تجارب الأمم/المجلد الثاني

  ►المجلد الأول المجلد الثاني المجلد الثالث ◄  


[ تجارب العصر الأموي ]

أيام معاوية بن أبي سفيان

ذكر مماحكة جرت بين المغيرة بن شعبة وبين عمرو بن العاص

استعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، فأتاه المغيرة بن شعبة، فقال: « استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة، وأباه عمرا على مصر، تكون أنت بين لحيي الأسد. » فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة، وبلغ عمرا ما قاله المغيرة لمعاوية، فدخل عمرو على معاوية، فقال: « أتستعمل المغيرة على خراج الكوفة، فيغتال المال، ويذهب به، فلا تستطيع أن تأخذه منه؟ استعمل على الخراج رجلا يهابك، ويتّقيك. » فعزل المغيرة عن الخراج، واستعمله على الصلاة. فلقى المغيرة عمرا، فبدأ عمرو وقال: « أنت المشير على أمير المؤمنين بما أشرت، في عبد الله؟ » قال: « نعم. » قال: « فهذه بتلك! »

المغيرة بن شعبة يختار الدعة

ولمّا ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، أتاها، وترك التشدّد، وإثارة الناس عن أهوائهم، وأحبّ السلامة، واختار الدعة، فكان يرى، فيقال له: فلان بن فلان يرى رأى الشيعة، وفلان يرى رأى الخوارج، فكان يقول: « قضى الله أن لا تزالوا مختلفين، وسيحكم بين عباده. » فأمنه الناس.

فكان عاقبة هذا الفعل منه أن لقيت الخوارج بعضها بعضا، ورأوا أنّ في جهاد الناس الفضل والأجر.

ففزعوا إلى رؤسائهم، وتجمّعوا، وتمّت آراؤهم، واجتمع أمرهم، وبايعوا المستورد بن علّفة، وكان زياد متحصّنا بفارس، قد عمر قلعة إصطخر. فكان معاوية يكاتبه، ويطالبه بالمال، ويستقدمه، فيأبى.

فأرق معاوية ذات ليلة، فلمّا أصبح، دعا بالمغيرة بن شعبة، فقال له: « كيف أنت بسرّ أستودعك؟ » فقال: « يا أمير المؤمنين، إن تستودعنى، تستودع ناصحا، شفيقا، ورعا، وثيقا. »

رأي لمعاوية وتدبير صحيح

قال: « ذكرت زيادا واعتصامه بأرض فارس، وامتناعه بالقلعة، فلم أنم ليلتي. »

فأراد المغيرة أن يطأطئ من زياد، فقال: « ما زياد هناك، يا أمير المؤمنين. » قال: « بئس الوطاء العجز، داهية العرب معه الأموال، متحصّن بقلاع فارس، يدبّر، ويربّض الخيل. ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو قد أعاد الحرب جذعة. » فقال المغيرة: « أتأذن لي، يا أمير المؤمنين، في إتيانه؟ » قال: « نعم، وتلطّف! » كان المغيرة يحفظ يدا لزياد عنده، فأتى المغيرة زيادا. فقال زياد لمّا رءاه: « أفلح الزائر. » فقال المغيرة: « إليك ينتهى الخبر، أنا المغيرة، إنّ معاوية استخفّه الوجل، حتى بعثني إليك، ولم يكن يعلم أحدا يمدّ يده إلى هذا الأمر، غير الحسن، وقد بايع معاوية، فخذ لنفسك قبل التوطين، فيستغنى معاوية عنك. » قال: « أشر عليّ، وارم الغرض الأقصى، ودع عنك الفضول، فإنّ المستشار مؤتمن. » فقال المغيرة: « في محض الرأي بشاعة، ولا خير في التمذيق، أرى أن يصل حبلك بحبله، وتشخص إليه. » قال: « أرى، ويقضى الله. » وأقام زياد في القلعة، وجعل يرتأى ويمكر.

ذكر حيلة لزياد على معاوية

فسنح لزياد من الرأي أن دعا بعض ثقاته، وبذل له، ومنّاه ووعده، وقال: « امض، حتى تأتى معاوية، فإنّه سيدعوك، ويسألك عني، فقل له: إنّك قد أمهلته، وأضربت عنه، مع ما قد احتجبه من الأموال، وارتكبه من الأمور، حتى قد شاع في الناس: أنّك إنما ترخى له الحبل، وتساهله، للنسب بينكما. فإذا قال: وما ذاك؟ فقل: يقول الناس: إنّه أخوك، وإنّك قد عرفت ذاك له. »

فذهب الرجل، حتى أتى معاوية، فجرى بينهما ما لقّنه زياد. فقال معاوية: « أو قد تحدّث الناس بذلك؟ » قال: « نعم. » فسكت معاوية، وخرج الرجل من عنده، وشاع المجلس، وقال الناس: « زياد بن أبي سفيان. » ثم كاتب زياد معاوية، وأجابه، واستقرّت المكاتبة بينهما، إلى أن ورد على معاوية، على أن يرفع إليه حسابا بما صار إليه من الأموال، ويصدقه في ما خرج منه إلى أمير المؤمنين، وما بقي عنده.

فخرج إليه زياد، فأخبره بما حمله إلى عليّ بن أبي طالب وما فرّقه في الأرزاق، والحمالات، وبقّى بقيّة، وقال: « قد أودعتها عند قوم. » فصدّقه معاوية، ومكث يردّده بذلك.

ثم كتب زياد كتبا إلى قوم: « قد علمتم ما لي عندكم من الودائع، وهي الأمانة الّتى يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، الآية، فاحتفظوا بما قبلكم. » وسمّى في الكتب بالذي أقرّ لمعاوية، ودسّ الكتب مع رسوله، وأمره أن يتعرّض لبعض من يبلغ معاوية، فتعرّض الرسول حتى أخذ، فأتى به معاوية.

فقال معاوية لزياد: « لئن لم تكن مكرت بي، إنّ هذه الكتب لمن حاجتي. » فقرأها، فإذا هي بمثل ما أقرّ به لمعاوية. فقال معاوية: « أخاف أن تكون مكرت بي، فصالحنى عليها. » فصالحه على شيء، ممّا ذكر أنّه عنده، فحمله.

ذكر حيلة لعبد الله بن خازم

كان عبد الله بن عامر، واليا على البصرة، من قبل معاوية، فأنفذ إلى خراسان قيس بن الهيثم، واستبطأه في بعض الأحوال، وكتب إليه، يستحثّه حمل المال.

وكان عبد الله بن خازم حاضرا، فقال لابن عامر: « إنّك قد وجّهت إلى خراسان رجلا ضعيفا، وإني أخاف: - إن لقي حربا - أن ينهزم بالناس، فتهلك خراسان، وتفتضح أخوالك. » قال ابن عامر: « فما الرأي؟ » قال: « تكتب لي عهدا - إن هو انصرف عن عدوّ - قمت مقامه. » فكتب له، وسار عبد الله بن خازم إلى خراسان فجاشت جماعة من طخارستان فشاور قيس بن الهيثم الناس، فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أطرافه، فانصرف. فلمّا سار مرحلة أو مرحلتين، أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقي العدوّ، فهزمهم. وبلغ الخبر المصرين، والشام، فغضبت القيسيّة وقالوا: « خدع قيسا وابن عامر ».

وأكثروا في ذلك على معاوية، حتى بعث إلى عبد الله بن خازم، فقدم به واعتذر ممّا قيل فيه.

فقال معاوية: « فإذا كان غدا، فقم في الناس، واعتذر! » فرجع ابن خازم إلى أصحابه، فقال: « قد أمرت بالخطبة، ولست صاحب كلام، فاجلسوا حول المنبر، فإذا تكلّمت، فصدّقونى. » فقام من الغد، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: « إنّما يتكلّف الخطبة، إمّا من لا يجد بدّا منها، وإمّا أحمق يهمر رأسه، لا يبالى ما خرج منه، ولست بواحد منهما، وقد علم من عرفني أنّى بصير بالفرص، وثّاب عليها، وقّاف عند المهالك، أنفذ بالسريّة، وأقسم بالسويّة. أنشدكم بالله، من كان يعرف ذلك مني، لمّا صدّقنى. » فقال أصحابه حول المنبر: « صدقت. » فقال: « يا أمير المؤمنين، [ إنّك ممّن ] نشدتك، قل ما تعلم! » فقال: « صدقت. »

ذكر تدبير نفذ للمغيرة بن شعبة على زياد

قدم زياد الكوفة من عند معاوية، ونزل في دار سلمى بن ربيعة الباهليّ ينتظر أمر معاوية، أن يجيبه إمرته على الكوفة. فبلغ المغيرة بن شعبة - وهو أمير على الكوفة - أنّ زيادا ينتظر الإمرة. فدعا قطن بن عبد الله الحارثيّ، فقال: « هل فيك من خير: تكفيني المؤونة حتى آتيك من عند أمير المؤمنين؟ » قال: « ما أنا بصاحب ذا. » فدعا عتيبة بن نهّاس، فعرض عليه ذلك، فقبل.

فخرج المغيرة، فلمّا قدم على معاوية، سأله أن يعزله، وأن يقطع له منازل بقرقيسا بين ظهري قيس. فلمّا سمع معاوية ذلك، خاف بائقته، وقال: « والله، لترجعنّ إلى عملك يا با عبد الله. »

فأبى عليه، فلم يزده ذلك إلّا تهمة له، فردّه إلى عمله، فطرق المغيرة الكوفة ليلا.

قال معيد بن خالد البجليّ: « فو الله إني لفوق القصر أحرسه، إذا قرع الباب، فأنكرناه، فلمّا خاف أن ندلّى عليه حجرا، تسمّى لنا. فنزلت إليه، وسلّمت، فتمثّل بقول القائل:

بمثلي فاقرعى يا أمّ عمرو ** إذا ما هاجني السفر النّفور

« اذهب إلى ابن سميّة، فرحّله، حتى لا يصبح إلّا من وراء الجيش. » فخرجت، فأتيناه، فأخرجناه، حتى طرحناه، قبل أن يصبح من وراء الجيش.

ذكر سياسة زياد العراق حتى صلح بعد الفساد

إنّه بلغ معاوية فساد أهل البصرة، وكثرة العيث، وضعف السلطان بها عن ضبط الناس، وكان والى البصرة عبد الله بن عامر، وكان فيه لين وكرم. فكان إذا أشير عليه بقطع السارق، عفا عنه، وإذا أشير بقتل من يستحقّ القتل، قال: « أنا أتألّف الناس، وأتحبّب إليهم، فكيف أنظر في وجه من قتلت أباه، أو أخاه، أو قطعته. » فكثر الفساد بالبصرة، فعزله معاوية، وكتب إليه يستزيره، وولّى حارث بن عبد الله الأزديّ، فتركه أربعة أشهر، ثم عزله بزياد.

وإنما أراد معاوية أن يولّى زيادا، فولّى الحارث كالفرس المجلّل، فقدم زياد البصرة، فخطب خطبته البتراء، ثم قال:

الخطبة البتراء

« أمّا بعد، فإنّ الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والعجز الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتى سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير، [ كأن لم تسمعوا بآى الله، ولم تقرأوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون [ أنّكم ] أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه [ من ترككم ] هذه المواخر المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهار المبصر، والعدد غير قليل.

« ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل، وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة وباعدتم [ الدين، تعتذرون ] بغير العذر، [ وتغطّون على المختلس ] كلّ امرئ منكم يذبّ عن سفيهه، صنع من لا يخاف عاقبة، ولا يرجو معادا، فلم يزل بهم ما يرون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرمة الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب. حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسوّيها بالأرض، هدما وإحراقا، فإني رأيت آخر هذا الأمر، لا يصلح إلّا بما يصلح أوّله: لين في غير ضعف وشدّة في غير جبريّة [ وعنف ].

« وإني أقسم بالله، لآخذنّ الوليّ بالوليّ، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد، فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. إنّ كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فمن تعلّق لي بكذبة، فقد حلّت له معصيتي، من بيّت منكم فأنا ضامن لما ذهب له. إيّاى ودلج الليل! فإني لا أوتى بمدلج إلّا سفكت دمه، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يأتى الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإيّاى ودعوى الجاهليّة! فإني لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه.

« لقد أحدثتم أحداثا، وقد أحدثنا لها عقوبات فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن حرّق على قوم حرّقناه، ومن نقب على قوم نقبت قلبه، ومن نبش قبرا دفنته حيّا. فكفّوا أيديكم وألسنتكم، أكفف يدي وأذاى. لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه.

« وقد كانت بيني وبين قوم أحن، فجعلت ذلك دبر أذنى، وتحت قدمي. فمن كان منكم محسنا، فليزد إحسانا، ومن كان مسيئا، فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السلّ من بغضي، لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا، حتى يبدى لي صحيفته. فإذا فعل، لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فربّ مبتئس بقدومنا سيسرّ، ومسرور بقدومنا سيبتئس.

« أيها الناس، إنّا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا. فلنا عليكم السمع والطاعة في ما أحببنا، ولكم علينا العدل في ما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم.

« واعلموا أنّى مهما قصّرت عنه، فإني لا أقصّر عن ثلاث:

لست محتجبا عن طالب حاجة منكم، ولو أتانى طارقا، ولا حابسا عطاء عن إبّانه ولا مجمّرا لكم بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمّتكم، فإنّهم ساستكم المؤدّبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا، يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم. ولا تدركوا حاجتكم، مع أنّه لو استجيب لكم، كان شرّا لكم. »

« أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ، وإذا رأيتمونى أنفذ فيكم أمرا، فأنفذوه على إذلاله، وأيم الله إنّ لي فيكم لصرعى كثيرا، فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاى. »

وأمهل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة، وعاد إليه وصول الخبر منها. فكان يؤخّر العشاء الآخرة حتى يكون آخر من يصلّى. ثم يمهل بقدر ما يرى أنّ الإنسان يبلغ أقصى البصرة من أدناها، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج، فلا يرى إنسانا إلّا قتله.

ذكر قتله البريء

فأخذ ذات ليلة أعرابيا، فأتى به زيادا، فقال: « هل سمعت النداء؟ » قال: « لا، والله، إنّما قدمت بحلوبة لي، وغشيني الليل، فاضطررتها إلى موضع، وأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير. » قال: « أظنّك صادقا والله، ولكن في قتلك صلاح الأمّة »! ثم أمر به فضربت عنقه.

ضبطه البصرة بشدة وتأكيده الملك لمعاوية

وكان زياد أوّل من سدّد أمر السلطان، وأكّد الملك لمعاوية، بعد أن كادت البصرة خاصّة تخرج عن حدّ الضبط، وتخرج بخروجها الملك كلّه. فتقدّم زياد في العقوبة، وجرّد السيف، وأخذ بالظنّة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس خوفا شديدا، حتى أمن الناس بعضهم بعضا، وحتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة، فلا يعرض له أحد، حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة لا تغلق عليها بابها. وساس الناس سياسة لم ير مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحدا قبله، وأدرّ العطاء.

وقيل لزياد: « إنّ السبل مخوفة. » فقال: « لا أعانى شيئا وراء المصر، حتى أغلب على المصر وأصلحه، فإن غلبني المصر، فغيره أشدّ غلبة. » فلمّا ضبط المصر، تكلّف ما وراء ذلك، فأحكمه.

وكان يقول: « لو ضاع حبل بيني وبين خراسان، علمت من أخذه. » وكتّب خمسمائة رجل من مشيخة أهل البصرة في صحابته، فرزقهم ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة، واستعان بعدّة من أصحاب رسول الله .

وزياد أوّل من سير بين يديه بالحربة، ومشى بين يديه بالعمد الحديد، واتّخذ الحرس رابطة خمسمائة، فكانوا لا يبرحون المسجد، وجعل خراسان أرباعا، فولّى كلّ ربع رجلا كافيا.

قطع أيدى الحاصبين في الكوفة

ولمّا مات المغيرة بن شعبة، كتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة، فكان أوّل من جمعت له البصرة والكوفة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، وكان زياد يقيم ستّة أشهر بالبصرة، وستّة أشهر بالكوفة. فلمّا دخل الكوفة صعد المنبر، وقال في خطبته: « إني أردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرط البصرة، ثم ذكرت أنكم أهل حقّ، وأنّ حقّكم طال ما دمغ الباطل، فأتيتكم في أهل بيتي. » فلمّا فرغ من خطبته، حصب على المنبر، فجلس، حتى أمسكوا. ثم دعا قوما من خاصّته، فأمرهم أن يأخذوا أبواب المسجد، ثم قال: « ليأخذ كلّ امرئ منكم جليسه، ولا يقولنّ: لا أدري من جليسي. » ثم أمر بكرسيّ، فوضع له بباب المسجد، فدعا أربعة أربعة، يحلفون باللَّه: « ما منّا من حصبك. » فمن حلف خلّاه، ومن لم يحلف، حبسه وعزله، حتى صار إلى ثمانين، فقطع أيديهم على المكان.

قال الشعبي: فوالله ما تعلّقنا عليه بكذبة، وما وعدنا خيرا أو شرّا إلّا أنفذه.

ولمّا قدم الكوفة، أتاه عمارة بن عقبة بن أبي معيط، فقال: « إنّ عمرو بن الحمق يجمع من شيعة أبي تراب. » فقام إليه عمرو بن الحارث فقال: « ما يدعوك إلى رفع ما لا تتيقّنه، ولا تدرى ما عاقبته. » فقال زياد: « كلاكما لم يصب: أنت حيث تكلّمنى في هذا علانية، وعمرو حين يردّك عن كلامك. قوما إلى عمرو بن الحمق، فقولا له: ما هذه الزرافات الّتى تجتمع إليك؟ من أرادك، وأردت كلامه، ففي المسجد. »

استخلاف زياد سمرة على الكوفة وتشدده في أمر الحرورية

ثم استخلف زياد على الكوفة سمرة بن الجندب، وهو من أصحاب رسول الله وخرج زياد إلى البصرة، وعاد إلى الكوفة، وقد قتل سمرة ثمانية آلاف من الناس، فقال له زياد: « هل تخاف أن تكون قتلت أحدا بريئا؟ » قال: « لو قتلت إليهم مثلهم، ما خشيت ذلك. »! وكان زياد قد تشدّد في أمر الحروريّة، وأوصى سمرة بذلك، وكان سمرة يخلفه على البصرة، إذا خرج إلى الكوفة، وعلى الكوفة، إذا خرج إلى البصرة، فقتل سمرة منهم خلقا كثيرا.

ذكر حيلة للمهلب بخراسان

كان زياد ولّى الحكم بن عمرو ناحية من خراسان، وكتب إليه: « إنّ أهل ختّل سلاحهم اللّبود، وآنيتهم الذهب. »

فغزاهم، حتى إذا توسّطهم، أخذوا عليه بالشعاب والطرق، وأحدقوا به فعيّ بالأمر، فتولّى المهلّب الحرب، وولى المغيرة بن أبي صفرة أمر العسكر، ولم يزل المهلّب يحتال، حتى أخذ عظيما من عظماء الأعاجم فقال له: « اختر بين أن أقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق. »

فقال له: « أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، ومر بالأثقال فلتوجّه نحوه، حتى إذا ظنّ القوم أنّكم قد دخلتم الطريق لتسلكوه، فإنّهم سيجتمعون لكم، ويعرون ما سواه من الطرق، إلّا من لا يبالى به، فبادروهم إلى غيره، فإنّهم لا يدركونكم حتى تخرجوا منه. » ففعلوا ذلك، ونجوا، وغنموا غنيمة عظيمة، والقوم كانوا أتراكا.

أسماء كتاب معاوية ومطالبته الهدايا في النوروز والمهرجان

كتب له على الرسائل عبيد الله بن أوس الغسّانى، ثم تولّى له ديوان ما بالعراق من صوافي كسرى وآل كسرى، وكتب له على الخراج سرجون بن منصور الروميّ.

وكان لمعاوية كاتب يقال له: عبد الرحمن بن الدرّاج، كان من مواليه، فقلّده خراج العراق لمّا قلّد المغيرة الحرب بها، وطالب أهل السواد بأن يهدوا إليه في النوروز، والمهرجان. ففعلوا ذلك، فبلغ عشرة آلاف ألف درهم في سنة.

ثم دعا بالدهاقين، فسألهم عمّا كان من صوافي كسرى، فعرّف أنّ الديوان بحلوان، فبعث، فأحضر، ثم استخرج ما كان فيه، فكان أوّل ذلك كلواذى للأساورة، والكتّاب، والحاشية.

وكان كسرى لا يقطع الكتّاب أكثر من ثلاثين جريبا. فكتب ابن الدرّاج إلى معاوية بذلك، فكتب إليه معاوية: أن استصفها، واستخرج ما فيها. ففعل، فبلغت صوافي معاوية على يده خمسين ألف ألف.

وكان عمرو بن سعيد بن العاص يكتب له على ديوان الجند.

معاوية واتخاذ ديوان الخاتم

وكان معاوية أوّل من اتّخذ ديوان الخاتم. وكان سبب ذلك أنّه كتب لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم إلى زياد، وهو عامله على العراق، ففضّ عمرو الكتاب، وجعلها مائتي ألف درهم.

فلما رفع زياد حسابه قال له معاوية: « ما كتبت له إلّا مائة ألف. » وقال معاوية: « المائة الألف ينبغي أن تؤخذ منه. » فحبسه مروان، فصار عبد الله بن الزبير إلى مروان، وهو على المدينة، فأخبره بقصّته، فقال مروان: « فإنّ الخبر كيت وكيت. » فقال عبد الله: « أرأيت - إن أعطيناكها - ألك عليه سبيل؟ » قال: « لا. » قال: « فابعث، فخذها. » ففعل. واتّخذ معاوية ديوان الخاتم، وقلّده عبد الله بن مجمّر، وكان قاضيا.

من سيرة زياد

وكان زياد يجلس في كلّ يوم، إلّا يوما في الجمعة، فيبدأ برسل عمّاله، فينظر في ما قدموا له، ويسألهم عن بلادهم، ويجيبهم عن كتبهم، ثم ينظر في نفقاته، وفي أعطيات رجاله، ثم في ما دخل من البياعات، وفي الأسعار، ويسأل عن الأخبار، وينظر في ما يحتاج إليه من حفر نهر، وإصلاح قنطرة، أو تسهيل عقبة، أو نقل طريق إلى غيره، ثم يأخذ في كتب العمّال، فيمليها بنفسه، فكان معاوية يفعل مثل ذلك سواء، ولا يخالفه حتى كبر. وكان الضحّاك بن قيس يملى وهو يسمع.

وخلا زياد يوما على كاتبه أسرارا له، وبحضرته عبيد الله ابنه. فنعس زياد، فقام لينام، وقال لعبيد الله: « تعهّد هذا، لا يغيّر شيئا ممّا رسمته له. » فعرض لعبيد الله حاجة إلى البول، واشتدّ به ذلك، وكره أن ينبّه أباه، وكره أن يقوم عن الكاتب ويخلّيه، فشدّ إبهاميه بخيط، وختمهما، وقام لحاجته، فاستيقظ زياد قبل عوده. فلمّا نظر إلى الكاتب سأله عن خبره، فأخبره، فأحمد ذلك من فعل عبيد الله.

وأهدى زياد إلى معاوية هدايا كثيرة، وكان فيها عقد جوهر نفيس، فأعجب به معاوية. فلما رأى ذلك زياد، قال له: « يا أمير المؤمنين، دوّخت لك العراق، وجبيت لك برّها وبحرها، وغثّها وسمينها، وحملت لك لبّها وقشرها. » فقال له يزيد: « أين فعلت ذلك؟ لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عزّ قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر، وبعد، فما أمكنك شيء ممّا اعتددت به، إلّا بنا. » فقال معاوية: « حسبك! وريت بك زنادي. »

كل شيء هالك

وقلّد معاوية عبد الرحمن بن زياد خراسان بعد موت أبيه، وكان سخيّا، فلم يزل عليها إلى أن ولى يزيد، وقتل الحسين بن عليّ - عليهما السلام - واستخلف على عمله قيس بن الهيثم، وأقبل إلى يزيد، فأنكر قدومه، ثم رضى عنه، وسأله عمّا حصل له، فاعترف له بعشرين ألف ألف درهم، فسوّغه إيّاها، وكان معه من العروض أكثر منها.

فقال يوما لكاتبه إصطفانوس: « ويحك! كيف يجيئني النوم وهذا المال عندي؟ » فقال له: « وكم مبلغه؟ »، فقال: « قدّرت منه لمائة سنة، في كلّ يوم ألف درهم، لا أحتاج منه إلى شراء رقيق، ولا كراع، ولا عرض من الأعراض. »

فقال له إصطفانوس: « أنام الله عينك أيّها الأمير، لا تعجب من نومك وعندك هذا المال، ولكن اعجب من نومك إن ذهب، ثم نمت. » قال: والله، لقد ذهب ذلك المال كلّه، أودع بعضه فجحد، وأنفق بعضه، وسرق أسبابه بعضه، فآل أمره إلى أن باع فضّة كانت حلية مصحفه، وكان يركب حمارا صغيرا تنال رجله الأرض عليه.

فلقيه مالك بن زياد، فقال له: « ما فعل المال الذي كنت تقول فيه ما تقول؟ » فقال: « كلّ شيء هالك إلّا وجهه، يا با يحيى! »

تحريض معاوية بين سعيد بن العاص ومروان

وكتب معاوية إلى سعيد بن العاص: أن: « اقبض أموال مروان، واهدم داره. » فأمسك سعيد عن ذلك. ثم كاتبه في ذلك ثانيا، فراجعه سعيد، فقال: « يا أمير المؤمنين، قرابته قريبة. » فكتب إليه ثالثا، بقبض أمواله، وهدم داره، فلم يفعل. فعزل سعيدا، وولّى مروان، وكتب إليه أن: « اهدم دار سعيد. » فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها، فقال له سعيد: « يا با عبد الملك، أتهدم دارى؟ » قال: « نعم! كتب إليّ أمير المؤمنين، ولو كتب إليك، لفعلت. » قال: « ما كنت لأفعل. » قال: « بلى والله، لو كتب إليك لفعلت. » قال: « كلّا، يا با عبد الملك. » وقال لغلامه: « انطلق، وجئني بكتب معاوية. » فجاء بها، فقرأها عليه في ما كتب في هدم داره.

فقال مروان: « يا با عثمان! وردت عليك هذه الكتب في هدم دارى، فلم تفعل، ولم تعلمني! » قال: « ما كنت لأهدم دارك، ولا أمنّ عليك، وإنّما أراد معاوية أن يحرّض بيننا. » فقال مروان: « بأبي أنت، والله أكثر منّا ريشا وعقبا. » ورجع ولم يهدم دار سعيد.

بين سعيد ومعاوية

وقدم سعيد على معاوية، فقال: « يا با عثمان، كيف تركت أبا عبد الملك؟ » قال: « تركته ضابطا لأعمالك، منفّذا لأمرك. » قال: « إنّه لصاحب الخبزة كفى نضجها، فأكلها. » قال: « كلّا، والله يا أمير المؤمنين، إنّه مع قوم لا يجمل بهم السوط، ولا يحلّ لهم السيف، يتهادون كوقع النبل، سهم لك، وسهم عليك. » قال: « ما الذي باعد بينك وبينه؟ » قال: « خافني على شرفه، وخفته على شرفى. » قال: « فما ذا له عندك؟ » قال: « أسرّه غائبا، وأسوؤه شاهدا. » قال: « تركتني يا با عثمان، في هذه الهنات؟ » قال: « إنّك تحمّلت الثقل، وكفيت الحرم، وكنت قريبا، فلو دعوت لأجبت، ولو وهيت لرقعت. »

كلام واقع ارتفع به صاحبه

ومن الكلام الواقع الذي ارتفع به صاحبه، كلام عبيد الله بن زياد لمعاوية. وذلك أنّه وفد على معاوية، بعد موت أبيه، فقال له معاوية: « من استخلف أخي على عمله؟ » قال عبيد الله: « استخلف خالد بن أسيد على الكوفة، وسمرة بن الجندب على البصرة. » فقال له معاوية: « لو استعملك أبوك، لاستعملتك. » فقال عبيد الله: « أنشدك الله، أن يقولها لي أحد بعدك لو ولّاك أبوك، أو عمّك، ولّيتك. » وكان معاوية لا يولّى أحدا حتى يمتحنه بولاية الطائف، فإن أحسن الولاية، ولّاه مكّة، فإن وفى، ولّاه معها المدينة، ثم يرتّبه كذلك، فلما قال عبيد الله بن زياد ما قال، استرجحه، وعهد إليه، ووصّاه، وولّاه مكان أبيه. فغزا خراسان، وفتح رامين، ونسف، وبيكند، وهي من بخارى. فقدم بألفين من سبى بخارى، وكلّهم جيّد الرمى بالنشّاب.

وكان معاوية ولّى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان، فاحتال له أهل البصرة، حتى عزله عنهم.

ذكر حيلتهم هذه

خطب عبد الله بن عمرو بن غيلان، على منبر البصرة، فحصبه رجل من بنى ضبّة، فأمر به، فقطعت يده، فأتته بنو ضبّة، فقالوا:

« إنّ صاحبنا جنى ما جنى، وقد بلغ الأمير في عقوبته، ولا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين أنه قطع على فاحشة، ونسألك أن تكتب إلى أمير المؤمنين أنه قطع على تبرئة، وأمر لم يضح. »

فكتب لهم إلى معاوية بما سألوه، فأمسكوا الكتاب عندهم، حتى بلغ رأس السنة. ثم وافوه، فقالوا: « يا أمير المؤمنين، إنّه قطع صاحبنا، وهذا كتابه بإقراره على غير ذنب. » فقرأ الكتاب، وقال: « أمّا القود من عمّالى، فلا سبيل إليه، ولكن، إن شئتم، ودينا صاحبكم. » قالوا:

« فده. » فوداه من بيت المال، وعزل عبد الله، وولّى عبيد الله بن زياد.

ذكر بعض سيرة معاوية وآرائه ودهائه

ما قاله عمر فيه

كان عمر بن الخطّاب كثيرا ما يقول: « تذكرون كسرى وقيصر ودهيهما وسياستهما وعندكم معاوية. »

بين معاوية وعمرو بن العاص

فممّا يحضرنا من ذلك: أنّ عمرو بن العاص، كان وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر، فقال لهم عمرو: « انظروا، إذا دخلتم على ابن هند، فلا تسلّموا عليه بالخلافة، فإنّه أعظم لكم في عينه، وصغّروه ما استطعتم. » فلمّا قدموا عليه، قال معاوية لحاجبه:

« كأنّى بابن النابغة، قد صغّر شأنى عند القوم، فإذا دخل الرجل، أو الوفد، فتعتعوهم أشدّ ما يكون، فلا يبلغنّى رجل منهم، إلّا وقد أهمّته نفسه. » فكان أوّل من دخل عليه رجل من مصر، يقال له: ابن خيّاط، فدخل وقد تعتع، فقال:

« السلام عليك، يا رسول الله! » فتتابع القوم على ذلك، فلمّا خرجوا من عنده، قال لهم عمرو:

« لعنكم الله، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة، فسلّمتم عليه بالنبوّة! » وكان معاوية قد لبس ذلك اليوم أبهى لباسه، واكتحل، وكان من أجمل الناس، إذا فعل ذلك.

بينه وبين عمر بن الخطاب

ومن ذلك أنّ عمر بن الخطّاب، كان خرج إلى الشام، فرأى معاوية في موكب يتلقّاه، ثم راح إليه في موكب.

فقال له عمر: « يا معاوية! تغدو في موكب، وتروح في مثله. ويبلغني أنّك تتصبّح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك. » فقال: « يا أمير المؤمنين، العدوّ بها قريب، ولهم عيون وجواسيس فأردت أن يروا للإسلام عزّا. » فقال عمر: « إنّ هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب. » فقال معاوية: « يا أمير المؤمنين مرني بما شئت أصر إليه. » قال: « ويحك! ما ناظرتك في أمر أعتب عليك فيه، إلّا تركتني لا أدري: آمرك، أم أنهاك! »

ما كان بينه وبين المغيرة

ومن ذلك أنّ المغيرة كتب إلى معاوية: « أمّا بعد، فإني كبرت، ودقّ عظمي، وشنفت لي قريش، فإن رأيت أن تعزلني، فاعزلني. »

فكتب إليه معاوية:

« جاءني كتابك تذكر أنّه كبرت سنّك، فلعمري، ما أكل عمرك غيرك، وتذكر أنّ قريشا شنفت لك، ولعمري، ما أصبت خيرا إلّا منهم، وتسألنى أن أعزلك، فقد فعلت، فإن تك صادقا فقد شفعتك، وإن تك مخادعا، فقد خادعتك. »

فلما ورد المغيرة باب معاوية، ذهب كاتبه إلى سعيد بن العاص، وأشار عليه أن يخطب ولاية الكوفة، ودلّه على وجوه من الرغائب. فلما بلغ ذلك المغيرة، شقّ عليه، ودخل على يزيد بن معاوية، وعرّض له بالبيعة، فدخل يزيد على أبيه.

فأعلمه ذلك، فدعا معاوية المغيرة، ورفق به، وردّه إلى الكوفة، وسأله أن يأخذ بيعة يزيد على الناس. وقال عمرو بن العاص: « ما رأيت معاوية متّكئا قطّ، واضعا إحدى رجليه على الأخرى، كاسرا عينه، يقول لرجل: تكلّم، إلّا رحمته. »

بين معاوية وهانئ

حكى الشعبيّ: أنّ وفد الكوفة قدموا على معاوية لمّا أراد البيعة ليزيد، وفيهم هانئ بن عروة المرادي. فبينا أنا جالس إذ قال هانئ بن عروة: « العجب من معاوية، يريد أن يقسرنا على بيعة ابنه يزيد، وحاله حاله، وما ذاك بكائن. »

وغلام من قريش قاعد في حلقته، فقام، فدخل على معاوية، فأخبره بقول هانئ، فقال له: « أنت سمعت هانئا يقوله؟ » قال: « نعم. » قال: « فاخرج من هذا الباب وائت حلقته من باب من أبواب المسجد، غير بابك الذي خرجت منه، فقل له إذا خفّ من عنده: « أيّها الشيخ! قد سمعت مقالتك، ولست في زمن أبي بكر ولا عمر، ولا أحبّ لك أن تتكلّم بهذا الكلام، فإنّهم بنو أميّة، وجرأتهم جرأتهم، وإقدامهم ما قد علمت. » ثم قال له معاوية: «.. إذا فرغت من كلامك، فقل له: إنه لم يدعني إلى هذا، إلّا النصيحة لك. ثم احفظ عليه ما يقول. » فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ، فلما خفّ من عنده، دنا منه، فكلّمه بهذا الكلام.

فقال له: « يا بن أخي، والله ما بلغت نصيحتك لي كلّ هذا، وإنّ هذا الكلام لكلام معاوية، وأعرفه، وأشهد به. » فقال الفتى: « ما أنا ومعاوية! والله ما يعرفني، ولا يدرى من أنا. » قال: « يا بن أخي، فلا عليك، ولكن إذا لقيته فقل له: يقول لك هانئ: لا والله، لا إلى ما أردت من سبيل، انهض يا بن أخي! » فذهب الفتى، فأعلم معاوية ما قال، فقال: « بالله نستعين عليه. » ثم أذن للوفد، وقال لهم: « ارفعوا حوائجكم. » ففعلوا، فلما عرض كتاب هانئ على معاوية، قال: « يا هانئ ما صنعت شيئا، فزد. » فزاد هانئ ومعاوية يقول: « ما صنعت شيئا، هات حوائجك! » حتى لم يدع حاجة لمن يهتمّ به إلّا رفعها وقضاها. ثم قال: « يا هانئ لم تصنع شيئا. » فقال: « يا أمير المؤمنين، قد بقيت حاجة. » قال « وما هي؟ » قال: « بيعة يزيد، أتولّاها له بالعراق. » قال: « هي إليك. » فقدم هانئ، فقام بأمر يزيد، وتولّى المغيرة بن شعبة البيعة.

من تشبه بمعاوية في ذلك

وتشبّه بمعاوية عبد الملك، وذلك أنه لمّا أراد البيعة للوليد، وجّه الوليد إلى القين، وعاملة، فأصلح بينهم، وكانت بينهما دماء، فاحتملها. فكانت القين وعاملة أوّل من دعا إلى الوليد.

ثم أراد الوليد ذلك عبد العزيز ابنه، فوجّهه إلى قيس بن غسّان، وكانت بينهما دماء، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، فكانت قيس وغسّان أوّل من دعا إلى عبد العزيز.

ثم صنع ذلك سليمان لمّا وقع بين قيس وحمير بدمشق من الدماء ما وقع.

وجّه ابنه أيّوب، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، ومات أيّوب قبل أن تظهر له بيعة.

ثم صنع ذلك يزيد بن عبد الملك. كتب إليه ابن هبيرة من الجزيرة، يشير عليه:

أن يوجّه الوليد بن يزيد، ليصلح ما بين قيس وتغلب. فوجّهه، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، فكانوا أوّل من تكلّم في أمر الوليد، وذلك في حياة أبيه، حتى بايع بعد هشام له.

كلام لمعاوية

وقال معاوية:

« إني لأرفع نفسي، أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحساني. »

أيام يزيد بن معاوية وما جرى فيها من الأحداث التى يليق ذكرها بهذا الكتاب

وصايا معاوية ليزيد

كان معاوية وطّأ لابنه يزيد الأمور، وأخذ على الوفود له البيعة، فلما مرض المرضة التي توفّى فيها، دعا به وقال:

« إني لا أتخوّف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبّ لك، إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.

« فأمّا عبد الله بن عمر، فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره، بايعك..

« وأما حسين بن عليّ، فإنّ أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك، فظفرت عليه، فاصفح عنه، فإنّ له رحما ماسّة، وحقّا عظيما..

« وأمّا ابن أبي بكر، فرجل ليست له همّة إلّا في النساء، واللهو.

« وأمّا الذي يجثم عليك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك، فقدرت عليه، فقطّعه آرابا. »

فلما مات معاوية امتنع هؤلاء من البيعة، وخرج عبد الله بن الزبير والحسين إلى مكّة لمّا أخذهما عامل يزيد بالبيعة، وكانا يومئذ بالمدينة. وأما عبد الله بن عمر، فلم يتشدّد عليه، وكذلك عبد الرحمن بن أبي بكر.

فلما قدم عبد الله بن الزبير والحسين مكّة، اجتمع الناس على الحسين، وابن الزبير قد لزم جانب الكعبة، فهو قائم يصلّى عندها عامة نهاره ويطوف، ثم يأتى الحسين في من يأتى، ولا يزال يشير عليه بالرأي، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يطيعونه، ولا يبايعونه أبدا، ما دام الحسين بالبلد، وأنّ الحسين أعظم في نفوسهم، وأعينهم منه، وأطوع في الناس منه.

وبلغ أهل العراق امتناع الحسين من البيعة ليزيد، وأنه لحق بمكّة، فأرجفوا بيزيد.

ذكر رأي أشير به على الحسين بن علي عليهما السلام

كان عبد الله بن مطيع لقي الحسين، وهو يريد مكّة، فقال: « جعلني الله فداءك، أين تريد؟ » قال: « أما الآن، فإني أريد مكّة، وأما بعد، فإنى أستخير الله عز وجل. » قال: « خار الله لك، وجعلنا فداءك، فإذا أتيت مكّة، فإيّاك أن تقرب الكوفة، فإنّها بلدة مشؤومة قتل بها أبوك، وخذل فيها أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتى على نفسه. الزم الحرم، فإنك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا، ويتداعى الناس إليك من كلّ جانب. »

ذكر رأي آخر أشير به عليه

فأمّا محمد بن الحنفيّة، فإنه أتاه، فقال: « يا أخي، أنت أعزّ خلق الله عليّ، ولست أدّخرك نصيحتي، تنحّ عن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الشام، فادعهم إلى نفسك فإن بايعوك، حمدت الله عليه، وإن اجتمع على غيرك، لم ينقص الله بذلك دينك، ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك. إني أخاف أن تأتى مصرا من الأمصار، فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، والأخرى عليك، فيقتتلوا، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خير هذه الأمّة نفسا، وأبا، وأمّا، أضيعها دما، وأذلّها أهلا. » فقال له الحسين: « فأين أذهب يا أخي؟ » قال: « انزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت لك، لحقت بالرمال، وشعف الجبال، وتنقّلت من بلد إلى بلد حتى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأمور استقبالا، وتستدبرها استدبارا. » فقال: « يا أخي، قد نصحت وأشفقت. »

ما كتبه إليه أهل الكوفة

ثم إنّ أهل الكوفة، من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب اجتمعوا، فكاتبوا الحسين بن عليّ: « إنّا قد اعتزلنا الناس، فلسنا نصلّى بصلاتهم، ولا إمام لنا، فلو أقبلت إلينا رجونا أن يجمعنا الله لك على الإيمان. » ثم اجتمع رؤساء الشيعة مثل سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة وأشباههم، وكتبوا إليه:

[ « بسم الله الرحمن الرحيم» ] « لحسين بن عليّ من شيعته المؤمنين. أما بعد، فحيّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم في غيرك، فالعجل، ثم العجل، والسلام. »

ثم اجتمعوا ثالثة، فكتبوا إليه:

« من شبث بن ربعيّ، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رويم، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن عمير. أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، [ وطمّت الجمام، ] فإذا شئت فاقدم على جنود مجنّدة لك، والسلام. »

فاجتمعت الرسل كلّهم عند الحسين، وقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثم كتب أجوبة كتبهم، وأنفذ مسلم بن عقيل بن أبي طالب إليهم، وقال له:

« اذهب، فاعرف أحوال الناس، وانظر ما كتبوا به، فإن كان صحيحا قد اجتمع عليه رؤساؤهم، وتابعهم من يوثق به، خرجنا إليهم. » فسار مسلم إلى الكوفة، وبها النعمان بن بشير الأنصاري أميرا من قبل يزيد. فلما تحدّث الناس بمقدمه دبّوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفا. فقام عبد الله بن مسلم الحضرمي إلى النعمان بن بشير، فقال له: « إنك ضعيف، أو متضعّف، قد فسد البلاد، وليس يصلح ما ترى إلّا الغشم. » فقال النعمان: « لأن أكون ضعيفا وأنا في طاعة الله، أحبّ إليّ من أن أكون قويّا، وأنا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترا ستره الله. » فكتب بقول النعمان إلى يزيد وقيل له: « إن كانت لك حاجة في الكوفة، فابعث إليها رجلا قويّا ينفّذ أمرك، ويعمل مثل عملك، فإنّ النعمان بن بشير إمّا ضعيف، أو متضعّف. » فدعا يزيد كاتبه سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر.

ذكر رأي أشار به الكاتب على يزيد

قال له: « أكنت قابلا من معاوية لو كان حيّا. » قال: « نعم. » قال: « فاقبل مني، فإنّه ليس للكوفة إلّا عبيد الله بن زياد، فولّه. » وكان يزيد ساخطا عليه، وهمّ بعزله عن البصرة. فكتب إليه برضاه عنه، وأنه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل، فيقتله.

فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة، حتى قدم الكوفة متلثّما، فلا يمرّ على مجلس من مجالسهم فيسلّم، إلّا قالوا: « وعليك السلام يا بن بنت رسول الله. » وهم يظنّون أنه الحسين بن عليّ، حتى نزل القصر، واجما كئيبا لما رأى.

ثم جمع الناس فخطبهم، وأعلمهم نيّة يزيد في الإحسان إلى سامعهم ومطيعهم، والشدّة على مريبهم وعاصيهم، ووعد، وأوعد، وختم الخطبة بأن قال: « ليبق امرؤ على نفسه، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد » ثم أخذ العرفاء أخذا شديدا، ودعا الناس، فقال: « اكتبوا لي العرفاء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، وأهل الريب، الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا، فهو بريء، ومن لم يكتب لنا أحدا، فليضمن لنا ما في عرافته: أن لا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغى علينا فيهم باغ، فمن لم يفعل ذلك، فبرئت منه الذمّة وحلال علينا دمه وماله. وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا، صلب على باب داره، وألقيت تلك العرافة من العطاء. »

ذكر تلافي عبيد الله ملك يزيد بعد أن أشرف على الذهاب وما كان من حيله ومكايده

ثم إنّ عبيد الله دعا مولى له، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وقال له: « اذهب، حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع أهل الكوفة، فأعلمه: أنّك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه، ليتقوّى به. »

فلم يزل يتلطّف، ويرفق، ويسترشد، حتى دلّ على شيخ من أهل الكوفة يأخذ البيعة، فلقيه، فأخبره.

فقال الشيخ: « لقد سرّنى لقاؤك، وساءني. أما ما سرّنى من ذاك، فما هداك الله له، وأمّا ما ساءني، فإنّ أمرنا لم يستحكم بعد. » قال: فأدخله عليه، وقبض منه المال، وبايعه، ورجع الرجل إلى عبيد الله، فأخبره.

مسلم ينتقل إلى بيت هانئ

وانتقل مسلم، حين وافى عبيد الله، إلى منزل هانئ بن عروة المراديّ، وكتب إلى الحسين يخبره ببيعة بضعة عشر ألفا من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم عليه.

وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة:

« إني أعلم أنه قد سار معي، وأظهر الطاعة لي من هو عدوّ للحسين، حين ظنّ أنّ الحسين قد دخل البلد، وغلب عليه، وو الله، ما عرفت منكم أحدا. »

وقدم شريك بن الأعور من البصرة، وكان من شيعة عليّ، .

ذكر مكيدة بليغة لشريك ما تمت له

فقال لهانىء: « مر مسلما يكون عندي، فإنّ عبيد الله يعودني. » وقال شريك لمسلم: « أرأيتك، إن أمكنتك من عبيد الله، تضربه بالسيف؟ » قال: « نعم والله. » وأظهر شريك زيادة على ما به من الشكاة، وهو نازل في دار هانئ. وجاء عبيد الله يعود شريكا في منزل هانئ. فقال شريك لمسلم: « إذا تمكّن عبيد الله، فإني مطاوله الحديث، فاخرج إليه بسيفك، واقتله، فليس بينك وبين القصر من تحول دونه، وإن شفاني الله كفيتك البصرة. » فقال هانئ: « إني لأكره قتل رجل في منزلي. » وشجّعه شريك، وقال: « هي فرصة لك، وإيّاك أن تضيّعها، فانتهزها فيه، فإنّه عدوّ الله، وعلامتك أن أقول: اسقونى ماء. » وجاء عبيد الله بن زياد، فدخل، وجلس، وسأل شريكا عن وجعه، وقال: « ما الذي تجد، ومتى اشتكيت؟ » فلما طال سؤاله إيّاه، ورأى أنّ أحدا لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول: « اسقونى ويحكم [ ماء ]، ما تنتظرون بنفسي لن تحيوها، اسقونيه وإن كانت نفسي فيه. » فقال ذلك مرّتين، أو ثلاثا. فقال عبيد الله: « ما شأنه؟ أو ترونه يهجر؟ » فقال هانئ: « نعم، أصلحك الله، هذا ديدنه منذ الصبح. » ففطن مولى لعبيد الله قائم على رأسه، فغمزه، فقام عبيد الله. فقال شريك: « انتظر، أصلحك الله، فإنى أريد أن أوصّى إليك. » فقال: « أعود. » فلما خرج، قال شريك لمسلم: « ما منعك من قتله؟ » قال: « خصلتان: أما إحداهما، فكراهة هانئ أن يقتل في داره رجل. والأخرى، فحديث سمعته من عليّ عن النبي أنّ الإيمان قيّد الفتك، فلا يفتك مؤمن. » فلبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثا ومات.

هانئ يطلب إلى القصر

ودعا عبيد الله هانئ بن عروة، فأبى أن يجيبه إلّا بأمان، فقال: « ما له وللأمان، هل أحدث حدثا؟ » فجاءه بنو عمّه، ورؤساء العشائر، فقالوا: « لا تجعل على نفسك سبيلا، وأنت بريء. » وأتى به، فقال عبيد الله: « إيه يا هانئ، ما هذه الأمور التي تربّص في دورك لأمير المؤمنين، وعامّة المسلمين؟ » قال: « وما ذاك، يا أمير المؤمنين! » قال: « جئت بمسلم بن عقيل، وأدخلته دارك وجمعت السلاح، والرجال في دور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى. » فقال: « ما فعلت، وما مسلم عندي. » قال: « بلى، قد فعلت » قال: « لا، ما فعلت. » قال: « بلى. » فلما كثر ذلك، وأبي هانئ إلّا مجاحدته، دعا عبيد الله ذلك الدسيس الذي دسّه، وحمل على يده المال، وكان قد أنس بهم، وداخلهم، وجعل ينقل كلّ ما يكون منهم، إليه. فلما رءاه هانئ، قال له عبيد الله: « هل تعرف هذا؟ » فعلم هانئ أنه كان عينا عليهم، فسقط في خلده ساعة، ثم إنّ نفسه راجعته، فقال له: « اسمع مني، فإني، والله الذي لا إله إلّا هو أصدقك: ما دعوته، ولكن نزل عليّ، فاستحييت من ردّه، ولزمني ذمامه، فأدخلته، وأضفته، وآويته. فإن شئت، أعطيتك موثقا، وما تطمئن إليه، لا أبغيك سوءا ولا غائلة، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك، وأنطلق إليه، فآمره أن يخرج من دارى إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره. » فقال: « والله، لا تفارقني أبدا، حتى تأتينى به. » قال: « والله، لا أجيئك به أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله؟ » قال: « والله، لتأتينّى به. » وقام الناس إليه، يناشدونه في نفسه، ويقولون: « إنّه سلطان، وليس عليك في دفعه إليه عار، ولا نقيصة. » فقال: « بلى والله، عليّ في ذلك، الخزي والعار: أدفع جارى وضيفي إلى قاتله، وأنا صحيح، أسمع، وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! » فقال عبيد الله بن زياد: « أدنوه مني! » فأدنى منه، وله ضفيرتان قد رجّلهما. فأمر بضفيرتيه، فأمسك بهما، واستعرض وجهه بقضيب في يده، فلم يزل يضرب أنفه، وجبهته، وجبينه، حتى نثر لحم خدّيه، وهشم أنفه. وتلوّى هانئ، وضرب بيده إلى قائم سيف شرطيّ ممّن حضر، فمانعه الرجل، ومنع. فقال عبيد الله: « أحروريّ سائر اليوم؟ حلّ لنا قتلك. » فقام أسماء بن خارجة، فقال: « أرسل غدر نحن منذ اليوم؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل، حتى إذا جئناك به، فعلت به ما ترى، وزعمت أنّك تقتله. » فقال عبيد الله: « إنّك هاهنا. » وأمر، فلهز، وتعتع ساعة، ثم ترك، فجلس، وسكت الناس. وأمر بهانىء، فجعل في بيت، ووكّل به من يحرسه. وبلغ ذلك مذحجا، فأقبلت إلى القصر، فقيل لعبيد الله: « هذه مذحج، قد اجتمعت بالباب. » فقال لشريح القاضي: « ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثم اخرج، فأعلمهم أنّه حيّ. » فخرج إليهم شريح، فأعلمهم أنه رءاه وهو حيّ سالم، وإنّما عاتبه كما يعاتب الأمير رعيّته. فانصرفوا.

مسلم يقبل نحو القصر بالمبايعين

وبعث مسلم بن عقيل من يأتيه بالخبر. فأتوه بالخبر على وجهه، وأمر أن ينادى بشعاره: « يا منصور أمت. » وكان قد بايعه ثمانية عشر ألف رجل. فاجتمعوا إليه، فعقد لجماعة على الأرباع، وقدّم أمامه صاحب ربع كندة، وأقبل نحو القصر، فتحرّز عبيد الله، وغلّق الأبواب. وسار مسلم حتى أحاط بالقصر، وتداعى الناس، واجتمعوا، حتى امتلأ المسجد والسوق، وما زالوا يتوثّبون حتى المساء.

فضاق بعبيد الله أمره، وكان أكبر همّه أن يتمسّك بباب القصر، وليس معه في القصر إلّا ثلاثون رجلا من الشرط، وعشرون رجلا من أشراف الناس، وأهل بيته، وجعل من في القصر يشرفون فيشتمهم الناس، ويفترون على ابن زياد وأبيه، ويتّقون أن يرموهم بالحجارة. ففتح عبيد الله الباب الذي يلي دار الروميّين ليدخل إليه من يأتيه، ودعا كثير بن شهاب، فأمره أن يخرج في من أطاعه من مذحج، فيخذّل الناس عن مسلم بن عقيل، ويخوّفهم عقوبة السلطان، وغائلة أمرهم، وأمر محمد بن الأشعث بمثل ذلك، في من أطاعه من كندة، أن يرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال لمثل هؤلاء من أهل الشرف مثل ذلك.

فخرجوا، وجاءوا بعدّة، فحبسوا، ورجع إليه الرؤساء من ناحية دار الروميّين، فدخلوا القصر، فقال لهم عبيد الله: « أشرفوا على القصر فمنّوا أهل الطاعة، وخوّفوا أهل المعصية. » فتكلّم القوم، وقالوا: « أيّها الناس! الحقوا بأهاليكم، ولا تعجّلوا الشرّ، ولا تتعرّضوا للقتل، فإنّ أمير المؤمنين، قد بعث جنوده من الشام، وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن تمّمتم على حربكم، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية، إلّا أذاقها وبال أمرها. » فأخذ الناس - كما سمعوا هذا وأشباهه من رؤسائهم - يتفرّقون. فكانت المرأة تأتى إلى ابنها، وأخيها، فتقول: « انصرف، فإنّ الناس يكفونك. » ويجيء الرجل إلى ابنه، وأخيه، فيقول: « غدا يأتيك جنود الشام، فما تصنع بالحرب؟ » فينصرف به.

فما زال الناس يتفرّقون، حتى أمسى مسلم بن عقيل، وما معه إلّا ثلاثون رجلا حين صلّيت المغرب، فصلّى بهم مسلم. فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلّا أولئك، خرج متوجّها نحو كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة. ثم خرج من الباب، فإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق، ولا على منزل، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ. فبقى متلدّدا في أزقّة الكوفة، لا يدرى أين يذهب.

فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة [ يقال لها: طوعة ] كانت أمّ ولد للأشعث، فزوّجها أسيدا الحضرمي، فولدت له بلالا. وكان بلال خرج مع الناس، وأمّه قائمة تنتظر، فسلّم مسلم عليها، فردّت عليه، فقال لها: « يا أمة الله، اسقيني ماء. » فدخلت، فسقته، فجلس، فقالت: « يا عبد الله، اذهب إلى أهلك. » فسكت، ثم عادت، فسكت، فقالت: « سبحان الله! قم إلى أهلك، فما يصلح الجلوس على بابى، ولا أحلّه لك. » فقال: « يا أمة الله، ما لي في هذا المصر منزل، ولا عشيرة، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلّى أكافئك به بعد اليوم. » قالت: « وما ذاك؟ » قال: « أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم، وغرّونى. » قالت: « أدخل! » ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها. فقالت: « يا بنيّ، مكرمة وافتك. » وأخذت عليه الإيمان، أن لا يخبر أحدا، فحلف، فأخبرته الخبر، فاضطجع وسكت.

وأخذ ابن زياد لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا، فقال لأصحابه: « أشرفوا، فانظروا ما بالهم؟ » فأشرفوا، فلم يروا أحدا. قال: « فانظروا، فلعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم. » فجعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم، وينظرون: هل في الظلال أحد؟ فكانت أحيانا تضيء لهم، وأحيانا لا تضيء، كما يريدون. فدلّوا أنصاف الطّنان تشدّ بالحبال، ثم تجعل فيها النيران، ثم تدلّى إلى الأرض. ففعلوا ذلك من أقصى الظلال وأدناها، فلم يروا شيئا. فعلموا أنّ القوم انصرفوا نادمين.

فأعلموا ابن زياد، فأمر بفتح باب السدّة التي في المسجد، ثم خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه، فجلسوا حوله قبل العتمة، ونادى: « برئت الذمّة من رجل من الشرطة، أو العرفاء، أو المناكب والمقاتلة، صلّى العتمة إلّا في المسجد! » فلم تكن إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد.

فقال الحصين بن تميم: « إن شئت، صلّى غيرك، ودخلت القصر، فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك. » فقال: « مر حرسى أن يقوموا ورائي، وزد فيهم، فإني لست بداخل بعد أن آثرت الخروج. » فصلّى بالناس، ثم قال: « أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل، السفيه الجاهل، قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت الذمّة من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته. » ثم توعّد الناس، وحضّهم على الطاعة، وخوّفهم الفرقة والفتنة. نادى حصين بن تميم، فأجابه، وكان على شرطه، فقال: « ثكلتك أمّك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل، ولم تأتنى به. فابعث مراصد على أفواه السكك، وأصبح غدا واستبرأ الدور، وجس خلالها حتى تأتينى بهذا الرجل. » ثم نزل ابن زياد، ودخل القصر، وأصبح ابن تلك العجوز، وهو بلال بن أسيد، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فأخبره بمكان ابن عقيل عنده، وكان محمد بن الأشعث قد باكر ابن زياد، وهو عنده. فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه، فدنا منه، وسارّه.

فقال ابن زياد: « ما يقول ابنك؟ » فقال: يقول: إنّ ابن عقيل في دار من دورنا. » فنخس بالقضيب في جنبه، وقال: « قم، وائتني به الساعة. » وبعث إلى خليفته، وهو في المسجد أن: « ابعث مع ابن الأشعث سبعين رجلا من قيس. » وإنّما كره قومه لأنّه علم أنّ قومه يكرهون أن يصاب فيهم مثل ابن عقيل.

ففعل ذلك، وسار محمد بن الأشعث، حتى أطاف بالدار.

فلمّا سمع مسلم وقع الحوافر، بادر إلى سيفه، وخرج إليهم، فاقتحموا عليه، فردّهم، ثم عادوا، فردّهم، حتى ضربه رجل منهم بسيفه، فقطع شفته، وثناياه، وضربه مسلم بأعلى رأسه، كادت تأتى عليه، ولكن سلم. فلما رأى الناس ذلك، أخذوا يرمونه من فوق البيت.

محمد بن الأشعث يعطى الأمان لمسلم

فأقبل عليه محمد بن الأشعث، فقال: « إنك أثخنت، وعجزت عن القتال، فلم تقتل نفسك، أقبل إليّ، ولك الأمان. » فقال: « آمن أنا؟ » قال: « نعم. » وقال القوم: « أنت آمن. » فأمكن من نفسه، فدنوا منه، وحملوه. فقال: « يا محمد بن الأشعث، أراك ستعجز عن أمانى.. » وذلك أنه نزع سيفه من عاتقه، فاستوحش.

«.. فهل لك في خير؟ تستطيع أن تبعث رجلا من عندك على لساني يبلغ حسينا - فإني أراه قد خرج، أو هو خارج غدا - فيقول له: إنّ ابن عقيل بعثني، وهو أسير، لا يرى أنه يمسي وهو يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أبيك، الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت، أو القتل، إنّ أهل الكوفة قد كذبوك، وكذبوني، وليس لكذوب رأى. » فقال ابن الأشعث: « والله، لأفعلنّ، ولأعلمنّ الأمير عبيد الله، أنّى آمنتك. »

مسلم في قصر ابن زياد

وذهب به إلى ابن زياد، وأنفذ رجلا على راحلة إلى الحسين بما قال مسلم.

فلما دخل به على ابن زياد، قال: « إني آمنته. » قال: « وما أنت والأمان، كأنما أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا به. » فسكت، وانتهى بمسلم إليه. فقال: « إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس، وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّت بينهم، وتحمل بعضهم على بعض. » قال: « كلّا! لست لذلك أتيت، لكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالمعروف والعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. » وتراجعا الكلام إلى أن قال له ابن زياد: « قتلني الله، إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. » قال: « أما إنّك أحقّ من أحدث في الإسلام، ما لم يكن فيه، وإنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السريرة، ولؤم الغلبة. لا أحد من الناس أحقّ بها منك. » وأخذ ابن زياد يشتمه، ويشتم حسينا وعليّا، وأمسك مسلم لا يكلّمه.

ثم قال: « اصعدوا به فوق القصر، فاضربوا عنقه، ثم أتبعوا جسده رأسه. » فصعد وهو يقول: « اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا، وخذلونا. » وأشرف به على موضع الحذّائين اليوم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه.

ثم أمر بهانىء بعد قتل مسلم، أن يخرج إلى السوق، فتضرب عنقه. فأخرج إلى حيث تباع فيه الغنم، وهو مكتوف، فجعل يقول: « وا مذحجاه، ولا مذحج لي اليوم. » ولا ينصره أحد، حتى قتل. وأمر بكلّ من عرفه ممّن خرج مع مسلم، فأتى به إلى قومه، فضربت عنقه فيهم، وبعث برؤوس من قتل منهم إلى يزيد وكتب بالقصّة.

ولحق رسول مسلم الذي أشخصه محمد بن الأشعث، الحسين، وهو بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلّغه الرسالة.

فقال له الحسين: « كلّ ما حمّ نازل، وعند الله نحتسب أنفسنا، وفساد أمّتنا. »

الحسين وآراء المشيرين عليه ذكر رأي أشير به على الحسين

لقيه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له، وقد قدمت عليه كتب العراق: « يا بن عمّ، إني أتيت لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك مستنصحى، قلتها، وأدّيت ما عليّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنك لا تستنصحنى، كففت عمّا أريد أن أقول. »

قال: فقال: « قل، فو الله ما أستغشّك، وما أظنّك بشيء من الهوى لقبيح من القول والفعل. »

قال: قلت: « بلغني أنّك تريد السير إلى العراق، وإني أشفق أن تأتى بلدا فيه عمّاله وأمراءه، ومعهم بيوت الأموال. وإنما الناس عبيد لهذه الدراهم والدنانير، فلا آمن أن يقاتلك من وعدك بنصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه. »

فقال الحسين: « جزاك الله خيرا يا بن عمّ، مهما يقض، يكن، وأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح. »

رأى أشار به عبد الله بن عباس على الحسين

وأتاه عبد الله ابن عبّاس، فقال: « يا ابن عمّ، إنّه قد أرجف الناس أنّك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع. » فقال له: « إني قد أجمعت السير إلى العراق في أحد يوميّ هذين إن شاء الله. »

فقال له ابن عبّاس: « فإني أعيذك بالله من ذلك، أخبرني - رحمك الله - أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك، فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم، وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمّاله يجبون بلادهم، فإنّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يغرّوك، ويكذبوك، ويخذلوك، ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك. »

فقال له الحسين: « فإني أستخير الله، وأنظر. »

فجاءه من الغد ابن عبّاس، وقال له: « ابن عمّ، إني أتصبّر، ولا أصبر، وإني أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك. إنّ أهل العراق قوم غدر، فأقم بهذا البلد، فإنّك سيّد أهل الحجاز. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم، فلينفوا عدوّهم، ثم اقدم عليهم، فإن أبيت إلّا الخروج، فسر إلى اليمن، فإنّ بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت في عزلة عن الناس، فتكتب وتبثّ دعاءك، فإني أرجو أن يأتيك ما تحبّ في عافية. »

فقال له الحسين: « يا ابن عمّ، إني أعلم أنّك ناصح شفيق، ولكني قد أجمعت على المسير. »

فقال له ابن عبّاس: « فإن كنت سائرا، فلا تسر بنسائك، وصبيتك، فو الله إني أخاف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساءه وولده ينظرون إليه، وو الله الذي لا إله إلّا هو: لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك، حتى تجتمع عليّ وعليك الناس، أطعتنى وأقمت، لفعلت. »

فلما أبي عليه، قال له: « قد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه معك. »

وخرج من عند الحسين، ومرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: « قرّت عينيك يا بن الزبير! » ثم قال:

يا لك من حمّرة بمعمر ** خلا لك الجوّ، فبيضي واصفري

ونقّري ما شئت أن تنقّري

قال: « وما ذاك؟ » قال: « هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز. »

خروج الحسين إلى العراق لقاء بين الحسين والفرزدق

وخرج الحسين في أهل بيته، ونسائه، وصبيته. فلقي الفرزدق الشاعر بالصفاح، فتواقفا، فقال له الحسين: « بيّن لنا نبأ الناس خلفك. »

فقال له الفرزدق: « الخبير سألت. قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والله يفعل ما يشاء. »

فقال له الحسين: « صدقت، الأمر لله، يفعل ما يشاء. » ثم حرّك راحلته، وقال: « السلام عليك. » وافترقا.

ما كان من أمر رسوله قيس بن مسهر

وقد كان وصل إلى الحسين كتاب مسلم بن عقيل، قبل أن يقتل بأيام، يقول فيه: « أما بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله. إنّ جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام. » فأقبل الحسين بصبيانه ونسائه لا يلوى على شيء، ولا يسمع قول أحد، حتى بلغ الحاجر من بطن الدومة، وبعث قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب يعرّفهم فيه أنه شخص إليهم، لما عرفه من اجتماع ملأهم على نصره، والطلب بحقّه.

فلما انتهى قيس إلى القادسيّة، وجد خيل ابن زياد منظومة ما بينها وبين الكوفة، فأخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد.

فقال له ابن زياد: « اصعد القصر، فسبّ الكذّاب بن الكذّاب. »

فصعد قيس بن مسهر القصر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

« أيّها الناس، هذا حسين بن عليّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وفارقته بالحاجر، فأجيبوه! »

ثم لعن زيادا وابنه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب. فأمر به عبيد الله فرمي به من فوق القصر، فمات.

الحر بن يزيد يقبل بخيله

وأقبل الحسين، حتى نزل شراف، وأمر فتيانه فاستقوا من الماء، ثم ساروا صدر يومهم. فقال رجل: « الله أكبر. »

فقال الحسين: « الله أكبر، ممّ كبّرت؟ »

قال: « رأيت النخل. »

فقال رجلان أسديّان كانا معه: « إنّ هذا مكان ما رأينا به نخلا قطّ. »

قال الحسين: « فما تريانه رأى. »

فقالا: « نراه والله رأى هوادي الخيل. »

فقال: « وأنا، والله، أرى ذلك. »

فقال الحسين: « أما لنا ملجأ نعدل إليه، نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ »

قال: فقلنا له: « نعم، هذا ذو حسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك. »

فأخذ إليه، ومال أصحابه معه. فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، فتبيّنّاها، وعدلنا. فلما رأونا قد عدلنا عن الطريق، عدلوا، كأنّ أسنّتهم اليعاسيب، وكأنّ راياتهم أجنحة الطير، فسبقناهم، فنزل الحسين، وضربت أبنيته، وجاءنا القوم وهم ألف رجل، مع الحرّ بن يزيد التميمي.

فأقبل حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين وأصحابه في حرّ الظهيرة، فأمر الحسين أن يسقى القوم، فقام فتيانه يسقون الخيل بالأتوار والطساس حتى أرووها.

فكان سبب تقدّم الحرّ في ألف رجل أنّ عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن تميم، وكان على شرطه، على أن ينزل القادسيّة، وينظّم ما بين القطقطانية وخفّان بالمسالح. فقدّم الحرّ هذا بين يديه في ألف رجل يستقبل الحسين، ويكون معه يسايره، ويحفظه إلى أن يرد عليه الخبر.

فحضرت الصلاة، فأذّن مؤذّن الحسين، ثم أقام. فخرج الحسين في إزار ونعلين، وقال:

« أيّها الناس، معذرة إلى الله، وإليكم. إني لم آتكم حتى أتتنى كتبكم، وقدمت عليّ رسائلكم أن اقدم علينا، فإنّه ليس لنا إمام. فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن كنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم. »

فسكتوا عنه.

فقال الحسين للحرّ: « أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ »

قال: « لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. »

فصلّى بهم الحسين، وانصرف الحرّ إلى مكانه، وأخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته، وجلس في ظلّها. فلما كان وقت العصر، أمر الحسين أن يتهيّأوا للرحيل، ففعلوا. ثم إنّه خرج، فأمر مناديه، فنادى بالعصر، واستقدم الحسين، فصلّى بالقوم، ثم سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه، وأعاد على القوم قريبا من مقالته الأولى.

فقال الحرّ: « إنّا، والله، لا ندري هذه الكتب، والرسل التي تذكر. »

فدعا الحسين بخرجين مملوّين كتبا فنشرها بين أيديهم. فقال له الحرّ: « لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، إنما أمرنا، إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. »

فقال له الحسين: « الموت أدنى إليك من ذلك. »

ثم قال لأصحابه: « انصرفوا بنا. »

فلما ذهبوا لينصرفوا، حال القوم بينه وبين الانصراف.

فقال الحسين للحرّ: « ثكلتك أمّك، ما تريد؟ »

قال: « أما والله، لو غيرك من العرب يقولها ما تركت ذكر أمّه، كائنا من كان، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمّك، إلّا بأحسن ما نقدر عليه. »

فقال له الحسين: « فما تريد؟ »

قال: « أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. »

فقال له الحسين: « إذا لا أتبعك. »

فقال له الحرّ: « إذا لا أدعك. »

فترادّا القول: فلمّا طال الكلام، قال الحرّ: « إني لم أومر بقتالك، إنّما أمرت ألّا أفارقك حتى تقدم الكوفة. فإذا أتيت حيطانها، فخذ طريقا لا يدخلك المدينة، ولا يؤدّيك إليها، ولا يردّك عنها يكون بيني وبينك نصفا، وتكون بالخيار، بين أن تكتب إلى يزيد إن أردت، أو إلى ابن زياد، إن أردت، فلعلّ الله يأتى بأمر يرزقني فيه العافية أن أبتلى بشيء من أمرك. »

فتراضيا، وتياسر الحرّ عن طريق القادسيّة، وسايره الحسين. وأخذ الحسين يخطب القوم ويذكّرهم الله، ويدلّهم على نفسه ومكانه عن النبوّة والحكمة، واستحقاقه للإمامة دون الفجرة الفسقة.

فقال له الحرّ، وهو يسايره: « يا حسين! أذكّرك الله في نفسك، فو الله، لئن قاتلت لتقتلنّ. »

فقال له الحسين: « أبالموت تخوّفني؟ » وأنشده أبياتا، وهي أبيات تمثّل بها:

سأمضى، فما بالموت عار على الفتى ** إذا ما نوى حقّا، وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه ** وفارق شرّا أن يعيش ويرغما

فكان يسير الحرّ ناحية، والحسين ناحية. فبينا هم كذلك، فطلع عليهم أربعة من الفرسان، فعدلوا إلى الحسين، فسلّموا عليه، فمنعهم الحرّ أن يسيروا معه.

فقال الحسين: « ما لك تمنعهم؟ »

فقال الحرّ: « هؤلاء لم يأتوا معك، وإنّما هم أهل الكوفة. »

قال الحسين: « هم بمنزلة من جاء معي، فإنّهم أنصاري وأعواني، وقد أعطيتني ألّا تعرض لي بشيء، حتى آتى الكوفة. فإن تمّمت على ما كان بيني وبينك، وإلّا ناجزتك. »

قال: وكفّ عنهم الحرّ.

فقال الحسين للقوم: « أخبرونى خبر الناس وراءكم. »

فقالوا: « أمّا أشراف الناس، فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، واستميل ودّهم، واستخلصت نصيحتهم، وهم ألّب عليك، وأمّا سائر القوم، فأفئدتهم معك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك. »

قال: « فخبّروني عن رسولي إليكم. »

فقالوا: « من هو؟ »

قال: « قيس بن مسهر الصيداوي. »

فقالوا: « نعم، أخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد بلعنك ولعن أبيك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا الناس إلى نصرتك، وأخبرهم بمقدمك، فأمر به ابن زياد، فألقى من طمار القصر، فمات. »

فتغرغرت عينا الحسين بالدموع، ولم يملك دمعه، ثم قال: فَمِنْهُمْ من قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ من يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.

ما قاله الطرماح بن عدي للحسين

فقالوا له بعد ما دنوا منه: « والله، إنّا لننتظر، فما نرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الذين نراهم ملازميك، لكفى بهم، فكيف وقد رأينا قبل خروجنا من الكوفة ما لم نر قطّ مثلهم ناسا في صعيد واحد عرضوا ليسرّحوا إليك، فننشدك الله إن قدرت ألّا تقدّم شبرا إلّا فعلت. فهاهنا بلد منعك الله به، حتى ترى رأيك، فسر بنا حتى ننزلك جبلنا الذي يدعى أجأ، امتنعنا به والله من ملوك غسّان، وحمير، ومن النعمان، ومن الأسود والأحمر، والله ما دخل علينا ذلّ قطّ، ثم تبعث الرجال إلى من ينزل أجأ، وسلمى من طيّء، فيأتيك الرجال، وأنا زعيم لك بعشرين ألف طائيّ يضربون بين يديك بالسيوف. »

فقال الحسين: « جزاك الله وقومك خيرا. إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم من أهل الكوفة قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في العاقبة. »

فودّعوه وقالوا: « قد حملنا ميرة من الكوفة لأهلينا، فنحن نحملها إليهم، ونعود إليك. »

نزول الحسين بنينوى وقدوم راكب بكتاب من ابن زياد

وسار الحسين، فجعل يتياسر، فيأتيه الحرّ بن يزيد، فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة ردّا شديدا امتنعوا عليه. فلم يزالوا كذلك، حتى انتهوا إلى المكان الذي نزل به الحسين فإذا راكب على نجيب له، وعليه السلاح متنكّبا قوسه، مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه. فلما انتهى إليهم، سلّم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحرّ كتابا من عبيد الله بن زياد، فإذا فيه:

« أما بعد، فجعجع بالحسين وأصحابه حيث يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. وقد أمرت رسولي أن يلزمك حتى تردّه بإنفاذ أمري، والسلام. »

فلما قرأه الحرّ، قال: « هذا كتاب الأمير عبيد الله، يأمرنى أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتينى كتابه، وهذا رسوله وقد أمرنى ألّا يفارقني حتى أنفذ أمره. »

وأخذ الحرّ يريدهم على النّزل هناك على غير ماء، ولا في قرية، فقالوا: « دعنا ننزل في هذه القرية. - يعنون الغاضريّة - أو تلك - يعنون نينوى - أو تلك، أو تلك. »

فقال: « لا والله، ما أستطيع هذا. أما ترون الرجل قد بعثه عينا عليّ. »

فقال زهير بن القين وكان مع الحسين: « يا ابن بنت رسول الله، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى، من لا قبل لنا به. »

فقال الحسين: « لا أبدأهم بالقتال. »

فقال زهير: « فسر بنا إلى هذه القرية القريبة حتى ننزلها، فإنّها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم اليوم أهون من قتال من يجيء بعدهم ».

فقال الحسين: « وأيّة قرية هي؟ »

قال: « العقر. »

فقال الحسين، : « اللهمّ أعوذ بك من العقر! »

ثم نزل، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.

