تجارب الأمم/المجلد الأول
►الواجهة | المجلد الأول | المجلد الثاني ◄ |
مقدمة المصنف
الحمد لله ربّ العالمين حمد الشاكرين، وصلواته على محمّد النبي وآله أجمعين. قد أنعم الله علينا، معاشر خدم مولانا الملك السيّد الأجلّ، وليّ النعم - أطال الله بقاءه، وأكبّ أعداءه، وحرس ملكه، وأعزّ سلطانه - لمّا أخرجنا في زمانه، وأنشأنا في أيامه، وبوّأنا ظلّه، وأنزلنا كنفه، وجعلنا من خاص خدمه.
فنحن نتقلّب من نعمه فيما لا شكر له غير الدعاء، ولا ثمن له غير الثناء، فنسأل الله بأخلص نيّة وأصدق طويّة، إدامة أيّامه، والإمتاع بما خوّلناه من إنعامه، إنّه جواد كريم.
وإني لمّا تصفّحت أخبار الأمم، وسير الملوك، وقرأت أخبار البلدان، وكتب التواريخ، وجدت فيها ما تستفاد منه تجربة لا تزال يتكرّر مثلها وينتظر حدوث شبهها وشكلها: كذكر مبادئ الدول، ونشء الممالك، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك، وتلافى من تلافاه وتداركه إلى أن عاد إلى أحسن حال، وإغفال من أغفله واطّرحه إلى أن تأدّى إلى الاضمحلال والزوال، وذكر ما يتّصل بذلك من السياسات في عمارة البلدان، وجمع كلم الرعيّة، وإصلاح نيّات الجند، والحروب ومكايد الرجال، وما تمّ منها على العدوّ، وما رجع على صاحبه، وذكر الأسباب التي تقدّم بها قوم عند السلطان، والأحوال التي تأخّر لها آخرون، وما كان منها محمود الأوائل مذموم العواقب، وما كان بضدّ ذلك، وما استمرّ أوّله وآخره على سنن واحد، وذكر سياسات الوزراء، وأصحاب الجيوش، ومن أسند إليه حرب وسياسة، أو تدبير أو إيالة، فوفى بذلك وتأتّى له، أو كان بخلاف ذلك.
ورأيت هذا الضرب من الأحداث، إذا عرف له مثال مما تقدّم، وتجربة لمن سلف، فاتّخذ إماما يقتدى به، حذر مما ابتلى به قوم، وتمسّك بما سعد به قوم.
فإنّ أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة، وصار جميع ما يحفظه الإنسان من هذا الضرب كأنّه تجارب له، وقد دفع إليها، واحتنك بها، وكأنّه قد عاش ذلك الزمان كله، وباشر تلك الأحوال بنفسه، واستقبل أموره استقبال الخبر وعرفها قبل وقوعها، فجعلها نصب عينه وقبالة لحظه، فأعدّ لها أقرانها وقابلها بأشكالها. وشتّان بين من كان بهذه الصورة وبين من كان غرّا غمرا لا يتبيّن الأمر إلّا بعد وقوعه، ولا يلاحظه إلّا بعين الغريب منه، يحيّره كلّ خطب يستقبله، ويدهشه كلّ أمر يتجدّد له.
ووجدت هذا النمط من الأخبار مغمورا بالأخبار التي تجرى مجرى الأسمار والخرافات التي لا فائدة فيها غير استجلاب النوم بها، والاستمتاع بأنس المستطرف منها، حتى ضاع بينها، وتبدّد في أثنائها، فبطل الانتفاع به، ولم يتصل لسامعه وقارئه اتصالا يربط بعضه بعضا، بل تنسى النكتة منها قبل أن تجيء أختها، وتتفلّت من الذهن قبل أن تقيّدها نظيرتها، ويشتغل الفكر بسياقة خبرها دون تحصيل فائدتها.
