سمع العوام ذلك قصدوا الفقهاء عندهم واستفتوهم في القتال فمنعوهم منه وقالوا:

« لو كان الخانية ينازعون في الدين لوجب قتالهم فأمّا المنازعة في الدنيا فلا فسحة لمسلم في التغرير بنفسه والتعرض لإراقة دمه. وسيرة القوم جميلة وأديانهم صحيحة واعتزال الفتنة أولى. فكان ذاك من أقوى الأسباب في تملك الخانية وهرب السامانية وانقراض ملكهم ودخل الخانية بخارا فأحسنوا السيرة ورفقوا بالرعية.

وفيه ورد أبو الحسن محمد بن أحمد بن علان العارض من فارس لتجريد الغلمان إلى هناك واجتمع الشريف أبو الحسن ابن يحيى والمناصح أبو الهيجاء والسعيد أبو طاهر وأبو الحسن ابن علان في دار أبي نصر سابور. فأحضروا الغلمان وخاطبوهم على الخروج فطالبوا بما تأخر لهم من الأقساط والإقامات وبذل لهم سابور إطلاق القسط لمن يخرج دون من يقيم حتى إذا أعطى المجردين ننظر في أمر المقيمين وترجح القول ووقف الاستقرار.

وفي يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة توفى أبو الفرج المعافى بن زكريا المعروف بابن طرارا بالنهروان وكان رجلا يعرف علوما كثيرة وفي هذا يوم الجمعة لليلة بقيت منه توفى أبو عبد الله الحسين بن يحيى بن الحندقوقا الهاشمي عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر.

وفي اليوم الثالث من الخمسة المسترقة خرج بهاء الدولة إلى كوار وسار منها إلى فسا.

وحج بالناس في هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر.

ورود طاهر بن خلف كرمان

وفي هذه السنة ورد طاهر بن خلف المعروف بشير يار بك كرمان منافرا لخلف أبيه. ثم تغلب عليها وملكها وانضوى إليه كثير من عساكرها وانتهى أمره إلى الهزيمة والعود إلى سجستان.

شرح ذلك على ما حدثني به أبو عبد الله الفسوي

وقد سقناه سياقة لم نذكر فيها أيام ما جرى وشهوره لاشكال ذلك علينا.

إلّا أنّ المدة على غالب ظني فيما بين سنة تسعين وثلاثمائة.

وصدر من سنة احدى وتسعين وثلاثمائة.

لما قلد الموفق أبو على أبا موسى خواجة بن سياهجنك أعمال كرمان وصرف من صرف من الديلم على السبيل التي قدمنا ذكرها، صار أبو موسى الى جيرفت فتتبع أموال الديلم المبعدين واستثار ودائعهم وطالب حرمهم وأسبابهم وصادرهم وقبض على جماعة الباقين وقتلهم وطردهم وصلب نفسين من وجوه الكتّاب لإنكاره عليهما تصرفهما مع ابن بختيار وأظهر الاستقصاء والغلظة.

واتفق أن نافر طاهر بن خلف خلفا أباه ونازعه الأمر وجرت بينهما حروب أدّت طاهرا إلى الهرب وقصد كرمان ملتجئا إلى بهاء الدولة. فلما دخل المفازة التي بين سجستان وبينها ضلّ الطريق فيها ولحقه ولحق من معه جهد شديد. ثم خلص على أسوا حال. ولقيه الديلم الفلّ والمنفيون من أصحاب ابن بختيار فأطمعوه في أخذ كرمان والتغلب عليها وأعلموه أنّ من وراءهم من الديلم على نفور من بهاء الدولة وكراهية له لما عاملهم الموفّق به وأنّهم وإياهم يجتمعون على طاعته ويخلصون في مظاهرته.

فصبا إلى ذلك وحدّث نفسه به وعقد عزمه عليه ولم يكن له قدرة على إظهاره مع الشدة التي لاقاها في طريقه ونزل نرماسير وكتب إلى أبي الفتح عبد العزيز بن أحمد العامل بها وببمّ بأنه ورد منحازا إلى بهاء الدولة وداخلا في جملته. فتلقاه أبو الفتح بالجميل وحمل إليه ما يحمل إلى مثله من الأنزال وواصله بذلك مدة من الأيام وكان يزيد له ولمن معه في كلّ يوم اثنى عشر ألف درهم وكتب بخبره إلى أبي موسى خواجة بن سياهجنك وأبي محمد القاسم بن مهدر فروخ.

ثم بدت من طاهر بوادي الفساد ولاحت شواهد سوء الاعتقاد وبلغ ذلك أبا محمد القاسم وهو ببردشير فانزعج منه وكان يقاربه أكراد قتال يعرفون بالمالكية فاستدعاهم وتوجه معهم الى دارزين وخرج إليهم بما يريده من قصد طاهر والإيقاع به فقالوا له:

« هذا رجل قد اجتمع إليه الديلم وكثرت عدته وقويت شوكته وما نستطيع لقاءه ومقاومته ولكننا نسلك سبيل الحيلة عليه ويمضى منا جماعة على وجه الاستئمان اليه فإذا حصلوا عنده طلبوا غرّته في بعض متصيداته فإنّه كثير الصيد مشغوف بالركوب إليه في كل وقت فتكون قد بلغت الغرض ولم تركب الخطر. » فكتب أبو محمد الى أبي موسى خواجة بن سياهجنك بما جرى بينه وبين هؤلاء الأكراد واستشاره فيه فأجابه ب:

« انّى أعرف بهذه الأمور وأملك لها وأولى بها منك، وينبغي أن تخلى بيني وبينها وتدعني وما أدبره منها وتتشاغل بشأنك وتتوفر على ما يتعلق بك. » فاغتاظ من هذا الجواب وصرف الأكراد وأقام بموضعه من دارزين وصار أبو موسى خواجة من جيرفت اليه على أن يجتمعا ويقصدا طاهرا بنرماسير.

فلما حصل على مرحلة من دارزين جمع ابن خلف عساكره فاستشارهم فيما يفعله فقالوا له: أحوالنا ضعيفة وعددنا قليلة ولا فضل فينا للحرب إلّا بعد الاستظهار بالدواب والاسلحة. واستقر الرأي بينه وبينهم على أن يتوجهوا إلى الجروم ويعتصموا بأهلها وهم قوم عصاة متغلبون وفيهم بأس وقوة فصاروا إليها ورجع أبو موسى وأبو محمد إلى جيرفت واستعاد الأكراد المالكية فلم يعودوا. وجمعا من معهم من الجيل وأطلقا لهم المال ووافقاهم على النهوض لقصد الجروم وقصد ابن خلف وفي مضيّ ما مضى من الأيام ثبت ابن خلف وحصّل لنفسه وللديلم الذين معه عدة وسلاحا وكراعا.

وتوجه أبو موسى وأبو محمد للقائه فلقياه في القرية المعروفة بنهر خره هرمز على مرحلة من جيرفت لأنه قد كان سار إليها، وصفّا مصافّهما. وكان من عادة ابن خلف في حروبه أن يتفرد في سرية من غلمانه بعد أن يطعمهم ويسقيهم ويتردّد على مصافّه فيسوى أصحابه ويرتبهم ويتأمّل مصافّ من بإزائه فإن وجد فيه خللا حمل على موضعه. فرأى في بعض تردده ضعفا في جانب من مصاف أبي موسى فحمل عليه وكسر المصاف منه وقتل جماعة وأسر أبا موسى وقد أصابته ضربة في رأسه وأبا محمد القاسم وثلاثين رجلا من القواد منهم وندرين بن الحسين بن مستر وشوزيل بن كوس (كذا) وشيرزيل بن علي ومن يجرى مجراهم وكفّ عن القتل واستباح السواد وغنم هو وأصحابه منه ما تأثلت أحوالهم به وتمم الى جيرفت ودخلها واستولى على معظم أعمال كرمان وملكها وطالبه الديلم وقصدوه وتكاثروا عنده وأرادوه. وصار الفلّ من جيش بهاء الدولة الى السيرجان واجتمعوا فيها وكانوا عددا كثيرا وكاتبوا بهاء الدولة بالصورة فانزعج منها وقد كان قبض الموفق قبل هذا الحادث بمديدة.

وعمل ابن خلف على قصد السيرجان فخرج عنها من فيها طالبين شيراز.

فلما حصلوا بقطرة ورد عليهم كتاب بهاء الدولة بالتوقف في موضعهم وأعلمهم تجريده أبا جعفر أستاذ هرمز بن الحسن إليهم لتدبير أمرهم وقصد عدوهم. فتوقفوا ولحق بهم أبو جعفر فأخذهم وعدل إلى هراة إصطخر.

فادخل يده في إقطاعات الديلم بفارس وتناول ارتفاعها واستخرج أموالها وأطلق لمن معه ما أرضاهم به واستدعى من بهاء الدولة المدد فأنفذ اليه مردجاوك التركي مع طائفة كبيرة من الأتراك وثلاثمائة رجل من الديلم الخوزستانية ووعده بأن يتبعه بعسكر آخر ورسم له قصد ابن خلف ومناجزته.

فسار في نواحي كورة إصطخر ومدّ يده إلى كل موجود في الاقطاعات المحلولة وصار الى السيرجان وأقام بها خمسة أيام على انتظار حانويه بن حلمويه (كذا) للزطّى وكان قد استدعاه. فوافاه في عدة وافرة من أصحابه ورحل الى ناختة وهي على عشرين فرسخا من السيرجان ونزل بها. ورتب في السيرجان ركابية وقوما من المجمزين ليبادروا إليه بخبر للعسكر الذي يتوقع خروجه من شيراز فورد إليهم أحدهم وأعلمه بانفصال القوم من شيراز وقربهم من السيرجان وأنهم على إغذاذ السير وطي المنازل.

وكان بنو خواجه بن سياهجنك وأقارب القواد المأسورين يهنجمون في كل يوم على بهاء الدولة ويطالبونه بتجريد العساكر مع صاحب جيش كبير لاستنقاذهم واستخلاصهم ويقولون: إنّ أبا جعفر أستاذ هرمز شيخ كبير لم تبق فيه حركة ولا نهضة. فجرد المظفر أبا العلاء عبيد الله بن الفضل وضم اليه وجوه الديلم والأتراك من شهرستان بن اللشكري وأمثاله وأرسلانتكين الكوركيرى وخيركين (كذا) الطيبي ومن جرى مجراهما.

قال أبو عبد الله:

فحدثني من كان حاضرا مجلس أستاذ هرمز يوم جاءه الخبر بانفصال أبي بالعسكر من شيراز وعنده جماعة من الديلم يأكلون على مائدته أنه لما عرف ذلك اضطرب وخفف الاكل ونهض وقد تقدم بضرب البوق للرحيل فاجتمع اليه مردجاوك ووجوه الأولياء وقالوا له:

« تغرر بنا وبدولة سلطاننا وتحمل نفسك وتحملنا على هذا الخطر الذي يوجب الحزم وتجنّبه والتوقف على الاستظهار الذي هو أولى ما أخذنا به. » [ قال المحدث لأبي عبد الله ] وأبو جعفر يسمع أقوالهم ويقول: اضربوا البوقات، وحملوا.

فلما تردد الخطاب منهم وقلّ إصغاء أبي جعفر إلى ذلك قال له مردجاوك:

« إذا كنت قد أقمت على أمرك فامض لشأنك فإنّنى لا أتبعك. » فقال له أبو جعفر حينئذ:

« إذا وصلنا اسبهسلار أبو العلاء غدا وفتح كان الاسبهسلار وكنت أنت مردجاوك وصرت انا أستاذ هرمز ورجعنا على أعقابنا إلى باب السلطان بالذلّ والخيبة وتصورنا بصورة من لم يكن عنده خير حتى جاء مجوسي فعمل وأغنى. » هذا لفظ أستاذ هرمز فكان هذا القول حرّك مردجاوك وهزّه وبعثه على متابعته فقال له:

« الأمر لك. » وسارا حتى نزلا بخشار وقد كان طاهر بن خلف أحسن معاملة أبي موسى خواجة بن سياهجنك ودعا أبا محمد القاسم إلى وزارته والنظر في أموره، فعلله ودافعه وواصل أبا جعفر أستاذ هرمز بالرسل والملطفات وعرّفه أخبار طاهر ومجاري أموره ومتصرفات تدبيره ومتقررات عزائمه.

فلما حصل أبو جعفر بخشار وبينها وبين جيرفت عشرون فرسخا وبين بمّ مثل ذلك وابن خلف بجيرفت وافاده كتاب أبي محمد يذكر فيه ما عمل عليه ابن خلف بجيرفت من قصده بمّ ويشير عليه بسبقه الى دارزين واعتراضه في طريقه - ودارزين هذه في سهل يحيط به شعاب وجبال - فانفذ أبو جعفر قطعة من جيشه أمرهم بأن يكمنوا لابن خلف وأصحابه في المواضع التي لا يحسون بهم فيها ثم يخرجوا عليهم منها عند تفرقهم في السير فيوقعوا بهم فمضوا وفعلوا ذلك وبلغوا فيه المبلغ الذي أدركوا بعض غرضهم به وأسروا جماعة من رجاله وقواده ثم عادوا إلى أبي جعفر وقد رحل من خشار إلى سروستان كرمان وهي على اثنى عشر فرسخا من بم.

وسار ابن خلف إلى بم وتوجه أبو جعفر للقائه وقد رتب المصاف وجعل سيره زحفا على تأهب واستعداد حتى إذا حصل بدارزين وافاه من عرّفه خروج ابن خلف لتلقيه وقتاله. فماج الناس وخافوا واضطرب الجند وحاروا واجتمعوا على أبي جعفر وقالوا له:

« غررتنا وغررت بنا وأشرنا عليك بالصواب فخالفتنا ولم تقبل منا وحملك العجب بنفسك والخوف على اسبهسلاريتك على التوجه في هذا الوجه قبل وصول المدد إلينا وتحصيلنا في هذا الموضع على مثل هذه الصورة. » وبادر الفرسان من الأتراك والأكراد ليعرفوا الخبر فصادفوا ابن خلف قد خرج من بم كالطليعة في عدة يسيرة ليشاهد عسكر أستاذ هرمز ويحزر عدته، فواقعوه وعاد الى بم وعادوا الى دارزين. وأصبح أبو جعفر والعسكر مشغّب عليه وهو متحير في أيديهم. فبينما هو يلاطفهم ويداريهم أحضره الأكراد رجلا ذكروا أنّه جاسوس لابن خلف فقال له:

« أنت جاسوس ابن خلف ».

قال: « لا ولكنى رسول ديررشت بن ماهويه لصاحب لأبي جعفر ببم وهذا كتابه إليك يخبرك فيه بانصراف ابن خلف الى سجستان. » فلما سمع قوله ووقف على الكتاب أظهره عند العسكر فسكنوا وزالوا عما كانوا عليه من الهنجمة وسار بعد ان قدم جماعة من المعروفية الى باب بم ليمنعوا الناس من دخولها ويعدلوا بهم إلى قرية تعرف بقرية القاضي على فرسخين منها في سمت نرماسير ونزل بقرية القاضي واستأمن اليه كثير من الديلم الكرمانية الذين انضووا إلى ابن خلف وكان الموفق قد طردهم فقبلهم ورد عليهم إقطاعهم.

ولما حصل بهذه الناحية اجتمع اليه وجوه العسكر وألحّوا عليه في اقتفاء أثر ابن خلف وانتزاع الماسورين من يده. فعللهم ودفعهم من يوم الى يوم الى ان عقدوا هنجمة اقترحوا فيها النهوض بهم في طلبه. فاستدعى الوجوه وقال لهم:

« قد أيّدنا الله تعالى ونصرنا وبلغنا في الظفر غاية ما أمّلنا وقدرنا، وليس يجب ان نقابل ذلك بالبغي وطلب الغاية التي ربما ادّت الى الندامة وقد مضى العدو هاربا من بين أيدينا وان اتبعناه الى رأس المفازة ولززناه في القتال والمكافحة ورأى المفازة أمامه والعسكر وراءه لم نأمن أن يحمل نفسه على الأشد ويقاتل قتال المستقتل وربما نصر ورجعنا على أعقابنا مفلولين فنكون قد أضعنا الحزم وحصلنا على الندم بعد الفوت. » فكان هذا القول طريقا الى سكون القوم ورجوعهم عما كانوا عليه من المطالبة بالمسير. وعاد ابن خلف الى سجستان ومعه أبو موسى خواجه بن سياهجنك وأبو محمد القسم بن مهدر فروخ والقواد المأسورون وانتقل أستاذ هرمز إلى بمّ وأقام بها أياما والكتب واردة عليه بأنّ المظفر أبا العلاء مجدّ في المسير الى مستقره.

وحصل أبو العلاء بقرية الجوز وأنفذ حاجبين من حجابه برسالة الى أبي جعفر والعسكر يعلمهم فيها قربه منهم وهم إذ ذاك بقرية القضى ويشير عليهم بالإتمام الى بمّ ليقع الاجتماع بها. وكان غرضه في هذه الرسالة يعرف ما عند القوم وأن يزور الأمر فيما كان وقف عليه من صرف أبي جعفر وردّه الى شيراز مع الأولياء الشيرازيين والمقام بكرمان ناظرا فيها.

وكان قد صحب أبا العلاء عبد الله بن عبد العزيز برسم خلافة الوزارة. فلما وردت هذه الرسالة على أبي جعفر تبين المراد فيها واستدعى وجوه الديلم سرا وقرر معهم ما يجيبون به عنها. وحضر الرسولان في الحفل وأعادا القول فقام الوجوه وقالوا:

« هذه البلاد لنا ونحن فتحناها بعد تغلب السجزية عليها وهذا الرجل - وأومأوا الى أبي جعفر أستاذ هرمز - اسبهسلارنا ومن جاءنا فتكناه وفعلنا به وصنعنا ويجب أن تعيدا هذا الجواب وتنصحا لهذا المجوسي حتى ينصرف ولا يفسد أمرا قد صلح ويحلّ نظاما قد ترتّب. » وكادوا يثبون بالرسولين حتى خلّصهما أبو جعفر وصرفهما وعادا الى أبي العلاء وعرّفاه ما جرى فكتب الى بهاء الدولة به وعلم أنه لا فائدة في مقامه فعاد مع العسكر الى شيراز. وصار أبو محمد عبد الله بن عبد العزيز الى أبي جعفر وأقام أبو جعفر واليا وأبو محمد موقعا عن مجلس الوزارة، ثم أنفذ أبو اسحق إبراهيم ابن أحمد بدلا من أبي محمد.

وكان الوزير أبو غالب محمد بن علي لانحرافه عن أبي على ابن أستاذ هرمز وأبي جعفر والده قال لبهاء الدولة:

« إنّ بكرمان إقطاعات محلولة وأموالا موجودة وقد استولى عليها أبو جعفر وأقاربه وتوزعوها وتقسموها. » وأشار بالاختيار من ينفذ للنظر في ذلك ويقرر الأمر في الاقطاعات وافراد ما يفرد للخاص واجتذاب ما يلوح من الأموال. فعوّل على أبي الفضل محمد بن القاسم بن سودمند العارض في الخروج وتولّى هذه الحال وخرج على طريق الكورة.

فلما حصل في جيرفت حمل أبو جعفر الديلم على الهنجمة فعقدوا هنجمة قتلوا فيها عليّ بن أحمد بن يحيى وكان أحد الكتاب الكفاة الدهاة وإليه الإشراف على أبي إسحق إبراهيم بن أحمد ونهبوا دور الحواشي وبلغ أبا الفضل ذلك، فقبض على أبي القاسم الطويل الحاجب صاحب أستاذ هرمز وضربه ألف عصا وراسل أستاذ هرمز بالانكفاء الى شيراز وأنّه متى لم يفعل قبض عليه. فخرج وصار الى حضرة بهاء الدولة.

وتوسط أبو الفضل الأعمال وأقام بها ستة أشهر وأقام الهيبة ورتّب الأمور وأسقط جماعة من الديلم وطردهم وقرر للباقين أقساطا وسلم بها الى أكثرهم ضياعا وأفرد للخاص ما كان له ارتفاع وافر وقبض على الإصفهبذ بن ذكى وكنجر بن العلوي وكانا خرجا في صحبته من شيراز.