عمر بن سعد والخيار الصعب

وكان عبيد الله بن زياد قد ولّى عمر بن سعد بن أبي وقّاص الريّ، وكتب عهده عليها، وجهّز معه أربعة آلاف، لأنّ الديلم كانوا غلبوا على دستبى، فخرج عمر بن سعد، وكان قد عسكر بحمّام أعين.

فلما كان من أمر الحسين ما كان، كتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد أن: « سر إلى الحسين، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه، سرت إلى عملك. »

فكتب إليه عمر بن سعد: « إن رأيت أن تعفيني، فعلت. »

فقال عبيد الله: « نعم، على أن تردّ إلينا عهدنا. »

فاستعظم عمر بن سعد أمر الحسين، وكان يستشير نصحاءه، فلا يشير عليه أحد به، ثم حلا في قلبه الإمارة، فاستجاب وأقبل في أربعة آلاف حتى نزل بالحسين في غد يوم نزل فيه الحسين بالمكان الذي ذكرناه.

فبعث عمر بن سعد من يسأله: ما الذي جاء به. فجاء الرسول حتى سلّم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر.

فقال الحسين: « كتب إليّ أهل مصركم أن اقدم، فأمّا إذا كرهتموني، فأنا أنصرف عنهم. »

فانصرف إلى عمر بجوابه. فقال عمر بن سعد! « إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه. » وكتب إلى عبيد الله بذلك.

اشتداد العطش على الحسين وأصحابه

واشتدّ على الحسين وأصحابه العطش، فدعا العبّاس بن عليّ، فبعثه في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة. فدنوا من الماء ليلا.

فقال عمرو بن الحجاج الزبيديّ، وكان قد أرسله عمر بن سعد في خمسمائة على الشريعة يمنعون الحسين وأصحابه من الماء بكتاب ورد عليه من عبيد الله: « من الرجل، وما جاء بك؟ »

قال: « جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلّأتمونا عنه. »

فقال: « اشرب هنّأك الله. »

قال: « لا والله، ما أشرب والحسين ومن ترى من أصحابه عطاش. »

فقال: « لا سبيل إلى سقى هؤلاء، إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء. »

فلما دنا أصحابه قال لرجّالته: « املأوا قربكم. » وشدّ على القوم مع أصحابه فملأوا قربهم، وثار بهم عمرو بن الحجاج، فقاتلهم العبّاس وأصحابه، حتى انصرف أصحاب القرب بالقرب، فأدخلوها على الحسين وأصحابه.

التقاء بين الحسين وعمر بن سعد

وبعث الحسين إلى عمر أن: « القني الليلة بين عسكري وعسكرك. »

فخرج إليه عمر بن سعد في نحو من عشرين فارسا، وأقبل الحسين في مثل ذلك. فلما التقيا، أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك، فانكشفتا عنهما حيث لا تسمع أصواتهما، فتكلّما، فأطالا، حتى ذهب هزيع من الليل. ثم انصرف كلّ واحد إلى أصحابه، وتحدّث الناس بينهم بالظنون ولا يدرون حقيقة شيء. ثم التقيا بعد ذلك مرارا ثلاثا وأربعا.

كتاب ابن سعد إلى ابن زياد في ما دار بينه وبين الحسين

فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: « أما بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة. هذا الحسين قد أعطاني: أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه. أو أن نسيّره إلى أيّ ثغر من الثغور شئنا، فيكون رجلا من المسلمين: له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أن يأتى أمير المؤمنين يزيد، فيضع يده في يده، فيرى فيه رأيه، وفي هذا لكم رضى، وللأمّة صلاح. »

فلما قرأ عبيد الله الكتاب، قال: « هذا كتاب ناصح لأميره، وشفيق على قومه، قد قبلت. »

ما أشار به شمر على ابن زياد

فقام إليه شمر بن ذي الجوشن، فقال: « تقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟ فإنّما وافى ليزيل سلطانك. والله، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك، ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّ، ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنّها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك، فإن عاقبت، فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت، كان ذلك لك. ولقد بلغني أنّ الحسين وعمر بن سعد يجلسان، فيحدّثان عامّة الليل. »

فقال عبيد الله بن زياد: « نعم ما رأيت، الرأي رأيك. »

ثم قال ابن زياد: « اخرج أنت بجواب كتاب عمر بن سعد. فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا، فليبعث بهم إليّ سلما، وإن أبوا، فقاتلوهم. فإن فعل عمر بن سعد، فاسمع منه وأطع، وإن أبى، فأنت الأمير على الناس، وثب عليه، واضرب عنقه، وابعث إليّ برأسه. »

جواب ابن زياد لكتاب ابن سعد

ثم كتب إلى عمر بن سعد:

« أمّا بعد، إني لم أبعثك إلى الحسين لتطاوله، وتكفّ عنه، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له شافعا عندي. انظر: إن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا، فابعث بهم، وإن أبوا، فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنّهم لذلك مستحقّون. فإن أنت فعلت جزيناك خيرا، لأنك السامع المطيع، وإن أنت أبيت، فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر [ فإنّا قد أمرنا بأمرنا ]، والسلام. »

قدوم شمر بالكتاب

فقدم شمر بالكتاب، فقرأه عمر، وقال لشمر: « ما لك ويلك! لا قرّب الله داراك! وقبّح الله ما قدمت به! إنّك أنت ثنّيته عمّا كتبت به إليه، وقد - والله - أفسدت علينا أمورا رجونا معه الصلاح، والله يا شمر! لا يستسلم حسين، إنّ نفسه نفس أبيّة. »

فقال له شمر: « أخبرني ما أنت صانع، تمضى لأمر أميرك، وإلّا فخلّ بيني وبين العسكر. »

قال: « لا، ولا كرامة لك! أنا أتولّى ذلك. »

قال: « فدونك! »

زحف ابن سعد نحو الحسين

فركب عمر بن سعد في الناس، ثم زحف نحوهم، والحسين جالس أمام بيته محتب بسيفه.

فقال له العبّاس بن عليّ: « يا أخي أتاك القوم، أما تراهم؟ »

وكان الحسين قد خفق برأسه [ على ركبتيه، ] فنهض ثم قال: « يا عبّاس اركب - بنفسي أنت يا أخي - حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم. »

فأتاهم العبّاس، واستقبلهم في نحو عشرين فارسا، فقال لهم: « ما جاء بكم؟ وما بدا لكم؟ »

فقالوا: « إنّ أمر الأمير قد جاء بكيت وكيت. »

قال: « فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله، فأعرض عليه ما ذكرتم. »

فانصرف العبّاس يركض نحو الحسين، يخبره الخبر، وترك أصحابه يخاطبون القوم. ثم أقبل العبّاس يركض، فقال:

« إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتى ننظر في هذا الأمر، فإنّ هذا الذي جئتم به، لم يجر [ بينكم وبينه ] فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا، فإمّا رضيناه فاستسلمنا، وإمّا كرهناه فرددنا. »

وكان الحسين قال للعبّاس: « ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّى لربّنا ونستغفره، ونوصى إلى أهلنا. » فجاءهم رسول عمر، فقام بحيث يسمعون الصوت، وقال: « قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا، وإن أبيتم، فلسنا تاركيكم. »

كلام الحسين لأصحابه

فجمع الحسين أصحابه، وحمد الله، وأثنى عليه، ودعا دعاء كثيرا، وقال:

« أمّا بعد، فإني لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي.

فجزاكم الله عني خيرا، وإني لا أظنّ يومنا من هؤلاء إلّا غدا، وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا في حلّ، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا، ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا بسوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو قد أصابوني، لهوا عن طلب غيري. »

فقال له إخوته: « لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا، قبّح الله العيش بعدك. » وتكلّم أهله كلّهم مثل ذلك.

ثم قام مسلم بن عوسجة الأسديّ فقال: « نحن نخلّي عنك، ولم نعذر فيك! والله، لو لم يكن معي سلاح، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت، ويعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول الله والله، لو علمت أنّي أقتل، ثم أحيى، ثم أقتل، ثم أحرق، ثم يذرى بي، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك. فكيف وإنّما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا. »

ثم قام زهير بن القين، فقال مثل ذلك، وتكلّم جماعة أصحابه بمثل ذلك، وأشبه كلام بعضهم كلام بعض، وكانوا اثنين وثلاثين رجلا من الفرسان وأربعين راجلا.

ثم أوصى الحسين، وقال لأخته: « يا أخيّة، أقسم عليك، فبرّى قسمي، لا تشقّى عليّ جيبا، ولا تخمشي وجها، ولا تدعى عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت. »

فبكت، فارتفعت الأصوات من جهة النساء، ولهنّ الرقّة والجزع.

وقالت أخته: « بأبي وأمي أبا عبد الله! استقتلت؟ »

فردّد غصّته، ثم قال: « لو ترك القطا لنام. »

فقالت: « يا ويلتى! أفتغصب نفسك اغتصابا؟ فذلك أروع لقلبي، وأعظم لبلائى. »

ثم لطمت وجهها وخرّت مغشيا عليها، فصبّ الحسين على وجهها الماء، وعزّاها بكلام طويل.

يوم عاشوراء

وحرسهم بالليل أصحاب عمر بن سعد. فلما أصبحوا - وذلك يوم الجمعة، وقيل: يوم السبت، وكان يوم عاشوراء - خرج الحسين، فعبّى أصحابه، وأمر بأطناب البيوت، فقرنت حتى دخل بعضها في بعض، وجعلوها وراء ظهورهم لتكون الحرب من وجه واحد، وأمر بحطب وقصب كانوا جمعوه وراء البيوت، وكان من ورائهم موضع منخفض كأنّها ساقية، فأمر، فحفروه من الليل في ساعة، وجعلوه كالخندق، وطرح ذلك الحطب والقصب فيه، وألقى فيه النار، وقال: « لا نؤتى من ورائنا. » قال الشعبي: ففعلوا ذلك، وكان لهم نافعا.

وأمر الحسين بمسك، فميث في جفنة عظيمة، واطّلى، وركب دابّته، ودعا بمصحف فوضعه أمامه، واقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا.

جاء الحر تائبا

فحرّك الحرّ دابّته، حتى استأمن إلى الحسين، وقال له: « بأبي أنت وأمي، ما ظننت الأمر ينتهى بهؤلاء القوم إلى ما أرى، وظننت أنّهم سيقبلون منك إحدى الخصال التي عرضتها عليهم، فقلت في نفسي: لا أبالى أن أطيع القوم في بعض أمورهم، وأمّا الآن فإني جئت تائبا ومواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أترى لي ذلك توبة؟ »

قال: « نعم. يتوب الله عليك ويغفر لك. انزل! »

قال: « أنا فارسا خير لك مني راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري. »

ثم بارز، فقتل واحدا بعد آخر. فلم يزل يبارز الواحد من أصحاب الحسين، فيقتل عدّة من أصحاب عمر بن سعد.

فقام عمرو بن الحجاج رافعا صوته: « يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ [ تقاتلون ] فرسان المصر، وقوما مستميتين. والله، لا يبرز لهم منكم أحد إلّا قتل، لا تبرزوا لهم! فإنّهم قليل، وقلّ ما يبقون، وقد جهدهم العطش. »

فقال عمر بن سعد: « صدقت. » وأرسل في الناس، فعزم عليهم أن: « لا يبارز منكم رجل رجلا منهم. »

فأخذت الخيل تحمل، وأصحاب الحسين تثبت، وإنّما هم اثنان وثلاثون فارسا.

فقال عمر: « ليتقدّم الرماة إلى هذه العدّة اليسيرة، فليرشقوهم بالنبل. »

فتقدّموا، فلم يلبّثوهم أن عقروا خيلهم، فصاروا كلّهم رجّالة. وقاتلوا قتالا لم ير أعظم منه ولا أشدّ، إلّا أنهم كانوا إذا صرع الواحد منهم أو الاثنان تبيّن ذلك عليهم، وإذا قتلوا أضعاف عدّتهم من أولئك لم يتبيّن عليهم.

ووصل الناس إلى الحسين، وقاتل بين يديه كلّ من استهدف للنبل، فرمى يمينا وشمالا، حتى سقطوا، وجعل أصحابه يستقتلون بين يديه، ويسلّمون على الحسين، ويودّعونه، ثم يقاتلون حتى يقتلوا.

فكان أوّل من قتل من بني أبي طالب عليّ الأكبر بن الحسين بن عليّ، ثم عبد الله بن مسلم بن عقيل، ثم محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ثم جعفر بن عقيل بن أبي طالب.

قال: ثم رأينا غلاما كان وجهه شقّة قمر، في يده سيف، وعليه قميص ونعلان، وقد انقطع شسع أحدهما. فحمل عليه رجل، فضربه بالسيف على رأسه، فوقع الغلام لوجهه، وصاح: « يا عمّاه! » فجلّى الحسين كما يجلّى الصقر، ثم شدّ على الرجل بسيفه، فاتّقاه فضرب ساعده، فأطنّها من المرفق وتنحّى عن الغلام، وانجلت الغبرة، فرأيت الحسين قائما على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله الأرض، والحسين يقول: « بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم جدّك. » ثم قال: « عزّ، والله، على عمّك أن تدعوه، فلا يجيبك، أو يجيبك، ثم لا ينفعك. » ثم احتمله، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره.

قال: فقلت في نفسي: ما يصنع به؟ فجاء به حتى ألقاه مع ابنه عليّ بن الحسين والقتلى حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل لي: القاسم بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب - صلوات الله على جميعهم.

ومكث الحسين طويلا من النهار، وكلما انتهى إليه رجل انصرف عنه وكره أن يتولّى قتله، حتى أتاه مالك بن النسير، فضربه على رأسه بالسيف، فقطع برنس خزّ كان عليه، وأدمى رأسه، فألقى ذلك البرنس، ودعا بقلنسوة، فلبسها واعتمّ، وكان قد أعيا وبلّد، ولم يبق له قوّة، وجهده العطش. فدنا إلى الماء ليشربه، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع في فمه يتلقّى الدم من فيه، فيرمى به إلى السماء. ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يده وقال:

« اللهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر منهم أحدا. » ثم أقبل إليه شمر بن ذي الجوشن في نحو من عشرة من رجّالة أهل الكوفة، وطلب منزل الحسين الذي فيه ثقله. فمشى نحوهم، فحالوا بينه وبين رحله.

فقال الحسين: « ويلكم! إن لم يكن لكم دين، فكونوا في دنياكم أحرارا، امنعوا أهلى من طغامكم وجهّالكم. »

قال ابن ذي الجوشن: « ذلك لك. » وأقدم عليه بالرجّالة.

قال عبد الله بن عماد: فلقد رأيته وهو يحمل على من في يمينه فيطردهم، وعلى من في شماله فيطردهم وعليه قميص خزّ وهو معتمّ، فو الله، ما رأيت مكثورا قتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا، ولا أجرأ مقدما. والله، ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجّالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب. فكأني بزينب أخته وهو على تلك الحال، قد خرجت وأنا أنظر إلى قرطها يجول بين أذنها وعاتقها وهي تقول: « ليت السماء انطبقت على الأرض. » وكان قد دنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت: « يا بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ » وكأنّى أنظر إلى دموع [ عمر بن ] سعد تسيل على خدّيه ولحيته، وصرف وجهه عنها.

فنادى في الناس شمر: « ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه، ثكلتكم أمّهاتكم! »

فحمل عليه من كل جانب، وضرب على كتفه وطعن.

فقال شمر لخولي بن يزيد الأصبحى: « انزل، فاحتزّ رأسه. » فضعف وأرعد.

فقال له سنان بن أنس وهو الذي طعنه: « فتّ الله عضديك! » فنزل، فذبحه وأخذ رأسه.

سلب الحسين وانتهاب نساءه

وسلب الحسين حتى سراويله، وترك مجرّدا، ومال الناس على الإبل والمتاع، فانتهبوه وانتهبوا نساءه، فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه، فيذهب به، حتى جاء عمر بن سعد، فقال: « لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض. » يعنى عليّ بن الحسين، وكان مريضا.

وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون رجلا، وسرّح برأسه إلى بن زياد.

كلام دار بين علي بن الحسين وابن زياد

فحدّث حميد بن مسلم، قال: كنت واقفا عند ابن زياد حين عرض عليه عليّ بن الحسين عليهما السلام، فقال: « ما اسمك؟ »

قال: « عليّ بن الحسين. »

قال: « أولم يقتل الله عليّ بن الحسين؟ » فسكت.

فقال له ابن زياد: « ما لك لا تتكلّم؟ »

قال: « قد كان لي أخ يقال له: عليّ بن الحسين أيضا، [ فقتله الناس ]. »

فقال: « قد قتله الله. »

فسكت.

فقال ابن زياد: « ما لك لا تتكلّم؟ »

قال: الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ الله

قال: « أنت والله منهم، ويحكم، انظروا هذا قد أدرك والله إني لأحسبه رجلا. »

فكشف عنه بعض أصحاب ابن زياد، فقال: « نعم، قد أدرك »

فقال: « اقتله. »

فقال عليّ: « فوكّل بهؤلاء النسوة من يكون محرما لهنّ يسير معهنّ إن كنت مسلما. »

فقال ابن زياد: « دعوه، سر أنت معهنّ. » وبعث بهنّ معه إلى الشام.

ما قاله يزيد بعد تسلم كتب البشارة

فيقال: إنّ يزيد لمّا وردت عليه كتب البشارة، دمعت عينه وقال:

« كنت أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سميّة، أمّا إني لو كنت صاحبه لعفوت عنه. »

ولمّا وضعت الرؤوس بين يدي يزيد، قال يزيد: نفلّق هاما من رجال أعزّة علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما

ثم جهّز النساء وعليّ بن الحسين، وضمّ إليهم جيشا حتى ردّهم إلى المدينة.

ذكر حيل ابن الزبير

كان ابن الزبير يظهر أنه عائذ بالبيت، ويبايع الناس سرّا. وبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأعطى الله عهدا: ليوثقنّ في سلسلة. فبعث بسلسلة من فضّة وعمرو بن العاص يومئذ عامل مكّة، وكان شديدا عليه، ولكنّه كان كثير المداراة رفيقا. فلما ورد البريد بالسلسلة رفق حتى ردّه ردّا جميلا. وخطب الناس، وعاب أهل الكوفة خاصّة، وأهل العراق عامّة بقتل الحسين، وبكى وقال:

« لقد كان لأبي عبد الله - رضي الله عنه - في ما جرى على أبيه وأخيه من هؤلاء القوم ناه، ولكنّه ما حمّ نازل. »

ثم عظّم ما جرى عليه واستفظعه، وقال في كلامه:

« لقد قتلوه كثيرا صيامه بالنهار، طويلا صلاته بالليل، ما كان يبدل بالقرآن غناء، ولا بالصيام شرب الخمر، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في طلب الصيد. » ي

عرّض بيزيد. فثار إليه أصحابه وقالوا له:

« أيّها الرجل! أظهر بيعتك، فلم يبق بعد الحسين أولى بهذا الأمر منك. »

فقال: « لا تعجلوا! »

وعلا أمره بمكّة، وكاتبه أهل المدينة وقالوا: « أمّا إذ هلك الحسين فليس أحد ينازع ابن الزبير. »

وبلغ ابن الزبير أنّ مروان تمثّل لمّا اجتاز به البريد ومعه سلسلة من فضة وجامعة يجعل فيها ابن الزبير:

فخذها، فليست للعزيز بخطّة ** وفيها مقال لامرئ متذلّل

أ عامر إنّ القوم ساموك خطّة ** وذلك في الجيران، غزلا بمغزل

أراك إذا قد صرت للقوم ناضحا ** يقال له بالغرب أدبر وأقبل

وأرسل مروان ابنيه وقال: « اذهبا فتعرّضا لابن الزبير، ثم تمثّلا بهذه الأبيات إذا بلّغته الرسل الرسالة. » ففعلا، فلما تعرّضا لينشداه، بادر ابن الزبير وقال: « إى بنى مروان، قد سمعت ما قال أبو كما، فاذهبا، فأنشداه:

إني لمن نبعة صمّ مكاسرها ** إذا تناوحت القصباء والعشر

فلا ألين لغير الحقّ أسأله ** حتى يلين لضرس الماضغ الحجر»

عزل عمرو بن سعيد وتولية الوليد مكة

ثم إنّ يزيد اتّهم عمرو بن سعيد وظنّ أنه يقدر على أخذ ابن الزبير وليس يفعل، فعزله، وولّى الوليد بن عقبة. وخرج عمرو حتى قدم على يزيد، فرحّب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثم عاتبه في أشياء كان يأمر بها في ابن الزبير فلا ينفذها. فقال:

« يا أمير المؤمنين، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإنّ جلّ وأهل مكّة قد كانوا مالوا إليه، وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضا إليه سرّا وجهرا، ولم يكن معي جند أتقوّى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذر مني ويتحرّز، وكنت أنا أرفق به وأداريه لئلّا يستوحش، فإذا استمكنت منه وثبت عليه، مع أنى ضيّقت عليه، ومنعته من أشياء لو تمكّن منها كانت معونة له، وجعلت على مكّة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا لي اسمه، واسم أبيه، وما جاء فيه، وما الذي يريد. فمن كان من أصحابه أو ممّن اتّهمه، رددته صاغرا، وقد بعثت الوليد، وسيأتيك من أثره وعمله ما تعرف به مبالغتى في أمرك، ومناصحتى لك. » فعذره يزيد، وتلقاه بجميل، ولبث الوليد مدّة بمكّة، ثم عزله يزيد، وولّى عثمان بن محمد بن أبي سفيان. فكان حدثا، فلم يضبط الأمر، ولا كان له رأي.

ذكر الحال في المدينة

وظهر في المدينة أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك حتى خلعوه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل، ووثبوا على عثمان بن محمد بن أبي سفيان ومن معه من بني أمية ومن يرى رأيهم، فنفوهم وكانوا ألف رجل. فخرجوا حتى نزلوا دار مروان بن الحكم، فحاصرهم الناس حصارا ضعيفا، فتولّى تدبيرهم مروان، لأنّ عثمان بن محمد كان غرّا لا يرجع إلى رأيه.

وكتب مروان إلى يزيد كتابا من جماعة بما جرى عليهم ويطلبون الغوث منه.

قال الرسول: فلما وردت على يزيد، قال: « أما تكون بنو أميّة ومواليهم ألف رجل بالمدينة؟ »

قلت: « بلى. »

قال: « فما استطاعوا أن يقاتلوهم ساعة من نهار؟ »

فقلت: « أجمع الناس كلّهم عليهم، فلم تكن لهم بهم طاقة. »

فكتب إلى عبيد الله بن زياد أن اغز ابن الزبير، فقال: « والله لا أجمعهما للفاسق أبدا: أقتل ابن رسول الله وأغزو البيت؟ »

وندب مسلم بن عقبة المرّى، وهو شيخ كبير مريض، للمدينة، فخرج ونادى أن: « سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا، ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته. » فانتدب له اثنا عشر ألف رجل. ووصّاه يزيد، إذا ظفر، أن ينهب المدينة ثلاثة أيّام، وذلك في سنة ثلاث وستّين.

وكان معاوية وصّى يزيد: « إذا أرابك من أهل المدينة ريب، فارمهم بمسلم بن عقبة. » ولمّا بلغ أهل المدينة خبر مسلم ومن معه، أخذوا على بني أمية المحصورين في دار مروان العهود والمواثيق، ألّا يدلّوا على عورة لهم، ولا يبغونهم غائلة.

وأخرجوهم، فلقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى مع أثقالهم، فسأل مسلم عمرو بن عثمان بن عفّان عن القوم واستشاره، فقال: « عليّ عهد ألّا أدلّ على عورة. »

فانتهزه مسلم وقال: « والله، لو لا أنّك ابن عثمان، لضربت عنقك، والله، لا أقيلها قرشيّا بعدك. »

وبلغ ذلك الناس، فهابوه.

وقال مروان لابنه عبد الملك: « ادخل قبلي إلى مسلم لعلّه يجتزى بك مني. »

فدخل عليه عبد الملك، فقال: « هات ما عندك، أخبرني خبر الناس، وكيف ترى؟ »

ذكر رأي عبد الملك وما ظهر من حزمه

قال:

« نعم، أرى أن تسير بمن معك، فتركب هذا الطريق إلى المدينة، حتى إذا انتهيت إلى أدنى نخل بها نزلت، فاستظلّ الناس بظلّه، وأكلوا من صفوه، حتى إذا كان الليل، أذكيت الحرس الليل كلّه عقبا بين أهل عسكرك، حتى إذا أصبحت وصلّيت الصبح، مضيت بهم، وتركت المدينة ذات اليسار، ثم أدرت بالمدينة، حتى تأتيهم من قبل الحرّة مشرّقا، ثم تستقبل القوم، فإذا استقبلتم، أشرقت الشمس عليهم، وطلعت من أكتاف أصحابك، فلا توذيهم، وتقع في وجوههم فتوذيهم، ويرون ما دمتم مشرّقين ايتلاق بيضكم، وحرابكم، وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم، ما لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم ما داموا مغرّبين، ثم قاتلهم، واستعن الله عليهم. »

فقال له مسلم: « لله أبوك، أيّ امرئ ولد إذ ولدك، لقد رأى بك خلفا. »

ثم إنّ مروان لقيه، فقال له: « إيه. »

فقال: « أليس قد لقيك عبد الملك؟ »

قال: « بلى، وأيّ رجل عبد الملك! [ قلّ ] ما كلّمت من رجال قريش شبيها به. »

وقعة الحرة وإباحة المدينة ثلاثا

ثم ارتحل، وعمل برأى عبد الملك، فكانت وقعة الحرّة، وذلك في سنة ثلاث وستّين، وهي من أعظم الوقائع وأشدّها. هزم فيها مسلم بن عقبة مرارا، وأهل المدينة مرارا، وكثر القتلى في الفريقين، ولم يكن في اقتصاص الحديث بأسره فائدة، إلّا أنّ آخره كان قتل عبد الله بن حنظلة الغسيل، وخلق من أهل المدينة وصالحيهم، وانهزم الناس.

فأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال.

بايع أهل المدينة ليزيد بن معاوية على أنهم خول له

وجيء بيزيد بن وهب بن ربيعة - وهو من وجوه قريش - فقال له: « بايع! »

فقال: « أبايع على سنّة أبي بكر وعمر. »

قال: « اقتلوه! »

قال: « فإني أبايع. »

قال: « لا والله! لا أقيلك عثرتك. »

فقام مروان بن الحكم وكلّمه، لصهر كان بينهما، فأمر بمروان، فوجئت عنقه، ثم قال: « بايعوا على أنّكم خول ليزيد بن معاوية. » ثم أمر بقتل يزيد بن وهب.

هذا، وبلغ أهل مكّة ما جرى على أهل المدينة، وما ارتكب منهم. ففتّ ذلك في أعضادهم، وجاءهم منه أمر عظيم، وعرفوا أنّه نازل بهم.

ذكر اتفاق حسن اتفق لمسلم بن عقبة في مسيره إلى أهل المدينة وحيلة لأهل المدينة ما تمت

كان بعث أهل المدينة إلى كلّ ماء بينهم وبين أهل الشام، فصبّوا فيه زقّا من قطران، وعوّر، فأرسل الله عليهم السماء حتى لم يحتاجوا أن يستقوا بدلو، حتى وردوا المدينة.

موت مسلم بن عقبة ورمى الكعبة وإحراقها وابن الزبير محاصر فيها

واستخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع متوجّها إلى مكّة، يريد ابن الزبير. فلمّا كان ببعض الطريق هلك، وذلك في آخر المحرّم من سنة أربع وستّين.

ولمّا حضره الموت، دعا الحصين بن نمير السلولي، وقال له: « يا برذعة الحمار، والله، لولا أنّ أمير المؤمنين عهد إليّ - إن حدث بي حدث - أن أستخلفك لما ولّيتك، ولكن انظر وصيتي، وإيّاك والمخالفة! خذ عني أربعا: أسرع السير، وعجّل الوقائع، وعمّ الأخبار، ولا تمكّن قريشا من أذنك. » ومات.

وخرج الحصين بن نمير إلى مكّة، وقد بايع أهل مكّة ابن الزبير، وقدم عليه نجدة بن عامر مع الخوارج يمنعون البيت، فحاصرهم الحصين، وأخرج ابن الزبير إليهم أخاه المنذر بن الزبير. فلما اشتدّ القتال، دعوه إلى المبارزة، فخرج وقتل، وقتل معه عدّة من وجوه أصحاب ابن الزبير، ولم يزل القتال دائما بينهم طول صفر. ولمّا مضت ثلاثة أيّام من شهر ربيع الأوّل، نصبوا المجانيق على البيت، ورموه بالحجارة والنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:

خطّارة مثل الفنيق المزبد ** نرمي بها أعواد هذا المسجد

واحترقت الكعبة، وتصدّع منها ثلاثة أمكنة، واحترق ما كان فيها من خشب، وما عليها من كسوة.

وقد قيل: إنما احترقت، لأنّ أصحاب ابن الزبير كانوا يوقدون حولها، فطارت إليها شرره ليلة ريح، فاحترقت.

خلافة معاوية بن يزيد

ولم يزل الحصار والقتال واقعا على ابن الزبير - وهو يصابر - إلى أن ورد نعى يزيد بعد أربعة وستّين يوما من الحصار، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وستّين، ويقال: أربع وستّين، وكانت ولايته ثلاث سنين وكسرا، وبايع الناس معاوية بن يزيد بن معاوية بالشام، وبايعوا عبد الله بن الزبير بالحجاز.

ذكر سوء رأي ابن الزبير وضعف تدبيره ومخالفته من أشار عليه بالصواب حتى فاتته الخلافة

مكث أهل الشام مع الحصين بن نمير يقاتلون ابن الزبير، وليس عندهم خبر وقد ضيّقوا على ابن الزبير، فبلغ ابن الزبير موت يزيد، فصاح:

« إنّ طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل في ما دخل فيه الناس فليفعل، ومن كره فليلحق بالشام. »

فلم يسمع الناس منه.

فدعا ابن الزبير الحصين بن نمير، وقال: « ادن مني! »

فخرج أحدهما إلى الآخر، فطاوله الحديث، إلى أن دعى الذي أخبر ابن الزبير بالخبر، وكان ديّنا فاضلا، وبينه وبين الحصين صهر، فلما سمع الحصين كلامه، عرف صحة الخبر، فقال لابن الزبير: « إن يك هذا الرجل هلك، فأنت أحقّ من أرى بهذا الأمر، هلمّ فلنبايعك، على أن تخرج معي إلى الشام، فإنّ هذا الجند الذي معي، هم وجوه الناس، وفرسانهم، فو الله، لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل الحرّة. » فأبى ابن الزبير أن يخرج إلى الشام، وكان ذلك من جدّ مروان وإقباله، وإدبار ابن الزبير.

وكان من ردّ ابن الزبير على الحصين أن قال: « أنا أهدر تلك الدماء، حتى أقتل بكل رجل عشرة. » فأخذ الحصين يكلّمه سرّا، وهو يجيبه جهرا.

فقال الحصين بن نمير: « قبّح الله من يعدّك بعد هذا داهيا، أو أريبا. قد كنت أظنّ أنّ لك رأيا، ألا، أرانى أكلّمك سرّا وتكلّمنى جهرا، وأدعوك إلى الخلافة، وتوعدني بالقتل، وأبذل لك طاعة في من معي، وتهدّدهم بالهلاك. » ثم خرج من عنده، وصاح في الناس بالرحيل، وخرج إلى المدينة. وقدم ابن الزبير، فأرسل إليه: « أما خروجي إلى الشام، فلا يمكن، فإني أتبرّك بالبيت، ولكن بايعوا لي هناك، فإني بعد ذلك أو منكم، وأقدم عليكم. » فردّ عليه الحصين، وقال: « إن أنت لم تقدم بنفسك، وجدنا من نبايعه هناك. » وأقبل بأصحابه نحو المدينة. فاستقبله عليّ بن الحسين بن عليّ، ، فسلّم عليه، ولم يكد يلتفت إليه أحد، واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام، وذلّوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلّا أخذ بلجام دابّته، ونكّس عنها. فكانوا يجتمعون في عسكرهم، ولا يتفرّقون.

فاجتمعت إليهم بنو أميّة، وقالوا: « لا نبرح حتى تحملونا. » ففعلوا. فخرج بنو أميّة بنسائهم وعيالاتهم، ومضى ذلك الجيش، حتى دخل الشام.

ولم يلبث معاوية بن يزيد إلّا ثلاثة أشهر، حتى مات. ويقال: بل مكث أربعين يوما، وكان أقرّ عمّال أبيه.

خطبة ابن زياد بالبصرة بعد انتهاء موت يزيد بن معاوية إليها

وبلغ موت يزيد بن معاوية عبيد الله بن زياد بالبصرة، فصعد المنبر، وخطب الناس، وقال:

« يا أهل البصرة! قد علمتم قيامي بأمركم، وجبايتى الأموال، وتفرقتها، وانسبوني، فو الله، تجدوني مهاجرا إليكم، ووالدي ومولدي فيكم ودارى. ولقد ووليتكم، وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلّا سبعين ألفا، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألفا، وما كان ديوان عيالكم إلّا سبعين ألفا، وقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا ظنّة أخافه عليكم، إلّا وهو في سجنكم. وقد توفّى أمير المؤمنين يزيد، واختلف أهل الشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا، وأوسعهم بلادا. فاختاروا رجلا ترضونه [ و ] تجتمعون عليه، إلى أن يجتمع أهل الشام، فإن اختاروا من ترضونه دخلتم في ما دخلوا فيه، وإن كرهتم ذلك، كنتم على جديلتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغنى الناس عنكم. »

ذكر طمع عبيد الله في الخلافة وما احتال فيه

وكان عبيد الله قد أنفذ بالليل إلى شقيق بن ثور، ومالك بن مسمع وحصين بن المنذر، وفرّق فيهم مالا كثيرا. فلما خطبهم هذه الخطبة، قام هؤلاء، وهم رؤساء الناس، فقالوا: « ما لنا غيرك، ولا نعرف أحدا هو أقوى على هذا الأمر منك. » وبايعه هؤلاء، وبايعه الناس. فجعل الرجل إذا خرج من عنده، مسح يده على الحائط ويقول: « أظنّ ابن مرجانة أنّا نولّيه أمرنا في الفرقة، كما تولّاه إلى اليوم؟ »

فلم تمض بعبيد الله أيّام حتى جعل سلطانه يضعف. فكان يأمر بالأمر، فلا يمتثل، ويرتأى الرأي، فلا يقبل ويردّ عليه، ويأمر بحبس الظنين، فيحال بين أعوانه وبينه. فبينا هو كذلك، إذ ظهر رجل بالبصرة، يدعو إلى ابن الزبير، وكثر الناس معه. فبلغ ذلك عبيد الله، وأراد أخذه، فامتنع عليه، وكثف جمعه، وقعد الناس عن عبيد الله، وقال في خطبته:

« يا أهل البصرة، قد عرفتم بيعتي في أعناقكم، وحرصي على ضبط أموركم، وقد تقاعد عني من يريد فرقتكم، وأن يضرب بعضكم وجوه بعض آخر بالسيف. وو الله يا أهل البصرة، لقد لبسنا الخزّ واليمنة واللّيّن من الثياب، حتى لقد أجمته جلودنا، فما نبالى أن نلبس الحديد أيّاما. »

فما لبث أن رمى بجماع الناس، فقال لهم:

« أيّها الناس، إنّ هذا المال فيكم، فخذوا أعطياتكم، وأرزاق ذراريّكم. » وأمر الكتّاب بتحصيل الناس، وتخريج الأسماء، واستعجلهم حتى وكّل بهم من يحبسهم في ديوان، وأسرج لهم الشموع، فكانوا يأخذون المال، ويتقاعدون عنه، فكفّ عن إخراج المال، وكان في بيت مال البصرة يومئذ ألف ألف درهم، فنقل ما بقي منها إلى من أودعها عنده.

ودعا عبيد الله محاربة السلطان وأرادهم على القتال. فقال له أخوه عبد الله بن زياد: « قد علمت أنّ الحرب دول، فلعلّها تدول عليك، وقد اتخذنا أموالا بين أظهر هؤلاء القوم، فإن ظفروا بك أهلكونا، ثم أهلكوها، فلم تبق لك باقية. »

وقال له: « والله لئن قاتلت القوم لأعتمدنّ على ظبة سيفي حتى يخرج من صلبي. » فلما رأى عبيد الله ذلك، همّ بالهرب، فاحتال بالليل حتى فرّ مستخفيا إلى مسعود بن عمرو، وكان سيّد الأزد، حتى حصل في داره.

ذكر حيلته في ذلك

وجّه عبيد الله إلى الحارث بن قيس الأزدي، وذكّره بيد له عنده، وسأله أن يحمله إلى منزله، ويكتم أمره، حتى يجتمع الناس.

فقال له الحارث: « إنّ مسعود بن عمرو سيّد الأزد، وإن طلبك عندي لم أقدر على الامتناع منه، ولكن سأحتال لك من قبل امرأته، فإنّها بنت عمّه. »

فقال له ابن زياد: « فخذ معك مالا تطمعها فيه. »

قال: « هات. »

فحمل معه مائة ألف درهم، فخرج بها الحارث حتى أتى بها امرأة مسعود، ومعه عبيد الله، وعبد الله ابنا زياد، فاستأذن عليها، فأذنت له، ودخل. ثم قال لها الحارث: « قد أتيتك بأمر تسودين به نساءك، وتظهرين به فضل قومك، وتتعجّلين الغنى في دنياك، هذه مائة ألف دينار، خذيها وضمّى عبيد الله. »

فقالت: « أخاف ألّا يرضى مسعود. »

فقال الحارث: « ألبسيه ثوبا من ثيابه، وأدخليه بيتك، وخلّي بيننا وبين مسعود. »

فقبضت المال، وفعلت، ودخل الحارث على مسعود، وأخذ يحدّثه بحديث عبيد الله، فقال: « إنّه كان يتعوّد من طارق الشرّ، وإنّك من طوارق الشرّ. »

وقام حتى دخل على ابنة عمّه، وأخذ برأسها ليضربها، فخرج عبيد الله، وقال: « والله لقد أجارتنى ابنة عمّك عليك، وهذا ثوبك عليّ، وطعامك في مذاخرى، وقد التفّ عليّ بيتك. » وشهد له الحارث. ولم يزالا به حتى سكون ورضى.

ثم ركب مسعود من ليلة، ومعه الحارث، وجماعة من قومه، فطاف في الأزد ومجالسهم، وقال: « إن ابن زياد قد فقد، ولا نأمن اضطراب الناس، وأن يلطّخوكم به. » فقد كان أبوه زياد استجاربهم ومنعوه، فأصبحوا في السلاح، فلمّا أصبح الناس، وفقدوا ابن زياد، قالوا: « أين توجّه؟ » فقالت عجوز من بنى عقيل: « أين ترونه توجّه؟ اندحس، والله، في أجمة أبيه. » فقال الناس: « صدقت. ما هو إلّا في الأزد. » ثم اجتمع الناس على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وهو الذي يلقّب ببّة، على أن يقعد لهم، حتى يجتمع أمر الناس، فتولّى الأمر.

واضطرب الناس بالبصرة، ووقعت الفتنة بين الأزد وتميم، وتأدّى إلى الحرب، فبعث مسعود مع ابن زياد مائة من الأزد حتى خرجوا به إلى الشام.

ذكر ما حفظ على ابن زياد في طريقه من الآراء

قال عبيد الله ذات ليلة: « إنّه قد ثقل عليّ ركوب الإبل، فوطّئوا لي على ذي حافر. » قال: فألقيت له قطيفة على حمار، فركبه، وإنّ رجليه لتكاد أن تخدّان في الأرض.

قال بشّار بن شريح اليشكري: فإنّه يسير ويحدّثني، إذ سكت سكتة طويلة، فقلت: والله ما سكت إلّا لشيء في نفسه. فدنوت منه، فقلت: « أنائم أنت؟ » قال: « لا. » قلت: « فما أسكتك؟ » قال: « كنت أحدّث نفسي. » قال، قلت: « أفلا أحدّثك ما كنت تحدّث به نفسك؟ » قال: « هات، فو الله ما أراك تصيب، ولا تكيس. » قلت: « تقول: ليتني لم أكن قتلت حسينا. » قال: « وما ذا؟ » قلت: « تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت. » قال: « وما ذا؟ » قلت: « تقول: ليتني لم أكن بنيت البيضاء. » قال: « وما ذا؟ » قلت: « تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين على العرب. » قال: « وما ذا؟ » قلت: « تقول: ليتني كنت أسخى ممّا كنت. »

فقال لي: « والله، ما نطقت بصواب، ولا سكتّ عن خطأ:

أما الحسين، فإنّه سار إليّ يريد قتلي، فاخترت أن أقتله على أن يقتلني، وأما البيضاء، فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي، فأرسل يزيد بألف ألف درهم، فأنفقتها عليها، فإن بقيت فلأهلى، وإن هلكت لم آس على ما لم أغرم عليه، وأما استعمال الدهاقين، فإنّ ابن أبي بكرة وزاذانفروخ رفعا عليّ عند معاوية، حتى ذكرا قشور الأرزّ، وبلّغا خراج العراق مائة ألف ألف يضمنانها، فخيّرنى معاوية بين الضمان والعزل، فكرهت العزل، فكنت إذا استعملت العرب كسروا الخراج، وإن أقدمت على الرجل منهم أوغرت صدور عشيرته، وإن أغرمت قومه أضررت بهم، وإن تركته ضاع لي حقّ وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أعرف بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون على المطالبة منكم، مع أنّى قد جعلتكم أمناء عليهم، وأمّا قولك في السخاء، فما كان لي مال أجود به عليكم، ولو شئت لأخذت بعض مالكم، فخصصت به بعضكم دون بعض، فتقولون: ما أسخاه! ولكن عممتكم به، وكان عندي أنفع لكم، ولكني سأخبرك بما حدّثت به نفسي: قلت ليتني قاتلت أهل البصرة، فإنّهم بايعوني طائعين، وايم الله، إني حرصت على ذلك، ولكن إخوتى أتونى، وقالوا: إن قاتلتهم، وظهروا عليك، لم يبقّوا منّا أحدا، وإن تركتهم تغيّب الرجل منّا عند أخواله وأصهاره. فرقّ لهم قلبي. وكنت أقول: ليتني أخرجت أهل السجن، فضربت أعناقهم. وأما إذ فاتتنى هاتان الخصلتان، فليتني أقدم الشام ولم يبرموا أمرا. »

خلافة مروان بن الحكم

كان لا يريد الخلافة ولكن ابن زياد أطمعه فيها وقدم عبيد الله بن زياد الشام، وكان قدمها الحصين بن نمير ومن معه، وهمّ مروان بن الحكم أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه، واجتمع الناس على ذلك. فذهب عبيد الله حتى لقي مروان، وقال: « استحييت لك ممّا تريد، أنت كبير قريش وسيّدها تصنع ما تصنع؟ »

فقال: « ما فات شيء بعد. »

واجتمع إليه بنو أميّة ومواليهم، وتجمّع إليه أهل اليمن، وهو يقول: « ما فات شيء بعد. » كالمعتذر إليه.

المروانيون والزبيريون واحتجاجاتهم

وكان الضحّاك بن قيس بدمشق لمّا قدم عبيد الله بن زياد، وكان يهوى هوى ابن الزبير، والنعمان بن بشير بحمص يبايع لابن الزبير، وزفر بن الحارث بقنّسرين يبايع لابن الزبير.

وكان حسّان بن مالك بن بحدل الكلبي يرى الأمر لبني أمية، ويهوى هواهم، لأنّه كان خال خالد بن يزيد بن معاوية، فهو يحبّ أن يبايع له، وكان بالأردن، فجمع الناس وخطبهم، وقال: « أيها الناس، ما شهادتكم على ابن الزبير، وعلى قتلى أهل الحرّة؟ »

قالوا: « نشهد أنّ ابن الزبير منافق، وأنّ قتلى أهل الحرّة في النار. »

قال: « فما شهادتكم على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرّة؟ »

قالوا: « نشهد أنّ يزيد مؤمن، وأنّ قتلانا في الجنّة. »

قال: « وأنا أشهد - لئن كان دين يزيد بن معاوية حقا يومئذ - إنّه اليوم وشيعته على حقّ، وإن كان ابن الزبير يومئذ وشيعته على باطل، إنّه اليوم وشيعته على باطل. »

قالوا: « صدقت، نحن نبايعك ونقاتل معك من خالفك على أن تجنّبنا عبد الله وخالدا ابني يزيد، فإنّهما غلامان، ونكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبيّ. »

فكتب حسّان بن مالك إلى الضحّاك بن قيس: « إنّك تبايع ابن الزبير، وقد عرفت حقوق بني أمية عليك. »

وعظم عليه الفرقة، ودعاه إلى الجماعة. وكتب جماعة بني أمية بمثل ذلك.

فأبى الضحّاك بن قيس، ومن يرى رأيه.

واجتمعت بنو أميّة ومن يرى رأيهم، فبايعوا مروان لسنّه، وذلك في المحرّم سنة خمس وستين.

وكان مروان لا يحدّث نفسه بذلك، ولا يحلم به، حتى قدم عليه عبيد الله بن زياد من البصرة، فأطمعه، واتّفق ما حكيناه من أمر حسّان، وجواب أهل الشام له.

وكان الحصين بن نمير لقي مروان، فشرط عليه شروطا أجابه مروان إليها، فكان يهوى هواه. فلقى مالك بن هبيرة الحصين بن المنذر، وقال له: « هلمّ نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا كانت من أبيه وهو غدا يحملنا على رقاب العرب. » يعنى خالد بن يزيد.

فقال حصين: « لا، لعمري ما تأتينا العرب بشيخ فنأتيهم بصبيّ. »

فقال مالك: « هذا، ولمّا نرد تهامة، ولمّا يبلغ الحزام الطّبيين. »

فقال الحصين: « مهلا يا با سليمان! »

فقال له مالك: « اسمع كلامي، والله لئن استخلفت مروان وآل مروان، ليحسدنّك على سوطك، وشراك نعلك، وظلّ شجرة تستظلّ بها. إنّ مروان أبو عشرة، وأخو عشرة، وعمّ عشرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم خالد. »

فأبى الناس إلّا شيخا، فاجتمعوا على مروان، وقالوا: « مروان خليفتنا، على أن يكون الأمر بعده لخالد بن يزيد. » فلما اجتمع رأى الناس رضى حسّان بن بحدل أيضا، وتمّ الأمر لمروان، وسار إلى الضحّاك، والتقيا بمرج راهط، فاقتتلا قتالا عظيما، وقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قطّ، وقتل الضحّاك.

وخرج نعمان بن بشير، لمّا بلغه مقتل الضحّاك، هاربا من حمص ليلا، ومعه امرأته وثقله، فتحيّر ليلته كلّها، وطلبه قوم، فظفر به، وحزّ رأسه، وجيء به إلى مروان.

وأطبق أهل الشام على مروان واستوسقوا له، فجاء إلى مصر، وعليها عبد الرحمن بن جحدر القرشيّ، يدعو إلى ابن الزبير، فقاتله فقتله، وآمن الناس، وبايعه أهلها، فرجع إلى دمشق.

أسماء كتاب يزيد ووزرائه

كتب ليزيد عبيد الله بن أوس الغسّانى كاتب معاوية. وكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور، وهو الذي أشار عليه، لمّا بلغه مسير الحسين إلى الكوفة بأن يولّى عبيد الله بن زياد، وقد مرّ ذكره، وكتب إليه عن يزيد:

« أما بعد، فإنّ المحبوب مسبوب يوما ما، والمسبوب محبوب يوما ما، وقد انتميت إلى منصب كما قال الأوّل:

رفعت فجاوزت السحاب وفوقه ** فما لك إلّا مرقب الشمس مرقب

وقد ابتلى بالحسين زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان. وبليت به من بين العمّال، فإمّا أن تعتق، أو تعود عبدا، والسلام. » وقلّد سلمة بن حريد الأزدي من كتّاب فلسطين الخراج بمصر، وكان يكتب لعبد الله بن الزبير، يقوم بجميع أموره، إلى أن قتل. واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، وفيهم عبد الله بن صفوان بن أميّة بن خلف.

وأمّا عبيد الله بن زياد، فكتب له مهران الترجمان، وقام بأمره كلّه، ولم يزل معه إلى أن مات يزيد، فأخرجه أهل البصرة من بلادهم.

وقلّد يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، وكان يكتب له اصطفانوس، فأقام بها، إلى أن ظهر ابن الزبير، وتوفّى يزيد. فاستخلف سلم على خراسان عبد الله بن خازم، وانصرف في سنة أربع وستين، وتباطأ في مسيره ليعلم على ما تستقرّ الأمور، فورد البصرة في سنة خمس وستين.

فدعا سلم يوما بإصطفانوس، وسلّم اثنى عشر ألف ألف دينار، وقال له:

« احتفظ به، فما فيه قيمة درهم ظلم فيه مسلم ولا معاهد. » فقال اصطفانوس بالفارسيّة:

« فمن أين هذا كلّه! » فقال:

« من هدايا العمّال وأهل الكور والدهّاقين. » وكان أهل خراسان أحبّوا سلما محبة ما أحبّوها واليا قطّ، وسمّى باسمه أيّام ولايته، أكثر من عشرين ألف مولود، ثم ثاروا به حين بلغهم موت يزيد حتى استخلف عليهم، وخرج، وهلك مروان بن الحكم بعد تسعة أشهر من ولايته، وجعل وليّ عهده ابنه عبد الملك، وبعده سليمان، وكان سبب هلاكه أنّ الناس أشاروا عليه أن يتزوّج أمّ خالد بن يزيد ليغضّ منه، لأنّ الناس كانوا يتشوّفونه، وينتظرون بلوغه.

ذكر حيلة مروان بن الحكم التي عادت بهلاكه

فتزوّج مروان أمّ خالد، فدخل يوما على مروان وعنده جماعة كثيرة، فمشى بين الصفّين، فالتفت مروان إلى من حوله، فقال:

« إنه ما علمت لأحمق، تعالى يا بن الرطبة الاست. » يقصّر به ليسقطه من عين الناس.

فرجع إلى أمّه، وبكى بين يديها، وقال:

« خاطبني بحضرة الناس بكذا. » فقالت له أمّه:

« لا تعرّفنّ أحدا، ولا يعرفنّ هو منك، واسكت فإني أكفيكه. » فدخل عليها مروان، وقال لها:

« هل قال لك خالد فيّ شيئا؟ » فأنكرته، وبسطت له وجهها، وقالت:

« وأيّ شيء يقول خالد فيك؟ » ثم مكثت أيّاما حتى أنس مروان، فنام عندها، فغطّته بوسادة وأمسكتها عليه حتى مات.

أيام عبد الملك بن مروان

وكان مروان قبل هلاكه بعث بعثين: أحدهما إلى المدينة، عليهم حبيش بن دلجة، والآخر إلى العراق، عليهم عبيد الله بن زياد.

فأما عبيد الله، فسار حتى نزل الجزيرة، وأتاه الخبر بها بموت مروان، وخرج إليه الشيعة من الكوفة، وهم الذين تسمّوا بالتوّابين، يطلبون بدم الحسين بن عليّ، وسنذكر من أخبار التوّابين وأخبار أهل المدينة، ما يليق ذكره بهذا الكتاب.

خبر التوابين

فأما خبر التوابين، فإنّه لما قتل الحسين بن عليّ، عليهما السلام، اجتمعت الشيعة بالكوفة، ولام بعضها بعضا، ورأوا أنّهم جنوا جناية عظيمة باستدعائهم الحسين إلى الكوفة، ثم تقاعدهم عنه، إلى أن جرى عليه ما جرى، وأنه لا يغسل عنهم هذا العار، ولا يمحو عنهم هذا الإثم، إلّا الخروج والتوبة إلى الله، والطلب بدمه، إلى أن يقتلوا قاتليه أو يقتلوا قبل ذلك.

فاجتمع الكلّ إلى خمسة من الرؤساء، وهم: سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن وال التميميّ، ورفاعة بن شدّاد البجليّ.

ثم اجتمع هؤلاء الخمسة على سليمان بن صرد، وكانت له صحبة من النبي، ، فرأسوه، وقالوا:

« لا بدّ من رئيس واحد تكون له راية يحفّ بها، ورأى يصدر عنه. » فرضوا بسليمان بن صرد، وخطبهم سليمان خطبة طويلة، قال في آخرها:

« كونوا كتوّابى بني إسرائيل، إذ قال لهم نبيهم: إنكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم. وإني أرى أنّ الله قد سخط عليكم مما أتيتموه في أمر ابن نبيكم، فلا يرضيه شيء أو تبيروا قتلة الحسين، فلا تهابوا الموت، فو الله ما هابه أحد إلّا ذلّ. » وتكلّم كلاما كثيرا يشبه هذا. فقال خالد بن سعد:

« أمّا أنا، فو الله، لو أعلم أنّ قتلى نفسي يخرجني من ذنبي، ويرضى عني ربّى، لقتلتها، ولكن هذا الذي ذكرته من قتل الأنفس إنما أمر به قوم، فأشهد الله ومن حضر، أنّ كلّ مال أملكه، سوى سلاحي الذي أقاتل به، صدقة على المسلمين، أقوّيهم به على قتال القاسطين. » وقام جماعة، فتكلّموا بمثل ذلك.

فقال سليمان:

« حسبكم، من أراد من هذا شيئا، فليأت بماله عبد الله بن وال التيمي، فإذا اجتمع عنده ما يكفى جهّزنا به ذوي الخلّة من أشياعكم. » وكتب سليمان بن صرد إلى المدائن، وبها جماعة من الشيعة، ورأسهم سعد بن حذيفة بن اليمان، بما اجتمع عليه رأى القوم من إخوانهم، وذكّر بمقتل حجر وأصحابه، وبما يقاسيه الشيعة من الذلّ، وحضّهم على التوبة، واستقدمهم.

فلما قرأ سعد بن حذيفة الكتاب على الشيعة الذين كانوا بالمدائن، أجابوه بالسمع والطاعة. فأجاب سليمان بن صرد، بما وجد عند الشيعة من الحرص، وأنهم جادّون ينتظرون الداعي، فإذا جاء الصريخ أقبلنا ولم نعرّج، إن شاء الله.

وكتب سليمان إلى أهل البصرة، وإلى من يتشيع بها بمثل ذلك، فجاءه الجواب بمثل ما أجابه أهل المدائن.

ولم يزل الناس في الاستعداد إلى أن هلك يزيد، وقام بالأمر مروان، ومدة ذلك ثلاث سنين وشهران.

وهلك يزيد، وأمير العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث، واجتمعت الشيعة إلى سليمان بن صرد، وقالوا:

« قد مات هذا الطاغية، وهم اليوم مضطربون مشغولون، فقم بنا نثب على عمرو بن الحريث، ثم نظهر الطلب بدم الحسين، ونتتبع قتلته فنقتلهم، وندعو الناس إلى أهل البيت المدفوعين عن حقوقهم. »

ذكر رأي سليمان بن صرد في ذلك

فلمّا أكثر الناس، وأطالوا عليه، قال لهم سليمان:

« رويدا، لا تعجلوا، إني قد نظرت في ما تذكرون، فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة، وفرسان العرب، وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون علموا أنهم المطلوبون فكانوا أشدّ شيء عليكم. وقد نظرت في من معي منكم، فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا نفوسهم، ولم ينكأوا في عدوّهم، وكانوا لهم جزرا، ولكن بثّوا دعاتكم، فإني أرجو أن يكون الناس أسرع استجابة حيث هلك هذا الطاغية. »

قدوم المختار وما زعم

ففعلوا، وخرجت منهم دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك. فلما كان بعد ذلك، قدم المختار بن أبي عبيد، فزعم أنه من قبل المهديّ محمد بن الحنفيّة يدعوهم إلى الطلب بدم الحسين. فكانت الشيعة قد انقادت لسليمان بن صرد. فكان المختار، إذا خاطب الشيعة، ودعاهم إلى نفسه، قالوا:

« هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة. » فيقول المختار:

« هذا ليس لكم بصاحب، إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه، ويقتلكم. ليس له بصر بالحرب، ولا علم بها. » فلا يقبل منه.

قدوم عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد من قبل ابن الزبير

وقدم الكوفة عبد الله بن يزيد أميرا على حربها وثغرها، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله، أميرا على خراج الكوفة.

فبلغهما أنّ الشيعة خارجة، وأنهم طائفتان: طائفة كثيرة مع سليمان بن صرد، وطائفة يسيرة مع المختار، وأشير على عبد الله بن يزيد أن يجمع الشرطة والمقاتلة ووجوه الناس وينهض إليهم، وقيل له:

« إذا صرت إلى منزله، دعوته، فإن أجابك حبسته، وإن قاتلك، قاتلته وقد جمعت له وعبّأت وهو مغترّ. » وقيل له:

« إن لم تفعل بذاك، خرج عليك، وقد اشتدّت شوكته، وتفاقم أمره. »

ذكر رأي عبد الله بن يزيد

فنظر عبد الله بن يزيد، فإذا القوم يطلبون غيره بدم الحسين، فكره أن يستحضّهم. فقال لمن أشار عليه بما حكيناه:

« حدّثونى ما يريدون » قال:

« يذكرون أنهم يطلبون بدم الحسين. » فقال:

« أنا قتلت الحسين؟ لعن الله قاتل الحسين. »

وقال:

« الله بيننا وبين هؤلاء القوم، إن تركونا لم نطلبهم. » ثم خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« فقد بلغني أنّ طائفة من أهل هذا المصر، أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن السبب الذي دعاهم إلى ذلك ما هو؟ فقيل لي: إنّهم يطلبون بدم الحسين بن عليّ. فرحم الله هؤلاء القوم، قد - والله - دللت على أماكنهم، وأمرت بأخذهم، وقيل لي: ابدأ بهم، قبل أن يبدءوك، فأبيت ذلك، وقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركونى لم أطلبهم. وعلام يقاتلوننى؟ فو الله ما أنا قتلت حسينا، ولا أنا ممّن قاتله. ولقد أصبت بمقتله، رضي الله عنه. هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا، ولينتشروا ظاهرين، ثم ليسيروا إلى قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، وأنا ظهير لهم.

هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل أخياركم، وأماثلكم، قد توجّه إليكم عهد العاهد به، على مسيرة ليلة من منبج، فقتاله والاستعداد له أجزى وأرشد من أن يجعلوا بأسكم بينكم، فيسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم العدوّ غدا وقد رققتم، وتلك أمنيّة عدوّكم، فإنّه قد أقبل إليكم. أعدى خلق الله لكم من ولى عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، ومن قتل من تبغون دمه قد جاءكم، فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم، واجعلوها به، ولا تجعلوها بأنفسكم، فإني لم آلكم نصحا، جمع الله كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا. » فخرج أصحاب سليمان بن صرد ظاهرين، يشترون السلاح، ويتجهّزون بما يصلحهم.

وأما النفر الذين مع المختار، فإنهم سكتوا، لأنّ المختار كان يريد ألّا يهيج أمرا حتى ينظر: إلى ما يصير أمر سليمان بن صرد. ورجا أن تستجمع له الشيعة، فيكون أقوى على درك ما يطلب.

اجتماع الأمر لسليمان بن صرد

واجتمع لسليمان أمره في سنة خمس وستين، وكان قد واعد أصحابه، وكاتب أهل المدائن وغيرهم لغرّة شهر ربيع الأوّل، فخرج في تلك الليلة إلى المعسكر بالنخيلة، ودار في الناس ووجوه أصحابه، فلم تعجبه عدّة الناس. فبعث حكيم بن منقذ في خيل، وبعث الوليد بن حصين في خيل، وقال:

« اذهبا حتى تدخلا الكوفة، فناديا: يا لثارات الحسين! وابلغا المسجد الأعظم، فناديا بذلك. » فخرجا، فكأنّ خلق الله دعوا: يا لثارات الحسين. وكثر المستجيبون، وكثر البكاء والنحيب. وكان الرجل إذا سمع هذا النداء، فارق أهله وولده، وتركهم يبكون، ووثب إلى سلاحه وودّعهم، ثم خرج.

قال:

فلم يصبح حتى جاءه نحو ممن كان في عسكره حين دخله، ثم دعا بديوانه حين أصبح، فوجد من جاء أربعة آلاف رجل من جملة ستّة عشر ألفا كانوا بايعوه، فقال:

« سبحان الله! أما هؤلاء بمؤمنين؟ أما يخافون الله؟ أما يذكرون ما أعطوا من العهود والمواثيق؟ » وجعل يبعث ثقاته إلى من تخلّف عنه يذكّرهم الله. فخرج إليه نحو من ألف رجل. فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

« أيها الناس، إنه ما ينفعنا المكره، وإنما ينفعنا ذو النيّة. فمن كان يريد حرث الدنيا، فو الله ما يأتى فيئا، ولا غنيمة، ما خلا رضوان الله، وما معنا ذهب ولا فضّة، ولا خزّ، ولا حرير، وما هو إلّا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفّنا، وزاد قدر البلغة إلى لقاء عدوّنا، فمن كان ينوي غير هذا، فلا يصحبنا. » فأجابه الناس:

« إنما خرجنا للَّه، وللتوبة إليه من ذنبنا، والطلب بدم ابن بنت رسول الله، وإنما نقدم على حدّ السيوف، وأطراف الرماح. »

ذكر آراء أشير على سليمان ورأى رءاه وحده

أما أكثر الناس، فأشاروا على سليمان أن يقصدوا الكوفة، وقالوا:

« إنّا خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلة الحسين كلّهم بالكوفة: عمر بن سعد بن أبي وقّاص، ورؤوس الأرباع، وأشراف القبائل، فأين نذهب وندع الأوتاد. والله، ما نلقى، إن مضينا نحو الشام، وهذه الخيل التي أقبلت، إلّا عبيد الله وحده ممن نطلبه، ووراءكم ألدّهم بالكوفة، مثل عبيد الله. » فقال سليمان بن صرد:

« والله، لقد جئتم برأى، فهلمّوا أيها الناس بجميع ما عندكم. » فلمّا سمع هذا وأمثاله، قال:

« لكن أنا لا أرى لكم ذلك. »

ذكر الرأي الذي رءاه سليمان

قال:

« إنّ الذي قتل صاحبكم هو الذي عبّى إليه الجنود فألزم الناس المسير إليه كارهين، وهدّدهم. » ثم قال:

« لا أمان له عندي دون أن يستسلم، فأمضى فيه حكمي، هذا الفاسق، ابن الفاسق، ابن مرجانة، عبيد الله بن زياد. فإن يظهر الله عليه كان من بعده أهون شوكة، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم، فينظرون من شرك في دم الحسين، فيقتلونه، وإن قاتلتم الآن أهل مصركم، ما عدم الرجل أن يرى رجلا غدا وقد قتل أخاه، أو أباه، أو حميمه، أو رجلا لم يكن يريد قتله، فيكثر أعداؤكم، فاستخيروا الله وسيروا. » فتهيّأ الناس للخروج.

ذكر رأي آخر رءاه أمير الكوفة عبد الله بن يزيد

لمّا بلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة أنّ سليمان خارج بأصحابه نحو عبيد الله بن زياد، رأيا أن يأتياهم، فيعرضا عليهم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدة، فإن أبوا إلّا الشخوص، سألوهم النظر حتى يجهّزوا معهم جيشا، فيقاتلوا عدوّهم بكتف وحدّ.

فراسلا سليمان بن صرد وقالا:

« إنّا نريد أن نجيئك لأمر عسى الله أن يجعل لنا ولك فيه صلاحا. » فقال سليمان للرسول:

« قل لهما، فليأتيانا. » وأحسن سليمان تعبئة الناس، وجاء عبد الله بن يزيد، في أشراف أهل الكوفة، وجاء إبراهيم في جماعة من أصحابه. وكان عبد الله بن يزيد قال لكلّ رجل معروف علم أنّه شرك في دم الحسين: لا تصحبنى، مخافة أن ينظروا إليه، فيعدوا عليه.

وكان عمرو بن سعد طول تلك الأيام التي كان سليمان فيها معسكرا بالنخيلة، لا يبيت إلّا في قصر الإمارة مع عبد الله بن يزيد مخافة أن يأتيه القوم وهو غافل، فيقتل.

ولما دخل عبد الله بن يزيد إلى سليمان، حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

« إنّ المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يغشّه، وأنتم أهل مصرنا، وأحبّ الناس إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، ولا تستبدّوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عددنا بخروجكم، وأقيموا معنا حتى نتيسّر ونتهيّأ، فإذا علمتم أنّ عدوّنا قد شارف بلادنا خرجنا إليهم بجماعتنا، فقاتلناهم. » وتكلّم إبراهيم بنحو من هذا.

فتكلّم سليمان، وحمد الله، وأثنى عليه، وقال:

« قد علمت أنّكما قد محضتمانى النصيحة، واجتهدتما في المشورة، ونحن فقد خرجنا على نيّة، ولن ننقضها، ونسأل الله العزيمة، والتشديد. » فقالا:

« فأقيموا حتى نجهّز معكم جيشا كثيفا، فتلقوا عدوّكم بكتف وجمع وحدّ. » فقال سليمان:

« تنصرفون ونرى رأينا. » فعرضا عليه الصبر عليهما، حتى يجعلا له ولأصحابه خراج جوخى دون الناس.

فأبى سليمان وقال:

« ما خرجنا للدنيا. » وإنما فعلا ذلك، لما داخلهم من إقبال عبيد الله بن زياد نحو العراق.

وأبطأ على سليمان أصحابه من أهل البصرة والمدائن، فخرج من عسكره بالنخيلة، ومرّ نحو الأقساس، وتخلّف عنه ناس كثير.

فقال سليمان:

« لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، لأنّ الله كره انبعاثهم، فثبّطهم. » ثم خرج حتى صبّح قبر الحسين. فلما انتهى الناس إليه، صاحوا صيحة واحدة، وبكوا. فما روى يوم كان أكثر باكيا منه، وجعلوا يدعون الله، ويسألونه أن يتوب عليهم، وأحسن الناس بالمنطق، وزادهم ذلك بصيرة، وشحذ رأيهم، ووطّنوا أنفسهم على الجهاد، وحبّ الشهادة.

كتاب عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد وما كان من جوابه

ثم ساروا، فلحقهم كتاب من عبد الله بن يزيد، وهم بالقيّارة، مع المحلّ بن خليفة الطائيّ.

قال المحلّ:

فلقيته، وأبلغته السلام والكتاب، فاستقدم أصحابه حتى ظنّ أن قد سبقهم.

فوقف، وأشار إلى الناس، فوقفوا، ثم قرأ الكتاب، فإذا فيه:

« بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد ومن معه من المسلمين. سلام عليكم، أما بعد، فإنّ كتابي هذا كتاب ناصح، وكم من ناصح مستغشّ، ومن غاشّ مستنصح. إنّه قد بلغني أن قد أقبل من الشام، جموع عظيمة، وأنتم تريدون أن تلقوهم بالعدد اليسير، وإنّه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها، تكلّ معاوله، وينزع، وهو مذموم الفعل والعقل. يا قومنا، لا تطمعوا عدوّكم في أهل بلادكم، فأنتم خيار كلّكم، ومتى يصبكم عدوّكم، أطمعهم ذلك في من وراءكم من أهل مصركم. يا قومنا، إنّهم إن يظهروا عليكم، يرجموكم، ويعيدوكم في ملّتهم، ولن تفلحوا إذا أبدا، يا قومنا، إنّ أيدينا وأيديكم واحدة وعدوّنا وعدوّكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على عدوّنا، ومتى تختلف تهن شوكتنا. يا قومنا، لا تستغشّوا نصحى، ولا تخالفوا أمري، وأقبلوا حين يقرأ عليكم كتابي، أقبل الله بكم إلى طاعته، والسلام. » فلما قرأ الكتاب، قال ابن صرد للناس:

« ما ذا ترون؟ » قالوا:

« ما ذا نرى؟ قد أبينا هذا عليهم، ونحن في مصرنا، وأهلنا، والآن حين خرجنا، ووطّأنا أنفسنا على الجهاد، نفتأ عزيمتنا؟ ما هذا برأى. » ثم نادوه:

« أخبرنا برأيك! » قال:

« رأيي أن لا ننصرف عمّا جمعنا الله عليه، لأنّا وهؤلاء مختلفون، لأنّهم لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع ابن الزبير، ونحن لا نرى الجهاد مع ابن الزبير إلّا ضلالا، وإن ظهرنا رددنا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا، فعلى نيّتنا، تائبين من ذنوبنا.

لأنّ لنا شكلا، ولابن الزبير شكلا. » فانصرف الناس معه حتى نزلوا هيت.

وكتب سليمان جواب الكتاب، ولا طفه، وأثنى عليه، واعتذر إليه، بأنّهم تائبون خرجوا على نيّة الجهاد، وتوجّهوا لأمر لا ينقضونه. فلما أتى هذا الكتاب إلى عبد الله بن يزيد، قال:

« استمات القوم. أوّل كتاب يرد عليكم يكون بقتلهم. »

بين سليمان بن صرد وزفر بن الحارث في قرقيسيا

وسار القوم إلى قرقيسيا، وبها زفر بن الحارث بن كلاب، قد تحصّن بها من القوم، ولم يخرج إليهم. فبعث سليمان إلى المسيّب بن نجبة، فقال له:

« ايت ابن عمّك هذا، فقل له: فليخرج لنا سوقا، فإنّا لسنا إيّاه نريد، إنّما صمدنا لهؤلاء المحلّين. » فانتهى المسيّب إلى الحصن، وانتسب، واستأذن. فقيل:

« هذا رجل حسن الهيئة يستأذن عليك، ويزعم أنه المسيّب بن نجبة. » فقال زفر بن الحارث:

« هذا فارس مضر، وهو بعد رجل ناسك له دين، فأذنوا له. » وجاء، فأجلسه إلى جانبه، وسائله، وألطفه في المسألة.

ثم خاطبه المسيّب، وقال:

« ممّ تحصّن، إنه والله، ما إياكم نريد، وما قصدنا إلّا هؤلاء الظلمة المحلّين، فأخرج لنا سوقا، فإنّا لا نقيم بساحتك إلّا يوما أو بعض يوم. » فقال له زفر بن الحارث:

« إنّا لم نغلق أبواب المدينة إلّا لنعلم: إيّانا اعتريتم، أم غيرنا. وما نعجز عن الناس ما لم تدهمنا حيلة، وما نحبّ أنّا بلينا بقتالكم، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة حسنة جميلة. » ثم دعا ابنه، وأمر أن يضع لهم سوقا جامعة، وأمر للمسيّب بفرس وألف درهم.

فقال المسيّب:

« أمّا المال، فلا حاجة لي فيه، ولا له خرجنا، وأما الفرس، فإني أقبله، فلعلّى أحتاج إليه إن غمز فرسي تحتي. » وخرج حتى أتى أصحابه، وأخرجت لهم السوق، وبعث إلى المسيّب بعشرين جزورا، وإلى سليمان بن صرد مثل ذلك. وكان سأل عن وجوه العسكر، فأخرج إلى كلّ واحد منهم بعشر جزائر وعلف كثير، وطعام واسع، وأخرج إلى العسكر عيرا عظيمة، وشعيرا كثيرا.

وقال غلمان زفر للناس:

« هذه عير، فاجتزروا منها ما أحببتم، وهذا شعير، فاحتملوا ما أردتم، وهذا دقيق، فتزوّدوا ما أطقتم. » فأخصب القوم، ولم يحتاجوا إلى كثير شيء من السوق التي أخرجت لهم.

وبعث إليهم زفر بن الحارث:

« إني خارج إليكم، ومشيّعكم، ومشير عليكم برأى عندي، والله موفّقكم. »

ذكر رأي أشار به زفر بن الحارث على سليمان بن صرد وأصحابه

ثم إنّ زفر خرج إليهم من الغد، وقد خرجوا على تعبئة، فسايرهم، وقال لسليمان:

« إنّه قد بعث بخمسة من الأمراء، وقد فصلوا من الرقّة الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن المخارق الغنوي، وحملة بن عبد الله الخثعمي، وقد جاءوكم مثل الشوك والشجر، أتاكم والله عدد كثير، وحدّ حديد، وأيم الله، لقلّ ما رأيت رجالا أحسن هيئة ولا عدّة، ولا أخلق بكل خير، من رجال أراهم معكم، ولكنّه قد بلغني أنّه قد أقبلت إليكم عدّة لا تحصى. » قال ابن صرد:

« عَلَى الله تَوَكَّلْنا، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. » فقال لهم زفر:

« فهل لكم في أمر أعرضه عليكم؟ لعلّ الله يجعل لنا ولكم فيه خيرا. »

قال سليمان:

« وما هو؟ » قال: « نفتح لكم مدينتنا، فتدخلونها، فيكون أمرنا واحدا، وأيديكم مع أيدينا. » فقالوا:

« لا نفعل ذلك. » قال زفر:

« فتنزلون على باب مدينتنا، ونخرج، ونعسكر إلى جانبكم، فإذا جاءنا هذا العدّو قاتلناه جميعا. » فقال سليمان لزفر:

« قد أرادنا أهل مدينتنا على مثل ما ذكرت، ثم كتبوا إلينا به بعد ما فصلنا، فلم نفعل. » قال زفر:

« فلو ضممتم رأينا إلى رأيهم، وأقمتم معنا، وكاتبتم أهل مصركم، فبادروا إليكم بما عرضوا عليكم لرجونا أن يصل إلينا عدوّنا ونحن مجتمعون بحدّ واحد، وشوكة واحدة، فكانت الدبرة عليهم. » فقالوا:

« فإنّا لا نفعل. » فقال زفر:

« فانظروا الآن ما أشير به عليكم، فاقبلوه، وخذوا به، فإني عدوّ القوم، وأحبّ أن يجعل الله الدائرة على القوم، وأنا لكم وادّ، أحبّ أن يحوطكم الله بالعافية. إنّ القوم قد فصلوا من الرقّة، فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم، وما بين مدينتنا وبينكم فأنتم له آمنون. والله، لو أنّ خيولي كرجالى، لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة، فإنّ القوم يسيرون سير العساكر، وأنتم على خيول، والله، لقلّ ما رأيت جماعة خيل أكرم منها. تأهّبوا إليها من يومكم هذا، فإني أرجو أن تسبقوهم إليها، وإن بدرتموهم إلى عين الوردة، فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم، وتطاعنونهم، فإنّهم أكثر منكم، فلا آمن أن يحيطوا بكم، ولا تقفوا لهم ترامونهم، وتطاعنونهم، فإنّه ليس لكم مثل عددهم، وإن استهدفتم لهم لم يلبّثوكم أن يصرعوكم، ولا تصفّوا لهم حين يلقونكم. فإني لا أرى معكم رجالا، ولا أرى جميعكم إلّا فرسانا، والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان تحمى رجالها، والرجال تحمى فرسانها، وأنتم لا رجال لكم تحمى فرسانكم. فالقوهم في المقانب والكتائب. ثم بثّوها في ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كلّ كتيبة كتيبة إلى جانبها، فإن حمل على إحدى الكتيبتين، ترجّلت الأخرى، فنفّست عنها الخيل والرجال، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى ما شاءت كتيبة سفلت، ولو كنتم في صفّ واحد، فزحفت إليكم الرجال، فدفعتم عن الصفّ انتقض، فكانت الهزيمة. » ثم وقف، فودّعهم، فأثنى الناس عليه، ودعوا له، وقالوا له خيرا.