فلذلك، جمعت هذا الكتاب، وسمّيته تجارب الأمم. وأكثر الناس انتفاعا به وأكبرهم حظّا منه، أوفرهم قسطا من الدنيا، كالوزراء، وأصحاب الجيوش، وسوّاس المدن، ومدبّرى أمر العامّة والخاصّة. ثم سائر طبقات الناس. وأقلّ الناس حظّا، لا يخلو أن ينتفع به في سياسة المنزل، وعشرة الصديق، ومداخلة الغريب، ولا يعدم مع ذلك، أنس السمر الذي يوجد في القسم الآخر الذي اطّرحناه.
وبعد، فلو كان الخادم لا يتقرّب إلّا بما يعزّ وجوده عند سلطانه، ولا يلطف في الخدمة إلّا بما لا يجد مثله، لانقطعت أسباب الهدايا والتحف، وارتفعت الملاطفات بالآداب والطرف، ولا سيما عند من كان في علوّ الهمّة، وتوقّد القريحة، وحفظ الآداب، وسياسة الملك والرعيّة في الخير، على ما عليه الملك السيّد، أدام الله سلطانه.
وأنا مبتدئ بذكر الله ومنّته، بما نقل إلينا من الأخبار بعد الطوفان، لقلّة الثقة بما كان منها قبله، ولأنّ ما نقل [ إلينا ] أيضا لا يفيد شيئا مما عزمنا على ذكره وضمنّاه في صدر الكتاب. ولهذا السبب بعينه، لم نتعرّض لذكر معجزات الأنبياء - صلوات الله عليهم - وما تمّ لهم من السياسات بها، لأنّ أهل زماننا لا يستفيدون منها تجربة فيما يستقبلونه من أمورهم، اللهمّ إلّا ما كان منها تدبيرا بشريّا لا يقترن بالإعجاز.
وقد ذكرنا أشياء مما يجرى على الاتّفاق والبخت وإن لم يكن فيها تجربة، ولا تقصد بإرادة. وإنّما فعلنا ذلك لتكون هي وأمثالها في حساب الإنسان وفي خلده ووهمه، لئلّا تسقط من ديوان الحوادث عنده وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرّزا من مكروهه إلّا بالاستعانة بالله، ولا توقّعا لمحبوبه إلّا بمسألته التوفيق، وهو - عزّ اسمه - خير موفّق ومعين.
الفيشداذية ومن عاصرهم
أوشهنج
فأوّل من يحفظ اسمه وسيرته من الملوك أوشهنج وأنا ذاكره والملوك بعده على توال ونسق. فإن كان لواحد منهم سيرة محمودة أو تدبير مرضيّ، ذكرته وذكرت سائر ما ضمنته في صدر الكتاب، ومن لم يحفظ له سيرة، ذكرت اسمه فقط، ليكون نظام التاريخ محفوظا، فأقول:
إنّ أوشهنج هذا هو الذي خلف جدّه جيومرت وجمع الأقاليم السبعة، ورتّب الملك، ونظم الأعمال، ولقّب ب « فيشداذ »، وتفسيره بالعربية: أوّل سيرة العدل. ويقال: إنّه كان بعد الطوفان بمائتي سنة. وهو أوّل من عرف قطع الشجر، وبنى به، واستخرج المعادن وبنى مدينتي بابل والسوس. وكان فاضلا سائسا محمودا، ونزل الهند، ثم تنقّل في البلاد، وعقد التاج، وجلس على السرير. وكان من حسن سياسته أن نفى أهل الفساد والدّعارة من البلدان إلى البراري، وألجأهم إلى رؤوس الجبال وجزائر البحار، وطهّر منهم الممالك، واستخدم من كان يستصلحه منهم، وسمّاهم الشياطين والعفاريت، وقرّب أهل الصلاح وأحسن رعاية الأمور، إلى أن انتهى ملكه إلى طهومرت بعده.
طهومرت
وهو من ولد أوشهنج، وبينهما عدّة آباء، وسلك سيرة جدّه، وتنقّل في البلدان، وبنى الموضع الذي جدّده بعد ذلك سابور من فارس، ونزله، وطلب الدعّار ونفى الشياطين أعنى الأشرار. وهو أول من كتب بالفارسية. وسلك سبيل جدّه، فاستمرّ نظام الملك على حال واحدة من عموم الصلاح، واستقامة أحوال الجند والرعية، إلى أن ملك بعده جمّ شيذ.