قال أبو عبد الله:

فحدثني بعض الحواشي المختصين، أنّ أقوى الدواعي كان في إخراج أبي الفضل ابن سودمند الى كرمان ما كان في نفس بهاء الدولة على الاصفهبذ بن ذكى لأنه كان واجهه في سنة الصلح مع الديلم بالأهواز بالقول القبيح وامتنع من البيعة له إلّا بعد المراوضة الطويلة والتعب الكثير وانه دبّر ما أراده من القبض عليه وشفاء صدره منه بإخراج أبي الفضل وإخراجه معه حتى تمّ له ببعده ما حاوله فيه. وعاد أبو الفضل الى شيراز على طريق الروذان ومعه خمسمائة ألف درهم وشيء كثير من السلاح والثياب.

ذكر ما جرى عليه أمر طاهر بن خلف بعد عوده

لمّا انصرف من بم دخل المفازة وصار إلى سجستان ومعه أبو موسى خواجة بن سياهجنك وأبو محمد القاسم بن مهدر فروخ والديلم المأسورون وحصل على باب البلد. فخرج اليه خلف أبوه وقاتله وجرت بينهما وقائع كثيرة في أيام متتابعة ووقف الأمر في المناجزة. وراسل الديلم المأسورون طاهر ابن خلف وكانوا من الأعيان المذكورين والشجعان المشهورين وبذلوا له فتح البلد وأخذه إذا اطلقهم وأعطاهم من السلاح ما يرضيهم وشرطوا عليه تخليتهم إذا بلغ مراده بهم ليرجعوا الى منازلهم. فتقبل البذل منهم والتزم الشرط لهم وأفرج عنهم وسلّم إليهم سلاحا اختاروه وقاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء كثيرا ونصرهم الله تعالى وأجرى الفتح على أيديهم وملك طاهر وصعد أبوه إلى قلعة له تعرف بقلعة الحبل، على خمسة فراسخ من البلد، وتحصن بها ووفى طاهر للديلم بما وافقهم عليه وأعطاهم وخلع عليهم وحملهم وزودهم وخلّى لهم عن سبيلهم. وبقي أبو موسى وأبو محمد في يده. فأمّا أبو موسى، فإنّه قرّر عليه صلحا صح له بعضه وكان أولاده على حمل باقيه وتوفيته، فعاجلته المنية وترامى به جرح الضربة التي أصابته في رأسه الى الوفاة، لأنّها وقعت في موضع ضربة قديمة، واستقام أمر طاهر وأقام أبو محمد القاسم عنده. وشرع خلف في أن يفسد على ابنه ويصرف الديلم عنه. فلم يتمّ له ذاك لأنّهم كانوا مائلين اليه وحاول الفساد للرعية أيضا. فكانت رغبتهم في ابنه أفضل منها فيه لسوء معاملة الشيخ لهم وقبح سيرته بهم وإن أظهر من التمليس ما كان يظهره حتى إذا اعتاد الفساد على هذه الوجه عدل الى اعمال الحيلة وراسل ابنه وقال له:

« قد أخذنا من المقاطعة بأكثر حظّ وانتهينا فيها الى أبعد حدّ، وتأملت امرى فلم أجد لي ولدا باقيا غيرك ولا خلفا مأمولا سواك، ووجدتني قد كبرت وتقضّى عمرى إلّا القليل وقد رأيت أن أسلم الأمر والبلد والقلعة وما لي فيها إليك وأزيل الوحشة العارضة بيني وبينك وأتوفّر على أمر الله تعالى في المدة الباقية لي معك وأقتصر على البلغة من العيش في كنفك ومن يدك.

فإني لست آمن أن يقضى الله تعالى عليّ قضاءه، فيستولى على هذه القلعة من فيها ويخرج مالي ونعمتي وما جمعته طول تدبرى إلى غير ولدي ومن بقاؤه بقاء ذكرى. » ولم يزل يراسله ويطمعه حتى استغرّه وخدعه وتقرر بينهما أن يركب ابنه إلى أسفل القلعة وينزل خلف ويجتمعا على قنطرة كانت لخندق من دونها ويشاهد كل واحد منهما صاحبه ويوصى خلف إليه ويعرّفه ماله ومواضعه.

وركب طاهر وحده وجاء إلى تحت القلعة ونزل خلف على مثل هذه الصورة والتقيا على القنطرة وقبّل طاهر يد أبيه وعانقه أبوه وضمّ رأسه إلى صدره وكان تحت القنطرة في حافات الخندق دغل كثير من بردى وحشيش يستتر فيه المستتر به، وقد كمّن له خلف مائة رجل في أيديهم سيوف. فلما ضمّه خلف إلى صدره بكى بكاء أجهش فيه حتى علا صوته، وخرج القوم فأمسكوا طاهر وأصعدوا به الى القلعة وقتله خلف وغسله بيده ودفنه. وتأدى الخبر الى أصحاب طاهر فاستسلموا لخلف وسلّموا البلد إليه وعاد إلى موضعه منه.

وتوصّل أبو محمد القسم الى أن أحضر جمازات وأكرادا وجعلها على قرب منه ثم خرج وركبها وهرب وصار الى شيراز فقلد العرض ووزر بعد ذلك على ما نذكره في موضعه.

وكان أعداء خلف يراقبونه لأجل طاهر ابنه وما ظهر من نجابته ورجلته وشجاعته ونجدته. فلما هلك طمع فيه وجرّد إليه يمين الدولة أبو القاسم محمود عسكرا واستولى على بلده وقلعته وأخذه الى خراسان فجعله بالجوزجان مخلى فيها كمعتقل ومطلقا كمحبوس، وأجرى عليه ما احتاج اليه لاقامته ونفقاته، ثم توفى بعد مدة وحصلت سجستان مع خراسان إلى هذه الغاية.

سنة احدى وتسعين وثلاثمائة

أولها يوم الأحد وأول يوم من كانون الأول سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف للإسكندر وروز رام من ماه آذر سنة تسع وستين وثلاثمائة ليزدجرد.

في يوم الأربعاء الحادي عشر من المحرم حضر الأتراك دار أبي نصر سابور بن أردشير بدرب الديزج وتردد بينه وبينهم خطاب في أمر التجريد أدّى الى توثيبهم به على أبي الحسن ابن علان العارض وهرب أبو نصر ووقع الفتنة بين الغلمان والعامة.

شرح الحالة في ذلك

قد ذكرنا ورود أبي الحسن ابن علان لإخراج الغلمان إلى فارس وكان أبو نصر سابور قد حصل من المال ما سلّمه الى أبي الحسن وأعدّه عنده لينصرف في نفقاتهم وما يتقرر عليه أمورهم.

فلما كان في يوم الأربعاء المذكور حضر أبو الحسن دار أبي نصر وحضر الغلمان. فجدد الخطاب معهم في الخروج وجد بهم فيه. فامتنعوا منه إلّا بعد أن توفّوا استحقاقاتهم وتردد في ذلك ما انتهى الى بذل أبي نصر للخارجين اطلاق الثلث مما وجب لهم بالحضرة والثلث بالأهواز والثلث الباقي بشيراز، وأن يكون الإطلاق العاجل لمن يخرج خاصة. فأغضبهم ذلك ووثبوا بأبي الحسن وهجموا على أبي نصر وهرب من بين أيديهم. وبادر العلويون والعامة فدفعوهم عن الدار ورموهم بالآجرّ من السطوح وخرج الأتراك مغيظين محفظين وثارت الفتنة بينهم وبين أهل الكرخ واجتمعوا من غد وصاروا الى قتال العامة من القلايين وباب الشعير وعظم الأمر وانضوى الى الأتراك اهل السنة من سائر المواضع وصار أهل الكرخ إلى أبي الحسن ابن يحيى العلوي وشكوا اليه حالهم وما قد أطلّهم. فقال لهم: « لا قدرة لي على هؤلاء القوم ولا طاقة لي بهم. » وأنفذ أبو القاسم ابن مما جماعة من الديلم فأجلسهم على القنطرة لمنع القتال من تلك الجهة وعبر أبو الحسن ابن يحيى في اليوم الثالث الى دار المملكة ومعه وجوه العلويين والفقهاء الذين بالقطيعة واجتمعوا مع وجوه الأتراك وأعلموهم أنّهم لا يعلمون لأبي نصر سابور خبرا ولا عندهم محاماة عنه وسألوهم كفّ الأصاغر عن الفتنة والإبقاء على المستورين من الرعية وأنفذوا بالمعروفية وصرفوهم. وطالب الأتراك أبا الحسن ابن علان بإطلاق ما حصل من المال في يده في الأقساط والتمس الديلم ما يجب لهم فيه فسلم وذاك فرق وبطل التجريد.

وتصور أبو نصر سابور وهو في الاستتار وقوع التوازر عليه واتفاق الجماعة من أبي الحسن ابن يحيى وأبي يعقوب أخيه وأبي القاسم ابن مما على التجعد منه والعداوة له. فخرج عن بغداد الى القصر ومنها الى سورا ثم الى البطيحة. وكتب الى بهاء الدولة بما أو غربه صدره عليهم ونسب فيه جميع ما جرى من الفساد وأخذ المال ووقف أمر التجريد واثارة الفتنة إليهم.

وفي يوم السبت لليلتين بقيتا منه توفى مرمارى بن طوبى الجاثليق.

وفي روز خرداذ من ماه ذي الواقع في هذا الشهر عاد بهاء الدولة من فسا إلى شيراز.

ولما فارق أبو نصر سابور موضعه ونظره خاف أبو الحسن على ابن أبي على، لأنه كان صاحبه ومختصا به، فأخفى شخصه وبعد عن البلد. وزادت الفتنة وتسلط أهل الذعارة فقلّد أبو الفوارس بهستون ابن ذرير الشرطة ونزل دار أبي الحسن محمد بن عمر التي على دجلة وقبض على جماعة من العيارين وقتلهم وكبس دورهم ومنازلهم واستعمل السطوة وأقام الهيبة فاستقام الأمر به. وحدث من الأتراك معارضة له في بعض ما فعله، فاستعفى وعاد إلى داره بالجانب الشرقي وأقام أبو القاسم ابن العاجز على النظر.

ذبح المقلد على فراشه

وفي ليلة الأربعاء لسبع بقين من صفر قتل حسام الدولة أبو حسان المقلّد بن المسيب العقيلي بالأنبار غيلة.

ذكر الحال في ذلك

قد ذكرنا ما كان من غلمانه الأتراك في خروجهم من داره وأخذهم دوابّه وهربهم منه وأنه تبعهم وظفر بهم وقتل وقطع أحد عشر غلاما منهم وأعاد الباقين إلى خدمته وهم على خوف منه وإشفاق من عظم هيبته وسوء معاملته. فقيل: إنّ أحدهم راعى الفرصة منه وذبحه في الليلة المذكورة وهو سكران وهرب. وقد قيل: إنّ أحد فراشيه فعل ذلك به، إلّا أنّ الغلام أثبت.

وقد كان المقلد راسل جماعة كثيرة من وجوه الأولياء ببغداد واستمالهم ووعدهم وأطمعهم وحدث نفسه بدخول الحضرة والاستيلاء على المملكة وأصّل في ذلك أصولا كاد غرضه بها يتم. فاتفق من أمر الله تعالى جل وعزّ مالا يغالب فيه.

ذكر ما جرى عليه الأمر بعد قتله على ما حدثني به أبو الفتح عيسى بن إبراهيم

قال لما قتل المقلد لم يكن قرواش حاضرا بالأنبار وهو الأكبر من أولاده وكانت خزائنه بها وعساكره بسقى الفرات. وخاف أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند ونهبهم. فراسل أبا منصور قراد بن اللديد وكان قريبا منه بالسندية واستدعاه اليه وقال له:

« أنا اجعل قرواش ولدا لك وأزوّجه ببعض بناتك وأقرر معه مقاسمتك على ما خلفه أبوه في خزائنه وتكون عونا له على الحسن عمّه. فانه ربما طمع في الاستيلاء على الأمر بعد المقلد. فأنفذ الرسل إلى قرواش يحثّه على المبادرة واللحاق. وصار قراد إلى الأنبار ونزل في دار الإمارة بها وحرس الخزائن وحسم الأطماع وحضر قرواش بعد أيام واجتمعا وتقاسما على المال وتحالفا وتعاقدا على التعاضد. وقد كان قراد قبل ورود قراوش أطلق للجند شيئا من ماله وارتجع عوضه بعد ذلك. فلمّا عرف الحسن بن المسيب ما جرى واستبداد قراوش بقراد، علم أن الأمر والغرض قد فاته وامتنع عليه من الأمر ما كان يقدّره. فشكا الى عسكر ابن أبي طاهر وأبي المعضاد كلاب بن الكلب وجماعة من المسيّبيين الحال وقال:

« يا قوم يرث قراد بن اللديد مال بنى المسيب وهم أحياء؟ » فقال له عسكر:

« هذا من عملك ولخوف ابن أخيك منك. » فقال: « ومن أى شيء خاف وما الذي يريده؟ » قال: « لو سكن منك إلى خلوص النية وصلة الرحم وحفظه فيما خلفه أبوه له لما أدخل بينك وبينه غريبا ولكنت أولى به وكان أولى بالمحاماة عنك. » فقال له الحسن:

« أنا على ذاك ومهما سمتمونيه من توثقه عليه بذلته لكم. » وكتب عسكر ابن أبي طاهر الى قراوش بما جرى وترددت الرسل بينه وبينه فيه حتى استقر الأمر على أن يسير الحسن الى الأنبار مظهرا فإذا وقعت العين على العين قبضا على قراد وارتجعا منه ما أخذه ولم يدخل أبو الحسين ابن شهرويه في القصة ولا عرفها.

وانحدر الحسن وقرب من الأنبار وبرز قراوش وقراد للقائه. وبينما الفريقان متصافّان متواقفان إذ جاء بعض العرب فأسرّ الى قراد شيئا. فولّى هاربا يطلب طريق البرية وتبعه قرواش والحسن وأصحابهما وجدّوا في طلبه. ففاتهم واجتاز بحلته فلم يدخلها ومضى على وجهه. وتلاقى الحسن وقراوش وتعانقا وبكى كل واحد منهما وقال الحسن لقرواش قولا جميلا استماله به وبذل له أن يكون بحيث يؤثره ويحبه، واتفقا على ارتجاع ما أخذه قراد من الخزائن. وأنفذا الى زوجته بنت محمد ابن مقن وأخت غريب ورافع وطالبها بما في بيوتها من ذلك فامتنعت عليهما وخاطبتهما خطابا فيه بعض الغلظة وأجاباها بمثله وأدخلا الى البيوت من أخرج المال والأعدال اللذين حصلا بقسم قراد من مال المقلد وأخذاها وانكفأ الى الأنبار وأقاما أياما.

وحمل قراوش الى الحسن عمه ثيابا وفرشا وسلاحا وغير ذلك وسار الى الكوفة وواقع بنى خفاجة بناحية زبارا وظفر بهم ومضوا بعد هذه الوقعة الى الشام وكانوا هناك إلى أن استدعى أبو جعفر الحجاج أبا على الحسن بن ثمال فورد ووردوا على ما نذكره من بعد في موضعه.

وفي ليلة يوم الأربعاء مستهل ربيع الاول توفّى أبو الحسن علي بن محمد الإسكافي.

وفي يوم الخميس لليلتين خلتا منه توفّى أبو بكر ابن حمدان البزاز.

القادر بالله يجعل ابنه أبا الفضل ولي عهده ويلقبه الغالب بالله

وفي يوم الأحد الخامس منه جلس الخليفة القادر بالله أطال الله بقاءه للحاج الخراسانية وأعلمهم أنّه قد جعل الأمير أبا الفضل ابنه وليّ عهده ولقّبه: الغالب بالله، وقرئت عليهم الكتب المنشأة بذلك.

شرح الحال في ذلك

جلس على السدّة العالية بثياب سود متقلدا سيفا بحمائل في البيت المعروف ببيت الرصاص، وبين يديه نهر يجرى الماء فيه الى دجلة، ودخل اليه الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء وأهل خراسان العائدون من الحج وقرئ في المجلس على رؤوس الملأ كتاب بتقليده أبا الفضل ولده العهد بعده وتلقيبه الغالب بالله تعالى ولا غالب إلّا الله وحده لا شريك له، وكان له من السن في هذا الوقت ثماني سنين وأربعة أشهر وأيام. وكتب الى البلاد بأن يخطب له بعده على نسخة قررت بحضرته وكانت بعد إتمام الدعاء له:

« اللهم وبلّغه الأمل في ولده أبي الفضل الغالب بالله تعالى ولى عهده في المسلمين. اللهمّ وال من والاه من العباد وعاد من عاداه في الأقطار والبلاد، وانصر من نصره بالحق والسداد، واخذل من خذله بالغي والعتاد.

اللهمّ ثبّت دولته وشعاره وانبذ الى من نابذ الحق وأنصاره ».

ذكر السبب في تقليده العهد على هذه السن

قد ذكرنا فيما قدمناه من أخبار خراسان حال الواثقى ووقوعه الى هرون بن ايلك بغراخاقان واستيلاءه عليه وتقدم منزلته عنده. وكان أبو الفضل التميمي الفقيه قصد بلاد الخانية واجتمع مع هذا الواثقى فاتفقا على ان افتعلا كتابا عن الخليفة أطال الله بقاءه بتقليد الواثقى العهد بعده واظهرا ذلك عند بغراخاقان وأنّ أبا الفضل ورد فيه. وصادف هذا الأمر رأيا جميلا من بغراخاقان في الواثقى ومنزلة لطيفة له عنده فقوّاه واكّده، وتقدم بأن يخطب له في بلاده بعد الخليفة أطال الله بقاءه. وشاع الحديث في أعمال خراسان ووردت به الكتب الى الخليفة أطال الله بقاءه فأنكره وأكبره وغاظه ما تمّ منه وأزعجه. وأوجب الرأي عنده أن رتّب الأمير أبا الفضل ولده في ولاية عهده وكتب الى سائر الأعمال والأطراف بذلك والى أمراء خراسان والخانية بتكذيب الواثقى وتفسيقه وبعده عن استحقاق ما ادعاه لنفسه.

فحدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال:

كان هذا الرجل وهو عبد الله بن عثمان من ولد الواثق بالله يشهد بنصيبين عند الحكام فيها وعند صدقة بن علي بن المؤمّل خليفة القاضي أبي على التنوخي والدي على القضاء بها، وإليه مع الشهادة الخطابة في المسجد الجامع. وكان يفسد على صدقة ويحاول أن يقوم مقامه في خلافة والدي.

واجتمع صدقة وأهل نصيبين على أن كتبوا محضرا بتفسيقه وشهدوا بذلك عند صدقة شهادة سمعها وقبلها وأنفذ الحكم بها وكتب إلى والدي بالصورة وانفذ اليه المحضر والسجلّ عليه. فقبل ذلك والدي وأمضى الحكم به وأنفذه وأشخص الواثقى إلى بغداد.

فلما ورد خاطبه خطابا قبيحا وأوقع به مكروها واعتقله في حبس الشرطة حتى خاطبه في أمره أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الببغاء الشاعر للبلدية التي كانت بينه وبين الواثقى فأطلقه. ونزل غرفة في الفرضة بإزاء دار المملكة وذلك في أيام عضد الدولة.

قال القاضي أبو القاسم:

وكان يواصله أبو العباس أحمد بن عيسى المالكي لصداقة بينهما وبلدية.

فحدّث أبو العباس قال: حضرت عنده ليلة في غرفته وقلت له:

« الصواب أن تستعطف القاضي أبا على التنوخي وتوسط بينك وبينه أبا الفرج الببغاء وتصلح أمرك معه. » - وأنا أخاطبه وأكرر هذا الرأي عليه وهو معرض عنى فقلت له:

« أسمعت ما أشرت عليك به؟ » فقال لي:

« يا أبا العباس، أنت جاهل. أنا مفكر كيف أطفئ شمع هذا الملك الذي نحن بإزاء داره وأخذ ملكه وأنت تقول لي: استصلح التنوخي. » قال أبو العباس:

فلما سمعت قوله قلت: « سلاما » وقمت من فورى منصرفا عنه وخائفا من أذية تتطرق عليّ به وقطعته.

قال القاضي أبو القاسم:

فلما ظهر من حديثه فيما وراء النهر بخراسان ما ظهر، وقلد الخليفة أطال الله بقاءه أبا الفضل ولده ولاية عهده وطعن على الواثقى فأنكر أمره، بلغه حال المحضر الذي كان أنفذ الى والدي من نصيبين بتفسيقه من جهة بعض ما أخبر به بحديثه فاستدعيت الى الدار العزيزة استدعاء حثيثا لم تجر عادة به فمضيت ودخلت على أبي الحسن ابن حاجب النعمان فقال لي:

« ما الذي جرى منك، فإنّ الطلب لك ما ينقطع ».