وقال له سليمان:

« نعم المنزول به أنت، أكرمت النزل، وأحسنت الضيافة، ونصحت في المشورة. »

موقعة عين الوردة

ثم إنّ القوم جدّوا في السير، فجعلوا كلّ مرحلتين مرحلة، حتى انتهوا إلى عين الوردة، وسبقوا القوم إليها، ونزلوا في غربيّها، فأقاموا خمسا لا يبرحون، فاستراحوا فأراحوا خيلهم، ثم خطبهم سليمان، فأطال خطبته، وذكر الدنيا، فزهّد فيها، والآخرة فرغّب فيها، ثم قال:

« أمّا بعد، فقد أتاكم الله بعدوّكم الذي دأبتم له في السير آناء الليل والنهار، تريدون في ما تظهرون التوبة النصوح، ولقاء الله معذرين. فقد جاءوكم، بل أنتم جئتموهم في دارهم وحيّزهم، فإذا لقيتموهم، فاصدقوهم، واصبروا، ولا يولّينّهم أحد دبره إلّا متحرّفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة، ولا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيرا إلّا أن يكون من قتلة إخواننا بالطّفّ، فإنّ هذه كانت سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة. » ثم قال سليمان:

« إن قتلت، فأمير الناس المسيّب بن نجبة، فإن أصيب، فأمير الناس عبد الله بن سعد بن نفيل، فإنّ أصيب، فأمير الناس عبد الله بن وال، فإن أصيب، فأميرهم رفاعة بن شدّاد. ثم بعث المسيّب بن نجبة في أربعمائة فارس، وقال له:

« سر حتى تلقى أول عسكر من عساكرهم، فشنّ فيهم الغارة، فإن رأيت ما تحبّ، وإلّا فانصرف إليّ، وإيّاك أن تنزل، أو ينزل أحد من أصحابك. » فمضى المسيّب، حتى لقي رجلا أعرابيا يسوق أحمرة. فقال:

« عليّ بالرجل. » فأتى به، فقال:

« كم بيننا وبين أدنى هؤلاء القوم؟ » قال:

« أدنى عسكرهم إليك عسكر ابن ذي الكلاع، وبينه وبين الحصين بن نمير اختلاف. ادّعى حصين أنه على جماعة الناس، وقال ابن ذي الكلاع: ما كنت لتولّى عليّ. وقد تكاتبا في ذلك إلى عبيد الله، [ فهما ينتظران أمره ] فهذا عسكر ابن ذي الكلاع على رأس ميل. » قال:

فتركنا الأعرابيّ، ومضينا مسرعين، فو الله ما شعروا بشيء حتى أشرفنا عليهم وهم غارّون فحملنا إلى جانب عسكرهم، فو الله، ما ثبتوا وانهزموا، وخلّوا لنا معسكرهم، فقتلنا منهم، وجرحنا، وأخذنا من المعسكر ما خفّ علينا، وصاح المسيّب فينا:

« الرجعة، الرجعة، إنكم قد نصرتم وغنمتم وسلمتم، فانصرفوا. » فانصرفنا إلى سليمان.

عبيد الله بن زياد يسرح الحصين بن نمير لدفع سليمان

وأتى الخبر عبيد الله، فسرّح إلينا الحصين بن نمير مسرعا، حتى نزل في اثنى عشر ألفا، فخرجنا إليه وقد عبّى سليمان ميمنته وميسرته، ووقف في القلب. فلما دنوا منّا دعونا إلى الجماعة مع عبد الملك بن مروان، وإلى الدخول في طاعته، ودعوناهم إلى أن يدفعوا إلينا عبيد الله بن زياد فنقتله ببعض من قتله من إخواننا، وأن يخلعوا عبد الملك بن مروان، وإلى أن نخرج من بلادنا من آل الزبير، ثم نردّ الأمر إلى أهل بيت نبينا الذين هم أولى بالأمر. فأبى القوم، وأبينا.

ثم حملت ميمنتنا على ميسرتهم فهزمتهم، وحلمت الميسرة، وحمل سليمان في القلب فهزمناهم حتى اضطررناهم إلى عسكرهم، فكان الظفر لنا حتى حجز الليل بيننا وبينهم، وقد أحجزناهم في عسكرهم. فلما كان من الغد، صبّحهم ابن ذي الكلاع في ثمانية آلاف، أمدّهم بها عبيد الله بن زياد، وكان عبيد الله أنفذ إليه يشتمه، ويقول:

« عملت عمل الأغمار، وضيّعت مسالحك وعسكرك. سر إلى الحصين بن نمير، حتى توافيه، فهو أمير للناس. » فجاءه مددا، وغاديناهم القتال. فاقتتلنا قتالا لم ير الشيب والمرد مثله، وكان فينا قصّاص يقصّون، ويحضّون، ويقولون:

« أبشروا عباد الله، فحقّ لمن ليس بينه وبين لقاء الله، والراحة من أبرام الدنيا، وأذاها، إلّا فراق هذه النفس الأمّارة بالسوء، أن يكون سخيّا بفراقها، مسرورا بلقاء ربّه. » فاقتتلنا اليوم الثاني كقتال أمس، ثم اقتتلنا اليوم الثالث مثل ذلك، إلى أن كثرنا أهل الشام، وانعطفوا علينا من كلّ جانب.

فلما نظر سليمان إلى ذلك قال:

« عباد الله، من أراد البكور إلى ربّه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإليّ. » وكسر جفن سيفه، ففعل معه ناس كثير مثل ذلك، ومشى الناس بالسيوف، مصلتين، فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا.

مقتل سليمان بن صرد

فلما رأى الحصين بن نمير صبرنا وبأسنا، بعث رجالا ترمى بالنبل، واكتنفهم الخيل والرجال. فقتل سليمان، وأخذ الراية المسيّب بن نجبة، فقاتل وأحسن وصبر صبرا لم ير مثله، وقاتل قتالا لم يسمع بمثله، وما ظنّ أحد أنّ رجلا واحدا يقدر أن يبلى ما أبلى، إلى أن قتل، وأخذ الراية عبد الله بن سعد.

قال:

فبينا نحن نقاتل معه إذ جاء فرسان ثلاثة أنفذهم أهل المدائن على خيول مقلّمة تطوى المنازل يبشّروننا بخروج أصحابنا من المدائن وخروج المثنى بن محربة في أهل البصرة، والجميع نحو من خمسمائة فارس.

فقال عبد الله بن سعد لمّا قالوا له: أبشر بمجيء إخوانكم:

« ذلك لو جاءونا ونحن أحياء. » قال:

فنظروا إلى ما أساء أعينهم، ولم يلبثوا أن قتل عبد الله بن سعد، ونادينا عبد الله بن وال، وكان قد استلحم في عصابة معه إلى جانبنا، فحمل عليهم رفاعة بن شدّاد، فكشفهم عنه، ثم أقبل إلى رايته، فأخذها، ونادى الناس:

« يا عباد الله، من أراد الحياة التي لا وفاة لها، والراحة التي لا نصب بعدها، والسرور الذي لا حزن فيه، فإليّ. » ثم قاتلناهم، وكشفناهم. ثم انعطفوا علينا، وكثرونا من كلّ جانب حتى ردّونا إلى مكاننا الذي كنّا به. (قال: وكنّا بمكان لا يقدرون أن يأتوا فيه، إلّا من وجه واحد) وحملت علينا خيل عظيمة فيها أدهم بن محرز عند المساء، فقتل عبد الله بن وال، فنادينا رفاعة، وقلنا:

« أمسك رايتك. » فقال:

« لا أريدها. » قلنا:

« إنّا للَّه، مالك؟ » قال:

« ارجعوا بنا، فلعلّ [ الله ] يجمعنا ليوم شرّ لهم. »

فوثب إليه عبد الله بن عوف بن أحمر.

ذكر رأي رءاه ابن أحمر

فقال:

« أهلكتنا، والله، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا، فلا نبلغ فرسخا حتى نهلك من عند آخرنا، فإن نجا منّا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى فتقرّبوا به إليهم، فيقتل صبرا. ننشدك الله أن تفعل. هذه الشمس قد طفلت للمغيب، وهذا الليل قد غشينا هلمّ نقاتلهم على حالنا هذه، فإنّا الآن مجتمعون ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل، فرمينا بها، فكان ذلك أوّل شأن حتى نصبح، فنسير على مهل، ويحمل الرجل منّا جريحه، وينتظر صاحبه، ويسير العشرة والعشرون معا، ويعرف الناس الوجه الذي يأخذون، فيتّبع بعضهم بعضا. ولو كان ما ذكرت لم تقف أمّ على ولد، ولم يعرف رجل وجه صاحبه، ولم نصبح إلّا ونحن بين مقتول ومأسور. » فقال له رفاعة:

« نعم ما رأيت. » وأخذ يحمّل.

فقال ابن أحمر:

« قاتل معنا ساعة واحدة، رحمك الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة. » وما زال يناشده حتى احتبس عليه، وتحدّث الناس بما عزم عليه رفاعة من الرجوع، وكان لا تزال الجماعة تنادى:

« عباد الله، روحوا إلى ربّكم، والله، ما في شيء من الدنيا خلف من رضا الله.

قد بلغنا أنّ طائفة منكم يريدون الرجوع إلى ما خرجوا منه، وأن يركنوا إلى الدنيا التي قليلا ما يلبثون فيها. ثم يحملون، فيقاتلون حتى يقتلوا. » فلما أمسى الناس ورجع أهل الشام إلى معسكرهم، نظر رفاعة إلى كلّ رجل قد عقربه، وإلى كلّ جريح لا يعين على نفسه. فدفعه إلى قومه. ثم سار بالناس ليلته كلّها حتى عبر الخابور، وقطع المعابر كلّها وكان لا يمرّ بمعبر إلّا قطعه. وأصبح الحصين، فوجدهم قد ذهبوا، وكان رفاعة قد خلّف وراءهم أبا الجويريّة في سبعين فارسا يسيرون وراء الناس فإذا سقط رحل حمله، وإذا سقط متاع قبضه حتى يعرّفه. فلم يزالوا كذلك حتى مرّوا بقرقيسيا، فبعث إليهم زفر من الطعام والعلف مثل ما كان بعثه في المرة الأولى، وأرسل إليهم الأطبّاء، وقال لهم:

« أقيموا ما أحببتم، فلكم عندنا الكرامة والمواساة. » فأقاموا ثلاثا ثم تزوّدوا ما أحبّوا، ورحلوا.

فاستقبلهم مددهم من البصرة، ومن المدائن، فتباكوا، وتناعوا إخوانهم، وانصرف أهل البصرة والمدائن إلى بلدانهم، وقدم الناس الكوفة والمختار محبوس.

ووردت البشارة على عبد الملك بن مروان، فأظهر سرورا عظيما، وقال للناس:

« لم يبق بعد هؤلاء أحد عنده دفاع ولا امتناع. »

ذكر ما كان من المختار بعد التوابين

لما انصرف الناس إلى الكوفة إذ المختار محبوس، فكتب من حبسه إلى رفاعة بن شدّاد:

« أما بعد، فمرحبا بالعصب الذين عظّم الله لهم الأجر، ورضى انصرافهم حين قفلوا. إنّ سليمان قد قضى ما عليه، وتوفّاه الله، فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون. إني أنا الأمين المأمون المأمور، أنا أمير الجيش، وقاتل الجبّارين، والمنتقم من الأعداء، والمقيد من الأوتار. فأعدّوا، واستعدّوا، واستبشروا، وأبشروا. أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه، وإلى الطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلّين، والسلام عليك. » وتحدّث الناس بهذا من أمر المختار، فبلغ ذلك عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمّد، فخرجا في الناس حتى أتيا المختار، فأخذاه.

وفي هذه الأيّام اشتدّت شوكة الخوارج بالبصرة، وقتل نافع بن الأزرق.

ذكر السبب في اشتداد شوكة الخوارج وما كان من أمرهم

لما اشتغل أهل البصرة بالاختلاف الذي كان بين الأزد وربيعة وتميم، بسبب مسعود بن عمرو، وكثرت جموع نافع بن الأزرق، فأقبل حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس في أهل البصرة، فخرج إليه، فأخذ يحوزه عن البصرة ويرفعه عن أرضها، حتى بلغ مكانا من أرض الأهواز يقال له: دولاب. فتهيّأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميريّ، وعلى ميسرته حارثة بن بدر التميميّ، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيدة بن هلال اليشكريّ، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميميّ، ثم التقوا، فاضطربوا، واقتتل الناس قتالا لم ير قطّ أشدّ منه، فقتل مسلم بن عبيس أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمّر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب، وأمّرت الأزارقة عليهم عبد الله بن الماحوز، ثم عادوا، فاقتتلوا أشدّ قتال، فقتل الحجاج بن باب أمير أهل البصرة، وقتل عبد الله بن الماحوز أمير الأزارقة. ثم إنّ أهل البصرة أمّروا عليهم ربيعة بن الأحرم التميمي، وأمّرت الأزارقة عليهم عبيد الله بن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا حتى أمسوا وقد كره بعضهم بعضا وملّوا القتال. فإنّهم لمتواقفون متحاجزون إذ جاءت الخوارج سريّة لهم جامّة لم تكن شهدت القتال، فحملت على الناس، فانهزموا، وقاتل أمير البصرة ربيعة بن الأحرم، فقتل، وأخذ الراية حارثة بن بدر، فقاتل ساعة وقد ذهب عنه الناس، فقاتل من وراء الناس في حماتهم وأهل الصبر منهم. ثم أقبل بالناس حتى نزل بهم منزلا بالأهواز، وبلغ ذلك أهل البصرة، فهالهم، وراعهم، وامتنع نومهم.

وبعث بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشيّ على تلك الحزّة، فقدم، وعزل عبد الله بن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصرة ليس دونها كبير مانع.

ذكر اتفاق جيد اتفق لأهل البصرة وهم في تلك الحال

فبينا الناس على حالهم تلك من الخوف والشدّة، إذ قدم المهلّب بن أبي صفرة من قبل عبد الله بن الزبير معه عهده على خراسان.

فقال الأحنف للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة والناس عامّة:

« أيها الناس، لا والله، ما لهذا الأمر إلّا المهلّب، فاخرجوا بنا إليه نكلّمه. » فخرج ومعه أشراف الناس، فكلّموه في أن يتولّى قتال الخوارج، فقال:

« لا أفعل. هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان، ولم أكن لأدع وجهى وأقاتل دونكم. » فدعاه ابن أبي ربيعة، فكلّمه في ذلك، فقال له مثل ما قاله للقوم ولم يجبه.

ذكر رأي صحيح وحيلة تمت لأهل البصرة حتى حارب عنهم المهلب

ثم اجتمع الناس، فأداروا بينهم الرأي، فاتّفقوا مع ابن أبي ربيعة، أن يكتبوا على لسان ابن الزبير:

بسم الله الرحمن الرحيم « من عبد الله بن الزبير عبد الله أمير المؤمنين، إلى المهلّب بن أبي صفرة، سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو.

أما بعد، فإنّ الحارث بن عبد الله كتب إليّ يذكر الأزارقة المارقة، وأنهم أصابوا جندا للمسلمين كان عددهم جمّا، وأشرافهم كثيرا، وذكر أنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وقد كنت وجّهتك إلى خراسان، وكتبت لك عليها عهدا، وقد رأيت حيث ذكر أمر هذه المارقة أن تخرج إليهم، وتلى قتالهم، ورجوت أن يكون ميمونا طايرك، مباركا على أهل مصرك، والأجر في ذلك أفضل من المسير إلى خراسان، فسر إليهم راشدا، فقاتل عدوّ الله وعدوّك، ودافع عن حقّك وحقوق أهل مصرك، فإنّه لن يفوتك من سلطاننا خراسان، ولا غير خراسان، إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. » فأتى المهلّب بذلك الكتاب فقرأه، فلمّا فهمه، قال:

« فإني والله لا أسير إليهم إلّا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه، وتعطوني من بيت المال ما أتقوّى به، ومن معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت. » فقال جميع أهل البصرة:

« ذلك لك. » قال: « فاكتبوا على الأخماس بذلك كتابا. » ففعلوا، إلّا ما كان من مالك بن مسمع، وطائفة من بكر بن وائل، فاضطغنها عليهم المهلّب.

فقال الأحنف وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل البصرة للمهلّب:

« وما عليك أن لا يكتب لك مالك بن مسمع، ولا من تابعه من أصحابه إذا أعطاك الذي أردت جميع أهل البصرة، وهل يستطيع مالك خلاف جماعة الناس، أو له ذلك؟ انكمش أيها الرجل، واعزم على أمرك، وسر إلى عدوّك. » ففعل ذلك المهلّب، وأمّر على الأخماس. فأمّر عبيد الله بن زياد بن ظبيان على خمس بكر بن وائل، وأمّر الحريش بن هلال السعدي على خمس بنى تميم.

وجاءت الخوارج حتى انتهت إلى الجسر الأصغر عليهم عبيد الله بن الماحوز، فخرج إليهم المهلّب في أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحاربهم عن الجسر ودفعهم عنه، فكان أوّل شيء دفعهم عنه البصرة، ولم يكن بقي لهم إلّا أن يدخلوها، فارتفعوا إلى الجسر الأكبر. ثم عبّى لهم، فسار في الخيل والرجال، فلما رأوا أن قد أظلّ عليهم وانتهى إليهم ارتفعوا فوق ذلك مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم مرحلة بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حتى انتهوا إلى منزل من منازل الأهواز يقال له: سلّى وسلّبرى، فأقاموا به.

ولما بلغ حارثة بن بدر الغدانى أنّ المهلّب قد أمّر على قتال الأزارقة، قال لمن اتبعه وبقي معه من الناس:

كرنبوا ودولبوا ** وحيث شئتم فاذهبوا

قد أمّر المهلّب

فأقبل من كان معه نحو البصرة، فصرفهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة إلى المهلّب. ولما نزل المهلّب بالقوم، خندق عليه، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام الأحراس، ولم يزل الجند على مصافّهم والناس على راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عليها رجال موكّلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيات المهلّب وجدوا أمرا محكما وثيقا شديدا، فرجعوا ولم يقابلهم انسان قطّ كان أشدّ عليهم منه، ولا أغيظ لقلوبهم منه.

فمن ذلك أنهم بعثوا عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز في خيلين عظيمين ليلا إلى معسكر المهلّب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن، وعبيدة من جانبه الأيسر، ثم كبّروا وصاحوا بالناس، فوجدوهم على تعبئتهم ومصافّهم حذرين معدّين.

فلما ذهبوا ليرجعوا، ناداهم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فقال:

وجدتمونا وقرا أنجادا ** لا كشفا خورا ولا أوغادا

فردّوا عليه وتشاتموا. فلما أصبح الناس أخرجهم المهلّب على تعبئتهم، وأخماسهم، ومواقفهم، وخرجت الخوارج على مثل ذلك من التعبئة، إلّا أنّهم أحسن عدّة، وأكرم خيولا، وأكثر سلاحا من أهل البصرة، وذلك أنّهم مخروا الأرض وجرّدوها، وأكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاءوا وعليهم مغافر تضرب إلى صدورهم، وعليهم دروع يسحبونها، وسوق من زرد يشدّونها بكلاليب الحديد إلى مناطقهم، والتقى الناس، وقاتلوا كأشدّ القتال، فصبر بعضهم لبعض عامّة النهار.

ثم إنّ الخوارج شدّت على الناس أجمعها شدّة منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا يلوى امرؤ على ولد، حتى بلغ البصرة هزيمة الناس، وخافوا السبي، وأسرع المهلّب حتى سبقهم إلى مكان يفاع في جانب سنن المنهزمين، ثم نادى الناس:

« إليّ إليّ عباد الله! » فثاب إليه جماعة من قومه، وثاب إليه سارية بن عمان، حتى اجتمع إليه نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلما نظر إلى من اجتمع، رضى جماعتهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« أما بعد، فإنّ الله يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلّة، إني لجماعتكم لراض، ولأنتم والله أهل الصبر وفرسان أهل المصر، وما أحبّ أنّ أحدا ممن انهزم معكم.

لو كانوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا. عزمت على كلّ امرئ منكم لمّا أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا نحو معسكرهم، فإنهم الآن آمنون وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم، فو الله إني لأرجو ألّا ترجع خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم. » فقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به، ثم أقبل بهم زحفا، فلا والله ما شعرت الخوارج إلّا بالمهلّب يضاربهم في جانب عسكرهم. ثم استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه وعليهم السلاح والدروع كاملا، فيأخذ الرجل من أصحاب المهلّب يستعرض وجه الرجل بالحجارة فيرميه حتى يثخنه، ثم يطعنه برمحه، ويضاربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلّا ساعة حتى قتل عبيد الله بن الماحوز، وضرب الله وجوه أصحابه، وأخذ المهلّب عسكر القوم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلا ذريعا، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة، منهم راجعا وقد وضع لهم المهلّب خيلا ورجالا في الطريق تختطفهم وتقتلهم. فانكفئوا راجعين مفلولين مغلوبين، فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان. وأقام المهلّب بالأهواز، وانصرف الخوارج على تلك الحال من الفلول وقلّة العدد حتى جاءتهم مادّة لهم من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وإصبهان، وأقام المهلّب، فلم يزل ذلك مكانه حتى جاء مصعب إلى البصرة، وعزل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عنها، وكتب المهلّب بالفتح كتابا بليغا.

احتيال المختار وهو في المحبس

وفي هذه المدة التي جرى ما حكيناه، كان المختار يحتال من محبسه ويراسل الشيعة، حتى اجتمعوا له، فراسله وجوههم مثل رفاعة بن شدّاد، والمثنى بن محرمة، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شدّاد، وقالوا له:

« نحن لك بحيث يسرّك، فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك، فعلنا. » فسرّ المختار باجتماعهم له وقال:

« لا تريدوا هذا، فإني خارج في أيّامى هذه. » قال:

وكان المختار قد بعث غلاما له يدعى رزينا، إلى عبد الله بن عمر يسأله أن يشفع له، فكتب له عبد الله بن عمر كتابا لطيفا إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد يقول فيه:

« قد علمتما ما بيني وبين المختار بن أبي عبيد من الصهر، فأقسمت عليكما بحقّ ما بيني وبينكما لما خلّيتما سبيله. » فلما قرءا كتابه، أرسلا إلى المختار وكفّلاه من قوم، وحلّفاه بالذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ومماليكه كلّهم ذكرهم وأنثاهم أحرار. فحلف لهم بذلك.

فكان المختار بعد ذلك يقول:

« قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أنّى أفي لهم باليمين التي حلّفونيها. أمّا يميني لهم بالله، فإنّه ينبغي لي إذا حلفت على يمين، فرأيت ما هو خير منها، أن أدع ما حلفت عليه، وآتى الذي هو خير، وأكفّر عن يميني، وأمّا هذه البدنة فأهون عليّ من بصقة، وما ثمن ألف بدنة مما يهولني، وأما عتق مواليّ، فو الله، لوددت أنه قد استتبّ لي أمري ثم لم أملك مملوكا أبدا. »

ثم اختلفت الشيعة إلى المختار، ولم يزل يبايع له ويقوى أمره حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما إلى الكوفة، فقدم عبد الله بن مطيع، وطلب المختار، وبعث إليه من يثق به ليأتيه به، فتمارض المختار، وألقى عليه قطيفة وجعل يتقفقف. فأقبل صاحب عبد الله بن مطيع وأخبره بعلّته، فصدّقه، ولهى عنه.

المختار يدعو الشيعة إلى محمد بن الحنفية

وبعث المختار إلى أصحابه، فأخذ يجمعهم في الدور حوله ويواطئ أصحابه على الوثوب بالكوفة في المحرّم ويدعوهم إلى المهديّ محمد بن الحنفيّة، ويزعم أنه وزيره وخليله والشيعة مجتمعة له.

فتلاقى القوم يوما، فاجتمع رؤساؤهم في منزل سعر بن أبي سعر الحنفيّ وفيهم عبد الرحمن بن شريح، وكان عظيم الشرف، وسعيد بن منقذ، والأسود بن جراد، وقدامة بن مالك الجشميّ، وقالوا:

« إنّ المختار يريد أن يخرج بنا وقد بايعناه، ولا ندري: أرسله إلينا محمد بن الحنفيّة أم لا؟ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفيّة، فلنخبره بما قدم علينا وما دعانا إليه، فإن رخّص لنا في اتّباعه اتّبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه. » فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفيّة وإمامهم عبد الرحمن بن شريح.

قال الأسود بن جراد: فقلنا لابن الحنفيّة: « إنّ لنا إليك حاجة. » قال: « أفسرّ هي، أم علانية؟ » فقلنا: « لا، بل هي سرّ. »

قال: « فرويدا إذا. » فمكث قليلا، ثم تنحّى عن مجلسه، وانفرد. فدعانا، فقمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

كلام ابن شريح لابن الحنفية

« أما بعد، فإنكم أهل بيت خصّكم الله بالفضيلة، وشرّفكم بالنبوّة، وعظّم حقّكم على هذه الأمّة، فلا يجهل حقّكم إلّا مغبون الرأي، مبخوس النصيب، وقد أصبتم بالحسين - رحمة الله عليه - فخصّتكم مصيبته وقد عمّت المسلمين. وقدم علينا المختار يزعم أنه قد جاءنا من تلقائكم، ودعانا إلى كتاب الله وسنّة نبيه، وإلى الطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، فبايعناه على ذلك، ثم رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، فإن أمرتنا باتّباعه اتّبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه. » ثم تكلّمنا واحدا واحدا وهو يستمع، حتى إذا فرغ من الاستماع وفرغنا من الكلام، حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي محمّد ثم قال:

جواب ابن الحنفية

« أما بعد، فإنكم ذكرتم ما خصّنا الله به من فضله، وإنّ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فله الحمد. أما ما ذكرتم من مصيبتنا بالحسين، فإنّ ذلك كان في الذكر الحكيم، وهي ملحمة كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع الله بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وكان أمر الله قدرا مقدورا. وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا، فو الله، لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. » قال: فخرجنا من عنده ونحن نقول: قد أذن لنا، ولو كره لقال: لا تفعلوا! قال: فجئنا وقوم من الشيعة ينتظرون مقدمنا ممن كنّا أعلمناه مخرجنا وأطلعناه على ذات أنفسنا ممن كان على رأينا من إخواننا، وقد كان بلغ المختار مخرجنا، فشقّ ذلك عليه، وخشي أن نأتيه بأمر يخذّل الشيعة عنه، وكان قد أرادهم على أن ينهض بهم قبل مقدمنا فلم يتهيّأ له ذلك. فلم يكن إلّا شهرا وزيادة شيء حتى أقبل القوم على رواحلهم، ودخلوا على المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم:

« ما وراءكم؟ قد فتنتم وارتبتم؟ » فقالوا له:

« قد أمرنا بنصرتك. » فقال:

« الله أكبر، أنا أبو إسحاق، اجمعوا لي الشيعة. » فجمع له منهم من كان قريبا، فقال:

« يا معشر الشيعة، إنّ نفرا منكم أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى، وابن خير من مشى، حاشى النبي المصطفى، فسألوه عمّا قدمت له عليكم، فنبّأهم أنّى وزيره وظهيره ورسوله وخليله، وأمركم باتّباعى وطاعتي. » فقام عبد الرحمن بن شريح فقال:

« يا معشر الشيعة، إنّا كنّا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصّة، ولجميع إخواننا عامّة، فقدمنا على المهديّ بن عليّ، فسألناه عن حربنا، وعمّا دعانا إليه المختار منها، فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته، فأقبلنا طيّبة أنفسنا، منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشكّ والغلّ والريب، واستقامت لنا بصيرتنا في قتال عدوّنا، فليبلغ هذا شاهدكم غائبكم، واستعدّوا، وتأهّبوا. » ثم جلس وقمنا رجلا رجلا، فتكلّمنا بنحو من كلامه، فاستجمعت له الشيعة، وحدبت عليه.

ذكر رأي سديد أشير به على المختار وما كان من تأتى المختار له حتى تم له كما أحب

قال عامر الشعبي: كنت أنا وأبي أوّل من أجاب المختار، فلمّا تهيّأ أمره ودنا خروجه. قال له أحمر بن شميط، ويزيد بن أنس، وعبد الله بن شدّاد:

« إنّ أشراف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع، ونحن نضعف عنهم، فلو جاء مع أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا بإذن الله، القوّة على عدوّنا، فإنّه فتى بئيس وابن رجل شريف بعيد الصوت، وله عشيرة ذات عزّ وعدد. »

فقال لهم المختار:

« فالقوه وادعوه وأعلموه ما أمرنا من الطلب بدم الحسين. »

المختار يرسل إلى ابن الأشتر ويدعوه

قال الشعبي: فخرجوا إليه وأنا [ فيهم وأبي وتكلّم ] يزيد بن أنس، فقال له:

« إنّا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك وندعوك إليه، فإن قبلته كان خيرا لك، وإن تركته فقد أدّينا إليك النصيحة، ويجب أن تكون عندك مستورا. » فقال له إبراهيم بن الأشتر:

« مثلي لا تخاف غائلته وسعايته، ولا التقرّب إلى السلطان باغتياب الناس، وإنّما أولئك، الصغار الأخطار الدقاق همما. » فقالوا له:

« إنّا ندعوك إلى أمر قد أجمع رأى الملأ من الشيعة، كتاب الله، وسنّة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء. » وتكلّم أحمر بن شميط فقال له:

« إني ناصح ولحظّك محبّ، وإنّ أباك قد هلك وهو سيد الناس، وفيك منه خلف إن رعيت حقّ الله وقد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في الناس، وأحييت أمرا قد مات. إنّما يكفى مثلك اليسير حتى يبلغ الغاية التي لا مذهب وراءها. » ثم أقبل عليه القوم يدعونه ويرغّبونه.

فقال لهم إبراهيم:

« فإني أجيبكم إلى الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تولّونى الأمر. » فقالوا:

« أنت لذلك أهل [ ولكن ] ليس إلى ذلك سبيل. هذا المختار قد جاءنا من قبل المهديّ، وهو الرسول والمأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته. » فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يجبهم، وانصرفنا من عنده إلى المختار وأخبرناه، فغبر ثلاثا.

ثم إنّ المختار دعا بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه - قال الشعبي - وأنا وأبي فيهم، فسار بنا، ومضى أمامنا يقدّ بنا بيوت الكوفة قدّا لا ندري أين يريد، حتى وقف بنا على باب إبراهيم بن الأشتر، فاستأذنّا عليه، فأذن لنا، وألقيت لنا وسائد، فجلسنا عليها، وجلس المختار معه على فراشه.

فقال المختار بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على محمد :

« أما بعد، فإنّ هذا كتاب إليك من المهديّ محمد بن عليّ أمير المؤمنين الرضا، وهو اليوم خير أهل الأرض، وابن خير أهل الأرض كلّها قبل اليوم بعد الأنبياء، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجّة عليك، وسيغنى الله المهديّ محمّدا وأولياءه عنك. » قال الشعبي: وكان المختار قد دفع الكتاب إليّ حين خرج من منزله، فلمّا قضى كلامه قال لي:

« ادفع الكتاب إليه. » فدفعته إليه، فدعا بالمصباح، وفضّ خاتمه، ثم قرأ فإذا هو:

« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد المهديّ إلى إبراهيم بن الأشتر، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد، فإني قد بعثت إليكم بوزيرى وأمينى ونجيبي الذي ارتضيت لنفسي المختار، وقد أمرته لقتال عدوّى والطلب بدماء أهل بيتي، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيرى كانت لك به فضيلة عندي، ولك بذلك أعنّة الخيل، وكلّ جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه في ما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام، عليّ بالوفاء به، عهد الله وميثاقه، فإن فعلت نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكا لا تستقيله. والسلام. » فلما قرأ إبراهيم الكتاب، قال:

« قد كتب إليّ محمد بن الحنفيّة وكتبت إليه قبل اليوم، فما كان يكتب إليّ إلّا باسمه واسم أبيه. » قال له المختار:

« إنّ ذلك زمان وهذا زمان. » قال إبراهيم:

« فمن يعلم أنّ هذا كتاب محمّد بن الحنفيّة إليّ؟ » فقال له يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعة. » « نشهد كلّنا أنّ هذا كتاب محمّد بن الحنفيّة. »

إبراهيم بن الأشتر يبايع المختار

قال الشعبي: فشهدوا كلّهم إلّا أنا وأبي. قال: فتأخّر عند ذلك إبراهيم عن صدر الفراش، وأجلس المختار عليه، وقال:

« أبسط يدك أبايعك. » فبسط المختار يده، فبايعه. قال الشعبي: ثم دعا لنا بفاكهة، فأصبنا منها، ودعا لنا بشراب من عسل، فشربنا، ثم نهضنا وخرج معنا ابن الأشتر، فركب المختار، وركب معه حتى دخل رحله.

فلما رجع إبراهيم منصرفا أخذ بيدي، فقال لي:

« انصرف بنا يا شعبيّ. » قال: فانصرفت معه، ومضى بي حتى دخل رحله، وقال:

« يا شعبيّ، إني قد حفظت أنّك لم تشهد أنت ولا أبوك. أفترى هؤلاء شهدوا على غير حقّ؟ » قال، فقلت:

« قد شهدوا على ما رأيت، وهم سادة القرّاء، ومشيخة المصر، وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلّا حقّا. » قال:

فو الله، لقد قلت هذه المقالة وأنا لهم متّهم على شهادتهم، غير أنّى يعجبني الخروج وأنا أرى رأى القوم، وأحبّ تمام ذلك الأمر، فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك. فقال لي إبراهيم بن الأشتر:

« اكتب لي أسماءهم، فإني ليس كلّهم أعرف. » ودعا بصحيفة، ودواة، فكتب فيها:

« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعري، وزيد بن أنس الأسدى، وأحمر بن شميط الأحمسيّ، ومالك بن عوف النهديّ.. (حتى أتى على أسماء القوم، ثم كتب: )

شهدوا أنّ محمد بن عليّ كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بمؤازرة المختار ومظاهرته على قتال المحلّين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا بهذه الشهادة شراحيل بن عبد الله، وهو أبو عامر الشعبيّ الفقيه، وعبد الرحمن بن عبد الله محمد النخعيّ، وعامر بن شراحيل الشعبي. » فقلت:

« ما تصنع بذلك رحمك الله. » فقال:

« دعه يكون. » قال: ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار.

خروج المختار

قال هشام، قال أبو مخنف:

فكان إبراهيم يروح كلّ عشيّة عند المساء إلى المختار، فيمكث عنده حتى تصوّب النجوم، ثم ينصرف. فمكثوا بذلك يدبّرون أمرهم، حتى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ستّ وستين، ووطّن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم.

فلما كان عند غروب الشمس، قام إبراهيم بن الأشتر، فأذّن، ثم استقدم، فصلّى بنا المغرب، ثم خرج بنا بعد المغرب حين قلت: أخوك أو الذئب، وهو يريد المختار، فأقبلنا علينا السلاح.

ما كان من قبل عبد الله بن مطيع

وقد كان أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع، فقال له:

« إنّ المختار خارج إحدى الليلتين. » فخرج إياس في الشرطة، وكان إياس أشار على ابن مطيع، فقال له:

« قد بعثت ابني إلى الكناسة، فابعث في كلّ جبّانة عظيمة بالكوفة رجلا من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة ليهاب المريب الخروج عليك. » فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى جبّانة السبيع، وقال:

« اكفنى قومك، ولا أوتينّ من قبلك. » وبعث بجماعة يجرون مجراه إلى الجبابين ووصّاهم أن يكفيه كلّ رجل قومه، وأن يحكم الوجه الذي وجّهه فيه، وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة، وقال:

« إذا سمعت صوت القوم توجّه نحوهم. » فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الاثنين، فنزلوا الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار وقد بلغه أنّ الجبابين قد حشيت رجالا وأنّ الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر.

فقال حميد بن مسلم - وكان صديقا لإبراهيم بن الأشتر يصير كلّ ليلة إلى المختار:

خرجت مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء حتى مررنا بدار عمرو بن حريث ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو مائة، علينا الدروع قد كفّرنا عليها بالأقبية ونحن متقلّدو السيوف ليس معنا سلاح غيره، فقلت لإبراهيم:

« خذ بنا في الأزقّة وتجنّب السوق. »

وأنا أرى أنه يأخذ على ناحية بجيلة ويخرج إلى دار المختار، فلا يلقانا من نكترث له.

وكان إبراهيم فتى حدثا شجاعا فكان لا يكره أن يلقاهم، فقال:

« والله، لآمرّنّ على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السيوف، فلأرعبنّ عدوّنا ولأرينّهم هوانهم علينا. » قال: فأخذنا على باب الفيل، ثم على دار عمرو بن حريث حتى إذا جاوزناها لقينا إياس بن مضارب في الشرطة مظهرين السلاح، فقال لنا:

« من أنتم؟ » فقال:

« إبراهيم بن الأشتر. » فقال له ابن مضارب:

« ما هذا الجمع الذي معك، وما تريد؟ والله إنّ أمرك لمريب، ولقد بلغني أنك تمرّ كلّ عشيّة هاهنا، وما أنا بتاركك حتى آتى بك الأمير، فيرى فيك رأيه. » فقال إبراهيم:

« لا أبا لغيرك، خلّ سبيلنا. » قال:

« كلّا والله، لا أفعل. » ومع إياس رجل من همدان يقال له: أبو قطن كان يصحب أمراء الشرطة، فهم يكرمونه ويؤثرونه - وكان صديقا لابن الأشتر، فقال ابن الأشتر:

« يا با قطن، أدن مني. » ومع أبي قطن رمح طويل، فدنا أبو قطن منه ومعه الرمح وهو يرى أنّ ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب، ليخلّى سبيله. فقال إبراهيم، وتناول الرمح من يده:

« إنّ رمحك هذا لطويل. » ثم حمل به إبراهيم بن الأشتر على ابن مضارب، فطعنه في ثغرة نحره، فصرعه، وقال لرجل من قومه:

« انزل، فاحتزّ رأسه. » فنزل إليه، فاحتزّ رأسه، وتفرّق أصحابه، ورجعوا إلى ابن مطيع. فبعث ابن مطيع ابنه راشدا مكان أبيه على الشرط، وبعث مكان راشد بن إياس سويد بن عبد الرحمن المنقريّ تلك الليلة، وأقبل إبراهيم الأشتر إلى المختار ليلة الثلاثاء، فدخل عليه، فقال له إبراهيم:

« إنّا اتّعدنا للخروج ليلة الخميس وقد حدث أمر لا بدّ من الخروج الليلة. » قال المختار:

« وما هو؟ » قال:

« عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسنى بزعمه، فقتلته وهذا رأسه مع أصحابي على الباب. » فقال المختار:

« فبشّرك الله بخير، فهذا طائر صالح، وهو أوّل الفتح، إن شاء الله. » ثم قال المختار:

« قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل النار في الهراديّ، ثم ارفعها للمسلمين، وقم يا عبد الله بن شدّاد، فناد: يا منصور أمت، وقم أنت يا قدامة بن مالك، فناد: يا لثارات الحسين. »

ثم استدعى المختار درعه وسلاحه، فأتى به، فلبسه.

فقال إبراهيم للمختار:

« إنّ هؤلاء الرؤوس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين، يمنعون إخواننا أن يأتونا ويضيّقون عليهم، فلو أنّى خرجت بمن معي حتى آتى قومي فيأتينى كلّ من بايعنى منهم، ثم سرت بهم في نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا، فخرج إليّ من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من الناس، فمن أتاك من الناس حبسته عندك إلى من معك، ولم تفرّقهم، فإن عوجلت وأتيت، كان معك من تمنع به، وأنا لو قد فرغت من هذا الأمر عجلت إليك في الخيل والرجال. » قال له:

« فاعجل، وإياك أن تسير إلى أميرهم تقاتله، ولا تقاتل أحدا وأنت تستطيع ألّا تقاتل، واحفظ ما وصّيتك به، إلّا أن يبدأك أحد بقتال. » فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده في الكتيبة التي أقبل فيها حتى أتى قومه، فاجتمع إليه جلّ من كان بايعه وأجابه. ثم إنّه سار بهم في سكك الكوفة طويلا وهو يتجنّب السكك التي فيها الأمراء حتى انتهى إلى مسجد السّكون. فعجلت إليه خيل لزحر بن قيس، فشدّ عليهم إبراهيم وأصحابه، فكشفوهم حتى انتهوا إلى زحر بن قيس، فانصرف عنهم وركب بعضهم بعضا كلّما لقيهم زقاق دخل فيه منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون، ثم خرج إبراهيم يسير حتى انتهى إلى جبّانة أثير، فوقف فيها طويلا ونادى أصحابه بشعارهم. فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانهم في جبانة أثير، فرجا أن يصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلّا وهم معه في الجبّانة.

فلما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه:

« يا شرطة الله انزلوا إلى هؤلاء الفسّاق الذين خاضوا في دماء أهل بيت رسول الله . » فنزلوا، ثم شدّ عليهم إبراهيم فضربهم حتى أخرجهم إلى الصحراء، وولّوا منهزمين يركب بعضهم بعضا وهم يتلاومون، فيقول قائل منهم:

« إنّ هذا لأمر يراد، ما يلقون لنا جماعة إلّا هزمونا. » ولم يزل إبراهيم يهزمهم حتى أدخلهم الكناسة.

وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم:

« اتّبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرعب، فقد علم الله إلى من تدعو وما تطلب، وإلى ما يدعون وما يطلبون. » قال:

« لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتى يؤمن الله بنا وحشته ويكون من أمره على علم، ويعرف هو أيضا ما كان من غنائنا فيزداد هو وأصحابه قوّة وبصيرة إلى قواهم وبصائرهم، مع أنّى لا آمن أن يكون قد أتى. » فأقبل إبراهيم في أصحابه، فلما أتى دار المختار وجد الأصوات عالية والقوم يقتتلون وقد جاء شبث بن ربعي من قبل السبخة، فعبّى له المختار والناس يقتتلون، وجاء إبراهيم من قبل القصر، فبلغ حجّارا وأصحابه أنّ إبراهيم قد جاءهم من ورائهم. فتفرّقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم وذهبوا في الأزقّة والسكك، وحملت طائفة من أصحاب المختار على شبث بن ربعيّ وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلّى لهم الطريق حتى اجتمعوا جميعا. ثم اضطرّ شبث إلى أن ترك لهم السكة.

وأقبل شبث حتى أتى ابن مطيع، فقال له:

« ابعث إلى أمراء الجبابين ليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثم انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم، وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم، فإنّ أمر القوم قد قوى وقد ظهر المختار، واجتمع له أمره. » وبلغ ذلك المختار من مشورة شبث على ابن مطيع، فخرج في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة، وخرج أبو عثمان النهدي، فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم يخافون أن يظهروا في الميدان لقرب كعب بن أبي كعب منهم. وكان كعب هذا قد أخذ عليهم بأفواه السكك حين بلغه أنهم يخرجون، وسدّ طرقهم. فلما أتاهم أبو عثمان النهدي في عصابة من أصحابه، نادى:

« يا لثارات الحسين، يا منصور أمت، يا أيها الحيّ المهتدون، ألا إنّ أمين آل محمد قد خرج، فنزل دير هند، وبعثني داعيا ومبشّرا، فاخرجوا إليه، رحمكم الله. » فخرج القوم من الدور يتداعون:

« يا لثارات الحسين. » ثم ضاربوا كعب بن أبي كعب حتى خلّى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتى نزلوا معه في عسكره، وخرج عبد الله بن قراد في جماعة من خثعم نحو المائتين، حتى لحق بالمختار، ونزلوا معه في عسكره وقد كان عرض لهم كعب بن أبي كعب، فلما عرفهم ورأى أنهم قومه خلّى عنهم ولم يقاتلهم، وخرجت شبام إليهم فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائة من جملة اثنى عشر ألفا كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبئته.

ثم إنّ ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين، فأمرهم أن ينضمّوا إلى المسجد، وقال لراشد بن إياس بن مضارب:

« ناد في الناس فليأتوا المسجد. » فنادى المنادى:

« ألا برئت الذمّة من رجل لم يحضر المسجد الليلة. » فتوافى الناس في المسجد، فلما اجتمعوا، بعث ابن مطيع شبث بن ربعيّ في نحو ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط.

فسرّح المختار إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس في تسعمائة مقاتل، ويقال: في ستمائة فارس وستمائة راجل، وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل نحو شبث، وقال لهما:

« امضيا حتى تلقيا عدوكما، وإذا لقيتماهم، فانزلا في الرجال وعجّلا القراع، وابدءاهم بالإقدام، وتستهدفا لهم فإنّهم أكثر منكم، ولا ترجعا إليّ حتى تظهرا، أو تقتلا. » فتوجّه إبراهيم بن الأشتر إلى راشد وقدّم المختار يزيد بن أنس في تسعمائة أمامه، وتوجّه نعيم بن هبيرة قبل شبث.

فقال سعر بن أبي سعر: لما انتهينا إلى شبث قاتلناه قتالا شديدا، فجعل نعيم بن هبيرة يضاربهم حتى أشرقت الشمس، وضربناهم حتى أدخلناهم البيوت، فسمعت شبث بن ربعيّ ينادى أصحابه:

« يا حماة السوء، بئس فرسان الحقائق أنتم، أمن عبيدكم تهربون؟ » قال: فثابت إليه منهم جماعة، فشدّ علينا وقد تفرّقنا وهزمنا. فصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر بن أبي سعر فأسر، [ وأسرت أنا ] وأسر خليد مولى حسّان، وأسر أبو سعيد الصيقل.

قال: فسمعت أبا سعيد الصيقل هذا يقول: سمعت شبث بن ربعي يقول لخليد:

« من أنت؟ » قال:

« خليد مولى حسّان. » فقال له شبث:

« يا ابن المتكاء، تركت بيع الصحناء بالكناسة، وكان جزاء من أعتقك أن تعدو عليهم بسيفك تضرب رقابهم، اضربوا عنقه. » فقتل، ورأى سعرا الحنفيّ، فرفعه، فقال:

« أخو بنى حنيفة؟ » فقال:

« نعم. » قال:

« ويحك! ما أردت إلى اتباع هؤلاء السبائية، قبّح الله رأيك؟ دعوا ذا. » فقلت في نفسي: قتل المولى وترك العربيّ، إن علم أنى مولى قتلني، فلما عرضت عليه، قال:

« من أنت؟ » فقلت:

« من بنى تيم الله. » قال:

« أعربيّ أنت أم مولى. » فقلت:

« لا، بل عربيّ، أنا من آل زياد بن أبي حفصة. » فقال:

« ذكرت الشرف المعروف، الحق بأهلك. » فأقبلت حتى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لي بصيرة في قتال القوم، فجئت إلى المختار، وقد وضعت في نفسي أن آتى أصحابي حتى أقتل معهم أو أظفر بظفرهم.

قال: فأتيته وقد سبقني إليه سعر الحنفيّ وجاءه قتل نعيم وأقبلت إليه خيل شبث، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير.

قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بما كان من أمري، فقال لي:

« اسكت، فليس هذا بمكان الحديث. » وجاء شبث حتى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس، وكان ابن مطيع أنفذ ابن رويم في ألفين من قبل سكّة لحّام، فوقفوا في أفواه تلك السكك، وجعل المختار يزيد بن أنس على خيله، وخرج هو في الرجّالة.

قال: فحملت علينا خيل شبث حملتين فما يزول رجل منّا من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا:

« يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون، وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل عيونكم، وترفعون على جذوع النخل في حبّ أهل بيت [ نبيكم ] وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوّكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم، إذا والله لا يدعون منكم عينا تطرف، وليقتلنّكم صبرا، ولترونّ في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله، لا ينجيكم منهم إلّا الصدق والصبر والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم، فتيسّروا للشدة، وتهيّئوا للحملة، فإذا حرّكت رأسى مرتين فاحملوا. » فتهيّأنا، وجثونا على الركب، وانتظرنا أمره.

وكان إبراهيم بن الأشتر حين توجه إلى راشد، لقيه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه:

« لا يهولنّكم كثرة هؤلاء، فو الله لربّ رجل خير من عشرة، ولربّ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ. »

ثم قال:

« يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل. » ونزل هو يمشى في الرجال، واقتتل الناس، فاشتدّ قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسيّ براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه فقتله، ثم نادى:

« قتلت راشد وربّ الكعبة. » وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار، وبعث إليه من يبشّره بالفتح عليه. فلما جاءهم البشير، كبّروا، واشتدّت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرّح ابن مطيع حسّان بن قائد بن بكير العبسيّ في جيش كثيف، فاعترض إبراهيم ليردّه بالسبخة، فقدّم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسّان بن قائد في الخيل، ومشى إبراهيم نحوه في الرجال، فانهزموا، وتخلّف حسّان بن قائد في أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة، فلما رءاه عرفه، فقال له:

« يا حسّان، قد عرفتك، فالنجا. » فعثر لحسان فرسه، فوقع، فقال:

« لعا لك أبا عبد الله. » وابتدره الناس، فأحاطوا به، فضاربهم ساعة بسيفه.

فناداه خزيمة:

« إنّك آمن يا با عبد الله، لا تقتل نفسك. » وجاء حتى وقف عليه، ونهنه الناس عنه، ومرّ به إبراهيم.

فقال خزيمة:

« هذا ابن عمّى، وقد آمنته. » فقال إبراهيم:

« أحسنت. » وأمر خزيمة بفرسه حتى أتى به فحمله عليه، وقال:

« الحق بأهلك. » وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس. فلما رءاه يزيد بن الحارث وهو على أفواه السكك التي تلى السبخة، أقبل نحوه ليصدّه عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفة من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال:

« أغن عنّا يزيد بن الحارث. » وصمد هو في بقيّة أصحابه نحو شبث بن ربعي، فلما رءاه أصحاب شبث، أخذوا ينكصون وراءهم رويدا رويدا، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه حمل عليهم، فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة بن نصر على يزيد بن الحارث بن رويم، فهزمه، وازدحم القوم على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار في جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى أصحاب المختار إلى أفواه السكك، رمته تلك المرامية بالنبل، فصدّوهم عن دخول الكوفة، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع وجاء قتل راشد بن إياس، فسقط في يديه، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي لابن مطيع:

« أيها الرجل لا تسقط في خلدك ولا تلق بيديك، أخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوّك، فإنّ الناس كثير عددهم وكلّهم معك إلّا هؤلاء الطائفة التي خرجت عليك، والله مخزيها وأنا أول منتدب، فاندب معي طائفة ومع غيري طائفة. »

فخرج ابن مطيع، فخطب الناس وحضّهم، وقال في خطبته:

« أيها الناس، قاتلوا عن حرمكم وعن مصركم، وامنعوا من فيئكم، والله لئن لم تفعلوا ليشاركنّكم في فيئكم من لا حقّ له فيه، والله لقد بلغني أنّ فيهم من محرّريكم خمسمائة رجل عليهم أمير منهم، وإنما ذهاب عزّكم وسلطانكم حين يكثرون. » ثم نزل.

وكان يزيد بن الحارث منعهم أن يدخلوا الكوفة، ومضى المختار من السبخة حتى ظهر إلى الجبّانة، وقال:

« نعم مكان المقاتل هذا. » فقال له إبراهيم بن الأشتر: « قد هزمهم الله وفلّهم، وأدخل الرعب قلوبهم وتنزل هاهنا! سر بنا، فو الله ما دون القصر أحد يمنع، ليقم هاهنا كل شيخ ضعيف وذي علّة، وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع حتى نسير إلى عدوّنا. » ففعلوا. واستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهديّ، وقدّم إبراهيم الأشتر أمامه، وعبّى أصحابه على الحال التي كانوا عليها في السبخة، وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفى رجل، فخرج عليهم من السكّة المعروفة بالثوريّين، فبعث المختار إليهم أن:

« اطوه ولا تقم عليه. » فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، ومضى المختار في أثر إبراهيم، وأمره أن يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى وخرج إليه من سكّة ابن محرز، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فسرّح المختار إليه سعيد بن منقذ الهمدانيّ، فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن:

« اطوه وامض على وجهك. » فمضى حتى انتهى إلى سكّة شبث وإذا نوفل بن مساحق في نحو خمسة آلاف رجل وقد أمر ابن مطيع، فنودي في الناس أن:

« الحقوا بابن مساحق. » واستخلف شبث بن ربعيّ على القصر، وخرج ابن مطيع حتى وقف بالكناسة.

فقال حصيرة بن عبد الله: إني لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل في أصحابه، حتى إذا دنا منهم، قال لهم:

« انزلوا. » فنزلوا. فقال:

« اقرنوا خيولكم بعضها إلى البعض، ثم امشوا إليهم مصلتين، ولا يهولنّكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعيّ، وآل عتيبة بن النهاس، وآل الأشعث، وآل فلان وفلان... » حتى [ سمّى ] بيوتا من بيوتات أهل الكوفة، وقال:

« إنّ هؤلاء لو وجد أوّلهم حرّ السيف لرأيتم قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزى عن الذئب. » قال حصيرة: فإني لأنظر إليه وإلى أصحابه حتى قرنوا خيولهم وحتى أخذ بن الأشتر أسفل قبائه، فأدخله في منطقة له حمراء من حواشي البرد وقد شدّ بها على القباء وقد كفّر بالقباء على الدرع، ثم قال لأصحابه:

« شدّوا عليهم فدى لكم عمّى وخالي. » قال: فو الله ما لبّثهم أن هزمهم، فركب بعضهم بعضا على فم السكّة، وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مسحاق، فأخذ بلجام دابّته ورفع عليه السيف، فقال له ابن مساحق:

« يا ابن الأشتر، أنشدك الله، أتطلبنى بثأر، هل بيني وبينك من حنة؟ » فخلّى سبيله وقال:

« اذكرها ».

فكان يذكرها له.

وأقبلوا حتى دخلوا الكناسة في آثار القوم حتى دخلوا المسجد وحصروا ابن مطيع ثلاثا.

وجاء المختار حتى نزل جانب السوق، وولّى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، فلما اشتدّ الحصار علي بن مطيع كلّمه الأشراف، وكان يفرّق فيهم الدقيق من القصر.

فقام إليه شبث بن ربعيّ فقال له:

« أصلحك الله، أنظر لنفسك ومن معك، فو الله ما عندنا غناء عنك ولا عن أنفسهم. » قال ابن مطيع:

« هاتوا، أشيروا عليّ برأيكم. » قال شبث:

« الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أمانا وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك. » قال ابن مطيع: « والله إني لأكره أن آخذ منه أمانا والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كلّه وبالبصرة. »

قال:

« فتخرج ولا يشعر بك أحد حتى تنزل منزلا بالكوفة عند من تثق به، فلا يعلم بمكانك حتى تخرج فتلحق بصاحبك. » فقال لأسماء بن خارجة ولغيره من أشراف الناس:

« ما ترون في ما أشار به عليّ شبث؟ » فقالوا:

« ما نرى الرأي إلّا ما أشار به عليك. » قال:

« فرويدا حتى أمسى. » فلما أمسى جمعهم، وحمد الله، وأثنى عليهم وردّوا عليه مثله، وقال:

« جزاكم الله خيرا، أخذ امرؤ حيث أحبّ. » ثم خلّى عن القصر، وخرج من نحو درب الروميّين حتى أتى دار أبي موسى، ففتح أصحابه الباب ونادوا:

« يا بن الأشتر، آمنون نحن؟ » قال:

« أنتم آمنون. » فخرجوا، وبايعوا المختار، وجاء المختار حتى دخل القصر، فبات به وأصبح، فخطب الناس وحضّ على البيعة، وقال:

« أيها الناس، لا والذي جعل السماء سقفا محفوظا، والأرض فجاجا سبلا، ما بايعتم بعد بيعة عليّ بن أبي طالب وآل عليّ أهدى منها. » ثم نزل، فدخل ودخل الناس وأشرافهم، فبسط يده، وابتدره الناس فبايعوه، وجعل يقول:

« تبايعون على كتاب الله، وسنّة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلّين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، ومسالمة من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم، ولا نستقيلكم. » فإذا قال [ الرجل ]: نعم، بايعه.

وأقبل المختار يمنّى الناس، ويستجرّ مودّتهم ومودّة الأشراف، ويحسن السيرة جهده. وجاء ابن كامل، وكان على شرطته، فقال:

« إنّ ابن مطيع في دار أبي موسى، وقد عرفت ذلك بالصحّة. » فلم يجبه بشيء، فأعادها عليه، فلم يجبه، فظنّ ابن كامل أنّ ذلك لا يوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقا. فلما أمسى بعث إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم، وقال له:

« تجهّز بهذه واخرج، فإني قد شعرت بمكانك، وظننت أنه لم يمنعك من الخروج إلّا أنه ليس في يدك ما يقوّيك على الخروج. » وأصاب المختار في بيت مال الكوفة تسعة آلاف ألف فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر، وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل، خمسمائة كل رجل، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، وأقاموا معه تلك الأيّام الثلاثة مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، ومنّاهم، وأحسن السيرة وأدنى الأشراف.

المختار يولى الولايات ويعقد الألوية

ثم ولّى الولايات، وعقد الألوية، فأوّل رجل عقد له المختار راية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على آذربيجان، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان معه ألفا فارس ورزقه ألف درهم في كلّ شهر، وأمره بقتال الأكراد وإقامة الطرق، وكتب إلى عمّاله على الجبال أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة بن اليمان بحلوان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى الموصل وبها محمد بن الأشعث بن قيس من قبل الزبير، فتنحى له عن الموصل، ثم شخص إلى المختار مع أشراف قومه وغيرهم، فبايع له ودخل في ما دخل فيه أهل بلده.

ثم وثب المختار بمن كان معه بالكوفة من قتلة الحسين، والمتابعين على قتله، فقتل من قدر عليه وهرب بعضهم فلم يقدر عليه.

وكان سبب ذلك أنّ مروان بن الحكم لما استوسقت له الشام بالطاعة، بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وجعل له ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا ظفر بأهلها ثلاثا.

وقد كنّا ذكرنا من أمر التوّابين وابن زياد ما كان بعين الوردة، ثم بعد ذلك مرّ بأرض الجزيرة وبها قيس عيلان على طاعة ابن الزبير، فلم يزل عبيد الله مشتغلا بهم عن العراق نحوا من سنة، ثم أقبل إلى الموصل، وكتب عبد الرحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار:

« أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير، أنّ عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصل، ووجّه قبلي خيله ورجاله، وأنّى قد انحزت إلى تكريت حتى يأتينى رأيك وأمرك، والسلام. » فكتب إليه:

« قد أصبت، فلا تبرحنّ مكانك حتى يأتيك أمري. »

ثم بعث المختار إلى يزيد بن أنس، فدعاه وقال:

« يا يزيد، إنّ العالم ليس كالجاهل، وإني أخبرك خبر من لم يكذب ولم يكذب، أنا صاحب الخيل التي تجرّ جعابها وتضفر أذنابها حتى توردها منابت الزيتون، اخرج إلى الموصل حتى تنزل أدانيها، فإني ممدّك بالرجال. » فقال يزيد بن أنس:

« سرّح معي ثلاثة آلاف من الفرسان أنتخبهم وخلّنى والفرج الذي توجّهنى له، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك. » وقال المختار:

« فاخرج وانتخب على اسم الله من أحببت. » فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس، وخرج معه المختار، وانصرف وقال له:

« إذا لقيت عدوّك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخّرها، ولكن خبرك عندي كلّ يوم وأنا ممدّك وإن لم تستمدّ، لأنه أشدّ لعضدك، وأعزّ لجندك، وأرعب لعدوّك. » فقال له يزيد بن أنس:

« لا تمدّنى إلّا بدعائك، فكفى به مددا. » فقال الناس:

« صحبك الله، وأدّاك وأيّدك. » وودّعوه. فقال لهم:

« سلوا الله لي الشهادة. وأيم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر، لا تفوتني الشهادة إن شاء الله. » وكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس:

« أما بعد، فخلّ بين يزيد وبين البلاد إن شاء الله، والسلام عليك. » وخرج يزيد بن أنس، فبات بالمدائن، ثم اعترض أرض جوخى، حتى خرج بهم في الراذانات، وحتى قطع بهم إلى الموصل ونواحيها، وبلغ مكانه ومنزله عبيد الله بن زياد، وسأل عن عدّتهم، فأخبرته عيونه أنه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس.

فقال عبيد الله:

« فأنا أبعث إلى كلّ ألف ألفين. » وبعث إليه ربيعة بن المخارق وعبد الله بن حملة كلّ واحد منهما في ثلاثة آلاف، ثم قال:

« أيّكما سبق فهو أمير على صاحبه. » فسبق ربيعة بن المخارق، ونزل بيزيد بن أنس وهو بباتليّ، فخرج إليه يزيد بن أنس وهو مريض مضنى، فطاف في أصحابه على حمار معه الرجال يمسكونه، فجعل يطوف على الأرباع، ويقف على ربع ربع، ويقول:

« يا شرطة الله، اصبروا، وصابروا عدوّكم تظفروا، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفًا. إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدى، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العدويّ، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفيّ. » قال: ونحن نرى في وجهه أنّ الموت قد نزل به. ثم عبّى ميمنة وميسرة، وجعل ورقاء بن عازب على الخيل، ونزل هو بين الرجال على السرير، ثم قال:

« ابرزوا لهم بالعراء، وقدّمونى في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم، وإن شئتم ففرّوا عنه. » قال: فأخرجناه وذلك يوم عرفة سنة ستّ وستين. فأخذنا نمسك أحيانا ظهره، فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا. فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع، فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، فحملت ميمنتنا على ميسرتهم، وميسرتنا على ميمنتهم، وحمل ورقاء بن عازب ومعه الخيل من ميسرتنا، فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم وحوينا عسكرهم، وانتهينا إلى ربيعة بن المخارق صاحبهم وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادى:

« يا أولياء الحقّ، يا أهل السمع والطاعة، إليّ إليّ، أنا ابن المخارق. » فحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدى، وعبد الله بن ضمرة العدوى، فقتلاه.

قال: وأتى يزيد بن أنس بثلاثمائة أسير وهو في السوق، فأخذ يومي بيده أن:

« اضربوا أعناقهم. » فقتلوا من عند آخرهم، وما أمسى يزيد بن أنس حتى مات، وكان أوصى بأنّ الأمير بعده ورقاء بن عازب، فصلّى عليه ودفنه.

ذكر رأي رءاه ورقاء بن عازب

ثم إنّ ورقاء بن عازب دعا رؤوس الأرباع وفرسان أصحابه، فقال لهم:

« يا هؤلاء، ما ذا ترون في ما أخبرتكم، إنّما أنا رجل منكم. » وكان أعلمهم أنّ عبيد الله أقبل في ثمانين ألفا من أهل الشام.

فقال ورقاء:

« لست بأفضلكم رأيا، فأشيروا عليّ. هذا الرجل قد جاءكم في جدّه وحدّه، ولا أرى لنا بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرّقت عنّا طائفة منّا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم وقبل أن نبلغهم، فيعلموا إنما ردّنا عنهم هلاك صاحبنا فلا يزالوا هائبين لنا ولقتلنا أميرهم، ولأنّا إنما نعتلّ لانصرافنا بموت صاحبنا، فإنّا إن لقيناهم اليوم لم ينفعنا هزيمتنا إيّاهم قبل اليوم إذا هزمونا. » فقالوا:

« فإنّك والله نعم ما رأيت، انصرف بنا، رحمك الله. » فبلغ منصرفهم المختار وأهل الكوفة، ولم يعلموا كيف كان الأمر.

فكان رأى ورقاء الأول صوابا وتركه إنفاذ الكتب بالبشارة وتعريفه صاحبه الصورة خطأ

فأرجف الناس أن يزيد بن أنس هلك، وأنّ الناس انهزموا وما أشبه ذلك، فقلق المختار، وبعث المختار عينا له، فعاد إليه بالخبر.

فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر، فعقد عليه على سبعة آلاف رجل وقال له:

« سر حتى إذا لقيت جيش ابن أنس فارددهم معك، ثم سر بهم حتى تلقى عدوّك فتناجزهم. » فخرج إبراهيم وعسكر بحمّام أعين.

ذكر اضطراب الناس على المختار وطمعهم فيه بعد خروج إبراهيم الأشتر

لما خرج إبراهيم كثر إرجاف الناس بالمختار، وقالوا:

« تأمّر علينا بغير رضى منّا ولا ولاية من محمّد بن عليّ، وقد أدنى موالينا، فحملهم على رقابنا، وغصبنا عبيدنا، فحرب بذلك أيتامنا وأراملنا. » واتّعدوا منزل شبث بن ربعيّ. وكان شبث إسلاميّا جاهليّا. وقالوا:

« هو شيخنا. » فأتوه، فذاكروه هذا الحديث. ولم يكن في جميع ما عمله المختار شيء أعظم على الناس من أن جعل للموالي نصيبا من الفيء.

فقال لهم شبث:

« دعوني حتى ألقاه. » فلقيه، فلم يدع شيئا مما أنكره أصحابه إلّا ذاكره به، فكان لا يذكر لهم خصلة إلّا قال المختار له:

« أرضيهم، وآتى كلّ شيء أحبّوا. » حتى ذكر الموالي والمماليك، فقال:

« عمدت إلى موالينا وهم فيء آفاءهم الله علينا وهذه البلاد كلّها، فأعتقنا رقابهم نأمل الأجر من الله والشكر منهم، فلم ترض بذلك، حتى جعلتهم شركاء في فيئنا. »

فقال المختار:

« إنّا سنتركهم لمواليهم، فهل تجعلون لي على أنفسهم - إن أنا فعلت ذلك - عهد الله وميثاقه وما أطمئنّ إليه من الأيمان، أن يقاتلوا معي بنى أمية وابن الزبير؟ » فقال شبث:

« ما أدري، حتى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك. » فخرج ولم يرجع، وأجمع رأى أشراف الكوفة على قتال المختار.

فركب شبث وشمر بن ذي الجوشن ومحمّد بن الأشعث وغيرهم حتى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعميّ، وذكروا ما اجتمع عليه رأيهم من قتال المختار، وقالوا:

« تأمّر علينا بغير رضى منّا، وزعم أنّ ابن الحنفيّة بعثه إلينا، وقد علمنا أنّه لم يبعثه، وفعل وصنع، وأخذ عبيدنا وموالينا، وأطعمهم فيئنا. » وسألوه أن يجيبهم إلى ما سألوه من قتاله معهم. فرحّب بهم كعب وأجابهم إلى ما دعوه إليه. ثم دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف، فدعوه إلى ذلك.

ذكر رأي صحيح لعبد الرحمن

فقال لهم:

« يا هؤلاء، إن أبيتم إلّا أن تخرجوا لم أخذلكم، وإن أطعتم لم تخرجوا. » فقالوا:

« ولم؟ » فقال:

« لأنّى أخاف أن تتفرّقوا، وتختلفوا، وتتخاذلوا، ومع الرجل والله شجعاؤكم وفرسانكم من أنفسكم. أليس معه فلان وفلان؟ ثم معه عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة وهؤلاء أشدّ حنقا عليكم من عدوّكم، فهو يقاتلكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظر تموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشام، أو مجيء أهل البصرة فتكونوا قد كفيتموه بغيركم ولم تجعلوا بأسكم بينكم. » فقالوا:

« ننشدك الله أن تخالفنا وتفسد علينا. » قال:

« فأنا رجل منكم فإذا شئتم فاخرجوا. » فلقى بعضهم بعضا، وقالوا:

« ننتظر حتى يذهب عنه ابن الأشتر. » فأمهلوا حتى إذا بلغ إبراهيم ساباط خرجوا إلى جبابينهم بجماعة الرؤساء، فلما بلغ المختار اجتماع الناس عليه مثل شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعيّ، وحسان بن قائد، وربيعة بن ثروان، وحجّار بن أبجر، ورؤيم بن الحارث، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وغيرهم ممن ذكرناهم قبل، ومن لم نذكرهم، بعث رسولا يركض إلى إبراهيم الأشتر وهو بساباط أن:

« لا تضع كتابي من يدك حتى تقبل بمن معك. » وبعث إليهم في ذلك اليوم:

« أخبرونى ما تريدون فإني صانع كلّ ما أحببتم. » قالوا:

« فإنّا نريد أن تعتزلنا، فإنّك زعمت أنّ ابن الحنفيّة بعثك ولم يبعثك. » فأرسل إليهم المختار أن:

« ابعثوا إليه من قبلكم وفدا، وأبعث من قبلي وفدا، ثم انظروا في ذلك حتى تتبيّنوه. »

وهو يريد أن يريّثهم بهذه المقالة ليقدم عليه إبراهيم الأشتر وقد أمر أصحابه فكفّوا أيديهم، وأخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شيء يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلّا القليل يجيئهم إذا غفلوا عنه.

ثم إنّ شمر بن ذي الجوشن أتى أهل اليمن، فقال لهم:

« إن اجتمعتم في مكان نجعل فيه مجنّبتين ونقاتل من وجه واحد، فأنا صاحبكم، وإلّا فلا، والله لا أقاتل في سكة واحدة ضيّقة ونقاتل من غير وجه. » وانصرف إلى جماعة قومه في جبّانة بنى سلول، ولما بلغ المختار ذلك، جعل يواصل مكاتبة إبراهيم، فلما بلغ إبراهيم بن الأشتر خبره، نادى من يومه في الناس، وسار بقيّة عشيّته تلك، ثم نزل سويعة، فتعشّى هو وأصحابه، وأراحوا دوابّهم شيئا كلا شيء، ثم سار بقيّة ليلته كلّها وصلّى الغداة بسورا، ثم سار من يومه وصلّى صلاة العصر على باب الجسر من الغد، ثم سار حتى بات ليلته في المسجد. ولما كان اليوم الثالث من مخرجهم على المختار خرج المختار إلى المنبر فصعده وكان شبث بن ربعيّ بعث إليه ابنه يقول له:

« إنما نحن عشيرتك وكفّ يمينك، والله لا نقاتلك أبدا فثق بذلك منّا، وكان كارها لقتاله، ولما حضرت الصلاة واجتمع أهل اليمن كره كلّ رأس أن يتقدّمه صاحبه. » فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف:

« هذا أول الخلاف، قدّموا الرضا فيكم، فإنّ فيكم سيّد قرّاء أهل المصر، فليصلّ بكم رفاعة بن شدّاد. » ففعلوا، فلم يزل يصلّى بهم حتى كان يوم الوقعة.

ثم إنّ المختار لمّا نزل، عبّى أصحابه، فقال إبراهيم بن الأشتر:

« إلى أيّ الفريقين أحبّ إليك أن نسير. » فنظر المختار وكان ذا رأى، فكره أن يسير إلى قومه، فلا يبالغ في قتالهم، فقال:

« سر إلى مضر بالكناسة، وكان عليهم شبث بن ربعيّ، وأنا أسير إلى أهل اليمن. » ففعلا. ثم إنّ القوم اقتتلوا كأشدّ قتال اقتتله قوم، وانكشف من أصحاب المختار أحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وأصحابهما، فلم يرع المختار إلّا وقد جاءه الفلّ قد أقبل فقال:

« ما وراءكم؟ » فقالوا:

« هزمنا. » قال:

« فما فعل أحمر بن شميط؟ » قالوا:

« تركناه قد نزل عند مسجد القصّاص وقد نزل معه ناس من أصحابه. » وقال أصحاب ابن كامل:

« ما ندري ما فعل. » فصاح بهم أن انصرفوا، ثم أقبل معهم قطعة، ثم بعث عبد الله بن قراد الخثعمي وكان على أربعمائة من أصحابه، فقال:

« سر في أصحابك إلى ابن كامل، فإن يكن هلك، فأنت مكانه، وإن تجده حيّا، فسر في مائة من أصحابك كلّهم فارس، وادفع إليهم بقيّة أصحابك، ومرهم بالحدّ معه والمناصحة، ثم امض في المائة حتى تأتى جبّانة السبيع. » فمضى، فوجد عبد الله بن كامل واقفا عند حمّام عمرو بن حريث معه ناس من أصحابه قد صبروا وهو يقاتل القوم، فدفع إليه ثلاثمائة من أصحابه، ثم مضى حتى نزل جبّانة السبيع، وأخذ في السكك حتى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده، وقال لأصحابه:

« ما ترون؟ » وهم مائة خيار. قالوا:

« أمرنا لأمرك تبع. » فقال:

« والله إني لأحبّ أن يظهر المختار، وو الله إني لكاره أن يهلك أشراف قومي وعشيرتي اليوم، وو الله لأن أموت أحبّ إليّ من أن آتيهم من ورائهم فيهلكون على يدي. » ثم وقف، وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي - وكان من أشدّ الناس بأسا - في مائتي رجل، وبعث عبد الرحمن بن شريك في مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت هؤلاء مكانه، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروا عليه، فاقتتلوا عند ذلك كأشدّ القتال.

ومضى الأشتر حتى لقي شبث بن ربعي وخلقا من مضر كانوا معه، فقال لهم إبراهيم:

« ويحكم انصرفوا، فو الله ما أحبّ أن يصاب أحد من مضر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم. » فأبوا، فقاتلوه، فهزمهم، وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مضر، فبعث المختار بالبشرى إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل والناس على أحوالهم كلّ سكّة منهم قد أغنت ما يليها، واجتمعت شبام وقد رأّسوا عليهم أبا القلوص، وقد أجمعوا أن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض:

« أما والله، لو جعلتم حدّكم هذا على من خالفكم من غيركم، لكان أصوب.