جم شيذ
وهو أخو طهمورت، وتفسير « شيذ » الشعاع. لأنه كان وضيئا، جميلا. وملك الأقاليم، وسلك السيرة المتقدمة، وزاد عليها بأن صنّف الناس وطبّقهم ورتّب منازل الكتّاب، وأمر أن يلزم كل أحد طبقته. وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحروب والشرط، وكتب عليه « الأناة »، وخاتما للخراج، وجباية الأموال، وكتب عليه « العمارة »، وخاتما للبريد، وكتب عليه « الوحا » وخاتما للمظالم، وكتب عليه « العدل ». فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام، وألزم من غلبه من أهل الفساد والشياطين الأعمال الصّعبة، وأذلّهم بقطع الحجارة والصخور من الجبال، وعمل الكلس والجصّ والبناء والطين، وعمل المعادن، وغير ذلك من الأمور الصعبة. فحسنت سيرته، وخافه أهل العيث والفساد، بما ألزمهم من الأعمال الشاقّة. وأحدث النوروز، وجعله عيدا وأمر الناس بالتنعم فيه. ثم إنّه بعد ذلك، بدّل سيرته. فكان من نتيجة فعله وسوء عاقبته، أن دخل الوهن في الممالك، وتجاسر أهل الفساد عليه.
فمما حكى من تبديل سيرته، إظهار الكبر والجبرية على وزرائه وكتّابه وقوّاده، وإيثار التخلّى والإغرام باللذّات، وترك مراعاة كثير من السياسيات التي كان يتولّاها بنفسه. فأحسّ بذلك بيوراسب - وهو الذي تسمّيه العرب الضحّاك - وعلم استيحاش الناس منه، وتنكّر خواص أصحابه له، فدسّ إلى رجاله من استصلحه لنفسه، ودبّر عليه حتى قوى، ثم قصده، فهرب منه جمّ وتبعه حتى ظفر به، فنكل به، وأشره بمئشار. وقد كان جمّ تنقّل في البلدان قبل ذلك، إلى أن جرى عليه ما جرى.
وكان الضحّاك هذا - على ما تزعم الفرس - من ولد جيومرت، وبينه وبين جيومرت من الآباء « تاج » وإليه تنتسب العرب، فيقال لهم: « تاجى » وهم يلقّبون بيوراسب ب « الازدهاق ». وقوّم منهم يزعمون أن جمّ شيذ زوّج أخته من بعض أشراف أهل بيته وملّكه اليمن، فولدت له الضحّاك. وأما العرب فينسبون الضحّاك غير هذه النسبة. ورغم قوم أنّه نمرود. وزعم آخرون أنّ نمرود كان عاملا من قبله على كثير من أعماله، ولا ينبغي أن نذكر من أمره فيما قصدنا له، أكثر من هذا النّبذ، لئلّا ننقطع عن غرضنا.
بيوراسب وما جرى بينه وبين كابي الإصبهاني
ولما ملك بيوراسب ظهر منه خبث شديد وفجور كثير، وملك الأرض كلّها، فسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل والصلب، ليهابه الناس، وليمحو عن صدور الناس سياسة من تقدّمه وذكرهم وسنّتهم. فسنّ العشور، واتخذ المغنّين والملهين. وكان على منكبه سلعتان يحركهما إذا شاء، كما يحرّك يديه.
فادّعى أنهما حيّتان، تهويلا على ضعفاء الناس، وأغبيائهم، وكان يسترهما بثيابه.