قلت: « ما أعلم انّه حدث ما يقتضى ذلك. » وكتب بخبري فخرج الجواب بأنّه: بلغنا حال محضر أنفذ إلى والده من نصيبين بتفسيق الواثقى وأنّه أسجل به. فتطالبه بإحضاره وإحضار السجلّ عليه. فأقرأنى ذلك وقلت:

« السمع والطاعة. » وانصرفت وأنا خائف من أن يكون هذا المطلوب قد ضاع فيما ضاع لنا وتشاغلت بالتفتيش عنه فوجدته وحملته من غد وسلّمته. فلما حمل إلى حضرة الخليفة أطال الله بقاءه، رده وقال للرئيس:

« سله هل حفظ على والده إقراره بما أسجل به. » فسألنى عن ذلك فقلت:

« نعم قد كان أقرّ عندي به. » ورسم إحضار القضاة والشهود والفقهاء، ففعل ذاك. وحضر القوم ومنهم القاضي أبو محمد ابن الأكفانى والقاضي أبو الحسن الخرزي وأبو حامد الإسفراينى والشهود بأسرهم وعمل كتاب على سجلّ والدي بإنفاذى ما سمعته من حكمه به وأشهدت الجماعة المذكورة على نفسي فيه. وكان ذلك في جملة ما أنفذ الى خراسان وجرح الواثقى به.

وحكى القاضي أبو القاسم:

انّ هذا الواثقى دخل بغداد بعد ما جرى له بخراسان ونزل دارا وراء داره بباب البصرة. ثم انتقل عنها لما عرف خبره وشاع أمره وانه رآه في بعض الأيام بالكرخ وهو لا يعرفه [ قال ] فرأيت رجلا عليه قباء واذارى وعمامة شاهجانية وهو يمشى منحنيا ويداه معقودتان من ورائه كفعل الخراسانية. وكان معي أبو العباس المالكي. فلما رآه سلم عليه وقبّل كتفه فنهره وزبره بلفظ الفارسية الخراسانية فقال له المالكي:

« إنّما سلّمت عليك وعندي أنّك صديقنا الذي يعرفنا ونعرفه. فإذا أنكرت ذلك فالله معك. » والتفت إليّ وقال:

« تعرف هذا الرجل؟ » قلت: « لا. » قال: « هذا الواثقى الذي ادّعى ولاية العهد بخراسان. »

ذكر ما جرى عليه أمر الواثقى بعد ذلك على ما عرفته من القاضي أبي جعفر السمناني

لم يسمع بغراخاقان فيه قول قائل ولا أحاله عن العناية به والعصبية له محيل. فلمّا توفّى وملك أحمد بن علي قراخان كاتبه الخليفة أطال الله بقاءه، بإبعاده. فلم يكن عنده الموضع الذي كان له عند بغراخاقان. فأنفذه إلى موضع يعرف بأسفاكند وجعله كالمحبوس فيه بعد أن أقام له ما يحتاج اليه وأقام هناك مدة ثم صار الى بغداد كاتما نفسه ونزل بباب البصرة وانتهى الى الخليفة أطال الله بقاءه خبره فتقدم بطلبه، وانتقل الى التوثة ولقيه جماعة من الفقهاء فأعطاهم وبرّهم ووصلهم. ثم انحدر الى البصرة ومضى منها الى فارس وكرمان وعاود بلاد الترك فلم يتم له ما حاوله من قبل ونفذت كتب الخليفة أطال الله بقاءه بتتبعه وأخذه فهرب من هناك وصار إلى خوارزم وأقام بها. ثم فارقها وقصد الأمير يمين الدولة أبا القاسم محمودا وأخذه وأصعد به الى بعض القلاع فكان فيها محبوسا محروسا موسعا عليه الى أن مات.

وفي شهر ربيع الأول توفى أبو شجاع بكران بن بلفوارس بواسط.

وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت منه قبل القاضي أبو عبد الله الضبي شهادة أبي الحسن علي بن الحسن بن العلاف الواسطي.

وفي سحرة يوم الجمعة لليلة خلت من شهر ربيع الاول توفّى أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى بن داود بن الجراح وصلّى عليه القاضي أبو عبد الله الضبي وقد كان أبو القاسم جلس وحدث وصار اليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي وخلق كثير. فسمعوا منه وكتبوا عنه وكان رجلا فاضلا يعرف علوما كثيرة من علوم الدين والمنطق والفلسفة.

وفي هذا اليوم توفى أبو النضر كعب بن عمرو البلخي المحدث.

وفي يوم الخميس السابع منه قلد القاضي أبو حازم محمد بن الحسن الواسطي القضاء بواسط وأعمالها وقرئ عهده في الموكب بدار الخلافة.

وفي يوم الخميس لسبع بقين منه توفى أبو حفص عمر بن وهب المقرئ وكان شيخا صالحا.

ذكر قتل علي بن طاهر الكاتب

وفي ليلة السبت لسبع بقين منه قتل أبو الحسن علي بن طاهر الكاتب.

شرح الحال في ذلك

قد كان مضى إلى مصر هاربا من أبي الحسن محمد بن عمر، فأقام بها مدة وعاد في هذا الوقت مع الحاج، وتحدث الناس بأنه ورد بموافقة من صاحب مصر وللشروع له في الفساد على الدولة العباسية.

فلما كان في الليلة المذكورة كبسه العيارون في داره بدرب المقير من سوبقة غالب وعلوه بالسيوف ليقتلوه فقامت جاريته من دونه للمدافعة عنه فضربوا يدها ضربة أبانتها، وضربوه عدة ضربات فاضت منها نفسه وأخذوا جميع ما وجدوه من ماله ورحله وانصرفوا. وحضر أبو الحسن محمد بن أحمد بن علان من غد فتولّى تجهيزه ودفنه في داره.

وفي يوم الأحد لست بقين منه خرج أبو القاسم الحسين بن محمد بن مما إلى شيراز بمرقعة.

ذكر السبب في ذلك وما جرى عليه أمره في خروجه إلى حين رجوعه

لما انحدر أبو نصر سابور من بغداد مستترا على ما قدمنا ذكره، وأخذ المال المجموع للتجريد وأطلق في الاقساط كتب أبو نصر إلى بهاء الدولة وأحال في جميع ما جرى على أبي الحسن ابن يحيى وأبي يعقوب أخيه وأبي القاسم ابن مما.

وكان ينوب عن أبي القسم بفارس أبو الحسين ابن عبد الملك ابن علي النقيب وبين أبي القاسم وبين أبي الخطاب والأمين أبي عبد الله مودة قديمة، وهما إذ ذاك المتقدمان والمدبران وعلى عناية بأبي القاسم ومحاماة عنه.

فخرجا الى أبي الحسين [ ابن ] عبد الملك بما يكتب به أبو نصر سابور فيه وبما قد كوتب به أبو نصر من الاستدعاء إلى فارس ورسما له مكاتبة أبي القاسم بذلك وبأن يسبقه الى الورود والحضور.

فخرج متعجلا بمرقعة ووصل في يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الاولى قبل أبي نصر سابور ونزل على الأمين أبي عبد الله، فتكفل بامره وخاطب بهاء الدولة فيه ونضح هو عن نفسه فيما كان قرف به، وعاونته الجماعة عداوة لأبي نصر سابور وعناية به، واستقامت حاله ورسم له المقام الى أن يحضر أبو نصر ويصلح ما بينه وبينه ويعود الى بغداد في جملته.

فأقام ووصل أبو نصر وأبو جعفر الحجاج، فقرر لهما النظر في أعمال العراق وأصلح أمر أبي القاسم معهما على دخل من رأى أبي نصر وباطنه فيه وأخرج امامهما لتوطئة ما يجب توطئته قبل موردهما.

تقليد الحسن بن أستاذ هرمز أعمال الأهواز

وفي هذا الوقت ورد الخبر بتقليد الصاحب أبي على الحسن بن أستاذ هرمز أعمال الأهواز وأنه أخرج إليها ولقّب بعميد الجيوش.

ذكر ما جرى في ذلك

حدثني أبو الحسين فهد بن عبيد الله كاتب عميد الجيوش قال: لما دخل الصاحب أبو على في طاعة بهاء الدولة بالسوس وسلّم الأمر إليه اعتزل الأمور وسار في صحبته إلى فارس وأقام على بابه.

فلما مضت له سنة وكسر استأذن في المضيّ إلى خراسان، فمنع من ذلك وروسل بما سكن منه به ووعد الوعد الجميل فيه.

وقبض على الموفق أبي على ابن إسماعيل وكان نافرا منه فردّت إليه الأمور بعده ومشّاها بحسب طاقته ووسعه وأفرج عن أبي غالب ابن خلف وجعل خليفته فتولى العمل وكان متدربا به واستعفى الصاحب أبو على وأقام في داره.

ثم راسل بهاء الدولة بعد مدة يخطب إليه تقليده أعمال خوزستان ويعلمه أنه خبير بها وبما فيه استقامة أمرها وقد كانت اختلّت بمقام أبي جعفر الحجاج فيها ونظر أبي القاسم ابن عروة في عمالتها واستعماله المجازفة التي كانت عادته جارية بها. فأجيب إلى ذلك وقلد وخوطب على قبول الخلع واللقب واستعفى من الخلع وقبل اللقب بعميد الجيش وسار إلى الأهواز في روز ديبمهر من ماه اسفندارمذ الواقع في شهر ربيع الأول، وقد كان أبو جعفر فارقها وتوجّه الى واسط.

وأقام عميد الجيوش على أحسن سيرة وأقوم طريقة فأصلح الفاسد وضم المنتشر وتألف الرعية ورفع المصادرة وساس الجنود أفضل سياسة وجمع في أقرب مدة مالا حمله إلى بهاء الدولة وأكّد موضعه عنده به.

حوادث عدة

وفي يوم الثلاثاء الرابع من جمادى الأولى قبل القاضي أبو عبد الله الضبي شهادة أبي القاسم عمر بن إبراهيم بن الحسن بن اسحق البزاز.

وفي يوم الأربعاء الخامس منه توفى أبو عبد الله محمد بن اسحق ابن المنجم المغني العواد بشيراز ولم يخلف بعده من يقاربه فضلا عمن يشاكله.

وفي يوم السبت الثامن منه خرج أبو الحسن ابن علان العارض عائدا الى فارس وبطل ما ورد فيه من أمر التجريد.

وفي يوم الأحد التاسع منه استحجب أبو القاسم علي بن أحمد الأمين أبا عبد الله للخليفة أطال الله بقاءه.

ورود الحجاج بن هرمز واسطا ثم خروجه منها سائرا إلى شيراز

وفي يوم الخميس الثالث عشر منه ورد أبو جعفر الحجّاج بن هرمز فيه واسطا منصرفا عن الأهواز، ثم خرج منها سائرا إلى شيراز.

ذكر ما جرى عليه أمره في ذلك

لما عرف أبو جعفر حال عميد الجيوش في تقلده الأهواز سار إلى بصنّى يوم الأحد الثاني من الشهر وأنفذ أبا الحسن رستم بن أحمد كاتبه برسالة إلى بهاء الدولة يتألم فيها من صرفه عن بلد بعد بلد وكسر جاهه في أمر بعد أمر ويعدد ما عومل به بالموصل وبغداد ويسأل الإذن له في اللحاق ببلد الديلم.

فلما أعاد أبو الحسن على بهاء الدولة من ذلك ما أعاده ثقل عليه نفوره واستيحاشه ورده وأنفذ معه أبو سعيد زاد انفروخ بن آزاد مرد بجواب يسكنه فيه ويعرّفه تأكد خاله عنده ولطف منزلته في... ويرسم له التوجه إلى شيراز ليقرر معه أمر بغداد ويردّه إليها مع أبي نصر سابور فسار ليلة يوم الاثنين لأربع بقين من شعبان ووصل وقد حصل أبو نصر سابور هناك وورد أبو نصر إلى حضرة بهاء الدولة فخلا به وأورد عليه في جماعة من بمدينة السلام من أبي الحسن ابن يحيى العلوي وأبي يعقوب أخيه وأبي القاسم ابن مما كل ما أوغر به صدره وضمنهم بمائتي ألف دينار. فأذن له في القبض عليهم واستخراج المال منهم وقرر عليه ما يحمله إلى خزانته منه وخلع عليه وعلى أبي جعفر الحجاج ولقبه القسيم ذا الرئاستين، وذلك في روز آبان من ماه مهر الواقع في آخر شوال وسارا. فكان وصولهما إلى واسط يوم الأربعاء سلخ ذي الحجة ونحن نذكر ما جرى عليه أمرهما بعد ذلك في أخبار سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.

حوادث عدة

وفي يوم الجمعة الخامس من جمادى الآخرة توفى القاضي أبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الخرزي وأقر ابنه أبو القاسم على عمله وقرئ عهده بذلك في يوم الاثنين لليلة بقيت منه. ثم تعقب الرأي في بابه وصرف بعد مديدة قريبة.

وفي يوم السبت السادس منه قتل المعروف بأرسلان الذي كان يتصرف في الوقوف. قتله العامة بالآجر وفدغوا رأسه.

مقتل بهستون بن ذرير

وفي يوم الخميس الثامن عشر منه قتل بنو سيّار أحد بطون بنى شيبان أبا الفوارس بهستون بن ذرير.

شرح الحال في ذلك

كان بهستون صديقا لأبي الفتح محمد بن عناز وممائلا له ومسارعا إلى معونته في كل أمر ينوبه: فاتفق أن سار اليه من الجبل من يقصده ويطلبه فاستصرخ بجند الحضرة وسألهم الإنجاد والمعاضدة وخرج بهستون في جملة من خرج ومعه جماعة من أهله وأصحابه.

فلما عاد نزل بالخالدية وهي إقطاعه وأغارت الخيل من بنى سيّار على بقر بهذه الناحية وطردت بعضها وعبرت بها الى شرقى ديالى وسلكت طريق براز الروز.

فركب بهستون في الوقت ومعه أخواه الفاراضى والأعرابى وثلاثة نفر من الديلم وطلبوا الخيل الغائرة فأدركها بهستون سابقا ولحق به أخواه وأصحابه وعرفه القوم فأخرجوا له الطرد ومضوا فحمله من كان معه على اتباعهم والإيقاع بهم. فسار ولحقهم وجرت بينه وبينهم مطاردة فطعنه أحدهم طعنة فاضت منها نفسه في موضعه وطعن الفاراضى أخوه طعنة أخرى في إحدى عينيه فذهبتا جميعا عند علاجها.

وحمل أبو الفوارس إلى الخالدية على ترس وجعل على بغل وأدخل الى داره ببغداد فأقيمت عليه المناحات وعملت له المواتيم العظام وحضر جنازته والصلاة عليها سائر الوجوه والأكابر.

وفاة الحجاج شاعر السخف

وفي يوم الثلاثاء لسبع بقين منه توفى أبو عبد الله الحسين بن أحمد الحجاج الشاعر في طريق النيل وهو عائد منها. وورد تابوته الى بغداد في يوم الخميس بعده.

ذكر حاله وطرف من أمره

هذا الرجل من أولاد العمال وكان أول أمره مرتسما بالكتابة وكتب بين يدي أبي اسحق إبراهيم بن هلال الصابيّ جدّى مدة في أيام حداثته ثم تأتّى له من المعيشة بالشعر ما عدل إليه وعوّل عليه وكان أكسب له مما كان متشاغلا به.

وتفرّد بفن من السخف لم يسبقه إليه سابق وكان مع تعاطيه هذه الطريقة مطبوعا في غيرها. وقد اختار الرضى أبو الحسن الموسوي من شعره السليم قطعة كبيرة في غاية الحسن والجودة والصنعة والرقة. ولم يزل أمره يتزايد وحاله تتضاعف حتى حصل الأموال وعقد الأملاك وصار محذور الجانب متقى اللسان مخشى التسكر مقضي الحاجة مقبول الشفاعة.

وحمل اليه صاحب مصر عن مديح مدحه به ألف دينار مغربية على سبيل الصلة وشعره مدون مطلوب في البلاد. ووجدت له رقعة الى أبي اسحق جدّى قد صدّرها بأبيات فاستحسنت مذهبه فيها ونسختها لذاك وهي:

« فداك الله بي وبكلّ حيّ ** من الدّنيا دنيّ أو شريف

يحلّ لك التغافل عن أناس ** تولّوا ظلم خادمك الضعيف

ولست بكافر فيحلّ مالي ** ولا الحجاج جدّى من ثقيف

فمر بدراهمي ضربا وإلّا ** جعلت سبال قوفا في الكنيف

قوفا هو أبو الحسن محمد بن الهمانى.

« هوذا يبلغ هؤلاء السّفّل منى مرادهم إضرارا بي أطال الله بقاء سيدنا ويدفعون عن إزاحة علّتى عنادا وقصدا. وو الله لو كان مكان هذه الدريهمات ارتفاع بادوريا ما داهنتهم ولا داجيتهم ولا احتملتهم.

« وقد سار ما مضى من القول واتصل بهم وقوفا متعلق الحشاشة بالقدرة بين أوداجه وحلقومه وهو يوصى بأذاى ويعهد إلى ابن العلاف في مكروهي.

فإن أخذ سيدنا بيدي وتولى مطالبتهم ببعض الغلمان وأرهقهم حتى لا يجدوا منه محيصا طمعت فيها وإلّا استشعرت الإياس وبعت الأشهب واشتريت بثمنه ورقا وحبرا وزيتا للسراج وأحييت ليلتي بهجاء القرود. فإنّ القائل يقول:

ما لي مرضت ولم يعدني عائد ** منكم ويمرض كلبكم فأعود

« سمّى شاعر الكلب، وسأسمّى أنا بسبب قوفا شاعر القرد. واليوم الثالث من ضمان ابن العلاف الدراهم لسيدنا وعرفني من رآه عند قوفا يستأمره فأظنه منعه من الإطلاق وأعوذ بالله من أن أكون أنا في طمع هذين النذلين وأبو جوّال بالسواء. حسبي بهذا تحريصا على صفع القوم وتحريكا في مناجزتهم.

« وأنا منذ الغداة قرين الزبزب في مشرعة دار صاعد حتى نزل محمد الدواتى وعرفت خبر انحداره راكبا فانصرفت والله تعالى يودعنى فيه السلامة. وقد أنفذت الأشهب بهذه الرقعة وتقدمت اليه ان لم ير وجها لتحريك أمره في تسببه ان يشد نفسه مع البغال ويعتلف الى ان يفرج الله تعالى ثم يعود الى اصطبله ثم لم يكن فيه نهوض للحضور فان تأخر هذا الباب طرحته على الماء حتى ينحدر الى المشرعة وربطته مع الزبزب ان شاء الله تعالى. » وله إلى أبي اسحق من جملة مدائح له فيه كثيرة أبيات وجدتها في نهاية الرقة والطبع فذكرتها وهي:

يا من وقفت عليه ** هواى سرّا وجهرا

الله يعلم أنّى ** مذ غبت لم أعط صبرا

ولا عصيت لداعي ال ** أسى ولا الوجد أمرا

ولا لله اطّرحت بثأيى ** عليك نظما ونثرا

ولا رأيت بعيني ** في الأرض بعدك بدرا

قدمت قبلك حتى ** تكون أطول عمرا

هذا لغيبة عشر ** وكيف لو غبت شهرا

ومما يغنّى فيه وان كان كثيرا:

يا من مواعيد رضاه ظنون ** ما آن أن تخرج ممّا تخون

سألت عن حالي يا سيّدي ** كلّ عدوّ لك مثلي يكون

ومنه:

ومدلّل أمّا القضيب فقدّه ** شكلا وأمّا ردفه فكثيب

يمشى وقد فعل الصّبى بقوامه ** فعل الصّبا بالغصن وهو رطيب

متلوّن يبدى ويخفى شخصه ** كالبدر يطلع مرّة ويغيب

أرمى مقاتله فتخطى أسهمى ** غرضي ويرمى مقتلى فيصيب

نفسي فداؤك إنّ نفسي لم تزل ** يحلو فداؤك عندها ويطيب

ما لي وما لك لا أراك تزورنى ** إلّا ودونك حاسد ورقيب

ومنه:

أيا مولاي طاب لك اجتنابى ** وقلبي باجتنابك لا يطيب

وصرت إذا دعوتك من قريب ** تصيخ إلى الدعاء ولا تجيب

وأصدق ما أبثّك أنّ قلبي ** بعهدك لا عدمتك مستريب

ومنه:

قل لمن رفقته مس ** ك وندّ ومدام

والذي حلّل قتلى ** وهو محظور حرام

أيّها النائم غمزا ** عينه ليس تنام

كلّ نار عند ناري ** فيك برد وسلام

ومنه:

باحت بسرّى في الهوى أدمعى ** ودلّت الواشي على موضعي

يا معشر العشّاق إن كنتم ** مثلي وفي حالي فموتوا معي

ومنه سخفه قوله في بعض قصائده:

رأيت أيرا مغلّسا سجدا ** يرفل في حلّتى دم وخرا

فقلت من أين؟ قال: من شرح ** أفلتّ منه كما ترى وأرا

ومنه في قصيدة:

جلس الأير سرمها في خراها ** ذات يوم على سبيل اللّجاج

فقصدت النواة في ذاك حتى ** أخذت لي التوقيع غير فراج

وهو كثير وفيما أوردناه من أنموذج كل فن كفاية.