فسيروا إلى مضر وإلى ربيعة فقاتلوهم. » وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلّم، فقالوا:

« ما رأيك؟ » فقال:

« قال الله عز وجل: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً. قوموا! » فقاموا، فمشى بهم قيس رمحين أو ثلاثة، ثم قال:

« اجلسوا. » فجلسوا. ثم مشى بهم الثانية أنفس من ذلك شيئا، ثم الثالثة كذلك، ثم قعد، فقالوا له:

« يا با القلوص، والله إنك عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع؟ » قال:

« إنّ المجرّب ليس كمن لم يجرّب، إني أردت أن ترجع إليكم أنفسكم، وكرهت أن أحملكم على القتال وأنتم على حال دهش. » قالوا:

« أنت أبصر بما صنعت. » فلما خرجوا إلى جبّانة السبيع استقبلهم قوم، فهزموهم وقتلوا رئيسهم ودخلوا الجبّانة في آثارهم يتنادون:

« يا لثارات الحسين. » فأجابهم ابن شميط:

« يا لثارات الحسين. » وقاتل يومئذ رفاعة بن شدّاد حتى قتل، وقتل خلق من الأشراف واستخرج من دور الوادعيّين خمسمائة أسير. فأتى بهم المختار مكتّفين، فأخذ رجل من بنى نهد من رؤساء أصحاب المختار يقال له عبد الله بن شريك لا يخلو بعربيّ إلّا خلّى سبيله. فرفع ذلك إلى المختار، فقال المختار:

« اعرضوهم عليّ، فانظروا كلّ من شهد منهم قتل الحسين فأعلمونى به. » فأخذوا لا يمرّ عليه رجل شهد قتل الحسين إلّا قالوا له:

« هذا ممن شهد قتله. » فقدّمه، فيضرب عنقه، حتى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وأربعين قتيلا، وأخذ أصحابه كلّما رأوا رجلا قد كانوا تأذّوا به، وكان يماريهم، أو يضرّبهم، خلوا به فقتلوه، حتى قتل ناس كثير منهم، وما يشعر بهم المختار.

ثم أخبر به المختار من بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم وأخذ عليهم المواثيق ألّا يجامعوا عليه عدوه ولا يبغوه ولا لأصحابه غائلة، إلّا سراقة بن مرداس البارقيّ، فإنّه أمر به أن يساق معه إلى المسجد، ونادى منادى المختار من أغلق عليه بابه فهو آمن إلّا رجلا شرك في دم آل محمّد.

وكان يزيد بن الحارث بن رؤيم وحجّار بن أبجر بعثا لهما رسلا، فقالا لهم:

« كونوا قريبا من أهل اليمن، فإن ظهروا، فلتكن علامتكم كذا وإن ظهر عليكم فلتكن علامتكم كذا. » فلما هزم أهل اليمن أتتهم رسلهم بعلامتهم، فقاما جميعا فقالا لقومهما:

« انصرفوا إلى بيوتكم. » فانصرفوا.

فأما عمرو بن الحجاج الزبيدي، فإنّه كان ممن شهد قتل الحسين، فركب راحلته، ثم ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم ير حتى الساعة، ولا يدرى أرض لحسته، أم سماء حصبته!

مقتل شمر بن ذي الجوشن

وأما شمر بن ذي الجوشن، فإنّ المختار أنفذ في طلبه غلاما يدعى رزينا.

فحدّث مسلم بن عبد الله الكنانيّ، قال: تبعنا رزين غلام المختار فلحقنا، وقد خرجنا من الكوفة على خيولنا مضمّرة، فأقبل يتقطّر به فرسه. فلما دنا منه قال لنا شمر:

« اركضوا وتباعدوا، فلعلّ العبد يطمع فيّ. » قال: فركضنا وأمعنّا، وطمع العبد في شمر، وأخذ شمر يستطرد له، حتى إذا انقطع عن أصحابه حمل عليه شمر، فدقّ ظهره، وأتى المختار فأخبر بذلك، فقال:

« بؤسا لرزين، أما لو يستشيرنى ما أمرته أن يخرج لأبي السابغة. » ومضى شمر حتى نزل ساتيدما، فنزل إلى جانب قرية يقال لها: الكلبانية على شاطئ نهر إلى جانب تلّ، ثم أرسل إلى تلك القرية، فأخذ منها علجا فضربه، ثم قال:

« النجا بكتابي إلى مصعب بن الزبير. » [ وكتب عنوانه: للأمير مصعب بن الزبير ] من شمر بن ذي الجوشن. فمضى العلج حتى دخل قرية فيها بيوت وفيها أبو عمره، وكان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة في ما بينه وبين أهل البصرة، فلقى ذلك العلج علجا من تلك القرية، فأقبل يشكو إليه ما لقي من شمر، فسألوا العلج عن مكانه، فأخبرهم به، فإذا ليس بينهم إلّا ثلاثة فراسخ فساروا إليه.

قال: وكنّا قلنا لشمر تلك الليلة:

« لو أنّك ارتحلت بنا من هذا المكان، فإنّا نتخوّف به. » فقال:

« أكلّ هذا فرقا من الكذّاب، والله لا أتحوّل منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعبا. » فو الله ما شعرنا إلّا وقد أشرفوا علينا من التلّ، فكبّروا، ثم أحاطوا بنا وخرجنا نشتدّ على أرجلنا وتركنا خيلنا، وأعجل شمر عن لبس سلاحه.

قال: فأمر على شمر وإنّه لمؤتزر ببرد يقاتلهم، وكان أبرص، فكأني أنظر إلى بياض ما بين كشحيه وهو يطاعن الأقوام، فما هو إلّا أن أمعنت ساعة إذ سمعت التكبير وقائلا يقول:

« قتل الله الخبيث. »

سراقة حلف أنه رأى الملائكة

فأما سراقة بن مرادس البارقيّ، فإنّه حلف واجتهد في اليمين أنه رأى الملائكة معهم تقاتل على خيول بلق، وقال لهم:

« أنتم أسرتمونى؟ ما أسرنى إلّا قوم على دوابّ لهم بلق، عليهم ثياب بيض. » فقال المختار:

« أولئك الملائكة، اصعد المنبر، فأعلم الناس ذلك. » فصعد واجتهد في اليمين وأخبرهم بذلك. ثم نزل فخلا به المختار وقال:

« إني علمت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت ما قد عرفت: ألّا أقتلك، فاذهب عني حيث أحببت، لا تفسد عليّ أصحابي. »

فخلّى عنه، وذهب حتى لحق بمصعب بن الزبير، وقال:

ألا أبلغ أبا إسحاق أنّى ** رأيت الخيل دهما مصمتات

أرى عينيّ ما لم تراءاه ** كلانا عالم بالتّرّهات

وانجلت وقعة السبيع عن سبعمائة وثمانين قتيلا وكانت يوم الأربعاء لستّ ليال بقين من ذي الحجّة سنة ستّ وستّين.

تجرد المختار لقتلى الحسين

وخرج أشراف الناس، فلحقوا بالبصرة، وتجرّد المختار لقتلى الحسين، وقال:

« ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين أحياء يمشون في الدنيا آمنين. بئس ناصر آل محمد إذا أنا في الدنيا، أنا إذا الكذّاب كما سمّونى. الحمد لله الذي جعلني سيفا ضربهم به، ورمحا طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقّهم، سمّوهم، ثم تتبّعوهم، حتى تفنوهم. إنه لا يسوغ لي طعام ولا شراب حتى أطهّر الأرض منهم وأنقّى المصر منهم. » ودلّ عبد الله بن دبّاس، على نفر ممن قتل الحسين. منهم: عبد الله بن أسيد بن النزال الجهنيّ، ومالك بن النّسير البدّيّ وحمل بن مالك المحاربي. فبعث إليهم المختار، فأخذوا وأدخلوا عليه عشاء.

فقال لهم المختار:

« يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله! قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة. » فقالوا:

« رحمك الله، بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا، واستبقنا. » قال المختار:

« فهلّا مننتم على الحسين بن بنت نبيكم واستبقيتموه وسقيتموه. » ثم قال المختار للبدّيّ:

« أنت صاحب برنسه؟ » فقال عبد الله بن كامل:

« نعم، هو هو. » فقال المختار:

« اقطعوا يد هذا ورجله، ودعوه يضطرب حتى يموت. » ففعل به ذلك، وأمر بالآخرين فقتلا.

ثم بعث رجالا كانوا معه يقال لهم: الدبّابة، إلى دار في الحمراء فيها عبد الرحمن بن أبي خشكارة، وعبد الرحمن بن قيس الخولاني وغيرهما فجئنا بهم حتى أدخلناهم عليه، فقال لهم:

« يا قتلة الصالحين، يا قتلة سيد شباب أهل الجنّة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم؟ لقد جاءكم الورس بيوم نحس. » وكانوا أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين، أخرجوهم إلى السوق، فضربوا رقابهم، ففعل ذلك بهم وكانوا أربعة.

وأخذ السائب بن مالك الأشعريّ - وكان في خيل للمختار - ثلاثة نفر ممن شهد قتل الحسين، فانتهى بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا في السوق.

وبعث المختار عبد الله بن كامل إلى عثمان بن خالد، وإلى أبي أسماء بسر بن أبي سمط، وكانا ممن شهدا قتل الحسين وفي سلبه، فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بنى دهمان، ثم قال:

« عليّ مثل خطايا بنى دهمان منذ خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد، إن [ لم ] أضرب أعناقكم من عند آخركم. » فقلنا له: « أمهلنا حتى نطلبه. » فخرجوا مع الخيل في طلبه، فوجدوهما جالسين في الجبّانة يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة، فأتى بهما عبد الله بن كامل، فضرب أعناقهم، ثم رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره بأن يرجع فيحرقهما بالنار، وقال:

« لا يدفنا، بل ليحرقا بالنار. » وبعث أبا عمرة صاحب حرسه حتى أحاطوا بدار خولي بن يزيد الأصبحيّ وهو صاحب رأس الحسين فاختبى في مخرجه فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها:

« أين زوجك؟ » فقالت:

« لا أدري، أين هو.. » وأشارت بيدها إلى المخرج. فدخلوا، فوجدوه وقد وضع على رأسه قوصرة، وأخرجوه.

وكان المختار خرج يسير بالكوفة ومعه ابن كامل، فأخبروه الخبر، وأقبل حتى قتله إلى جانب أهله، ثم دعا بنار فحرّقه.

وكانت امرأته نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين.

وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعليّ، فكلّم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة، وقال:

« خذ لي من هذا الرجل أمانا. » فكتب له:

« بسم الله الرحمن الرحيم» « هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد بن أبي وقّاص. إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديما ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك ومصرك وأهلك، ولم تحدث حدثا.

فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلّا بخير. شهد السائب بن مالك، وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شدّاد، وعبد الله بن كامل. » وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفينّ لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلّا أن يحدث حدثا، وأشهد الله على نفسه وكفى بالله شهيدا. » فكان أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر يقول: « أما أمان المختار لعمر بن سعد: إلّا أن يحدث حدثا، فإنّه كان يريد: إذا دخل الخلا وأحدث. » فقال المختار ذات يوم وهو يحدّث جلساءه:

« لأقتلنّ رجلا عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين، يسرّ قتله المؤمنين والملائكة المقرّبين. » فكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار، فسمع هذه المقالة، فوقع في نفسه أنّ الذي يريده عمر بن سعد بن أبي وقّاص. فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان، فقال:

« الق عمر بن سعد الليلة، فخبّره بكذا وكذا وقل له: خذ حذرك. » قال: فأتاه فاستخلاه، ثم حدّثه الحديث.

فقال له عمر بن سعد:

« جزى الله أباك عن الإخاء خيرا، كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق. » ثم خرج من ليلته حتى أتى حمّامه، وأخبر مولى له بما أريد به، فقال له:

« وأيّ حدث أعظم مما صنعت، إنك تركت رحلك وأهلك، إرجع إلى رحلك، لا تجعل للرجل عليك سبيلا. » فرجع إلى منزله، وأتى المختار بخبر انطلاقه، فقال:

« كلّا، إنّ لي في عنقه سلسلة ستردّه. » فلما أصبح المختار بعث أبا عمرة وأمره أن يأتيه به. فجاء حتى دخل عليه، فقال:

« أجب. » فقام عمر، فعثر في جبّة له ويضربه أبو عمرة بسيفه فقتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار.

فقال المختار لابنه حفص بن عمر، وهو جالس عنده:

« أتعرف هذا الرأس؟ » فاسترجع، وقال:

« نعم، ولا خير في العيش بعده. » قال له المختار:

« صدقت، فإنّك لا تعيش بعده. ألحقوا حفصا بأبي حفص! » فقتل، فإذا رأسه مع رأس أبيه.

ثم قال المختار:

« هذا بالحسين، وهذا بعليّ بن الحسين ولا سواء. والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامل الحسين. » وبعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفيّة، وكتب إليه:

« بسم الله الرحمن الرحيم» « للمهديّ محمد بن عليّ من المختار بن أبي عبيد. سلام عليك أيها المهديّ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو. أما بعد، فإنّ الله بعثني نقمة على أعدائكم، فهم بين أسير وطريد وقتيل وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتليكم، ونصر مؤازريكم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن شرك في دم الحسين وأهل بيته - رضي الله عنهم - كلّ من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي ولست بمنجم عنهم حتى لا يبلغني أنّ على أديم الأرض منهم أرما، فاكتب إليّ أيها المهديّ برأيك أتّبعه وأكن عليه، والسلام عليك أيها المهديّ ورحمة الله وبركاته. » وطلب المختار كلّ من ذكر له من قتلة الحسين وشيعته، وأعدائه، فقتلهم وأحرقهم، ومن هرب ولم يقدر عليه هدم داره.

ثم إنّ المختار بلغه أنّ أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه يبدأ به، فخشي أن يأتيه أهل الشام من المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فأخذ يدارى ابن الزبير ويكايده. وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى.

ذكر مكيدة للمختار على ابن الزبير لم يتم له

كتب المختار إلى ابن الزبير:

« أما بعد، فقد بلغني أنّ عبد الملك بن مروان بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدّك بمدد فعلت. » فكتب إليه عبد الله بن الزبير:

« أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي الناس قبلك، فإذا أتتنى بيعتك صدّقتك في مقالتك، وعجّل إليّ بتسريح الجيش، ومرهم أن يسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان، فيقاتلوهم، والسلام. » فدعا المختار شرحبيل بن ورس بن همدان، فسرّحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب إلّا سبعمائة رجل، فقال:

« سيروا مع شرحبيل وأطيعوه. » وقال لشرحبيل:

« إذا دخلت المدينة فاكتب إليّ حتى يأتيك أمري. » وهو يريد: إذا دخلوا المدينة أن يبعث عليهم أميرا من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضى إلى مكة حتى يحاصر ابن الزبير، ويقاتله. فخرج يسير قبل المدينة.

وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده. فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير:

« إن رأيت القوم في طاعتي، فاقبل منهم، وإلّا فكايدهم حتى تهلكهم. » ففعلوا:

وأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس وقد عبّى ابن ورس أصحابه ميمنة وميسرة. فدعا وسلّم عليه، ونزل هو يمشى في الرجّالة وميمنته وميسرته على الخيول.

وجاء عباس مع أصحابه وهم متقطّعون على غير تعبئة، فيجد ابن ورس على الماء قد عبّى أصحابه تعبئة القتال، فدنا منه، فسلّم عليه، ثم قال له:

« اخل معي. » فخلا به، فقال:

« رحمك الله، ألست في طاعة ابن الزبير؟ » فقال له ابن ورس:

« بلى. » قال:

« فسر بنا إلى عدوّ الله وعدوّه الذي بوادي القرى، فإنّ ابن الزبير حدّثني أنّه إنّما أشخصكم صاحبكم إليه. » قال ابن ورس:

« ما أمرت بطاعتكم. إنما أمرت أن آتى المدينة، فإذا تركتها كاتبت صاحبي. » فقال عباس بن سهل:

« إن كنت في طاعة ابن الزبير، فقد أمرنى أن أسير بك وبأصحابك إلى عدوّنا بوادي القرى. » فقال ابن ورس:

« ما أمرت بطاعتك وما أنا بمتّبعك دون أن أدخل المدينة، ثم أكتب إلى صاحبي، فيأمرنى بأمره. » فلما رأى العباس لجاجه عرف خلافه، وكره أن يعلمه أنّه فطن له، فقال:

« فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك، فأمّا أنا فإني سائر إلى وادي القرى. »

ذكر مكيدة عباس بن سهل بأصحاب المختار

ثم جاء عباس بن سهل، فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزر كانت معه، فأهداها له مع دقيق وغنم مسلّخة، وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعا، وبعث عباس إلى كلّ عشرة منهم شاة، فذبحوها واشتغلوا بها، وتركوا تعبئتهم، واختلطوا على الماء.

فلما رأى عباس بن سهل أنهم قد شغلوا، جمع من أصحابه نحوا من ألف رجل من ذوي البأس والنجدة، ثم أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رءاهم ابن ورس مقبلين إليه، نادى في أصحابه، فلم تتواف إليه مائة رجل. حتى انتهى إليه عباس وهو يقول:

« يا شرطة الله، إليّ إليّ، قاتلوا المحلّين أولياء الشيطان الرجيم، فقد غدروا، وفجروا. » قال: فو الله ما اقتتلنا إلّا شيئا ليس بشيء، حتى قتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع ابن سهل راية الأمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلّا نحوا من ثلاثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حميد الهمدانيّ.

فلما وقعوا في يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلّا نحوا من مائة رجل كره ناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلّوا سبيلهم، فرجعوا، فمات أكثرهم في الطريق.

وبلغ المختار أمرهم، فخطب الناس وقال:

« ألا، إنّ الفجّار الأشرار قتلوا الأبرار الأخيار. »

ثم كتب إلى محمد بن الحنفيّة مع صالح بن مسعود الخثعمي:

« بسم الله الرحمن الرحيم» « أما بعد، فإني كنت بعثت إليك جندا ليذلّوا لك الأعداء، وليحوزوا لك البلاد، فساروا حتى إذا أظلّوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغرّوهم، فلما اطمأنّوا إليهم وثبوا بهم فقتلوهم، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة من قبلي جندا كثيفا وتبعث إليهم من قبلك رسلا حتى يعلم أهل المدينة أنّى في طاعتك، وإنما بعثت الجند عن أمرك، فافعل، فإنّك ستجدهم أعرف بحقّكم أهل البيت، وأرأف بكم منهم بآل الزبير والملحدين، والسلام. » فكتب إليه محمد بن الحنفيّة:

« أما بعد، فإنّ كتابك لمّا بلغني قرأته وفهمته، وعرفت تعظيمك لحقّى وما تنوي به من سروري، وإنّ أحبّ الأمور إليّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت في ما أعلنت وأسررت. واعلم أنّى لو أردت القتال لوجدت الناس إليّ سراعا، والأعوان لي كبيرا، ولكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. » فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفيّة، فودّعه، وسلّم عليه، وهو كان حامل كتاب المختار، فأعطاه جواب الكتاب، وقال:

« قل له: فليتّق الله، وليكفف عن الدماء. » قال: فقلت له:

« أصلحك الله، أو لم تكتب إليه بهذا؟ » قال ابن الحنفيّة:

« قد أمرته بطاعة الله، وطاعة الله تجمع الخير كلّه، وتنهى عن الشرّ كلّه. » فلما قدم كتابه على المختار، أظهر للناس:

« إني قد أمرت بأمر يجمع البرّ واليسر، ويضرح الكفر والغدر. »

ذكر رأي رءاه ابن الزبير بعد حبسه محمد بن الحنفية ومن معه بزمزم

ثم إنّ عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلا من أهل الكوفة بزمزم كرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمّة وهربوا إلى الحرم، وتوعّدهم القتل والإحراق، وأعطى الله عهدا - إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعّدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلا.

فأشار بعض من كان مع ابن الحنفيّة عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من كان بالكوفة رسولا يعلمهم حالهم وحال من معهم وما توعّدهم به ابن الزبير، فوجّه ثلاثة نفر من الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من القتل والحرق بالنار، ويسألهم ألّا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته.

فقدموا على المختار، ودفعوا إليه الكتاب. فلما قرأه قال:

« هذا كتاب مهديّكم وصريخ أهل بيت نبيكم! قد حظر عليهم كما يحظر على الغنم، ينتظرون القتل والتحريق بالنار في آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزّرا. » ووجّه أبا عبد الله الجدليّ في سبعين رجلا من أهل القوة، ووجّه ظبيان بن عثمان التميمي في أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى محمد بن عليّ بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم في أثر بعض.

وجاء أبو عبد الله الجدليّ في سبعين راكبا حتى نزل ذات عرق ولحقه عقبة في أربعين، ويونس في أربعين، فتمّوا مائة وخمسين فارسا. فسار بهم حتى دخلوا مسجد الحرام ومعهم الكافر كوبات وهم ينادون:

« يا لثارات الحسين. » حتى انتهوا إلى زمزم وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم وقد كان بقي من الأجل يومان.

فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على محمد بن الحنفيّة، فقالوا له:

« خلّ بيننا وبين عدوّ الله ابن الزبير! » فقال لهم:

« إني لا أستحلّ القتال في حرم الله. » فقال ابن الزبير:

« أتحسبون أنّى مخلّ سبيلهم دون أن يبايع وتبايعوا؟ » فقال أبو عبد الله الجدليّ:

« إى وربّ الركن والمقام، لتخلّينّ سبيله أو لنجالدنّك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون. » فقال ابن الزبير:

« ما هؤلاء إلّا أكلة رأس، والله لو أذنت لأصحابي لقطفت رؤوسهم في ساعة. » فقال له قيس بن مالك: « إن رمت ذلك، رجوت أن يوصل إليك قبل أن ترى ما تحبّ. » فكفّ ابن الحنفيّة أصحابه وحذّرهم الفتنة.

ثم قدم أبو المعتمر وبقيّة الناس ومعه المال حتى دخلوا المسجد فكبّروا:

« يا لثارات الحسين. » فلما رءاهم ابن الزبير خافهم، وخرج محمد بن الحنفيّة ومن معه إلى شعب عليّ وهم يسبّون ابن الزبير، ويستأذنون محمد بن الحنفيّة فيه، ويأبى عليهم.

واجتمع في الشعب مع محمد بن عليّ أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال.

ذكر ما كان من المختار بعد وقعة السبيع بالكوفة

ثم إنّ المختار بعد أن فرغ من قتال من ذكرناهم في وقعة السبيع، ما ترك إبراهيم بن الأشتر إلّا يومين حتى أشخصه إلى الشام لحرب عبيد الله بن زياد، وأخرج معه وجوه أصحابه ممن شهد الحروب وجرّبها، وخرج المختار يشيّعه ويوصيه ومعه الكرسيّ ويليه قوم كالسدنة. وسنذكر خبر الكرسيّ إن شاء الله.

وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمّام أعين، فلما أراد أن ينصرف عنه قال لابن الأشتر:

« خذ عنى ثلاثا: خف الله سرّ أمرك وعلانيته، وعجّل السير، وإذا لقيت عدوّك فناجزهم ساعة تلقاهم، وإن لقيتهم ليلا فاستطعت ألّا تصبح حتى تناجزهم فافعل، وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم الليل. » ثم قال:

« هل حفظت ما أوصيتك به؟ » قال:

« نعم. » قال:

« صحبك الله. » ثم انصرف.

خبر الكرسي

كان طفيل بن جعدة بن هبيرة قد ضاقت يده، وكانت أمّه أمّ هانئ بنت أبي طالب أخت عليّ لأبيه وأمّه، وكان المختار يطالب آل جعدة بكرسيّ عليّ بن أبي طالب، فيقولون:

« لا والله، ما هو عندنا. » فيقول المختار:

« لا تكونوا حمقى» - ويتوعّدهم.

قال طفيل: فاحترت يوما وأنا على إضاقتى تلك، فرأيت كرسيّا عند جار لي زيّات قد ركبه الوسخ. فخطر ببالي أن لو قلت للمختار: هذا كرسيّ عليّ بن أبي طالب، لقبله. فأرسلت إلى الزيّات أن:

« ابعث إليّ بكرسيّك. » فأرسل به إليّ، فأتيت المختار، فقلت له:

« إني كنت أكتمك أمر الكرسيّ الذي كنت تلتمسه، وقد بدا لي أن أظهره، لأنّ جعدة بن هبيرة كان يجلس عليه كأنّه يرى أنّ فيه أثرة من علم. » فقال:

« سبحان الله! فأخّرت هذا إلى اليوم! ابعث به! » قال: وقد كنت تقدّمت بغسله وقد غسل، فخرج عود نضار، وقد كان تشرّب الزيت، فخرج أبيض وقد غشّى. فأمر لي المختار باثنى عشر ألفا، ثم دعا:

« الصلاة جامعة. » وخطب، فقال:

« إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلّا هو كائن في هذه الأمّة مثله، فإنّه كان في بني إسرائيل التابوت، فيه بقيّة مما ترك آل موسى وال هارون تحمله الملائكة، وإنّ هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه. » فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبائيّة، فكبّروا ثلاثا. فلما خرج المختار مع إبراهيم بن الأشتر لوجه عبيد الله بن زياد، أخرج الكرسيّ على بغل يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة. فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتى غلوا، وكان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، ثم حوشب البرشمى، فكانوا يرون أنّ المختار يتكلّم عنه بوحي، وأشباه هذا.

فأما إبراهيم بن الأشتر، فإنّه سار من يومه مسرعا لا ينثني، يريد أن يلقى عبيد الله بن زياد وأهل الشام قبل أن يدخلوا أرض العراق، فسبقهم إلى أرض الموصل، وأسرع إليه السير حتى لقيه بخازر إلى جنب قرية يقال لها: باربيثا بينها وبين الموصل خمسة فراسخ، وأخذ ابن الأشتر لما دنا من ابن زياد لا يسير إلّا على تعبئة ويسير بهم جميعا لا يفرّقهم إلّا أنّه يبعث الطفيل بن لقيط في الطلائع، وكان شجاعا بئيسا.

ثم أرسل عمير بن الحباب السلمى إلى ابن الأشتر أنّى معك وأريد لقاءك الليلة.

فأرسل إليه ابن الأشتر أن: القنى إذا شئت.

فأتاه عمير ليلا، فبايعه وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، فقال له ابن الأشتر:

« فإني أستشيرك في أمر، فأشر عليّ. » قال:

« نعم. » قال:

« أترى أن أخندق عليّ وأتلوّم يومين أو ثلاثة؟ » قال عمير بن الحباب:

« لا تفعل، إنّا لله، وهل يريد القوم إلّا هذه، إن طاولوك وماطلوك هو خير لهم هم كثير أضعافكم، وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم، فإنّهم قد ملئوا منكم رعبا وإنهم إن شامّوا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم ومرة بعد مرة، أنسوا بهم واجترأوا عليهم. » قال إبراهيم:

« الآن علمت أنّك لي مناصح، صدقت الرأي وما رأيت. أما إنّ صاحبي، بهذا الرأي أمرنى. » قال عمير:

« فلا تعدونّ رأيه، فإنّ الشيخ قد ضرّسته الحروب، وقاسى منها ما لم تقاس.

ناهض الرجل إذا أصبحت. » وانصرف عمير، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة، الليل كلّه، ولم يدخل عينه غمض حتى إذا كان في السحر الأوّل عبّى أصحابه ميمنة وميسرة، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجّالة بالرجّالة، وضمّ الخيل وعليها أخوه لأمّه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطا من الناس، ونزل إبراهيم يمشى، وقال للناس:

« ازحفوا. » فزحف الناس معه رويدا رويدا حتى أشرف على تلّ عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرّك منهم أحد بعد فدعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثم مرّ بأصحاب الرايات، فكلما مرّ على راية وقف عليها وقال:

« يا أنصار الدين وشيعة الحقّ وشرطة الله! هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن عليّ ابن فاطمة بنت رسول الله، صلّى الله عليهم، حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته، وبين الفرات أن يشربوا منه وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتى ابن عمّه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة، حتى قتله وقتل أهل بيته، قد جاءكم الله به، وجاءه بكم. وو الله إني لأرجو أنه ما جمع بينكم في هذا الموطن وبينه، إلّا ليشفى صدوركم، ويسفك دمه على أيديكم. » وسار في ما بين الميمنة والميسرة، فرغّبهم في الجهاد، وحرّضهم على القتال.

ثم رجع حتى نزل تحت رايته، وزحف القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب وشرحبيل بن ذي الكلاع على الخيل، وهو يمشى في الرجال.

فلما تدانى الصفّان حمل الحصين بن النمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة وعليها عليّ بن مالك الجشمي، فثبت له هو بنفسه، فقتل، ثم أخذ رايته قرّة بن عليّ، فقتل أيضا في رجال أهل الحفاظ، وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء السلوليّ، فاستقبل المنهزمين وقال:

« يا شرطة الله، إليّ إليّ. »

فأقبل جلّهم إليه، فقال:

« هذا أميركم يقاتل. إلى أين؟ سيروا بنا إليه. » فأقبل حتى أتاه، فإذا هو كاشف عن رأسه ينادى:

« إليّ إليّ، أنا ابن الأشتر، إنّ خير فرّاركم كرّاكم، ليس مسيئا من أعتب. » فثاب إليه أصحابه. وأرسل إلى صاحب الميمنة:

« احمل على ميسرتهم. » وهو يرجو أن ينهزم لهم عمير بن الحباب كما زعم.

فحمل عليه سفيان بن يزيد بن المغفّل صاحب الميمنة، فثبت لهم عمير بن الحباب وقاتله قتالا شديدا. فلمّا رأى إبراهيم ذلك، قال لأصحابه:

« أمّوا هذا السواد الأعظم، فو الله لو قد فضضناه لا نجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير زعق بها فطارت. » قال ورقاء بن عازب: فمشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم اطّعنّا بالرماح قليلا، ثم صرنا إلى السيوف والعمد فاضطربنا بها مليّا. فو الله ما سمعت من وقع الحديد على الحديد إلّا مياجن قصّارى دار الوليد بن عقبة بن أبي معيط. ثم انهزموا، فسمعت إبراهيم بن الأشتر يقول لصاحب رايته:

« انغمس برايتك فيهم. » فيقول له:

« جعلت فداءك، إنّه ليس متقدّم. » فيقول:

« بلى، فإنّ أصحابك يقاتلون، وإنّ هؤلاء يهربون. » فإذا شدّ إبراهيم بسيفه، فلا يضرب أحدا إلّا صرعه. وكرد إبراهيم بن الأشتر الرجال بين يديه كأنّهم الحملان، وإذا شدّ، شدّ أصحابه معه شدّة رجل واحد.

فلمّا انهزم أهل الشام، قال ابن الأشتر:

مقتل ابن زياد بيد ابن الأشتر

« إني قد ضربت رجلا فقتلته ووجدت منه رائحة المسك، ضربة شرّقت يديه وغرّبت رجليه، تحت راية منفردة على شاطئ جازر، وأظنّه طاغيتهم، فالتمسوه. » فالتمسوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلا، ضربه فقطّه.

وحمل شريك بن حرير على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه ابن زياد، فاعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، ونادى شريك:

« اقتلوني وابن الزانية. » فقتل ابن نمير.

وكان شريك بن حرير مع عليّ أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب عليّ لحق ببيت المقدس، فلما جاءه قتل الحسين قال:

« أعاهد الله، لئن وجدت من يطلب بدم الحسين أقبل إليه، ولأقتلنّ ابن مرجانة، أو لأموتنّ دونه. » فلما بلغه خروج المختار يطلب بدم الحسين، جاءه، فوجّهه مع ابن الأشتر.

وقتل ابن ذي الكلاع، وتبع أصحاب إبراهيم أهل الشام المنهزمين فكان من غرق أكثر ممن قتل. وأصابوا من عسكرهم كلّ شيء من الغنائم.

ومضى ابن الأشتر إلى الموصل، وبعث عمّاله، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، فغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة، وخرج من أهل الكوفة كلّ من كان قاتل المختار وهزمهم، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وفيهم شبث بن ربعيّ. وكان المختار قال لأصحابه:

« سيأتيكم الفتح من قبل إبراهيم بن الأشتر. قد هزموا أصحاب ابن مرجانة. » وخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعري، وخرج بالناس، فنزل ساباط، وقال للناس:

« أبشروا، فإنّ شرطة الله قد حسّوهم بالسيوف يوما إلى الليل بنصيبين أو قريبا منها. » قال: ودخلنا المدائن واجتمعنا إليه، فصعد المنبر، فو الله إنّه ليخطبنا، ويأمر بالجدّ والاجتهاد والثبات على الطاعة والطلب بدماء أهل البيت، إذ جاءته البشرى تترى، يتبع بعضها بعضا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره، وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار:

« يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون؟ » قالوا:

« بلى والله، لقد قلت ذلك. » قال الشعبيّ: فيقول لي رجل من بعض جيراننا:

« أتؤمن الآن يا شعبيّ؟ » قال: قلت:

« بأيّ شيء أو من؟ بأنّ المختار يعلم الغيب؟ لا أومن بذلك أبدا. » قال:

« أو لم يقل لنا أنهم انهزموا؟ » فقلت:

« بلى، ولكن زعم أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل. » فقال:

« والله لا تؤمن حتى ترى العذاب الأليم. »

ذكر مسير مصعب إلى المختار وحربه

لما قدم شبث على مصعب بن الزبير كان تحته بغلة له قد قطع ذنبها وقطع طرف أذنها، وشقّ قباءه وهو يصيح:

« يا غوثاه، يا غوثاه! » فعرّف مصعب أنّ بالباب رجلا صفته كذا وكذا، فقال لهم:

« نعم، هذا شبث بن ربعيّ، ولم يكن ليفعل هذا غيره، أدخلوه. » فأدخل إليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة، فأخبروه بما أصيبوا به من وثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن القيس، ولم يكن شهد وقعة الكوفة، وإنما كان يقصّ له. فلما بلغه هزيمة الناس، تهيّأ للشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرّح وراءه قوما، فلم يلحقوه، ومضى إلى مصعب، فأدناه معصب وقرّبه وأكرمه لشرفه، وهدم المختار دار ابن الأشعث.

ثم قال مصعب لمحمد بن الأشعث لما أكثر عليه الناس:

« إني لا أسير حتى يأتينى المهلّب بن أبي صفرة. » فكتب مصعب إلى المهلّب وهو عامله على فارس أن:

« أقبل إلينا لتشهد أمرنا وتسير معنا إلى الكوفة. » فتباطأ عنه المهلّب كراهة للخروج، واعتلّ بشيء من الخراج، فأمر مصعب محمد بن الأشعث بن قيس في بعض ما كان محمد يستحثّه:

« ايتني بالمهلّب. » فخرج محمد بكتاب مصعب إلى المهلّب، فلما قرأه، قال:

« مثلك يا محمد في شرفك يأتى بريدا؟ أما وجد المصعب بريدا غيرك؟ » قال محمد:

« إني، والله، ما أنا ببريد لأحد، غير أنّ نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا. » فخرج المهلّب بجموع كثيرة وأموال عظيمة معه في هيئة وعدّة وجموع ليس بها أحد من أهل البصرة. ولما ورد باب مصعب صادفه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلّب يده وكسر أنفه. فدخل الحاجب إلى المصعب وأنفه يسيل دما، فقال له:

« ما لك؟ » قال:

« ضربني رجل ما أعرفه. » ودخل المهلّب، فلما رءاه الحاجب، قال:

« هو ذا. » فقال له مصعب:

« عد إلى مكانك. » ثم عسكر مصعب عند الجسر الأكبر، وقدّم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطيّ من بنى تميم على مقدّمته، وبعث عمر بن عبد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلّب على ميسرته، وبعث على الأخماس مالك بن مسمع ومالك بن المنذر، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمرو الأزديّ، وقيس بن الهيثم.

وبلغ ذلك المختار، فقام في أصحابه، فحمد الله وأثنى، وقال:

« يا أهل الدين وأعوان الحق وأنصار الضعيف وشيعة ال الرسول! إنّ فرّاركم الذين بغوا عليكم فهزمتموهم، أتوا أشباههم من الفاسقين، فاستغووهم عليكم ليمصح الحقّ وينعش الباطل، ويقتل أولياء الله. والله لو هلكتم ما عبد الله في الأرض إلّا بالفرى على الله واللعن لأهل بيت نبيه . انتدبوا مع أحمر بن شميط. » فعسكر بحمّام أعين. ودعا المختار رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع ابن شميط، لأنهم فارقوا ابن الأشتر لما رأوا من تهاونه بأمر المختار، فبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشا كثيفا.

وسار أحمر بن شميط حتى ورد المذار وجاء مصعب حتى عسكر قريبا منه، ثم عبّى كل واحد منهم جنده، وجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب بن نضلة، وعلى الخيل رزين بن عبد الله السلولي، وعلى الرجّالة كثير بن إسماعيل الكنديّ، وجعل أبا عمرة على الموالي وكان مولى لعرينة.

مكيدة لعبد الله بن وهب على الموالي

فجاء عبد الله بن وهب وكان على الميسرة، إلى ابن شميط وقد أخلاه، فقال له:

« إنّ الموالي والعبيد إلى خور عند المصدوقة، وأنّ معهم رجالا كثيرا على الخيل وأنت تمشى، فمرهم لينزلوا معك، فإنّ لهم بك أسوة، وإني أتخوّف إن طردوا ساعة فطوعنوا وضوربوا، أن يطيروا على متونها، ويسلموك، وإنّك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدّا. » وإنما غشّ الموالي والعبيد لما كان لقي منهم بالكوفة، فأحبّ - إن كانت عليهم الدبرة - ألّا يكونوا فرسانا بل رجّالة، فلا ينجو منهم أحد. ولم يتّهمه ابن شميط، وظنّ أنه إنما أراد بذلك نصيحته ليصبروا ويقاتلوا فقال:

« يا معشر الموالي، انزلوا معي، فقاتلوا. » فنزلوا معه ثم مشوا بين يديه وبين يدي رايته.

وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عبّاد بن الحصين على الخيل، وأقبل عبّاد حتى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال:

« إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير. » فقال الآخرون:

« إنّا ندعوكم إلى كتاب الله، وسنّة رسوله وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن يجعل الأمر شورى في آل الرسول، فمن زعم من الناس أنّ أحدا ينبغي أن يتولّى عليهم برئنا منهم وجاهدناه. » فانصرف عبّاد إلى مصعب فأخبره فقال له:

« إرجع، فاحمل عليهم. » فحمل علي بن شميط، فلم يزل منهم أحد. ثم انصرف إلى موقفه، وحمل المهلّب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، وانصرف عنه المهلّب، ثم وقف ساعة، وقال لأصحابه:

« احملوا حملة صادقة، فقد أطمعوكم. » يعنى جولتهم التي جالوها. فحمل عليهم حملة منكرة، فولّوا، وصبر ابن كامل في رجال همدان، فأخذ المهلّب يسمع اتّصال القوم:

« أنا الغلام الشاكريّ، أنا الغلام الشباميّ، أنا الغلام الثوريّ. » وحمل عمر بن عبد الله بن معمر على عبد الله بن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف عنه، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادى أصحابه:

« يا معشر بجيلة وخثعم، الصبر الصبر. » فناداهم المهلّب:

« الفرار الفرار، فهو اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضلّ الله سعيكم. » ثم نظر إلى أصحابه فقال:

« والله ما أدري استحرار القتل إلّا في أصحابي وقومي. » ومالت الخيل على رجّالة ابن شميط فانهزمت وأخذت في الصحراء، فبعث مصعب بن الزبير عبّاد بن الحصين على الخيل وقال:

« أيّما أسير أخذته فاضرب عنقه. » وسرّح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال:

« دونكم ثأركم. » فلم يكن على المنهزمين قوم أشدّ عليهم منهم، كانوا لا يعفون عن أسير إنما هو القتل، فلم ينج من ذلك الجيش إلّا طائفة من أصحاب الخيل، وأما رجالتهم، فأبيدوا.

فتحدّث عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي، قال: والله إني لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم، فأصغى إليّ برأسه وقال لي:

« قتلت والله العبيد قتلة ما سمعت بمثلها قطّ. » ثم قال:

« وقتل ابن شميط وابن كامل، وفلان وفلان.. » فسمى قوما من العرب ورجالا كان الواحد منهم خيرا من أمّة من الناس. » قال: فقلت:

« إنّا لله، هذه والله مصيبة. » فقال لي:

« ما من الموت بدّ، وما من ميتة أموتها أحبّ إليّ من مثل ميتة ابن شميط، حبّذا مصارع الكرام. » قال: فعلمت أنّ الرجل قد حدّث نفسه إن لم يصب حاجته، أن يقاتل حتى يموت. وأقبل مصعب حتى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تكن واسط هذه بنيت بعد، وأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن، فأخذوا في نهر يقال له: نهر خرشيذ، ثم خرجوا من ذلك النهر إلى الفرات. وكان أهل البصرة يخرجون فيجرّون سفنهم ويقولون:

عوّدنا المصعب جرّ القلس ** والزّنبريّات الطّوال القعس

ولمّا بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه في البرّ والبحر، سار حتى نزل السيلحين، ونظر إلى مجتمع الأنهار: نهر الحيرة، ونهر السيلحين، ونهر القادسيّة، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كلّه في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين.

فلما رأوا ذلك، خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتى أتوا ذلك السكر، فكسروه.

غلط المختار في ذلك

فكان غلط المختار في ذلك، أنه حيث سكر الماء وقطعه عن القوم، وجب أن يخلّف على السكر جيشا قويّا. فصمد القوم لما كسروا السكر صمد الكوفة، فلما رأى المختار ذلك أقبل إليهم حتى نزل حرورا، وحال بينهم وبين الكوفة، وقد كان حصّن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عدّة الحصار، واستعمل على الكوفة عبد الله بن شدّاد.

وجاء مصعب في جيشه، وخرج إليه المختار، وقد جعل على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثم الثوري، وكان على شرطته عبد الله بن قراد الخثعمي، وعلى الخيل عمر بن عبد الله النهديّ، على الرجال مالك بن عمرو النهديّ.

وجعل مصعب على ميمنته المهلّب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبد الله بن معمر التيميّ، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين الحبطيّ وعلى الرجال مقاتل بن مسمع الكنديّ، ونزل هو يمشى، وجعل على الكوفة محمد بن الأشعث.

فجاء محمد حتى نزل بين مصعب والمختار مقربا ميامنا، فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كلّ خمس من أخماس البصرة رجلا من أصحابه في خيل، ووقف في بقيّة أصحابه، وزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة عليهم عبد الله بن معمر، فقاتلهم ربيعة قتالا شديدا وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل أحدهما فانصرف، حمل الآخر، وربما حملا جميعا.

فبعث مصعب إلى المهلّب:

« ما تنتظر أن تحمل من بإزائك؟ ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان اليوم؟

احمل بأصحابك. » فقال المهلّب:

« إني لعمري ما كنت لأجزر الأزد وتميما خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتى. » وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن:

« احمل على من يليك. »

فحمل عليهم، فكشفهم حتى انتهوا إلى مصعب. فجثا مصعب على ركبتيه، ولم يكن فرّارا، فرمى بأسهمه، ونزل الناس، فقاتلوا ساعة، ثم تحاجزوا.

فبعث مصعب إلى المهلّب وهو في خمسين من الأخماس جامّين كثيرى العدد والفرسان:

« لا أبا لك ما تنتظر أن تحمل على القوم؟ » فمكث غير بعيد. ثم إنه قال لأصحابه:

« قد قاتل القوم منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وبقي ما عليكم، احملوا واصبروا واستعينوا بالله. » فحملوا حملة عظيمة، فحطّموا أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفوهم.

وقال عبد الله بن عمرو النهديّ، وكان من أصحاب صفّين:

« اللهمّ إني على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفّين، اللهمّ إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء المنهزمين. » وجالد بسيفه حتى قتل.

وأتى مالك بن عمرو النهدي بفرسه، وكان على الرجّالة، فركبه وانقصف أصحاب المختار انقصافة شديدة كأنّهم أجمة فيها حريق.

فقال مالك حين ركب:

« ما أصنع بالركوب؟ والله لأن أقتل هاهنا أحبّ إليّ من أن أقتل في بيتي. أين أهل البصائر؟ » فثاب إليه نحو من خمسين رجلا.

ذكر ظفر بعد هزيمة

وذلك عند المساء. فكرّ على أصحابه محمد بن الأشعث وكان إلى جانبه، فقتل محمد بن الأشعث هو وعامّة أصحابه. وانتهى المختار في أصحابه إلى محمد بن الأشعث قتيلا ومالك بن عمرو يحسّهم بالسيف، فقال:

« يا معشر الأنصار، كرّوا على الثعالب الروّاغة. » فحملوا عليهم، وانهزم أصحاب مصعب وطلع القمر.

وأمر المختار مناديا فنادى:

« يا محمّد! » وكان علامة بينه وبين أصحابه، فحملوا على مصعب، فهزموه وأدخلوه عسكره، ولم يزل المختار وأصحابه يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد.

ذكر اتفاق سيء بعد الظفر لأجل عجلة وسوء تثبت

وكان أصحابه قد وغلوا في أصحاب مصعب، فقال له بعض من كان معه:

« أيها الأمير، ما تنتظر؟ قد هزم أصحابك وما بقي معك أحد، انصرف إلى القصر. » قال المختار:

« والله ما نزلت وأنا أريد الركوب، فأما إذا انصرف أصحابي فقدّموا فرسي. » فركب حتى دخل القصر منهزما، وانصرف أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا:

« قد قتل. » فهرب منهم طائفة ممن أطاق الهرب، واختفوا في دور الكوفة وتوجّه منهم نحو القصر نحو من ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم وكانوا في الأصل عشرين ألفا فلما أتوا القصر وجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه.

وأصبح مصعب فأقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمرّ بالمهلّب.

فقال له المهلّب:

« يا له فتحا ما أهنأه! لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل. » قال:

« صدقت، فرحم الله محمّدا. »

ذكر قتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب

ثم قال:

« يا مهلّب! » قال:

« لبّيك أيها الأمير. » قال:

« هل علمت أنّ عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب قد قتل؟ » قال:

« إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. » قال مصعب:

« أما إني كنت أحبّ أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحقّ بشيء مما نحن فيه منه. أتدرى من قتله؟ إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة. أما إنهم قتلوه وهم يعرفونه. »

مصعب يحاصر قصر المختار وهو فيه

ثم مضى حتى حاصر المختار، وقطع عنهم الماء والمادّة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فنزل الكناسة، وبعث إلى الجبابين ليقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادّة، فأصابهم جهد شديد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه، فقاتلوا قتالا ضعيفا، وكان لا تخرج له خيل إلّا رميت بالحجارة من فوق البيوت ويصبّ عليهم الماء القذر، فاجترأ الناس عليهم. فكان أفضل معايشهم من نسائهم. وذلك أنّ المرأة كانت تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء قد التحفت عليه، فتخرج كأنها تريد المسجد الأعظم للصلاة أو تزور قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على حميمها بطعامه وشرابه ولطفه، وإنّ ذلك ليبلغ مصعبا.

وكان المهلّب ذا حنكة وتجربة، فقال:

« أيّها الأمير، اجعل عليهم دروبا حتى يمكنك أن تمنع ما يأتيهم من جهة أهليهم وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه. » وكان القوم إذا اشتدّ عليهم العطش استقوا ماء البئر، وطرحوا فيه العسل ليغيّر طعمه، فأخذ ثلاث نسوة في الشباميّين أتين أزواجهنّ في القصر، فبعث بهنّ إلى مصعب ومعهنّ الطعام والشراب، فردّهنّ مصعب ولم يعرض لهنّ.

فقال المختار يوما لأصحابه:

« ويحكم! إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، انزلوا بنا، فلنقاتل حتى نقتل كراما إن قتلنا، والله ما أنا بيائس إن أنتم صدقتموهم، أن ينصركم الله. » فضعفوا وعجزوا، فقال لهم المختار:

« أما أنا والله لا أعطى بيدي، ولا أحكّمهم في نفسي. » ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما يريد المختار، تدلّى من القصر، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأ عندهم.

مقتل المختار وما قاله في أمره

ثم إنّ المختار أزمع الخروج حين رأى من أصحابه الضعف والفشل. فأرسل إلى امرأته أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتحنّط، ثم وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر نفسا فيهم السائب بن مالك الأشعريّ، وكان خليفته على الكوفة إذا خرج. ولما خرج المختار من القصر قال للسائب:

« ما ذا ترى؟ » قال:

« أنا أرى، أم الله؟ » قال:

« بل الله، ويحك أحمق أنت. إنما أنا رجل من العرب لمّا رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ورأيت مروان انتزى على الشام، لم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، وكنت كأحدهم، إلّا أنى قد طلبت بثأر أهل بيت النبي، وعليهم، إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك في دمائهم، وبالغت في ذلك إلى يومي هذا. فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نيّة. » « قال: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي؟ » فتمثّل المختار عند ذلك بشعر غيلان بن سلمة الثقفيّ:

ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ** عني الهموم بأمر ما له طبق

لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ** غنم الحياة، وهول الموت والشفق

إمّا تسفّ على مجد ومكرمة ** أو أسوة لك في من يهلك الورق

ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فقال للناس:

« أتؤمنونى وأخرج إليكم؟ » فقالوا:

« لا، إلّا على الحكم. » فقال:

« لا أحكّمكم في نفسي أبدا. » فضارب بسيفه حتى قتل.

ذكر رأي المختار في تلك الحال وكان صوابا

كان المختار قال لأصحابه حين أتوا أن يبايعوا على الخروج:

« إذا أنا خرجت فقتلت لم تزدادوا إلّا ضعفا وذلّا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين وترتموهم. يقول كلّ رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأرى، فيقتل وينظر بعضكم إلى بعض فيرى مصرعه ومصرع أحبّته، فيقولون: يا ليتنا كنّا أطعنا المختار وعملنا برأيه، ولو أنكم خرجتم معي، كنتم إن أخطأتم الظفر، متّم كراما، وإن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا أذلّ من على ظهر الأرض. » فكان الأمر على ما قال.

ولما كان من الغد، قال لهم بجير بن عبد الله:

« يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأي لو أطعتموه، يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا بأسيافكم حتى تموتوا كراما إن قتلتم. » فقالوا:

« قد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك فعصيناه، أفنحن نطيعك؟ » فأمكنوا القوم من أنفسهم ونزلوا على الحكم. فبعث إليهم مصعب عبّاد بن الحصين، فكان يخرج بهم مكتّفين، فأدركتهم الندامة حينئذ، فقتلوا من عند آخرهم.

ذكر كلام لهؤلاء المسلمين واستعطاف حين أحسوا بالقتل

قال بجير بن عبد الله المسليّ حين أتى به مصعب ومعه ناس كثير منهم:

« الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار وابتلاك بالعفو، وهما منزلتان، في إحداهما رضا الله، وفي الأخرى سخطه. من عفا عفا الله عنه وزاده عزّا، ومن عاقب لم يأمن القصاص، يا بن الزبير، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ولسنا تركا ولا ديلما، خالفنا إخواننا من أهل مصرنا، فإمّا أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإمّا أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الإسلام بينهم فقد اختلفوا واقتتلوا، ثم اصطلحوا واجتمعوا. لقد ملكتم فأسجحوا، وقدرتم فاعفوا. » فلم يزل بهذا القول ونحوه حتى رقّ لهم الناس، ورقّ مصعب أيضا، وأراد أن يخلّى سبيلهم. فقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث:

« تخلّى سبيلهم يا بن الزبير؟ اخترنا، أو اخترهم! » ووثب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فقال:

« قتل أبي وخمسمائة من همدان وأشراف العشيرة، ثم تخلّى سبيلهم ودماؤنا ترقرق في أجوافهم، اخترنا أو اخترهم. » ووثب كلّ قوم وأهل بيت كان أصيب منهم رجل، فقالوا نحوا من هذا القول.

فلما رأى مصعب ذلك، أمر بقتلهم، فنادوه بأجمعهم:

« يا بن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا على مقدّمتك إلى أهل الشام غدا، فو الله ما بك ولا بأصحابك عنّا غدا غنى إذا لقيتم عدوّكم، فإن قتلنا لم نقتل حتى نرقّهم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك. »

فأبى عليهم وتبع رضا أصحابه.

فقال بجير المسليّ:

« إنّ حاجتي إليك ألّا أقتل مع هؤلاء، إني أمرتهم أن يخرجوا بأسيافهم فيقاتلوا حتى يموتوا كراما، فعصونى. » فقدّم ناحية فقتل.

كلام آخر بنحو آخر من الاستعطاف

ثم إنّ مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب:

« يا بن الزبير، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمّة من المسلمين صبرا حكّموك في دمائهم وكان الحقّ في دمائهم ألّا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس، فإن كنّا قتلنا عدّة رجال منكم فاقتلوا عدّة من قتلنا منكم وخلّوا سبيل بقيّتنا وفينا رجال كثير لم يشهدوا موطنا من حربنا وحربكم يوما واحدا كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج ويؤمنون السبل. » فلم يستمع له. فقال:

« قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكّة من هذه السكك فنطردهم ثم نلحق بعشائرنا، فعصونى حتى نموت الآن ميتة العبيد، فأنا أسألك ألّا تخلط دمى بدمائهم. » فقدّم ناحية فقتل. فكان عدد من قتل صبرا ستة آلاف سوى من قتل في المعركة.

توبيخ من عبد الله بن عمر لمصعب على فعله هذا

فلقى مصعب بن الزبير يوما عبد الله بن عمر، فسلّم عليه، فأعرض عنه ابن عمر، فقال:

« أنا ابن أخيك مصعب. » فقال:

« نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة. عش ما استطعت! » فقال مصعب:

« إنهم كانوا كفرة فجرة. » فقال ابن عمر:

« والله لو قتلت عددهم غنما من تراث أبيك، لكان ذلك سرفا. »

كف المختار سمرت إلى جنب المسجد

ثم إنّ مصعبا أمر بكفّ المختار فقطعت، ثم سمّرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد، فلم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليها، فقال:

« ما هذه؟ » قالوا:

« كفّ المختار. » فأمر بنزعها.

كتب مصعب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته

وبعث مصعب عمّاله على الجبال والسواد. ثم كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له:

« إن أنت أجبتنى ودخلت في طاعتي، فلك الشام، وأعنّة الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب وما دام لآل الزبير سلطان. » وكتب إليه عبد الملك بن مروان من الشام يدعوه إلى طاعته ويقول:

« إن أجبتنى ودخلت في طاعتي، فلك العراق. » فاستشار إبراهيم أصحابه، فاختلفوا عليه، فقال إبراهيم:

« لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ورؤساء الشام، لأجبت عبد الملك مع أنى لا أختار على أهل مصري مصرا، ولا على عشيرتي عشيرة. » فكتب إلى مصعب، فأجابه مصعب: أن أقبل، فأقبل إليه، وبعث المهلّب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلّب على الفرات.

ما جرى على عمرة امرأة المختار

ثم إنّ مصعبا بعث إلى عمرة بنت النعمان بن بشير وهي امرأة المختار، فقال لها:

« ما تقولين في المختار؟ » فقالت:

« رحمه الله، كان عبدا من عباد الله الصالحين. » فرفعها مصعب إلى السجن، وكتب إلى أخيه عبد الله أنها تزعم أنه نبي. فكتب إليه أن اقتلها. فأخرجها بعد عتمة، وسلّمها إلى مطر، فضربها ثلاث ضربات بالسيف، فقالت:

« يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه! » فسمع بها أبان بن النعمان بن بشير، فلطمه وقال له:

« يا بن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك. » ولزمه مطر حتى رفعه إلى مصعب، فقال:

« إنّ أختى مسلمة. » وادّعى شهادة بنى قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب:

« خلّوا سبيله فإنّه رأى أمرا فظيعا. »

فقال عمر بن أبي ربيعة:

إنّ من أعجب العجائب عندي ** قتل بيضاء حرّة عطبول

قتلت هكذا على غير جرم ** إنّ الله درّها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا ** وعلى المحصنات جرّ الذّيول

حصار عبد الله بن خازم رجال بنى تميم بخراسان

وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بنى تميم بسبب من قتل منهم ابنه محمّدا. وذلك أنّ بنى تميم تفرّقوا بخراسان أيّام ابن خازم. فأتى قصرا يعرف بفرنبا عدّة من فرسان بنى تميم وأنجادهم مثل عثمان بن بشير، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن العلق، وزهير بن ذؤيب العدويّ، وجبهان بن مشجعة الضبي، ورقبة بن الحرّ، والحجّاج بن ناشب، فأتاهم ابن خازم فحصرهم، وخندق على نفسه خندقا حصينا لئلّا يبيّتوه، فكانوا يخرجون ويقاتلونه ثم يرجعون إلى القصر. فخرج ابن خازم يوما على تعبئة من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر، فقال عثمان بن بشير:

« لا أظنّ لكم اليوم بهم طاقة، فانصرفوا. » فقال زهير بن ذؤيب العدوى: امرأته طالق إن يرجع حتى ينقض صفوفهم.

وكان إلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه ولم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطّم أولهم على آخرهم واستداروا وكرّ راجعا واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به ولا ينزل إليه أحد حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدر منه، فخرج، وحمل عليهم، فأفرج له القوم حتى رجع.

فقال ابن خازم لأصحابه:

« إذا خرج إليكم زهير فطاعنتموه فاجعلوا في رماحكم كلاليب، فاعلقوها في أداته ودرعه. » فالتفت إليه ليحمل عليهم، فخلّوا رماحهم، فجاء يجرّ أربعة أرماح حتى دخل القصر، فأرسل ابن خازم إلى زهير:

« أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف وجعلت لك باشان طعمة تناصحنى؟ » فقال زهير للرسول:

« ويحك! كيف أنا صح قوما قتلوا الأشعث بن ذؤيب؟ » فرجع الرسول فأسقط بها عند موسى بن عبد الله بن خازم. فلما أطال عليهم الحصار، أرسلوا إلى ابن خازم أن:

« خلّنا نخرج فنتفرّق. » فقال:

« لا، إلّا أن تنزلوا على حكمي. » قالوا:

« فإنّا ننزل على حكمك. » فقال لهم زهير:

« ثكلتكم أمّهاتكم، والله ليقتلنّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا، فإمّا أن تموتوا جميعا، وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعض. وأيم الله، لئن شددتم عليهم شدّة صادقة ليفرجنّ لكم عن مثل طريق البريد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم. » قال: فأبوا عليه، فقال:

« أما إني سأريكم. » ثم خرج هو ورقبة بن الحرّ ومع رقبة غلام له تركيّ، وشعبة بن ظهير، فحملوا على القوم، فأفرجوا لهم، فمضوا. فأما رقبة وغلامه وشعبة فمضوا على وجوههم، وأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر، فقال لأصحابه:

« قد رأيتم، فأطيعونى. » فقالوا:

« إنّ فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة. » قال:

« أبعدكم الله، والله لا أكون أجزعكم من الموت. » ففتحوا القصر، ونزلوا على حكمه، فأرسل إليهم، فقيّدهم، ثم حملوا رجلا رجلا، فأراد أن يمنّ عليهم، فأبى ابنه موسى وقال:

« والله، لئن عفوت عنهم لأتّكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري. » فقال له عبد الله:

« أما والله، إني لأعلم أنّ الغيّ في ما يأمرنى به. » فقتلهم جميعا إلّا ثلاثة: الحجاج بن ناشب - كلّمه فيه رجال من بنى تميم كانوا معتزلين من عمرو، وحنظلة، وجبهان بن مسجعة، وهو الذي كان ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم خلّوا عن هذا البغل الديرج، ورجل من بنى سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر.

فأما زهير بن ذؤيب، فأرادوا حمله مقيّدا، فأبى وأقبل يحجل في قيده حتى جلس بين يديه، فقال له ابن خازم:

« كيف شكرك إن أطلقتك وجعلت لك باشان طعمة؟ » قال:

« لو لم تصنع بي إلّا حقن دمى لشكرتك. » فقام ابنه موسى، فقال:

« تقتل الضبع وتترك الذيخ؟ تقتل اللبوءة وتترك الليث؟ » قال:

« ويحك! يقتل مثل زهير؟ من لقتال عدوّ المسلمين، من لنساء العرب؟ » قال:

« والله لو شركت في دم أخي لقتلتك. » فقام رجل من بنى سليم إلى ابن خازم، فقال:

« أذكّرك الله في زهير. » فقال له موسى:

« اتخذه فحلا لبناتك! » فغضب ابن خازم، وأمر بقتله. قال زهير:

« فإنّ لي حاجة: لا تخلط دمى بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراما، وأن يخرجوا عليكم مصلتين السيوف، والله لو فعلوا لشغلوا بنيّك هذا بنفسه عن طلب الثأر بأخيه. » وأمر به فنحّى ناحية وقتل.

فما أشبه هذا الرأي برأى المختار حتى كأنّ أحدهما أخذ عن صاحبه، ولعلّ الوقتين كان واحدا، فإنّ الزمان متقارب.

رجوع الأزارقة

وفي هذه الأيام التي شغل فيها الناس بعضهم ببعض، رجعت الأزارقة إلى قرب الكوفة، وذلك في سنة ثمان وستين.

وكان عبد الله بن الزبير ردّ أخاه مصعبا على العراق أميرا بعد أن كان عزله بابنه حمزة وظهر من ابنه حمزة خفّة فعزله. فلما ردّ مصعبا، بعث مصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا، وصار هو إلى البصرة، وكانت الأزارقة قد لحقت بفارس وكرمان ونواحي إصبهان بعد ما أوقع بهم المهلّب بالأهواز. فلما أشخص المهلّب إلى الموصل كان عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، فانحطّت الأزارقة مع ابن الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله، فلقيهم، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم ظفر بهم وانهزموا، وتبعهم عمر بن عبيد الله، وكتب بالفتح إلى مصعب، ولحقهم بإصطخر وقد ثبتوا له، فلقيهم وقاتلهم قتالا شديدا وقتل ابنه. ثم إنّه ظفر بهم وقطعوا قنطرة طمستان، وارتفعوا إلى إصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتى اجتبروا، وقووا، واستعدّوا وكثروا.

ثم إنهم أقبلوا حتى مرّوا بفارس، وفيها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أنّ الخوارج قد قطعت أرضه موجّهة إلى البصرة خشي ألّا يحتملها له مصعب، فشمّر في آثارهم مسرعا حتى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا موجّهين إلى الأهواز. وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج، فعسكر بالناس بالجسر الأكبر وقال:

« والله، ما أدري ما الذي أغنى عني أن وضعت عمر بن عبيد الله بن معمر بفارس، وجعلت معه بها جندا أجرى عليهم أرزاقهم في كلّ شهر، وأوفّيهم أعطياتهم في كلّ سنة، وآمر لهم من المعاون كلّ سنة بمثل الأعطيات، قطع أرضه الخوارج إليّ، وقد أزحت علّته، وقد أمددته بالرجال، وقوّيتهم، والله، لو قاتلهم ثم فرّ لكان أعذر له عندي، وإن كان الفارّ غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل. »

إقبال الخوارج وعليهم الزبير

وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتى نزلوا الأهواز. فأتتهم عيونهم أنّ عمر بن عبيد الله في أثرهم، وأنّ مصعبا قد خرج من البصرة.

فقام الزبير خطيبا وقال بعد حمد الله:

« أما بعد، فإنّ من سوء الرأي والحين وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدوّنا، فلنلقهم من وجه واحد. » فسار بهم حتى قطع بهم الأرض إلى جوخى، ثم أخذ على النهر وانات، ثم لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن، فشنّ بها الغارات، وقتل الولدان والنساء والرجال، وبقربطون الحبالى. وانتهوا إلى ساباط، ففعلوا ذلك، وقتلوا نباتة بنت أبي يزيد بن عاصم الأزديّ، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت قرأت القرآن، وهي أفصح امرأة، غشوها بالسيف، قالت:

« ويحكم هل سمعتم بأنّ الرجال كانوا يقتلون النساء؟ ويحكم، هل سمعتم بقتل امرأة؟ ويحكم أتقتلون من لا يبسط إليكم يدا ولا يريد بكم ضرّا، ولا يملك لنفسه نفعا؟ أتقتلون من يُنَشَّؤُا في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ؟ » فقال رجل منهم:

« لو تركتموها! » فقال له آخر:

« أعجبك جمالها يا عدوّ الله! كفرت وافتتنت. » وانصرف الآخر عنه وتركهم، قال: فظننّا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها.

خروج الحارث بن أبي ربيعة من الكوفة ومعه ابن الأشتر

ثم إنّ الناس بالكوفة أتوا الحارث بن أبي ربيعة، فصاحوا إليه وقالوا:

« اخرج، فإنّ هذا عدوّنا قد أظلّ علينا. » فتقاعد إلى أن أكثروا الصياح فخرج حتى نزل النخيلة، فأقام بها أياما.

فوثب إبراهيم بن الأشتر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« أما بعد، فإنّه قد سار إلينا عدوّ ليست له بقيّة، يخيف السبل ويخرّب البلاد، فانهض بنا إليه. » فأمر بالرحيل، فخرج حتى نزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل شبث بن ربعيّ، فكلمه بنحو ما كلّمه به ابن الأشتر، فارتحل، ولم يكدّ، فرجز به الناس وكان يلقّب بالقباع:

سار بنا القباع سيرا نكرا ** يسير يوما ويقيم شهرا

فأشخصوه من ذلك المكان. فكلّما نزل بهم منزلا أقام، يصيح به الناس وينادونه حول فسطاطه. فلم يبلغ الصراة إلّا في بضعة عشر يوما وقد انتهى إليها طلائع العدوّ، وأوائل الخيول. فلما أتتهم العيون بأن جماعة أهل المصر قد أتوهم قطعوا الجسر بينهم وبين الناس.

فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث بن أبي ربيعة:

« اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب فأجيئك برؤوسهم. » فقال شبث بن ربعيّ، وأسماء بن خارجة، ومحمد بن عمير:

« أصلح الله الأمير، دعهم، فليذهبوا، لا تبدأ بهم. » وكانوا حسدوا إبراهيم بن الأشتر. فلما أتت أيّام اجتمع الناس فقالوا:

« يا أيها الأمير، ما قعودنا بهذا الجسر، فليعد، ثم اعبر بنا إليهم، فإنّ الله سيريك ما تحبّ. » فأمر بالجسر، فأعيد وعبر الناس إليهم، فطاروا إلى المدائن، فتبعهم المسلمون، فخرجوا، فأتبعهم الحارث بن أبي ربيعة، عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا في أرض البصرة خلّاهم، فاتبعهم حتى وقعوا في أرض البصرة، ثم وقعوا إلى إصبهان، فانصرف عنهم من غير قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتّاب بن ورقاء بجيّ، وحاصروه. فكان يخرج إليهم فيقاتلهم ولا يطيقهم. وكانت إصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب الزبير، فبعث عتّابا، فصبر لهم عتّاب، فكان يقاتلهم على باب المدينة، ويرمون من السور النشّاب والحجارة. فلما طال الحصار ونفدت الأطعمة هلك كراعهم وأصابهم الجهد الجهيد.

ذكر رأي لعتاب بن ورقاء صحيح

فدعاهم عتّاب بن ورقاء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« أما بعد، أيها الناس، فإنّه قد أصابكم من الجهد ما ترون. فو الله، إن بقي إلّا أن يموت أحدكم على فراشه، فيحيى أخوه فيدفنه إن استطاع. وبالحريّ أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو، فلا يجد من يدفنه ولا يصلّى عليه، فاتقوا الله، فو الله ما أنتم بالقليل الذي تهون شوكتهم، وإنّ فيكم لفرسان أهل المصر وإنكم لصلحاء من أنتم منه. اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم، وبنا حياة وقوّة، قبل أن لا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته. فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فو الله إني لأرجو، إن صدقتموهم، أن يظفركم الله بهم. » فناداه الناس من كلّ جانب:

« وفّقت وأصبت، اخرج بنا إليهم. » فجمع إليه الناس من الليل، وأمر لهم بعشاء كثير، فتعشّى الناس عنده. ثم إنه خرج بهم حتى أصبح على راياتهم، فصبّحهم في عسكرهم، وهم آمنون أن يؤتوا في عسكرهم، فأخلوا لهم حتى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فقاتل في عصابة نزلوا معه حتى قتل.

وانحازت الأزارقة إلى قطريّ، فبايعوه، فمشوا إلى قطريّ مصلتين للسيوف، فارتحلوا منهزمين، فكان آخر العهد بهم.

ذكر رأي رءاه الأحنف للخوارج وهو يعد من سقطاته

يقال: إنّ الخوارج دسّوا إلى الأحنف من جلس إليه، وذاكره بهم، فقال:

« إنّ هؤلاء إن ركبوا بنات سحّاج، وقادوا بنات صهّال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحريّ أن يبقوا. » فلما بلغ ذلك قطريّا، ذهب وخلّاهم، ومضى نحو كرمان، فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض، واجتبى المال، وقوى، ثم أقبل حتى أخذ في أرض إصبهان، ثم خرج من شعب ناشط إلى إيذج وأرض الأهواز، والحارث بن أبي ربيعة عامل مصعب على البصرة. فكتب إلى مصعب:

« قد تحدّرت الخوارج إلى الأهواز، وليس لهم إلّا المهلّب. » فبعث إلى المهلّب، وهو على الجزيرة والموصل وأمره بقتال الخوارج والمسير إليهم، وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر. وجاء المهلّب حتى قدم البصرة، وانتخب الناس وسار بمن أحبّ. ثم توجّه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشدّ قتال يكون.

ذكر توبيخ للخوارج المهلب على طريق المكيدة

ثم إنه بلغهم أنّ مصعبا قد قتل، ونحن نذكر خبره في ما بعد، وذلك قبل أن يبلغ المهلّب وأصحابه. فناداهم الخوارج:

« ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب؟ » قالوا:

« إمام هدى. » قالوا:

« هو وليّكم في الدنيا والآخرة. » قالوا:

« نعم. » قالوا:

« وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا. » قالوا:

« نعم. » قالوا:

« فما قولكم في عبد الملك بن مروان؟ » قالوا:

« ذاك ابن اللعين نحن منه برآء إلى الله، هو عندنا أحلّ دما منكم » قالوا:

« فأنتم منه برآء في الدنيا والآخرة. » قالوا:

« نعم، كبرائنا منكم. » قالوا:

« وأنتم له أعداء أحياء وأمواتا. » قالوا:

« نعم، كعداوتنا لكم. » قالوا:

« فإنّ إمامكم مصعبا قتله عبد الملك، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم، وأنتم اليوم تبرّأون منه وتلعنونه. » قالوا:

« كذبتم يا أعداء الله. » فلما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب، فبايع المهلّب الناس لعبد الملك بن مروان. فأتتهم الخوارج فقالوا لهم:

« ما تقولون في مصعب؟ » قالوا:

« يا أعداء الله، لا نخبركم ما قولنا فيه. » قالوا:

« فقد أخبرتمونا أمس أنه وليّكم في الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك؟ » فقالوا:

« ذاك إمامنا وخليفتنا. » ولم يجدوا - إذ بايعوه - من أن يقولوا هذا القول بدّا. فقالت لهم الأزارقة:

« يا أعداء الله أنتم أمس تبرّأون منه في الدنيا والآخرة، وتلعنونه، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم. وقد قتل إمامكم الذي كنتم تولّونه، فأيهما المحقّ، وأيهما المبطل، وأيهما المهتدي، وأيّهما الضالّ! » فقالوا لهم:

« يا أعداء الله، رضينا بذاك، إذ كان يلي أمورنا، ونرضى بهذا، كما كنّا رضينا بذاك. » قالوا:

« لا والله، ولكنّكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا. » وتشاتموا.

ذكر مسير عبد الملك إلى مصعب

كان لا يزال عبد الملك يخرج من دمشق ومصعب من الكوفة. فإذا تدانيا، هجم الشتاء، فانصرف كلّ واحد إلى مكانه حتى إذا كان سنة تسع وستين - وقد قيل سنة سبعين - خرج عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق:

« إنّك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى هذا، جاهدت معه وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك. » فلم يجبه إلى شيء من ذلك. فانصرف عمرو إلى دمشق، فغلب عليها. ورجع عبد الملك في أثره وإنّ عمرا اجتمع الناس إليه، فصعد المنبر فخطبهم، وقال بعد حمد الله والثناء عليه:

« أيها الناس إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر، إلّا زعم أنّ له جنّة ونارا يدخل الجنّة من أطاعه، والنار من عصاه. وإني أخبركم أنّ الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إليّ من ذلك شيء. غير أنّ لكم عليّ حسن المواساة والعطيّة. » ثم إنّ عبد الملك وعمرا اقتتلا أياما على باب دمشق وتأدّى الأمر بينهما إلى الموادعة والصلح، وكتبا بينهما كتابا وآمنه عبد الملك.

فيقال: إنّ عمرو بن سعيد جاء في خيل متقلّدا قوسا، وأقبل حتى أوطأ فرسه سرادقات عبد الملك، فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو:

« يا با أمية، كأنك تشبّه بتقلّدك هذه القوس بهذا الحيّ من قيس. » فقال:

« لا، ولكني أتشبّه بمن هو خير منهم: العاص بن أمية. » ثم قام مغضبا والخيل معه حتى دخل دمشق، ودخل عبد الملك أيضا دمشق.

فبعث إلى عمرو أن:

« أعط الناس أرزاقهم. » فأرسل إليه عمرو:

« إنّ هذا ليس لك ببلد، فاشخص عنه. »

ذكر استهانة بعدو عادت بهلكة

فلما كان بعد أيام، بعث إلى عمرو أن:

« ايتنى أخاطبك. » فلما أتى رسوله عمرا يدعوه، صادف الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو:

« يا با أمية، لأنت أحبّ إليّ من سمعي وبصرى، وقد أرى هذا الرجل بعث إليك أن تأتيه، وأنا أرى لك ألّا تفعل. » فقال عمرو:

« ولم؟ » قال:

« لأنّه يقال: إنّ عظيما من ولد إسماعيل يغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث إلّا أن يقتل. » فقال له عمرو:

« والله لو كنت قائما ما تخوّفت أن لا ينبّهنى ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك مني. »

رواح عمرو إلى عبد الملك وما جرى عليه

وقال عمرو للرسول:

« أبلغه عني السلام وقل له: أنا رائح إليك العشيّة. » فلما كان العشيّ، لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهيّ وقميص، وتقلّد سيفه. فلما نهض متوجّها عثر بالبساط، فقال حميد:

« أما والله لئن أطعتنى لم تأته. »

وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بنى مروان، فاجتمعوا عنده. فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب، أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له. فدخل ولم يزل أصحابه يحبسون عند كلّ باب حتى دخل عمرو قعر الدار وليس معه إلّا وصيف له. فرمى عمرو ببصره، فإذا حوله بنو مروان وفيهم حسّان بن بحدل الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي.

فلما رأى جماعتهم أحسّ بالشرّ، فالتفت إلى وصيفه، فقال:

« انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد يعنى أخاه، فقل له يأتنى. » فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له:

« لبّيك. » فقال له:

« اغرب في حرق الله وناره. » وقال عبد الملك لحسّان وقبيصة:

« إذا شئتما، فقوما فالتقيا وعمرا في الدار. » فقال عبد الملك لهما كالممازح:

« ليطمئنّ عمرو! أيّكما أطول؟ » فقال حسّان:

« قبيصة أطول مني يا أمير المؤمنين بالإمرة. » وكان قبيصة على الخاتم. ثم التفت عمرو إلى وصيفه، فقال:

« انطلق إلى يحيى، فمره أن يأتينى. » فقال له:

« لبّيك. » ولم يفهم عنه.