فلما طالت أيامه وعمّ الناس جوره، كان من سوء عاقبة ذلك أن ظهر بإصبهان رجل يقال له: « كابى » من أثناء العامة، وكان الضحّاك قتل له ابنين. فلما بلغ الجزع من كابى هذا على ولديه ما بلغ، أخذ عصا، فعلّق بطرفها جرابا. - ويقال: إنّه كان حدّادا وإنّ الذي علّقه نطع كان يتوقّى به من النار - فجعله علما ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب، فأجابه خلق كثير، لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور. فاستفحل أمره وقوى، وتفأل الفرس بذلك العلم، وعظّموا أمره، وزادوه ورصّعوه بعد ذلك بالجوهر، حتى جعله ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبرّكون به، وسمّوه « درفش كابيان ». فكانوا لا يسيّرونه إلّا في الأمور العظام.
ولما استعلى كابى الإصبهاني، وأشرف على بيوراسب، هرب عن منازله.
واجتمع أشراف الناس على كابى، وناظروه في الملك. فقال لهم كابى: إنّه لا يتعرّض للملك، لأنه ليس من أهله. وأمرهم أن يملّكوا بعض ولد جمّ. وكان أفريذون بن أثفيان مستخفيا من الضحّاك في بعض النواحي، فوافى هو ومن معه إلى كابى، فاستبشر الناس به، لأنّه كان مرشّحا للملك. فصار كابى أحد أعوان أفريذون حتى احتوى على منازل بيوراسب، وحتى تبعه وأسره بدنباوند، فقتله.
ولم يسمع من أمور الضحّاك بشيء يستحسن، ولا نقل من أخباره ما يكتب غير شيء واحد. وهو أنّ بليّته لما اشتدّت، وطالت أيّامه وتراسل وجوه الناس في أمره، وأجمعوا على المصير إليه من البلدان، وافى بابه العظماء والوجوه من النواحي والأقطار، وتناظروا في الدخول عليه والتأتّى له واستعطافه، وأجمعوا على تقديم كابى الإصبهاني، وذلك لما رأوا من تحرّقه على ولديه، وجرأته على الكلام. فلما اجتمعوا ببابه أعلم بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا يقدمهم كابى.
فمثل بين يديه، وأمسك عن السلام.
ثم قال:
« أسلّم عليك سلام من يملك الأقاليم كلّها، أم سلام من يملك هذا الإقليم؟ » فقال: « بل سلّم سلام من يملك الأقاليم كلّها، فإني ربّ الأرض. » فقال له كابى: « فإن كنت مالك الأقاليم كلّها، فما بالك خصصت بتحاملك ومؤنك وإساءتك ناحية كذا؟ وهلّا قسمت أمر كذا بين الأقاليم؟ » ثم عدّد أشياء، وجرّد له الصّدق، حتى انخزل له الضحّاك وأقرّ، ووعد الناس بما يحبّون، وأمرهم بالانصراف ليتّدعوا، ثم يعودوا إليه ليقضى حاجاتهم.
وكانت له أم فاحشة بذيئة جبّارة، وكانت تسمع كلامهم لمّا دخلوا عليه، فاغتاظت منهم وأنكرت إقراره للقوم. فكلّمت بيوراسب منكرة عليه وقالت:
« هلّا دمّرت عليهم وأمرت بهم؟ »
فقال لها الضحّاك على عتوّه:
« إنك لم تفكّرى في أمر، إلّا وقد سبقت إليه. إنّ القوم بدهونى بالحق. فلما هممت بالسطوة بهم، وقف الحقّ بيني وبينهم، واعترض كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت. » فهذا ما استحسن من فعل الضحّاك وقوله، ولا يعرف له شيء مستحسن غيره.
ثم ملك أفريذون
وهو من ولد جمّ. ويقال: إنّه كان التاسع من ولده. فردّ مظالم الناس، وأمر بالإنصاف والإحسان، ونظر إلى ما غصب عليه الضحّاك من الأرضين وغيرها، فردّها كلّها على أهلها، إلّا ما لم يجد له أهلا، فإنّه وقفه على المساكين ومصالح العامة. وكان موثرا للعلم وأهله، وكان صاحب طبّ ونجوم وفلسفة. وكان له ثلاثة أولاد: سرم، وطوج، وإيرج. فخشي ألّا يتّفقوا بعده. وأن يبغى بعضهم على بعض. فظنّ أنّه إذا قسم الملك بينهم أثلاثا في حياته، بقي الأمر بعده على انتظام وصلاح. فجعل الروم وناحية المغرب لسرم، والترك والصين لطوج، والعراق والهند لإيرج وهو صاحب التاج والسرير، فلمّا مات أفريذون، وثب طوج وسرم بإيرج، فقتلاه، وملكا الأرض بينهما.