حوادث عدة

وفي يوم الخميس العشر من رجب توفى أبو الحسين أحمد بن الحسين ابن أحمد بن الناصر العلوي.

وفي يوم الخميس لثمان بقين من شعبان قلد القاضي أبو محمد ابن الأكفانى ما كان الى أبي الحسن الخرزي من الجانب الشرقي فتكامل له جميعه.

وفي يوم السبت الثاني من شهر رمضان توفى أبو الحسن علي بن نصر الشاهد بالجانب الشرقي.

وفي يوم الاثنين الحادي عشر منه قبل القاضي أبو عبد الله الضبي شهادة أبي الحسن علي بن أحمد بن صبح.

وفي يوم السبت السادس عشر منه توفى القاضي أبو الحسن محمد بن محمد بن جعفر الأنبارى صهر ابن سيار القاضي وكاتبه.

وفي يوم الاثنين العاشر من شوال قبل القاضي أبو عبد الله الضبي شهادة أبي القاسم ابن علان وأبي على ابن العلاف وأبي عبد الله ابن طالب.

وفي يوم الخميس الثالث عشر منه قبض أصحاب قراد بن اللديد على أبي الحسن ابن الحسن محمد بن يحيى النهرسابسى بباقطينا وحملوه الى حلّة قراد ثم أفرج عنه وعاد الى بغداد.

شرح الحال في ذلك

كان الديلم قد طالبوا أبا الحسن ابن يحيى بإطلاق أقساطهم لأنّ المعاملات التي كانت المادة منها انتقلت الى نظره بعد هرب أبي نصر سابور فمنعهم واعتصم بالكرخ والعلويين والعيارين.... وجرت بين الفريقين حروب لأجل ذلك.

واتفق أن دخل الديلم طاق الحراني فأحرق العامة ما وراءهم وأمامهم واحترق منهم جماعة وعظمت الفتنة واستحكمت الوحشة.

فخرج أبو الحسن إلى باقطينا وهي من العمريات التي يدبر أمرها وعرف أصحاب قراد خبره فطمعوا فيه وصاروا اليه وأخذوه وحملوه الى صاحبهم وعمل قراد على مطالبته بالمال والسوم عليه فيه.

فركب قراوش وغريب اليه ولم يفارقاه إلّا بعد استخلاصه وانتزاعه من يده وسيّراه إلى المحول فوصل إليها يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شوال.

وقد كان أبو القاسم ابن مما عاد من شيراز فتوطأ ما بينه وبين الديلم حتى صلح واستقام، وأعطاهم ما رضوا به ودخل داره يوم الاثنين لثامن من ذي القعدة.

وفي الساعة الثالثة من يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة ولد الأمير أبو جعفر عبد الله ابن القادر بالله أطال الله بقاءه، والطالع العقرب على كدح والشمس في الميزان على كالو.

وفي يوم الاثنين الرابع عشر منه قبض معتمد الدولة أبو المنيع على أبي الحسن ابن العروضي.

وفي يوم الأحد لعشر بقين منه توفيت زبيدة بنت معز الدولة بأصبهان.

وفي يوم الأحد السادس منه تقلد يوانيس الجاثليق.

وحج بالناس في هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوي.

سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة

أولها يوم الخميس والعشرون من تشرين الثاني سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف للإسكندر وروز إسفندار من ماه آذر سنة سبعين وثلاثمائة ليزدجرد.

قد ذكرنا ورود أبي جعفر الحجاج وأبي نصر سابور الى واسط عائدين من شيراز ووعدنا بذكر ما جرى عليه أمرهما بعد ذلك. ولما ورد الخبر بنزولهما واسطا انحدر أبو القاسم الحسين بن محمد بن مما إليهما متلقيا لهما ومعتدا بما فعله في إصلاح الجند وتوطئة الأمر. واستمال أبا جعفر بما حمله اليه ولاطفه به وعقد بين أخيه أبي على وبين أبي شاكر أحمد بن عيسى كاتب أبي جعفر عقدا على بنت أبي شاكر استظهر لنفسه فيه وأعطى أبا عبد الله أستاذ هرمز داره وملك أمره بما حصله في كفته به وعلم أنّ رأى أبي نصر سابور لا يخلص له فاعتضد بهذه الجهة وأظهر مداخلتها ومخالطتها.

وكان أبو الحسن ابن اسحق قد فارق أبا الحسن ابن يحيى على وحشة ومضى ليقصد شيراز فردّه أبو نصر سابور من طريقه وعوّل عليه عند حصوله بواسط في خلافته وأنفذه الى بغداد أمامه وردّ معه أبا القاسم ابن مما وقرر معهما القبض على أبي يعقوب العلوي النقيب وأصحاب أبي الحسن ابن يحيى عند نفوذ كتابه إليهما بذلك وأصعدا.

وانحدر أبو الحسن ابن يحيى لخدمة أبي جعفر وأبي نصر والاجتماع معهما وقد كانت نفسه نافرة منهما لتقريره سوء الاعتقاد فيه منهما ولمّا وصل نزل داره بالزيدية وكان أبو نصر سابور نازلا في دار أبي عبد الله ابن يحيى أخيه المجاورة لها. وكتب على الطائر بالقبض على أبي يعقوب في يوم عين لأبي القاسم ابن مما وأبي الحسن ابن اسحق عليه وأمرهما بالمبادرة اليه بذكر ذلك ليقبض هو على أبي الحسن وأصحابه بواسط.

فخرج أبو القاسم الى أبي يعقوب بالسرّ وراسله بالإنذار لمعاهدة كانت بينهما ولأنه لم يأمن أبا نصر متى استقامت حاله ومشى أمره واطرد له ما يريده.

واستظهر أبو يعقوب وكبست [ داره ] فلم يوجد فيها وشاع الخبر وكتب أصحاب الشريف أبي الحسن اليه بالصورة على الطيور.

وأخر أبو نصر إمضاء ما يريد أن يمضيه في أبي الحسن إلى أن يعرف حصول أبي يعقوب لأن أكثر غيظه كان عليه وأحسّ أبو الحسن فهرب ليلا ومضى على بغلة متعسفا إلى الزبيدية وأصبح أبو نصر وقد أفلت أبو الحسن.

وورد عليه الكتاب بإفلات أبي يعقوب. فقامت قيامته وتحير في أمره وندم على تفريطه وراسل أبا جعفر واستشاره فيما يفعله فقال له:

« لو عملت بالحزم لبدأت بمن عندك وكان بين يديك من غاب عنك ولكنك استبددت برأيك ».

وشرع أبو نصر في تتبع أموال أبي الحسن وتحصيل غلاته والاحتياط على معامليه ومعاملاته وختم على الدور والحانات واعتقد تفتيشها وأخذ ما يجده لأبي الحسن واخوته ووكلائه وأسبابه فيها ثم عدل عن ذلك الى تأنيسه ووافق أبا جعفر على مراسلته وتردد في ذلك ما انتهى الى إجابة أبي الحسن الى العود على أن يوثق له أبو جعفر من نفسه ويحلف له على التكفل بحراسته ومنع كل أحد عنه.

فأذكر وقد ورد أبو أحمد الحسين بن علي ابن أخت أبي القاسم ابن حكار رسولا عن أبي الحسن من الزبيدية الى أبي جعفر ليحلفه له فقال لي أبو جعفر:

« اجتمع معه على عمل نسخة لليمين. » فقال أبو أحمد:

« قد عملها الشريف وأصحبنيها وها هي ذه. » وأخرجها من كمّه وأخذها أبو جعفر من يده وأعطانيها ورسم لي قراءتها عليه فقرأتها وكان يفهم العربية ولكنّه يجحدها.

وخرج أبو أحمد من حضرته على أن يجتمع أبو جعفر مع أبي نصر ويقفه عليها ثم استدعاني أبو جعفر وأعطاني النسخة وقال لي:

« امض إلى أبي نصر سابور فأعرضها عليه وقل له: ما الذي تراه في هذا الأمر فإنّنى إن حلفت لهذا الرجل وأعطيته عهدي لم أمكنك منه وحلت بينك وبينه. » فمضيت الى أبي نصر سابور ووقفته على النسخة وأوردت عليه الرسالة فقال:

« أنا أروح العشية اليه ونتفاوض ما يجب أن يعمل عليه. » فعدت الى أبي جعفر بهذا الجواب وركب اليه أبو نصر آخر النهار واجتمعا وخلوا ثم استدعيا أبا أحمد وحلف له أبو جعفر وعاد.

وأصعد أبو الحسن ابن يحيى وبات في داره ليلة ثم خرج ورجع الى الزبيدية فيقال: إنه أخذ دفينا كان له في الدار وانحدر به حتى استظهر في أمره وعاد بعد يومين وانحل أمر أبي نصر سابور واستطال عليه أبو الحسن ابن يحيى. ثم أصعد أبو جعفر وأبو نصر الى بغداد فكان وصولهما إليها آخر نهار يوم الخميس الثاني من جمادى الأولى.

وصدرت الكتب الى بهاء الدولة بما جرى عليه الأمر. فغاظه سوء تدبير أبي نصر وفساده وطعن عليه من كان بحضرته من خواصه وقد كان أبو الحسن بن يحيى كاتب بهاء الدولة من الزبيدية واستعطفه وأذكره بما قدّمه في خدمته وأسلفه وبذل له في أبي نصر سابور بذلا يقوم بتصحيحه من جهته وذكر ما عليه الجند والرعية من بغضه والنفور من معاملته. وكتب الى أبي جعفر بالقبض عليه وإلى أبي الحسن بن يحيى بتسلمه. واستقرّ الأمر بين أبي جعفر وأبي الحسن ابن يحيى وأبي القاسم ابن مما على ذاك.

فتراخى أبو الحسن وأبو القاسم في القبض عليه لغرض اعتمداه في بعده والخلاص منه وعرف أبو نصر الصورة فاستظهر لنفسه وعلما قوته فكبسا عليه دار بنى المأمون بقصر عيسى ولم يوجد فيها وأراد أبو الحسن بما أغفله وأهمله من أخذه الاحتجاج على بهاء الدولة بهر به فيما كان بذله فيه وأبو القاسم ابن مما الاستراحة من حصوله وما عسى أن يحمل عليه من ركوب الفشخ معه.

ومضى أبو نصر الى البطيحة ونظر في الأمر ببغداد بعده أبو الحسن علي بن الحسن البغدادي ثم أبو الفتح القنّائى ثم أبو الحسين عبيد الله بن محمد بن قطرميز وخوطب بالوزير فتقبل ذلك وصار أضحوكة عند أبي جعفر والناس به وكان العمل كله أخذ الأموال من المصادرات والتسلق على التجار بالتأويلات.

لا جرم أنّ البلد خرب وانتقل أكثر اهله عنه فمنهم من مضى إلى البطيحة ومنهم من اعتصب بباب الأزج ومنهم من بعد إلى عكبرا والأنبار.

ولقد حدثني جماعة من الناس أنهم شاهدوا صينية الكرخ فيما بين طرف الحذائين والبزازين والفواخت والعصافر تمشى في أرضها انتصاف النهار وفي الوقت الذي جرت العادة بازدحام الناس فيه بهذا المكان.

فلما ورد أبو نصر وأبو جعفر الى واسط كتبا وأعادا أبا الحسن على بن أبي على إلى النظر في المعونة.

وفي يوم السبت العاشر من المحرّم توفّى أبو القاسم إسماعيل بن سعيد ابن سويد الشاهد.

وفي يوم الأربعاء الثامن عشر منه انحدر أبو الحسن ابن يحيى إلى واسط لانحدار المقدم ذكره.

وفي هذا الوقت توفى أبو الطيب الفرّخان بن شيراز بجويم السيف وخرج الوزير أبو غالب محمد بن علي بن خلف من شيراز لطلب أمواله وتحصيلها.

شرح حال أبي الطيب منذ ابتداء أمره وإلى حين وفاته وما جرى في طلب أمواله وذخائره على ما عرّفنيه أبو عبد الله الحسين بن الحسن الفسوي

كان الفرّخان بن شيراز من أهل بعض القرى بكرّان وتصرف أوّل أمره في الداريجية وما شاكلها من الأعمال القريبة وتدرج إلى أن ولى كتابة الديوان بسيراف وانتقل عنها إلى عمالتها وبقي على ذلك زمانا طويلا ثم قلد عمان فعبر إليها وحسنت حاله فيها وجمع الأموال التي لم يسمع لمثله بمثلها وبنى بنائبنذ الدار المعروفة به وكانت من الدور التي تضرب الأمثال بها وحصل فيها من أصناف الفرش والأثاث والرحل الشيء الكثير الجليل ورتّب بها من الحفظة والحراس وحملة السلاح خلقا كثيرا لأن نائبنذ على ساحل البحر وليس بها من الناس كثير أحد.

وتحدث في البلاد بما جمعه في هذه الدار من الأموال فرمقتها العيون وتعلقت بها الأطماع وهمّ بقصدها وطلبها الخوارج وأصحاب الأطراف وكان في يد أبي العباس ابن واصل عبادان والبحر وفي يد لشكرستان بن ذكى البصرة وفي يد السيفية والزطّ السواحل وقصب البلاد التي تجاورها.

وكانت أكثر مادة صمصام الدولة بفارس من الفرّخان لأنه كان يمده بالأموال والحمل في كل وقت فسعى قوم في إفساد أمره عنده وقالوا له: إنه على العصيان. ومنع جانبه وقطع ما جرت عادته بحمله والإمداد به.

فكاتبه صمصام الدولة بالورود إلى بابه مختبرا بذاك ما عنده وقد كان الخبر انتهى الى الفرّخان بما تكلم به فيه. فصار اليه بهدايا واموال حسن موقعها منه فخلع عليه واستحجبه ورده الى موضعه وجرى على رسمه في الخدمة والتزام شرائط الطاعة.

وتوفى العلاء بن الحسن بعسكر مكرم، فلم يكن في مملكة صمصام الدولة أوجه من الفرّخان ولا أوسع حالا وأعظم هيبة في نفوس الجند منه.

فاستقرت الوزارة له على أن يتوجه إلى الأهواز ويدبر أمورها وأمور الأولياء الذين بها ويستخلف له بشيراز أبو اسحق إبراهيم بن أحمد ومنصور بن بكر.

فأقام أبو اسحق بحضرة صمصام الدولة وصار منصور إلى فسا لتقرير أعمالها ولم يطل مقامه بها حتى استعيد وأنفذ إلى شقّ الروذان ثم لم يثبت هناك وانصرف من غير إذن الى الباب فأنكر صمصام الدولة فعله وأمر بإحضاره وضربه. فضرب وانصرف عن شركة أبي اسحق وتفرد أبو اسحق بالنظر.

وورد الفرّخان الأهواز فلم يمش الأمور بين يديه على ما كان يتقرر من ذاك وأنفذ أبو على الحسن بن أستاذ هرمز وجرى أمره على ما تقدم ذكره في موضعه.

ووصل بهاء الدولة الى فارس والفرخان في جملة من صحبه من الناس.

فتكلم عنده على حاله وعظمها وأمواله وكثرتها فقبض عليه وألزم صلحا وسلّم إلى أبي العلاء عبيد الله بن الفضل ثم إلى الصاحب أبي محمد ابن مكرم وأفرج عنه بعد أدائه إيّاه وخروجه منه.

وأنفذ إلى جويم السيف لقتال الزط والسيفية وصار الى فسا واستصحب أكثر الديلم الذين بها وجرد إليه مردجاوك في طائفة كثيرة من الغلمان العراقية وأقام بجويم مدة واستخرج أموالا من النواحي الغربية وامتنع عليه من اعتصم بقلعة او أوى إلى الجبال الحصينة.

وقضى نحبه في أثناء ذلك ووقع الاحتياط على ما صحبه من مال وتجمل وحمل بأسره إلى شيراز وكان بهاء الدولة يعتقد في ثروته ويساره أمرا عظيما.

فلمّا توفّى كثر القول عليه فيما تركه من الحال وخلفه من الودائع وأودعه داره من الذخائر، فندب الوزير أبا غالب للتوجه إلى نائبنذ وسيراف واستقضاء ذلك أجمع وإثارته وتحصيله ورسم له قصد الدار بنفسه وهي من سيراف على خمسة عشر فرسخا وأن يبالغ في الكشف والفحص عنه ولا تقنع إلّا بأن يتولى كل أمر تولى المشاهدة والمباشرة. وكان للفرّخان ثقة يعرف ببابان مجوسي ويحيط علمه بكل ما يملكه الفرّخان فوق الأرض وتحتها. فقبض عليه الوزير أبو غالب واستدلّه على الأموال التي للفرخان فدلّه على أموال عظم الناس قدرها وجواهر تلك حالها وحصلها الوزير ثم عاقبه بعد ذلك عقوبة شديدة حتى ذبح نفسه في الحمام.

وعاد الوزير أبو غالب الى شيراز فتحدث اعداؤه بما أخذه من مال الفرخان ودفائنه وودائعه وواصلوا الخوض فيه وادّعوا عليه أنه قتل بابان ليتستر بموته ما اخذه منه وعلى يده وأدّت هذه الأقاويل وما اتصل ببهاء الدولة منها إلى القبض على الوزير أبي غالب وسنذكر ذلك في وقته وموضعه.

عدة حوادث منها وفاة ابن جني

وفي يوم الاثنين العاشر من صفر قبل القاضي أبو عبد الله الضبي شهادة أبي القاسم علي بن محمد بن الحسين الوراق.

وفي يوم الجمعة لليلتين بقيتا منه توفى أبو الفتح عثمان بن جني النحوي وكان أحد النحويين المتقدمين وله تصنيفات وقد فسر شعر أبي الطيب المتنبي تفسيرا استقصاه واستوفاه وأورد فيه من النحو واللغة طرفا كبيرا ولقّب ذلك بالفسر وهو من أهل الموصل وخدم عضد الدولة وصمصام الدولة وشرفها وبهاءها طرفا كبيرا في دورهم برسم الأدباء النحويين.

وفي شهر ربيع الأول قتل أبو الحسين محمد بن الحسن العروضي بالأنبار.

وفي يوم الاثنين السابع من شهر ربيع الآخر ثار العامة بالنصارى ونهبوا البيعة بقطيعة الرقيق وأحرقوها فسقطت على جماعة من المسلمين رجالا وصبيانا ونساء وكان الأمر عظيما.

وفي ليلة يوم الخميس لست بقين منه كبس ابن مطاع وأصحابه حسون بن الخرما وأخاه العلويين بفم الأسناية وقتلوهما وكانت هذه الطائفة قد أسرفت في التبسط والتسلط وركوب المنكرات وإتيان المحظورات.

وفي يوم الاثنين الخامس من جمادى الأولى وهو اليوم الثاني والعشرون من آذار وافى برد شديد جمد الماء منه.

وفي يوم الجمعة التاسع منه خطب لبهاء الدولة ببغداد بزيادة قوام الدث صفى أمير المؤمنين وقد كان الخليفة أطال الله بقاءه لقبه بذلك وكاتبه به الى شيراز.

وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا منه استتر أبو نصر سابور الاستتار الذي ذكرناه في سياقة خبره.

وفي هذا الشهر بلغت كارة الدقيق الخشكار ثلثة دنانير مطيعية، ثم زادت في جمادى الآخرة فبلغت خمسة دنانير ولحق الناس من ذلك شدة ومجاعة.

وفي جمادى الآخرة خرج أبو طاهر يغما الكبير الى جسر النهروان هاربا من أبي جعفر الحجاج بن هرمز فيه.