فقال له عمرو:

« اغرب عني. »

فلما خرج حسّان وقبيصة، أمر بالأبواب فأغلقت، ودخل عمرو، فرحّب به عبد الملك، وقال:

« ها هنا يا با أمية رحمك الله. » فأجلسه معه على السرير وجعل يحدّثه طويلا ثم قال:

« يا غلام خذ السيف عنه. » فقال عمرو:

« إنّا لله، يا أمير المؤمنين. » فقال عبد الملك:

« أو تطمع أن تجلس معي متقلّدا سيفك! » فأخذ السيف عنه، ثم تحدّثا ما شاء الله، ثم قال له عبد الملك:

« يا با أمية! » فقال:

« لبّيك يا أمير المؤمنين! » فقال:

« إنّك حيث خلعتنى آليت بيمين أنى إن ملأت عيني منك وأنا مالك لك، أن أجمعك في جامعة. » فقال له بنو مروان:

« ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ » قال:

« ثم أطلقه. وما عسيت أن أصنع بأبي أميّة. » فقال بنو مروان:

« أبرّ قسم أمير المؤمنين. » قال عمرو:

« فإني أبرّ قسم أمير المؤمنين. » فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال:

« يا غلام قم فاجمعه فيها. »

فقام فجمعه فيها، فقال عمرو:

« أذكّرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس. » فقال عبد الملك:

« أمكرا يا با أمية وأنت في الحديد! لا ها الله، ما كنّا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولا نخرجها منك إلّا صعدا. » ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه منها السرير فكسر ثنيّته. فقال عمرو:

« أذكّرك الله يا أمير المؤمنين، أن يدعوك كسر عظم مني إلى أن تركب ما هو أعظم منه. » فقال له عبد الملك:

« والله لو أعلم أنّك تبقّى عليّ أو تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة على مثل ما نحن عليه إلّا أخرج أحدهما صاحبه. » فلما رأى عمرو ما يريد قال:

« أغدرا يا بن الزرقاء؟ » وأذّن المؤذّن العصر، فخرج عبد الملك يصلّى بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان بقتله. فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال: له عمرو:

« أذكّرك الله والرحم، دعني يتولّ قتلى من هو أبعد رحما منك. » فألقى عبد العزيز السيف، وجلس وصلّى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل وغلّقت الأبواب. ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس معه عمرو، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد، فأقبل في الناس حتى حلّ بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو وأناس من أصحابه كثير، فجعل من معه يصيحون:

« أسمعنا صوتك يا با أمية! »

وأقبل مع يحيى جماعة فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، فضرب الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربيّ صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس. ولما دخل عبد الملك داره وجد عمرا حيّا بعد.

فقال لعبد العزيز:

« ما منعك من قتله؟ » قال:

« إنّه ناشدني الله والرحم، فرققت له. » فقال عبد الملك:

« أخزى الله أمّك البوّالة على عقبها فإنّك لم تشبه غيرها. » ولم يكونا من أم واحدة.

ثم قال عبد الملك:

« يا غلام ائتني بالحربة. » فأتاه بها فهزّها، ثم طعنه بها فلم تجزّ، ثم ثنّى فلم تجزّ. فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مسّ الدرع، فضحك، ثم قال:

« ودارع أيضا إن كنت لمعدّا. يا غلام ايتني بالصمصامة. » فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو، فصرع وجلس على صدره، فذبحه وهو يقول:

يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني

وانتفض عبد الملك رعدة فوضع على سريره.

ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بنى مروان، فخرجوا هم ومن معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه. وقام عبد العزيز، فأخذ المال في البدور، وجعل يلقيها إلى الناس. فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا رأس عمرو، وكان ألقى إليهم، تفرّقوا وانتهبوا المال. ثم أمر عبد الملك بعد ذلك بتلك الأموال، فجبيت حتى عادت كلّها إلى بيت المال.

وفقد عبد الملك ابنه الوليد، فجعل يقول:

« ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم. » فأتاه إبراهيم بن عربيّ، وقال:

« هذا الوليد عندي ليس به بأس. » ثم أتى عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر بقتله، فقام إليه عبد العزيز فقال:

« جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين. أتراك قاتلا بنى أمية في يوم واحد؟ » فأمر به فحبس. وأتى عبد الملك بجماعة منهم فحبسهم، وكان همّ بقتلهم، فأشير عليه أن يسيّرهم إلى عدوّه، فإن هم قتلوا، كفى أمرهم، وإن سلموا رأيت رأيك، ولا يكون قد آثرت على نفسك قوما هم اليوم معك.

فألحقهم بمصعب. فلما قدموا عليه ودخل إليه يحيى بن سعيد، قال له ابن الزبير:

« أفلتّ وانحصّ الذنب. » فقال:

« والله إنّ الذنب لبهلبه. »

ذكر سبب العداوة والشحناء بين عبد الملك وبين عمرو بن سعيد

كان الشرّ بينهما قديما، لأنّ ابني سعيد وابني مروان أعنى: محمد بن سعيد وعمرو بن سعيد، ومعاوية بن مروان، وعبد الملك بن مروان، كانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أمّ مروان بن الحكم الكنانيّة يلعبون عندها. فكانت تصنع لهم الطعام، ثم تأتيهم به وتضع بين يدي كلّ واحد صحفة على حدة، ثم تؤرّش بين معاوية بن مروان وبين محمد بن سعيد وبين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد، فيقتتلون، وربما تصارموا الحين لا يكلّم بعضهم بعضا. فكان ذلك دأبهما كلّما أتوها حتى ثبتت الشحناء في صدورهم على الصبى، ثم نشأت تلك العداوة معهما.

فذكر أنّ خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم:

« عجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرّته فقتلته! » فقال عبد الملك:

أدنيته مني ليسكن ذعره ** فأصول صولة حازم مستمكن

ثم إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة:

أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد. فلما نظر إليهم عبد الملك، قال:

« إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون أنّ لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإنّ الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما في أنفس أوّليكم على أوّلينا في الجاهليّة. » فأقطع بأميّة بن عمرو وكان أكبرهم سنّا وأنبلهم وأعقلهم، فلم يتكلّم بشيء.

فقام سعيد بن عمرو، وكان الأوسط، فقال:

ذكر كلام نفع عند سلطان حقود

« يا أمير المؤمنين، ما تبغى علينا أمرا كان في الجاهليّة، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا. فأما الذي بينك وبين عمرو، فإنّ عمرا ابن عمّك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى ربّه وكفى بالله حسيبا. ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها. » فرقّ لهم عبد الملك رقّة شديدة، وقال:

« إنّ أباكم خيّرنى بين أن أقتله أو يقتلني، فاخترت قتله على قتلى. فأما أنتم فما أرغبنى فيكم، وأوصلنى لقرابتكم، وأرعانى لحقّكم! » فأحسن جائزتهم.

مسير عبد الملك إلى العراق لحرب مصعب

ثم سار عبد الملك من الشام إلى العراق لحرب مصعب وذلك في سنة سبعين.

وكان قال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد:

« إن وجّهتنى إلى البصرة مستخفيا في مواليّ وأتبعتني خيلا يسيرة، رجوت أن أغلب لك عليها. » فأنفذه عبد الملك. فقدمها في مواليه، ونزل على عمرو بن أصمع، ولم يتمّ له ما أراد، وعلم به، فهرب بعد أن أثار فتنة، وقاتل مدّة. وبادر مصعب إلى البصرة، فوجد خالدا قد خرج بمن معه، فأتبعه بخداش بن يزيد، فأدرك مرّة بن محكان، فأخذه وقتله.

وكتب عبد الملك إلى المروانيّة من أهل العراق، فأجابه كلّهم، وشرط كلّ واحد ولاية إصبهان، فأنعم بها لهم. منهم: حجّار بن أبجر، وعتّاب بن ورقاء، والغضبان بن القبعثرى، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وغيرهم.

وسار عبد الملك وعلى مقدمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار مصعب وقد خذله أهل الكوفة، وأشار رؤساء أهل الشام على عبد الملك أن يقيم ويقدّم الجيوش، فطن ظفروا، فذاك. وإن لم يظفروا أمدّهم بالجيوش خشية على الناس، وإن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك.

فقال عبد الملك:

« لا يقوم بهذا الأمر إلّا قرشيّ له رأى، ولعلّى أبعث من له شجاعة وليس له رأى، وإني أجد في نفسي أنّى بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجيت إليه، ومصعب في بيت شجاعة، أبوه شجاع قريش وهو شجاع ولا علم له بالحرب، ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي. » فسار عبد الملك حتى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال له مصعب:

« ما فيه؟ » قال:

« ما قرأته. » فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب:

« إنّه والله ما كان أحد آيس منه مني. ولقد كتب إلى أصحابك كلّهم بمثل ما كتب إليّ. فأطعنى فيهم واضرب أعناقهم. » قال:

« إذا لا يناصحنا عشائرهم. » قال:

« فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت، ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم. » فقال:

« يا با النعمان، أنا لفى شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذّرنى غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه. » وتمثّل مصعب:

وإنّ الأولى بالطفّ من آل هاشم ** تأسّوا، فسنّوا للكرام التأسّيا

فعلم الناس أنه قد استقتل.

مقتل إبراهيم الأشتر

ولمّا تدانى العسكران تقدّم إبراهيم بن الأشتر، فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، وهرب، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد بن معاوية، والتقى القوم، فقتل إبراهيم بن الأشتر، وقتل مسلم بن عمرو الباهليّ، وهرب عتّاب بن ورقاء، وكان على الخيل مع مصعب. فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثيّ:

« أبا عثمان قدّم خيلك. » قال:

« ما أرى ذلك. » قال:

« ولم؟ » قال:

« أكره أن تقتل مذحج في غير شيء. » فقال لحجّار بن أسيد:

« قدّم رايتك. » قال:

« إلى هذه العذرة؟ » قال:

« ما تتأخّر إليه، والله أنتن وألأم. » وقال لعبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك. فقال:

« ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله. » فقال مصعب:

« يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم. » ولما أخبر ابن خازم وهو بخراسان مسير مصعب إلى عبد الملك، قال:

« أمعه عمر بن عبيد الله؟ » قيل:

« لا، استعمله على فارس. » قال:

« أمعه المهلّب؟ » قيل:

« استعمله على الموصل. » قال:

« أمعه عبّاد بن الحصين؟ » قيل:

« لا، استخلفه على البصرة. » فقال:

« وأنا بخراسان. » ثم تمثّل:

خذينى، فجرّينى ضباع وأبشرى ** بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره

وقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب:

« يا بنيّ اركب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فإني مقتول. » وأخبره بما صنع أهل العراق.

فقال ابنه:

« والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الجماعة، أو [ الحق ] بأمير المؤمنين. » فقال مصعب:

« لا والله، لا أفرّ، ولكن أقاتل. فلعمري ما السيف بعار وما الفرار لي بعادة. »

مقتل مصعب بن الزبير وابنه عيسى بن مصعب

ثم أرسل عبد الملك إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان:

« إنّ ابن عمّك يعطيك الأمان. » فقال مصعب:

« إنّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلّا غالبا أو مغلوبا. » فلما أبي مصعب قبول الأمان، نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال:

« يا بن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان. » فقال له مصعب:

« قد آمنك عمّك، فامض إليه. » قال:

« لا تحدّث نساء قريش أنّى أسلمتك [ للقتل ]. » وتقدّم بين يدي مصعب، فقاتل حتى قتل. وأثخن مصعب، ونظر إليه زائدة بن قدامة، فشدّ عليه، فطعنه، وقال:

« يا لثارات المختار. » فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتزّ رأسه، فأتى به عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فأبى أن يأخذه، وقال:

« إني لم أقتله على طاعتك. إنما قتلته على وتر صنعه بي. » يعنى بذلك أخاه، لأنّ مصعبا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بنى نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ وضرب النميري بالسياط وتركه.

وحدّث ابن عباس عن أبيه قال: إنّا لوقوف مع عبد الملك وهو يحارب مصعبا إذ دنا منه زياد بن عمرو، فقال:

« يا أمير المؤمنين، إنّ إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، وقلّ ما أرادنى مصعب بسوء إلّا دفعه عني. فإن رأيت أن تؤمنه على دمه. » قال:

« وهو آمن. » فمضى زياد، وكان ضخما وعلى ضخم حتى صاح بين الصفّين:

« أين أبو النحترى إسماعيل بن طلحة؟ » فخرج إليه. فقال:

« إني أريد أن أذكر لك شيئا. » فدنا حتى اختلفت أعناق دوابّهما، وكان الناس يتنطّقون بالحواشى المحشوّة. فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه وكان نحيفا، فقال:

« أنشدك الله يا أبا المغيرة، فإنّ هذا ليس بالوفاء لمصعب. » فقال:

« هذا أحبّ إليّ لك من أن أراك غدا مقتولا. » ولما قتل مصعب وابنه عيسى، قال عبد الملك:

« واروه، فقد كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكنّ هذا الملك عقيم. » وكان عبد الملك ومصعب يتحدّثان إلى حبّى، وهما بالمدينة. فلمّا قيل لها: قتل مصعب، قالت:

« تعس قاتله. » قيل:

« فإنّما قتله عبد الملك. » قالت:

« بأبي القاتل والمقتول. » وقد روى أنّ مقتل مصعب والحرب بينه وبين عبد الملك كان في سنة اثنتين وسبعين.

ومن المقامات المشهورة مقام تقدّم فيه رجل بالأدب

لمّا دخل عبد الملك الكوفة، وجاءته القبائل تبايعه، خاطب كلّا بما بسطه حتى تقدّم إليه عدوان. قال معبد بن خالد الجدلي: فقدّمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخّرت ومعبد كان دميما.

فقال عبد الملك: « من؟ » فقال الكاتب: « عدوان. » فقال عبد الملك:

غدير الحيّ من عدوا ** ن كانوا حيّة الأرض

بغى بعضهم بعضا ** فلم يرعوا على بعض

ومنهم كانت السادا ** ت والموفون بالقرض

ثم أقبل على الرجل، فقال:

« إيه. » فقال:

« لا أدري. » فقلت من خلفه:

ومنهم حكم يقضى ** فلا ينقض ما يقضى

ومنهم من يجيز الحج ** ج بالسنّة والفرض

وهم من ولدوا أشبوا ** بسرّ الحسب المحض

قال: فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال:

« من يقول هذا؟ » قال:

« لا أدري. » فقلت من خلفه:

« ذو الإصبع. » « فأقبل على الجميل، فقال:

« لم سمّى ذا الإصبع؟ » فقال:

« لا أدري. » فقلت من خلفه:

« لأن إصبعه قطعت يوم الكلاب. »

فقال للجميل:

« وما اسمه؟ » فقال:

« لا أدري. » فقلت من خلفه:

« حرثان بن الحارث. » فأقبل على الجميل فقال:

« من أيّكم كان؟ » قال:

« لا أدري. » فقلت من خلفه:

« من بنى تاج »، وهو يقول:

أبعد بنى تاج وسعيك بينهم ** فلا تتبعن عينيك من كان هالكا

إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ** يقول وهيب: لا أصالح ذلكا

فأضحى كظهر العير جبّ سنامه ** يطيف به الولدان أحدب باركا

ثم أقبل على الجميل، فقال:

« كم عطاؤك؟ » فقال:

« سبعمائة. » وقال لي:

« في كم أنت؟ » قلت:

« في ثلاثمائة. » فأقبل على الكاتبين فقال:

« حطّا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا. »

فرجعت وأنا في سبعمائة وهو في ثلاثمائة.

ثم فرّق عبد الملك عمّاله ولم يف لأحد شرط عليه ولاية إصبهان.

وفي هذه السنة، وجّه عبد الملك بن مروان الحجّاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير.

توجيه عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير

وكان السبب في توجيه دون غيره أنّ عبد الملك لمّا أراد الرجوع إلى الشام، قام الحجاج بن يوسف، فقال:

« يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أنى أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولّنى قتاله. » فبعثه في جيش من أهل الشام كثيف. فخرج ولم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، وكان يبعث البعوث فيقتتلون هناك. فكلّ ذلك تهزم خيل ابن الزبير، وترجع خيل الحجّاج بالظفر.

ثم كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أنّ شوكته قد كلّت وتفرّق عنه أصحابه. فأذن له. وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند، بالحجّاج وكان بالبصرة واليا عليها. فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجّاج وذلك في شعبان سنة اثنتين وسبعين.

حصر ابن الزبير ومقتله

لما دخل ذو القعدة، رحل الحجّاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير، وقدم عليه طارق لهلال ذي الحجّة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه، وكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب، إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه في هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة.

وحجّ الحجّاج بالناس في هذه السنة، ثم حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، ونصب المجانيق على البيت. فلما رمى البيت رعدت السماء وعلا صوت الرعد والبرق صوت الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم. فرفع الحجّاج برقة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع الحجر فوضعه في المنجنيق، ثم مدّه وقال لأصحابه:

« ارموا! » ورمى معهم. فلما أصبحوا جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا. فانكسر أهل الشام، فقال الحجّاج:

« يا قوم، لا تنكروا ذلك، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضرنا، فأبشروا، إنّ القوم سيصيبهم مثل ما أصابكم. » فصعقت من الغد، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجّاج:

« ألا ترون أنهم قد أصيبوا وأنتم على الطاعة وهم على الخلاف؟ » فتفرّق عامّة من كان مع الزبير، وخرجوا إلى الحجّاج في الأمان حتى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان في من خرج إلى الحجّاج في الأمان حتى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان في من خرج إلى الحجّاج ابنا عبد الله ابن الزبير:

حمزة وخبيب، بعد أن أخذا أمانا لأنفسهما.

فدخل على أمّه أسماء بنت أبي بكر، فقال:

ما قالته لابن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر

« يا أمّه، قد خذلنى الناس حتى ولدي وأهلى، فلم يبق إلّا اليسير، من ليس عنده من الدفع إلّا صبر ساعة. والقوم يعطونني من الدنيا، فما رأيك؟ » فقالت:

« أنت والله يا بنيّ أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك تلعّب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت نفسك، ومن قتل معك. فإن قلت: إني كنت على حقّ، فلما وهن أصحابي، ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. » فدنا ابن الزبير، فقبّل رأسها، وقال:

« هذا رأيي، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدينى بصيرة، فانظرى يا أمّه، إني مقتول من يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد.

اللهمّ، إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكن تعزية لأمي لتسلو عني. » فقالت أمّه:

« إني لأرجو أن يكون عزائى فيك حسنا. اخرج، حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. » قال:

« يا أمّه، لا تدعى لي الدعاء قبل وبعد. » قالت:

« لا أدعه أبدا. » ثم قالت:

« اللهمّ ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكّة وبرّه بأبيه وبي. اللهمّ إني قد أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فائتني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. » ثم دنا عبد الله فقبّلها، فقالت:

« هذا وداع فلا تبعد. » وكان عليه الدرع. فلمّا عانقها وجدت مسّ الدرع، فقالت:

« ما هذا صنيع من يريد ما تريد. » قال:

« ما لبسته إلّا لأشدّ منك. » قالت:

« فإنّه لا يشدّ مني. » - فنزعها، ثم أدرج كمّيه، وأدخل أسفل قميصه وجبّة خزّ عليه في أسفل المنطقة، وهو يقول:

إني إذا أعرف يومي أصبر ** إذ بعضهم يعرف ثم ينكر

قال بعضهم: والله لقد رأيت ابن الزبير يخرج وقد كثره الناس، فيحمل فلا يبقى بين يديه أحد، وينهزم الناس، فيقف بالأبطح ما يدنو منه أحد، حتى ظننت أنّه لا يقتل.

وكان الحجّاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة والبابين، لكلّ طائفة منهم باب. فمرّة يحمل عبد الله بن الزبير في هذه الناحية ومرّة في هذه الناحية ولكأنّه أسد في أجمة، ما يقدم عليه الرجال فيعدو في أثرهم، ثم يصيح:

« أبا صفوان، ويل أمّة فتحا لو كان له رجال، لو كان قرني واحدا كفيته. » فقال أبو صفوان:

« إى والله وألف. » فلما كان يوم الثلاثاء، وقد أخذت علينا الأبواب، أذّن المؤذّن فصلّى بأصحابه، وقرأ ن وَالْقَلَمِ حرفا حرفا، ثم سلّم وقام وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« اكشفوا وجوهكم حتى أنظر. » وعليهم المغافر والعمائم. فكشفوا وجوههم فقال:

« يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا، لم تصبنا ربّانيّة. أما بعد، يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإنى لم أحضر موطنا قطّ إلّا ارتثثت فيه بين القتلى، وما أجد من دواء جراحها أشدّ مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإنّ الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة. غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرئ منكم قرنه، ولا يلهينّكم السؤال عنى. فلا تقولنّ:

أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلا فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله. » ثم حمل حتى بلغ الحجون، فرمى بآجرّة، فأصابت في وجهه، فأرعش لها، ودمى وجهه. فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال:

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدّما

وتمثّل أيضا:

عن أيّ يوميّ من الموت أفرّ ** أيوم لم يقدر، أم يوم قدر

وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة:

« وا أمير المؤمنيناه! » فأشارت لهم إليه، فقتل.

وجاء الخبر إلى الحجّاج، فسجد وجاء هو وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق:

« ما ولدت النساء أذكر من هذا. » فقال الحجّاج:

« أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟ » قال:

« نعم، هو أعذر لنا، ولو لا هذا ما كان لنا عذر. إنّا لمحاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر، ينتصف منّا بل يفضل علينا في كلّ ما التقينا. » فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا.

ثم دخل الحجّاج مكّة، فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة من أهله إلى المدينة، فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان.

وبعث عبد الملك إلى عبد الله بن خازم، وهو بخراسان يقاتل بحير بن ورقاء الصريمى يدعوه إلى طاعته ويقول له:

« إنّ خراسان لك طعمة سبع سنين، فبايع لي. » وكان عبد الملك بعث إليه برأس ابن الزبير، فغسله وحنّطه وكفّنه وبعث به إلى أهله بالمدينة. وحلف لا يعطى عبد الملك طاعة أبدا.

فقال ابن خازم للرسول:

« لو لا أنّ الرسل لا تقتل، لأمرت بضرب رقبتك، ولكن كل كتابه. » وأكله.

مقتل ابن خازم في مرو

وكتب عبد الملك إلى بكير بن وساج أحد بنى عوف بن سعد، وكان خليفة ابن خازم على مرو بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه. فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير بأهل مرو، فيجتمع عليه أهل مرو، وأهل أبر شهر الذين مع بحير. فأقبل إلى مرو أن يأتى ابنه بالترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية يقال لها: شاه مزغند، بينها وبين مرو ثلاثة فراسخ. فقاتله ابن خازم، فقتل عبد الله بن خازم، وكان الذي ولى قتله وكيع بن عميرة القريعى، اعتون عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجشمي ووكيع، فطعنوه وصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله.

فقال بعض الولاة لوكيع:

« كيف قتلت ابن خازم؟ » قال:

« غلبته بفضل القنا. لمّا صرع قعدت على صدره، فحاول القيام، فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثارات دويلة. » ودويلة أخ لوكيع من أمّه، قتل في تلك الأيام.

قال: فتنخّم في وجهى، وقال:

« لعنك الله، تقتل كبش مضر بأخيك: علج لا يساوى كفّا من نوى - أو قال: - من تراب؟ » قال: فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت، لقد ملأ وجهى منه. فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث، فقال:

« هذه والله البسالة. » وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بنى غدانة إلى عبد الملك بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وساج في أهل مرو حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ رأس ابن خازم. فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس، وقيّد بحيرا وحبسه. وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله.

ولاية المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك

وفي هذه السنة وجّه عبد الملك أخاه بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها. ثم كتب إليه:

« أمّا بعد، فابعث المهلّب في أهل مصره إلى الأزارقة لينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم أولى الفضل والتجربة منهم، فإنّه أعرف بهم، وخلّه ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا حسيبا شريفا يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين، فليتبعوهم أيّ وجه ما توجّهوا حتى يبيرهم الله ويستأصلهم، والسلام عليك. » فدعا بشر المهلّب، فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء. فبعث بجذيع بن قبيصة وهو خال ابنه يزيد، فأمره أن يأتى الديوان، فينتخب الناس. فشقّ على بشر أنّ إمرة المهلّب جاءت من قبل عبد الملك فلا يستطيع أن يبعث غيره.

فأوغرت صدره عليه حتى كأنّ له إليه ذنبا. ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف، فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولى الفضل منهم والنجدة.

قال عبد الرحمن بن مخنف، قال لي بشر:

« إنّك قد عرفت منزلتك مني وأثرتك عندي، وقد ولّيتك هذا الجيش للذي عرفت من جرأتك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظنّى بك، انظر هذا الكذّاب - يعنى المهلّب ووقع فيه وسبعه - (كذا) فاستبدّ عليه بالأمر، ولا تقبلنّ له مشورة ولا رأيا. » وتنقّصه وقصّر به.

قال عبد الرحمن: فترك أن يوصيني بالجند وقتال العدوّ والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغرينى بابن عمّى حتى كأنّى سفيه من السفهاء، أو ممّن يستصبى ويستجهل. ما رأيت شيخا في مثل سنّى ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني. شبّ عمرو عن الطوق.

قال: ولما رءانى لست بالنشيط إلى جوابه قال:

« ما لك؟ » قلت:

« أصلحك الله، وهل يسعني إلّا أن أنقاد لأمرك في كلّ ما أحببت أو كرهت؟ »

قال:

« امض راشدا. » فودّعته وخرجت من عنده.

وخرج المهلّب حتى نزل رامهرمز، فلقى الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة، فنزل قريبا من المهلّب على ميل، أو ميل ونصف، حيث يتراءى العسكران برامهرمز، فلم يلبث الناس إلّا عشرا حتى أتاهم نعى بشر، وتوفّى بالبصرة، وارفضّ الناس من أصحاب المهلّب وأصحاب عبد الرحمن بن مخنف، وهم رؤساء أهل البصرة والكوفة، وبقيا في قلّة. وكان بشر استخلف خالد بن عبد الله بن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان ممن انصرف من أهل الكوفة: زحر بن قيس، وإسحاق بن محمد بن الأشعث، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن قيس. فبعث عبد الرحمن ابنه جعفرا في آثارهم، فردّ إسحاق ومحمدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثم أخذ عليهما ألّا يفارقاه. فما لبثا إلّا يوما حتى انصرفا ولحقا بزحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى الناس كتابا، وبعث رسلا تضرب وجوه الناس وتردّهم. فقدم مولى له، فقرئ الكتاب على الناس وقد جمعوا له، وكان فيه حضّ على الجهاد وتوبيخ للرؤساء، وتهديد لعامّة الناس، ويقول في آخره:

« أيها الناس، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم. إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين الذي ما فيه غميزة، ولا عنده رخصة على من خالفه وعصى أمره، وإنما سوطه سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحة. اذهبوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين، فأقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلّا قتلته والسلام. » فلم يلتفت الناس إلى ما في الكتاب، وأقبل رؤساء الكوفة حتى نزلوا إلى جانب الكوفة في قرية لآل الأشعث، وكتبوا إلى عمرو بن حريث:

« أما بعد، فإنّ الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمه الله، تفرّقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا إلى الأمير، وإلى مصرنا، وأحببنا ألّا ندخل الكوفة إلّا بإذن الأمير وعلمه، والسلام. » فكتب إليهم:

« أما بعد، فإنّكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا أمان ولا إذن. » فلما أتاهم كتابه انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجّاج بن يوسف.

سبب عزل بكير بن وساج عن خراسان

وفي هذه الأيام عزل عبد الملك بكير بن وساج عن خراسان، وولّاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وكان سبب ذلك أنّ تميما اختلفت بخراسان، فصار منهم قوم يتعصّبون لبحير ويطلبون بكيرا، وصار منهم يعذرون بكيرا ويتعصّبون له. فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوّهم من المشركين. فكتبوا إلى عبد الملك أنّ خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلّا على رجل من قريش لا يحسدونه.

فوجّه عبد الملك أمية بن عبد الله، وكان يحبّه ويقول:

« هو لدتى. » وكان بحير كما كتبنا في ما تقدّم من خبره، في حبس بكير لما كان منه في رأس ابن خازم حين قتله. فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال:

« ظنّ بكير أنّ خراسان تبقى له في الجماعة. » فمشى بينهم السفراء، فأبى بحير.

ذكر رأي صواب أشير به على بحير فقبله

ثم دخل عليه ضرار بن حصن الضبي، فقال:

« إني لا أراك مائقا، يرسل إليك ابن عمّك يعتذر إليك وأنت أسير في يده فلا تقبل منه! لو قتلك ما حبقت فيه عنز. ما أنت بموفّق، اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك. » فقبل مشورته وصالح بكيرا.

قال: فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير ألّا يغتاله. فلما بلغ بحيرا أنّ أمية قارب أبرشهر، قال لرجل من عجم مرو:

« دلّنى على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه ولك كذا وكذا. » وأجزل له العطيّة. وكان عالما بالطريق. فخرج إلى أرض سرخس في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور.

فوافى أمية حتى قدم أبر شهر، فلقيه، فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها ويحسن طاعتهم ويخفّ على الموالي مؤونتهم، ورفع على بكير أموالا قد أصابها، وحذّره غدره، وسار معه حتى قدم مرو. وكان أمية سيّدا كريما. فلم يعرض لبكير ولا لعمّاله، وعرض عليه أن يولّيه شرطته، فأبى بكير، فولّاها بحيرا. وقد كان لام بكيرا رجال من قومه وقالوا:

« أبيت أن تلى حتى ولّاها بحيرا، وقد عرفت ما كان بينكما. » قال:

« كنت أمس والى خراسان تحمل الحراب بين يديّ وأصبر اليوم على الشرطة أحمل الحربة! » وقال أمية لبكير:

« اختر ما شئت من عمل خراسان. » قال:

« طخارستان. » قال:

« هي لك. » قال: فتجهّز بكير، وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأميّة:

« إن أتى بكير طخارستان خلعك. » فلم يزل يحذّره حتى حذره، وأمره بالمقام.

ذكر تولية عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق وسيرة الحجاج

ولمّا توفّى بشر بن مروان، كاتب عبد الملك الحجّاج بن يوسف وهو بالمدينة وولّاه العراق. فأقبل في اثنى عشر راكبا على النجائب، حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار. فجاءه، وكان بشر بعث المهلّب إلى الحروريّة، وانصرف كثير من الناس عنه بعد وفاته. وقد كتبنا أمره في ما تقدّم. فبدأ الحجّاج بالمسجد، فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثّم بعمامة حمراء خزّ، فقال:

« عليّ بالناس. » فحسبوه وأصحابه خارجة. فهمّوا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه، ثم قال:

« أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني

أما والله، إني لأحمل الشرّ محمله، وأخذوه بنعله وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوسا قد أينعت، وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى. قد شمّرت عن ساقها تشميرا.

هذا أوان الشدّ، فاشتدّى زيم ** قد لفّها الليل بسوّاق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم ** ولا بجرّار على ظهر وضم

قد لفّها الليل بعصلبيّ ** مهاجر ليس بأعرابيّ

إني والله، يا أهل العراق ما أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشّنان، ولقد فررت عن ذكاء وفتّشت عن تجربة، وجريت من الغاية. إنّ أمير المؤمنين نثل كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا [ وأصلبها مكسرا ] فرماكم بي. فإنّكم طال ما أوضعتم في الفتن وسننتم سنن الغيّ. والله لألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. إني والله لا أعد إلّا وفيت، ولا أخلق إلّا فريت، فإيّاى وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول وفيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على سبل الحقّ، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا في جسده. من وجدناه بعد ثالثة من بعث المهلّب سفكت دمه وأنهبت ماله. » ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك.

ويقال: إنّه لمّا طال سكوته تناول محمد بن عمير حصى ليحصبه بها، وقال:

« قاتله الله، ما أعياه وآدمه! » فلما تكلّم الحجّاج جعل الحصى ينتشر من يده ولا يعقل به.

ثم دعا الحجّاج بالعرفاء، وقال:

« الحقوا بالمهلّب وائتوني بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ونهارا، فقد بلغني رفضكم للمهلّب وإقبالكم إلى مصركم عصاة مخالفين.

وإني لأقسم لكم بالله ما أجد أحدا بعد ثلاثة إلّا ضربت عنقه. » فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال:

« يا أهل العراق وأهل الشقاق ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله في الترغيب، ولكنّه تكبير يراد به الترهيب. وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بنى اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامى، إن لا تربع رجل على ظلعه ولا يحسن حقن دمه ويبصر موضع قدمه، فأقسم باللَّه لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها. » فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ليتكلم بعذره فقال:

« أسمعت كلامنا بالأمس؟ » قال:

« نعم، » قال:

« ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ » قال:

« بلى. » قال:

« فما حملك على ذلك؟ » قال:

« حبس أبي وكان شيخا كبيرا. » قال:

« أوليس الذي يقول:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكى حلائله

إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين. قم إليه يا حرسيّ فاضرب عنقه. » فقام إليه الحرسيّ، فأخرجه وضرب عنقه، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى:

« ألا إنّ عميرا أتى بعد ثالثة وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلّب. » فخرج الناس، فازدحموا على الجسر، فعبر في تلك الليلة أربعة آلاف مذحج.

وخرج العرفاء إلى المهلّب، وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة.

وقال المهلّب لأصحابه:

« قدم العراق أمير ذكر، اليوم قوتل العدوّ. »

قال عمرو بن سعيد: فو الله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت زجرا مضريا، فعدلت إليه وقلت:

« ما الخبر؟ » قالوا:

« قدم علينا رجل من شرّ أحياء العرب، من هذا الحيّ، من ثمود، أسقف الساقين، أشرح الجاعرتين، أخفش العينين. فقدّم سيد الحيّ عمير بن ضابئ فضرب عنقه. » ولقي ابن الزبير إبراهيم بن عامر، فسأله عن الخبر، فقال وذلك في السوق:

أقول لإبراهيم لمّا لقيته ** أرى الأمر أضحى منصبا متشعّبا

تجهّز وأسرع فالحق الجيش، لا أرى ** سوى الجيش، إلّا في المهالك مذهبا

تخيّر فإمّا أن تزور ابن ضابئ ** عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا

هما خطّتا حتف نجاؤك منهما ** ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا

فأمسى ولو كانت خراسان دونه ** رءاها مكان السوق، أو هي أقربا

ثم أسرع الحجاج إلى البصرة

ولما قتل الحجّاج عمير بن ضابئ، خرج من فوره حتى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة، مثل التي قام بها في أهل الكوفة، وتوعّدهم مثل وعيده إيّاهم. فأتى برجل من بنى يشكر، وقيل له:

« هذا عاص. » فقال:

« إنّ لي فتقا، وقد رءاه بشر فعذرنى، وهذا عطائي مردود في بيت المال. » فلم يقبل منه، وقدّمه فضرب عنقه. ففزع أهل البصرة، فخرجوا حتى تداكّوا على العارض برامهرمز، فقال المهلّب:

« جاء الناس أمر ذكر. »

ذكر وثوب الناس بالحجاج

خرج الحجّاج بالناس حتى نزل رستقباذ، ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلّب ثمانية عشر فرسخا. فقام في الناس، فقال:

« إنّ ابن الزبير زادكم في أعطياتكم زيادة فاسق منافق ولست أجيزها. » فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدى، فقال:

« ولكنّها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، وقد أثبتها لنا. » فكذّبه وتوعّده، فخرج ابن الجارود على الحجّاج، وبايعه وجوه الناس.

فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عبد الله بن الجارود وجماعة ممن ثار معه، وبعث الحجّاج برأسه ورؤوس عدّة من أصحابه إلى المهلّب، ونصب برامهرمز ثمانية عشر رأسا من وجوه الناس. فساء ذلك الخوارج، وكانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف. وانصرف الحجّاج إلى البصرة، وكتب إلى المهلّب وإلى عبد الرحمن بن مخنف:

« أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا، فناهضوا الخوارج. والسلام. » فناهض المهلّب وعبد الرحمن الأزارقة، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنّهم زحفوا إليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا بكازرون.

ذكر توان لعبد الرحمن حتى قتل وقتل معه خلق

وسار المهلّب وعبد الرحمن حتى نزلوا بهم، فخندق المهلّب ولم يخندق عبد الرحمن، فقال المهلّب لعبد الرحمن:

« إن رأيت أن تخندق عليك فعلت. » فقال أصحاب عبد الرحمن:

« خندقنا سيوفنا. » فلما كان الليل زحف الخوارج إلى المهلّب ليبيّتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن، فوجدوه لم يخندق. فنهض عبد الرحمن وقاتلهم وانهزم عنه أصحابه، ونزل في جماعة من أهل الحفاظ والصبر، فقاتلوا حتى قتل عبد الرحمن وقتلوا كلّهم حوله.

فلما أصبح المهلّب جاء حتى دفنه وصلّى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجّاج، فكتب الحجّاج بذلك إلى عبد الملك ونعى عبد الرحمن وذمّ أهل الكوفة. وبعث الحجّاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف، عتّاب بن ورقاء، وأمره إذ ضمّتها الحرب أن يسمع للمهلّب ويطيع. فساءه ذلك ولم يجد بدّا من طاعة الحجّاج، ولم يقدر على مراجعته. فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج، وأمره إلى المهلّب، وهو في ذلك يعنى أموره ولا يكاد يستشير المهلّب في شيء. فلما رأى المهلّب ذلك اصطنع رجالا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة، فأغراهم بعتّاب.

فلما كان ذات يوم، أتى عتّاب المهلّب يسأله أن يرزق أصحابه. فأجلسه المهلّب معه على مجلسه، فسأله عتّاب سؤالا فيه تجهّم وغلظة وترادّا الكلام حتى قال له المهلّب:

« يا بن اللخناء. » وذهب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال:

« أصلح الله الأمير، شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم. إن سمعت منه ما تكره فاحتمله. » فقبله وقام عتّاب، فاستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه ويقع فيه. فلما رأى عتّاب ذلك كتب إلى الحجّاج يشكو إليه المهلّب ويخبره أنه أغرى به سفهاء أهل البصرة ويسأله أن يضمّه إليه، ووافق ذلك حاجة من الحجّاج إليه في ما لقي من شبيب، وما لقيه أيضا أشراف الكوفة منه. وسنذكر من خبره ما يليق بهذا الكتاب إن شاء الله. فبعث إليه الحجّاج أن:

« اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلّب. » فبعث المهلّب ابنه حبيبا، وأقام المهلّب يقاتلهم سنة.

ذكر ما كان من شبيب بن يزيد وما لقي الحجاج وأشراف الكوفة منه

كان ابتداء أمر شبيب صحبته لرجل يعرف بصالح بن مسرّح، وكان صالح يرى رأى الصفريّة وكان ناسكا مصفرّ الوجه صاحب عباده، وله أصحاب يقريهم القرآن ويفقّههم ويقصّ عليهم، وقدم الكوفة فيقيم بها الشهر أو الشهرين، وكان بأرض الموصل والجزيرة، وله قصص محفوظ وكلام مستحسن، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على محمد ذكر أبا بكر فأثنى عليه، وثنّى بعمر، وذكر عثمان وما كان من أحداثه، ثم عليّا وتحكيمه الرجال في أمر الله، ويتبرّأ من عثمان وعليّ، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمّة الضلال ويقول:

« تيسّروا يا إخوانى للخروج من دار الفناء، إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإنّ القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم عند ما ترجم الظنون، فيفرّق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتدّ لذلك جزعكم. ألا، فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم، تدخلوا الجنّة. » وأشباه ذلك من الكلام. وكان في من يحضره من أهل الكوفة سويد والبطين.

فقال يوما لأصحابه:

« ما تنتظرون؟ ما يزداد أئمّة الجور إلّا عتوّا وعلوّا وتباعدا من الحقّ، وجرأة على الربّ، فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم وننظر ما نحن صانعون وأيّ وقت إن خرجنا نحن خارجون. » فبينا هو كذلك، إذ أتاه المحلّل بن وائل بكتاب شبيب وقد كتب إلى صالح:

« أما بعد، فقد كنت دعوتني إلى أمر استجبت له، فإن كان ذلك، فإنّك شيخ المسلمين، ولم نعدل بك منّا أحدا، وإن أردت تأخير ذلك، أعلمتنى، فإنّ الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمنى المنيّة ولمّا أجاهد الظالمين. جعلنا الله وإيّاك ممّن يريد الله بعمله، والسلام عليك. » فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه:

« إنّه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلّا انتظارك، فاقدم علينا ثم اخرج بنا، فإنّك ممن لا تقصّى الأمور دونه، والسلام. » فلما ورد كتابه على شبيب دعا نفرا من أصحابه فجمعهم إليه، منهم: أخوه مصاد بن يزيد والمحلّل بن وائل، والصفر بن حاتم، وإبراهيم بن حجر، وجماعة مثلهم. ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرّح، وهو بدارا من أرض الموصل.

فبثّ صالح رسله، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين. فاجتمع بعضهم إلى بعض، واجتمعوا عنده في تلك الليلة.

فتحدّث فروة بن لقيط قال: إني لمعهم تلك الليلة وكان رأى استعراض الناس لما رأيت من المنكر والفساد في الأرض. فقمت إليه، فقلت:

« يا أمير المؤمنين، كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم. إنّا نخرج على قوم طاغين باغين، قد تركوا أمر الله، أو راضين بذلك، فأرى أن تضع فيهم السيف. » فقال:

« لا، بل ندعوهم، فلعمري، لا يجيبك إلّا من يرى رأيك، وليقاتلنّك من يزرى عليك، والدعاء أقطع لحجّتهم، وأبلغ في الحجة لك عليهم. » قال: فقلت له:

« فكيف ترى في من قاتلنا فظفرنا به، وما تقول في دمائهم وأموالهم؟ » فقال:

« إن قاتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا، فموسّع علينا ولنا. » فأحسن لنا القول.

ثم قال صالح لأصحابه ليلته:

« اتّقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلّا أن يكونوا يريدونكم، فإنّكم خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى في الأرض، وسفكت الدماء بغير حقّها، وأخذت الأموال غصبا، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها. وهذه دوابّ لمحمد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فاحملوا رجلكم وتقوّوا بها على عدوّكم. » ففعلوا ذلك وتحصّن منهم أهل دارا، وبلغ خبرهم محمد بن مروان، وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخفّ بأمرهم، وبعث إليهم عديّ بن عميرة في خمسمائة، وكان صالح في مائة وعشرة، فقال عديّ:

« أصلح الله الأمير، تبعثني إلى رأس الخوارج ومعه رجال سمّوا لي، وإنّ الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة. » فقال له:

« فإني أزيدك خمسمائة، فسر إليهم في ألف فارس. » فسار من حرّان في ألف رجل وكأنما يساق إلى الموت. وكان عديّ رجلا يتنسّك. فلما نزل ذوغان نزل بالناس وأنفذ إلى صالح بن مسرّح رجلا دسّه إليه.

فقال له:

« إنّ عديّا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأوى بلدا آخر وتقاتل أهله، فإنّ عديّا للقائك كاره. » فقال صالح:

« ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمّة السوء، رأينا رأينا. فإمّا بدأنا بك، وإمّا رحلنا إلى غيرك. » فانصرف إليه الرسول، فأبلغه. فقال عديّ:

« ارجع إليه فقل له: إني والله لا أرى رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين، فقاتل غيري. »

ذكر مكيدة صالح على عدي

فقال صالح لأصحابه: اركبوا. فركبوا. وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى أتى عديّا في سوق ذوغان وهو قائم يصلّى الضحى، فلم يشعر إلّا والخيل طالعة عليهم. فلما دنا صالح منهم رءاهم على غير تعبئة، وقد تنادوا، وبعضهم يجول في بعض. فأمر شبيبا، فحمل عليهم في كتيبة، ثم أمر سويدا، فحمل في كتيبة، وكانت هزيمتهم. وأتى عديّ بدابّته فركبها، ومضى على وجهه، واحتوى صالح على عسكره وما فيه. وذهب فلّ عديّ حتى لحقوا بمحمد بن مروان. فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمى، فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال لهما:

« أخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة وعجّلا. فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه. » فخرجا، وأغذّا السير، وجعلا يسألان عن صالح، فقيل لهما:

« توجّه نحو آمد. » فاتّبعاه حتى انتهيا إليه بآمد، فنزلا ليلا وخندقا وهما يتساندان كلّ واحد منهما على حدته. فوجّه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه، وتوجّه هو نحو خالد السلمى، فاقتتلوا أشدّ قتال اقتتله قوم، حتى حجز بينهم الليل وقد انتصف بعضهم من بعض.

فتحدّث بعض أصحاب صالح قال: كنّا إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجّالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فانصرفنا عند الليل وقد كرهناهم وكرهونا. فلمّا رجعنا وصلّينا وتروّحنا وأكلنا من الكسر دعانا صالح وقال:

« يا أخلّائي ماذا ترون؟ » فقال شبيب:

« أنا أرى إن قاتلنا هؤلاء وهم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا. والرأي أن نرحل عنهم. » فقال صالح:

« أنا أرى ذلك. » فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل، ومضوا حتى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجّاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف. فسار، وخرج صالح نحو جلولا وخانقين، واتّبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها: الريح وصالح يومئذ في تسعين رجلا. فعبّى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة، وجعل صالح أصحابه كراديس ثلاثة، فهو في كردوس وشبيب في ميمنته في كردوس، وسويد بن سليم في كردوس من ميسرته، وفي كلّ كردوس منهم ثلاثون رجلا. فلما شدّ عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم وثبت صالح، فقتل، وضارب شبيب حتى صرع عن فرسه، فوقع في رجاله، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح، فوجده قتيلا، فنادى:

« يا معشر المسلمين. » فلاذوا به، وقال لأصحابه:

« ليجعل كلّ رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوّه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن ونرى من رأينا. » ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا مع شبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا، وقال لأصحابه:

« أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه، فإنّهم لا يقدرون على خروجهم حتى نصبّحهم فنقتلهم. » ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى معسكرهم. فقال شبيب لأصحابه:

« ما تنظرون يا هؤلاء؟ فو الله، لئن صبّحوكم إنه لهلاككم. » فقالوا:

« مرنا بأمرك. » فقال لهم:

« بايعوني إن شئتم، أو من شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشدّ عليهم في عسكرهم فإنّهم آمنون منكم، فإني أرجو أن ينصركم الله. » قالوا:

« فابسط يدك. » فبايعوه. فلما جاءوا إلى الباب وجدوه جمرا، فأتوا باللبود، فبلّوها بالماء، ثم ألقوها عليه، وخرجوا، ولم يشعر الحارث بن عميرة إلّا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم. فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا وخلّوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن. وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.

فأما صالح بن مسرّح فإنّه أصيب من سنة كما حكينا من أمره، ثم ارتفع في أدانى أرض الموصل، ثم ارتفع نحو آذربيجان يجبى الخراج.

وكان سفيان بن أبي العالية قد أمر أن يدخل في خيل معه طبرستان، فأمر بالقفول، فصالح صاحب طبرستان، وأقبل في نحو من ألف، وورد عليه كتاب الحجّاج:

« أما بعد، فأقم بالدسكرة في من معك حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة من ذي الشغار، وهو الذي قتل صالح بن مسرّح، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه. » ففعل سفيان ذلك ونزل الدسكرة، ونودى في جيش الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن:

« برئت الذمّة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف ابن العالية بالدسكرة. » قال: فخرجوا حتى أتوه، وارتحل سفيان في طلب شبيب، ثم ارتفع عنهم كأنه يكره لقاءهم وقد أكمن لهم مصادا في خمسين رجلا في هزم من الأرض. فلمّا رأوه جمع أصحابه، ثم مضى في سفح من الجبل مشرقا. فقالوا:

« هرب عدوّ الله. » واتّبعوه.

ذكر رأي رءاه عدي بن عميرة في تلك الحال فلم يقبل حتى هلك الجيش

فقال لهم عديّ بن عميرة الشيبانى:

« أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض فنستبرئها، فإن يكونوا كمنوا كمنا حذرناه، وإلّا كان طلبهم بأيدينا، لن يفوتنا. » فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا في آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد تجاوزوا الكمين خرجوا إليهم. فحمل شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من وراءهم.

فلم يقاتل أحد وكانت الهزيمة وثبت ابن أبي العالية في نحو مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب، فقال سويد بن سليم:

« أمنكم من يعرف أمير القوم ابن أبي العالية؟ » فقال شبيب:

« أنا من أعرف الناس به. أما ترى صاحب الفرس الذي دونه المرامية، فإنه هو. فإن كنت تريده فأمهله قليلا. » ثم قال:

« يا قعنب، اخرج في عشرين، ثم ائتهم من وراءهم. » فخرج قعنب في عشرين، فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا ينقصون ويتسلّلون. وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية، فطاعنه، فلم يصنع رمحاهما شيئا، ثم اضطربا بسيفيهما، ثم اعتنق كلّ أحد منهما، فوقعا إلى الأرض يعتركان، ثم تحاجزا، وحمل عليهم شبيب، فانكشف من كان معه. ونزل غلام لسفيان، يقال له غزوان [ نزل ] عن برذونه، وقال لسفيان:

« اركب يا مولاي. » فركب سفيان وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان حتى قتل، وكانت معه رايته. وأقبل سفيان بن أبي العالية منهزما حتى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجّاج، وكان الحجّاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان، فكاتب سورة سفيان وقال: انتظرني. فلم يفعل، وعجّل نحو الخوارج. فلما عرف الحجّاج خبر سفيان، وقرأ كتابه، قال للناس:

« من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى، فقد أحسن. » ثم كتب إليه يعذره ويقول له:

« إذا خفّ عليك الوجع، فأقبل مأجورا إلى أهلك. » وكتب إلى سورة:

« أما بعد، يا بن أمّ سورة، فما كنت خليقا أن تجتزئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى المدائن، فلينتخب من الخيل التي بها خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة، وأخبرني في أمرك، وكد عدوّك، فإنّ أفضل أمر الحرب المكيدة. والسلام. »

فلما أتى سورة كتاب الحجّاج، بعث عديّ بن عميرة إلى المدائن وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة رجل، ثم رحل بهم حتى قدم على سورة ببابل مهروذ. فخرج في طلب شبيب، وخرج شبيب يجول في جوخى، وسورة في طلبه. فجاء شبيب إلى المدائن وتحصّن منه أهلها وهي أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن وأصاب دوابّ من دوابّ الجند، وقتل من ظهر له، ولم يدخلوا البيوت، فأتى فقيل:

« هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك. » فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزل به، وتوضّأ هو وأصحابه، ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرّأوا من عليّ وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم عبروا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه، فخبّرته بمنزل شبيب بالنهروان.

ذكر سوء رأي سورة في الإقدام حتى هزم وفل

فدعا سورة رؤساء أصحابه، فقال لهم:

« إنّهم قلّ ما يلقون مصحرين أو على ظهيرة إلّا انتصفوا، وقد حدّثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم وأسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فأبيّتهم، فإنّهم آمنون لبياتكم. فإني والله أرجو أن يصرعهم الله مصرع إخوانهم بالنهروان من قبل. » فقالوا:

« اصنع ما أحببت. » فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعاء أصحابه، ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس ثم بيّتهم. فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم. فاستووا على خيولهم، وتعبّوا بتعبئتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا. فحمل عليهم سورة، ثم صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا العرصة، وحمل شبيب وجعل يضرب ويقول:

من ينك العير ينك نيّاكا ** [ جندلتان اصطكّتا اصطكاكا ]

ورجع سورة إلى أصحابه مفلولا قد هزم فرسانه وأهل القوّة من أصحابه.

فضحك بهم وأقبل نحو المدائن، وتبعهم شبيب حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، ودفع شبيب إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي العصيفر، وهو أمير على المدائن، فرماهم الناس بالنبل ومن فوق البيوت بالحجارة، ثم سار إلى تكريت. فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس بينهم فقالوا:

« هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيّت أهل المدائن. » فارتحل عامّة الجند، فلحقوا بالكوفة، وإنّ شبيبا لبتكريت. ولما أتى الحجّاج خبره قال:

« قبّح الله سورة، ضيّع العسكر، وخرج يبيّت الخوارج. والله لأسوءنّه. » ثم دعا الحجّاج الجزل وهو عثمان بن سعيد، فقال له:

« تيسّر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم، فلا تعجل عجلة الخرق النزق، ولا تحجم إحجام الوانى الفرق. هل فهمت؟ » قال:

« نعم، أصلح الله الأمير، قد فهمت ما قال. » قال:

« فاخرج، فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس. » فقال:

« أصلح الله الأمير، لا تبعثنّ معي أحدا من الجند المفلول المهزوم، فإنّ الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت أن لا ينفعك والمسلمين منهم أحد. » قال:

« ذلك لك ولا أراك إلّا وقد أحسنت الرأي ووفّقت. » ثم دعا أصحاب الدواوين، فقال:

« اضربوا على الناس بالبعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس وعجّلوا. » فجمعت العرفاء، وأجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث [ وأخرجوا أربعة ] آلاف. فأمرهم بالعسكر، ثم نودى فيهم بالرحيل. ثم ارتحلوا ونادى منادى الحجّاج أن:

« برئت الذمّة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلّفا. » فمضى الجزل بهم حتى أتى المدائن، فأقام بها ثلاثا، ثم خرج وبعث إليه ابن أبي عصيفر بفرس وبرذون وألفى درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام، وأصاب الناس من ذلك ما شاءوا.

ثم إنّ الجزل خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسّوج إلى طسوج يريد بذلك أن يفرّق الجزل أصحابه، ويتعجّل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبئة.

فجعل الجزل إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا خندق على أصحابه. فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه، وهم مائة وستون رجلا، فجعل على كلّ أربعين منهم رجلا، فهو في أربعين، ومصاد أخوه في أربعين، وسويد بن سليم في أربعين، والمحلّل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه أنّ الجزل بن سعيد قد نزل بئر سعيد، فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم:

« إني أريد أن أبيّت الليلة هذا العسكر، فائتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة، وائتهم أنت يا محلّل من قبل المغرب، وليلحّ كلّ امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري. » قال فروة بن لقيط: وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، فقال لجماعتنا:

« تيسّروا، وليسر كلّ امرئ منكم مع أميره، ولينظر ما يأمر به أميره فليتّبعه. » فلمّا قضمت دوابّنا، وذلك أوّل ما هدأت العيون، خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرّارة، فإذا للقوم مسلحة عليهم عياض بن أبي لينة فما هو إلّا أن رءاهم مصاد أخو شبيب حتى حمل عليهم في أربعين رجلا، وكان أمام شبيب، أراد أن يرتفع عليهم حتى يأتيهم من ورائهم كما أمره. فلما لقي هؤلاء قاتلهم، فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثم إنّا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلّا نحو ميل. فقال لنا شبيب:

« اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم. » فاتّبعناهم ملظّين بهم، ملحّين عليهم، ما نرفّه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همّة إلّا عسكرهم. ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم ورشقوهم بالنبل، وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا. وكان الجزل قد خندق عليه وتحرّز، ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فلما اجتمعت المسالح، ورشقوهم أصحابهم بالنبل، ومنعونا من خندقهم، نظر شبيب أنه لا يصل إليهم، فقال لأصحابه:

« سيروا ودعوهم. » فلما سار عنهم أخذ الطريق حلوان حتى كان منهم على سبعة أميال. قال لأصحابه:

« انزلوا، فأقضموا دوابّكم وقيلوا وتروّحوا، وصلّوا ركعتين، ثم اركبوا. » ففعلوا. ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر أهل الكوفة، وقال:

« سيروا على تعبئتكم التي عبّأتكم عليها أول الليل، وأطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم. » فأقبلنا معه، وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وقد أمنوا، فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا، فانتهينا إليهم قبل الصبح، وأحطنا بعسكرهم، ثم صحنا بهم من كلّ ناحية، فإذا هم يقاتلوننا ويرموننا بالنبل من كلّ جانب، فقال شبيب لأخيه مصاد:

« خلّ لهم سبيل الكوفة. » وكان يقاتلهم من ذلك الوجه. فلما راسله أخوه شبيب بهذا، أقبل إليه، وجعلنا نقاتلهم من الوجوه الثلاثة، فلم نقدر أن نستفلّ منهم أحدا. فسرنا، فتركناهم، وخرج الجزل مع الصبح يتبعهم ويطلبهم، وجعل لا يسير إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في أرض جوخى وغيرها يكسر الحجّاج، فطال ذلك على الحجّاج.

ذكر عجلة للحجاج وسوء رأي له حتى أهلك ذلك العسكر

فكتب الحجّاج إلى الجزل كتابا قرئ على الناس، نسخته:

« أما بعد، فإني قد بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتّباع هذه المارقة وأن لا تقلع عنها حتى تقتلها أو تفنيها. فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضيّ لمناهضتهم ومناجزتهم. » فشقّ ذلك على الجزل.

قال: فأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل. فما لبثنا أن بعث الحجّاج على ذلك الجيش سعيد بن المجالد وعهد إليه أنه، إذا لقي المارقة، أن يزحف إليهم ولا يناظرهم ولا يطاولهم ولا يصنع صنيع الجزل. وكان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان وقد لزم عسكره وخندق عليه.

وجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا. فقام فيهم خطيبا. فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم. أنتم في طلب هذه الأعاريب العقف منذ شهرين، قد أخربوا بلادكم وكسروا خراجكم وأنتم حذرون في جوف هذه الخنادق ولا تزايلونها إلّا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدا سوى بلدكم. أخرجوا على اسم الله إليهم. » فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل:

« ما تريد أن تصنع؟ » قال:

« أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل. » فقال له الجزل:

« أقم أنت في جماعة الناس فارسهم وراجلهم ودعني أصحر له، ولا تفرّق أصحابك، فإنّ ذلك شرّ لهم وخير لك. » فقال له:

« قف أنت في الصفّ. » فقال:

« يا سعيد بن مجالد، ليس في ما صنعت رأى، أنا بريء من رأيك هذا. سمع الله ومن حضر من المسلمين. » فقال:

« هو رأى إن أصبت فالله وفّقنى، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برءاء. » قال: فوقف الجزل في صفّ أهل الكوفة، وقد أخرجهم من الخندق. وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي. ووقف الجزل في جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل قطيطا، وأمر دهقانها أن يشترى لهم ما يصلحهم ويتخذ لهم غذاء.

ففعل. فدخل مدينة قطيطا، وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ [ من الغداء ] حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل العسكر. فصعد الدهقان ثم نزل قد تغيّر لونه، فقال:

« ما لك؟ » قال:

« قد والله جاءك جمع عظيم. » فقال:

« بلغ شواؤك؟ » قال:

« لا. » قال:

« دعه. »

قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال:

« قد أحاطوا بالجوسق. » قال:

« هات شواءك. » فجعل يأكل غير مكترث لهم. فقال لمّا فرغ:

« قوموا إلى الصلاة. » وقام وتوضّأ وصلّى بأصحابه الأولى، ولبس درعه وتقلّد سيفه وأخذ عمود حديد، ثم قال:

« أسرجوا لي البغلة. » فقال أخوه مصاد:

« أخي هذا اليوم تسرج بغلة؟ » قال:

« نعم، أسرجوها. » فركبها، ثم قال:

« يا فلان أنت على الميمنة، وأنت يا فلان على الميسرة. » وقال لمصاد:

« أنت على القلب. » وأمر الدهقان، ففتح الباب في وجوههم، فخرج إليهم وهو يحكّم. فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير ميل، وجعل سعيد يصيح:

« يا معشر همدان، أنا ابن ذي مرّان، إليّ إليّ. » ونزع سرابانة كانت عليه. فنظر شبيب إلى مصاد فقال له:

« استعرضهم استعراضا، فإنّهم قد تقطّعوا. فإني حامل على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أثكل ولده. » ففعل مصاد ما أمره به وحمل هو على سعيد بن مجالد، فعلاه بالعمود، فسقط ميّتا وانهزم أصحابه، وما قتل منهم يومئذ إلّا قتيل واحد. وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى انتهوا إلى الجزل، فناداهم الجزل:

« أيها الناس، إليّ إليّ. » وناداهم عياض بن أبي لينة:

« أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم هلك، فهذا أميركم الميمون النقيبة.

أقبلوا إليه. » فأقبلوا إليه. فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزما. وقاتل الجزل قتالا شديدا حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض بن أبي لينة حتى استنقذاه وهو مرتثّ. وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، وأتى بالجزل حتى دخل المدائن، وكتب إلى الحجّاج بن يوسف:

« أما بعد، فإني أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّى خرجت من الجند الذي وجّهنى فيه إلى عدوّه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إليّ فيهم ورأيه. فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك وقد أرادنى العدوّ بكلّ ريدة، فلم يصب مني غرّة حتى قدم عليّ سعيد بن مجالد رحمه الله، فأمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألّا يقاتلهم إلّا في جماعة الناس عامّة فعصاني وتعجّل إليهم في الخيل، وكنت أشهدت الله عليه وأهل المصرين، أنّى بريء من رأيه الذي رأى، وأنّى لا أهوى ما صنع. فمضى، تجاوز الله عنه، ودفع الناس إليّ، فنزلت ودعوتهم إليّ، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلّا وأنا في أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحات قد يموت الإنسان من دونها، ويعانى من مثلها. فليسأل الأمير، أصلحه الله، عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتى عدوّه، وعن موقفي يوم البأس. فإنّه يستبين له عند ذلك أنّى قد صدقته ونصحت له. والسلام. » فكتب إليه الحجّاج:

« أما بعد، فقد أتانى كتابك وقرأته وفهمت كلّ ما ذكرته فيه من أمر سعيد وأمر نفسك وقد صدّقتك في نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدّتك على عدوّك وقد رضيت عجلة سعيد وتؤدتك. فأما عجلته فانّها أفضت به إلى الجنة وأما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنتك، حزم، وقد أحسنت وأصبت وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع، والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيّان بن أعسر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم، فأنفقها في حاجتك وما ينوبك. والسلام. » وبعث عبد الله بن أبي عصيفر إلى الجزل بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللّطف والهديّة.

وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد، وكان ذلك يوم سوقهم، فآمنهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، وهو وأصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دوابّ وثيابا وأشياء ليس لهم منها بدّ، ثم أخذ بهم نحو الكوفة، فساروا، وبلغ الحجّاج مكانه بحمّام [ أعين ] فبعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فجهّزه في ألفى فارس نقاوة وقال له:

« اخرج إلى شبيب، فالقه واجعل ميمنة وميسرة، ثم انزل إليهم في الرجال، فإن استطرد لك فدعه ولا تتّبعه. » فخرج، فعسكر بالناس بالسبخة، وبلغه أنّ شبيبا قد أقبل. فسار نحوه وكأنما يساقون إلى الموت. وأمر الحجّاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة، ونادى:

« ألا، برئت الذمّة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة. » فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه وهو يعبّئهم ويحرّضهم، إذ قيل له:

« قد غشيك شبيب. » فنزل، ونزل معه جلّ أصحابه، وقدّم رايته، فأخبر أنّ شبيبا لمّا أخبر بمكانك، تركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به.

ثم قيل لهم:

« أما تراهم؟ » فنادى في أصحابه، فركبوا في آثارهم وإنّ شبيبا أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل له:

« إنّ أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون. » فلمّا بلغ مكان شبيب، ماج بعضهم في بعض، وجالوا وهمّوا بدخول الكوفة حتى قيل لهم:

« هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل. » ومضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات، ثم أخذ على الأنبار، ثم دخل وقوقا، ثم ارتفع إلى أدانى آذربيجان. فتركه الحجّاج، وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن شعبه. فما شعر الناس بشيء حتى جاء كتاب مادر واسب دهقان بابل مهروذ إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أنّ تاجرا من تجّار أهل بلادي أتانى يذكر أنّ شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، وأحببت إعلامك لترى رأيك ثم لم ألبث أن جاءني جائيان من جيراني، فحدّثانى أنه قد نزل خانيار.

فأخذ عروة كتابه، فأدرجه وسرّح به إلى الحجّاج بالبصرة. فلما قرأه الحجّاج أقبل جادّا إلى الكوفة، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى قرية يقال لها: حزى، على شاطئ دجلة، فعبر منها، وقال لأصحابه:

« يا هؤلاء، إنّ الحجّاج ليس بالكوفة وليس دون الكوفة شيء إن شاء الله، فسيروا بنا. » فخرج يبادر الحجّاج إلى الكوفة.

وكتب عروة إلى الحجّاج:

« إنّ شبيبا أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل. » فطوى الحجّاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة: فنزلها الحجّاج صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب والعشاء الآخرة، ثم أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا، ثم ركبوا خيولهم. فدخل الكوفة، وجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق. ثم شدّ حتى ضرب باب القصر بعموده.

قال: فحدّثني جماعة أنهم رأوا ضربة شبيب باب القصر، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبّة وقال:

وكأنّ حافرها بكلّ خميلة ** فرق يكيل به شحيح معدم

ثم اقتحم أصحابه المسجد، وكان لا يفارقه قوم يصلّون فيه، فقتل جماعة.

ومرّ بدار حوشب وهو على الشرط، فوقفوا على با به وقالوا:

« إنّ الأمير يدعو حوشبا. » فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب فكأنّه أنكرهم وأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له:

« كما أنت حتى يخرج صاحبك. » فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم وذهب لينصرف فعجّلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب وقتلوا غلامه ميمونا وأخذوا برذونه ومضوا. حتى مرّوا بالجحّاف بن بسيط الشيبانى من رهط حوشب. فقال له سويد:

« انزل إلينا. » فقال:

« ما تصنع بنزولى؟ » قال سويد:

« انزل أقضك ثمن البكرة التي كنت ابتعتها منك بالبادية. » فقال له الجحّاف:

« بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس المكان لقضاء الدين، أما ذكرت أداء أمانتك إلّا والليل مظلم وأنت على متن فرسك! قبّح الله دينا لا يصلح ولا يتمّ إلّا بقتل وسفك لدماء أهل القبلة. » ثم مرّوا بمسجد بنى ذهل، فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلّى في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفا إلى منزله، فقتلوه. ثم خرجوا متوجّهين نحو الردمة، وأمر الحجّاج فنودي:

« يا خيل الله اركبي وأبشرى. » وهو فوق القصر وهناك مصباح مع غلام له قائم. فكان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن ومعه مواليه وناس من أهله، فقال:

« أعلموا الأمير مكاني، أنا عثمان بن قطن، ليأمرنى بأمره. » فناداه ذلك الغلام:

« قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير. » وجاء الناس من كلّ جانب، وبات عثمان في من اجتمع إليه من الناس حتى أصبح.

وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجّاج:

« إذا قدم عليك محمد بن موسى بن طلحة فجهّز معه ألفى رجل، وعجّل سراحه إلى سجستان. » فلما قدم محمد بن موسى الكوفة جعل يتحبّس ويتجهّز. فقال له نصحاؤه:

« تعجّل أيها الرجل إلى عملك، فإنّك لا تدرى ما يحدث. » فأقام على حاله وحدث من أمر شبيب ما حدث.

حيلة الحجاج على محمد بن موسى حتى حارب الخوارج وقتل

فقيل للحجّاج:

« إن سار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه ممن تطلب أحد، منعك منه؟ » قال:

« فما الحيلة؟ » قالوا:

« تأتيه فتسلّم عليه وتذكر نجدته وبأسه وأنّ شبيبا في طريقه وقد أعياك، وأنّك ترجو أن يريح الله منه على يديه، فيكون له ذكر ذلك وشهرته. » فكتب إليه الحجّاج:

« إنّك عامل على كلّ بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك تجاهد ومن معه ولك ذكره وصيته، ثم تمضى إلى عملك. » فاستجاب له.

ثم إنّ الحجّاج بعث بشر بن غالب الأسديّ في ألفى رجل وزيادة بن قدامة في ألفين، وأبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالي، وأعين صاحب حمّام أعين مولى بشر بن مروان في ألف، وجماعة غيرهم. واجتمع تلك الأمراء في أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القوّاد، وأخذ نحو القادسيّة. فوجّه الحجّاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له:

« اتّبع شبيبا حتى تواقعه حيث ما أدركته ما لم يعطف عليك وينزل فيقيم لك فلا تبرح حتى تواقعه. » فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز اليهوديّ، وكان شجاعا وعلى ميسرته عديّ بن عميرة الكنديّ، وجمع شبيب خيله كلّها كبكبة واحدة، ثم اعترض بها الصفّ يوجف وجيفا حتى انتهى إلى زحر بن قيس. فنزل زحر فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه. فظنّ القوم أنّهم قتلوه. فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يمشى حتى دخل قرية فبات فيها وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه أربع عشرة ضربة، فمكث أياما ثم أتى الحجّاج وعلى وجهه القطن، فأجلسه معه على السرير.

وقال أصحاب شبيب لشبيب، وهم يظنّون أنّهم قتلوا زحرا:

« قد هزمنا لهم جندا، وقتلنا أميرا من أمرائهم عظيما. انصرف بنا الآن وافرين. » فقال لهم:

« إنّ قتلنا هذا الرجل وهزيمتنا هذا الجند قد أرعبت هذه الأمراء، فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم، ما دون قتل الحجّاج وأخذ الكوفة شيء. » فقالوا:

« نحن طوع أمرك، فرأيك. » قال: فانقضّ بهم جوادا حتى أتى نجران الكوفة بناحية عين التمر، ثم استخبر عن القوم فعرّف اجتماعهم بروذآباد في أسفل الفرات على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة، وبلغ الحجّاج مسير شبيب إليهم، فبعث إليهم يقول لهم:

« إن جمعكم قتال، فأميركم زايدة بن قدامة. » قال عبد الرحمن: فانتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء، على جماعتهم زايدة بن قدامة، وقد عبّى كلّ أمير أصحابه على حدة وهو واقف في أصحابه.

فأشرف على الناس شبيب وهو على فرس له كميت أغرّ، فنظر إلى تعبئتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فيقف في ميمنتنا، وفيها زياد بن عمرو العتكيّ، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت بإزاء ميسرتنا، وفيها بشر بن غالب الأسدى، وجاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القلب.

قال: فخرج زايدة بن قدامة يسير في الناس بين الميمنة والميسرة يحرّض الناس ويقول:

« عباد الله، إنكم الطيّبون الكثيرون، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون. اصبروا، جعلت لكم الفداء لكرّتين أو ثلاث، ثم هو النصر، ليس دونه شيء إلّا ترونهم.

والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، وهم السرّاق المرّاق، إنّما جاءوكم ليهريقوا دماءكم ويأخذوا فيئكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، وغضّوا الأبصار واستقبلوهم بالأسنّة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم. » ثم انصرف إلى موقفه. وحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفّهم، وثبت زياد في جماعة، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا، ثم كرّ عليهم ثانية.

قال فروة بن لقيط: إطّعنّا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا. وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا. فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنّه لأشدّ العرب قتالا وأشجعهم وما يعرض لهم. قال: ثم ارتفعنا عنهم، فإذا هم يتقوّضون، فقال لنا أصحابنا:

« ألا تراهم يتقوّضون؟ احملوا عليهم. » فراسلنا شبيب:

« خلّوهم حتى يخفّوا. » فتركوهم قليلا، ثم حمل عليهم الثالثة، فانهزموا. فنظرت إلى زياد بن عمرو وإنّه ليضرب بالسيوف، وما من سيف يضرب به إلّا نبا عنه، ولقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا وهو مجفّف، فما ضرّه شيء منها. ثم إنّه والله انهزم. ثم انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلنا قتالا شديدا وصبرنا. ثم إنّ مصادا حمل على بشر بن غالب في الميسرة، فصبر وأبلى وكرم، ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا. فلما قتلوا انهزم أصحابه.

قال: وشددنا على أبي الضريس فهزمناه حتى انتهى إلى موقف أعين. ثم شددنا عليه وعلى أعين فهزمناهم حتى انتهوا إلى زايدة بن قدامة. فلما انتهوا إليه، نزل ونادى:

« يا أهل الإسلام، الأرض الأرض، إليّ إليّ. لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم. » فقاتل عامة الليل إلى السحر.

ثم إنّ شبيبا شدّ عليه في جماعة من أصحابه، فقتله وربضة حوله من أهل الحفاظ.

وقال شبيب لأصحابه:

« ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة. » فدعوهم عند الفجر إلى البيعة. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت ممن قدّم فبايعته وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه. فكلّ من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه وأخذ سلاحه، ثم يدنى من شبيب فيسلّم عليه بأمير المؤمنين، ثم يبايع.

فإنّا لكذلك، إذا أضاء الفجر، ومحمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه قد صبروا. وأمر مؤذنه فأذّن، فلما سمع الأذان قال:

« ما هذا؟ » قالوا:

« هذا محمد بن موسى بن طلحة، لم يبرح. » قال:

« ظننت أنّ حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا. نحّوا هؤلاء عنّا، وانزلوا بنا فلنصلّ. »

فنزل، وأذّن هو، ثم استقدم، فصلّى بأصحابه، فقرأ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ، و: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. ثم سلّم وركبوا.

فأرسل شبيب إلى محمد:

« إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجّاج وأنت جار لي، ولك حقّ. فانطلق لما أمرت به ولك الله ألّا أريبك. » فأبى إلّا محاربته. فأعاد إليه الرسول، فأبى إلّا قتاله. فقال له شبيب:

« كأنّى بأصحابك لو التقت حلقتا البطان، لأسلموك، فصرعت مصرع أصحابك فأطعنى وانطلق لشأنك، فإني أنفس بك عن القتل. » فأبى ودعا إلى البراز، فبرز له البطين، ثم قعنب، ثم سويد، فأبى إلّا شبيبا.

فقالوا لشبيب:

« قد رغب عنّا إليك. » قال:

« فما ظنّكم؟ هم الأشراف. » فبرز له شبيب، وقال:

« أنشدك الله في دمك، فإنّ لك جوارا. » فأبى. فحمل عليه بعموده الحديد، وكان فيه اثنى عشر رطلا. فهشم بيضة عليه ورأسه، ثم نزل إليه فكفنه ودفنه. وابتاع ما غنموا له من عسكره، فبعث به إلى أهله واعتذر إلى أصحابه. قال:

« هو جاري بالكوفة، ولى أن أهب ما غنمت لأهل الردّة. » فقال له أصحابه:

« مادون الكوفة أحد يمنعها. » فنظر، فإذا أصحابه قد جرحوا. فقال لهم:

« ما عليكم أكثر مما فعلتم. »

وخرج بهم إلى نفّر، ثم خرج بهم إلى بغداد نحو خانيجار، فأقام بها. ولما بلغ الحجّاج أنّ شبيبا قد أخذ نحو نفّر، ظنّ أنّه يريد المدائن وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر. فهال ذلك الحجّاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، وسرّحه إلى المدائن وولّاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان. فخرج مسرعا حتى نزل المدائن، وعزل الحجّاج ابن أبي عصيفر، وكان بها الجزل مقيما يداوى جراحاته، وكان ابن أبي عصيفر يعوده ويكرمه ويلطفه. فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء.