وأفريذون أوّل من تسمّى ب « كي ». فكان يقال له: كي أفريذون، وهي كلمة تعنى التنزيه، أى: روحانى، أى: هو منزّه متصل بالروحانية. وكان جسيما وسيما حسن البهاء، محربا عظيم القوة.
ويقال: إنّ بيوراسب قال له لمّا ظفر به:
« لا تقتلني بجدّك جمّ. » فقال له أفريذون منكرا لقوله:
« لقد سمت بك نفسك وهمّتك، وعظمت في نفسك، حين قدرتها لهذا. جدّى كان أعظم قدرا من أن يكون مثلك كفؤا له في القود، ولكنى أقتلك بثور كان في دار جدّى. » وأفريذون أوّل من عرف ذلّل الفيلة، وقاتل بها الأعداء. ثم قسم الأرض كما ذكرنا بين أولاده. ولأجل ما صار بين أولاده من العداوة، بقيت الذحول بين الترك، وملوك إيرانشهر، والروم، وطلب بعضهم بعضا بالدماء والترات.
وكان إبراهيم النبي ﷺ في أيام الضحّاك. ولذلك زعم قوم أنّه نمرود وأن نمرود عامل من عمّاله. ولم ينقل من أخباره ﵇ شيء من النمط الذي هممنا بإيراده في هذا الكتاب، إلّا أشياء حكاها مانى، وهي بعيدة من الحقّ، فلذلك لم أوردها، ولم أتعرّض لذكرها.
منوشهر
فكان من سوء عاقبة وثوب طوج وسرم بإيرج وقتلهما إيّاه، أن نشأ ابن لإيرج بن أفريذون يقال له: منوشهر حقد على طوج، فدبّر عليه، إلى أن قاومه، وتغلّب على ملك أبيه إيرج، ثم نشأ ولد لطوج التركي، فنفى منوشهر عن بلاده. وكانت بينهما حروب لم ينقل منها شيء يستفاد منه تجربة. ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه.
وكان منوشهر موصوفا بالعدل والإحسان. وهو أوّل من عرف خندق الخنادق وجمع آلة الحروب، وأوّل من وضع الدّهقنة، فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها عبيدا وخولا، وألبسهم لباس المذلّة، وأمرهم بطاعته. ولما قوى سار نحو التّرك وطالب دم جدّه إيرج بن أفريذون، فقتل طوج بن أفريذون وأخاه سرما، وأدرك ثأره وانصرف.
ثم نشأ فراسياب بن ترك الذي ينسب إليه الترك من ولد طوج بن أفريذون، فحارب منوشهر، وحاصره بطبرستان. ثم إن منوشهر وفراسياب اصطلحا، وضربا بينهما حدّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بلخ - والفرس تحكى في ذلك حكايات لا فائدة في إيرادها - فانقطعت الحرب بين فراسياب ومنوشهر.
خطبة منوشهر
فمما حكى ونقل من تدابير منوشهر أنّه لما مضى من ملكه نحو ثلاثين سنة، تناولت الأتراك أطراف أعماله، فجمع قومه، ووبّخهم، ثم خطب عليهم، وهذه أوّل خطبة عرفناها، ونقلت إلينا. قال:
« أيها الناس: إنّكم لم تلدوا الناس كلّهم. وإنّما الناس ناس ما حفظوا أنفسهم، ودفعوا العدوّ عنهم. وقد نالت الترك منكم، ومن أطرافكم، وليس ذلك إلّا من ترككم جهاد عدوّكم، وقلّة المبالاة، وإن الله تعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا: أنشكر فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا؟ ونحن أهل بيت خير، ومعدن الملك. فإذا كان غدا، فاحضروا. » فاعتذر الناس، وواعدوه الحضور. فلمّا كان من غد، أرسل إلى أهل بيت المملكة وأشرافهم، وإلى الأساورة وكبارهم، فدعاهم، وأذن للرؤساء من الناس ودعا « موبذان موبذ »، وأقعده على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره خطيبا. فقام أشراف الناس، وأهل بيت المملكة والأساورة، فقال: اجلسوا. فإني إنّما قمت لأسمعكم. فجلسوا، فقال:
« أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنّه لا أضعف من مخلوق، طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه.