ذكر السبب في ذلك وما جرى عليه الأمر فيه

تأدى إلى أبي جعفر شروع يغما في قلب الدولة وإفساد الغلمان، وتردّد مكاتبات ومراسلات بينه وبين مهذب الدولة في ذاك ووعده إياه بحمل مال.

فاستمال أبا الهيجاء الجماقى واجتذبه الى نفسه وهمّ مكاشفة يغما وأخذه وقد كان يغما وثب الغلمان عليه ووضعهم على مطالبته والخرق به.

وأحس يغما باعتقاد أبي جعفر فيه وتدبيره عليه فتجعد عن لقائه والاجتماع معه ثم خاف بادرته. وكان أبو جعفر مهيبا متّقى فخرج إلى جسر النهروان ليفعل ما يفعله على الطمأنينة والامان وعبر ديالى لاشفاقه من أسراء أبي جعفر خلفه، وتبعه جماعة من وجوه الغلمان ثم فارقوه ورجعوا عنه.

وتأخر المال الذي وعده مهذب الدولة بإنفاذه اليه ووعد هو الغلمان به فبطل أمره بذاك ومضى وعبر من الصافية إلى الجانب الغربي ولحق بأبي الحسن علي بن مزيد وأقام عنده وأقطع أبو جعفر إقطاعه وما كان في يده ببادوريا لأبي الهيجاء الجماقى.

وفيه فاض ماء الفرات على سكر قبين وغرق سواد الأنبار وبادوريا وبلغ الى المحول وقلع حيطان البساتين واسود في الصراة.

وفي يوم الأحد لست بقين منه صلب أبو حرب كاتب بكران على باب حمام بسوق يحيى وجد فيه مع مزيّة جارية بكران على حال ريبة.

وفي يوم السبت مستهل رجب أخرج أبو جعفر الحجاج أبا الحسن على ابن كوجرى في جماعة من الديلم والأكراد إلى المدائن لدفع أصحاب بنى عقيل عنها.

شرح ما جرى عليه الأمر في ذلك وما اتصل به من خروج أبي اسحق إبراهيم أخي أبي جعفر وهزيمته

سار أبو الحسن علي بن كوجرى إلى المدائن فنزلها وانصرف دعيج صاحب قرواش وأصحابه عنها وقبض ببغداد على أصحاب بنى عقيل ومعامليهم وأخرج العمال إلى بادوريا ونهر الملك. ونفذت الكتب الى مرح بن المسيب وقرواش بن المقلد وقراد بن اللديد وهم بنواحي الموصل بما جرى، فإلى أن يجمعوا العرب وينفذوهم جمع دعيج الى نفسه جمعا كثيرا وقصد أبا الحسن بن كوجرى وحصره بالمدائن وكتب أبو الحسن إلى أبي جعفر يستمده ويستنجده فجرد المنجب أبا المظفر بارسطغان لأنه كان والى البلد وخرج في عدة من الغلمان فاندفع دعيج من بين يديه وكتب الى أبي الحسن علي بن مزيد يلتمس منه المعونة على أمره.

وقد كان أبو الحسن استوحش من أبي جعفر وخافه فأنجده بأبي الغنائم محمد أخيه واجتمع دعيج وجمعه وأبو الغنائم بن مزيد ومن معه ونزلوا ساباط.

وكتب المنجب أبو المظفر بارسطغان وأبو الحسن علي بن كوجرى الى أبي جعفر بتكاثر القوم وقوة شوكتهم واستنهض الغلمان للخروج فتقاعدوا وتثاقلوا وتأخر المدد عن المنجب أبي المظفر وعلي بن كوجرى فانكفئا إلى باقطينا وندب أبو جعفر أبا اسحق أخاه للخروج وأنهض معه الديلم وساروا جميعا مع المنجب أبي المظفر وعلي بن كوجرى وتوجهوا طالبين للعرب.

وكتب أبو الغنائم ابن مزيد ودعيج الى أبي الحسن علي بن مزيد بذلك فصار إليهما واجتمع معهما ووقعت الوقعة بباكرمى يوم الأربعاء الثامن من شهر رمضان فانهزم أبو اسحق واستبيح العسكر وأسر كثير من الديلم والأتراك وقتل أبو منصور ابن حليس وشابا بن اوندا وجماعة، وعاد الفلّ إلى بغداد على أسوإ حال وغاظ ذاك أبا جعفر وأزعجه.

ذكر ورود ابن ثمال

وورد أبو على الحسن بن ثمال الخفاجي بعقبه في يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر رمضان في عدة قريبة من أصحابه فلم يشعر به حتى نزل صرصر.

ذكر الحال في وروده

كان أبو جعفر لاعتقاده ما يعتقده في بنى عقيل وما عاملوه به قديما لا يحلم إلّا بهم ولا يفكر إلّا في قصدهم وحربهم وأخذ الاهبة لشفاء صدره منهم واجتذاب من يجعله خصما لهم.

وكاتب أبا علي بن ثمال وحرص على أن يستدنيه وكان يبعد في الظنّ أن ينزل الشام ويرد إلى العراق.

فأذكر وقد حضر عندي أبو القاسم ابن كبشة وهو رجل كثير الدهمسة حامل نفسه على الأخطار العظيمة وممن خدم عضد الدولة في الترسل والتجسس المدة الطويلة وقال لي:

« أراكم تكاتبون الحسن بن ثمال وتستدعونه وهو يعدكم ويعللكم، ولو أنفذنى صاحب الجيش ببعض كتبه إليه لما فارقته حتى آخذه وأجيئكم به. » فذكرت ذلك أيضا لصاحب الجيش فقال:

« ابن كبشة كثير الكذب والفضول، ولكن اكتب على يده وأنفذه وأرحنا منه. » فكتبت له كتابا واستطلقت له نفقة من الناظر في الأمور ومضى وليس عند صاحب الجيش أبي جعفر أنّه يفلح ولا يرجع. فلم تمض مديدة قريبة حتى ورد وقال:

« هذا أبو علي بن ثمال قد نزل صرصر. » فسرّ أبا جعفر ذاك وكان عقيب ما لحق أبا اسحق أخاه من ابن مزيد وبنى عقيل وأنفذ إليه من تلقّاه وأنزله في الدار التي كانت للمعروفى وحمل إليه الإقامات وأطلق لأصحابه النفقات.

وورد على أبي جعفر خبر عميد الجيوش أبي على في تقلده العراق وما هو عليه من المسير إليه فزادت هذه الحال في غيظه وشاعت بين الناس.

فتبسط عليه الأتراك وأساءوا معاملته واجتمعوا في بعض الأيام على بابه ورموا روشنه بالآجر والنشاب فضجر وضاق صدرا بأمره وخرج إلى جسر النهروان في يوم الأحد لأربع بقين من شهر رمضان ومعه أبو إسحق أخوه والظهير بن جستان وخسروشاه وخسر فيروز أخواه وأبو الحسن على ابن كوجرى وأبو على ابن ثمال وأبو الحسين ابن قطرميز ومن تبعه من الديلم الباراوحية وغيرهم.

وراسل النجيب أبا الفتح محمد بن عناز وسأله المسير معه إلى أبي الحسن علي بن مزيد وبنى عقيل فدافعه وعلله ثم أجابه وساعده وسار إليه واجتمع معه وعبرت الجملة دجلة وكان انفصال أبي جعفر عن جسر النهروان يوم الأحد لعشر خلون من شوال، وعبوره في يوم السبت مستهلّ ذي القعدة، وتوقّفه إلى أن لحق به أبو الفتح.

وورد إلى دعيج أبو بشر بن شهرويه مددا من الموصل في عدة كثيرة من بنى عقيل واجتمع أبو الحسن بن مزيد معهم في خيله ورجله ووقعت الوقعة بينهم في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة فقتل أبو بشر بن شهرويه وأسر دعيج وانهزم أبو الحسن بن مزيد وتفرقت جموعهم ونهب سوادهم وكراعهم وذلك في الموضع المعروف ببزيقيا.

فحدثني الحاجب أبو طاهر الحسين بن علي الظهيرى قال:

لما انهزم ابن مزيد وبنو عقيل من الوقعة ببزيقيا تمم صاحب الجيش أبو جعفر إلى القصر ونزل بباشمسا ورتّب في البلد من منع من نهبه والتعرض لأهله وسار من غد طالبا للنيل ومقتصا أثر ابن مزيد. فكان قد مضى الى موضع يعرف بشق المعزى بحلله وأهله.

فنزل أبا الحسن علي بن كوجرى بالنيل ومعه أثقاله ودعيج والرجالة الديلم وسار ومعه أبو الفتح بن عناز وأبو على ابن ثمال. فلما قاربوا ابن مزيد وشاهدوا حلله وقفوا لأخذ أهبة الحرب وضرب المضارب، وبرز ابن مزيد للقتال.

وقد كان راسل أبا الهوا اسود بن سوادة الشيبانى وهو في عدة كثيرة من بنى شيبان مع أبي الفتح ابن عنّاز ووعده وخدعه ووافقه على أن ينهزم إذا وقعت العين على العين ويفلّ أبا جعفر ففعل وانصرف وتبعه قوم من الأكراد وبقي أبو جعفر في ثلاثين رجلا من أهله وأقاربه لأنّه كان تقدم بالنيل أن يحمل بعض الديلم الرجالة على البغال والجمال فأغفل ذاك وأبو الفتح ابن عنّاز في مائتي فارس من الشاذنجانية ومائتي فارس من الجاوانية كانوا صحبوا أبا جعفر.

واتفق أن مضى حسان بن ثمال أخو أبي على مع أكثر بنى خفاجة في طريق غير الطريق التي سلكها أصحابنا فبقى أبو على في عدة قليلة. ولما تبين أبو جعفر ما هو فيه وشاهد قلة ما بقي معه وحمل أبو الحسن ابن مزيد عليه وكثره بخيله ورجله وعبيد الحلة وإمائها وملك عليه خيمه تحير في أمره.

وأحس من أبي الفتح ابن عنّاز بعمل على الهرب والانصراف. فقال للظهير أبي القاسم وأهله:

« احفظوا لي أبا الفتح ولازموه ولا تفارقوه لئلّا يخاتلنا ويتركنا لأنّنى أعول على النصرة به، ولكنه متى رجع فلّنا وكسرنا وأطمع عدونا. » فلازمه الظهير وهجم أبو جعفر لما ضاق به الأمر على البيوت وعلا على تلّ كان في وسطها وعرف أبو الحسن ابن مزيد ذلك وقد كان ملك مضارب أبي جعفر ونزل وصلّى في أحدها شكرا للَّه تعالى على الظفر. فركب وقصده وحمل حملة نكس فيها نفرا من غلمان دار أبي جعفر وداسهم بحوافر خيله حتى سطح رؤوسهم ووجوههم وخلطها بأجسادهم واستظهر كل الاستظهار.

وثبت أبو جعفر وحمل حملات متتابعة وطرح النار في بعض البيوت وحمل في أثر ذاك فانهزم ابن مزيد وملكت حلله وبيوته وأمواله وذلك في يوم السبت لثمان بقين من ذي القعدة.

قال الحاجب أبو طاهر:

ونهب أصحابنا ذلك فأخذوا من العين والورق والحلي والصياغات والثياب الشيء الذي تجاوز الحصر وأرسل أبو جعفر إلى أبي على ابن ثمال: بأنك أحق بالنساء والحرم فاحرسهن وامنع العجم منهن.

فتشاغل أبو على بجمعهن إلى بيوت أفردها لهن ولم يتعرض لشيء من النهب على وجه ولا سبب.

واستغنى الشاذنجان والجاوان ومن حضر من بنى خفاجة بما حصل من الغنائم وامتلأت أيدى الجميع وحقائبهم بالمال والجلال من الأثاث وانكفأ أبو جعفر إلى النيل.

وقد كان أبو الحسن على ابن كوجرى لما رأى بنى شيبان عائدين ومظهرين للهزيمة وسمع عنهم أنهم قالوا: قد كسر صاحب الجيش، خاف وجمع الديلم الرجالة وحمل الأثقال وصار إلى الجبل وضرب رقبة دعيج وصلبه بالمدائن وعرف من بعد حقيقة الأمر واستحيا ودخل إلى بغداد كالمستوحش من أبي جعفر ثم كاتبه وعذره فرجع اليه. وصار أبو جعفر بعد ذاك إلى الكوفة ومعه أبو على ابن ثمال ورجع أبو الفتح ابن عنّاز إلى طريق خراسان.

قال الحاجب أبو طاهر:

« ولما حصل صاحب الجيش أبو جعفر بالكوفة نزل في دار أبي الحسن محمد بن عمر ثم لم يبعد أن وردت الأخبار بانحدار قرواش ورافع بن الحسين وقراد بن اللديد وغريب ورافع ابني محمد بن مقن في جمرة بنى عقيل ومن استجاشوا به من طوائف الأكراد ونزولهم الأنبار عاملين على قصد الكوفة ولقاء أبي جعفر وأبي علي بن ثمال. وعرف بنو خفاجة ذاك ففارقوا أبا على وتوجهوا منصرفين.

فقال أبو على لأبي جعفر:

« يا صاحب الجيش، أنفذ معي من يردّهم. » فأنفذ معه الظهير أبا القاسم وخرجا حتى انتهيا إلى قريب من القادسية والقوم متفرقون قد أخذ كل قوم منهم طريقا ومنهم من يريد البصرة ومنهم من يريد البرية. فقال أبو على للظهير لمّا شاهدهم:

« تقدم بضرب البوقات. » ففعل ذاك. فلما سمعوا الصوت وكل إنسان منهم قد أخذ وجهته لووا رؤوس خيلهم واجتمعوا إلى أبي عليّ وقالوا له:

« ما الذي تريده منا. » فقال لهم:

« يا قوم تخلونى وتخلون هذه البلاد وقد نزلناها وأخذناها بالسيف وصارت لنا طعما ومعايش. » فقالوا: « نريد المال والعوض عن إسلام النفوس للرماح والسيوف. » ولم يزل هو والظهير بهم حتى رجعوا على أن يفسح لهم في نهب النواحي عوضا عن العطاء والإحسان واستعملوا من ذاك ما جرت عادتهم به وعظمت المعرّة منهم.

وبرز صاحب الجيش الى الموضع المعروف بالسبيع من ظاهر الكوفة وأراد أن يجعل انتظاره لبنى عقيل ولقاءه لهم فيه. فقال له أبو علي بن ثمال:

« يا صاحب الجيش قد أسأنا معاملة أهل البلد وثقّلنا الوطأة عليهم وهم كارهون لنا وشاكون منّا، ومتى كانوا في ظهورنا عند وقوع الحرب لم نأمن ثورتهم من ورائنا ومعاونتهم لأعدائنا علينا. والصواب أن نجعل بيننا وبينهم بعدا. » فساروا ونزلوا في القرية المعروفة بالصابونية على فرسخين من الكوفة ومع أبي علي بن ثمال نحو سبعمائة فرس ومع صاحب الجيش أبي جعفر نحو العدة من الديلم.

ولما خرج صاحب الجيش الى هذا الموضع لم يتبعه من الديلم إلّا دون ثلاثمائة رجل وتأخر الباقون عنه وطالبوه بالمال وإطلاقه لهم، وقد كان عميد الجيوش وأبو القاسم ابن مما راسلاهم وأفسداهم فردّ أبو جعفر الظهير أبا القاسم إليهم حتى أخرج اكثر المتأخرين لأنهم استحيوا منه وتذمّموا من الامتناع عليه.

وورد بنو عقيل في سبعة آلاف رجل بالعدد والمنجانيقات والأسلحة والقزاغندات، وطلعت راياتهم وضربت بوقاتهم ودبادب مواكبهم وزحفوا كما تزحف السلطانية.

وقد كان أبو علي بن ثمال قصد المشهد بالغريّ على ساكنه السلام، وزار وصلّى وتمرّغ على القبر وسأل الله تعالى العون والنصر وقال لأصحابه:

« هذا مقام الموت والذل بالفشل والخور ومقام الحياة والعز بالثبات والظفر. » فوعدوه المساعدة وبذل نفوسهم في المدافعة. ورتب صاحب الجيش مصافّه بين يدي بيوت الحلّة وجعل الظهير أبا القاسم في ميمنته وخسروشاه في ميسرته ووقف هو في القلب وبرز النسوان في الهوادج على الجمال وبين أيديهن الرجالة بالدرق والسيوف. وتقدم أبو على في الفرسان وصار بيننا وبينه مدا بعيدا ووقع التطارد فلم يكن إلّا كلا ولا، حتى وافتنا الخيل المغنومة مجنونة والرجال المأسورون يقادون والعرب من بنى خفاجة وفي أيديهم الرماح المتدفقة. وأرسل أبو على ابن ثمال الى صاحب الجيش بأن: سر وتقدم إلينا.

فقال له:

« ما هذا مكان التقدم لمثلي ولا يجوز أن أفارق مصافى وأصحر للخيل في هذا البرّ. » فراجعة دفعات وهو يجيبه بهذا الجواب حتى قال له أبو على في آخر قوله:

« فأنفذ الى جماعة من العجم ليشاهدهم القوم فتضعف نفوسهم ويعلموا أنك وراءنا. » فأنفذ إليه الظهير أبا القاسم في عدة من فرسان الديلم وأتراك كانوا بالكوفة وخرجوا مع صاحب الجيش فما وصلوا إلى موضع المعركة حتى انهزم بنو عقيل وأسر منهم نحو ألف رجل وحملوا إلى البيوت بعد أن أخذت ثيابهم ودوابهم وأسلحتهم.

وكف أبو على عن القتل ومنع منه. فلم يقتل إلّا أبو على ابن القلعي كاتب رافع بن محمد.

وقد كان نساء بنى خفاجة وعبيدهم وإماؤهم عند تلاقى الجمعين ركبوا الخيل والجمال وصاروا إلى معسكر بنى عقيل وبينه وبين موضع الحرب بعد، وكبسوه ونهبوه وولّى بنو عقيل لا يلوى أول منهم على آخر، وغنم بنو خفاجة أموالهم وسلاحهم وكراعهم وسوادهم.

فحدثني أبو على الحسن بن ثمال: انه اتبع بنى عقيل في عرض البرية مع فوارس من أصحابه إلى المشهد بالحائر على ساكنه السلام، وهم منقطعون.

فلمّا تجاوزوه بات وزار وعاد إلى حلّته من غد.

فذكرت ذاك للحاجب أبي طاهر فقال: قد كان. ولما فقده أبو جعفر قلق قلقا شديدا به وظنّ أنّ حادثا حدث في بابه. فقال له أصحابه:

« لو لحقه لاحق لعادت بنو عقيل. » حتى إذا كانت صبيحة تلك الليلة وافى ومعه اثنا عشر فارسا.

وحكى انه اتبع المنهزمين حتى تجاوزوا المشهد بالحائر وباتوا هناك وانه لو كان في عدة قوية لكشف نفسه وأخذ أموالهم ورؤساءهم.

وعاد أبو جعفر وابو على إلى الكوفة فأقاما بها وسنذكر ما جرى عليه أمرهما من بعد في موضعه بإذن الله تعالى.

وفي شعبان قبض على الموفق أبي على ابن إسماعيل وأعيد إلى القلعة.

شرح الحال في هربه من القلعة عند اعتقاله أولا فيها وحصوله عند الديواني وعوده الى شيراز بعد التوثقة التي أعطيها وما جرى عليه أمره الى أن قبض عليه ثانيا وردّ الى القلعة وكلّ ذلك على ما حدّثني به أبو نصر بشر بن إبراهيم السني كاتب الموفق

قال أبو نصر: لما حصل الموفق في القلعة أولا ردّ الأمر في التوكل به وحفظه، إلى أبي العباس أحمد بن الحسين الفراش وكانت فيه غلظة وفظاظة وقد عرف من رأى بهاء الدولة ووسطائه فيه ما يدعو إلى التضييق عليه وإساءة المعاملة له. فاعتقله في حجرة لطيفة وتركه في وسط الشتاء وشدة البرد بقميص واحد وكساء طبرى حتى أشفى على التلف.

ولما فعل هذا الفعل به اختار الموت على ما يقاسيه وحمل نفسه على الأشدّ في طلب الخلاص منه واستمال الموكلين المقيمين معه من قبل أبي العباس الفراش وخدعهم ووعدهم وأرغبهم وراسلني على أيديهم واستدعى مني طعاما أمدّه به وثيابا ونفقة وكان يأتيه من جهتي ما يريده شيئا شيئا.