فكان الجزل يقول:

« اللهمّ زد ابن أبي عصيفر جودا، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا. » ثم إنّ الحجّاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقال له:

« انتخب الناس. » وأخرج من قومه ستمائة من كندة، ومن سائر الناس ستة آلاف، واستحثّه الحجّاج، فعسكر بدير عبد الرحمن. فلما أراد الحجّاج إشخاصهم كتب إليهم كتابا قرئ عليهم. « أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلّاء وولّيتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين. وإني قد صفحت عنكم مرّة بعد مرّة، وتارة بعد أخرى. وإني أقسم لكم باللَّه قسما صادقا، لئن عدتم لذلك لأوقعنّ بكم إيقاعا أكون به أشدّ عليكم من هذا العدوّ الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتسترون منه بأفناء الأنهار وألواذ الجبال. فخاف من كان له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر، والسلام. » وارتحل عبد الرحمن في الناس حتى مرّ بالمدائن، فنزل بها يوما حتى تشرّى به أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا. ثم أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل، فسأله عن جراحته. وحدّثه ساعة. فقال له الجزل:

« يا ابن عمّ، إنّك تسير إلى فرسان العرب، وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل والله لكأنّما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم الفارس منهم أشدّ من مائة، إن لم يبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم. وإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني وكان لهم الفضل عليّ وإذا خندقت عليّ أو قاتلتهم في مضيق نلت منهم ما أحبّ، وكان لي عليهم، فلا تلقهم وأنت تستطيع، إلّا في تعبئة أو خندق. » ثم ودّعه، وقال له الجزل:

« هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنّها لا تجارى. » فأخذها. ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقا وشهرزور. فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على التخوم، أقام، وقال:

« إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوا. » فكتب إليه الحجّاج:

« أما بعد، فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك، حتى تدركه فتقتله، أو تنفيه. فإنّما السلطان سلطان أمير المؤمنين، والجند جنده. والسلام. »

فخرج عبد الرحمن حتى قرأ الكتاب في طلب شبيب. فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه يبيّته فيجده قد خندق، وحذر، فيمضى ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن. فإذا بلغه أنه قد تحمّل، وأنه يسير، أقبل في الخيل. فإذا انتهى إليه، وجده قد صفّ الخيل والرجّالة المرامية، فلا تصيب له غرّة ولا غفلة، فيمضى ويدعه. ولما رأى شبيب أنه لا يصيب غرّته، ولا يصل إليه، جعل يخرج، كلّما دنا منه عبد الرحمن حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا منه، ثم يقيم في أرض غليظة خشنة، فيجيء عبد الرحمن في خيله وثقله، حتى إذا دنا من شبيب ارتحل عنه شبيب، فسار خمسة عشر فرسخا أو عشرين فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا. ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن. فكان شبيب قد عذّب ذلك العسكر، وشقّ عليهم، وأحفى دوابّهم، ولقوا منه كلّ بلاء. فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مرّ به على خانقين، ثم جلولاء، ثم تامرّا، ثم أقبل إلى البتّ ونزل بها، وعلى تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلّا نهر حولايا. وجاء عبد الرحمن حتى نزل شرقيّ حولايا وهو في راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل في عواقير من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن، وأرسل إلى عبد الرحمن:

« هذه الأيام أيّام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضى هذه الأيام فعلتم. » فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك ولم يكن شيء أحبّ إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة.

فكتب عثمان بن قطن إلى الحجّاج:

« أما بعد، فإني أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلّها خندقا واحدا، وخلّى شبيبا، وكسر خراجها، فهو يأكل أهلها. والسلام. » وكتب إليه الحجّاج:

« قد فهمت ما ذكرت، وقد - لعمري - فعل عبد الرحمن غير مرضيّ، فسر إلى الناس، فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم. » وبعث الحجّاج إلى المدائن مطرّف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن ومن معه وهم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البتّ وذلك يوم التروية عشاء. فنادى الناس وهو على بغله:

« أيها الناس، أخرجوا إلى عدوّكم. » فوثب إليه الناس فقالوا:

« ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطّنوا أنفسهم على القتال.

فبت الليلة، ثم اخرج على تعبئة. » فجعل يقول:

« لأناجزنّهم، فلتكوننّ الفرصة لي أولهم. » فأتاه عبد الرحمن، فأخذ بعنان بغلته وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شدّاد السلولي:

« إنّ الذي تريد من مناجزتهم الساعة، أنت فاعله غدا وهو خير لك وللناس.

إنّ هذه ساعة ريح وغبرة وقد أمسيت، فانزل، ثم ابكر بنا غدوة. » فنزل، فسفت عليه الريح، وشقّ عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج، فبنوا له قبّة وبات فيه. ثم أصبح وخرج بالناس، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة.

فصاح الناس إليهم وقالوا:

« ننشدك الله أن تخرج بنا في هذا اليوم، فإنّ الريح علينا. » فأقام ذلك اليوم، وكان شبيب يخرج إليهم. فلما رءاهم لم يخرجوا إليه أقام.

فلما كان من الغد خرج عثمان يعبّئ الناس على أرباعهم، وسألهم:

« من كان على ميمنتكم وميسرتكم؟ » قالوا:

« كان خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن شدّاد السلولي كان على ميمنتنا. » فقال لهما:

« قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد ولّيتكما المجنّبتين، فاثبتا ولا تفرّا، فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها. » فقالا:

« فنحن والله الذي لا إله إلّا هو، لا نفرّ حتى نظفر أو نقتل. » فقال لهما:

« جزاكما الله خيرا. » ثم أقام حتى صلّى بالناس الغداة، ثم خرج بالخيل، ونزل يمشى في الرجال.

وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلا. فقطع إليهم النهر، وكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصادا أخاه، وزحفوا. وكان عثمان بن قطن يقول فيكثر:

« لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا. » ثم قال شبيب لأصحابه:

« إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتى على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري. »

وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن، فانهزموا، ونزل عقيل بن شدّاد مع طائفة من أهل الحفاظ، فقاتل حتى قتل، وقتلوا معه. ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن، فهزمها وعليها خالد بن نهيك الكندي. فنزل خالد فقاتل قتالا شديدا، وحمل عليه شبيب من ورائه، فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله.

ومشى عثمان بن قطن، وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا. فلما دنا منهم عثمان بن قطن شدّ عليهم في الأشراف وأهل الصبر، فضربوهم حتى فرّقوا بينهم. وحمل شبيب من ورائهم بالخيل، فما شعروا إلّا والرماح في أكتافهم يكبّهم لوجوههم.

وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقاتل عثمان بن قطن، فأحسن القتال. ثم إنهم شدّوا عليه، فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب، فضربه ضربة بالسيف استدار لها، وقال:

« وكان أمر الله قدرا مقدورا. » ثم إنّهم قتلوه، وقتل معه العرفاء ووجوه الناس، فقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون رجلا، وقتل من سائر الناس نحو من ألف، ووقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فعرفه ابن أبي سبرة، فنزل وناوله الرمح وقال له: اركب، فركب وارتدف ابن أبي سبرة وقال له عبد الرحمن:

« ناد في الناس: الحقوا بدير ابن أبي مريم. » فنادى. ثم انطلقا ذاهبين، وأمر شبيب أصحابه، فرفعوا عن الناس السيف ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجال، فبايعوه. وبات عبد الرحمن بدير النعار، فأتاه فارسان. فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلا يناجيه، وقام الآخر قريبا منهما، ثم مضى مع صاحبه، فكان الناس يتحدّثون أنّ ذاك كان شبيبا وأنه كان كاتبه. ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل، فسار حتى أتى دير ابن أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم ابن أبي سبرة صبر الشعير والقتّ كأنّها القصور ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، واجتمع الناس إلى عبد الرحمن فقالوا له:

« إن علم شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد تفرّق عنك الناس وقتل خيارهم، فالحق أيها الرجل بالكوفة. » فخرج، وخرج معه الناس، وجاء حتى اختبأ من الحجّاج، إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك.

ثم إنّ شبيبا اشتدّ عليه الحرّ وعلى أصحابه، فأتى ماه بهراذان، فتصيّف بها ثلاثة أشهر. وأتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا كثير، ولحق به ناس ممن كان يطلبهم الحجّاج بمال وتباعات. فمنهم رجل يقال له: الحرّ بن عبد الله بن عوف، كان قتل دهقانين من أهل درقيط كانا ضيفين عليه، ولحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه، حتى قتل شبيب، وله مقام عند الحجّاج وكلام سلم به من القتل يجب أن نثبته. وهو أنّ الحجّاج، لمّا آمن بعد قتل شبيب كلّ من خرج إليه من أصحاب المال، خرج إليه الحرّ في من خرج. فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجّاج. فأتى به.

كلام للحر لما أتى به ليقتل سلم به

فقال له الحجّاج:

« يا عدوّ الله قتلت رجلين من أهل الخراج؟ » فقال له:

« قد كان - أصلحك الله - مني ما هو أعظم من هذا. » قال:

« وما هو؟ » قال:

« خروجي من الطاعة وفراقي الجماعة. ثم إنّك آمنت كلّ من خرج إليك وهذا أمانى وكتابك لي. » فقال له الحجّاج:

« قد لعمري فعلت أولى لك. » وخلّى سبيله.

رجعنا إلى حديث شبيب. ثم إنّه لمّا انفسخ الحرّ عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائة رجل. فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة.

فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان. فكتب ماذرواسب، وهو عظيم بابل مهروذ، إلى الحجّاج يخبره خبر شبيب. فقام الحجّاج في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« أيها الناس، لتقاتلنّ عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثنّ إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على البلاء منكم، فيقاتلون عدوّكم ويأكلون فيئكم. » فقام إليه الناس من كلّ جانب يقولون:

« نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليندبنا إليهم، فإنّا حيث سرّه. »

وقام إليه زهرة بن حويّة. وهو يومئذ شيخ كبير، لا يستتمّ قائما حتى يؤخذ بيده، فقال:

« أصلح الله الأمير. إنّك إنما تبعث الناس متقطّعين، فاستنفر الناس إليهم كافّة، وابعث عليهم رجلا متينا شجاعا، محربا مجرّبا ممن يرى الفرار هضما وعارا، والصبر مجدا وكرما. فقال له الحجّاج:

« فأنت ذاك. فاخرج! » فقال له:

« أصلح الله الأمير. إنما يصلح الناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهزّ السيف ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا. قد ضعفت وضعف بصرى، ولكن أجرى في الناس مع أمير، فإني أثبت على الرحالة، فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأى. » فقال له الحجّاج:

« جزاك الله عن الإسلام والطاعة في أوّل الإسلام وآخره خيرا. فقد نصحت وصدقت. أنا مخرج الناس كافّة، ألا، فسيروا أيها الناس. » فانصرف الناس وجعلوا يتيسّرون ولا يدرون من أميرهم.

ذكر رأي سديد للحجاج

وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بن مروان:

« أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين، أكرمه الله، أنّ شبيبا قد شارف المدائن، وإنّما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلّها تقتل أمراؤهم وتفلّ جنودهم. فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليّ أهل الشام فيقاتلوا عدوّهم ويأكلوا بلادهم، فليفعل. » فلما أتى عبد الملك كتابه، بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن بن مذحج في ألفين، فسرّحهم حين أتاه كتاب الحجّاج، وكان بعث الحجّاج إلى عتّاب بن ورقاء ليأتيه، وكان على خيل الكوفة مع المهلّب وهم الجيش الذي كان بشر بن مروان بعث عليهم عبد الرحمن بن مخنف إلى قطري، وقد أخبرنا في ما مضى بمقتل عبد الرحمن بن مخنف. فبعث الحجّاج عتّاب بن ورقاء على ذلك الجيش الذي أصيب فيهم عبد الرحمن، وكان جرى لعتّاب مع المهلّب كلام تأدّى إلى وحشة.

فلما أن جاء في هذا الوقت كتاب الحجّاج إلى عتّاب بن ورقاء بأن يأتيه، سرّ بذلك، ودعا الحجّاج أشراف الكوفة، فيهم: زهرة بن حويّة، وقبيصة بن والق، فقال:

« من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ » فقالوا:

« رأيك أيها الأمير أفضل. » « فإني قد بعثت إلى عتّاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة، فيكون هو الذي يسير في الناس. » قال زهرة بن حويّة:

« أصلح الله الأمير، رميتهم بحجرهم، لا والله، ما يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. »

ذكر رأي جيد رءاه قبيصة بن والق

فقال قبيصة بن والق:

« إني أشير عليك برأى اجتهدته نصيحة لأمير المؤمنين، وللأمير ولعامة المسلمين. إنّا قد تحدّثنا وتحدّث الناس. إنّ جيشا فصل إليك من أهل الشام، وإنّ أهل الكوفة قد هزموا، وهان عليهم الفرار والعار من الهزيمة، فقلوبهم كأنّما هي في قوم آخرين. فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يلبثوا إلّا وهم يرون أنهم ميّتون، فعلت. فإنّك تحارب حوّلا قلّبا، طعّانا رحّالا، وقد جهّزت إليه أهل الكوفة، ولست واثقا بهم كلّ الثقة، وإنّما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام. إنّ شبيبا، بينا هو في أرض، إذ هو في أرض أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهم غارّون. وإن يهلكوا نهلك وتهلك العراق. » فقال:

« لله أنت! ما أحسن ما رأيت لي، وما أحسن ما أشرت به عليّ. » فبعث إلى من أقبل إليه من الشام، فأتاهم كتاب الحجّاج وقد نزلوا هيت، فقرءوه، فإذا فيه:

« أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله. » فأقبل القوم سراعا، وقدم عتّاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجّاج إنه قادم. فأمره الحجّاج، فخرج بالناس وعسكر بحمّام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى، فقطع منها دجلة. ثم أقبل حتى نزل مدينة بهر سير، وصار بينه وبين مطرّف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة، فقطع مطرّف الجسر، وبعث إلى شبيب أن ابعث رجالا من وجوه أصحابك.

مكيدة للمطرف بن المغيرة كاد بها شبيبا حتى حبسه عن وجهه

وأظهر مطرّف أنّه يريد أن يدار سهم القرآن وينظر في ما يدعو إليه، فإن وجده حقّا تبعه. فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب وسويد والمحلّل، ووصّاهم شبيب ألّا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرّف، وبعث إلى مطرّف أن:

« ابعث إليّ من أصحابك بعدّة أصحابي يكونوا رهنا في يدي حتى ترد على أصحابي. » فقال مطرّف لرسوله:

« القه وقل له: كيف آمنك على أصحابي إذا بعثت بهم الآن وأنت لا تأمننى على أصحابك. » فأبلغه الرسول، فقال شبيب:

« إنّك قد علمت أنّا لا نستحلّ الغدر في ديننا، وأنتم تستحلّونه وتفعلونه. » فبعث إليه مطرّف جماعة من وجوه أصحابه. فلما صاروا في يد شبيب، سرّح إليه أصحابه. فأتوا مطرّفا، فمكثوا أربعة أيّام يتناظرون، ثم لم يتّفقوا على شيء.

فلما تبيّن لشبيب أن مطرّفا غير تابعه، تعبّى للمسير، وجمع أصحابه وقال لهم:

« إنّ هذا الثقفيّ قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام. وذاك أنّى هممت أن أخرج في جريدة من الخيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام، رجاء أن أصادف غرّتهم قبل أن يحذروا، وكنت ألقاهم متقطّعين عن المصر ليس عليهم أمير كالحجّاج يستندون إليه، ولا مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عيون أنّ أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة. وجاءتني أيضا عيوني من نحو عتّاب أنّه قد نزل بجماعة أهل الكوفة والبصرة. فما أقرب ما بيننا وبينهم. فتيسّروا بنا للمسير إلى عتّاب بن ورقاء. » وكان عتّاب يومئذ قد أخرج معه جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم وشبّانهم، فوافى معه أربعون ألفا من المقاتلة، وعشرة آلاف من الشباب. فكانوا خمسين ألفا. وهدّدهم الحجّاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة، وتوعّدهم.

وعرض شبيب أصحابه في المدائن، فكانوا ألف رجل، فخطبهم، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« يا معشر المسلمين، إنّ الله عز وجل قد كان ينصركم وأنتم مائة ومائتان، وأنتم اليوم مئون ومئون. ألا، إني مصلّ الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله. » فصلّى، ثم نودى في الناس، فأخذوا يتخلّفون ويتأخّرون.

قال فروة بن لقيط: فلما جاز بنا ساباط، ونزلنا معه قصّ علينا، وذكّرنا بأيام الله وزهّدنا في الدنيا، ورغّبنا في الآخرة. ثم أذّن مؤذّنه، فصلّى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف بنا على عتّاب بن ورقاء. فلما رءاهم نزل من ساعته، وأمر مؤذّنه فأذّن، ثم تقدّم، فصلّى بهم المغرب، وخرج عتّاب بالناس كلّهم، فعبّأهم، وكان قد خندق أول أيّام نزل. وكان يظهر أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن.

فلما صفّ عتّاب الناس بعث على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال له:

« يا بن أخي، إنّك شريف، فاصبر وصابر. » فقال له:

« أمّا أنا فو الله لأقاتلنّ ما ثبت معي إنسان. » وقال لقبيصة بن والق:

« اكفنى الميسرة. » فقال:

« أنا شيخ كبير. غايتي أن أثبت تحت رايتي.. » وكان يومئذ على ثلث بنى تغلب.

«.. أما تراني لا أستطيع القيام، إلّا أن أقام؟ وأخي نعيم بن عليم وهو ذو جزء وغناء. » فبعثه على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث، ابن عمّ عتّاب وشيخ أهل بيته على الرجّالة، وبعث معه ثلاثة صفوف فيه الرجّالة معهم السيوف، وصفّ هم أصحاب الرماح، وصفّ فيه المرامية. ثم سار بين الميمنة والميسرة، ويمرّ بأهل راية راية، فيحثّهم على الصبر ويقصّ عليهم. وقال في ما حفظ من كلامه:

« إنّ أعظم الناس نصيبا في الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين. ألا ترون أنه يقول: اصْبِرُوا، إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ »؟ وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي. ألا ترون أنّ عدوّكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه. لا يرون ذلك إلّا قربة لهم عند الله، فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار. أين القصّاص؟ » قال ذلك مرارا، فلم يجبه أحد منّا. فلما رأى ذلك، قال:

« أين من يروى شعر عنترة؟ » قال: فلا والله ما ردّ عليه أحد كلمة. فقال:

« إنّا لله، كأنّى بكم قد فررتم عن عتّاب، وتركتموه تسفى في استه الريح. » ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حويّة جالس وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.

وأقبل شبيب وهو في ستمائة وقد تخلّف عنه من الناس أربعمائة، فقال:

« ما تخلّف عني إلّا من لا أحبّ أن أراه فينا. » فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المجلّل بن وائل في مائتين إلى القلب. ومضى هو في مائتين إلى الميمنة، وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم:

« لمن هذه الرايات؟ » قالوا:

« رايات ربيعة. » فقال شبيب:

« رايات طال ما نصرت الحقّ، وطال ما نصرت الباطل، لها في كلّ نصيب.

أنا أبو المدلّه، أثبتوا إن شئتم. » ثم حمل عليهم وهم على مسنّاة أمام الخندق، ففضّهم، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. فجاء شبيب حتى وقف عليه، وقال لأصحابه:

« مثل هذا ما قال الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا، فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ، فَكانَ من الْغاوِينَ. » ثم حمل على الميسرة وفيها عتّاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة، وعليها محمد بن عبد الرحمن، فقاتل في الميمنة في رجال تميم وهمدان، فأحسن القتال. فمازالوا كذلك حتى أتوا، فقيل لهم:

« قتل عتّاب بن ورقاء. » قال: فانفضّوا، ولم يزل عتّاب جالسا على طنفسة في القلب هو وزهرة بن حويّة إذ غشيهم شبيب، فانفضّ عنه الناس وتركوه، فقال عتّاب:

« يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد وقلّ فيه الغناء. لهفي على خمسمائة فارس معي من وجوه الناس من نحو رجال تميم. ألا صابر لعدوّه! ألا مواس بنفسه؟ »

فمضى الناس على وجوههم. فلمّا دنا منه شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه، فقال له بعضهم:

« أصلحك الله، إنّ عبد الرحمن بن محمّد قد هرب عنك وانصفق معه ناس كثير. » فقال:

« قد فرّ قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالى ما صنع. » ثم قاتلهم ساعة وهو يقول:

« ما رأيت كاليوم قطّ موطنا لم أبل بمثله أقلّ ناصرا ولا أكثر هاربا خاذلا. » فرءاه رجل من بنى تغلب من أصحاب شبيب، وكان أصاب دما في قومه، ولحق بشبيب، فقال لشبيب:

« والله، إني لأقتلنّ هذا المتكلّم عتّاب بن ورقاء. » فحمل عليه وطعنه، فوقع ووطئت الخيل زهرة بن حويّة. فأخذ يذبّ بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض. فجاءه الفضل بن عامر الشيبانى، فقتله، وانتهى إليه شبيب، فوجده صريعا، فعرفه وقال:

« من قتل هذا؟ » فقال الفضل:

« أنا قتلته. » فقال شبيب:

« هذا زهرة بن حويّة. أما والله، لئن كنت قتلت على ضلالة لربّ يوم من أيّام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك، ولربّ خيل للمشركين هزمتها وسريّة له ذعرتها، ومدينة لهم فتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين. » وقتل وجوه العرب في المعركة، واستمكن شبيب من أهل العسكر، فقال:

« ارفعوا عنهم السيف! » ودعا إلى البيعة. فبايعه الناس من ساعتهم، وأخذ شبيب يبايعهم ويقول:

« إلى ساعة يهربون. » فلما كان في الليل هربوا، واحتوى شبيب على ما في العسكر وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن، فأتاه وأقام شبيب ببيت قرّة يومين وقد دخل سفيان بن الأبرد وحبيب بن عبد الرحمن من مذحج في من معها، فشدّوا ظهر الحجّاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« أما بعد، يا أهل الكوفة، فلا أعزّ الله من أراد بكم العزّ، ولا نصر من أراد منكم النصر، أخرجوا عنّا، فلا تشهدوا معنا قتال عدوّنا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا يقاتلن معنا إلّا من كان عاملا لنا ومن لم يشهد قتال عتّاب بن ورقاء. » ثم إنّ شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فقال لأصحابه:

« أيّكم يأتينى برأس عامل سورا؟ » فانتدب إليه بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، وساروا مغذّين، حتى انتهوا إلى دار الخوارج والعمّال في سمّرجه، وكادوا الناس بأن قالوا:

« أجيبوا الأمير! » فقال الناس:

« أيّ الأمراء » فقالوا:

« أمير قد خرج من قبل الحجّاج يريد هذا الفاسق شبيبا. » فاعترّ بذلك العامل منهم. فلما قربوا شهروا السيوف وحكّموا حين وصلوا إليه، فضربوا عنقه، وقبضوا ما وجدوا من مال، ولحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب المال، قال:

« أتيتمونا بفتنة المسلمين؟ هلمّ الحربة يا غلام! » فحزّت بها البدور، وأمر أن تنخس الدوابّ التي كانت عليها. فمرّت والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال:

« إن كان بقي شيء فاقذفوه في الماء. »

ذكر دخول شبيب الكوفة دخلته الثانية

وإنّ أبا سفيان بن الأبرد أتى الحجّاج فقال:

« ابعثني إليه حتى أستقبله قبل أن يأتيك. » فقال:

« ما أحبّ أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم الكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا. » وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمّام أعين، ودعا الحجّاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي، فوجّهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتّاب، ونحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في ألف رجل، فنزل زرارة. وبلغ ذلك شبيبا فتعجّل إليه. فلما انتهى إليه، حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه وجاءوا حتى دخلوا المدينة، وأقبل شبيب حتى قطع ودنا من الكوفة، فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق. فوجّه الحجّاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين، فلم يقو عليهم. فبعث إلى شبيب، فأمدّه بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه، ونجا ومضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه وعسكر على شاطئ الفرات، فلم يوجّه إليه الحجّاج أحدا. فمضى شبيب حتى نزل السبخة وأقام ثلاثا لا يوجّه إليه الحجّاج أحدا، فابتنى مسجدا في أقصى السبخة عند الإيوان، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلّى في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيها البقرة وآل عمران. فجاء شبيب مع امرأته حتى وفت بنذرها في المسجد.

وأشير على الحجّاج أن يخرج بنفسه، فقال الحجّاج لقتيبة بن مسلم:

« اخرج، فإني خارج، وارتد لي معسكرا. » فخرج ثم رجع إليه فقال:

« وجدت المدى سهلا، فسر على اسم الله والطائر الميمون. » فخرج بأصحابه، فأتى على مكان فيه بعض القذر والكناسات فقال:

« ألقوا لي هاهنا. » فقيل له:

« إنّ الموضع قذر. » فقال:

« ما تدعونني إليه أقذر الأرض، تحته طيّبة والسماء فوقه طيّبة. » وأخرج الحجّاج مولى له يقال له أبو الورد عليه تجفاف، وأخرج مجفّفة كثيرة وغلمانا له وقالوا:

« هذا الحجّاج! » فحمل عليه شبيب فقتله، ثم قال:

« إن كان الحجّاج، فقد أرحتكم منه. » ثم إنّ الحجّاج أخرج اليه طهمان في مثل ذلك من العدّة والعدد والهيئة. فحمل عليه شبيب، فقتله، وقال:

« إن كان هذا الحجّاج فقد أرحتكم منه. » ثم إنّ الحجّاج دلف إليه بنفسه وعلى ميمنته مطر بن ناجية وعلى ميسرته خالد بن عتّاب بن ورقاء وهو في زهاء أربعة آلاف. فقيل له:

« أيها الأمير، لا تعرّفه موضعك. »

فتنكّر وأخفى مكانه وغفّل له مولى له، فنظر إليه شبيب وظنّه الحجّاج، فحمل عليه وضربه بعمود فقتله، فغفّل له أعين صاحب حمّام أعين بالكوفة، فقتله. فقال الحجّاج:

« عليّ بالبغلة! » فأتى ببغل محجّل، فقيل له:

« أصلح الله الأمير، إنّ الأعاجم تتطيّر أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل. » فقال:

« أدنوه مني، فإنّ اليوم يوم أغرّ محجّل. فركبه ودنا، ثم طرحت له عباءة فنزل وجلس، ودعا بكرسيّ له، ثم نادى:

« يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، لا يغلبنّ باطل هؤلاء الأرجاس حقّكم، غضّوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنّة. » فجثوا على الركب وكأنّهم حرّة سوداء. فأقبل إليه، شبيب حتى إذا دنا منهم عبّى أصحابه ثلاثة كراديس: كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلّل بن وائل.

فقال لسويد:

« احمل عليهم في خيلك. » فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدما، حتى انصرف، وصاح الحجّاج:

« يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسيّ يا غلام. » وأمر شبيب المحلّل بن وائل، فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعل بسويد.

فناداهم الحجّاج:

« يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسيّ. » ثم إنّ شبيبا حمل عليهم في كتيبته، فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلا. ثم إنّ أهل الشام طاعنوه قدما، حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى صبرهم نادى:

« يا سويد احمل في خيلك على هذه السكّة - يعنى سكّة لحّام بن حرير - لعلّك تزيل أهلها، فتأتى الحجّاج من ورائه ونحمل نحن من أمامه. » فانفرد سويد بن سليم، فحمل على أهل تلك السكّة، فرمى من فوق البيوت وأفواه السكك. فانصرف وقد كان جعل الحجّاج عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ولأصحابه، لئلّا يؤتى من ورائه.

ثم إنّ شبيبا قال لأصحابه:

« يا أهل الإسلام، إنّما شرينا للَّه، ومن شرى لله لم يكن عليه ما أصابه من أذى وألم، الصبر الصبر، شدّة كشدّاتكم في مواطنكم الكريمة. » ثم جمع أصحابه وقال:

« الأرض الأرض، دبّوا تحت تراسكم حتى إذا كانت أسنّتهم فوقها فأدلفوها صعدا، ثم ادخلوا تحتها لتستقبلوا أقدامهم وهي الهزيمة بإذن الله. » فأقبلوا يدبّون إليهم.

رأي جيد رءاه خالد بن عتاب

فقال خالد بن عتّاب بن ورقاء للحجّاج:

« ائذن لي في قتالهم، فإني موتور وأنا ممّن لا يتّهم في نصيحة. » قال:

« فقد أذنت لك. » قال:

« فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم. » فقال له:

« إفعل ما بدا لك. » فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة مع مواليه وشاكريّته حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، وحرق في عسكره. وأتى ذلك الخبر الحجّاج وشبيبا والتفتوا فرأوا النار في بيوتهم. فأما الحجّاج وأصحابه فكبّروا، وأما شبيب فوثب هو وكلّ راجل معه على خيولهم.

وقال الحجّاج لأصحابه:

« شدّوا عليهم، فقد أتاهم ما أرعبهم قلوبهم. » فشدّوا عليهم فهزموهم. وتخلّف شبيب في حامية الناس حتى خرج من الجسر، وتبعه خيل الحجّاج.

قال: فجعل يخفق برأسه. قال أصغر الخارجي: كنت معه لمّا انهزم فقلت:

« يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك. » قال: فالتفت غير مكترث، وجعل يخفق برأسه. قال: فدنوا منّا فقلت:

« يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك. » قال: فالتفت - والله - غير مكترث وجعل يخفق برأسه. فبينا هو كذلك إذ بعث الحجّاج إلى خيله أن:

« دعوه في حرق الله. » قال: فتركوه ورجعوا.

ومضى شبيب ومن معه حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه، فهزموه نحوا من فرسخين فألقى خالد نفسه بفرسه، فمرّ به ولواؤه في يده.

قال شبيب:

« قاتله الله فارسا وفرسه. هذا أشدّ الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض. » فقيل له:

« هذا خالد بن عتّاب. » فقال:

« معرق له في الشجاعة، والله، لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار. » وإنّ الحجّاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال:

« والله ما قوتل شبيب قطّ قبلها [ مثلها ]. ولّى هاربا، وترك امرأته يكسّر في استها القصب. » ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام. وقال له الحجّاج:

« احذر بياته، وحيث ما لقيته فنازله، فإن الله قد فلّ حدّه وقصم نابه. » فخرج حبيب في أثر شبيب حتى نزل الأنبار.

وبعث الحجّاج إلى العمّال أن:

« دسّوا إلى أصحاب شبيب: أنّ من جاءنا منكم فهو آمن. » فكان كلّ من ليست له بصيرة ممّن هدّه القتال يجيء فيؤمن. وقبل ذلك ما كان الحجّاج نادى فيهم يوم هربوا أنّ:

« من جاء منكم فهو آمن. » فتفرّق عنه ناس كثير من أصحابه.

وبلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى دنا من عسكرهم ونزل، فصلّى بهم المغرب.

قال أبو زيد السكسكي: أنا والله في أهل الشام ليلة جاء شبيب، فبيّتنا. قال:

فلما أمسينا، جمعنا حبيب بن عبد الله، فجعلنا أرباعا وعلى كلّ ربع أمير، وقال لكلّ ربع منّا:

« ليجزئ كلّ ربع جانبه، فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم هذا الربع الآخر.

فإنّه بلغني أنّ الخوارج منّا قريب، فوطّنوا أنفسكم على أنكم مبيّتون ومقاتلون. » فمازلنا على تعبئتنا حتى جاءنا شبيب، فبيّتنا، فشدّ على ربع منّا، فضاربهم طويلا. فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل إلى الربع الآخر، فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشيء. قال: ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألزّ بنا حتى قلنا: لا يفارقنا. ثم نازلنا راجلا طويلا، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدى والأرجل، وفقئت الأعين، وكثر القتلى. قتلنا منهم نحوا من ثلاثين، وقتلوا منّا نحوا من مائة، وو الله لو كانوا يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وأيم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملّونا، وكرهناهم وكرهونا. ولقد رأيت الرجل ما يضرب الرجل منهم فما يضرّه شيئا من الإعياء والضعف. ولقد رأيت الرجل منّا يقاتل جالسا ينفح بسيفه، ما يستطيع أن يقوم من الإعياء.

فلما يئسوا ركب شبيب وقال لمن كان نزل معه:

« اركبوا! » وتوجّه منصرفا عنّا.

قال فروة بن لقيط - وكان شهد معه مواطنه كلّها - قال لنا ليلتئذ، وقد رأى بنا كآبة ظاهرة، وجراحة شديدة:

« ما أشدّ هذا الذي بنا، لو كنّا إنّما نطلب الدنيا، وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه. » فقال أصحابه:

« صدقت يا أمير المؤمنين. » قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم، ولا مقالته له:

« يا سويد! قتلت أمس منهم رجلين: أحدهما أشجع الناس والآخر أجبن الناس. خرجت عشيّة أمس طليعة لكم، فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه، وخرجت معه، فقال لي:

« كأنّك لم تشتر علفا. » فقلت:

« إنّ لي رفقاء قد كفونى ذلك. » فقلت له:

« أين ترى عدوّنا هذا؟ » فقال:

« بلغني أنه نزل قريبا منّا، وأيم الله، لوددت أنّى قد لقيت شبيبهم هذا. » قلت:

« فتحبّ ذاك؟ » قال:

« نعم. » قلت:

« فخذ حذرك، فأنا والله شبيب. » وانتضيت سيفي، فخرّ والله ميّتا. فقلت له:

« ارتفع ويحك! » وذهبت أنظر، فإذا هو قد مات. فانصرفت راجعا، فاستقبل الآخر راجعا من القرية، فقال:

« أين تذهب هذه الساعة، وإنّما يرجع الناس إلى عسكرهم. » فلم أكلّمه، ومضيت يقرّب بي فرسي، واتبعني حتى لحقني، فعطفت عليه، وقلت له:

« ما لك؟ » قال:

« أنت والله من عدوّنا. » فقلت:

« أجل والله. » فقال:

« إذا لا تبرح والله حتى أقتلك أو قتلتني. » وحملت عليه، فحمل عليّ، فاضطربنا بسيفنا ساعة، فو الله ما فضلته في شدّة نفس ولا إقدام، إلّا أنّ سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته.

ذكر مكيدة لشبيب

بلغ شبيبا أنّ جند الشام الذين مع حبيب حملوا معهم حجرا وحلفوا ألّا يفرّون من شبيب حتى يفرّ هذا الحجر. فلما سمع شبيب ذلك أراد أن يكيدهم. فدعا بأربعة أفراس وربط في أذنابها ترسه في ذنب كلّ فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه ومعه غلام له يقال له: حيّان، كان بئيسا شجاعا، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثم سار حتى يأتى ناحية من العسكر، فأمر أصحابه

أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كلّ رجلين فرسا، ثم يمسّوها الحديد حتى يجد حرّه ويخلّوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال:

« من نجا منكم فإنّ موعده هذه التلعة. » وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به. فنزل حيث رأى ذلك منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم به. ثم وغلبت في العسكر، ودخل هو يتلوها محكّما، فضرب الناس بعضهم ببعض وماجوا.

فقام حبيب بن عبد الرحمن فنادى:

« أيها الناس إنّ هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يبين لكم الأمر. » ففعلوا، وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رءاهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنه. فلما هذأ الناس، ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيّان، فقال:

« أفرغ على رأسى من الماء يا حيّان. » فلما مدّ رأسه ليصبّ عليه من الماء، همّ حيّان بضرب عنقه وقال لنفسه:

« لا أجد مكرمة لي ولا ذكرا أرفع من قتل هذا في هذه الخلوة، وهو أمانى عند الحجّاج. » فأخذته الرعدة حيث همّ بما همّ به. فلما أبطأ بحلّ الإداوة، قال:

« ما يبطئك بحلّها. » وتناول السكين من موزجه، فخرقها به، ثم ناوله إيّاها، فأفرغ عليه من الماء.

قال حيّان: منعني والله الجبن وما أخذنى من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به، وما كنت أعهد نفسي جبانا.

ثم خلا شبيب بأصحابه وعسكره.

ذكر هلاك شبيب في هذه السنة باتفاق سيء

ثم إنّ الحجّاج أخرج الناس إلى شبيب، وقسم فيهم أموالا عظيمة، وأعطى الجرحى خاصّة، وكلّ ذي جزء وبلاء، وأمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم. فبلغ ذلك حبيب بن عبد الرحمن، فشقّ عليه، وقال:

« تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسانه! » وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى حبروا واستراش هو وأصحابه. ومضى سفيان بعد شهرين واستقبله شبيب بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مصاص بن صيفي على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسّان الفهري، وعلى ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري. وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس: هو في كتيبة، وسويد في كتيبة، وقعنب في كتيبة، وخلّف المحلّل في عسكره. فلما حمل سويد وهو في ميمنته، على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته، على ميمنة سفيان، وحمل هو على سفيان، اضطربوا مليّا حتى رجعت الخوارج إلى المكان الذي كانوا فيه.

قال يزيد السكسكيّ: والله لقد كرّ علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرّة كلّ ذلك لا نزول من صفّنا.

فقال لنا سفيان:

« لا تفرّقوا، ولكن ليزحف الرجال إليهم زحفا. » ففعلنا وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر، نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم إلى المساء أشدّ قتال يكون لقوم قطّ. فما هو إلّا أن نزلوا أوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئا ما رأينا مثله قطّ، ولا ظننّاه يكون. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولم يأمن ظفرهم، دعا الرماة فقال:

« ارشقوهم بالنبل. » وذلك عند المساء. وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل، وقد كان صفّهم سفيان بن الأبرد على حدة وعليهم أمير. فلما رشقوهم شدّوا عليهم.

فلما شدّوا على رماتنا شددنا عليهم فشغلناهم عنهم. فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، ثم كرّوا على أصحاب النبل كرّة صرعوا منهم أكثر من ثلاثين رجلا. ثم عطف علينا يطاعننا حتى اختلط الظلام. ثم انصرف عنّا.

فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه:

« أيها الناس، دعوهم، لا تتبعوهم حتى نصبّحهم. » قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحبّ إلينا من أن ينصرفوا عنّا.

قال فروة بن لقيط: فما هو إلّا أن انتهينا إلى الجسر، فقال:

« اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحوا باكرناهم إن شاء الله. » فعبرنا أمامه وتخلّف في آخرنا، فأقبل [ على ] فرس وكانت بين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر، فاضطربت الماذيانة، وزلّ حافر فرس شبيب عن حرف السفينة، فسقط في الماء. فلما سقط قال:

« لِيَقْضِيَ الله أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا. » واغتمس في الماء. ثم ارتفع فقال:

« ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. » فهذا حديث أكثر الناس. وقد قال غيره من أصحاب شبيب إنه كان معه رجال كثير ممّن أصاب من عشائرهم وساداتهم. فلما تخلّف في أخريات الناس من أصحابه، قال بعضهم لبعض:

« هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة؟ » فقطعوا الجسر، فمالت به السفن، ففزع الفرس ونفر ووقع في الماء فغرق. والحديث الأول أشهر.

فتحدّث جماعة من أصحاب سفيان، قالوا: لما سمعنا صوت القوم: « غرق أمير المؤمنين، » عبرنا إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه صافر ولا آثر. فنزلنا فيه فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرا. فطلبنا شبيبا حتى استخرجناه وعليه الدرع فسمعت الناس يزعمون أنه شقّ عن بطنه وأخرج قلبه. فكان مجتمعا صلبا كأنّه صخرة وانّه كان يضرب به الأرض فيثب قامة الإنسان.

فيحكى أن أمّ شبيب كانت لا تصدّق أحدا نعاه إليها. وكان قيل مرارا: « قتل » فلا تقبل. فلما قيل: إنّه غرق، قبلت وبكت. فقيل لها في ذلك، فقالت:

« إني رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من قبلي شهاب نار، فعلمت أنّه لا يطفئه إلّا الماء. »

ذكر ما كان من المهلب والأزارقة

كان المهلّب مقيما بسابور يقاتل قطريا في الأزارقة بعد ما صرف الحجّاج عتّاب بن ورقاء عن عسكره نحوا من سنة. ثم إنّه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالا شديدا، وكانت كرمان في أيدى الخوارج، وفارس في يد المهلّب.

وكان لا يأتيه من فارس مادّة، فضاق الأمر عليه. فحازهم المهلّب حتى خرجوا إلى كرمان، وتبعهم المهلّب حتى نزل بجيرفت وقاتلهم أكثر من سنة قتالا شديدا حتى حازهم عن فارس كلّها. فلما صارت فارس كلّها في يد المهلّب، بعث الحجّاج عليها عمّاله وأخذها من المهلّب.

فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إلى الحجّاج:

« أمّا بعد، فدع بيد المهلّب خراج فارس وحيالها، فإنّه لا بدّ للجيش من قوّة، ولا لصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فسّا ودار بجرد، وكورة إصطخر. » فتركها للمهلّب. فبعث المهلّب عليهما عمّاله وكانتا قوّة له، وأقام المهلّب على قتال الأزارقة.

ذكر اختلاف كلمة الخوارج إلى أن هلكوا بأجمعهم

فلم يزالوا يقتتلون إلى أن بعث قطريّ عاملا له على ناحية كرمان يقال له المقعطر، فقتل رجلا كان ذا بأس من الخوارج، فوثبت الخوارج إلى قطريّ، فذكروا ذلك له وقالوا له:

« أمكنّا من المقعطر نقتله بصاحبنا. » فقال لهم:

« ما أرى أن أفعل. رجل تأوّل فأخطأ في التأويل. ما أرى أن تقتلوه وهو من ذوي الفضل والسابقة فيكم. » قالوا:

« بلى! » فقال لهم:

« لا! » فوقع الاختلاف بينهم. فولّوا عبد ربّ الكبير وخلعوا قطريّا، وبقي مع القطريّ عصابة نحو من ربعهم. وبلغ ذلك الحجّاج فكتب إلى المهلّب:

« أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها. فإذا أتاك كتابي فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم، قبل أن يجتمعوا فتكون مؤونتهم عليك أشدّ. والسلام. » فكتب إليه:

« أمّا بعد، فقد بلغني كتاب الأمير وكلّ ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما دام بعضهم يقتل بعضا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تمّوا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلّا وقد رقّق بعضهم بعضا، فأناهضهم على بقيّة ذلك وهم أوهى ما كانوا شوكة إن شاء الله. » فكفّ عنه الحجّاج وتركهم المهلّب، فقاتلوه قتالا شديدا. ثم إنّه فلّهم وقتلهم، فلم ينج منهم إلّا قليل وسباهم، لأنّهم كانوا يسبون المسلمين.

ذكر سبب هلاكهم

كان سبب ذلك ما ذكرنا من تشتّتهم بالاختلاف. ولما وهي أمر قطريّ توجّه مريدا طبرستان وبلغ أمره الحجّاج، فوجّه سفيان بن الأبرد مع جيش عظيم من أهل الشام، فأقبل سفيان حتى أتى الريّ، ثم اتبعهم. وكتب الحجّاج إلى إسحاق بن محمد بن الأشعث، وهو بطبرستان على جيش لأهل الكوفة أن:

« اسمع وأطع لسفيان. » فأقبل إلى سفيان، وسار معه في طلب قطريّ حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان. فقاتلوه، فتفرّق عنه أصحابه، ووقع عن دابّته في أسفل الشعب، فتدهدأ حتى خرّ إلى أسفله، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري:

« اسقنى ماء. » وقد اشتدّ عطشه. فقال العلج له:

« أعطنى شيئا حتى أسقيك. » فقال:

« ويحك! ما معي والله إلّا ما ترى من سلاحي، وأنا مؤتيكه إذا أتيتنى بماء. » قال:

« لا، بل أعطنيه الآن » قال:

« لا، ولكن ائتني بماء قبل. » فانطلق العلج حتى أشرف على قطريّ، ثم حدّر عليه حجرا عظيما من فوقه، دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه، فأوهنه، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريّا، غير أنه يظنّ أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة، فقتلوه، وادّعى قتله جماعة.

وفي هذه المدّة التي جرى فيها ما جرى من أمر الأزارقة كان قتال أمية بن عبد الله بكير بن وساج بخراسان

ذكر السبب في ذلك

حقد حقده عتّاب اللّقوة، وكان في صحبة بكير. وكنّا ذكرنا أمر بكير مع أميّة، وأنّ أميّة لمّا ولى خراسان سامح بكيرا، ولم يقبل فيه سعاية، ولا حاسب له عاملا، ولكنّه ولّاه طخارستان بعد أن عرض عليه شرطته فأباها. فتجهّز بكير للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة. ثم وشا به بحير بن ورقاء وقال لأميّة:

« إنّه إن عبر النهر خلع الخليفة ودعا إلى نفسه. » فراسله أميّة:

« أقم، لعلّى أغزو، فتكون معي. » فغضب بكير وقال:

« كأنّه يريد أن يضارّنى. » وكان عتّاب اللّقوة استدان وأنفق نفقة كثيرة ليخرج مع بكير. فلما أقام بكير أخذه غرماؤه فحبس حتى أدّى عنه بكير.

ثم إنّ أميّة أجمع بعد مدّة على الغزو ليغزو بخارى، ثم يأتى موسى بن خازم بالترمذ. فتجهّز الناس معه واستخلف ابنه زيادا على خراسان وسار معه بكير.

فقال له بحير:

« إني لا آمن إن أستخلف أحدا، أن يتخلّف عني الناس، فقل لبكير، فليكن في الساقة وليحشر الناس. » فأمره به، فكان على الساقة، حتى أتى النهر.

وقال أميّة لبكير:

« اقطع يا بكير. » فقال عتّاب اللّقوة:

« أصلح الله الأمير، اعبر أنت، ثم يعبر الناس بعدك. » فعبر، ثم عبر الناس. فقال أميّة لبكير:

« قد خفت ألّا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث. فارجع إلى مرو، فاكفنيها فقد ولّيتكها، فزيّن ابني وقم بأمره. » فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم، وعبر، ومضى أميّة إلى بخارى. فقال عتّاب اللّقوة لبكير لمّا عبر وقد مضى أميّة:

« إنّا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان ثم طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاء يلعب بنا، يحوّلنا من سجن إلى سجن. » قال:

« فما ترى؟ » قال:

« أحرق هذه السفن، وامض إلى مرو، فاخلع أميّة وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما. » فقال بكير:

« إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي. » فقال:

« أيخاف عدم الرجال؟ أنا آتيك من أهل مرو بما شئت، إن هلك هؤلاء الذين معك. » قال:

« يهلك المسلمون. » قال:

« إنّما يكفيك مناد ينادى: « من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفا من المسلمين أسمع من هؤلاء وأطوع منهم. » قال:

« فيهلك أميّة ومن معه. » قال:

« ولم يهلك والناس معه لهم عدّة وعدد ونجدة وسلاح كامل ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين. » فلم يزل عتّاب بهذا وأشباهه حتى [ حرق ] بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أميّة فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أميّة، فأجابوه. وبلغ أميّة فصالح أهل بخارى على شيء يسير، وبادر بالرجوع، وأمر باتخاذ السفن فاتّخذت، وقال لمن معه من وجوه تميم:

« ألا تعجبون من بكير؟ إني قدمت خراسان، فحذّرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كلّه ولم أفتّشه عن شيء، ولا أحدا من عمّاله، ثم عرضت عليه شرطتي، فأبى، فأعفيته، ثم ولّيته، فحذّرته، وأمرته بالمقام، وما كان ذلك إلّا نظرا له، ثم رددته إلى مرو، وولّيته الأمر، فكفر ذلك، وكافأنى بما ترون. »

فقال له قوم:

« تعرفون أمره أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه. إنّما أشار عليه بإحراق السفن عتّاب اللقوة. » ثم إنّ أميّة لمّا تهيأت له السفن عقد وعبر، وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله بن خازم.

فقال شمّاس بن دثار، وكان غزا مع أميّة:

« أيها الأمير، قدّمنى فإني أكفيه إن شاء الله. » فقدّمه أميّة في ثمانمائة فارس. وسار إليه بكير فقال:

« أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك؟ » ولامه. فأرسل إليه شمّاس:

« أنت ألأم وأسوأ صنيعا مني، لم تف لأميّة ولم تشكر صنيعه بك. » قال: فبيّته بكير، ففرّق جمعه وقال:

« لا تقتلوا منهم أحدا وخذوا سلاحهم. » فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلّوا عنه. فتفرّقوا. وقدّم أميّة كشماهن ورجع إليه شمّاس بن دثار. ثم أقبل أميّة في الناس، فقاتله بكير مدّة، ثم انحاز بكير يوما، فدخل الحائط، فنزل السوق. ونزل أميّة باشان، وكانوا يلتقون في ميدان يزيد. فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثم التقوا يوما آخر في الميدان، فضرب رجل من تميم على رجله، فجعل يسحبها وهريم يحميه. فقال الرجل:

« اللهمّ أيّدنا بالملائكة. » فقال له هريم:

« أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإنّ الملائكة في شغل عنك. »

فتحامل، ثم أعاد قوله مرارا:

« اللهمّ أيّدنا بالملائكة. » فقال لهم هريم:

« لتكفّنّ عني، أو لأدعنّك والملائكة. » فسكت، وحماه حتى ألحقه بالناس. فكانوا كذلك مدة يتقاتلون، وكان أصحاب بكير يغدون متفضّلين، في ثياب مصبّغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدّثون وينادى مناد:

« من رمى بسهم، رمينا إليه برأس رجل من أهله وولده. » فلا يرميهم أحد. وأشفق بكير وخاف، إن طال الحصار، أن يخذله الناس.

فطلب الصلح، وأحبّ أصحاب أميّة ذلك، لمكان عيالاتهم بالمدينة، وكان يحبّ أميّة العافية، فصالحه على أن يقضى عنه أربعمائة ألف، ويصل إليه أصحابه ويولّيه أيّ كورة خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن راب منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتى يخرج من مرو.

وقال: وأخذ الأمان لبكير، وكتب إليه أميّة كتابا، ودخل أميّة المدينة، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان له من الإكرام وحسن الأدب. فأرسل إلى عتّاب اللّقوة فقال:

« أنت صاحب المشورة؟ » قال:

« نعم، أصلح الله الأمير. » قال:

« ولم؟ » قال:

« خفّ ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي. » قال:

« ويحك! فضرّبت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدوّ، وما خفت الله. » قال:

« قد كان ذاك وأستغفر الله. » قال:

« كم كان دينك؟ » قال:

« عشرون ألفا. » قال:

« تكفّ عني وعن المسلمين غشّك وأقضى دينك. » قال:

« نعم، جعلني الله فداءك. » فضحك أميّة وقال:

« ظنّى بك غير ما تقول، وأرجو أن تفي. » فأدّى عنه عشرين ألفا.

« وكان أميّة سهلا ليّنا سخيّا لم يعط أحد بخراسان ما أعطاه، وكان مع ذلك ثقيلا على الناس لزهو كان فيه شديد. وكان يقول:

« ما أكتفى بخراسان وسجستان لمطبخى! » وعزل أميّة بحيرا عن شرطته، وكتب إلى عبد الملك بما كان من بكير وصفحه عنه، وعزله بحيرا طلب مرضاته.

عاقبة أمر بكير

وأخذ أميّة الناس بالخراج واشتدّ عليهم فيه. فجلس يوما بكير في المسجد وعنده ناس من بنى تميم، فذكر شدّة أميّة على الناس، فذمّوه وقالوا:

« سلّط علينا الدهاقين في الجباية. » وكان بكير وضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة في ناحية من المسجد.

فنقل بحير ذلك إلى أميّة، فكذّبه، فادّعى شهادة هؤلاء وشهادة مزاحم بن المحشر. فدعا أميّة مزاحما، فسأله، فقال:

« إنّما كان يمزح. » فأعرض عنه. ثم إنّ بحيرا أتاه، فقال:

« أصلحك الله، إنّ بكيرا دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشيّ وأكلت خراسان. » فقال أميّة:

« ما أصدّق بهذا وقد فعل وفعلت ما فعلت. » فأتاه بضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة، فشهدا أنّ بكيرا قال لهما: لو أطعتمانى قتلت هذا القرشيّ المخنّث، ودعانا إلى الفتك بك. » فقال أميّة:

« أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظنّ هذا به، وإنّ تركه - وقد شهدتم بما شهدتم به - عجز. » فقال له:

« إنّ عتّابا يحمله على ذلك. » فقال لحاجبه وصاحب حرسه، وكان يومئذ عطاء بن أبي السائب:

« إذا دخل بكير وبدل وشمر دل ابنا أخيه فنهضت فخذوهم. » وجلس أميّة للناس وجاء بكير وابنا أخيه. فلما جلسوا قام أميّة عن سريره، فدخل وخرج الناس، فلما همّ بكير بالخروج حبسوه وابني أخيه. فدعا أميّة ببكير وقال:

« أنت القائل كذا وكذا؟ » فقال:

« تثبّت أصلحك الله ولا تسمع قول ابن المحلوقة. » فحبسه وأخذ جاريته، وكانت تسمّى: العارمة، فحبسها معه، وحبس الأحنف بن عبد الله العنبري. فلما كان من الغد، أخرج بكيرا، فشهد بحير وضرار وعبد العزيز أنّه دعاهم إلى خلعه والفتك به. فقال:

« أصلحك الله، فإنّ هؤلاء أعدائى. » فقال أميّة لبحير:

« أتقتله؟ » قال:

« نعم. » فقام إليه، ونهض أميّة. فقال بكير:

« يا بحير، إنّك تفرّق أمر بنى سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشيّ يلي مني ما يريد. » فقال بحير:

« لا والله، يا بن الإصبهانيّة! لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيّين. » فقال:

« فشأنك يا بن المحلوقة. » وقتل أميّة ابن أخي بكير، ووهب جاريته العارمة لبحير.

ثم وجّه أميّة رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصن الكلابي غيلة، فتفرّق جيشه، واستأمن طائفة منهم إلى موسى ورجع بعضهم إلى أميّة. وعزل عبد الملك بن مروان أميّة عن خراسان وولّاها المهلّب من قبل الحجّاج، وسنذكر سببه.

وأخذ الأبناء تحضّ على قتل بحير في الشعر وفي غير الشعر، فتعاقد جماعة منهم على الفتك ببحير. فخرج فتى منهم يقال له الشمر دل من البادية حتى قدم خراسان. فنظر إلى بحير واقفا، فشدّ عليه، فطعنه، فصرعه وظنّ أنّه قتله. فتنادى الناس: « خارجيّ. » فراكضهم، فعثر فرسه وندر عنه فقتل. فكان بحير بعد ذلك يتحرّز من الغيلة، إلى أن خرج صعصعة بن حرب العوفيّ من البادية وقد باع غنيمات له واشترى حمارا، ومضى إلى سجستان فحاور قرابة لبحير هناك ولا طفه وقال:

« أنا رجل من بنى حنيفة من أهل اليمامة. » فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به.

ذكر حيلة صعصعة على بحير حتى اغتاله وقتله

ثم إنه قال لهم:

« إنّ لي بخراسان ميراثا قد غلبت عليه، وبلغني أنّ بحيرا هو عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابا يعينني على طلب حقّى. » فكتبوا إليه وخرج حتى قدم مرو والمهلّب غاز. فلقى قوما من بنى عوف، فأفشى إليهم سرّه، فأقبل إليه مولى لبكير، فقبّل رأسه، وكان صقيلا، فقال له صعصعة:

« اتّخذ لي خنجرا. » ففعل، وأحماه وغمسه في لبن أتان مرارا، ثم شخص من مرو وقطع النهر حتى أتى عسكر المهلّب. فلقى بحيرا بالكتاب، وقال له:

« إني رجل من بنى حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولى ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه وأرجع إلى اليمامة. » فأمر له بنفقة وأنزله معه. وقال له:

« استعن بي على ما أحببت. » قال:

« أقيم عندك حتى يقفل الناس. » فأقام شهرا أو نحوا من شهر يحضر معه باب المهلّب ومجلسه حتى عرف به.

وكان بحير مع تحرّزه وخوفه الفتك قد أنس بصعصعة هذا لأجل الكتاب الذي صحبه من عند أصحابه، وظنّه رجلا من بكر بن وائل، فأمنه. فجاء يوما وبحير جالس في مجلس المهلّب، عليه قميص ورداء في نعلين. فقعد خلفه، ثم دنا منه فأكبّ عليه كأنّه يكلّمه. فوجأه بخنجره في خاصرته فغيّبه في جوفه وخضخضه.

فقال الناس:

« خارجيّ! » وقال صعصعة:

« يا لثارات بكير! أنا ثائر ببكير. » فأخذه صاحب شرطة المهلّب في الطريق، فأتى به المهلّب، فقال المهلّب:

« بؤسا لك. ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك وما على بحير بأس. » فقال:

« والله قد طعنته طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا. ولقد وجدت ريح بطنه في يدي. » فحبسه. ودخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبّلوا رأسه. ومات بحير من غد، فقيل لصعصعة:

« مات بحير. » فقال:

« اصنعوا ما بدا لكم الآن. أليس قد حلّت نذور نساء بنى عوف وأدركت ثأرى؟ أما والله لقد أمكننى منه خاليا غير مرّة، فكرهت أن أقتله سرّا. » فقال المهلّب:

« ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت صبرا من هذا. » وقتله.

وقال المهلّب:

« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. غزوة أصيب فيها بحير فغضبت عوف بن كعب والأبناء. » وقال:

« علام قتل صاحبنا؟ وإنّما طلب بثأره. » فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، إلى أن تلطّف أهل الحجى والرأي وقالوا:

« احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير بواء ببكير. » فودّوا صعصعة.

ذكر خروج عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج وسبب خلعه لعبد الملك واجتماع الناس عليه

ولمّا فرغ الحجّاج من شبيب، قدم عليه المهلّب وقد فرغ من الأزارقة.

فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاد من أصحاب المهلّب، فحباهم ووصلهم.

وكاتب عبد الملك بن مروان بالفتح، وكتب عبد الملك إلى الحجّاج بولاية خراسان وسجستان مع العراق، وعزل أميّة عن خراسان، فبعث الحجّاج المهلّب إلى خراسان من قبله، وبعث عبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثماني وسبعين، فمكث ابن بكرة بقيّة سنته، ثم غزا رتبيل، وقد كان مصالحا، وكانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجا، وربما امتنع. فبعث الحجّاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين من أهل الكوفة والبصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ، وكان من أصحاب عليّ بن أبي طالب ، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة.

فمضى عبيد الله حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من الأموال والغنم ما شاء، وهدم قلاعا وحصونا، وغلب على أرض من أرضيهم كثيرة. وأصحاب رتبيل من الترك. فلما أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم وصاروا منها على ثمانية عشر فرسخا أخذوا على المسلمين بالعقاب والشعاب، فسقط في أيدى المسلمين، وظنّوا أن قد هلكوا.

فراسل ابن أبي بكرة رتبيل على أن يصالحه على سبعمائة ألف. فلقيه شريح فقال له:

« إنّك لا تصالح على شيء إلّا حبسه السلطان عنكم واحتسبه في أعطياتكم. » فقال الناس:

« لو منعنا العطاء ما حيينا، كان أهون علينا من هلاكنا. » فقال له شريح:

« والله لقد بلغت سنّا وقد هلكت لداتي، وما يأتى عليّ ساعة فأظنّها تمضى حتى أموت، ولئن فاتتنى الشهادة وأنا أطلبها منذ زمان ما أخالنى أدركها.

يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوّكم. » فقال له ابن أبي بكرة:

« إنّك شيخ وقد خرفت. » فقال له شريح:

« إنّما حسبك أن يقال: بستان أبي بكرة، وحمّام أبي بكرة. يا أهل الإسلام من أراد الشهادة فإليّ. » فاتّبعه ناس من المتطوّعين كثير وفرسان البأس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا. وقتل شريح ونجا ابن بكرة في من نجا من المسلمين.

وبلغ ذلك الحجّاج، فأخذه ما تقدّم وتأخّر وبلغ منه كلّ مبلغ، فكتب إلى عبد الملك:

« أمّا بعد، فإنّ جند أمير المؤمنين الذين كانوا بسجستان أصيبوا، فلم ينج إلّا القليل منهم، وقد اجترأ العدوّ على الإسلام، وأردت أن أوجّه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين، وأحببت أن أستطلع رأى أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى ذلك أمضيته، وإن لم يرد ذلك فأمير المؤمنين أعلى بجنده عينا، مع أنّى أتخوّف أنّه إن لم يأت رتبيل ومن معه جند كثيف عاجلا، أن يستولوا على ذلك الفرج كلّه. » فكتب إليه عبد الملك:

« أمّا بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم وعلى الله ثوابهم. وأما رأيي في توجيه الجنود، فإني أرى إمضاء عزمك، فرأيك راشدا موفّقا. » فأخذ الحجّاج في جهاز عشرين ألفا من أهل البصرة وعشرين ألفا من أهل الكوفة، وجدّ في ذلك وشمّر وأعطى الناس أعطياتهم، وأخذهم بالخيول الروابع والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، فلا يرى رجلا تذكر فيه شجاعة إلّا أحسن معونته. ولمّا استتمّ له الأمر بعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدم ابن الأشعث سجستان بمن معه في سنة ثمانين، وكان عبيد الله بن أبي بكرة قد مات قبل قدوم عبد الرحمن.

ويقال: إنّ الحجّاج أنفق على ذلك العسكر، سوى الأعطيات والأرزاق، ألفي ألف درهم. وكان يدعى ذلك الجيش جيش الطواويس، لحسن هيآتهم. فندب عبد الرحمن الناس وعسكر بهم في ظاهر سجستان، ونادى مناديه:

« أيّ رجل تخلّف فقد أحلّ بنفسه العقوبة. » فخرج الناس كلّهم إلى معسكرهم ووضعت لهم [ الأسواق ] وأخذوا في الجهاد والتهيّؤ للحرب.

فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه مصاب المسلمين ويخبره أنّه كان لذلك كارها وأنهم ألجئوه إلى قتالهم ويسأله الصفح ويعرض عليه الخراج، فلم يجبه ولم يقبل منه. وسار عبد الرحمن في الجنود حتى دخل أوّل بلاده، وأخذ رتبيل يضمّ إليه جنده ويدع له الأرض رستاقا رستاقا وحصنا حصنا.

وكان ابن الأشعث كلّما حوى بلدا بعث إليه عاملا وبعث معه أعوانا ووضع البرد بين كلّ بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكلّ مكان مخوف حتى إذا حاز من أرضه شيئا عظيما وملأ يده من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل، وقال:

« نكتفي بما أصبنا العام من بلادهم حتى نجيئها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لا نزال ننتقصهم حتى نقاتلهم آخر ذاك على كنوزهم وذراريّهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله. » ثم كتب إلى الحجّاج بما فتح من بلاد العدوّ وبما صنع للمسلمين وبهذا الرأي الذي رءاه لهم.

ذكر رأي خطأ للحجاج أفسد به أولئك الجند وعبد الرحمن حتى ألجأهم إلى مخالفته وخلعه

وكتب الحجّاج جواب كتابه:

« أما بعد، فإنّ كتابك أتانى وفهمته وهو كتاب امرئ يحبّ الهدنة ويستريح إلى الموادعة. قد صانع عدوّا ذليلا أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا وغناؤهم عظيما، ولعمرك يا بن أمّ عبد الرحمن، إنّك حيث تكفّ عن ذلك العدوّ بجندي وحدّى، لسخيّ النفس عمّن أصيب من المسلمين، وإني لم أعذر رأيك الذي زعمت أنّك رأيته رأى مكيدة، ولكني رأيتك أنّه لم يحملك عليه إلّا ضعفك والتياث رأيك. فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم، وقتل مقاتليهم، وسبى ذراريّهم. » ثم أردفه كتابا آخر قال فيه: « أمّا بعد، فأمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا، فإنّها دارهم، حتى يفتح الله عليهم. » ثم أردفه كتابا آخر فيه:

« أمّا بعد، فامض لما أمرتك من الوغول في أرضهم، وإلّا فإنّ إسحاق بن محمد أمير الناس، فخلّه وما ولّيته. » - يعنى أخاه.

فلما قرأ كتابه، قال:

« أنا أحمل ثقل إسحاق. » ثم دعا الناس وجمعهم فحمد الله وأثنى عليه وقال:

« أيها الناس، قد عرفتم نصحى لكم ومحبتي لصلاحكم ولكلّ ما يعود عليكم نفعه. وقد كان من رأيي لكم في ما بينكم وبين عدوّكم، رأى استشرت فيه ذوي أحلامكم وأولى التجربة في الحرب منكم، فرضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، فكتبت بذلك إلى أميركم الحجّاج وهذا جوابه، يعجّزنى ويضعّفنى ويأمرنى بتعجيل الوغول بكم في أرض العدوّ، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنّما أنا رجل منكم، أمضى إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم. » فثار إليه الناس من كلّ جانب.

« لا بل نأبى على عدوّ الله ولا نستمع له ولا نطيع. » وتكلّم وجوه الناس، فكان أولهم واثلة الكناني، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

« إنّ الحجّاج ما يرى لكم إلّا ما يقول القائل الأوّل إذ قال لأخيه:

احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنّ الحجّاج والله ما يبالى أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب واللّصوب، فإن ظفرتم وغنمتم، أكل البلاد وحاز الأموال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوّكم كنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالى عتبهم، ولا يبقى عليهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإني أشهدكم أنّى أوّل خالع له. » فنادى الناس من كلّ جانب:

« فعلنا فعلنا وخلعنا عدوّ الله. » وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعيّ ثانيا، وكان على شرطته، فقال:

« عباد الله، إنّكم إن أطعتم الحجّاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمّركم تجمير فرعون، فإنّه بلغني أنّه أوّل من جمّر البعوث، ولم تعاينوا والله الأحبّة في ما أرى، أو يموت أكثركم. فبايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوّ الله فانفوه عن بلادكم. » فوثب الناس إلى عبد الرحمن ليبايعوه فقال:

« أتبايعوننى على خلع الحجّاج عدوّ الله وعلى النصرة لي والجهاد معي حتى ننفيه من العراق؟ »

فبايعه الناس على ذلك، ولم يذكر عبد الملك إذ ذاك بشيء. ثم استخلف على بست عياض بن همدان، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي. وبعث إلى رتبيل، فصالحه على أنّ ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدا ما بقي، وإن هزم فأراده، ألجأه عنده وآواه.

خروج عبد الرحمن نحو العراق

وخرج عبد الرحمن نحو العراق وبعث على مقدّمته عطيّة بن عمرو العنبري، وبعث الحجّاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلّا هزمها، حتى دخل فارس واجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا:

« إنّا إذا خلعنا الحجّاج فقد خلعنا عبد الملك. » فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، وكان أوّل من خلع عبد الملك تيحان بن أبجر قام فقال:

« أيها الناس إني قد خلعت أبا دبّان كخلعي قميصي. » فخلعه الناس ووثبوا إلى عبد الرحمن فبايعوه وكانت بيعته:

« تبايعوني على كتاب الله، وسنّة نبيه، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد المحلّين. » فإذا قالوا: نعم، بايع.

فلما بلغ الحجّاج ذلك، كتب إلى عبد الملك يخبره، ويسأله أن يعجّل بعثة الجنود إليه. وجاء حتى نزل البصرة، وكان المهلّب بخراسان حين بلغه شقاق عبد الرحمن، فكتب إليه:

« أما بعد، فإنّك يا ابن محمّد قد وضعت رجلك في غرز طويل الغيّ. الله الله، في نفسك لا تهلها، وفي دماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرّقها،

والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت: إني أخاف الناس على نفسي، فاللَّه أحقّ أن تخافه عليها من الناس. والسلام. »

رأي سديد رءاه المهلب للحجاج فعصاه

وكتب المهلّب إلى الحجّاج:

« أما بعد، فإنّ أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل ليس يردّه شيء حتى ينتهى إلى قراره. إنّ لأهل العراق شرّة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم. فليس شيء يردّهم حتى يسقطوا إلى أهليهم ويشمّوا أولادهم، فافرج لهم، ثم واقعهم فإنّ الله ناصرك عليهم إن شاء الله. » فلمّا قرأ كتابه قال:

« فعل الله به وصنع. لا والله، ما لي نظر، ولكنّ ابن عمّه نصح. » وتجهّز الحجّاج للقاء عبد الرحمن، وترك رأى المهلّب. وكان فرسان أهل الشام يسقطون إلى الحجّاج مائة مائة وخمسين خمسين وعشرة عشرة، وأقلّ على البرد من قبل عبد الملك وهو في كلّ يوم يساقط إلى عبد الملك كتبه ورسله يخبر أنّ ابن الأشعث أيّ كورة نزل، ومن أيّ كورة رحل، وأيّ الناس إليه أسرع. وكان بكرمان أربعة آلاف من فرسان أهل البصرة وأهل الكوفة فلمّا مرّ بهم عبد الرحمن انجفلوا معه.

وسار الحجّاج بأهل الشام حتى نزل قريبا من تستر، وقدّم بين يديه مطهّر بن حييّ. وكان لعبد الرحمن مسلحة عليها عبد الله بن أبان الحارثيّ في ثلاثمائة فارس. فلما انتهى إليهم مطهّر أقدم عليه فهزمته مسلحة عبد الرحمن، وأتت الحجّاج الهزيمة وهو يخطب. صعد إليه رجل فأخبره بهزيمة الناس، فقال:

« أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة، إلى معسكر ومعقل وطعام ومادّة، فإنّ هذا المكان الذي نحن فيه لا يحتمل الجند. » ثم انصرف راجعا وتبعه خيول أهل العراق. فكلّ من أدركوه قتلوه وكلّ ما أصابوا من ثقل حووه. ومضى الحجّاج لا يلوى على شيء حتى نزل الراوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلّاء، فأخذه وحمله إليه، وخلّى البصرة لأهل العراق، وكان عامله عليها الحكم بن أيّوب بن الحكم بن عقيل الثقفي. وجاء أهل العراق حتى دخلوا البصرة. وكان الحجّاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعا، دعا بكتاب المهلّب وقرأه وقال:

« لله أبوه، أيّ صاحب حرب هو! لقد أشار علينا بالرأي وكلّنا لم نقبل. » وكان مع الحجّاج يوم انهزم من المال مائة وخمسون ألف ألف ففرّقها في قوّاده، وضمّنهم إياها. ولمّا بلغ أهل البصرة هزيمة الحجّاج أراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر فرشاه الحكم بن أيوب مائة ألف درهم. فكفّ عنه. ودخل الحجّاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر، فانتزع المائة الألف منه.

ولمّا دخل البصرة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بايعه أهلها، كلّهم قرّاؤها وكهولها، على خلع الحجّاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من القرّاء والشيوخ.

وخندق الحجّاج عليه وخندق عبد الرحمن على البصرة، واقتتلوا في المحرم سنة اثنتين وثمانين. فكانت خيل العراق تهزم أبدا خيل الشام حتى إذا كان في آخر المحرّم هزم أهل العراق على عادتهم أهل الشام فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوّضت صفوفهم. فلما رأى ذلك الحجّاج جثا على ركبتيه وانتضى نحوا من شبر من سيفه وقال:

« لله درّ مصعب، ما كان أكرمه حين نزل به! » قال: فعلمنا أنّه لا يفرّ.

قال أبو الزبير الهمدانيّ: فغمزمت أبي بعيني ليأذن لي فأضرب الحجّاج بسيفي.

فغمزني غمزة شديدة، فسكتّ، وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت:

« أبشر أيّها الأمير، فإنّ الله قد هزم العدوّ. » فقال لي:

« قم فانظر. » قال: فقمت فنظرت فقلت له:

« قد هزمهم الله. » فقال:

« قم يا زياد فانظر. » فقام فنظر فقال:

« الحقّ - أصلحك الله - يقينا، قد هزموا. » فخرّ ساجدا.

قال: فلمّا رجعت شتمني أبي وقال:

« أردت أن تهلكني وأهل بيتي. » قال: فانهزم الناس، وأقبل عبد الرحمن إلى الكوفة، وتبعه أهل القوّة من أصحاب الخيل من أهل البصرة.

ولمّا مضى عبد الرحمن إلى الكوفة وثب أهل البصرة إلى عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال أشدّ قتال رءاه الناس. ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وقتل الحريش بن هلال وجماعة من الأشراف والوجوه.

قال أبو الزبير: كنت قد أصابتنى جراحة وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه عنده قنطرة زبارا. فقال لي:

« إن رأيت أن تعدل عن الطريق فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحبّ أن يستقبلهم الجرحى. » ففعلت، ودخل الناس، فلمّا دخل الكوفة مال إليه الناس كلّهم ودخلوا إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة، وتقوّضت إليه المسالح والثغور، وجاءه في من جاءه من أهل البصرة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وكنّا ذكرنا أنّه قاتل الحجّاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث. فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فقال:

« قاتل الله عديّ الرحمن، قد فرّ وقاتل غلام من غلمان قريش بعده ثلاثا. » وأقبل الحجّاج من البصرة، فسار في البرّ حتى مرّ بالقادسيّة والعذيب، وبعث إليه عبد الرحمن بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل البصرة، فمنعوه من نزول القادسيّة. ثم سايره حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايرا حتى نزل الحجّاج دير قرّة، ونزل عبد الرحمن دير الجماجم. ثم جاء ابن الأشعث فنزل دير الجماجم. فكان الحجّاج بعد ذلك يقول:

« ما كان عبد الرحمن يزجر الطير، حيث رءانى نزلت دير قرّة ونزل دير الجماجم. » واجتمع القرّاء من أهل المصرين وأهل الثغور والمسالح وجماعة أهل الكوفة والبصرة على حرب الحجّاج والذي جمعهم على حربه بغضهم له وإجماعهم على عدوانه وظلمه، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممّن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم مواليهم. وجاءت الحجّاج أمداده من قبل عبد الملك. فكان الحجّاج مخندقا في عسكره والناس يخرجون في كلّ يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدنى خندقه نحو صاحبه، فإذا رءاه الآخر أدنى خندقه أيضا من صاحبه واشتدّ القتال.