« ألا وإنّ التفكّر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة. وقد ورد الأوّل، ولا بدّ للآخر من اللحوق بالأوّل، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله، وإنّ الله - عز وجل - أعطانا هذا الملك، فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين.
« ألا وإنّ للملك على أهل مملكة حقّا، ولأهل مملكته عليه حقّا. فحقّ الملك على أهل مملكته، أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقّهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنّه تجارتهم وحقّ الرعية على الملك، أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحمّلهم ما لا يطيقون. فإنّ أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم، لآفة أو ضرر من السماء أو الأرض، أن يسقط عنهم خراج ما نقص وإن اجتاحتهم مصيبة، أن يعوّضهم ما يقوّيهم على عمارتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين. والجند للملك بمنزلة جناحي الطير، فهم أجنحة الملك، ومتى قصّ من الجناح ريشة، كان ذلك نقصانا منه، وكذلك الملك، إنّما هو بجناحه وريشه.
« وإن الملك ينبغي له أن يكون فيه ثلاث خلال: أوّلها أن يكون صدوقا فلا يكذب، وأن يكون سخيّا فلا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنّه مسلّط، ويده مبسوطة، والخراج يأتيه.
فينبغي له أن لا يستأثر عن جنده ورعيته، بما هم أهل له، وأن يكثر العفو. فإنّه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة. وإن المرء لأن يخطئ في العفو، خير له من أن يخطئ في العقوبة. فينبغي له أن يتثبّت في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها. وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة، فلا ينبغي له أن يحابيه، وليجمع بينه وبين المتظلّم، فإن صحّ عليه للمظلوم حقّ خرج إليه منه، وانعجز عنه أدّى الملك عنه، وردّه إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد. فهذا لكم علينا. ألا ومن سفك دما بغير حقّ، أو قطع يدا بغير حقّ، فإني لا أعفو عن ذلك إلّا أن يعفو عنه صاحبه. فخذوا هذا عني.
« ألا وإنّ الترك قد طمعت فيكم فاكفونا، فإنّما تكفون أنفسكم. وقد أمرت لكم بالسلاح والعدّة وأنا شريككم في الرأي.
وإنّما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم. ألا وإنّ الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف، فذلك مملوك وليس بملك. ومهما بلغنا من الخلاف، فإنّا لا نقبله من المبلغ، حتى نتيقّنه. فإذا صحّت معرفة ذلك، أنزلناه منزلة المخالف.
« ألا وإنّ أكمل الأداة عند المصيبات، الأخذ بالصبر، والراحة إلى اليقين. فمن قتل في مجاهدة العدو، رجوت له الفوز برضوان الله.
وأفضل الأمور التسليم لأمر الله، والراحة إلى اليقين، والرضا بقضائه. أين المهرب مما هو كائن، وإنّما نتقلّب في كفّ الطالب.
وإنّما هذه الدنيا سفر، أهلها لا يحلّون عقد الرحال إلّا في غيرها.
إنّما بلغتهم فيها بالعوارى. فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم لمرّ قضاء الحق، ومن أحقّ بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلّا إليه [ ولا معوّلا إلّا عليه ]. فثقوا بالغلبة إذا كانت نيّاتكم أنّ النصر من عند الله. وكونوا على ثقة من درك الطلبة إذا صحّت نيّاتكم. واعلموا أنّ هذا الأمر لا يقوم إلّا بالاستقامة، وحسن الطاعة، وقمع العدوّ، وسدّ الثغور، والعدل للرعيّة، وإنصاف المظلوم.