وكان يتقدم الموكلين فراش يختصّ بأحمد الفراش ويتميز بفضل الثقة عنده ونفسه ساكنة إلى موضعه فطاوع الموفق وساعده وتردّد في رقاعه وأجوبتها بيني وبينه واستقرت الموافقة معي على أن أحضر جماعة من أصحاب الديواني وأقيمهم ليلا تحت القلعة ويتدلى الموفق والفراش في نقب ينقبانه في بيت ما يتصل بالحجرة التي هو فيها ففعلت ذلك وأحضرت الفرسان بعد ان حصلت عند الموفق على يدي الفراش مبردا يبرد به قيده وزبيلا وحبلا ينزل فيها وبرد القيد ونقب النقب ونزل الموفق والفراش بعده ليلة النوروز الواقع في شهر ربيع الآخر يوم الاثنين لليلتين بقيتا منه وقد أعددت له ما يركبه. فركبه وسرنا فلم يصبح إلا ببلاد سابور وخرج الديواني فاستقبله وخدمه.

قال أبو نصر: فلما نزل وسكن جأشه قلت له:

« قد خلصت وملكت أمرك، إلّا أنّ بهاء الدولة خصمك والبلاد له والناس في طاعته، واعتقاده فيك الاعتقاد الذي تعرفه. والصواب أن تأخذ لنفسك وتسبق خبرك إلى حيث تأمن فيه من طلب يلحقك. » وقال له الديواني قريبا من هذه المقالة، ووعده أن يسير به حتى يوصله الى أعمال بدر بن حسنويه وأعمال البطيحة، فلم يقبل وقال:

« بل أراسل الملك واستصلح رأيه. » وراجعناه وبيّنّا له وجه الرأي فيما أشرنا به. فأقام على المخالفة وألزمنى أن أعود الى شيراز واجتمع مع أبي الخطاب واستعلم رأيه له فيما يدبّر به أمره. وكتب كتابا الى بهاء الدولة ب:

« انّنى لم أفارق اعتقالك خروجا عن طاعتك ولا عدولا عن استعطافك من تحت قبضتك ولكنّنى عوملت معاملة طلبت بها نفسي فحملني الإشفاق من تلفها على ما طلبت به خلاصها وها أنا مقيم على ما يرد به أمرك وما أريد إلّا رعاية خدمتي في استبقاء مهجتي ».

إلى غير ذلك من القول الجاري في هذه الطريقة.

قال أبو نصر: وكلّفنى من هذا العود والرسالة ما حملني فيه على الغرر والمخاطرة ثم لم أجد بدا من القبول والطاعة ورجعت إلى شيراز وقصدت دار أبي الخطاب ليلا فقال لي:

« ما الخبر؟ فإنّ القيامة قد قامت على الملك بهرب الموفق وتصور له أنه سيتمّ عليه به فساد عظيم. » فأعلمته ما جئت فيه فقال:

« ليس يجوز أن أتولّى إيصال الكتاب وإيراد ما تحملته في معناه على الملك وهو يعلم ما بيني وبينكم. ولكن امض إلى المظفر أبي العلاء عبيد الله بن الفضل واسأله أن يكتم خبرك في ورودك وأن يوصل الكتاب كأنه وصل مع بعض الركابية ويستر الأمر ويعرف ما عند الملك فيه. » فصرت إليه ووافقته على ما وافقنى عليه أبو الخطاب فلشدة حرص المظفر على اعلام بهاء الدولة الخبر وازالة قلقه به ما باكر الدار وعرض الكتاب ولم يكتم ورودي بل ذكره فسكنت نفس الملك إلى هذه الجملة فقال:

« فما الذي يريد. » قال: « التوثقة على يدي الشريف الطاهر أبي أحمد الموسوي. » فأجاب إليها ووعد بها. وراسلني أبو الخطاب بأن أقتصر فيها ولا أستوفيها ووعدت بذاك ثم لم أفعله وعملت لليمين نسخة استقصيت القول فيها وحضرت الدار بها وحضر الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء فخرج إليّ الأمين أبو عبد الله وقال لي: « الملك يقول: ما الذي تقترحه من التوثقة؟ » فأخرجت النسخة من كمّى وسلّمتها إليه وقلت:

« هذه نسخة أصحبنيها الموفق ورسم لي الرغبة إلى الكرم الفائض في أن تحرر بخط مولانا الأمين وأن تشرف بتلفظ الحضرة العالية بها بمحضر من الشريف الطاهر. » فقال: « أقوم وأعرضها. » ودخل وعرضها. فلمّا رأى الملك طولها وتأكّد الإستيفاء فيها، قال لأبي الخطاب:

« أليس رسمنا لك مراسلة أبي نصر بالاقتصار والتخفيف؟ » قال: « قد فعلت. » ووعد ثم لم يفعل. فتقدم إلى الأمين بتحريرها فحررها حرفا حرفا وأحضرت المجلس وحضر الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء وأبو الخطاب والأثير أبو المسك عنبر والأمين أبو عبد الله، وبدأ الملك بقراءتها.

فلما مضى شطرها قطعها بأن قال قولا استفهم به شيئا منها ثم عاد لاستتمامها فقبّلت الأرض ورفع رأسه وقال:

« مالك؟ » قلت: « الخادم الغائب يسأل الإنعام بأن يكون قراءة هذا التشريف بغير عارض يقطعه. » فاغتاظ غيظا بان في وجهه، ثم أعاد قراءتها من أولها إلى آخرها.

فلمّا فرغ منها قبّلت الأرض. فقال:

« أيّ شيء تريد أيضا؟ » قلت: « التشريف بالتوقيع العالي فيها. » فاستدعى دواة وكتب: « حلفت بهذه اليمين والتزمت الوفاء بها على ما اقترحه من ذلك ».

وأخذتها وخرج الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء وخرجت الى الموفق ليرد معنا.

وقد كان بهاء الدولة جرّد مع أبي الفضل ابن سودمند عسكرا إلى سابور لطلب الديواني ودخل الديواني الماهور وأقام أبو الفضل على حصاره.

فلما وصلنا أقام المظفر أبو العلاء عند العسكر ودخلت أنا والشريف أبو أحمد وصرنا إلى الموفق ومعي خيل وبغال وثياب ورحل أنفذ ذلك المؤيد أبو الفتح اذكوتكين والمظفر أبو العلاء اليه على سبيل الخدمة له به واجتمعنا معه وعرف من الشريف الطاهر جملة الأمر ومني شرحه. وسار وسرنا وسار المظفر أبو العلاء الى شيراز وكان وصولنا في روز آبان من ماه أرديبهشت الواقع في جمادى الآخرة.

وأظهر الموفق لبس الصوف وخرج إلينا أبو الخطاب والأمين أبو عبد الله متلقّين. فلما أراد الانصراف قال لأبي الخطاب:

« أريد الخلوة معك. » فقال له:

« لا يمكنني ذلك مع كون الأمين معي، ولكن أنفذ إليّ أبا نصر الكاتب الليلة. » ودخل الموفق البلد ونزل دارا أعدّت له فيه.

ذكر ما جرى عليه أمره بعد دخوله

قال أبو نصر: وصرت الى أبي الخطاب وقلت له:

« يقول لك الموفق بأى شيء ترى إن أدبر أمري؟ » قال: قل له:

« قد كنت أشرت عليك بآراء خالفتها فلم تحمد عقبى خلافها، وأنا أعرف بأخلاق بهاء الدولة منك. والصواب الآن أن تنفذ جميع ما حصل عندك من الدواب والبغال التي قادهما الأولياء إليك وتراسل الملك وتقول له:

من كان مثلي على الحال التي أنا معتقدها من اعتزال الأموال والرغبة عن العمل، فلا حاجة به إلى دوابّ وبغال. وقد قدت ما قاده الأولياء إليّ إلى الاصطبل. لأنه أولى به ومتى أردت مركبا أركبه استدعيت منه ما أريده في وقت الحاجة إليه وإنّ من شروط ما اعتزمته أيضا ان أقلّ الاجتماع مع الناس وانفرد بنفسي والدعاء للملك وأسال أن يختار أحد ثقات الستريين ويرتّب على بابى لردّ من يقصدني ومنع من يحاول الدخول إليّ. فإنّه إذا رأى مثل هذا الفعل وسمع عنك مثل هذا القول سكن وأنس وأمكنك وأمكننا ان نتلطف لك من بعد في اخراجك الى منزلك ببغداد او الاستئذان لك في قصد بعض المشاهد وتملك حينئذ نفسك فتصرفها على اختيارك. » قال أبو نصر: فلما سمعت من أبي الخطاب هذه المشورة علمت أنها صادرة عن النية الصحيحة وعدت إلى الموفق فأخبرته بما كان. فكان من جوابه: أبو الخطاب يريد أن يردني إلى الحبس ردا جميلا. ولم يقبل هذا الرأي ولا دخل له قلبا ولا خالط فكرا. وأقام الدواب بين يديه الى المراود والكرداخورات يسمنها ويضمرها وفتح بابه وقعد في ثلثة مخادّ بين اثنتين منها سيف والى جانبه ترس وزوبينات وعليه قميص صوف وكان يدخل إليه أبو طالب زيد بن عليّ صاحب الصاحب أبي محمد ابن مكرم وأبو العباس أحمد بن علي الوكيل فيحدثهما ويحدثانه ويباسطهما ويباسطانه ويعيدان عليه ما يتسوقان عنده به ويعيدان عنه ما يتسوقان به عليه.

وورد الوزير أبو غالب قادما من سيراف وقد كان خرج إليها بعد وفاة الفرّخان بن شيراز لتحصيل أمواله وإثارة ودائعه وترددت المراسلات بينه وبين الموفق بالجميل الذي كنت أسدى وألحم فيه وأخذت لكل واحد منهما عهدا على صاحبه ومضى على ذلك زمان.

فأعاد أبو العباس الوكيل وأبو طالب زيد على الوزير أبي غالب على الموفق ما أوحشاه به وكان مخالفا لما أورده عليه عنه وشكّ في قولهما وقولي وأراد امتحان صدقهما أو صدقى. فاستدعى أستاذ الأستاذين أبا الحسن علمكار، وكان الموفق شديد الثقة به والوزير أبو غالب على مثل هذا الرأي فيه. فقال:

« أريد ان أخرج إليك بسرّ أشرط عليك أولا كتمانه ثم استعمال الفتوة والنصيحة فيه. » فقال: « ما هو؟ » قال: انّ أبا نصر الكاتب يجيئني ويورد عليّ عن الموفق الجميل الذي يسكن إلى مثله يجيئني بعده أبو طالب وأبو العباس فيحدّثانى عنه ما يناقض ذلك ويقتضينى والنفور منه وأريد أن تمتحن ما في نفسه وتطاوله مطاولة يستخرج بها ما عنده وتصدقني عما تقف عليه لأعمل بحسبه.

فوعده أبو الحسن وصار الى الموفق وأقام عنده طويلا وجاراه من الحديث ضروبا. ثم أورد في عرض ذلك ذكر الوزير أبي غالب فخرج اليه بالشكر له وسوء الرأي فيه وعاد أبو الحسن الى الوزير أبي غالب فقال له:

« قد صدقك أبو طالب وأبو العباس ونصحا لك. » فانقبض الوزير أبو غالب حينئذ منه وعلم أنه على خطر متى ثاب أمره.

قال أبو نصر: ومضت مديدة أخرى وأبو الفضل بن سودمند مقيم مع العسكر على حرب الديواني ومضايقته لأنّه طولب بعد خروج الموفق من عنده بقصد الباب ووطء البساط فلم يفعل وعول على أنّ أمر الموفق يستقيم فيمنع منه ويردّ العسكر عنه.

فوضعت موضوعات وكتبت ملطفات على أنها من الموفق إلى الأولياء الذين بإزاء الديواني وروسلوا بالشغب وإظهار العود الى شيراز وحملت الملطفات الى بهاء الدولة وقيل له: إن العسكر المقابل للديوانى قد هنجم وعمل على الانكفاء الى الباب وهذا أمر قد قرره الموفق ورتبه وفيه من الخطر عليك وعلى دولتك ما لا خفاء به، وإن ورد هؤلاء القوم أخرجوا الموفق وكاشفوا بالخلاف.

فاغتاظ بهاء الدولة وشكّ شكا شديدا فظن ما قيل وعمل حقا فتقدم عند ذاك بالقبض على الموفق وردّه الى القلعة.

فانفذ اليه أبو طالب الصغير في وقت العشاء من روز أمرداذ من ماه تير الواقع في يوم الأحد السابع من شعبان حتى أخذه وحمله إلى القلعة.

ذكر ما جرى عليه أمره عند رده إلى القلعة

وكّل به أبو نصر منصور بن طاس الركابسلار، فأحسن معاملته ووسع عليه مقعده وملبسه ومأكله ومشربه وتحمل عنه جميع مؤنه وكلفه. وكان يدخل اليه ويقول له:

« أنا خادمك ونفسي ومالي مبذولان لك. » ومضت على ذلك أيّام ثم جاءه وخلا به وقال:

« أيها الموفق قد عرفت مخالفتي للسلطان في كل ما أعاملك به وأخدمك به ونفسي معرضة بك معه وإن وثقت إلى من نفسك بانه لا تسلّمنى وأن تكون الحافظ لها دوني كنت على جملتي في خدمتك وتولّى أمرك. وان كنت تحاول أمرا آخر فاخرج إلى بسرك لأكون بين أن أساعدك عليه أو ان استعفى استعفاء لطيفا أتخلص به. » فقال الموفق له:

« لك عليّ عهد الله أننى لا أفارق موضعي ولا أخرج منه إلا بأمر سلطاني وما فارقته في الدفعة الأولى إلا لسوء معاملة أحمد الفراش لي وطلبه نفسي. » فشكره أبو نصر ووثق بهذا الوعد منه وكان يتردّد بينه وبين أبي الخطاب في رسائل يتحملها من كل واحد منهما إلى صاحبه ومضت مدة على هذه الحال. ورتّب في القلعة اللشكري بن حسان لمانكيمح (كذا) فراسل الموفق يقول له أنت على هذه الصورة ورأى السلطان فيك فاسد وأعداؤك بين يديه كثيرون والأمر الآن في يدي وأنا آخذك وأخرجك معي إلى الريّ فإذا حصلت بها ملكت أمرك وبلغت هناك معما شاع من ذكرك وتحصل في نفوس الديلم لك أكثر مما بلغته هاهنا.

فقال له:

« قد عاهدت أبا نصر الركابسلار على ألّا أغدر به ولا أفارق موضعي وأسلمه. » فعاود مراسلته وقال له:

« دع هذا القول عنك واقبل رأيي. فإنّ النفس لا عوض عنها وترك الفرصة إذا عرضت عجز. » فلم يقبل.

قال أبو نصر: ثم إنّ أبا الخطاب أراد امتحان ما عند الموفق. فقال لأبي نصر المجرى:

« أريد أن تذمّنى إذا خلوت أنت والموفق وتستكتمه ما خرجت به إليك في أمري وتنظر ما يقوله لك فتعرّفنيه. » فجاءه أبو نصر وقال له في بعض ما يجاريه إياه:

« لك أيها الموفق عليّ حقوق إحسان أوليتنيه ومن حكم ذلك أن أصدقك. أراك تعوّل من أبي الخطاب على من هو سبب فساد أمرك وتغير الملك عليك وسوء رأيه فيك. فلو عدلت عنه لكان أولى وأصلح لك ومتى أردت أن أوصل لك رقعة الى الملك سرّا فعلت. » فصادف هذا القول منه شكّا في أبي الخطاب وتهمة له وحمله الاسترسال واطراح التحفظ على أن اطلق لسانه فيه بكل ما كان مكنونا في صدره وسأله أن يوصل له رقعة إلى الملك فبذل له ذاك.

وكتب بخطه إليه كل ما استوفى اليمين على نفسه به في أنه الخادم المخلص الذي لم يتغير عن مناصحته ولا هم بخيانة وأنه وأنه... وذكر ابن الخطاب بما طعن عليه فيه وقال:

« اننى لم أهرب لمّا هربت إلّا برأيه وموافقته وعلمه ومعرفته. » قال أبو نصر السني: وكان الأمر كذلك وأخذ أبو نصر الركابسلار الرقعة وجاء بها إلى أبي الخطاب. فلمّا وقف عليها كتمها ولم يعد قولا في معناها أدت الحال الى ما سيرد ذكره في موضعه من قتله.

وفي شعبان توفّى أبو عبد الله ابن أيوب الشيرازي الكاتب.

وفي شهر رمضان عظمت الفتنة ببغداد بعد خروج أبي جعفر الحجاج عنها وزاد أمر العلويين العيّارين وقتلوا النفوس وواصلوا العملات وأخذوا الأموال واشراف الناس منهم على خطة صعبة.

وفيه ورد الأمين أبو عبد الله الحسين بن أحمد إلى واسط برسائل إلى أبي جعفر الحجاج في معنى أمر عميد الجيوش أبي على وخروجه إلى العراق.

فلمّا عرف حصول أبي جعفر بسقى الفرات وتشاغله بحرب أبي الحسن ابن مزيد وبنى عقيل توقف.

وفي ليلة الأربعاء لثمان بقين منه طلع كوكب الذؤابة.

مسير بهاء الدولة من الأهواز

وفي هذا الشهر تواترت الأخبار بتعويل بهاء الدولة على عميد الجيوش في أمور العراق. ثم سار من الأهواز في يوم الجمعة الثاني من شوال.

شرح الحال في ذلك

لما استقام بعميد الجيوش ما استقام من أمور الأهواز وأعادها إلى حال السكون والعمارة وساس الجند والرعية فيها السياسة الشديدة واضطربت أمور بغداد وانحلّ نظامها وعظمت أسباب الفساد والفتن فيها كوتب بقصد العراق وإصلاح أحوالها وإزالة ما عرض من انتشارها واختلالها وأنفذ الأمين أبو عبد الله إلى أبي جعفر الحجاج لتطييب قلبه واستدعائه إلى فارس.

وورد عميد الجيوش واسطا بعد أن أقام أبا جعفر أستاذ هرمز بالأهواز والده ناظرا في الحرب ورتّب أبا عبد الله الحسين بن علي بن عبدان في مراعاة الأمور والأعمال.

فاستبشر الناس به لما بلغهم من حسن سياسته وزوال المجازفة والظلم عن معاملته، وكتب إلى الفقهاء وأماثل التجار بمدينة السلام كتبا يعدهم فيها بالجميل ومحو أثار ما تقدم من المصادرات وتضاعفت المحبة له وتزايدت المسرة به.

وكاتب أبا القاسم الحسين بن محمد ابن مما مما تألفه وأمره بحفظ البلد وضبطه إلى حين وصوله وأنفذ اليه تذكرة بأسماء جماعة ورسم له قتلهم وأخذهم وكان منهم مرتوما ابن ققى (كذا) النصراني التاجر لأنه ذكر عنده بالسعاية والغمز فاقتصر أبا القاسم على أخذ المعروف بابن دجيم وقتله في وسط الكرخ. وكان أحد الملاعين السعاة وأنذر الباقين لأنهم خدموه من قبل.

وسار عميد الجيوش من واسط فتلقاه أبو الفوارس قلج سابقا الى خدمته ثم تلاه الأولياء على طبقاتهم والناس على ضروبهم فبسط لهم وجهه ووفى كلامهم حقه. ورأوا من لين جانبه وقرب حجابه وسهولة أخلاقه وعذوبة ألفاظه مع عظم هيبته ما لم يعهدوا مثله. وعرف الأشرار والدعار قوته وما يأخذ به نفسه فذهبوا كل مذهب وهربوا كل مهرب.

ونزل النجمى فزينت له الأسواق ونصبت القباب وأظهر من الثياب والفروش الفاخرة والأواني والصياغات الكثيرة ما كان مخبوءا للخوف، ودخل يوم الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة وقد أقيم له في الأسواق الجواري والغلمان في أيديهم المداخن بالبخور وخلقت وجوه الخيل ونثرت عليه الدراهم في عدة مواضع ودعى له من ذات الصدور وعدل من طاق الحراني الى دجلة ونزل في زبزبه وعبر إلى دار المملكة وخدم الأميرين أبا الشجاع وأبا طاهر وعاد فصعد الى الدار بباب الشعير وهي التي كانت لأبي الحسن محمد بن عمر.

وطلب العيارين من العلويين والعباسيين وكان إذا وقعوا تقدم بأن يقرن العلوي بالعباسي ويغرقان نهارا بمشهد من الناس. وأخذ جماعة من الحواشي الأتراك والمتعلقين بهم والمشتهرين بالتصرف والتشصص معهم فغرقهم أيضا.