ذكر وقعة دير الجماجم

لمّا بلغ أهل الشام ورؤوس قريش قبل عبد الملك مخالفة أهل العراق الحجّاج اجتمعوا إليه، وقالوا:

« إن كان إنّما يرضى أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فإنّ نزع الحجّاج أهون من حرب أهل العراق فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم وتحقن به دماءنا ودماءهم. » بعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك وأخاه محمد بن مروان في خيل إلى أرض العراق، وأمرهما أن يعرضا على أهلها نزع الحجّاج عنهم وأن يجرى عليهم أعطياتهم كما يجرى على أهل الشام وأن ينزل ابن محمد بن الأشعث أيّ بلد شاء من العراق يكون عليه واليا ما كان حيّا وكان عبد الملك واليا. فإن هم قبلوا ذلك فاعزل عنهم الحجّاج ومحمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجّاج أمير جماعة أهل الشام ووليّ القتال، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته.

فلم يأت الحجّاج قطّ أمر كان أشدّ عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم. فكتب إلى عبد الملك:

« يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعى عنهم لا يلبثون إلّا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلّا جرأة عليك. ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفّان؟ فلما سألهم: ما الذي تريدون؟ قالوا: نزع سعيد بن العاص. فلما نزعه، لم تتمّ لهم السنة حتى ساروا إليه، فقتلوه. إنّ الحديد بالحديد يقرع. وخار الله لك في ما ارتأيت والسلام. » فأبى عبد الملك إلّا عرض هذه الخصال على أهل العراق طلبا للعافية من الحرب. فلما اجتمعا مع الحجّاج خرج عبد الله بن عبد الملك فنادى أهل العراق وقال:

« أنا عبد الله بن أمير المؤمنين وهو يعطيكم كذا وكذا. » وذكر الخصال التي ذكرناها.

وقال محمد بن مروان:

« أنا رسول أمير المؤمنين إليكم وهو يعرض عليكم كذا وكذا. » وذكر هذه الخصال. فقالوا:

« نرجع العشيّة وننظر. » فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس ولا فارس إلّا أتاه.

ذكر رأي رءاه عبد الرحمن عند هذه الحال

لمّا اجتمع هؤلاء كلّهم عند ابن الأشعث حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« أمّا بعد، أعطيتم اليوم أمرا انتهازكم إيّاه اليوم فرصة، ولا آمن أن يكون على

ذي الرأي غدا حسرة. وإنّكم اليوم على النصف، وإن كانوا اعتدّوا عليكم بالزاوية فأنتم تعتدّون عليهم بيوم تستر. فاقبلوا ما عرض عليكم وأنتم أعزّاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون. فلا والله لا زلتم عليهم جرّاء وعندهم أعزّاء أبدا، إن قبلتم. » فوثب إليه الناس من كلّ جانب، فقالوا:

« إنّ الله قد أهلكهم، فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلّة والذلّة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرفيع والمادة القريبة. لا والله، لا نقبل. » فأعادوا خلعه ثانيا. وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم، أجمع من خلعهم إيّاه بفارس.

فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجّاج، فقالا:

« شأنك بعسكرك وجندك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع. » فقال الحجّاج:

« قد قلت لكما أنّه لا يراد بهذا الخلاف غيركما. » ثم قال:

« إنّما أقاتل لكما وسلطاني سلطانكما. » فكانوا إذا لقياه سلّما عليه بالإمرة، وكان أيضا يسلّم عليهما بالإمرة، وخلّياه والحرب، فتولّاها وبرزوا للقتال.

فجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي. وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجّاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن عامر الشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو البختري الطائيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. فكانوا يتزاحفون كلّ يوم ويقتتلون. فأما أهل الكوفة والبصرة فتأتيهم موادّهم من السواد فهم في ما شاءوا من خصب. وأما أهل الشام ففي ضيق شديد قد غلب عليهم الأسعار وقلّ عندهم الطعام وفقدوا اللحم وكانوا كأنّهم في حصارهم وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحون فيقتتلون أشدّ القتال. وكان الحجّاج يدنى خندقه مرّة وهؤلاء أخرى.

فعبّى ذات يوم الحجّاج أصحابه وزحف فيها. وخرج ابن الأشعث في سبعة صفوف بعضها في أثر بعض وعبّى الحجّاج لكتيبة القرّاء التي فيها جبلة بن زحر ثلاث كتائب وعليهم الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم.

فتحدّث أبو يزيد السكسكي قال: أنا والله في الخيل التي عبّئت لجبلة بن زحر كلّ كتيبة تحمل حملة، فو الله ما استفضضناهم ولا شيئا منهم.

وقال أبو الزبير الهمداني: كنت في خيل جبلة بن زحر. فلمّا حمل علينا أهل الشام مرّة بعد مرّة نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه، فقال:

« يا معشر القرّاء، إنّ الفرار ليس بأحد من الناس أقبح منه بكم. إني سمعت عليّا - رفع الله درجته في الصالحين والشهداء والصدّيقين - يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونوّر قلبه باليقين. فقاتلوا المحلّين المبتدعين الذين قد جهلوا الحقّ فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه. » وتكلّم أبو البختري بنحو من هذا الكلام وحضّ على قتالهم، وكذلك الشعبيّ، وسعيد بن جبير.

وقال جبلة:

« إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة لا تردّوا فيها وجوهكم حتى تخالطوا صفّهم. » قال: فحملنا حملة بجدّ منّا في قتالهم وقوّة منّا عليهم. فضربنا الكتائب الثلاث حتى تكسّرت بعضها في بعض وتفرّقت. ثم مضينا حتى واقعنا صفّهم فضاربناهم حتى أزلناهم عنه. ثم انصرفنا، فمررنا بجبلة صريعا لا ندري كيف قتل.

قال: فهدّنا ذلك وجئنا فوقفنا موقفنا الذي كنّا به وإنّ قرّاءنا لمتوافرون ونحن نتناعى جبلة بن زحر، كأنّما فقد كلّ واحد منّا أباه أو أخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشدّ علينا فقدا.

فقال لنا أبو البختريّ:

« لا يستبيننّ عليكم قتل جبلة بن زحر، فإنّما كان كرجل منكم أتته منيّته ليومها، وكلّكم ذائق ما ذاق، ومدعوّ فمجيب. » قال: فنظرت في وجوه القرّاء، فإذا الكآبة على وجوههم بيّنة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل قد ظهر فيهم. فسرّ أهل الشام ما رأوا فينا، ثم نادونا:

« يا أعداء [ الله، ] قد هلكتم والله، وقتل الله طاغيتكم. » وقدم علينا، ونحن على تلك الحال، بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجّع الناس مقدمه وقالوا:

« هذا يقوم مقام جبلة. » فسمع هذا الكلام من بعضهم أبو البختري، فقال:

« قبحتم، إن كان كلّما قتل رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن مصقلة ألقيتم بأيديكم وقلتم: لم يبق أحد نقاتل معه. ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم. » وكان قدم بسطام من الريّ.

قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم أعدّها عدّا لا يزيد يوما ولا ينقص يوما وما كنّا قطّ أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم. وذلك أنّا قاتلناهم عامة يومنا أحسن القتال قاتلناهم قطّ ونحن آمنون من الهزيمة عالون القوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من ميمنة أصحابه حتى دنا من الأبرد بن قرّة التميمي وعلى ميسرة عبد الرحمن بن محمد. فو الله ما قاتله كبير قتال حتى انهزم. فأنكرها الناس منه، وكان شجاعا، ولم يكن الفرار له بعادة.

فطن الناس أنّه كان أو من وصولح على أن ينهزم بالناس. فلما فعلوا تقوّضت الصفوف من نحوه، وركب الناس رؤوسهم وأخذوا في كلّ وجه.

فصعد عبد الرحمن بن محمد المنبر، وأخذ ينادى الناس:

« إليّ إليّ، أنا محمد. » فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره في خيل له، وجاءه عبد الله بن ذؤاب السلمى في خيل له، فوقف قريبا منه وثبت حتى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبالهم تحوزه. فقال:

« يا ابن رزام، احمل على هذه الرجّالة. » فحمل عليهم حتى أمعنوا. ثم جاءت خيل أخرى ورجّالة، فقال:

« احمل عليهم يا ابن ذؤاب. » فحمل عليهم حتى أمعنوا وثبت لا يبرح. ودخل أهل الشام العسكر، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفّل الأزدي، فقال:

« انزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلّك إن انصرفت اليوم أن تجمع لهم جميعا في غد يهلكهم الله. » وكانت بنت عبد الله بن يزيد تحت عبد الرحمن بن محمد. فنزل وخلّى أهل العراق العسكر وانهزموا لا يلوون. ومضى عبد الرحمن مع أناس من أهل بيته.

فقال الحجّاج:

« أتركوهم، فليبتدروا ولا تتبعوهم. » ونادى المنادى:

« من رجع فهو آمن. » ورجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخلّيا العراق والحجّاج.

دخول الحجاج الكوفة وجلوسه للناس

وجاء الحجّاج حتى دخل الكوفة وجلس للناس. فكان لا يبايعه أحد من أهل العراق إلّا قال:

« أتشهد أنّك قد كفرت؟ » فإذا قال: « نعم، » بايعه، وإلّا قتله.

فجاء رجل من خثعم، وكان معتزلا للناس جميعا من وراء الفرات. فسأله عن حاله فقال:

« ما زلت معتزلا وراء هذه النطفة منتظرا أمر الناس حتى ظهرت، فأتيت لأبايعك مع الناس. » فقال:

« أمتربّص؟ أتشهد أنّك كافر؟ » « بئس الرجل أنا إذا! إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر. » قال:

« إذا أقتلك. » قال:

« فإن قتلتني، والله ما بقي من عمرى إلّا كظمء حمار، وإني لأنتظر الموت صباح مساء. » قال:

« اضربوا عنقه. » فلما ضربوا عنقه لم يبق أحد حوله من الحرس إلّا رحمه ورثى له من القتل.

قتله كميل بن زياد النخعي وما دار بينهما من كلام

ودعا بكميل بن زياد النخعي، وكان ركينا في الحرب حليما صاحب نجدة وحفاظ من أصحاب عليّ بن أبي طالب ، فقال:

« أنت المقتصّ من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلا. » فقال:

« والله ما أدري على أيّنا أنت أشدّ غضبا: عليه حين أقاد من نفسه، أم عليّ حين عفوت عنه؟ » فراجعه الحجّاج. فقال:

« أيها الرجل! لا تصرف عليّ أنيابك، ولا تتهدّم عليّ تهدّم الكثيب، ولا تكشر كشران الذئب. والله ما بقي من عمرى إلّا مثل ظمئ الحمار، فإنّه يشرب غدوة، ويموت عشيّة ويشرب عشيّة ويموت غدوة. اقض ما أنت قاض، فإنّ الموعد الله، وغدا الحساب. » فقال الحجّاج:

« فإنّ الحجّة عليك. » قال:

« إن كان القضاء إليك. » قال:

« اقتلوه! » فقتل رحمه الله.

وأتى برجل آخر من بعده طلبه الحجّاج. فقال الحجّاج:

« إني أرى وجه رجل ما أظنّه يشهد على نفسه بالكفر. » قال:

« أخادعى أنت عن نفسي؟ بلى أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد. » فضحك الحجّاج وخلّى سبيله.

وتوفّى في هذه السنة المهلّب منصرفه من كسّ يريد مرو وأصابته الشوصة فدعا حبيبا ومن حضر من ولده فوصّاهم.

وصية المهلب إلى ولده حين حضرته الوفاة

قال:

« عليكم بتقوى الله، وصلة الرحم. اجمعوا أمركم ولا تختلفوا. تبارّوا لتجتمع أموركم. إنّ بنى الأمّ يختلفون وكيف ببني العلّات. وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن أفعالكم أفضل من أقوالكم، فإني أحبّ الرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه. واتّقوا الجواب وزلّة اللسان، فإنّ الرجل تزلّ قدمه فينتعش من زلّته، ويزلّ لسانه فيهلك. وآثروا الجود على البخل وأحبّوا العرب، واصطنعوا العرف. فإنّ الرجل تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنّها أنفع من الشجاعة، وإذا كان [ اللقاء ]، ونزل القضاء. فإن أخذ رجل بالحزم وظهر على العدوّ، قيل: [ أتى ] الأمر من وجهه ثم ظفر. وإن لم يظفر بعد الأناة، قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكنّ القضاء غالب.

وعليكم بقراءة القرآن وتعلّم السنن وآداب الصالحين. وإيّاكم والخفّة وكثرة الكلام في مجالسكم. اعرفوا حقّ من يغشاكم، فكفى بغدوّ الرجل ورواحه إليكم تذكرة له. وقد استخلفت عليكم يزيد. » فقال المفضّل:

« لو لم تقدّم يزيد لقدّمناه. » ومات المهلّب وصلّى عليه حبيب، ثم سار بالجند إلى مرو. فكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة أبيه واستخلافه إيّاه، فأقرّه الحجّاج. وذلك في سنة اثنتين وثمانين.

ذكر وقعة الحجاج وابن الأشعث بمسكن

لمّا انهزم ابن الأشعث من دير الجماجم، وتفرّق أصحابه حصل خلق منهم بالمدائن مع محمد بن أبي وقّاص وجماعة مع عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي سمرة بن جندب. وخرج الحجّاج في آثارهم، فبدأ بالمدائن. فلمّا بلغ محمد بن سعد عبوره خرج مع أصحابه حتى لحق بابن الأشعث. وخرج إليه عبيد الله بن عبد الرحمن أيضا، واجتمع إليه الناس من كلّ أوب حتى عسكروا معه على دجيل بمسكن، وأتاه فلّ الكوفة، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصلقة على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبثق الماء من جانب، فوجّه القتال من وجه واحد.

وقدم عليه خالد بن حرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس كانوا معه من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشدّ قتال حتى قتل زياد بن عثيم من أصحاب الحجّاج وكان على مسالحه، فهدّه ذلك وهدّ أصحابه. وعبّى أصحابه وحضّهم على القتال، وباكرهم بقاتل لم ير مثله قطّ. وجاءه عبد الملك بن المهلّب مجفّفا وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد.

فقال له الحجّاج:

« ضمّ إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلّى أحمل عليهم. » ففعل، وحمل الناس من كلّ جانب، فانهزم أهل العراق أيضا وقتل أبو البختري الطائيّ وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وكانا قالا قبل أن يقتلا:

« إنّ الفرار كلّ ساعة لقبيح بنا. » فصبرا وأصيبا.

ومشى بسطام بن مصقلة في أربعة آلاف ممّن بايعوه على الموت، فهزم أهل الشام مرارا وكشفهم حالا بعد حال، ولم يكن الحجّاج يعرف إليهم طريقا إلّا الطريق الذي يلتقون فيه. فأتى بشيخ كان راعيا، فدلّه على طريق من وراء أجمة في الكرخ طوله ستّة فراسخ في ضحضاح من الماء. فبات الحجّاج الليلة وانتخب من جلد أهل الشام أربعة آلاف، وقال لقائدهم:

« ليكن هذا العلج أمامك وهذه خمسة آلاف درهم. فان أقامك على عسكرهم فادفع إليه المال، وإن كذبنا فاضرب عنقه. فإن رأيتهم فاحمل عليهم في من معك وليكن شعاركم: يا حجّاج يا حجّاج. » فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجّاج وعسكر ابن الأشعث حين فصل القائد بمن معه. فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجّاج من جهة بسطام بن مصقلة كما حكينا من أمره قبل، حتى عبر السّيب ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهبه.

ذكر تكاسل كان من ابن الأشعث عاد بوبال عليه واتفاق محمود للحجاج

قيل لابن الأشعث:

« الرأي أن تتبعه ولا تنفّس عنه. » فقال:

« [ قد ] تعبنا ولحقنا نصب. » فرجع إلى عسكره، وألقى أصحابه السلاح وباتوا آمنين، في أنفسهم لهم الظفر، وهجم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم. فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدرى أين يتوجّه، دجيل من يساره وجدلة أمامه ولها جرف منكر.

فكان من غرق أكثر ممن قتل. وسمع الحجّاج الصوت، فعبر السيب، وكان قد قطعه إلى عسكره، ثم وجّه خيله إلى القوم، فالتقى العسكران على ابن الأشعث، فانهزم في ثلاثمائة. فمضى على شاطئ دجلة حتى أتى دجيلا، فعبره في السفن وعقروا دوابّهم، وانحدر في السفن إلى البصرة. فدخل الحجّاج عسكره وقتل من وجد، حتى قتل أربعة آلاف، فيهم بسطام بن مصقلة وجماعة من أهل الشرف والصبر.

وخرج ابن الأشعث بمن معه من الفلّ منهزمين نحو سجستان فلمّا دخل كرمان تلقّاه عمرو بن لقيط وكان عامله عليها. فسأله نزلا، ونزل.

فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل:

« والله، لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أنّك جبان في مواطنك. » فقال عبد الرحمن:

« ما جبنت، والله لقد دلفت إلى الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت وقاتلت راجلا، فما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلا، ولا أرى معي مقاتلا، ولكني زاولت ملكا مؤجّلا. » ثم مضى ابن الأشعث بمن معه حتى فوّز في مفازة كرمان وخيل الشام تتبعه، ثم مضى حتى خرج إلى زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بنى تميم كان استعمله عبد الرحمن عليها يقال له عبد الله بن عامر بن بنى مجاشع. فلمّا قدم عليه ابن الأشعث منهزما أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها. فأقام عبد الرحمن أيّاما رجاء افتتاحها ودخولها. فلمّا رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى بست، فكان استعمل عليها رجلا يقال له: عياض بن هميان السدوسي، فاستقبله وقال له:

« انزل. »

ذكر طمع عياض في ابن الأشعث

فجاء ابن الأشعث حتى نزل به وانتظر حتى غفل أصحاب عبد الرحمن، وتفرّقوا عنه وثب عليه، فأوثقه وأراد أن يأمن بها عند الحجّاج ويتخذ بها عنده مكانا، وقد كان رتبيل حين سمع بمقدم عبد الرحمن عليه استقبله في جنوده، وجاء حتى أحاط ببست، وبعث إلى البكريّ، والله، لئن آذيته بما يقذى عينه أو ضررته ببعض المضرّة، أو رزأته حبلا من شعر، لا أبرح العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبى ذراريّكم، وأقسّم بين الجند أموالكم، وأقتل من عاند منكم. » فأرسل إليه البكري أن:

« أعطنا أمانا على أنفسنا وأموالنا ونحن ندفعه إليك سالما وما كان له من مال موقّرا. »

فصالحه على ذلك وآمنهم. ففتحوا لابن الأشعث وخلّوا سبيله، فأتى رتبيل فقال له بعد ما أنس وتساءلا:

« هذا الرجل كان عاملي على هذه المدينة، وركب مني ما رأيت، فأذن لي في قتله؟ » قال:

« آمنته وأكره الغدر به. » فقال:

« فأذن لي في لهزه ودفعه والتصغير به. » فقال:

« أمّا هذا فنعم. » ففعل به عبد الرحمن، ثم مضى مع رتبيل حتى دخل بلاده، فأنزله رتبيل وأكرمه وعظّمه وكان معه ناس من الفلّ كثير.

ذكر ما اغتر به عبد الرحمن حتى فارق رتبيل ثم اضطر إلى معاودته

كان جماعة من أصحاب عبد الرحمن وعظم فلوله ممّن لم يقبلوا أمان الحجّاج وناصبوه في مواطنه لم يكن لهم عنده وجه، فاضطرّوا إلى الخروج في إثر عبد الرحمن، فلم يزالوا يتساقطون إلى نواحي سجستان حتى اجتمع منهم وممّن اتّبعهم من أهل البلد نحو من ستين ألفا. فنزلوا على عبد الله بن عامر، فحصروه وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بعددهم وجماعتهم وهو عند رتبيل، وكان يصلّى بهم عبد الرحمن بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، وكتبوا إليه أن:

« أقبل، لعلّنا نسير إلى خراسان، فإنّ بها منّا جندا عظيما، فلعلّهم يبايعوننا على قتال أهل الشام وهي بلاد واسعة عريضة فيها حصون. »

فخرج إليه عبد الرحمن بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن، فضرب وعذّب وحبس. ثم إنّه توجّه إليهم خيل الشام، عليهم عمارة بن تميم اللخميّ.

ذكر آراء أشير بها على ابن الأشعث ورأى رءاه وحده سديد لو ساعدوه عليه

أشار أصحاب عبد الرحمن عليه أن يخرج عن سجستان، وقالوا له:

« هلمّ بنا، نأتى خراسان وندع لهم سجستان. » فقال عبد الرحمن:

« على خراسان يزيد بن المهلّب وهو شابّ شجاع صارم وليس بتارك سلطانه، ولو قد دخلتموها وجدتموه سريعا إليكم، ولن يدع أهل الشام اتّباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأخاف ألّا تنالوا ما تظنّون. » فقالوا:

« إنّما أهل خراسان منّا، ونحن نرجو أن لو دخلناها أن يكون من يتّبعنا منهم أكثر ممّن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة نتنحّى فيها حيث شئنا ونمكث حتى يهلك الله الحجّاج أو عبد الملك، أو نرى رأينا. » فقال لهم عبد الرحمن:

« سيروا على اسم الله. » فساروا حتى بلغوا هراة. فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن جندب القرشيّ في ألفين، ففارقه وأخذ طريقا سوى طريقهم.

فلمّا أصبح ابن الأشعث خطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

« أمّا بعد، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس منها مشهد لا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى فيه منكم أحد، وقد كنت لمّا رأيتكم لا تصبرون ولا تصدقون القتال، أتيت ملجأ ومأمنا فكنت فيه. فجاءتني كتبكم بأن: أقبل إلينا فإنّا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلّنا نقاتل عدوّنا. فأتيتكم، فرأيتم أن أمضى إلى خراسان وزعمتم أنّكم مجتمعون لي، وأنّكم لن تتفرّقوا عني، فحسبي منكم يومي هذا. قد صنع عبيد الله ما قد رأيتم، فاصنعوا أنتم أيضا ما بدا لكم. أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله. فمن أحبّ منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحبّ في كنف الله. » فتفرّقت منهم طائفة ونزلت معه طائفة وبقي عظم العسكر. فوثبوا إلى عبد الرحمن بن عباس الهاشميّ لما انصرف ابن الأشعث، فبايعوه ثم مضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، فلقيهم الرقاد بن عبيد العتكيّ، فقتلوه وخرج إليهم يزيد بن المهلّب، وأرسل إليهم وإلى الهاشميّ:

« قد كان لك في البلاد متّسع ومن هو أكلّ مني حدّا وأهون شوكة، فارتحل إلى بلد ليس [ لى ] فيه سلطان، فإني أكره قتالك. وإن أحببت أن أمدّك بمال لسفرك أعنتك عليه. » فأرسل إليه:

« ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا انتقام، ولكنّا أردنا أن نريح ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت. » فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشميّ على الجباية وبلغ يزيد، فقال:

« من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج. » فقدّم المفضّل في خمسة آلاف ثم أتبعه في أربعة آلاف.

ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال:

« ما أرانى إلّا قد ثقلت عن الحرب. أيّ فرس يحملني! » ثم دعا بفرسه الكامل، فركبه حتى أتى هراة، وأرسل إلى الهاشميّ:

« قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك.

فاخرج، فو الله ما أريد أن أقاتلك. » فأبى إلّا القتال، ودسّ الهاشميّ إلى جند يزيد يمنّيهم ويعدهم إلى نفسه. فأخبر بعضهم يزيد، فقال:

« جلّ الأمر عن العتاب. أتغدّى بهذا قبل أن يتعشّى بي. » فسار إليه حتى تدانى العسكران وتأهّبوا للقتال، وألقى ليزيد كرسيّ، فقعد عليه، وولّى الحرب أخاه المفضّل، وقال له:

« قدّم خيلك. » فتقدّم بها وتهايجوا، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرّق الناس عن عبد الرحمن الهاشميّ، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، فكثرهم الناس، فانكشفوا. فأمر يزيد بالكفّ عن اتّباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى فيهم سعيد بن أبي وقّاص، وموسى بن عمر بن عبيد الله بن معمر، وعيّاش بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، ويزيد بن الحصين، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبيد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمي بالسند، وابن سمرة قصد مرو.

ثم انصرف يزيد إلى مرو، وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع ابن عمّ له، وخلّى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة.

وسعى قوم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد، وحبسه. فأمّا محمد بن سعد بن أبي وقّاص، فيقال: إنّه قال ليزيد:

« أسألك بدعوة أبي لأبيك. » ولقوله هذا حديث فيه طول.

ذكر ما تقدم به الأسرى عند الحجاج

لمّا قدم الأسرى على الحجّاج، قدّم موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر، فقال:

« أنت صاحب عديّ الرحمن. » فقال:

« أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البرّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منّا، فإن عفوت فبحلمك وبفضلك، وإن عاقبت، عاقبت ظلمة مذنبين. » فقال الحجّاج:

« أمّا قولك: شملت البرّ والفاجر فكذبت، ولكنّها شملت الفجّار وعوفي منها الأبرار، وأمّا اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك. » فعزل، ورجا له الناس العافية. حتى قدّم الهلقام بن نعيم، فقال له الحجّاج:

« أخبرني عنك، ما رجوت اتّباع عبد الرحمن بن محمد، أرجوت أن يكون خليفة؟ » قال:

« نعم، رجوت ذلك وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك. » فغضب الحجّاج، وقال:

« اضربوا عنقه! » ونظر إلى موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر وقد كان نحّى عنه، فقال:

« اضربوا عنقه! » وقتل، وقتل بقيّتهم.

كلام للشعبي لما حمل إلى الحجاج

كان الحجّاج لمّا هزم الناس نادى مناديه:

« من لحق بقتيبة بن مسلم بالريّ فهو أمانه. » فلحق ناس كثير بقتيبة وفيهم عامر الشعبيّ. فذكره الحجّاج يوما وقال:

« أين هو، وما فعل؟ » قال له يزيد بن أبي مسلم، وهو كاتب الحجّاج:

« بلغني أيها الأمير أنّه لحق بقتيبة. » فكتب الحجّاج إلى قتيبة أن يبعث إليه بالشعبى حين ينظر في كتابه. فسرّحه إليه.

قال الشعبي: كنت لابن أبي مسلم صديقا. فلمّا قدم بي على الحجّاج لقيته وقلت له:

« أشر عليّ. » قال:

« ما أدري ما أشير به عليك، غير أن: اعتذر ما استطعت من عذر. » فلمّا دخلت سلّمت بالإمرة ثم قلت:

« أيها الأمير إنّ الناس قد أمرونى أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق.

وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلّا حقا. قد والله سوّدنا عليك، وخرجنا واجتهدنا عليك كلّ الجهد فما ألونا. فما كنّا بالفجرة الأقوياء، ولا بالبررة الأتقياء. ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرّت إلينا أيدينا، وإن عفوت عنّا فبحلمك. وبعد فالحجّة لك علينا. » فقال له الحجّاج:

« أنت والله أحبّ إليّ ممّن يدخل عليّ يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت وما شهدت. قد أمنت عندنا يا شعبيّ. » قال: فانصرفت. فلما مشيت قليلا، قال:

« هلّم يا شعبيّ! » قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: « قد أمنت ». فاطمأنّت نفسي. قال:

« كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبيّ؟ » وكان لي مكرما. فقلت:

« أصلح الله الأمير، اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب واستحلست الخوف وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. » قال:

« انصرف يا شعبيّ. » فانصرفت.

فيروز يمنع الحجاج أن ينال ماله

وقيل: إنّ الحجّاج لمّا أتى بالأسرى من عند يزيد بن المهلّب، قال لحاجبه:

« إذا دعوت بسيّدهم فأتنى بفيروز فأبرزوا سريره. » وهو حينئذ بواسط القصب، قبل أن تبنى مدينة واسط. ثم قال لحاجبه:

« جئني بسيّدهم. » فقال لفيروز:

« قم! »

فقال له الحجّاج:

« أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم. » فقال:

« فتنة عمّت الناس فكنّا فيها. » فقال:

« أكتب لي أموالك. » قال:

« ثم ما ذا؟ » قال:

« أكتبها أوّل. » قال:

« ثم أنا آمن على دمى؟ » قال:

« أكتبها، ثم أنظر. » قال:

« أكتب يا غلام: ألف ألف، ألفي ألف. » حتى ذكر مالا عظيما. فقال الحجّاج:

« أين هي، وعند من هذه الأموال؟ » قال: [ « عندي. » قال:

« فأدّها. » قال:

« وأنا آمن على دمى؟ » قال:

« والله، لتؤدّينّها، ثم لأقتلنّك. » قال: ] « لا والله لا، جمعت مالي ودمى. » فقال الحجّاج للحاجب:

« نحّه! »

فنحّاه ثم أمر به فعذّب. وكان في ما عذّب به أن كان يشدّ عليه القصب الفارسيّ المشقّق، ثم يجرّ حتى تحزّز جسده، ثم ينضح عليه الخلّ والملح.

فلما أحسّ بالموت، قال لصاحب العذاب:

« إنّ الناس لا يشكّون أنّى قتلت. ولى ودائع أموال عند الناس لا تؤدّى إليكم أبدا. فأظهرونى للناس ليعلموا أنّى حيّ فيؤدّوا المال. » فأعلم الحجّاج فقال:

« أظهروه. » فأخرج، فصاح في الناس:

« من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرنى فأنا فيروز الحصين. إنّ لي عند أقوام مالا. فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو في حلّ فلا يؤدّينّ أحد منه درهما. ليبلغ الشاهد الغائب. » فأمر به الحجّاج فقتل.

ذكر خديعة للحجاج ظن الناس بها أنه آمنهم حتى قتلهم

كان الحجّاج أمر مناديا فنادى عند الهزيمة يوم الزاوية:

« ألا لا أمان لفلان ولا لفلان. » سمّى رجالا من الأشراف ولم يقل: الناس آمنون. فقال الناس:

« قد آمن الناس كلّهم إلّا هؤلاء النفر. » فأقبلوا إلى حجرته. فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثم قال:

« لآمرنّ بكم اليوم رجلا ليس بينه وبينكم قرابة. » فأمر بهم عمارة بن تميم اللخميّ، ففرّقهم وقتلهم.

فروى النضر بن شميل عن هشام بن حسّان أنّه قال يوما: قتل الحجّاج صبرا مائة ألف وعشرين ألفا، أو مائة ألف وثلاثين ألفا، منهم يوم الزاوية أحد عشر ألفا، ما استبقى منهم إلّا رجلا واحدا كان ابنه في الكتّاب مع ابن الحجّاج، فدعا الصبيّ وقال:

« أهبه لك »، قال:

« نعم. » فخلّى سبيله.

ذكر هلاك عبد الرحمن بن الأشعث ورأي لبعض أصحابه صحيح

كان مع عبد الرحمن بن الأشعث لمّا انصرف من هراة راجعا إلى رتبيل، رجل من أود يقال له: علقمة بن عمرو. فقال له:

« إني ما أريد أن أدخل معك. » قال له عبد الرحمن:

« ولم؟ » قال:

« لأنّى أتخوف عليك وعلى من معك. » قال:

« وكيف؟ » قال:

« والله لكأنّى بكتاب من الحجّاج قد جاء فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلما أو قتلك ومن معك. ولكن هاهنا خمسمائة رجل قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصّن فيها ونقاتل حتى نعطى أمانا، أو نموت كراما. » فقال عبد الرحمن:

« كلّا، فادخل معي، فإني أواسيك وأكرمك. » فأبى عليه. ودخل عبد الرحمن إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة. فبعثوا عليهم مودودا البصريّ. فأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخميّ، فحاصرهم، فقاتلوه، وامتنعوا منه حتى آمنهم. فخرجوا إليه، فوفى لهم.

وتتابعت كتب الحجّاج إلى رتبيل في عبد الرحمن أن:

« ابعث به إليّ، فو الله لأوطينّ أرضك ألف ألف مقاتل. » وكان عمارة قد انتهى إلى سجستان في ثلاثين ألفا، وكان عند رتبيل رجل من تميم من بنى يربوع يقال له: عبيد بن أبي سبيع، وكان مع ابن الأشعث، فخصّ برتبيل، وكان قديما رسول ابن الأشعث فخفّ عليه. فلمّا رأى رتبيل لا يسلم ابن الأشعث خلا به وخوّفه الحجّاج، وقال:

« أنا آخذ لك من الحجّاج عقدا ليكفّنّ الحجّاج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه ابن الأشعث. » فقال رتبيل:

« فإني أفعل. » فكاتب الحجّاج وأعلمه أنّ رتبيل لا يعصيه وأنّه يتوصّل له إلى أخذ ابن الأشعث، وأخذ من الحجّاج مالا، وخرج إلى عمارة بن تميم، فاستجعل منه ألف ألف درهم، وأخذ من رتبيل أيضا مالا، واشترط لرتبيل ألّا يغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدّى بعد العشر سنين في كلّ سنة تسعمائة ألف درهم. فأعطى هو وابن أبي سبيع، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث، فأحضره وثلاثين من أهل بيته وقد أعدّ لهم الجوامع والقيود، فألقى في عنقه جامعة، وفي عنق أخيه القاسم بن محمد بن الأشعث جامعة، وأرسل بهم إلى أدنى مسلحة عمارة منه. وقال لجماعة من كان مع ابن الأشعث:

« تفرّقوا إلى حيث شئتم. » ولمّا قرب ابن الأشعث من عمارة، ألقى نفسه من فوق قصر، فمات واحتزّ رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة فضرب أعناقهم، وأرسل برأس الأشعث وبرؤوس أهله إلى الحجّاج، فأرسل به الحجّاج إلى عبد الملك، فأرسل به عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز وهو يومئذ على مصر.

فحكى ابن عائشة: انّه لمّا أتى عبد الملك برأس ابن الأشعث، أرسل به مع خصيّ له إلى امرأة من بنات عمر بن الأشعث كانت تحت رجل من قريش. فلمّا وضع بين يديها نهضت إليه وقالت:

« مرحبا برأس لا يتكلّم، ملك ابن ملوك، طلب ما هو أهله، فأبت المقادير. » فذهب الخصيّ ليأخذ الرأس واجتذبته من يده وقالت:

« لا والله حتى أبلغ حاجتي منه. » ثم دعت بخطميّ فغسلته وغلّفته، ثم قالت:

« شأنك به الآن. » فأخذه. ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها قال له:

« إن استطعت أن تصيب منها سحلة. »

ذكر سبب عزل يزيد بن المهلب عن خراسان

كان الحجّاج يهاب ناحية يزيد بن المهلّب بعد فراغه من عبد الرحمن بن محمد ويعرف منزلته من عبد الملك فيخشاه على موضعه وقد كان أذلّ أهل العراق كلّهم، إلّا آل المهلّب، فأكثر على عبد الملك في شأن يزيد بن المهلّب، وخوّفه غدره وعيّره، فإنّه وأهل بيته زبيريّون.

فكتب إليه عبد الملك:

« قد أكثرت في معنى يزيد، وإنّ الذي دعا آل المهلّب إلى الوفاء لابن الزبير هو الذي يدعوهم إلى الوفاء لي. » وبلغ يزيد بن المهلّب ما يريد الحجّاج. فكان يكثر الغزوات ويعتلّ على الحجّاج إذا استقدمه أنّه بإزاء عدوّ وحروب. إلى أن أذن عبد الملك في عزل يزيد وتقليد قتيبة بن مسلم خراسان.

فكتب الحجّاج إلى يزيد بن المهلّب أن:

« استخلف أخاك المفضّل. » وكتب إلى المفضّل بولاية خراسان. فجعل المفضّل يستحثّ يزيد. فقال له يوما يزيد:

« يا أخي، إنّ الحجّاج لا يقرّك بعدي، وإنما دعاه [ إلى ] ما صنع مخافة أن أمتنع عليه. » قال:

« بل حسدتني. » قال يزيد:

« أنا أحسدك يا بن بهلة؟ ستعلم. » وقد كان يزيد قال لنصحائه:

« من ترون الحجّاج يولّى خراسان؟ » قالوا:

« رجلا من ثقيف. » قال:

« كلّا، ولكنّه يكتب إلى رجل منكم بعهده. فإذا قدمت عليه عزله، فولّى رجلا من قيس، وأخلق بقتيبة. » قال: فلمّا قال له أخوه ما قال وولّاه الحجّاج بعد يزيد تيقّن يزيد ما كان يظنّه قبل ذلك. فاستشار الحصين بن المنذر، فقال له:

« أقم واعتلّ، فإنّ أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنّما أتيت من قبل الحجّاج، فإن أقمت رجوت أن يكتب إليه بإقرارك. » قال يزيد:

« إنّا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف. » فقال الحصين بن المنذر:

أمرتك أمرا حازما فعصيتني ** فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

فما أنا بالباكى عليك صبابة ** وما أنا بالدّاعى لترجع سالما

فلمّا قدم قتيبة خراسان، قال لحصين:

« كيف قلت ليزيد؟ » قال: قلت له:

أمرتك أمرا حازما فعصيتني ** فنفسك ولّ اللّوم إن كنت لائما

فإن يبلغ الحجّاج أن قد عصيته ** فإنّك تلقى أمره متفاقما

قال:

« فما ذا أمرته فعصاك؟ » قال:

« أمرته ألّا يدع صفراء ولا بيضاء إلّا حملها إلى الأمير. » فقال رجل لعباط بن الحصين:

« أمّا أبوك فوجده قتيبة حين فرّه قارحا بقوله: أمرته ألّا يدع صفراء ولا بيضاء إلّا حملها إلى الأمير. » فكان عزل يزيد عن خراسان وخروج قتيبة إليها في سنة خمس وثمانين، وذلك أنّه لمّا حصل يزيد عند الحجّاج عزل المفضّل وولّى قتيبة.

وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بالتّرمذ

ذكر السبب في ذلك

كنّا ذكرنا ما كان من عبد الله بن خازم من قبل مع بنى تميم. فتفرّق عنه عظم من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بنى تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى:

« حوّل ثقلي من مرو، واقطع نهر بلخ حتى تلجأ إلى حصن تثق به فتقيم فيه. » فشخص موسى في مائتين وعشرين فارسا من الصعاليك، فصار في أربعمائة وانضمّ إليه رجال من بنى سليم، فقطع النهر وأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى وخافه وقال:

« رجل فاتك وأصحابه مثله طالبو حرب وشرّ، ولا آمنهم. » فبعث إليهم بصلة من عين ودوابّ وكسوة، فنزل على عظيم من عظماء بخارى في نوقان، فقال له الرجل:

« إنّه لا خير لك في المقام وهم لا يأمنونك. » فخرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنا. فلم يأت بلدا إلّا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم حتى أتى سمرقند وصاحبها طرخون. فأنزله وأكرمه.

فجرى بينهما ما استوحش منه طرخون، فقال له:

« لولا أنّى أعطيتكم الأمان لقتلتكم، فاخرجوا عن بلدي. » ووصله وأخرجه. فخرج موسى وأتى كسّ. فكتب صاحب كسّ إلى طرخون يستنصره. فأتاه فخرج إليه موسى في سبعمائة، فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثير.

فلمّا أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رؤوسهم كما تصنع الخوارج، وقطعوا صفنات أقبيتهم كما تصنع العجم إذا استماتوا، ودسّ إلى طرخون زرعة بن علقمة، فقال:

« إنّ القوم مستقبلون، فما حاجتك إلى أن تقتل من لا تصل إليه حتى يقتل من أصحابك عدّتهم، ولو قتلته وإيّاهم جميعا ما نلت حظّا، لأنّ له قدرا في العرب، فلا يلي أحد خراسان إلّا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لا تسلم من آخر. » قال:

« ليس إلى ترك كسّ عليه سبيل. » قال:

« فكفّ عنه حتى يرتحل. » فكفّ عنه. وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر. فنزل موسى على بعض الدهاقين خارجا من الحصن، والدهقان مجانب لترمذ شاه. فقال لموسى:

« إنّ صاحب الترمذ متكرّم شديد الحياء، فإن ألطفته وهاديته أدخلك حصنه. » فأهدى له وألطفه موسى حتى لطف الذي بينهما. وخرج فتصيّد معه وكثر ألطاف موسى له. فصنع يوما صاحب الترمذ طعاما، وأرسل إليه:

« إني أحبّ أن أكرمك، فتغدّ عندي، وائتني في مائة من أصحابك. » فانتخب موسى مائة من أصحابه، فدخلوا على خيولهم، فقيل لهم:

« انزلوا. » فنزلوا، وأدخلوا بيتا خمسين في خمسين، وغدّوهم. فلمّا فرغوا من الغداء اضطجع موسى. فقالوا له:

« اخرج. » قال:

« لا أصيب منزلا مثل هذا. فلست بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبرى. » وقاتلوهم في المدينة. فقتل خلق من أهلها وهرب الآخرون. فدخلوا منازلهم وغلب موسى على المدينة وقال لترمذشاه:

« اخرج، فإني لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك. » فخرج الملك وأهل المدينة، فأمّوا الترك يستنصرونهم. فقالوا:

« دخل عليكم مائة رجل فأخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكسّ، فعرفناهم، فنحن لا نقاتل هؤلاء. » وأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل إليه أصحابه، وكانوا سبعمائة. فلمّا قتل أبوه انضمّ إليه من أصحاب أبيه أربعمائة فارس، فقوى، فكان يخرج ويغير على من حوله. فراسله الترك بقوم ليعلموا ما الذي يريد، ويتقرّر أمورهم على صلح، ويكفّوا عن الغارة.

فلمّا قدموا قال موسى لأصحابه:

« إنّ هؤلاء يسمّونكم جنّا وأريد أن أكيدهم بمكيدة، وذلك في أشدّ ما يكون من زمان الحرّ. »

ذكر مكيدة ضعيفة تمت على قوم أغتام

ثم أمر موسى بنار، فأجّجت، وألبس أصحابه ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودا، ومدّوا أيديهم إلى النار كأنّهم يصطلون، وأذن موسى للترك، فدخلوا. فلمّا رأوهم على تلك الحال فزعوا وقالوا:

« ما هذا، ولم صنعتم ما نرى؟ » قالوا:

« إنّا نجد البرد في هذا الوقت ونجد الحرّ في الشتاء. » فلمّا رجعوا أخبروا أصحابهم، فقالوا:

« هذا صنيع الجنّ، ولا خير في قتال هؤلاء، والرأي مقاربتهم. » ولمّا ولى بكير بن وساج خراسان لم يعرض له ولم يوجّه إليه أحدا.

ثم قدم أميّة، فسار بنفسه يريده. فخالفه بكير وخلع ورجع إلى مرو، كما حكينا في ما تقدّم. فلمّا صالح أميّة بكيرا وحال الحول، وجّه إلى موسى رجلا من خزاعة في جمع كثير. فعاد أهل الترمذ إلى الترك، فاستنصرهم، وقالوا:

« نجتمع عليهم مع من غزاهم منهم فنظفر بهم. » فسارت الترك مع أهل الترمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعيّ.

فكان يقاتل الخزاعيّ أوّل النهار والترك آخره. فقاتلهم ثلاثة أشهر على ذلك.

ثم قال موسى لعمرو بن خالد بن حصن الكلبي، وكان فارسا:

« قد طال أمرنا هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيّت عسكر الخزاعيّ، فإنّهم للبيات آمنون، فما ترى؟ » قال:

« البيات نعمّا هو، فليكن ذلك بالعجم، فإنّ العرب أشدّ حذرا وأسرع فزعا وأجرأ على الليل من العجم. » فعمل موسى على بيات الترك. فلمّا ذهب الليل ثلثه خرج في أربعمائة، وقال لعمرو بن خالد:

« اخرجوا بعدنا وكونوا قريبا، فإذا سمعتم التكبير فكبّروا. » وأخذ على شاطئ النهر حتى ارتفع فوق العسكر. ثم أخذ من ناحية كفنان.

فلمّا قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعا. ثم قال:

« أطيفوا بعسكرهم، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبّروا. » وأقبل وقدّم حمرا بين يديه ومشوا خلفه. فلمّا رءاهم أصحاب الأرصاد قالوا:

« من أنتم؟ » قالوا:

« عابروا سبيل. » فقال لهم صاحب الرصد:

« جوزوا. » فلمّا جازوا الرصد تفرّقوا وأطافوا بالعسكر وكبّروا، فلم يشعر الترك إلّا بوقع السيوف. فثاروا، وأقبل بعضهم يقتل بعضا. ثم ولّوا وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا ومالا، وأصبح الخزاعيّ وأصحابه وقد كسرهم ذلك وخافوا مثلها من البيات، فتحرّزوا.

ذكر مكيدة لعمرو بن خالد

فقال عمرو بن خالد لموسى:

« إنّك لا تظفر إلّا بمكيدة، وأرى لهم أمدادا فهم يكثرون. فتناولني بضرب فلعلّى أصيب من صاحبهم فرصة فأقتله ويتفرّق عنك هؤلاء الجمع. » فقال له:

« تتعجّل الضرب، ثم تتعرض للقتل. » قال:

« أمّا القتل فأنا متعرّض له في كلّ يوم، وأمّا الضرب فما أيسره في جنب ما أريد. » فتناوله بالضرب، ضربه خمسين سوطا، فخرج من عسكره موسى، فأتى عسكر الخزاعيّ مستأمنا، وقال:

« أنا رجل من أهل اليمن، كنت مع عبد الله بن خازم. فلمّا قتل أتيت ابنه، فلم أزل معه. فلمّا قدمت اتّهمنى وتنكّر لي، ثم تغضّب عليّ وقال: أنت عين له، فضربني ولم آمن القتل وقلت: ليس بعد الضرب إلّا القتل، فهربت منه. » فآمنه الخزاعيّ، وأقام معه إلى أن دخل يوما وهو خال، ولم ير عنده سلاحا، فقال له كأنّه يتنصّح له:

« إنّ مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحواله بغير سلاح. » فقال:

« إنّ معي سلاحا. » ورفع صدر فراشه، وإذا سيف منتضى. فتناوله عمرو فضربه به حتى قتله.

وخرج فركب فرسه ونذر به الناس وقد أمعن. فطلبوه، ففاتهم ورجع إلى موسى، وتفرّق ذلك الجيش وأتى بعضهم موسى مستأمنا، فآمنه.

ولم يوجّه إليه أميّة أحدا إلى أن قدم المهلّب، فلم يعرض له ووصّى بنيه، فقال:

« إيّاكم وموسى، فإنّكم لا تزالون ولاة هذا الثغر ما أقام هذا الرجل بمكانه، فإنّ قتل كان أوّل طالع عليكم أميرا على خراسان رجل من قيس. » فمات المهلّب، وولّى يزيد فلم يعرض له.

وكان المهلّب ضرب حريث بن قطبة الخزاعيّ، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى. فلمّا ولى يزيد بن المهلّب أخذ أموالهما وحرمهما، وقتل أخا لأمّهما يقال له الحارث بن منقذ. فبلغهما صنيع يزيد، وكان ثابت محبّبا في العجم بعيد الصوت فيهم يعظّمونه ويثقون به، حتى إنّهم كانوا يحلفون بحياته فلا يكذبون.

فخرج ثابت إلى طرخون، فشكا إليه ما صنع به، فغضب له طرخون، وجمع له نيزك والسّيل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله وقد سقط إلى موسى فلّ عبد الرحمن بن عباس القرشي من هراة وفلّ ابن الأشعث من العراق وغيرهم.

فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن. فقال له ثابت:

« سر حتى تقطع النهر، فتخرج يزيد بن المهلّب من خراسان ونولّيك، فإنّ طرخون ونيزك والسيل وأهل بخارى معنا. » فهمّ أن يفعل، فقال له نصحاؤه:

« إنّ ثابتا وأخاه خائفان من يزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان تولّيا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم بمكانك. » فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ وقال لثابت:

« إن أخرجنا يزيد قدم عامل عبد الملك ولكنّا نخرج عمّال يزيد من وراء النهر ما يلينا، ونحصّل لنا ما وراء النهر فنأكلها. » ورضى ثابت، وأخرج عمّال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، فقوى أمرهم.

وانصرف طرخون ونيزك والسيل وأهل بخارى إلى بلادهم وتدبير الأمر كلّه لثابت وحريث، والأمير موسى ليس له غير الاسم. فألحّ أصحاب موسى عليه في الفتك بثابت وحريث، فأبى وقال:

« ما كنت لأغدر بهم. » فبيناهم على ذلك إذ أخرجت عليهم الهياطلة والتبّت والترك في سبعين ألفا لا يعدّون الحاسر ولا صاحب بيضة جمّاء إلّا أن تكون البيضة ذات قونس.

فخرج موسى لقتالهم إلى ربض المدينة، ووقف ملك الترك على تلّ في مائة ألف.

فقال موسى لأصحابه:

« إن أزلتم هؤلاء، فليس الباقون بشيء. » فقصد لهم حريث، وألحّ عليهم حتى أزالهم عن التلّ، ورمى حريث في جبهته بنشّابة. ثم بيّتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة ملكهم، فقتله وقتل العجم قتلا ذريعا، ونجا من نجا منهم بشرّ. ومات حريث بعد يومين، وحملوا الرؤوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك الرؤوس جوسقين.

فقال أصحاب موسى:

« وقد كفيت أمر حريث، فأرحنا من أمر ثابت. » فأتى وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه، فدسّ غلاما كان في خدمة موسى وأعطاه مالا وقال له:

« إيّاك أن تتكلّم بالعربيّة، وإن سألوك: من أنت؟ فقل: من سبى باميان. » فكان الغلام ينقل إلى ثابت خبرهم إلى أن واقفوا يوما موسى على الفتك بثابت. فقال موسى:

« قد أكثرتم، وفيه هلاككم، فعلى أيّ وجه تفتكون به وأنا لا أغدر به؟ » فقال نوح بن عبد الله بن خازم:

« إذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك. » فقال:

« أما والله، إنّه لهلاككم. » فخرج الغلام، فأعلمه، فخرج من تحت ليلته، وأصبحوا وقد ذهب وفقد الغلام.

فعلموا أنّه كان عينا له عليهم، وخرج إلى ثابت قوم، فقصد خشوان. فقال موسى:

« قد فتحتم على أنفسكم بابا فسدّوه. » وسار إليه موسى، وراسل ثابت طرخون، فأقبل معينا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وصار ثابت في ثمانين ألفا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة حتى جهدوا. فلما اشتدّ عليهم الحصار، قال يزيد بن هذيل:

« إنّما مقام هؤلاء مع ثابت، والله أفتكنّ بثابت، أو لأموتنّ، فالقتل أحسن من الموت جوعا. » فخرج إلى ثابت مستأمنا، فقال ظهير لثابت:

« أنا أعرف بهذا منك، والله ما أتاك رغبة فيك، ولا جزعا منك، ولقد جاءك بغدرة، فخلّنى وإيّاه. » فقال:

« ما كنت لأقدم على رجل أتانى لا أدري أكذلك هو أم لا. » قال:

« فدعني أرتهن منه رهنا. » قال:

« أمّا هذا فنعم. » فقال ثابت ليزيد بن هذيل:

« أمّا أنا فواثق بك وابن عمّك أعلم بك مني، فانظر ما يقول لك. » فقال يزيد لظهير:

« أبيت يا با سعيد إلّا حسدا. ما يكفيك ما ترى من الذلّ، تشرّدت عن العراق عن أهلى، وصرت بخراسان على ما ترى، أما يعطفك الرحم؟ » فقال له ظهير:

« أما والله، لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنّا ابنيك قدامة والضحّاك. » فدفعهما، فكانا في يدي ظهير. فأقام يزيد يلتمس غرّة ثابت، فلا يجدها حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتاه نعيه من مرو. فخرج ثابت متفضّلا إلى زياد ليعزّيه ومعه ظهير وطائفة من أصحابه وفيهم يزيد بن هذيل وقد تقدّم ظهير في أصحابه، فدنا من ثابت وضربه، فعضّ السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ، ورمى يزيد بنفسه في نهر الصغانيان، فنجا سباحة، وحمل ثابت إلى منزله.

فلمّا أصبح طرخون أرسل إلى ظهير:

« ائتني بابني يزيد. » فأتاه بهما فقتلهما. وكان يزيد بن هذيل سخيّا شجاعا شاعرا، وعاش ثابت سبعة أيّام، ثم مات، وقام بأمر العجم طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت قياما ضعيفا وانتشر أمرهم، وأجمع موسى على بياتهم. فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال:

« موسى يعجز أن يدخل متوضّأه، فكيف يبيّتنا، لقد طار قلبك، لا يحرسنّ الليلة أحد العسكر. » فلمّا ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثلاثمائة، وأخوه في ثلاثمائة، ويزيد بن هذيل في ثلاثمائة، ورقبة بن الحرّ في ثلاثمائة، وقال لهم:

« تفرّقوا أرباعا حتى تدخلوا عسكرهم من أربع نواحي، ولا يمرّ أحد منكم بشيء إلّا ضربه. » فدخلوا عسكرهم من النواحي لا يمرّون بدابّة ولا رجل ولا خباء، ولا جوالق إلّا ضربوه، وهجم نوح بن عبد الله بن خازم على سرادق طرخون.

فبرز إليه فتجاولا، وطعن طرخون فرس نوح في خاصرته فشبّ ودلّى بنوح حتى سقط في نهر الصغانيان، وراسل طرخون موسى:

« كفّ أصحابك، فإنّا نرتحل إذا أصبحنا. » فرجع موسى إلى عسكره، وارتحل طرخون وجميع من معه، فأتى كلّ قوم بلادهم.

فكان أهل خراسان يقولون:

« ما رأينا قطّ مثل موسى بن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان، حتى أتى ملكا، فغلبه على مدينته، ثم سار إليه الجنود من العرب والعجم والترك. » فكان يقاتل العرب في أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى لا يعازّه فيه أحد.

فلمّا ولى المفضّل خراسان أخرج عثمان بن مسعود من الحبس، وقال:

« إني أريد أن أوجّهك إلى موسى بن عبد الله. » قال:

« والله، لقد وترني، وإني لثائر بابن عمّى ثابت وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستمونى، وشرّدتم بنى عمّى، واصطفيتم أموالهم. » فقال له المفضّل:

« دع عنك هذا، وسر، فأدرك بثأرك. »

فوجّهه في ثلاثة آلاف، وقال له:

« مر مناديا فليناد: من لحق بنا فله ديوان. » فنادى بذلك في السوق، فتسارع الناس، وكتب المفضّل إلى أخيه مدرك وهو ببلخ أن يسير معه. فنزل عثمان جزيرة بالترمذ يعرف اليوم بجزيرة عثمان، في خمسة عشر ألفا، وكتب إلى السّيل وطرخون، فقدموا عليه، وحصروا موسى، فضيّقوا عليه وعلى أصحابه، وخندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرّة، فقال يوما لأصحابه:

« حتى متى؟ أخرجوا بنا، فاجعلوه يومكم، إمّا ظفرتم وإمّا قتلتم. » وقال لهم:

« اقصدوا للصّغد والترك. » وخلّف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة وقال له:

« إن قتلت فلا تسلمنّ المدينة إلى عثمان، بل ادفعها إلى مدرك بن المهلّب. » وخرج، وصيّر بإزاء عثمان قوما من أصحابه وقال:

« لا تهايجوه حتى يقاتلكم. » وقصد لطرخون، فصدقه، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم، فجعلوا ينقلونه، وكرّت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصين، فقاتلهم، فعقر به، فسقط، فنادى مولى له:

« احملنى ويحك. » فقال:

« الموت كريه، ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا معا، وإن هلكنا هلكنا معا. »

فارتدف ونظر إليه عثمان حين وثب، فقال:

« وثبة موسى وربّ الكعبة. » فخرج من الخندق، وحمل وكشف أصحاب موسى، وقصد لموسى، فعثرت دابّة موسى، فسقط هو ومولاه، فابتدروه فقتلوه وبقيت المدينة في يد النضر، فدفعها إلى مدرك وآمنه، وكتب المفضّل بالفتح إلى الحجّاج، وذلك في سنة خمس وثمانين.

ثم دخلت سنة ست وثمانين

وفيها مات عبد الملك بن مروان. فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر.

أسماء وزراء عبد الملك بن مروان وما نقل إلينا من آرائهم وتدابيرهم التي يليق ذكرها بهذا الكتاب قبيصة بن ذؤيب

كان يكتب لعبد الملك قبيصة بن ذؤيب الخزاعيّ، ويكنّى أبا إسحق، وكان خاصّا به، وكان يتولّى ديوان الخاتم. وبلغ من لطافة محلّه منه أنّ الكتب الواردة على عبد الملك كان يقرأها قبيصة قبل أن تصل إلى عبد الملك، ثم يدخل بها إليه مفضوضة الختم فيقرأها.

وكان مروان عهد إلى أخيه عبد العزيز بعد عبد الملك، فهمّ عبد الملك، لمّا تمكّن واستقام أمره، بخلعه والعقد لابنيه الوليد وسليمان، فنهاه قبيصة بن ذؤيب كاتبه، وقال:

« انتظر، فلعلّ الموت يأتى عليه فيكفيكه. » وكان قلّده مصر، فورد الكتاب بوفاته سنة خمس وثمانين، فقرأه قبيصة على عادته، ثم دخل على عبد الملك فعزّاه بأخيه، وعقد لابنيه الوليد وسليمان العهد بعده، وكتب إلى البلدان بذلك فبايعوه.

أبو الزعيزعة

وكان يكتب له أبو الزعيزعة مولاه. فيحكى أنّه حضر زفر بن الحارث يوما عند عبد الملك وبحضرته أبو الزعيزعة بعد أن اجتمع إليه، فقال لزفر بن الحارث:

« كيف ترى ما ساقه الله إلينا؟ » فقال زفر:

« الحمد لله الذي نصرك على كره من كره. » فقال أبو الزعيزعة:

« ما كره ذلك إلّا كافر. » فقال له زفر:

« كذبت! قال الله عز وجل لنبيه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ من بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقًا من الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ، أمؤمنين سمّاهم أم كفّارا؟ » فغضب عبد الملك، فقال زفر:

« يا أمير المؤمنين، أرأيت لو قلت: الحمد لله الذي نصرك، فقد كنت مسرورا بذلك، أما كنت تمقتني ويمقتني الله وأنا أقاتلك تسع سنين؟ » فقال له:

« صدقت. »

روح بن زنباع

وكان يكتب له روح بن زنباع. وروح هذا هو الذي همّ به معاوية، فقال له:

« يا أمير المؤمنين، لا تشمتنّ بي عدوّا أنت وقمته، ولا تسوءنّ فيّ صديقا أنت سررته، ولا تهدمنّ ركنا أنت بنيته. هلّا أتى حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتى! » فأمسك عنه.

ربيعة الغار الحرشي

وكان يكتب له ربيعة الغار الحرشي. وكان استشاره عبد الملك في تقليد الوليد ابنه العهد، فقال:

« أمهلنى سنة. » فأمهله. فلمّا انقضت عاوده وقال:

« إني عزمت أن أوليّه شيئا من النواحي، فإذا مضت له مدّة قلّدته العهد. » فقال:

« يا أمير المؤمنين، إنّك بعثت الوليد يقسم الأموال بين الناس ما رضوا عنه، فكيف تبعثه جابيا؟ إن احتاط ذمّ، وإن رفق عجز، وأنت تريد أن تجبيه، فولّه المعاون والصوائف، فيكون ذلك شرفا وذكرا. »

صالح بن عبد الرحمن وهو الذي نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية

وكتب له صالح بن عبد الرحمن مولى بنى مرة بن عبيد بن تميم من سبي سجستان، ويكنّى صالح أبا الوليد، وهو الذي نقل الدواوين من الفارسيّة إلى العربيّة. وكان ذلك أنّ الدواوين كانت تجرى فيها وجوه الأموال بالفارسيّة.

وكان بالبصرة والكوفة ديوان بالعربيّة لإحصاء الناس وأرزاقهم وأعطياتهم، وهو الذي كان عمر رسمه. وكان بالشام أيضا ديوانان: أحدهما بالروميّة، والآخر بالعربيّة، فجرى الأمر عليه إلى أيّام عبد الملك، وكان إذ ذاك يتقلّد ديوان الفارسيّة زادانفرّوخ، فخلفه عليه صالح بن عبد الرحمن، فخفّ على قلب الحجّاج وحضّ به. فقال لزادانفرّوخ:

« إني قد خففت على قلب الحجّاج، ولست آمن أن أزيلك عن محلّك لتقديمه إيّاى، وأنت ربيبى. » فقال له زادانفرّوخ: لا تفعل، فإنّه إليّ أحوج مني إليه. » فقال له:

« وكيف ذلك؟ » قال:

« لا يجد من يكفيه الحساب. » فقال له صالح:

« لو شئت حوّلته إلى العربيّة. » فقال له:

« فحوّل منه سطرا. » فحوّل منه شيئا كثيرا.

فقال زادانفرّوخ لأصحابه:

« التمسوا كسبا غير هذا. »

فلمّا بلغ الحجّاج ذلك أمر صالحا بنقل الدواوين، فنقلها إلى العربيّة في سنة ثمان وسبعين. وكان عامّة كتّاب العراق تلامذة صالح.

ولمّا هم صالح بنقل الدواوين، قال له بعض كتّاب الفرس:

« كيف تصنع بواذ. » قال:

« أكتب: أيضا. » فقال:

« كيف تصنع بدهيازده؟ » قال:

« أكتب عشرا. » فقال:

« كيف تصنع بدهبوذه، وبنجبوذه؟ » قال:

« أكتب عشيرا ونصف عشير. » قال له:

« قطع الله أصلك من الدنيا، كما قطعت الفارسيّة. » وقال الحجّاج يوما لصالح، وكان متّهما برأى الخوارج:

« إني فكّرت فيك فوجدت مالك ودمك حلالين لي وأنّنى غير آثم إن تناولتهما. » فقال صالح:

« إنّ أغلظ ما في الأمر - أعزّ الله الأمير - أنّ هذا القول بعد الفكر. » فضحك منه ولم يقل له شيئا.

عبيد بن المخارق

ومن كتّاب الحجّاج عبيد بن المخارق، قلّده الحجّاج الفوجتين، فوردها وقال:

« هل هاهنا دهقان يعاش برأيه؟ » فقيل له:

« هذا جميل بن بصبهرى. » فأحضره وشاوره، فقال له جميل:

« خبّرنى أقدمت لرضى ربّك، أم رضى نفسك، أم رضى من قلّدك؟ » فقال:

« ما استشرتك إلّا برضى الجميع. » قال:

« فاحفظ عني خلالا: لا يختلف حكمك على الرعيّة، ليكن حكمك على الشريف والوضيع سواء، ولا تتّخذنّ حاجبا ليردّ عنك الوارد من أهل عملك، وليكن على ثقة من الوصول إليك، وأطل الجلوس لأهل عملك يتهيّبك عمّالك، ولا تقبل هديّة، فإنّ صاحبها لا يرضى بثلاثين ضعفا لها، فإذا فعلت ذلك فاسلخ جلودهم من فروعهم إلى أقدامهم. » قال: فعملت بوصيّته، فجبيتها خمسة عشر ألف ألف درهم.

يزيد بن أبي مسلم

وكان يزيد بن أبي مسلم - واسم أبي مسلم دينار من موالي ثقيف - كاتبا للحجّاج، وكان أخاه من الرضاعة. فتقلّد له ديوان الرسائل، وكنيته أبو العلاء.

وكان الحجّاج يجرى له في كلّ شهر ثلاثمائة درهم، فكان يعطى امرأته خمسين درهما، وينفق في ثمن اللّحم وما يتّصل به خمسة وأربعين درهما، وينفق باقيها في ثمن الدقيق وسائر عوارض نفقته، وإن فضل منها شيء ابتاع به ماء وسقاه المساكين، وربما ابتاع قطفا وفرّقها فيهم وهو مع ذلك يقتل الخلق للحجّاج.

وحكى أنّ الحجّاج عاده من علّة اعتلّها، فوجد بين يديه كانونا من طين ومنارة خشب، فقال:

« يا أبا العلاء، ما أرى أرزاقك تكفيك. » فقال:

« إن كانت ثلاثمائة لا تكفيني، فثلاثون ألفا لا تكفيني. » ويزيد بن أبي مسلم هو الذي نبّه الحسن البصري على الاستتار حتى سلم من الحجّاج، وذلك أنّه لقيه خارجا من عنده فقال له:

« توار يا با سعيد، فإني لست آمن أن تتبعك نفسه. » فتوارى عنه، وسلم منه. وقيل: إنّه استتر تسع سنين.

عبد الملك وكاتب له قبل هدية

وبلغ عبد الملك أنّ بعض كتّابه قبل هديّة، فقال له:

« أقبلت هديّة منذ ولّيتك؟ » فقال:

« أمورك، يا أمير المؤمنين، مستقيمة، والأموال دارّة، والعمّال محمودون، وخراجك موفّر. » فقال:

« أخبرني عمّا سألتك. » قال:

« نعم، قد قبلت. » قال:

« فو الله لئن كنت قبلت هديّة لا تنوي مكافأة للمهدي لها، إنّك لدنيّ ولئيم، وإن كنت قبلتها لتستكفى رجلا لم تكن لتستكفيه لولاها، إنّك لخائن، ولئن كنت نويت تعويض المهدي عن هديّته ولا تخون له أمانة ولا تثلم له دينا، فلقد قبلت ما بسط عليك لسان معامليك، وأطمع فيك ساير مجاوريك، وسلبك هيبة السلطان، وما في من أتى أمرا لم يخل فيه، من لؤم أو دناءة أو خيانة أو جهل مصنع. » وخلعه عن عمله.

خلافة الوليد بن عبد الملك

وبويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة. فخطب الناس لمّا انصرف من دفن أبيه، وقال في آخر خطبته:

« أيّها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفرد. أيّها الناس، من أبدى ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه. » ثم نزل وحاز أدوات الخلافة وأثاثها، وكان جبّارا عنيدا.

ورود قتيبة إلى خراسان

وفي هذه السنة وهي سنة ستّ وثمانين، ورد قتيبة بن مسلم إلى خراسان فقدمها والمفضّل يعرض الجند وهو يريد أن يغزو الموضع الذي يقال له: أخرون وشومان. فخطب الناس قتيبة، وحثّهم على الجهاد، وسار، فلمّا كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وعظماؤهم، فساروا معه. فلمّا قطع النهر تلقّاه تيش الأعور ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب. فدعاه إلى بلاده. فمضى مع تيش إلى الصغانيان، فسلّم إليه بلاده. وسار قتيبة إلى أخرون وشومان وهما من طخارستان فجاءه صاحبها، فصالحه على فدية أدّاها، فقبلها قتيبة ورضى، وانصرف إلى مرو، واستخلف أخاه صالحا، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسان انبجغر، وكان معه نصر بن سيّار، فأبلى يومئذ، فوهب له قرية تدعى تنجابه.

ثم قدم صالح على قتيبة بعد ذلك فاستعمله على الترمذ، وغزا قتيبة بعد ذلك بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى، فلمّا نزل بعقوتهم استنصروا السغد، واستمدّوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطرق، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر نحو شهرين، وأبطأ خبره على الحجّاج، فأشفق على الجند، وأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وهم يقتتلون في كلّ يوم. وكان لقتيبة عين يقال له تندر من العجم، فأعطاه أهل بخارى مالا على أن يفتأ عنهم قتيبة.

ذكر حيلة لتندر ما نفذت له وقتل لأجلها

أقبل تندر إلى قتيبة، فقال:

« أخلنى! » فنهض الناس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضبي، فقال تندر:

« هذا عامل يقدم عليك وقد عزل الحجّاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو. » فدعا قتيبة مولاه سيا، فقال له:

« اضرب عنق تندر! » فقتله.

ثم قال لضرار:

« لم يعلم هذا الخبر غيري وغيرك، وإني أعطى الله عهدا، إن ظهر هذا الحديث من أحد حتى تنقضي حربنا، لألحقنّك بتندر، فاملك لسانك، فإنّ انتشار هذا الحديث يفتّ في أعضاد الناس. » ثم أذن للناس، فدخلوا، فراعهم قتل تندر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة:

« ما يردعكم من قتل عبد أحانه الله. » قالوا:

« كنّا نظنّه ناصحا للمسلمين. » قال:

« بل كان غاشّا، قد مضى لسبيله بذنبه، فاغدوا على قتال عدوّكم والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به. » فغدا الناس متأهبين، فأخذوا مصافّهم، ومشى قتيبة فحضّ أهل الرايات.

فكانت بين الناس مشاولة. ثم إنّهم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مآخذها، فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثم منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزم المشركون يريدون المدينة، فاتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول، فتفرّقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل. فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من قيس، وارتحل عنهم يريد الرجوع. فلمّا سار مرحلتين نقضوا، وكفروا، وقتلوا العامل وأصحابه وجدعوا آنفهم وآذانهم، وبلغ ذلك قتيبة، رجع إليهم وقد تحصّنوا، فقاتلهم شهرا، ثم وضع الفعلة في أصل المدينة، فعلّقوها بالخشب وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فينهدم. فسقط الحائط وهم يعلّقونه، فقتل أربعين رجلا من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى، وقاتلهم، فظفر بها عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان في من أخذوا في المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش الترك على المسلمين. فقال لقتيبة:

« أنا أفدى نفسي. » فقال له سليم الناصح:

« ما تبدل؟ » قال:

« خمسة آلاف حريرة صينيّة قيمتها ألف ألف. » قال قتيبة:

« ما ترون؟ » قالوا:

« نرى أنّ فداءه زيادة في غنائم المسلمين وما عسى أن يبلغ من كيد هذا؟ » قال:

« لا والله، لا يروّع بك مسلم أبدا. » وأمر به فقتل. وأصاب في بيكند من آنية الذهب والفضّة ما لا يحصى. فولّى الغنائم والقسم عبد الله بن وألان، وكان قتيبة يسمّيه الأمين بن الأمين، وإياس بن بيهس، فأذابا الآنية والأصنام ورفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفا، فأعلماه فرجع فيه، فأمرهما أن يذيباه، فأذاباه، فخرج منه خمسون ألف مثقال. وأصابوا في بيكند شيئا كثيرا، فصار في أيدى المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان.

ذكر اتفاق عجيب مع إضاعة حزم وهو السبب الذي سمى به قتيبة عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين

كان السبب الذي سمّى قتيبة له عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين أنّ مسلما الباهليّ قال لو ألان:

« إنّ عندي مالا أحبّ أن أستودعكه. » فقال:

« أتريد أن يكون مكتوما أو لا؟ » فكره أن يعلمه الناس. قال:

« لا، بل أحبّ أن تكتمه. » قال:

« ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا. » وأمره إذا رأى رجلا جالسا في ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف. قال:

« نعم. » فجعل المسلم المال في خرج وحمله على بغل وقال لمولى له:

« انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا، فإذا رأيت رجلا جالسا، فخلّ عن البغل وانصرف. » فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده، فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظنّ أنّه قد بدا له، فانصرف، وجاء رجل من بنى تغلب، فجلس في ذلك الموضع، وحضر الرسول مع البغل والمال، فرأى الرجل جالسا، فخلّى عن البغل ورجع. فقام التغلبيّ، فلما رأى البغل والمال ولم ير معه أحدا قاد البغل إلى منزله وقبض المال إليه.

وكان ظنّ مسلم أنّ المال صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتى احتاج إليه، فلقيه وقال:

« ما لي. » قال:

« ما قبضت شيئا ولا لك عندي مال. »

فكان مسلم يشكوه ويتنقّصه. فأتى يوما مجلس بنى ضبيعة، فشكاه، والتغلبيّ جالس. فقام إليه وخلا به وسأله عن المال، فأخبره، فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج إليه، وقال:

« أتعرفه؟ » قال:

« نعم، » قال:

« والخاتم؟ » قال:

« نعم. » قال:

« فاقبض مالك. » وأخبره الخبر. فكان مسلم بعد ذلك يأتى القبائل وجميع من شكا وألان عندهم وخوّنه فيعذره ويخبرهم الخبر.

ذكر رأي للحجاج أشار به وهو بواسط على قتيبة وهو بخراسان حتى فتح بخارى وموقف لأصحاب قتيبة مستحسن

غزا قتيبة وردان خذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين، فلم يظفر من البلد بشيء. فرجع إلى مرو، فكتب إليه الحجّاج:

« صوّرها لي والطرق إليها. » فبعث إليه بصورتها. فكتب إليه الحجّاج أن:

« ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله عز وجل ممّا كان منك وائتها من مكان كذا وكذا. » فخرج قتيبة إلى بخارى وذلك في سنة تسعين، من حيث أشار به الحجّاج، فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم يستنصرهم. فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة، فحصرهم. فلمّا جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم يقاتلونهم، فقالت الأزد:

« اجعلونا على حدة وخلّوا بيننا وبين قتالهم. » فقال لهم قتيبة:

« شأنكم، تقدّموا. » فتقدّموا، فقاتلوهم وقتيبة جالس عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعا، ثم جال المسلمون وركبهم المشركون، فحطّموهم حتى دخلوا عسكر قتيبة وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، وقاتلوهم حتى ردّوهم. فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة:

« من يزيلهم لنا عن هذا الموقف؟ » فلم يقدم عليهم أحد والأحياء كلّهم وقوف. فمشى قتيبة إلى بنى تميم فقال:

« يا بنى تميم، أنتم بمنزلة الحطمة، فيوما كأيّامكم، فداؤكم أبي. » فأخذ اللواء وكيع بيده وقال:

« يا بنى تميم، أتسلمونى اليوم؟ » فقالوا:

« لا يا با المطرف. » وهريم بن طحفة المجاشعيّ على خيل بنى تميم ووكيع رأسهم. فأحجموا جميعا، فقال وكيع:

« يا هريم، قدّم! »

ودفع إليه الراية، وقال:

« قدّم خيلك. » فتقدّم هريم ودبّ وكيع في الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدوّ، فوقف وقال له وكيع:

« أقحم يا هريم. » فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصؤول وقال:

« أنا أورد وأقحم خيلى هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها. والله إنّك لأحمق. » قال:

« يا بن اللخناء لا أراك تردّ أمري. » وحدفه بعمود كان معه. فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال:

« ما بعد هذا أشدّ من هذا. » وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب فقنطر على النهر وقال لأصحابه:

« من وطّن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه. » فما عبر معه إلّا ثمانمائة رجل، فدبّ حتى إذا أعيوا [ أقعدهم ] فأراحوا حتى إذا دنوا من العدوّ جعل الخيل مجنّبتين، وقال لهريم:

« إني مطاعن القوم فاشغلهم عنّا بالخيل وقل للناس: شدّوا. » فحملوا، فو الله ما انثنوا حتى خالطوهم، وحمل هريم [ فى ] خيله عليهم، فطاعنوهم بالرماح، فما كفّوا عنهم حتى حدّروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة:

« من جاء برأس فله مائة. » فزعم موسى بن المتوكل القريعيّ، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بنى قريع كلّ رجل يجيء برأس، فيقال:

« ممّن أنت؟ » فيقول:

« قريعيّ. » فجاء رجل من الأزد برأس، فقالوا له:

« من أنت؟ » فقال:

« قريعيّ. » قال: وجهم بن زحر قاعد، فقال:

« كذب والله، أصلح الله الأمير، والله لابن عمّى. » فقال له قتيبة:

« ويحك! ما الذي دعاك إلى هذا؟ » قال:

« رأيت كلّ من جاء برأس قال: قريعيّ. فظننت أنّه ينبغي لكلّ من جاء برأس أن يقول ذلك. » فضحك قتيبة حتى استغرب.

وفتح الله على يديه بخارى، وفضّ أولئك الجمع. فلمّا تمّ له ذلك هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد ومعه فارسان حتى وقف قريبا من عسكر قتيبة وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلّمه، فأمر قتيبة رجلا، فدنا منه فسأل الصلح على فدية يؤدّيها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه وأخذ منه رهنا حتى بعث إليه بما صالحه عليه. وانصرف طرخون إلى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك.

ذكر غدر نيزك ونقضه عهد قتيبة وظفر قتيبة به بعد ذلك وقتله إياه

أمّا طرخون فقد ذكرنا أنّه هاب قتيبة فصالحه، وأمّا نيزك فإنّه هابه ونقض الصلح. وكان سبب غدره أنّه لمّا فصل من بخارى مع قتيبة رأى ما صنع طرخون فقال لأصحابه وخاصّته:

« إني قد هبت هذا العربيّ لما يتمّ على يده من الفتوح وأنا معه ولست آمنه، وذلك أنّ العربيّ بمنزلة الكلب إذا ضربته نبح، وإذا أرضيته بصبص، وإن أنا غزوته ثم أرضيته شيئا نسى ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا، فلمّا أعطاه فدية قبلها، وهو مع ذلك شديد السطوة فلو استأذنته ورجعت، كان الرأي. » قالوا:

« فافعل. » فاستأذنه في الرجوع إلى طخارستان فأذن له، فقال لأصحابه:

« أحدّوا السير. » فساروا سيرا شديدا حتى أتوا النوبهار. فنزل يصلّى فيه ويتبرّك به، وقال لأصحابه:

« إني لا أشك أنّ قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي فأقيموا ربيئة ينظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنّه لا يبلغ البروقان حتى يبلغ طخارستان. » فبعث المغيرة رجلا فلا يدركنا حتى نبلغ شعب خلم، ففعلوا، وكان كما قال: وأقبل رسول قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلمّا مرّ الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان - ومدينة بلخ يومئذ خراب - ركب نيزك في أصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة وهو بالبروقان في طلبه، فوجده قد دخل في شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى إصبهبد بلخ، وإلى باذان ملك مروروذ، وإلى سهرك ملك الطالقان، وإلى شهرك ملك الفارياب، وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله، وسأله أن يأذن له، إن اضطرّ إليه، أن يأتيه ويؤمنه في بلاده. فأجابه إلى ذلك، وضمّ ثقله.

وكان جبغويه ملك طخارستان ونيزك من عبيده، إلّا أنّه كان ضعيفا واسمه الشذّ، فأخذه نيزك وقيّده بقيد من ذهب مخافة أن يشغب عليه ويمنعه. فلمّا استوثق منه أخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه وكان العامل محمد بن سليم الناصح، وكان محبّبا مصدّقا عند الناس، وبلغ قتيبة خلع نيزك في قبل الشتاء، وقد تفرّق عنه الجند، فلم يبق معه إلّا أهل مرو، فبعث أخاه عبد الرحمن إلى بلخ في اثنى عشر ألفا إلى البروقان وقال:

« أقم ولا تحدث شيئا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو طخارستان واعلم أنّى قريب منك. » فسار عبد الرحمن، فنزل البروقان، وأمهل قتيبة، حتى إذا كان في آخر الشتاء كتب إلى أهل أبر شهر وأبيورد وسرخس، فقدموا عليه مع أهل هراة، فأوقع بالطالقان لأنّ ملكها طابق نيزك على حرب قتيبة وواعده مع من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة.

فسار قتيبة إلى الطالقان، فأوقع بأهلها وقتل منهم مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد، وبلغ مرزبان مرو الروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس. فقدم قتيبة مرو الروذ، فوجد ابنين له فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى ملك الفارياب، فتلقّاه ملكها بالطاعة، فرضي عنه ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا، وخرج صاحب الجوزجان هاربا، فترك أرضه ولحق بالجبال.

ثم مضى يتبع أخاه عبد الرحمن وكان خلّف نيزك على فم الشعب مقاتلة، وترك أيضا في قلعة من وراء الشعب مقاتلة، فأقام قتيبة أيّاما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدم منهم على شيء ولا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقا يفضى إلى نيزك إلّا الشعب أو مفازة لا تحمل العساكر. فهو في ذاك متحيّر إذ قدم عليه [ الرؤب خان ] ملك الرؤب، فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل القلعة التي من وراء الشعب. فآمنه قتيبة وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون وفلّوهم وهرب من كان في الشعب، ودخل قتيبة، والناس معه، الشعب، وسار إلى نيزك، وقدّم أخاه عبد الرحمن، وبلغ خبره نيزك، فارتحل من منزله وقطع وادي فرغانه، ووجّه بثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرّز وعبد الرحمن بن مسلم يتبعه، وأخذ عليه مضائق الكرّز، فتحرّز نيزك في الكرّز وليس إليه مسلك إلّا من وجه واحد وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدوابّ. فحصره قتيبة شهرين حتى قلّ ما في يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدريّ وجدّر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح فقال له:

« انطلق إلى نيزك، فاحتل أن يأتينى به بغير أمان، فإن أعياك وأبي فآمنه واعلم أنّى إن عاينتك وليس هو معك صلبتك، فاعمل لنفسك. » قال:

« فإن كنت فاعلا فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني. » وكان بينهما فرسخان. قال:

« نعم. » فكتب له.

فلمّا قدم على عبد الرحمن، قال:

« ابعث رجالا، فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا، فليحولوا بيننا وبين الشعب. » قال: فبعث عبد الرحمن خيلا، فكانت حيث أمرهم سليم، وحمل معه من الأطعمة والأخبصة التي تبقى أيّاما أوقارا حتى أتى نيزك، فقال له نيزك:

« خذلتني يا سليم! » قال:

« ما خذلتك، ولكن عصيتني وأسأت إلى نفسك، خلعت وغدرت. » قال:

« دعني من العتاب، ما لرأى؟ » قال:

« الرأي أن تأتيه، فقد أمحكته وليس ببارح موضعه هذا وقد اعتزم على أن يشتو بمكانه، هلك أو سلم. » قال:

« يا سليم آتيه من غير أمان. » قال:

« ما أظنّه يؤمنك، فقد ملأت قلبه غضبا، ولكني أرى ألّا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو إن فعلت ذلك أن يستحى منك ويعفو عنك. » قال:

« أترى ذاك؟ » قال:

« نعم. » قال:

« إنّ نفسي لتأبى هذا وهو إن رءانى قتلني. » قال سليم:

« ما أتيتك إلّا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وتعود حالك عنده إلى ما كانت. فأمّا إذا أبيت فأنا منصرف. » قال:

« فتغذّ الآن. » قال:

« لأظنّكم في شغل عن تهيئة الطعام ومعنا طعام كثير. » ودعا سليم بالغداء، فجاؤوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغمّ ذلك نيزك وتبيّن ذاك في وجهه. فقال له سليم:

« يا با الهيّاج، إني لك من الناصحين، إني أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق معي حتى تأتى قتيبة. » قال:

« ما كنت لآتيه على غير أمان وإنّ ظنّى به أنّه قاتلي وإن آمنني، ولكنّ

[ الأمان ] أعذر لي وأرجى أن يؤمنني. » قال:

« فقد آمنك، أفتتّهمني؟ » قال:

« لا. » قال:

« فانطلق معي. » فقال له أصحابه:

« اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلّا حقا. » فدعا بدوابّه وخرج مع سليم فلمّا انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض، قال:

« يا سليم، من كان لا يعلم متى يموت فإني أعلم متى أموت. أموت ساعة أعاين قتيبة. » قال:

« كلّا! » فركب ومضى معه جبغويه، وقد كان برأ من الجدريّ. فلمّا خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلّفها سليم على فوهة الشعب، فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم:

« هذا أوّل الشرّ. » قال:

« لا تفعل، تخلّف هؤلاء عنك خير لك. » وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مسلم.

فأرسل رسولا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن مهزوم إلى عبد الرحمن أن اقدم بهم. فحبس أصحاب نيزك، ودفع نيزك إلى ابن بسّام الليثي وكتب إلى الحجّاج يستأذنه في قتل نيزك. فجعل ابن بسّام نيزك في قبّته وحفر حول القبّة خندقا، فوضع عليه حرسا، ووجّه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي، فاستخرج ما كان في الكرّز من المتاع ومن كان فيه فقدم بهم على قتيبة فحبسهم ينتظر كتاب الحجّاج بعد أربعين يوما يأمره بقتل نيزك، فدعا به وقال له:

« هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمن أو عند سليم؟ » قال:

« لي عند سليم. » قال:

« كذبت. » وقام ودخل وردّ نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيّام ولا يظهر للناس. وتكلّم الناس في أمر نيزك، فقال بعضهم:

« لا يحلّ قتله. » وقال بعضهم:

« لا يحلّ له تركه. » وخرج قتيبة في اليوم الرابع، فجلس وأذن للناس، فقال:

« ما ترون في قتل نيزك؟ » فاختلفوا: فقال قائل:

« اقتله. » وقال قائل:

« قد أعطيته عهدا، فلا تقتله. » وقال قائل:

« لا تأمنه على المسلمين. » فدخل ضرار بن الحصين الصبّى. فقال:

« ما تقول يا ضرار؟ » قال:

« أقول: إني سمعتك تقول: أعطيت الله لئن مكّننى منه لأقتلنّه! فإن لم تفعل لم ينصرك عليه. » فأطرق قتيبة طويلا ثم قال:

« والله، لئن لم يبق من أجلى إلّا ثلاث كلمات لقلت: اقتلوه، اقتلوه، اقتلوه، » وأرسل إلى نيزك، فأمر بقتله وقتل أصحابه. فقتلوا وهم سبعمائة.

وفي رواية أخرى: إنّ قتيبة قال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة:

« هل بك قوّة؟ » قال:

« نعم، وأزيد. » وكانت في بكر أعرابيّة، قال:

« دونك هؤلاء الدهاقين. » فقتل يومئذ اثنى عشر ألفا، وصلب نيزك وابني أخيه في أصل عين تدعى:

وخش خاشان.

ثم أذن قتيبة للسيل والشذّ، فانصرفا إلى بلادهما، وأطلق جبغويه ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد.

وكان الحجّاج يقول:

« بعثت قتيبة فتى غرّا. فما زدته ذراعا إلّا زادني كراعا. »

فتح شومان وكس ونسف

ثم غزا قتيبة شومان وكسّ ونسف، ففتحها عنوة، وسرّح أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السغد، فسار حتى نزل بمرج قريب منهم، فراسله ملكها بشيء صالحه عليها، ودفع إليه رهنا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمن إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون:

« إنّك قد رضيت بالذلّ، وأعطيت الجزية وأنت شيخ! » فقال:

« إنّ عدوّنا قويّ، وأرى مداراته أدوم لنا وأجمع لشملنا. » فقالوا:

« لا حاجة لنا فيك. » قال:

« فولّوا من أحببتم. » فولّوا غورك وحبسوا طرخون. فقال طرخون:

« ليس بعد سلب الملك والحبس إلّا القتل، فيكون ذلك بيدي أحبّ إليّ من أن يليه مني غيري. » واتّكأ على سيفه حتى خرج من ظهره.

فتح خوارزم

وغزا قتيبة خوارزم، فصالحه صاحبها، ومضى منها إلى السغد، وذلك في سنة ثلاث وتسعين. وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرّزاذ على أمره، وكان خرّزاذ أصغر منه، فكان إذا بلغه أنّ عند أحد ممّن هو منقطع إلى الملك، جارية أو دابّة أو متاعا فاخرا، أرسل فأخذه، وإذا بلغه أنّ عند أحد منهم بنتا أو أختا جميلة أرسل فغصبه إيّاها، فإذا شكا إلى الملك. قال:

« لا أقوى عليه. » وقد ملأه مع هذا غيظا. فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلّ من كان يضادّه ليحكم فيه ما يرى. وبعث في ذلك رسلا ولم يطلع أحدا من مرازبته على ما كتب به. فقدم رسله على قتيبة في آخر الشتاء وقت الغزو وقد تهيّأ للغزو، فأظهر قتيبة أنّه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما أحبّ من قبل قتيبة، وجمع خوارزم شاه دهاقنته وأمناءه، فقال لهم:

« إنّ قتيبة يريد السغد وليس بغازيكم، فهلمّوا نتنعّم في ربيعنا. » فأقبلوا على الشرب والتنعّم وأمنوا عند أنفسهم الغزو، فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزار دشت، فقال خوارزم شاه لأصحابه:

« ما ترون؟ » فقالوا:

« نرى أن نقاتله. » قال:

« لكني لا أرى ذلك، لأنّه عجز عنه من هو أقوى منّا وأشدّ شوكة، ولكنّا نؤدّى إليه شيئا نصرفه به عامنا ونرى رأينا. » قالوا:

« فرأينا رأيك. » فأقبل خوارزم شاه حتى نزل في مدينة الفيل من وراء النهر ومدائن خوارزم ثلاث يطيف بها فارقين واحد، فمدينة الفيل أحصنهنّ، وقتيبة في هزار دشت بينهما نهر بلخ، فلم يعبر، فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع على أن يعينه على ملك خام جرد وأن يفي له بما كتب إليه. فقبل منه قتيبة ووفى له، وبعث أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادى خوارزم شاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلبه على أرضه، وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير. فلمّا جاء بهم عبد الرحمن أمر قتيبة بسريره، فأخرج فقتل الأسرى بين يديه.

فحكى المهلّب بن إياس أنّه أخذت سيوف الأشراف يضرب بها الأعناق فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح. فأخذ سيفي فلم يضرب به شيء إلّا أبانه. فحسدنى بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب به أن اصفح بالسيف، فصفح به قليلا، فوقع في ضرس المقتول فثلمه.

قال: فرأيت السيف وكان أبو الذيّال يقول: هو عندي بعينه.

فتح السغد

ولمّا أخذ قتيبة صلح صاحب خوارزم قام إليه المجسّر بن مزاحم السلمى فقال:

« إنّ لي حاجة فأخلنى. » فأخلاه، فقال:

« إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن. فإنّهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإنّما بينك وبينهم عشرة أيّام. » فقال له قتيبة:

« أشار عليك أحد بهذا؟ » قال:

« لا. » قال:

« فأعلمته أحدا؟ » قال:

« لا. » قال:

« فو الله، لئن تكلّم به أحد لأضربن عنقك. » فأقام يومه ذلك. فلمّا أصبح من الغد دعا عبد الرحمن فقال:

« سر في الفرسان والمرامية وقدّم الأثقال إلى مرو. » فوجّهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمن يتبع الأثقال يريد مرو يومه كلّه. فلمّا أمسى كتب إليه:

« إذا أصبحت فوجّه الأثقال إلى مرو، وسر في الفرسان والمرامية نحو السغد واكتم الأخبار فإني بالأثر. » فلمّا أتى عبد الرحمن الخبر أمضى الأثقال إلى مرو، وسار حيث أمره. وخطب قتيبة الناس فقال:

« إنّ الله، عز وجل، قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن وهذه السغد شاغرة برجلها قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا من مال الصلح الذي صالحنا عليه صاحبهم، وصنعوا به ما بلغكم. وقال الله، عز وجل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ. فسيروا على بركة الله فإني أرجو أن تكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة. » فأتى السغد وقد سبقه عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألفا، وقدم عليه قتيبة في أهل خوارزم بعد ثالثة ورابعة، فقال:

« إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. » فحصرهم شهرا، فقاتلوه في حصارهم من وجه واحد، وخاف أهل السغد طول الحصار، فكتبوا إلى أهل الشاش وإخشيذ فرغانة:

« إنّ العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم فاجتمعوا على أن تأتوهم. » فأرسلوا إليهم أن:

« أرسلوا إليهم من يشغلهم حتى نبيت عسكرهم. » وانتخبوا فرسانا من أبناء المرازبة والأساورة والأشدّاء الأبطال، فوجّهوهم وأمروهم أن يبيّتوا عسكرهم. وجاءت عيون المسلمين، فأخبروهم، فانتخب قتيبة ثلاثمائة أو ستمائة من أهل النجدة واستعمل عليهم صالح بن مسلم.

وكان ملك الشاش وإخشيذ فرغانة وخاقان لمّا أتاهم كتاب غورك قالوا:

« إنّ صاحب السغد بيننا وبين العرب، فإن وصلوا إليهم كنّا أضعف وأذلّ، فإنّا والله ما نؤتى إلّا من سفلتنا وإنّهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيّون بهذا الأمر. » فانتخبوا أبناء الملوك وفتيانهم وقالوا لهم:

« أخرجوا حتى تأتوا على عسكر قتيبة، فإنّه مشغول بحصار السغد. » وولّوا عليهم ابنا لخاقان. وبلغ قتيبة الخبر كما حكيناه من أمره، فانتخب من أهل النجدة والبأس، فكان منهم: شعبة بن ظهير، وزهير بن حيّان، وعدّة من أمثالهم، فقال لهم:

« إنّ عدوّكم قد رأوا بلاء الله عندكم وتأييده إيّاكم، فأجمعوا على أن يحتالوا ويطلبوا غرّتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم وقد فضّلكم [ الله ] بدينه، فأبلوا الله بلاءا حسنا تستوجبون به الثواب مع الذبّ عن أحسابكم. » ووضع قتيبة عيونا على العدوّ، حتى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكرهم من الليل، أخرج الذين انتخبهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم.

فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصف لهم.

وفرّق صالح خيله، وأكمن كمينا عن يساره ويمينه، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه جاء العدوّ باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف في خيله. فلمّا رأوه شدّوا عليه حتى إذا اختلفت الرماح شدّ الكمينان عن يمين وشمال. فلم ير قوم كانوا أشدّ منهم.

فتحدّث شعبة قال: إنّا لنختلف عليهم بالضرب والطعن إذ تبيّنت قتيبة، فضربت ضربة أعجبتنى وأنا أنظر إلى قتيبة فقلت:

« كيف ترى بأبي أنت وأمي؟ » فقال:

« اسكت دقّ الله فاك. » فقتلناهم، فلم يفلت منهم إلّا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلاب، ونحتزّ الرؤوس حتى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى العسكر. فلم أر قطّ جماعة جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منّا رجل إلّا معلّقا رأسا معروفا باسمه، وسلبا من جيّد السلاح وكريم المتاع ومناطق الذهب ودوابّ فره، وجئنا بالرؤوس إلى قتيبة، فقال:

« جزاكم الله خيرا عن الدين والأحساب. » ثم أكرمنى من غير أن يكون باح لي بشيء، وقرن بي في الصلة والإكرام حيّان العدوى وحليسا الشيبانى. فظننت أنّه رأى منهما مثل الذي رأى مني.

وكسر ذلك أهل السغد وطلبوا الصلح وعرضوا الفدية، فأبى قتيبة وقال:

« أنا ثائر بدم طرخون - يعنى صاحبهم - كان مولاي، وفي ذمّتى. » ووضع قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وهو في ذلك لا يقلع عنهم، وناصحه من كان معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، وبذلوا أنفسهم.

فأرسل إليهم غورك:

« إنّك إنّما تقاتلني بإخوتى وأهل بيتي من العجم فأخرج إلى العرب. » فغضب قتيبة ودعا الجدليّ وقال:

« اعرض الناس وميّز أهل البأس. » فجمعهم، ثم جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء، فجعل يدعو برجل رجل فيقول:

« ما عندك؟ » فيقول العريف:

« شجاع. » ويقول:

« ما هذا؟ » فيقول:

« محتضر. » ويقول:

« ما هذا؟ » فيقول:

« جبان. » فسمّى قتيبة الجبناء الأنتان، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم فأعطاه الشجعاء والمحتضرين، فترك لهم رثّ السلاح، ثم زحف بهم فقاتل بهم فرسانا ورجالا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدّوها بغرائر الدخن وجاء رجل حتى قام على الثلمة، فشتم قتيبة شتما قبيحا فضيحا بالعربيّة. وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم:

« اختاروا منكم رجلين. » فاختاروا. فقال:

« أيّكما يرى هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف وإن أخطأ قطعت يده. » فتلكّأ أحدهما وتقدّم الآخر، فلم يخطئ عينه. فأمر له بعشرة آلاف.

فتحدّث يحيى بن خالد بن ثابت مولى مسلم بن عمرو قال: كنت في رماة قتيبة، فلمّا فتحنا المدينة صعدت السور، فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه، فوجدته ميّتا على الحائط ما أخطأت النشّابة عينه حتى خرجت من قفاه.

ثم أصبحوا من غد فرموا المدينة حتى ثلموا فيها. وقال قتيبة:

« ألحّوا عليها حتى تعبروا الثلمة. » فقاتلوهم، ورماهم السغد بالنشّاب، فوضعوا ترستهم على أعينهم، ثم حملوا حتى صاروا على الثلمة، وكانوا طلبوا الصلح، فقال قتيبة:

« لا والله! ما نصالحكم إلّا ورجالنا على الثلمة ومجانيقنا تخطر على مدينتكم. » فصالحهم من غد على ألفي ألف ومائتي ألف في كلّ عام، على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس ليس فيه صبيّ ولا شيخ ولا ذو عيب، وعلى أن يخلوا المدينة لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجد فيدخل ويصلّى، ويوضع له فيها منبر، ويتغدّى ويخرج.

فلمّا تمّ الصلح بعث قتيبة بعشرة من كلّ خمس برجلين، فقبضوا ما صالحهم عليه، فقال قتيبة:

« الآن ذلّوا حين صار أزواجهم وأولادهم في أيديكم. » ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدا ووضعوا منبرا، فدخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم. فلمّا دخلها أتى المسجد، فصلّى وخطب، ثم تغدّى. وأرسل إلى أهل السغد:

« من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ، فإني لست خارجا منها، وإنّما صنعت هذا لكم، ولست آخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه غير أنّ الجند يقيمون فيها. »

والباهليّون يقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت ووضعت بين يديه وكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها.

فقالت الأعاجم:

« إنّ فيها أصناما من حرقها هلك. » فقال قتيبة:

« أنا أحرقها بيدي. » فجاء غورك، فجثا بين يديه وقال:

« إنّ شكرك عليّ واجب، لا تعرّض لهذه الأصنام. » فدعا قتيبة بالنار، فأخذ شعلة بيده، وخرج فكبّر، ثم أشعلها وأشعل الباب، فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضّة خمسين ألف مثقال.

جارية رابعة ليزدجرد أصابها قتيبة

ومن ملح الحديث وإن لم يكن من شرط هذا الكتاب، أنّ قتيبة أصاب بالسغد جارية رابعة من ولد يزد جرد، فقال:

« أترون ابن هذه يكون هجينا؟ » فقالوا:

« نعم، يكون هجينا من قبل أبيه. » فبعث بها إلى الحجّاج، فبعث بها الحجّاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.

ما أوصى به قتيبة عبد الله بن مسلم

ولمّا فتح قتيبة سمرقند استخلف عليها عبد الله بن مسلم وخلّف عنده جندا كثيفا وآلة من آلات الحرب كثيرة، وقال:

« لا تدعنّ مشركا يدخل بابا من أبواب سمرقند إلّا مختوم اليد، فإن جفّت الطينة قبل أن يخرج فاقتله، وإن وجدت معه حديدة أو سكّينا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلا فوجدت فيها منهم فاقتله.

وقال قتيبة لمّا جمع بين فتح خوارزم وسمرقند:

« هذا العداء لا عداء العيرين. » لأنّه افتتح خوارزم وسمرقند في عام واحد، وذلك أنّ الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين، قيل: عادى بين عيرين.

فتوح أخرى تمت في هذه المدة

وفي هذه المدة التي ذكرنا فيها أمور الحجّاج بالعراق وأخباره مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث وغزوات قتيبة والمهلّب قبله كانت غزوات لعبد الله بن عبد الملك أرض الروم، ففتح فيها المصيصة وغيرها، وغزوات لمسلمة بن عبد الملك، ففتح فيها طوانة، وغيرها، وقسطنطنين، وغزالة، وحصن سورية، وعمّورية وهرقلة، وقمولية. وغزا أيضا مسلمة بن عبد الملك في هذه المدة الترك حين بلغ الباب من ناحية أذربيجان.

وأغزى موسى بن نصير الأندلس، ففتحها، وفتح موسى بن نصير من بلاد الأندلس عدّة مدن، وقتل ملكها، وكان رجلا من أهل إصبهان، وكان ملوك الأندلس يلقّبون كما تلقّب الأكاسرة والقياصرة، فيقال لملكها: الأذرينوق، فقتله موسى بعد قتال شديد لم تكن فيها مكيدة، وكانت فيها غزوات العباس بن الوليد أرض الروم.

وغزوات لمروان بن الوليد الروم، فتحوا لهم مدنا وحصونا.

ولم يذكر في جميع ذلك ما يستفاد منه تجربة.

وقتل الحجّاج سعيد بن جبير في سنة خمس وسبعين.

ذكر كلام لسعيد بن جبير كان سبب قتله

قال: لمّا أتى الحجّاج بسعيد بن جبير، قال:

« لعن الله ابن النصرانيّة.. » يعنى خالدا القسريّ وهو الذي كان أرسل به من مكّة.

«.. أتراني ما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكّة. » ثم أقبل على سعيد، فقال:

« يا سعيد، ما أخرجك عليّ مع عدوّ الرحمن؟ » قال:

« أصلح الله الأمير، إنّما أنا رجل من المسلمين يخطئ مرّة ويصيب مرّة. » قال: فطابت نفس الحجّاج وتطلّق حتى رجونا أن يتخلّص منه. عاوده في شيء، فقال:

« إنّما كانت له بيعة في عنقي. » قال: فغضب الحجّاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال:

« يا سعيد، ألم أقدم مكّة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ » قال:

« بلى. » قال:

« ثم قدمت الكوفة واليا على العراق، فجدّدت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية؟ » قال:

« بلى. » قال:

« فنكثت لأمير المؤمنين بيعتين، ووفيت بواحدة لابن الحائك! يا حرسيّ اضرب عنقه. » ثم قام ليركب، فوضع رجله في الركاب، وقال:

« لا والله، لا أركب حتى تبوّأ مقعدك من النار. » فضربت عنقه، فالتبس عقله مكانه، فجعل يقول:

« قيودنا قيودنا! » فظنّ أنّه يريد القيود التي في رجل سعيد بن جبير، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. فكان إذا نام يراه في منامه كأنّه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول:

« ما لي ولابن جبير؟ »

موت الحجاج بن يوسف

وفيه هذه السنة مات الحجّاج بن يوسف، وكان استخلف في مرضه على حرب العراقين والصلاة بأهلها يزيد بن كبشة، وعلى خراجها يزيد بن أبي مسلم، فأقرّهما الوليد بعد موت الحجّاج، وكذلك فعل بعمّال الحجّاج، أقرّهم على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.

ودخلت سنة ستّ وتسعين

من سيرة الوليد بن عبد الملك

وفيها مات الوليد بن عبد الملك في النصف من جمادى الآخرة منها، وكان عند أهل الشام أفضل خلائفهم، وذلك أنّه بنى مساجد منها مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار وأعطى المجذّمين وأفردهم، وقال:

« لا تسألوا الناس! » وأعطى كلّ مقعد خادما وكلّ ضرير قائدا.

وفتحت في ولايته فتوح عظام. أمّا موسى بن نصير ففتح الأندلس، وبلغ قتيبة كاشغر، وهي أوّل مدائن الصين، وفتح محمد بن القاسم الهند.

وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع. فكان الناس في أيامه إذا التقوا فإنّما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والضياع.

ثم ولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، وكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري.

فلمّا ولى عمر بن عبد العزيز، كانوا يلتقون فيقولون:

« ما وردك؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وكم تصوم من الشهر؟ » وكان الوليد وسليمان وليّى عهد عبد الملك. فلمّا أفضى الأمر إلى الوليد أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان. فأبى سليمان، فأراده على أن يخلعه من بعده، فامتنع أيضا، فعرض عليه أموالا كثيرة، فأبى. فكتب إلى عمّاله بأن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه أحد إلّا الحجّاج وقتيبة.

ذكر رأي لعباد بن زياد

فقال عبّاد بن زياد:

« يا أمير المؤمنين، إنّ الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لابنك عبد العزيز من بعده، فإنّه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبي كان الناس عليه. » فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالمسير إليه، فأبطأ، واعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه. فأمر الناس بالتأهّب وأخرجت مضاربه ومات قبل أن يسير.

فتح كاشغر وما دار بين مبعوثي قتيبة وملك الصين

وكان قتيبة قد غزا في هذه السنة مدينة كاشغر وهي أدنى مدائن الصين. فلمّا بلغ فرغانة أتاه موت الوليد، فوغل قتيبة حتى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن:

« ابعث إليّ رجلا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ونسأله عن دينكم. » فانتخب قتيبة من عسكره اثنى عشر رجلا من أفناء القبائل لهم جمال وأجسام وألسن وبأس. وبعد أن سأل عنهم، فوجدهم بحيث أحبّ، فكلّمهم قتيبة وفاطنهم، فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدّة حسنة من السلاح والمتاع والجيّد من الخزّ والوشي والليّن من الثياب والرقيق والبغال والعطر، وحملهم على خيول مطهّمة تقاد معهم، ودوابّ يركبونها، وقال لهم:

« سيروا على بركة الله، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أنّى قد حلفت أن لا أنصرف حتى أطأ بلادهم و [ أختم ] ملوكهم وأجبى خراجهم. » فساروا وعليهم هبيرة بن المشمرج، فلمّا قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم. فدخلوا الحمّام، ثم خرجوا، فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، ثم مسّوا الغالية، ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلّمهم الملك ولا أحد من جلسائه، فنهضوا فقال الملك لمن حضره:

« كيف رأيتم هؤلاء؟ » قالوا:

« رأينا قوما هم نساء، ما بقي منّا أحد حين رءاهم ورأى شعورهم ووجد رائحتهم إلّا انتشر ما عنده. » قال: فلمّا كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخزّ والمطارف وغدو عليه. فلمّا دخلوا إليه قيل لهم:

« ارجعوا! » ثم قال لأصحابه:

« كيف رأيتم؟ » قالوا:

« هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك [ الهيئة ] الأولى وهم أولئك. » فلمّا كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدّوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر، وتقلّدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكّبوا القسيّ وركبوا خيولهم. فنظر إليهم صاحب الصين من منظرة له، فرأى أمثال الجبال مقبلة. فلمّا دنوا ركّزوا رماحهم، ثم أقبلوا مشمّرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا:

« ارجعوا! » فانصرفوا. فلمّا ركبوا خيولهم اختلجوا رماحهم ثم رفعوا خيولهم كأنّهم يتطاردون بها. فقال الملك لأصحابه:

« كيف ترونهم؟ » قالوا:

« ما رأينا مثل هؤلاء قطّ. » فلمّا أمسى أرسل إليهم أن ابعثوا إليّ زعيمكم وأفضلكم رجلا.

فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه:

« قد رأيتم عظيم ملكي وأنّه ليس أحد يمنعكم مني وأنتم في بلادي بمنزلة الخاتم في كفّى، وأنا سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم. » قال:

« سل. » قال:

« لم صنعتم ما صنعتم من الزيّ في اليوم الأوّل والثاني والثالث؟ » قال:

« أمّا زيّنا في اليوم الأوّل فلباسنا في أهالينا، وأمّا يومنا الثاني، فإذا أتينا أمراءنا، وأمّا يومنا الثالث فزيّنا لعدوّنا، فإذا هاج هيج كنّا هكذا. » قال:

« ما أحسن ما دبّرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلّة أصحابه وإلّا بعثت إليه من يهلكه ويهلككم معه. »

ذكر كلام لهبيرة في جواب الملك صار سببا لحمله الخراج وتهيبه الحرب

فأجابه هبيرة وقال:

« كيف يكون قليل الأصحاب من أوّل خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون، وكيف يكون حريصا من خلّف الدنيا وراءه قادرا عليها وغزاك؟ وأمّا تخويفك إيّانا بالقتل فإنّ لنا آجالا إذا حضرت فلسنا نكرهها ولا نخافها. » فقال بعد أن أطرق:

« فما الذي يرضى صاحبك؟ » قال:

« إنّه قد حلف ألّا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية. » قال:

« فإنّا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها. » قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم. ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعثوا به. » فقبل الجزية وختم الغلمة وردّهم ووطئ التراب. فقال في ذلك سوادة بن عبد الله السلولي:

لا عيب في الوفد الذين بعثتهم ** للصين لو سلكوا طريق المنهج

كسروا الجفون على العدى خوف الرّدى ** حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج

لم يرض غير الختم في أعناقهم ** ورهائن دفعت لحمل سمرّج

أدّى رسالتك التي استرعيته ** وأتاك من حنث اليمين بمخرج

قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس.

من سيرة قتيبة

وكان من سيرة قتيبة إذا بعث طلائع الفرسان أو غيرهم أن يأمر بلوح منقوش فيشقّ شقّتين، فيعطيهم شقّة ويحتبس شقّة ويأمرهم أن يدفنوها في موضع يصفه من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، ثم يبعث بعده من يستخرجها ليعلم أصادق طليعته أم لا.

خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان

وفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك وخالف قتيبة بخراسان وتأدّى أمره إلى أن قتل.

ذكر السبب في ذلك

كان سبب ذلك ما حكيناه من إجابة قتيبة الوليد إلى خلع سليمان.

فلمّا مات الوليد وبويع سليمان خافه قتيبة، وأشفق أن يولّى سليمان يزيد بن المهلّب خراسان لمودّة كانت بين يزيد بن المهلّب وبين سليمان.

فكتب قتيبة كتابا إلى سليمان يهنّئه بالخلافة ويعزّيه عن الوليد ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنّه على مثل ذلك له من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان، ثم كتب كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وبعد صوته فيهم، ويذمّ المهلّب وآل المهلّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه.

ثم كتب كتابا ثالثا فيه خلعه.

وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال:

« ادفع هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلّب حاضرا فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب الثالث. وإن قرأ الأوّل ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين. » فقدم رسول قتيبة ودخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع الكتاب الأوّل، فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، ثم دفع إليه الكتاب الثاني فقرأه ثم رمى به إلى يزيد، ثم أعطاه الكتاب الثالث فتمعّر لونه ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه [ بيده ]. ثم أمر رسول قتيبة أن ينزل. فحوّل إلى دار الضيافة. فلمّا أمسى دعا به سليمان، فأعطاه صرّة فيها دنانير، فقال:

« هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان، فسر، وهذا رسولي معك بعهده. » فخرج الباهليّ و [ معه ] رسول سليمان. فلمّا كانا بحلوان تلقّاهما الناس بخلع قتيبة واضطراب الأمر. فدفع الرسول العهد إلى رسول قتيبة وانصرف هو.

ذكر عجلة قتيبة بالخلع وما دبره من أمره

فأمّا قتيبة فإنّه لمّا همّ بالخلع استشار إخوته، فقال عبد الرحمن:

« اقطع بعثا، فوجّه فيه كلّ من تخافه، ووجّه قوما إلى مرو وسر حتى تنزل سمرقند، ثم قل لمن معك: من أحبّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فإنّه لا يقيم معك إلّا ناصح. »

وقال أخوه عبد الله:

« اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه، فليس يختلف عليك رجلان. » فأخذ برأى عبد الله فخلع سليمان ودعا الناس إلى خلعه، وخطب:

« أيها الناس، إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر، فضممت الأخ إلى أخيه والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدّرة ولا مؤخّرة، وقد جرّبتم الولاة [ قبلي، ] أتاكم أميّة، فكتب إلى أمير المؤمنين أنّ خراج خراسان لا يقيم مطبخى، ثم جاءكم أبو سعيد، فدوّم ثلاث سنين ولا تدرون: أفي طاعة أنتم أم في معصية، لم يجب فيئا، ولا نكا عدوّا. ثم جاءكم بنوه بعده. فحل تنازى إليه النساء، وإنّما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنّقة القيسي، فلم يجبه أحد.. » فغضب وقال:

«.. لا أعزّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على غير ما كسرتم قرنه يا أهل السافلة - ولا أقول العالية - يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كلّ أوب، يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفح والكذب والبخل! بأيّ يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم يوم سلمكم؟ يا أصحاب مسيلمة، يا بنى ذميم - ولا أقول: تميم - يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمّون الغدر في الجاهليّة كيسا، يا معشر عبد القيس القساة، تبدّلتم من أبر النخل أعنّة الخيل، يا معشر الأزد تبدّلتم من [ قلوس ] السفن أعنّة الحصن. الأعراب، وما الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيخ والقيصوم ومنابت الفلفل، تركبون البقر والحمر في جزيرة بنى كاوان، حتى إذا جمعتكم كما يجمع قزع الخريف، قلتم كيت وكيت. أما والله، لأعصبنّكم عصب السلمة. يا أهل خراسان! هل تدرون من واليكم؟ يزيد بن ثروان. كأنّى بأمير قد جاءكم، من جاء وحكم فغلبكم على فيئكم وظلالكم. إنّ هاهنا نارا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى. قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات. الشام أب مبرور، والعراق أب مكفور، حتى متى ينتطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم. يا أهل خراسان! انسبوني تجدوني عراقيّ الأب، عراقيّ الأمّ، عراقيّ المولد، عراقيّ الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم في ما ترون من الأمن والعافية وقد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه المزيد. » ثم نزل.

فأتاه أهل بيته، فقالوا:

« ما رأينا كاليوم قطّ، والله، ما اقتصرت على العالية وهم شعارك ودثارك، حتى تناولت بكرا وهم أعضادك وأنصارك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت تميما وهم إخوتك، ثم لم ترض حتى تناولت الأزد وهم يدك. » فقال:

« ويحكم! إني لمّا تكلّمت فلم يجيبوا غضبت، فلم أدر ما قلت. أما أهل العالية فكإبل الصدقة وقد جمعت من كلّ أوب، وأمّا بكر فإنّها أمة لا تمنع يد لامس، وأمّا تميم فجمل أجرب، وأمّا عبد القيس فما تضرب العير بذنبه، وأمّا الأزد فأعلاج أشرار لو وسمتهم لما أثمت. » فغضب الناس من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه، وكرهوا أيضا خلع سليمان. فكان أوّل من تكلّم في ذلك الأزد. فأتوا حصين بن المنذر، فأبى أن يقبل رئاستهم فأرادوا أن يولّوا عبد الله بن ذودان الجهضمي، فأبى وتدافعوها، فرجعوا إلى حصين وقالوا:

« قد تدافعنا الرئاسة، فنحن نولّيك أمرنا وربيعة تخالفك. » قال:

« لا ناقة لي في هذا ولا جمل. » قالوا:

« فما ترى؟ » قال:

« إن جعلتم هذه الرئاسة في تميم تمّ أمركم. » قالوا:

« فمن ترى من تميم؟ » قال:

« ما أرى أحدا غير وكيع. » فقال حيّان النبطيّ وكان حاضرا:

« إنّ أحدا لا يتقلّد هذا الأمر ثم يصلى بحرّه ويبذل دمه ويتعرّض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلّا هذا الأعرابى - يعنى وكيعا - فإنّه مقدام لا يبالى ما ركب ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه، وهو موتور يطلب قتيبة برئاسته التي صرفها عنه وصيّرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس الضبيّ. » فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرّا، وقيل لقتيبة:

« ليس يفسر أمر الناس إلّا حيّان. » فأراد أن يغتاله. وكان حيّان كثير الملاطفة لحشم الولاة، فلا يخفون عنه شيئا.

فدعا قتيبة رجلا وأمره بقتل حيّان وسمعه بعض الخدم. فأتى حيّان فأخبره.

فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض. وأتى الناس وكيعا فسألوه أن يقوم بأمرهم، فقال:

« نعم. » وتمثّل:

سأجنى ما جنيت وإنّ أمري ** لمعتمد على نضد ركين

وبخراسان يومئذ من المقاتلة من جميع القبائل نحو من خمسين ألفا ومن الموالي سبعة آلاف، وكان الذي يلي أمر الموالي حيّان. ويقال: إنه ديلميّ، وقيل:

بل هو من خراسان، وإنّما قيل له نبطيّ للكنته.

فأرسل حيّان إلى وكيع:

« أرأيت إن كففت عنك وأعنتك، أتجعل لي جانب نهر بلخ خراجه ما دمت واليا؟ » قال:

« نعم. » فقال للعجم:

« هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا. » قالوا:

« نعم. »

فبايعوا وكيعا سرّا. فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال له:

« إنّ الناس يختلفون إلى وكيع ويبايعونه. » فكان وكيع يأتى منزل عبد الله بن مسلم الفقير أخي قتيبة فيشرب عنده، فقال عبد الله:

« هذا يحسد وكيعا والحديث باطل. وكيع في بيتي يشرب ويسكر ويسلح في ثيابه وهذا يزعم أنّهم يبايعونه. » وجاء وكيع إلى قتيبة، فقال:

« احذر ضرارا، فإني لا آمنه عليك. » فأنزل قتيبة ذاك على الحسد الذي بينهما. وتمارض وكيع، فدسّ قتيبة ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع، فبايعه سرّا، فتبيّن لقتيبة أمره، فدعا ضرارا وقال له:

« كنت صدقتني. » قال:

« لم أخبرك إلّا بعلم، فأنزلت ذلك مني على الحسد. » قال:

« صدقت. » فأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه. فوجده الرسول قد طلى على رجليه مغرة وعلّق عليها خرزا وعنده من يرقيه. فقال له:

« أجب الأمير. » قال:

« قد ترى ما برجلي. » فرجع الرسول إلى قتيبة، فأعاده إليه وقال:

« ايتنى به محمولا على سرير. » قال:

« لا أستطيع. » فقال قتيبة لشريك بن الصامت، وكان على شرطته، ولرجل آخر من غنيّ:

« انطلقا إلى وكيع فأتيا به، فإن أبي فاضربا عنقه. » ووجّه معهما خيلا فقال هريم بن طخفة:

« أنا آتيك به أصلحك الله. » قال:

« فانطلق. » قال هريم: فركبت برذوني وركضت مخافة أن يردّنى، فأتيت وكيعا وقد سبق إليه الخبر والخيل يأتيه.

فخرج وخرج معه هريم وهو على يمينه. ونادى وكيع في الناس، فأقبلوا أرسالا من كلّ وجه، وأقبل في الناس وهو يقول:

قرم إذا حمّل مكروهة ** شدّ الشراسيف لها والحزيم

وأمر قتيبة رجلا فقال:

« ناد في الناس: أين بنو عامر؟ » فنادى:

« أين بنو عامر؟ » فقال له مجفر بن جزء الكلابيّ:

« وقد كان جفاؤهم حيث وضعتهم. » قال:

« ناد: أذكّركم الله والرحم. » قال مجفر:

« أنت قطعتها. » قال:

« ناد لكم العتبى. » فناداه مجفر وغيره:

« لا أقالنا الله إذا. » فدعا قتيبة ببرذون له مدرّب كان يلجأ إليه في الزحوف، فقرّب إليه، فجعل يقمص حتى أعياه. فلمّا رأى ذلك عاد إلى سريره وقال:

« دعوه، هذا أمر يراد. » وجاء حيّان النبطي في العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله مسلم، وقال لحيّان:

« احمل على أحد هذين الطرفين. » قال:

« لم يأن لي ذلك. » فغضب عبد الله وقال:

« ناولني قوسي. » فقال:

« ليس هذا يوم قوس. » وأرسل وكيل إلى حيّان:

« أين ما وعدتني؟ » فقال حيّان لابنه:

« إذا رأيتنى قد حوّلت قلنسوتي ومضيت، فمل بمن معك من العجم إليّ. » ففعل، ومالت الأعاجم إلى عسكر وكيع، فكبّر أصحابه. وبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس، فرمى بسهم فأصاب هامته، فحمل إلى قتيبة مائل الرأس، وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء فقتلوه، ودنوا من قتيبة، فدعا بدابّة فأتى به، فلم يقرّ ليركبه، فقال:

« إنّ له لشأنا. » ورجع فجلس، وجاء الناس حتى بلغوا فسطاطه، فخرج عنه من كان حوله فقتل وقتل معه من بنى مسلم أحد عشر رجلا سبعة منهم لصلب مسلم، وأربعة من بنى أبنائهم، فصلبهم وكيع، وهم: قتيبة، وعبد الرحمن وعبيد الله، وعبد الله الفقير، وصالح، ويسار، ومحمد بنو مسلم، وكثير بن قتيبة، ومفلّس بن عبد الرحمن، ورجلان آخران، ولم ينج من صلب مسلم غير عمرو، وكان عامل الجوزجان، وضرار أخوه استنقذ أخواله، وكانت أمّه الغرّاء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة. وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزميّة، فوضعت بعد ليزيد بن المهلّب، فأخذها، فهي أمّ خليدة.

ولمّا قتل قتيبة صعد وكيع المنابر، فعلم منه أنّه يأتى بآبدة وهوجة.

فصعد معه عمارة بن خئيّه، فتكلّم فأكثر، فقال وكيع:

« دعنا من هذرك وقذرك. » وتكلّم وكيع فقال:

« مثلي ومثل قتيبة، ما قال الأوّل:

من ينك العير ينك نيّاكا

من أيّ يوميك من الموت تفرّ ** أيوم لم يقدر، أم يوم قدر

«.. أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتّال، والله لأقتلنّ ثم لأقتلنّ، ثم لأصلبنّ. إني لوالغ دماء، إلّا أنّ مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم، والله ليصيرنّ القفيز في السوق غدا بأربعة، أو لأصلبنّه. صلّوا على نبيكم . » ثم نزل.

وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له:

« إنّ الأزد أخذته. » فخرج وكيع وهو يقول:

« دهدرّين سعد القين! والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتى أوتى بالرأس، أو يذهب برأسى معه. » ودعا بخشب، فقال:

« إنّ هذه الخيل لا بدّ لها من فرسان يتهدّد بالصلب. » فقال له حصين:

« يا أبا مطرّف، توتى به فاسكن. » وذهب حصين إلى الأزد، وهو سيّدهم، فقال:

« أحمقى أنتم؟ بايعناه وأعطيناه المقادة وعرّض نفسه، ثم تأخذون الرأس! أخرجوه، لعنه الله من رأس! »

فجاؤوه به، فوهب لمن جاء به ثلاثة آلاف درهم. وبعث بالرأس مع رجال من القبائل وعليهم سليط، ولم يبعث من بنى تميم أحدا.

ووفّى لحيّان النبطي بما كان وعده به.

فقال رجل من عجم خراسان:

« يا معشر العرب! قتلتم قتيبة، والله لو كان منّا ثم مات فينا لجعلناه شهيدا وحفظنا تابوته إلى الحشر نستفتح به إذا غزونا. » وقال الإصبهبذ يوما لرجل:

« يا معشر العرب! قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيّد العرب. » قال:

« نعم، فأيّهما كان أهيب في صدوركم وأعظم قدرا عندكم؟ » فقال له الإصبهبذ:

« لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به مكبّلا بالحديد ويزيد معنا في بلادنا وال علينا، لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. » ورثى الشعراء قتيبة، فأكثروا.

وولّى سليمان يزيد بن المهلّب العراق مكان الحجّاج حربها وخراجها وصلاتها

.

ذكر رأي رءاه يزيد لنفسه عاد مكروها عليه

فكرّ يزيد في نفسه فقال:

« إنّ العراق قد أخربها الحجّاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذّبتهم عليه صرت مثل الحجّاج وأعيد عليهم مثل تلك السجون التي قد عافاهم الله منه أو متى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجّاج لم يقبل مني. » فأتى يزيد سليمان وقال له:

« أدلّك على رجل بصير بالخراج تولّيه إيّاه فتكون أنت الذي تأخذه به؟ » قال:

« نعم. » قال صالح بن عبد الرحمن: قال:

« قد قبلنا رأيك. » وولّاه. فأقبل يزيد إلى العراق وتقدّم صالح فنزل واسطا. فلمّا قدم يزيد خرج الناس يتلقّونه. وقيل لصالح:

« هذا يزيد وقد خرج الناس يتلقّونه. » فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح عليه درّاعة وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد فسايره، فلمّا دخل المدينة، قال له صالح:

« قد فرّغت لك هذه الدار. » وأشار إلى دار. فنزلها يزيد واحتمل ذلك، ثم ضيّق صالح على يزيد فلم يملكه شيئا.

واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح. فقال له يزيد:

« أكتب عليّ ثمنها. » واشترى متاعا كثيرا وصكّ صكاكا إلى صالح لباعتها فلم ينفذ. فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال:

« هذا عملي بنفسي. » فلم يلبث [ أن جاء ] صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد:

« ما هذه الصكاك التي لا يقوم لها الخراج. قد أنفذت لك منذ أيّام صكا بمائة ألف درهم وعجّلت لك أرزاقك، ثم سألت مالا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء ولا يرضى به أمير المؤمنين وتؤخذ به. » فقال له يزيد:

« يا با الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرّة. » قال:

« فإني أجيزها، فلا تكثرنّ عليّ. » قال:

« لا. » وضجر يزيد بصالح، فكان لا يصل معه إلى شيء. فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال له:

« إني أريدك لأمر قد أهمّنى فأحبّ أن تكفينيه ولك مائة ألف. » قال:

« مرني بما شئت. » قال:

« أنا في ما ترى من الضيق، قد أضجرنى ذلك، وبلغني أنّ أمير المؤمنين ذكر خراسان لعبد الملك أخي، فاخرج واحتل حتى يسمّيها لي. » قال:

« أفعل، سرّحنى إلى أمير المؤمنين في بعض الأمور فإني أرجو أن آتيك بعهدك عليها. »

ما احتال به الأهتم حتى قلد يزيد خراسان

فكتب معه يزيد كتابين إلى سليمان وذكر في أحدهما أمر العراق وأثنى فيه على ابن الأهتم وعلمه بها. ثم وجّهه على البريد وأعطاه ثلاثين ألفا، فسار سبعا.

ثم قدم على سليمان فباسطه سليمان وحادثه وقال له:

« إنّ يزيد بن المهلّب كتب إليّ يذكّر علمك بالعراق وبخراسان، فكيف علمك بها؟ » قال:

« يا أمير المؤمنين، بها ولدت وبها نشأت، فلي بها خبر وعلم. » قال:

« ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك، فأخبرني عن خراسان. » قال:

« أمير المؤمنين أعلم بمن يريد أن يولّى، فإن ذكر أحدا أخبرته برأى فيه: هل يصلح أم لا. » فسمّى سليمان رجلا من قريش. فقال:

« يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان. » قال:

« فعبد الملك بن المهلّب. » قال:

« ولا هو. » حتى عدّد رجالا كان في آخرهم وكيع بن أبي سود. فقال:

« يا أمير المؤمنين، ما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندي يدا من وكيع. لقد أدرك بثأرى وشفاني من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقّا عليّ وإنّ النصيحة تلزمني له. إنّ وكيعا لم يجتمع له قطّ ثلاثمائة عنان إلّا حدّث نفسه بغدرة. خامل في الجماعة نابه في الفتنة. » قال:

« صدقت. ويحك! فمن لها؟ » قال:

« رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين. » قال:

« فمن هو؟ » قال:

« لا أبوح به إلى أن يضمن أمير المؤمنين ستر ذلك عليّ وأن يجيرني منه إن علم. » قال:

« نعم، سمّه لي من هو؟ » قال:

« يزيد بن المهلّب. » قال:

« ويحك! ذاك بالعراق، والمقام بها أحبّ إليه من المقام بخراسان. » قال:

« قد علمت يا أمير المؤمنين، ولذلك استجرت بك، ولكن تكرهه على ذلك، فتستخلف على العراق، ويسير هو. » قال:

« أصبت. » فكتب عهده على خراسان، وأنفذه إليه على يد ابن الأهتم. فقدم به على يزيد، فدعا يزيد ابنه مخلدا، فقدّمه إلى خراسان، فسار من يومه، ثم سار يزيد، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكوفي، وصيّر مروان بن المهلّب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، وعلى الكوفة بشير بن حسّان النهدي. ولمّا قرب مخلد من مرو تلقّاه الناس، فتثاقل وكيع، وكان مخلد قدّم عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي حين دنا من مرو. فأرسل عمرو بن عبد الله إلى وكيع:

« انطلق إلى أميرك فتلقّه ولا تكن أعرابيّا أحمق جافيا. » وأخرجه على كره. فلمّا بلغ الناس إلى مخلد ترجّلوا له غير وكيع ومحمد بن حمران وعبّاد بن لقيط. فجاءهم قوم، فأنزلوهم.

ولمّا قدم مخلد مرو حبس وكيعا، فعذّبه وأصحابه قبل قدوم أبيه.

فتحدّث إدريس بن حنظلة قال: لمّا قدم مخلد مرو حبسني، فجاءني ابن الأهتم، فقال لي:

« أتريد أن تنجو؟ » قلت:

« نعم. » قال:

« أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المرّى إلى قتيبة في خلع سليمان. » فقلت له:

« يا بن الأهتم إيّاى تخدع عن ديني؟ » قال: فدعا بطومار وقال:

« إنّك أحمق. » وكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قريش إلى قتيبة:

« إنّ الوليد قد مات وإنّ سليمان باعث هذا المزونيّ على خراسان، فاخلعه. » فقلت:

« يا بن الأهتم تهلك والله نفسك. لئن دخلت عليه لأعلمنّه أنّك كتبتها. » فلم يحفل وقال:

« قد قلت: إنّك أحمق. »

ذكر حيلة تمت على مسلمة بن عبد الملك في هذه السنة بأرض الروم حتى كاد يهلك هو والمسلمون

كان وجّه أخاه مسلمة إلى قسطنطينية وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه أمره. فشتا بها وصاف، وذلك أنّه لمّا دنى من قسطنطينية أمر كلّ فارس أن يحمل على عجز فرسه مدّين من طعام حتى يأتى به قسطنطينية. فأمر بالطعام فألقى ناحية مثل الجبال. ثم قال للمسلمين:

« لا تأكلوا منه شيئا. » فغبروا في أرضهم وازدرعوا، وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس. ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنّه شيء طول الصيف، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع.

فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهرا لأهلها ومعه وجوه أهل الشام. واتفق موت ملك الروم، فراسلوا إليون صاحب أرمينية، فشخص إليون من أرمينية ومكر في طريقه بمسلمة، ووعده أن يسلّم إليه قسطنطينية، وكانت قد راسلت الروم إليون:

« إن صرّفت عنّا مسلمة ملّكناك. » ووثّقوا له. فلمّا أتى إليون مسلمة، قال له:

« إنّك لا تصدقهم القتال ولا تزال تطاولهم ما دام هذا الطعام عندك، وقد أحسّوا بذلك، فلو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم. » فأحرقه، ووجّه مسلمة معه من شيّعه حتى نزل بقسطنطينية، وملّكه الروم.

فكتب إلى مسلمة يخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له حتى يدخل من الطعام من النواحي، [ وما ] يعيش به القوم ويصدّقونه بأنّ أمره وأمر مسلمة واحد وأنّهم في أمان من [ السباء ] والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة واحدة في حمل الطعام وقد [ هيّأ ] إليون السفن والرجال. فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلّا ما لا يذكر، حمل [ فى ] ليلة واحدة، وأصبح إليون محاربا وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب [ بها ]. فلقى الجند ما لم يلق جند قطّ، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من عسكره وحده. وأكلوا الدوابّ والجلود وأصول الشجر والعروق [ و ] الورق، وكلّ شيء حتى الروث، وسليمان مقيم بدابق ونزل الشتاء، فلم يقدر [ على ] أن يمدّهم حتى هلك سليمان.

سليمان يحرض يزيد بذكر فتوح قتيبة

فأمّا يزيد بن المهلّب فإنّه أقام ثلاثة أشهر، وكان سليمان بن عبد الملك كلّما افتتح قتيبة فتحا قال ليزيد بن المهلّب:

« أما ترى ما صنع الله على يدي قتيبة؟ » فيقول له يزيد بن المهلّب:

« ما فعلت جرجان [ التي ] حالت بين الناس والطريق الأعظم وأفسدت قومس وأبر شهر. » ويقول:

« هذه الفتوح ليست بشيء في جرجان. » وكذلك كانت حال جرجان، لأنّ سعيد بن العاص كان صالح أهل جرجان. ثم إنّهم امتنعوا وكفروا، ولم يأتهم أحد بعد سعيد، ومنعوا ذلك الطريق.

فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته إلّا بوجل وخوف. كان الطريق من فارس إلى كرمان، فأوّل من صيّر الطريق من قومس قتيبة بن مسلم. ثم غزا مصقلة خراسان في أيّام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب هو وجنده بالرّويان، فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدوّ عليهم بمضائقه، فقتلوا جميعا، فهو يسمّى:

وادي مصقلة، وكان يضرب به المثل: « حتى يرجع مصقلة من خراسان ».

اهتمام يزيد بن المهلب بجرجان

فلمّا ولى يزيد بن المهلّب لم تكن له همّة غير جرجان. فخرج إلى دهستان، وبها صول التركيّ مع الأتراك، وهناك جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهي من جرجان ممّا يلي خوارزم. فكان صول يغير على فيروز مرزبان جرجان، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا، فيصيب من أطرافهم، ثم يرجع إلى البحيرة ودهستان.

فوقع بين فيروز وبين ابن عمّ له يقال له: المرزبان، منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل المياسان، فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلّب وأخذ صول جرجان. فلمّا قدم على يزيد بن المهلّب قال له:

« ما أقدمك؟ » قال:

« خفت صولا فهربت منه. » فقال له يزيد:

« هل من حيلة لقتاله؟ » قال:

« نعم، وشيء واحد إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده. » قال:

« ما هو؟ » قال:

« أن يخرج من جرجان حتى ينزل البحيرة، فإن أتيته هناك وحاصرته ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجان، واجعل على ذلك جعلا ومنّه، فإنّه يبعث بكتابك إلى صول يتقرّب به إليه، لأنّه يعظّمه، فيتحوّل على جرجان فينزل البحيرة. »

ذكر هذه الحيلة التي احتال بها يزيد بمشورة فيروز حتى ظفر به

فكتب يزيد بن المهلّب إلى صاحب طبرستان:

« إني أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت، إن بلغه أنّى أريد ذلك أن يتحوّل إلى البحيرة فينزلها، وإن يتحوّل إليها لم يقدر عليه، وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان، فلم يأت البحيرة، حملت إليك خمسين ألف مثقال، فاحتل له بكلّ حيلة حتى تحبسه بجرجان، فإن أقام ظفرت به. » فلمّا أتى الإصبهبذ الكتاب تقرّب به إلى صول. فلمّا أتى صولا الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها وبلغ يزيد مسيره من جرجان إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها. فخرج إلى جرجان في ثلاثين ألفا ومعه فيروز، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، وعلى سمرقند وكسّ ونسف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلّب.

دخول يزيد بن المهلب جرجان

وأقبل حتى أتى جرجان ولم تكن يومئذ مدينة، إنّما هي جبال محيطة بها أبواب ومخارم يقوم عليها الرجل فلا يقدم عليه أحد. فدخلها يزيد لم يعازّه أحد، وأصاب أموالا، وهرب المرزبان عمّ فيروز، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، وأناخ على صول، فحاصرهم، وكان صول يخرج إليه في الأيّام فيقاتله ثم يرجع إلى حصنه، حتى عجزوا وانقطعت عنهم المواد.

فأرسل إليه صول يطلب الصلح، فقال يزيد:

« لا إلّا على حكمي. »

فأبى. فأرسل إليه:

« إني أصالحك على نفسي ومالي وثلاثمائة من أهل بيتي وخاصّتى على أن تؤمننا فننزل البحيرة. » فأجابه إلى ذلك. فخرج بماله وغلمانه ممّن أحبّ، وصار مع يزيد. فقتل يزيد من الأتراك جماعة صبرا ومن على آخرين، وقال الجند ليزيد:

« أعطنا أرزاقنا. » فدعا إدريس بن حنظلة العمّى، فقال له:

« يا بن حنظلة، أحص لنا ما في البحيرة حتى نعطى الجند. » فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد:

« فيها ما لا يستطاع إحصاؤه في هذه السرعة. وهناك ظروف. فتحصى الجواليق وتعلم ما فيها، ثم تقول للجند: أدخلوا فخذوها. فمن أخذ شيئا عرفنا ما أخذ من حنطة، أو شعير، أو أرز، أو سمسم، أو عسل، فأثبتناه عليه. » قال:

« نعم ما رأيت. » ففعلوا ذلك، وقال للجند:

« خذوا. » فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابا أو طعاما، أو حمل من شيء فيكتب على كلّ رجل ما أخذ، فأخذوا شيئا كثيرا.

طمع يزيد بن المهلب في طبرستان

ولمّا فرغ يزيد من صول طمع في طبرستان أن يفتتحها، وهمّ بالمسير إليها.

فاستعمل عبد الله المعمر اليشكري على دهستان البياسان، وضمّ إليه أربعة آلاف رجل، وسار إلى آخر حدود جرجان مما يلي طبرستان، فاستعمل اندرشان أسد بن عمرو، ويقال: بل ابنا لعبد الله بن المعمّر وضمّ إليه أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ، فراسله الإصبهبذ يسأله الصلح، وأن يخرج من طبرستان ولا يتوغّلها. فأبى يزيد، ورجا أن يفتتحها. فوجّه أخاه أبا عيينة من وجه وخالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه. وقال:

« إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس. » فسار أبو عيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة، ووصّى يزيد أبا عيينة بأن يشاور هريما وقال:

« هو ناصح وذو رأى. » وأقام يزيد معسكرا واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان والديلم، فأتوه والتقوا في سفح جبل، فانهزم المشركون، واتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون واتّبعهم المسلمون، فرماهم وهم فوقهم بالحجارة والنشّاب، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضا يتساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكفّ العدوّ عن اتّباعهم.

وكتب الإصبهبذ إلى المرزبان ابن عمّ فيروز وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان:

« إنّا قد قتلنا يزيد وأصحابه، فاقتل أنت من في البياسان من العرب. » فخرج إلى البياسان والمسلمون غارّون في منازلهم فقتلوا جميعا في ليلة.

وأصبح عبد الله بن المعمّر مقتولا في أربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحدا وقتل من بنى عمّ يزيد خمسون رجلا، وكتب المرزبان إلى الإصبهبذ:

« إني قد قتلت من عندي من العرب، فخذ أنت المضائق والطرق على من بقي منهم قبلك. » وبلغ يزيد والمسلمين مقتل عبد الله بن المعمّر وأصحابه، فأعظموا ذلك وهالهم.

ففرغ يزيد إلى حيّان النبطيّ وقال:

« لا يمنعنّك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين. » وكان يزيد قد غرّم حيّان مائتي ألف درهم - وسنذكر ذلك - وشكا يزيد إليه ما يرى بالمسلمين من الوهن بما بلغهم عن جرجان ثم بما أخذ عليهم الإصبهبذ من الطرق، وقال له:

« اعمل في الصلح. » قال:

« أفعل. » فأتى حيّان الإصبهبذ وقال له:

« أنا رجل منكم وإن كان الدين فرّق بيني وبينكم، وأنا لك ناصح، فإنّك أحبّ إليّ على كلّ حال من يزيد، وقد بعث يستمدّ وأمداده منه قريبة، وإنّما أصابوا منه طرفا، ولست آمن أن يأتيك ما لا تقوم له. فأرح نفسك منه وصالحه، فإنّك إن صالحته صيّر حدّه على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا. » فقبل الإصبهبذ منه وصالحه على سبعمائة ألف، ويروى خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين وأربعمائة رجل على يد كلّ رجل جام فضّة وسرقة حرير وكسوة. ثم رجع إلى يزيد وقال:

« ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه. » قال:

« من عندهم، أو من عندنا؟ » قال:

« من عندهم. » وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان. فبعث من يحمل ما صالحهم عليه حيّان، وانصرف إلى جرجان.

فأمّا سبب تغريم يزيد حيّان مائتي ألف درهم وخوفه أنّه لا يناصحه، فهو أنّ مخلد بن يزيد كان ببلخ ويزيد يومئذ بمرو، وعرض لحيّان ما احتاج فيه إلى مكاتبة مخلد. فأحضر كاتبه وأملى عليه:

« من حيّان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد. » فقال له ابنه مقاتل بن حيّان:

« يا أبه تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك. » فقال:

« نعم يا بنيّ. فإن لم يرض لقي ما لقي قتيبة. » وتمّم كتابه وأنفذه إلى مخلد. فبعث مخلد بالكتاب إلى أبيه يزيد فأغرمه يزيد مائتي ألف درهم.

يزيد بن المهلب يفتح جرجان الفتح الآخر

ثم إنّ يزيد بعد انصرافه من طبرستان ومصالحة الإصبهبذ قصد جرجان وأعطى الله عهدا لئن ظفر بهم ألّا يقلع عنهم ولا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين ويأكل منه لغدرهم بجنده ونقضهم لعهده.

فلمّا بلغ المرزبان أنّه قد صالح الإصبهبذ وتوجّه إلى جرجان ضاقت به الأرض، فجمع أصحابه وأتى وجاة وتحصّن فيها وصاحبها لا يحتاج إلى عدّة من طعام وشراب، وأقبل حتى نزل عليها وهم متحصّنون فيها وحولها غياض عظيمة، فليس يعرف لها إلّا طريق واحد. فأقام على ذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء ولا يعرف لهم ما يأتى إلّا من وجه واحد، فكانوا يخرجون إليه في الأيّام ويقاتلونه ثم يرجعون إلى حصنهم.

فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عسكر يزيد بن المهلّب إلى الصيد ومعه شاكريّة له، فأبصر وعلا في الطريق يرقى في الجبل فاتّبعه وقال لمن معه:

« قفوا مكانكم. » ووقل في الجبل يتبع الوعل، فما شعر بشيء حتى اطّلع على عسكر العدوّ، فرجع يريد أصحابه وخاف ألّا يهتدى إن عاد، فجعل يحرق قباءه وعمامته، ويعقد على الشجر علامات حتى ظفر بأصحابه ينتظرون. ثم رجع إلى العسكر وأتى من أوصله إلى يزيد.

فلمّا رءاه يزيد قال:

« ما عندك؟ » فقال:

« أتريد أن تدخل وجاة بغير قتال؟ » قال:

« نعم. » قال:

« جعالتي؟ » قال:

« احتكم. » قال:

« أربعة آلاف. » قال:

« بل أضعافها. » قال:

« عجّلوا إلى أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الأحساب. » فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال:

« الطريق لا يحتمل هذه الجماعة، لا لتفاف الغياض. »

فاختار منهم ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال لابنه:

« إن غلبت على الحياة، فلا تغلبن علي الموت، وإيّاك أن أراك عندي منهزما. » وقال للناس:

« إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا حتى إذا كان في السحر فكبّروا، ثم توجّهوا نحو باب المدينة فإنّكم تجدوني قد نهضت بجميع الناس إلى بابها. » فلمّا أشرف ابن زحر على المدينة أمهل حتى إذا كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها، مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا إلّا قتله.

وكبّر ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قطّ، لم يرعهم إلّا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبّرون. فدهشوا وأقبلوا لا يدرون أين يتوجّهون.

غير أنّ عصابة منهم أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة فدقّت يد جهم وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبّثوهم إلّا قليلا حتى قتلوهم.

يزيد بن المهلب يدخل باب جرجان ويبر يمينه في أهلها

وسمع يزيد بن المهلّب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد من يمنعه ولا يدفع عنه كبير دفع. ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجوذع فرسخين عن يمين الطريق وعن يساره، فصلبهم أربعة فراسخ وسبى وأصاب ما كان فيها وقاد أربعين ألفا إلى اندر هرز وادي جرجان وقال:

« من طلبهم بثأر فليقتل. »

فكان الرجل من المسلمين يقتل الجماعة في الوادي، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ولتبرّ يمينه، فطحن واختبز وأكل. وهي مدينة جرجان، ولم يكن جرجان يومئذ مدينة.

وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد العزيز بالفتح، وعظّم ذلك قال:

« إنّ الله فتح لأمير المؤمنين من جرجان وطبرستان ما أعيا سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباذ، وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، ومن بعدهما من خلفاء الله. » وكتب في الكتاب أن:

« قد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كلّ ذي حقّ حقّه من الفيء والغنيمة ستّة آلاف ألف وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله. »

ذكر رأي أشير به على يزيد بن المهلب فلم يقبله فعاد وبالا عليه

فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرّة:

« لا تكتب بتسمية مال، فإنّك من ذلك بين أمرين: إمّا استكثره فأمرك بحمله، وإمّا سخت نفسه بذلك به فسوّغكه فتتكلّف له الهديّة ولا يأتيه من قبلك شيء إلّا استقلّه، ويحصّل الكتّاب ما سمّيته في دواوينهم فيبقى مخلدا عليك، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالتفح وسله القدوم عليه، ثم تشافهه بما أحببت وتقصّر في الكتاب. فإنّك إن تقصّر عمّا أصبت أحرى من أن تكثّر. »

فأبى يزيد وأمضى الكتاب.

ودخلت سنة تسع وتسعين

وفيها توفّى سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر ليال مضين من صفر.

فكانت خلافته سنتين وسبعة أشهر. وكانوا يتبرّكون به ويسمونه مفتاح الخير، وذاك أنّه ذهب عنهم الحجّاج، فأطلق الأسرى وخلّى أهل السجون وأحسن إلى الناس.

خلافة عمر بن عبد العزيز

واستخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز على ما سنحكيه. وهو أنّه لمّا مرض مرضته التي مات فيها، عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ.

قال رجاء بن حبوة: فقلت:

« ما تصنع يا أمير المؤمنين، إنّه ممّا يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح. » فقال سليمان:

« أنا أستخير الله وأنظر فيه، ولم أعزم عليه. » قال: فمكث يوما أو يومين، ثم خرّقه ودعاني، فقال:

« ما ترى في داود بن سليمان؟ » يعنى ابنه. قلت:

« هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدرى أحيّ هو أم ميّت. » فقال لي:

« فمن ترى؟ » قلت:

« رأيك يا أمير المؤمنين. » « وأنا أريد أن أنظر من يذكر. » قال:

« كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ » فقلت:

« أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما. » فقال:

« هو والله على ذلك. » ثم قال:

« والله، لئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه، لتكوننّ فتنة، ولا يتركونه يلي أبدا عليهم إلّا أن يجعل أحدهم بعده. » ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم. قال:

« فأجعل يزيد بن عبد الملك بعده، فإنّ ذلك ممّا يسكّنهم ويرضون به. » قلت:

« رأيك. » فكتب:

« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. إني ولّيتك الخلافة من بعدي. ومن بعدك يزيد بن عبد الملك.

فليسمع المؤمنون له وليطيعوا، وليتّقوا الله ولا يختلفوا، فيطمع فيهم. » وختم الكتاب، وبعث به إلى صاحب شرطته يأمره أن يجمع أهل بيته ولمّا اجتمعوا قال سليمان لرجاء:

« اذهب بكتابي إليهم، فأخبرهم أنّه كتابي، ومرهم فليبايعوا من ولّيت فيه. » ففعل رجاء. فلمّا قال رجاء ذلك لهم قالوا: « ندخل ونسلّم على أمير المؤمنين. » قال:

« نعم. »

فدخلوا. فقال لهم سليمان:

« في هذا الكتاب - وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إلى يد رجاء بن حبوة - عهدي. فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سمّيت في هذا الكتاب. » فبايعوه رجلا رجلا.

قال: ثم خرج بالكتاب مختوما.

قال رجاء: فلمّا تفرّقوا جاءني عمر بن عبد العزيز، فقال:

« إني أخشى أن يكون هذا قد أسند إليّ شيئا من الأمر. فأنشدك الله وحرمتي ومودّتى إلّا أعلمتنى إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتى حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة. » قال رجاء:

« لا والله، ما أنا بمخبرك حرفا. » فذهب عمر غضبان.

قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال:

« يا رجاء، إنّ لي بك حرمة ومودّة قديمة وعندي شكر، فأعلمني فإن كان إليّ علمت، وإن كان إلى غيري تكلّمت، فليس مثلي قصّر به ذلك، ولك الله عليّ ألّا أذكر من ذلك شيئا أبدا. » قال رجاء: فأبيت وقلت:

« لا والله، لا أخبرك حرفا واحدا ممّا أسرّ إليّ. » قال: فانصرف هشام وقد يئس وضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول:

« فإلى من إذا نحّيت عني! أتخرج من بنى عبد الملك؟ »

قال رجاء: ودخلت على سليمان وهو يجود بنفسه، فلقّنته الشهادة، وحرّفته إلى القبلة، وسجّيته، وأجلست على الباب من أثق به، ووصّيته ألّا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد. ثم خرجت وأرسلت إلى صاحب الشرطة حتى جمع أهل بيت أمير المؤمنين في مسجد دابق، وتوسّطتهم إلى المنبر، وقلت:

« بايعوا! » فقالوا:

« قد بايعنا مرّة ونبايع أخرى. » قلت:

« هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا من سمّى في هذا الكتاب المختوم. » فبايعوا الثانية رجلا رجلا. فلمّا بايعوا بعد موت سليمان رأيت أنّى قد أحكمت الأمر. قلت:

« قوموا إلى صاحبكم فقد مات. » قالوا:

« إنّا لله وإنّا إليه راجعون. » وقرأت الكتاب عليهم. فلمّا انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز، نادى هشام بن عبد الملك:

« لا نبايعه أبدا. » قلت:

« أضرب والله عنقك. قم فبايع من قد بايعته مرّتين. » فقام يجرّ رجليه.

قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أخطأه.

ولمّا كفّن سليمان وصلّى عليه عمر ودفنه وأتى بمراكب الخلافة من البراذين والخيل والبغال، ولكلّ دابّة سائس مفرد، فقال:

« ما هذا؟ » قالوا:

« مراكب الخلافة. » قال:

« دابّتى أوفق لي. » وركب دابّته وصرفت تلك الدوابّ. ثم أقبل سائرا. فقيل له:

« منزل الخلافة. » فقال:

« فيه عيال أبي أيّوب - يعنى سليمان - وفي فسطاطى كفاية حتى يتحوّلوا. » فأقام في منزله حتى فرّغوه من بعد.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى العمّال بكلّ بلد بما صار إليه، فأوجز وأحسن.

ثم وجّه إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه بخيل عتاق وأموال