وهدأت بذلك الفتن المستمرة وتجددت الاستقامة المنسية وأمن البلد والسبل وخاف الغائب والحاضر.

وكان ممن قتل المعروف بأبي على الكرامى العلوي وقد هتك الحريم وارتكب العظائم ونجا إلى أبي الحسن محمد بن الحسن بن يحيى وظنّ أنه يعصمه ويمنع منه فركب أبو الحسن عليّ بن أبي عليّ الحاجب الى داره حتى قبض عليه من بين يديه وهو يستغيث به فلا يجيبه وحمله إلى دار عميد الجيوش وقتله.

وقد كان المعروف بابن مسافر العيار حصل في دار الأمين أبي عبد الله فآواه وستره ولم يزل أبو الحسن علي بن أبي على يراصده حتى عرف أنه يجلس في دهليزه ثم كبس الدهليز والأمين أبو عبد الله غائب. فأخذه وضرب عنقه.

وامتعض الأمين أبو عبد الله من ذلك فلم ينفعه امتعاضه وشكا الى عميد الجيوش فلم يكن منه إلّا الاعتذار القريب منه. وتتبعت هذه الطوائف في النواحي والبلاد فلم يبق لهم ملجأ ولا معقل ومضت إلى الأطراف البعيدة وكفى الله شرها وأزال عن الناس ضرّها.

وحدثني أبو الحسن علي بن عيسى صاحب البريد قال:

كان ابن أبي العباس العلوي ممن سلك الطريق الذميمة وارتكب المراكب القبيحة. فلمّا ورد عميد الجيوش هرب إلى ميافارقين وبلغه خبر حصوله فيها ومقامه فيها فبذل مائة دينار لمن يفتك به ويقتله ووسط ذاك بعض من أسر إليه وعوّل فيه عليه وأنهى الأمر الى تعديل الدنانير عند بعض التجار في ذلك البلد، وتقدّم عميد الجيوش بأخذ سفتجة بها وإنفاذها. وبينما هو في ذلك عرض عليه كتاب بوفاة ابن أبي العباس هذا. فضحك وقال لي:

« قد بلغنا أيّها الأستاذ المراد وربحنا الغرم ونحن نصرف الآن هذه الدنانير في الإراحة من مفسد آخر. » وسلك مثل هذه الطريقة مع أهل الشر من الكتّاب والمتصرفين وغرق منهم جماعة في أوقات متفرقة ومن جملتهم طاهر الناظر كان في دار البطيخ وله صهر من الأتراك يعرف بالأعسر من وجوههم ومفسديهم، وأبو على ابن الموصلية عامل الكار.

فأذكر وقد جاءني ابن الموصلية هذا ليلا وكان هاربا مستترا وقال لي:

« قد خدمتك الخدمة الطويلة وأوجبت عليك الحقوق الكثيرة وفي مثل هذه الحال أريد ثمرة ذلك ورعايته. » فقلت: « ما الذي تريده لأبذل جهدي فيه. » قال: « عرفت حالي في وقوع الطلب لي ومتى ظفر بي قتلت أو بقيت على جملتي في التوقّى والتخفّى لم يكن لي مادة أمشّى بها أمري وأستر من ورائي وأريد أن تخاطب الصاحب أبا القاسم بن مما في بابى وتذكره بخدمتى وحرمتي وتسأله خطاب عميد الجيوش في إظهارى وإيمانى.

قلت: « أفعل ولا اترك ممكنا في ذلك. » فشكرنى وانصرف وباكرت أبا القسم فقلت:

« جاءني البارحة أبو على ابن الموصلية ورأيته على صورة يرحم في مثلها الأعداء فضلا عن الخدم والأولياء وله عليك حقوق وإنما أعدّها لمثل هذا الوقت ومتى لم تخلصه وتلطف في أمره هلك في وقوعه واستتاره.

فقال لي:

« لو كنت غائبا عن هذه الأمور لعذرتك. فاما وأنت حاضرها فلا عذر لك. » فراجعته وقال لي:

« أنت تلقى عميد الجيش دائما وهو يميل إليك ويتوفّر عليك فخاطبه وتحمل رسالة عني بما تورده عليه. » فسررت بذلك وظننت أننى سأبلغ الغرض به ودخلت إلى عميد الجيوش في آخر نهار وهو خال. فخاطبته في أمر ابن الموصلية ورققته وسألته كتب الأمان له. فقال: أفعل. وتبسّم. ثم قال لي:

« لست عندي في منزلة من أعده ثم أخلفه وأقرر معه ما يقتضيه وأنا أصدقك عما في نفسي. ليس لهؤلاء الأشرار عندي أمان ولا أرى استبقاءهم على كلّ حال. فإن أردت أن تتنجز الأمان على هذا الشرط فما أمنعك بعد أن يكون على بينة من رأيي واعتقادي. » فقبلت الأرض بين يديه وشكرته على صدقه فيما صدقنى عنه ورجعت الى أبي القاسم فعرّفته بما جرى فقال:

« قد كنت أعلمه وإنما أحببت أن تشركني فيه وتسمعه بغير إسناد مني وربما اتهمته. » وعاد إلى ابن الموصلية من بعد في مثل الوقت الذي قصدني أوّلا فيه.

فشرحت له الحال على حقيقتها وقلت له:

« ما توجب الديانة ولا المروءة أن أغرّك. » وفارقني وهو عاتب مستزيد على ما حدثت به من بعد ومضى الى أبي عمرو بن المسيحي وأبي اسحق صاحب أبي القاسم بن مما، فسألهما مثل ما كان سألنيه وعاودا خطاب أبي القاسم وتنجّزا له الأمان. فما مضت مديدة حتى أخذه أبو الحسين بن راشد.

وكان لعمري من أهل الشر إلّا أنّ التأول عليه كان بمكاتبته أبا جعفر الحجاج عند حصوله بالنعمانية، ولأن أبا القاسم بن مما أغرى به للعداوة السابقة بينه وبينه.

وأخذ أيضا أبو الحسن محمد بن جابر وأبو القاسم عليّ بن عبد الرحمن ابن عروة ليفعل بهما مثل ما فعل بمن قدمنا ذكره.

فتلطف مؤيد الملك أبو على الحسين بن الحسن في خلاصهما واستنقاذهما وكان ذلك فيما بعد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، إلّا أننا أوردناه في هذا الموضع لاتصال بعض الحديث ببعض.

وتقدم عميد الجيوش عند مورده بسمل أبي القاسم بن العاجز وقد كان قبض عليه وأنفذ اليه الى واسط فسمل وضربت رقبته بعد السمل وطيف برأسه في جانبي مدينة السلام وطرحت جثّته في دجلة وذلك في يوم الأحد لثمان بقين من ذي الحجة.

ذكر ما عمله عميد الجيوش وأجرى أمور الأعمال والدواوين عليه

فوّض إلى مؤيد الملك أبي على أمور الأعمال وتقليد العمال وتحصيل الأموال وكان ورد معه نائبا عنه وله في الكتابة والكفاية القدم المتقدمة وفي العفة والامانة الطريقة المعروفة. فاستقام بنظره ما كان مضطربا وانحرس بحفظه ما كان متشذبا واستمرّ على الخلافة له في مقامه وسفره.

وجعل أمر الديلم الى أبي القاسم الحسين بن محمد بن مما وأبو نصر سعيد بن عيسى على الديوان وأمر الأتراك إلى أبي محمد عبد الله بن عبد العزيز، وأبو غالب سنان ابن عبد الملك يتولى الديوان. وأقرّ أبا على الحسن بن سهل الدورقي على ديوان السواد، وأبو منصور الاصطخرى خليفته عليه، وأبا الحسن محمد ابن الحسين بن سابلويه على ديوان الزمام وأبا الحسن سعيد بن نصر على ديوان الخاصة وأبا منصور يزدانفادار بن المرزبان على الأشراف في ديوان الجيشين. وقلّد أبا نعيم المحسن بن الحسن واسطا وضرب ضربا قرّر قيمة الدينار الصاحبى به على خمسة وعشرين درهما وباقى النقود على حسب ذلك واستعرض الجرائد وميز الناس وأسقط كثيرا من الحشوة وردّ جميع الاقساط لسائر الطوائف الى سبعة آلاف دينار في كل خمسة وثلاثين يوما وامتنع من تسليم ما ينحل من الإقطاعات إلّا بالأقساط وأقطع جماعة على هذه القاعدة فلو تمادت به المدة على خلو الذرع والطمأنينة لسقطت الأقساط بالواحدة لكنّه منى من أبي جعفر الحجاج بمن أفسد نظام أمره وأبطل عليه جميع ترتيبه وتدبيره. وسيأتي ذكر ذلك في أوقاته ومواضعه.

وما رأيت رجلا أعف ولا أظلف نفسا من عميد الجيوش ولقد رفع المصادرات وأزال المجازفات رفعا وإزالة اقتدى به جميع ولاة بهاء الدولة على بلاده فيها، وصار له الاسم الكبير والذكر الجميل بها.

ونعود الى ذكر الحوادث في الشهور الداخلة في هذه السياقة

وفي يوم الأربعاء السابع من شوال توفّى أبو محمد عبد الله بن أبي أحمد يحيى الجهرمى القاضي.

وفي هذا الشهر توفى أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الدقاق الشافعي العارض المعروف بخياط.

وفيه توفّى أبو الفتح القنّائى الكاتب.

مقتل ابن شهرويه وأبي عبد الله المستخرج وابنه

وفي يوم الاثنين لأربع بقين منه قتل أبو عبد الله بن الحيرى أبا الحسين ابن شهرويه وأبا عبد الله المستخرج وابنه في داره بالموصل.

ذكر الحال في ذلك

حدثني أبو الحسين بن الخشاب البيع الموصلي قال:

كان ابن الحيرى يبيع الخزف بالموصل ثم ضمن كوازكه وتنقل من حال الى حال حتى نظر في جميع أبواب المال وتجاوز ذاك الى ان كتب لأبي عامر الحسن بن المسيب.

وكان ارتفاع البلد مشتركا بين الحسن وبين معتمد الدولة أبي المنيع قراوش وكاتبه أبو الحسين بن شهرويه. وكان ابن الحيرى يستطيل على أبي الحسين بالإسلام وبأنّ صاحبه الأمير ويتبسط عليه في المعاملة والمناظرة.

فأقام أبو الحسين أبا عبد الله المستخرج فيما يتعلق بمعتمد الدولة من البلد والارتفاع ورمى ابن الحيرى منه بمن هو أشد قحة وثقل عليه أمره فعمل على الفتك به وبابن شهرويه وشرع في ترتيب أسباب ذلك.

وكان معه جماعة من الرجالة الذين يحملون السلاح ويسلكون سبيل العيارة فواقف قوما منهم على أن يلازموا داره - وكانت في بنى هائدة - ليلا ونهارا ويترقبوا حضور ابن شهرويه وابى عبد الله المستخرج، فإذا حضرا أوقعوا بهما ووضعوا عليهما.

وتقدم إليهم بأن يظهروا في منازلهم وعند رفقائهم أنهم مقيمون في الحلّة، وكان الحسن بن المسيب في حلّته بظاهر الموصل ومعتمد الدولة مخيم بالحصباء يريد الانحدار إلى سقى الفرات وهو عليل قد بلغت العلّة منه، وأظهر ابن الحيرى العلة وشكر له وتأخر في منزله.

فركب اليه أبو الحسين بن شهرويه وأبو عبد الله لعيادته على عادة كانت لأبي الحسين في مغالطته ومنافقته. فلما صاروا قريبا من داره فارقهما أبو ياسر النصراني وكان معهما فقال له أبو الحسين:

« لم لا تساعد على عيادة هذا الصديق؟ » فقال له مازحا:

« يجوز أن يسلم منا من يعرف خبرنا. » وتمم أبو الحسين وأبو عبد الله ونزلا ودخلا الى الدار ومنها إلى حجرة عليها باب حديد وثيق وتأخر عنهما ابن أبي عبد الله المستخرج في الدار الاولى ونزل الرجالة من الغرفة التي كانوا فيها ووضعوا عليهما وقتلوا أبا الحسين وأبا عبد الله وأفلت ابن أبي عبد الله وصعد إلى السطح ورمى نفسه الى دار قوم حاكة فاتبعه أصحاب ابن الحيرى وأخذوه وقتلوه وأخرج الثلاثة من الدار وطرحوا على الطريق.

وحلّ ابن الحيرى رجله وخرج من سرداب قد عمله تحت الأرض في داره إلى درب يعرف بفندق عروة على بعد من بنى هائدة واستتر وأخفى شخصه وقد كان استظهر بإخلاء داره وتحويل ما كان فيها من ماله وثيابه.

وبلغ الخبر معتمد الدولة فركب في الحال على ما به وهاج الناس بين يديه وطلب ابن الحيرى فلم يجده. وأظهر الحسن بن المسيب الإنكار لما فعله صاحبه وراسل معتمد الدولة يعده بالتماسه والأخذ بالحقّ منه.

وكان كمال الدولة أبو سنان غريب قد نزل في ليلة ذلك اليوم على ابن الحيرى كالضيف له. فلما جرى ما جرى بادر هاربا على وجهه إلى البرية وانحدر معتمد الدولة إلى العراق.

وظهر ابن الحيرى وخرج إلى حلّة الحسن وأقام عذره عنده فيما فعله وقبض على شيوخ أهل الموصل وصادرهم. واعتلّ الحسن علة قضى فيها وقام مرح أخوه في إمارة بنى عقيل بعده وانتقل إليه النصف من معاملة الموصل وتوسط بينه وبين ابن الحيرى حتى أذم له وعاهده واستكتبه وكانت بينه وبين أبي الحسن ابن أبي الوزير عداوة لأنه سعى به إلى مرح حتى قبض عليه ونكبه.

فاجتمع أبو الحسن وأبو القاسم سليمان بن فهد وأبو القاسم ابن مسرّة الشاعر على ابن الحيرى وأغروا مرحا به أوغروا صدره عليه وأفسدوا رأيه فيه فقبض عليه ووجدوا له تذكرة تشتمل على نيف وخمسين ألف دينار، فأثاروا ذلك وحصّلوه، ثم سملوه فمات ودفن، ونبشه أهل البلد من بعد وأحرقوه لسوء معاملته لهم وما قدّمه من القبيح إليهم.

حديث طريف

وحدّثني أبو الحسن ابن الخشاب عن أبي الحيرى بحديث استطرفته فأوردته قال:

أراد أن يقتل الحسن بن المسيب بسمّ يطعمه إياه ويهرب الى الشام. فسأله أن يحضر في دعوته فحضر فقدّم إليه بطّيخا مسموما. فقال له الحسن:

« تقدم يا با عبد الله وكل. » فأظهر له الصوم وقال لأبي الفتح ابنه:

« اجلس وكل مع الأمير. » فجلس وأكل ومات وتراخت مدّة الحسن فعاش قليلا ومات.

وتجدّدت بين أبي الحسن ابن أبي الوزير وأبي القسم بن مسرة وحشة فوقع فيه أبو الحسن عند مرح بن المسيب وكثر عنه حاله وماله وأغراه بنكبته ومصادرته فقبض عليه وقرر أمره على جملة أخذها منه وخاف عاقبة ما عامله به فقال لمرح:

« هذا شاعر وقد أسأت إليه وإن أفلت من يدك هجاك ومزّق عرضك. » فقتله وشقّ بطنه وملاه حصى ورمى به في دجلة. فاتفق أن وجدته امرأة كانت تغسل على الشاطئ فأخرج ودفن بالموصل.

انقضاض كوكب وتشققه

وفي ليلة يوم الاثنين الثالث من ذي القعدة انقضّ كوكب في برج الحمل والطالع آخر الثور أضاء كضوء القمر ليلة التمام ومضى الضياء وبقي جرمه يتموّج نحو ذراعين في ذراع برأى العين وتشقق بعد ساعة.

وفي آخر يوم الأحد التاسع من ذي القعدة كبس العيارون دار أبي عبد الله المالكي للفتك به وكان ينظر في المواريث وبعض معاملات أبواب المال وفيه جزف في المعاملة. فلم يجدوه ووجدوا أبا طالب بن عبد الملك أخا أبي غالب سنان وكان صهر أبي عبد الله على ابنته فقتلوه. وقتل العيارون في هذا اليوم أيضا حماد بن السكر الشهرونى وكان وجها من وجوه الرستاقية وأهل الرفق والعصبية.

دخول الحاج الخراسانية بغداد وعودهم إلى بلادهم

وفي يوم الثلاثاء الحادي عشر منه تكامل دخول الحاج الخراسانية بغداد وعبروا بأسرهم إلى الجانب الغربي، ثم وقفوا عن التوجه لخلّو البلد من ناظر وفساد الطرق ومقام أبي جعفر الحجاج بالكوفة وانتشار العرب من بنى خفاجة وبنى عقيل في البلاد، وعادوا إلى بلادهم في يوم الخميس لعشر بقين منه، وبطل الحج من المشرق في هذه السنة.

ذكر ورود علي بن عبد الرحمن مطلقا من أسر بنى عقيل

وفي يوم الاثنين الثاني من ذي الحجة ورد أبو القاسم علي بن عبد الرحمن بن عروة مطلقا من أسر بنى عقيل.

ذكر الحال في أسره وإطلاقه

كان قد خرج مع أبي اسحق إبراهيم أخي أبي جعفر الحجاج ناظرا في الأعمال وتمشية أمور العسكر. فلمّا وقعت الوقعة بينه وبين أبي الحسن بن مزيد ودعيج وبنى عقيل بباكرما وانهزم، أسره أحد العرب وبقي في يده مدة.

وابتاعه أبو الحسن رشا بن عبد الله الخالدي منه بمال قرّره عليه وضمن أبو بكر الخوارزمي المال لرشا وأطلق.

حوادث عدة

وفي يوم الأحد الثامن منه قتل ابن بندار المستخرج والحسين بن بركسه غلام ابن كامل وقبض على أبي طالب الصياد الهاشمي وابن زيد العلوي وغرقا.

وفي يوم الاثنين التاسع منه ولد الأميران أبو على الحسن وأبو الحسين ابنا بهاء الدولة توأمين وعاش أبو الحسين ثلث سنين وشهورا ومضى لسبيله وبقي الأمير أبو على وملك الأمر بالحضرة ولقّب بشرف الدولة. وأخباره تأتى في موضعها بإذن الله تعالى.

وفي يوم الأحد لثماني بقين منه ورد الأمين أبو عبد الله بغداد عائدا عن أبي جعفر الحجاج بن هرمز فيه ومعه أبو شاكر أحمد بن عيسى كاتبه وقد كان الأمين توقّف بواسط لما وردها على ما قدمنا ذكره. فلما وصل عميد الجيوش أبو على وأصعد، أصعد معه وعدل من النعمانية الى أبي جعفر فلقيه بالكوفة.

وفي يوم الاثنين لسبع بقين منه خرج الصاحب أبو القاسم بن مما إلى أبي الفتح محمد بن عنّاز، فدعاه إلى طاعة عميد الجيوش وخدمته وقاده إلى الدخول في جملته، ووعده عنه بما طابت نفسه به، وعاد من عنده وقد أصلحه ونسج ما بين عميد الجيوش وبينه.

وفي يوم الثلاثاء لست بقين منه توفّى أبو يعقوب محمد بن الحسن ابن يحيى العلوي الحسيني النقيب.

وفي هذه السنة هرب أبو العباس الضبي من الريّ وصار إلى بروجرد لاجيا إلى بدر بن حسنويه.

شرح الحال في ذلك وفيما جرى عليه أمر الوزارة بالريّ بعده على ما أخبرني به القاضي أبو العباس أحمد بن محمد البارودي

قد ذكرنا من قبل صلاح أمر أبي العباس مع الجند بالري ونزوله من القلعة في اليوم الرابع من القبض عليه وحمله إليها وعوده إلى النظر والتدبير ولمّا كان ذلك أقام مدّة سنة والاستقامة جارية والأمور مترخية والحال بينه وبين بدر بن حسنويه عامرة والعصبية له منه واقفة. وكانت في أبي العباس شدّة تغلب على طبعه وشحّ يفسد عليه كثيرا من أمره. فاتفق أن توفّى الإصفهبذ الأكبر ابن أخي السيدة والدة مجد الدولة وفاة أتهم أبو العباس بأنه دبّر عليه وسمّه.

وطلبت السيدة منه ما قدره مائتا دينار لإقامة رسم العزاية. فقال في جوابها:

« لو اشتغلت بما يعطاه الجند المطالبون لكان أولى من تشاغلها بعمل المواتيم للموتى الماضين. » فاغتاظت وقالت:

« صدق، وكيف يقيم مأتمه من قتله. وبلغه قولها فأسرّ الاستيحاش منها وعلم ما وراءه من تغير رأيها. فراسل أبا القاسم بن الكج القاضي بالدينور واستدعى منه مطالعة بدر بن حسنويه بأمره واستئذانه في خروجه إلى بلاده وتجديد التوثقة عليه له. فخاطب ابن كج بدرا على ذلك فقال:

« الرأي له أن يقيم بموضعه ولا يفسد حاله بيده ويتلطّف في إصلاح السيدة. »

فلم يقبل أبو العباس هذا الرأي، لأنه خاف السيدة، وعاود بدر بن حسنويه فقال:

« أمّا ما عندي من المشورة والنصيحة فقد قلتها، وأمّا ما يراه لنفسه من غير ذلك فله عندي فيه كل ما يحبّه ويؤثره. » وأقام أبو العباس بعد السنة الاولى سنة أخرى حتى حرز أموره وأنجز علائقه وأحرز أمواله. وكان يعتقد الثقة بأبي على الحسين بن القاسم العارض الملقب بالخطير، ففاوضه أمره وما قرّر عليه عزمه.

وكان أبو على ذا حيلة ومكيدة وكراهية له وعداوة. فقال له:

« الصواب فيما رأيته. فإنّ أحدا لا يقوم مقامك فيما تقوم فيه وإذا فارقت مقامك تلقّاك بدر بن حسنويه بساوة وقام بمعونتك ونصرتك وتشييد أمرك، وخاف السيدة والجند منه، فنزلوا على حكمك وعدت جديد الجاه قويّ الأمر. » قال القاضي أبو العباس: فحدثني أبو الحسن البندارى وكان كاتب أبي العباس الضبي على مكاتباته وسرّه. قال:

« جارانى الكافي أبو العباس ما أشار به عليه الخطير أبو على. » فقلت: « قد غشّك وما نصح لك، ومتى زالت قدمك عن موضعك تغيرت الأمور وحالت عن تقديرك. » فقال: « ما كان أبو على ليشير بغير الصواب مع إحسانى إليه وتوفّرى عليه. » فلما كانت ليلة خروجه ترك داره بما فيها من فرشه وآلاته ورحله وأثقاله وغلمانه وكانوا سبعين غلاما وخرج ومعه أبو القاسم ابنه وأبو الحسن البندارى كاتبه وغلام تركي من غلمانه ونفر من حواشيه ممن احتاج إليهم لخدمته ونزل على فرسخ من البلد.

وأصبح الناس وقد شاع الخبر. فماجوا واجتمع الجند وانتدب الجند الخطير أبا على لخطابهم وقال:

« قد هرب هذا الرجل بعد أن فرغ الخزائن وأخذ الأموال ومزّق الأعمال وحلّ النظام. والمواد اليوم قاصرة والإضاقة ظاهرة والاستحقاقات كثيرة. فإن قنعتم بما كان فخر الدولة يطلقه لكم قمت به وبذلت الاجتهاد فيه وفي تحصيله وتفرقته عليكم، وإن أردتم غير ذلك فانظروا لنفوسكم واختاروا من يتولّى أموركم. » فلمّا سمعوا من هذا القول ما سمعوا وعرفوا من صحته ما عرفوه قالوا له:

« قد رضينا بتدبيرك وقنعنا بما بذلته لنا من نفسك ولك علينا السمع والطاعة والانقياد والمساعدة. » فتولّى الأمر وأخذ ما كان في دار الكافي أبي العباس وكان كثيرا وتتبع أمواله وأموال أصحابه وأقطع أملاكه وإقطاعه وذكره في الكتب بأحمد بن إبراهيم المخلّ، وعلى المنابر بالطعن والقدح والوقيعة والجرح، بالغ في كلّ ما اعتمد مساءته به والغضّ منه فيه ومشت الأمور بين يديه.

ووصل أبو العباس الضبي إلى بروجرد فلم يستقبله بدر بن حسنويه ولا احد من أصحابه لكنه أنفذ اليه بمن يقيم له اقامة فكان يأخذ من ذلك يسيرا وينفق من عنده كثيرا حتى أخذ نحوا من خمسة آلاف درهم سودا. ثم سأل إعفاءه مما يقام له من جهة بدر بن حسنويه فأعفى. ووافاه أصحابه من البلاد لاحقين وانكسر جاهه وانتشر أمره وندم الندم الشديد على فعله.

قال القاضي أبو العباس: وكنت إذ ذاك ببروجرد. فاستشارني أبو الحسن البندارى عنه في أمره فقلت:

« يريد أن يطيب نفسا عمّا أقطع من أملاكه وإقطاعاته وينزل عنه لمن جعل له فيلاطف السيدة ومجد الدولة ووجوه القواد بما يستميلهم فيه ويقلّهم عن أبي على الخطير به. فإنّه إذا فعل ذلك أطاعه القوم وبلغوا له مراده. » فقال أبو الحسن:

« يحتاج لهذا إلى نحو مائتي ألف دينار ونحن فارقنا مكاننا وأفسدنا أمرنا من أجل مائتي دينار وامتناعنا من إطلاقها. » ومضت للخطير مدة سبعة عشر شهرا ثم قبض عليه فبادر أبو سعد محمد بن إسمعيل بن الفضل من همذان إلى الريّ مدلّا بوصلة بينه وبين السيدة وبماله من الحال الكبيرة والضياع الكثيرة والمادة الواسعة والمكنة التامة.

وكره بدر بن حسنويه أن يتم له أمر لسوء رأيه فيه، وأنه كان ينقم عليه قبيحا عامله به. فأنفذ أبا عيسى شأذى بن محمد ومعه أبو العباس الضبي الى الريّ في ثلاثة آلاف رجل ليعيده الى نظره ويردّه في الوزارة إلى أمره، وكتب في ذلك بما أكّده وأشار بالعمل عليه وترك خلافه فيه. فلما نزلوا بظاهر البلد ووصلت الكتب من بدر بن حسنويه - وقد تردّد في معناها ما تقدم من قبل - راسلت السيدة ومجد الدولة ووجوه القواد أبا العباس بأن:

« أدخل فان الأمر ممهد لك والرضا واقع بك ».

وأنفذت إليه ثقات كانوا له في القوم بأن:

« الباطن فيك غير الظاهر لك وقد رتّب الأمر على الغدر بك والقبض عليك ».

فخاف ورجع.

ذكر تقلد أبي الفضل الوزارة ثم عود الخطير إليها

وتقلّد أبو سعد بن الفضل الوزارة وتوسع في نظره بماله واستغلال أملاكه وهادي مجد الدولة والسيدة بما ملأ عيونهما به وأعطاهما وأعطى الأكابر ما استخلص نيّاتهم فيه.

وكان شديد العجرفة عسوفا في المعاملة متهجّما على الجند بالمخاطبة الوحشة فكرهوه واجتمعوا وقصدوه. فهرب الى بروجرد بعد أن استصلح بدر بن حسنويه، وعاد الخطير أبو على إلى الوزارة، وسام بدرا ان يخاطبه بالوزير، فامتنع من ذلك وامتنع أبو على من خطابه بسيدنا، وانتهى ما بينهما إلى الشرّ والمباينة والمكاشفة بالقبيح والعداوة وكتب الخطير إلى أصحاب الأطراف يبعثهم على بدر بن حسنويه ويغريهم به ويهون عليهم أمره وواصل هلالا ابنه وأفسده عليه وحمله على مباينته ومقاطعته فكان ذلك من أقوى الأسباب فيما خرج اليه معه.

وسنذكر شرح هذه الجملة وما انتهت إليه الحال بين الخطير وبين بدر فيما نورده آنفا بمشيئة الله تعالى.

ذكر السبب في فساد رأى بدر بن حسنويه على أبي سعد ابن الفضل وما عامله به عند هزيمته من الريّ وقصده إياه

حدثني القاضي أبو العباس البارودي قال:

كان أبو سعد ابن الفضل ينظر في أعمال همذان والماهين وسهرورد وأبهر من قبل مجد الدولة ويعطى شمس الدولة من ارتفاع ذلك مالا معينا ومبلغا مقننا.

فشرع بدر بن حسنويه في أن يبتاع خانا بهمذان ويفرده باسمه ويقيم فيه بيعا يبيع ما يرد من الأمتعة المختارة في أعماله وكانت الحمولات كلها واصلة منها ومحمولة فيها وبذل له في ارتفاع هذا الخان إذا تقرّر أمره ألف ألف ومائتا ألف درهم.

وأنفذ أبا غالب بن مأمون الصيمري إلى همذان لترتيبه وعقده على الراغب في ضمانه. وشقّ على أبي سعد ابن الفضل تمام ذلك وتصور أنه طريق إلى خروج ارتفاع البلد عن يده. فوضع قوما من الديلم على أن يقصدوا أبا غالب ويوقعوا به وكان نازلا في دار أبي عبد الله محمد بن علي بن خلف النيرمانى لأنه برسم النيابة عن بدر بهمذان. فقصدوه وكبسوا الدار وهرب من بين أيديهم وعاد إلى بروجرد.

وادّعى أنّه قد نهب منه جملة كثيرة من المال الذي كان معه، وكتب إلى بدر بالصورة واستأذنه في الاعتراض على ضياع أبي سعد ابن الفضل وأن يأخذ منها عوض ما أخذ منه. فأذن له في ذلك واستخرج ما قدره خمسون ألف دينار.

فقال أبو سعد لما بلغه الخبر:

« احسب ان يحيى بن عنبر [ لرجل قاطع طريق ] أخذ مالي واعترض على ضياعي. » وبلغ بدرا ذلك فأحفظه.

وقبض على الخطير أبي على بالريّ فبادر أبو سعد ابن الفضل طامعا في الوزارة وكره بدر أن يتمّ له أمره فأنفذ أبا العباس الضبي مع أبي عيسى شاذى في ثلاثة آلاف رجل لتقرير الوزارة له وجرى في ذلك ما قدّمنا ذكره.

وتولّى النظر أبو سعد ابن الفضل فأقام عليه سنتين ثم وقف أمره وشغب الجند عليه. فهرب وقيل إنّه دلّى في هربه في زبيل من سطح دار وقصد بدر بن حسنويه فما شعر به حتى حصل بالكرج وتمّم إليه الى سابور خواست فأحسن تقبّله وأكرم منزله وحمل اليه ثلاثمائة رأس غنما وأصنافا كثيرة فيها حمل سكر أبيض ولم يكن حمل مثل ذلك إلى أبي العباس الضبي، لأنّه علم أنّ أبا سعد واسع المروءة كثير التجمل، ووصل إليه من هذا المحمول ما وصل، فما انقضى يومه حتى فرّقه واستعمله. وأقام عنده أياما ثم صار إلى بروجرد.

قال القاضي أبو العباس:

فتأخر أبو العباس الضبي عن استقباله واحتج بنقرس كان عرض له وأنفذ أبا القاسم سعيدا ابنه للنيابة عنه في قضاء حقه وخرجت معه فسلم كل واحد من ابن أبي العباس وأبي سعد على صاحبه وسارا داخلين إلى البلد فتقدم عليه ابن أبي العباس.

فلما كان في آخر ذلك اليوم ركب إليه أبو العباس الضبي في محفّة، ودخل داره وهو يخرج من بيت الماء ويشدّ سراويله، وتلقاه وقبّل صدره في المحفّة وخاطبه أبو العباس بالوزير وقد كان أبو سعد كاتب أبا العباس من الريّ عند وزارته وخاطبه بالأستاذ الرئيس. فلما التقيا هذا الالتقاء اعتمد أبو العباس في خطابه بالوزارة أن يعلمه ان الصرف لا يزيل اسمه من الوزارة.

ولم يجتمعا بعد هذه الدفعة.

وفي هذه السنة أنشأ مهذب الدولة داره بالصليق فوسّع صحنها وعظّم أبنيتا وكبّر مجالسها وسلك مسالك الملوك فيها ونقل إليها من الآلات والساج الشيء الكثير. فجاءت أحسن دار وأفخمها وأجلها وأعظمها.

وقد رأيتها في أيامه وكانت من أبنية الملوك وذوي الهمم الكبيرة منهم، وما شاهدت صحنا كصحنها في انفساحه واتساعه، وكانت راكبة لدجلة ولها روشن وشبابيك عليها.

ونقضت هذه الدار في سنة سبع عشرة وأربع مائة حتى قلعت أساساتها وجعلت دكة في تعفّى آثارها. وكان سبب ذاك أن باع العمال في أيام الفترة بعضها على أرباب الاقساط وطمع الجند بهذا الابتداء فأتوا على جميعها.

استتار

وفيها خرج أبو الحسن ابن اسحق كاتب أبي الحسن محمد بن عمر كان الى فارس على استتار.

شرح الحال في ذلك وفيما جرى عليه أمره الى أن قتل

لما أصعد أبو الحسن الى بغداد مع الصاحب أبي القاسم بن مما على القاعدة التي قدمنا ذكرها بدا من أمره ما كان مستورا خافيا وقبض على جماعة من التجار وصادرهم وتأول عليهم وجازفهم واعتقل الجاثليق ووكل به وبالغ في الغضّ منه واستعمال القبيح معه.

وحاول في القبض على أبي يعقوب العلوي ما حاوله. فلما لم يتم له وعرف خبر أبي الحسن بن يحيى في عوده الى واسط وانحلال أمر أبي نصر سابور وانتقاض قواعده استتر وخرج الى أوانا وأقام بها مديدة.

ثم توصّل الى الحصول بالبطيحة وتوجّه منها الى فارس بمرقعة تعويلا على حال كانت بينه وبين أبي الخطاب. ونزل على أبي العلاء عبيد الله بن الفضل فأكرمه وشرع في مراسلة بهاء الدولة من داره في أمور كثر الكلام فيها عليه. فتجعد أبو العلاء منه وخاف أن يتطرق عليه سوء به وانتقل أبو الحسن عنه متغضبا عليه.

وقبله بهاء الدولة واعتقد فيه تأدية الأمانة فيما يقوم له به. فأنفذه الى ناحية شق الروذان وكانت يومئذ مفردة للخاص فدبّرها وقرّر ارتفاعها وحمل إلى بهاء الدولة منه ما قامت سوقه عنده به وثقل ذلك على أبي غالب محمد بن علي وهو إذ ذاك ناظر في الوزارة وعلى أبي الفضل ابن سودمند بعده.

وتوجه بهاء الدولة الى الأهواز لقتال أبي العباس بن واصل فقبض الوزير أبو غالب على أبي الحسن وحبسه في دار المملكة مدة حتى بلغت منه الضغطة والشدة.

ثم بلغ الوزير ان بهاء الدولة سأل عنه وقال ما فعل ذلك البائس ابن اسحق. فاشفق ان يكاتبه بإنفاذه الى حضرته فاحتال عليه بان استدعاه من محبسه وخلا به وقال له:

« قد استولى أبو غالب الحسن بن منصور على كرمان واستأكل أموالها ومنعني مما كنت أرجو حصوله منها وعملت على أن أخرجك إليها كالمقرّر لارتفاعها. فإذا ثبتت قدمك واستقرت الدار بك قلّدتك وسلّمت أبا غالب إليك لتستقصى أمره وترتجع منه ما أخذه واحتجنه. وأعلم أن المحنة قد بلغت منك وأنك محتاج إلى ما تعيد به تجملك وقد وقّعت لك الى أبي عبد الله بن يوسف الفسوي بعشرين ألف درهم تصرفها في ذلك وينبغي أن تسبقني الى فسا وتستوفى هذا المال وتبتاع به رحلا وبهائم. فإننى سأتبعك إلى هناك وأقرر ما بيني وبينك وأنفذك. » وحمل اليه ثيابا من خزانته ونفقة. فاغترّ أبو الحسن وقدر هذا القول حقا وما وراءه من الاعتقاد سليما.

وواقف قوما من الزطّ على اتباعه والفتك به. فمضوا واعترضوا القافلة التي كان فيها ومعهم من يعرف أبا الحسن. فلما بصر به دلّهم عليه فأرجلوه من دابته وقالوا له:

« أنت قريب الوزير ولنا عنده رهائن ونحن نأخذك ونعتقلك الى أن يفرج عنهم. » وعدلوا به عن الطريق الى بعض الشعاب وذبحوه وخلوا عن القافلة ولم يعرضوا لها.

وكان أحمد حاجب ابن اسحق معه فأطلع على باطن القصة وتحدّث به وبلغ الوزير أبا غالب فحاول فخاف أن يتصل ببهاء الدولة من جهته فأحضره ووعده الجميل ومعاملته به وأطلق له نفقة سابغة وكان يراعيه مدة كونه بفارس.

وهذا الخبر أرويه عن أبي عبد الله الفسوي وحدّثني معه أنه بلغ من مراعاة بهاء الدولة لأمر ابن اسحق وعنايته به أن أنفذ إليه بأحد خواصه من الفراشين وقد هنجم غلمان الخيول بشيراز وكانوا ألفا ومائتي غلام، وانضاف إليهم الخارجون عن الدار وقال له:

« احرس نفسك من أبي غالب ابن خلف واحذر ان يتم له عليك حيلة.

وَكانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا ».

سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة

أولها يوم الاثنين والتاسع من تشرين الثاني سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للإسكندر وروز مار إسفند من ماه آبان سنة احدى وسبعين وثلاثمائة ليزدجرد.

منع عميد الجيوش أهل الكرخ وباب الطاق في عاشوراء من النوح في المشاهد وتعليق المسوح في الأسواق. فامتنعوا. ومنع أهل باب البصرة وباب الشعير من مثل ذلك فيما نسبوه إلى مقتل مصعب بن الزبير.

وفي رشن من ماه آذر الواقع يوم الخميس لخمس بقين من المحرم قبض على أبي غالب محمد بن علي بن خلف وتقلد الوزارة أبو الفضل محمد بن القاسم بن سودمند في روز خرداد من ماه... الواقع في يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الاول.

ذكر حال أبي الفضل وما جرى عليه الأمر في تقليده

أبو الفضل هذا أحد الكتاب الذين وردوا العراق من فارس مع أبي منصور بن صالحان في أيام شرف الدولة وكان يكتب بين يديه في جملة كتّاب الإنشاء. ثم قلّده عمالة عكبرا وانتقل منها إلى النظر في بعض الأعمال بالأهواز وتدرجت به الأحوال بعد ذلك الى أن تقلد عرض الديلم وتقدم في أيام الموفق وخرج بعد وفاته الى كرمان على ما قدمنا ذكره.

ولما عاد الوزير أبو غالب بن خلف من سيراف وعرف عوده من كرمان بعد أن فعل في تقرير أمورها ما فعله وحمل إلى الخزانة من مالها ما حمله ووقوع ذلك من بهاء الدولة موقعه وتأكد حاله عنده به وموضعه، شقّ عليه أمره وأغراه المفسدون به. فقبض عليه ونكبه واضطره إلى التبذل والتسلّم في تصحيح ما قرره عليه وطالبه به.

وخرج من النكبة، فكتب الى بهاء الدولة رقعة جعل سفيره ووسيطه فيها الحسين المزين وامرأته وسعى بالوزير أبي غالب وبذل فيه بذلا كثيرا.

وقد كان تحصل في نفس بهاء الدولة منه ما تكلم عليه به في أمر تركة الفرّخان وما أخذه منها فأجابه إلى ما أراده ووافقه على القبض عليه، فسلّمه النظر في الأمور بعده.

فلمّا كان في يوم القبض دخل أبو الفضل دار الوزير أبي غالب بقميصين ورداء على زيّ المتعطلين والمنكوبين وحضر مجلسه وخدمه ثم خرج من بين يديه وقعد في الدهليز.

وكان قد رتّب أمر القبض من الليل وواقف كل رجل من أصحابه على أخذ كل واحد من أصحاب الوزير أبي غالب فقبض عليه وعلى حواشيه وأصحابه وألزم الجماعة من المصادرة على قدر حاله وموجب تصرفه، وقرر على أبي غالب مائة ألف دينار قاسانية قيمتها أربعة آلاف ألف درهم من نقد الوقت وجدّ به في الأداء والتصحيح جدّا. فخرج فيه إلى بعض العسف والإرهاق من غير أن يمكنه...


 
*


تجارب الأمم لمسكويه
المجلد الأول | المجلد الثاني | المجلد الثالث | المجلد الرابع | المجلد الخامس | المجلد السادس | ذيل تجارب الأمم للروذراوري | الملحق بذيل الروذراوري لهلال الصابئ