فشفاؤكم عندكم، والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة والأمر بالخير والنهي عن الشرّ، ولا قوّة إلّا بالله.
« أنظروا للرعية، فإنّها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيهم، رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبيّن في زيادة أرزاقكم. وإذا حفتم على الرعيّة زهدوا في العمارة وعطّلوا أكثر الأرض، فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم.
فتعاهدوا الرعيّة بالإنصاف. وما كان من الأنهار، والبثوق، مما نفقته على السلطان، فأسرعوا فيه قبل أن يكبر. وما كان من ذلك على الرعيّة، فعجزوا عنه، فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا جاءت أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غلّاتهم على قدر ما لا يجحف بهم. ذلك ربع في كل سنة، أو ثلث، أو نصف، لكيلا يتبيّن عليهم.
هذا قولي وأمري. يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وجدّ في الذي سمعت في يومك. أسمعتم أيّها الناس؟ » قالوا: « نعم. » وأثنوا عليه، ودعوا له، ثم أمر بالطعام. فوضع، وأكلوا وشربوا، وخرجوا وهم له شاكرون. ثم كان من أمره ما كان مما ذكرناه.
منوشهر والرايش بن قيس
وفي أيّامه غزا الرايش بن قيس بن صيفي بن يشجب بن يعرب بن قحطان من ملوك اليمن. وكان اسم الرايش الحارث. غزا الهند، فغنم غنائم عظيمة، فأنفذ رجلا من أصحابه يعرف بشمر بن العطّاف، فدخل الترك من أرض آذربيجان، وهي يومئذ في أيديهم، فقتل وسبى وغنم.
وغزا بعده ذو منار بن الرايش بعد أبيه، وانّما سمّى ذا منار لأنّه غزا بلاد المغرب، فوغل فيها برّا وبحرا، وخاف على جيشه الهلاك عند قفوله، فبنى المنار ليهتدوا بها. ثم وجّه ابنه إلى أقاصى المغرب، فغنم، وأصاب مالا، وقدم عليه بسبي لهم خلقة منكرة، فذعر الناس منهم، فسمّوه ذا الأذعار.
وإنّما ذكرتهم في هذا الموضع، لاتصال ذلك بذكر منوشهر، وأنّ الفرس تدّعى أنّ ملوك اليمن كانت عمّالا لملوك الفرس بها، وأنّ الرايش كان من قبل منوشهر يغزو الترك وغيرهم. والعرب تنكر ذلك، وتزعم أن ملكهم لم يكن قطّ من قبل أحد، وإنّما كانوا برؤوسهم.
ظهور موسى في أيام منوشهر
وفي أيّام منوشهر ظهر موسى ﷺ ويقال: إنّ عمره ﵇ كان مائة وعشرين سنة، منها في أيام أفريذون عشرون سنة، وفي أيام منوشهر مائة سنة. وكان من حديث موسى مع فرعون وما أنزل من الآيات على يده، ما هو مشهور. وقد اعتذرنا من ذكر هذه الأخبار وتركها.
ثم كان من حديث التّيه ما كان، إلى أن أخرج بني إسرائيل منه يوشع بن نون بعد موت موسى، وغزا الكنعانيين، ونفاهم إلى السواحل، وافتتح مدينة الجبّارين. فيقال إنّ إفريقس بن قيس بن صيفي بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مرّ بهم متوجها إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها، وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم من سواحل الشام، فهم البرابرة. وإنّما سمّوا بذلك لأنّ إفريقس قال لهم: « ما أكثر بربرتكم! » فسمّوا بذلك « بربرا ».
وكان إفريقس هذا عاملا لمنوشهر على ما تزعم الفرس. وكان تدبير يوشع أمر بني إسرائيل، من لدن مات موسى إلى أن توفّى يوشع في زمان منوشهر، عشرين سنة، وفي زمان فراسياب سبع سنين. ولمّا هلك منوشهر، تغلّب فراسياب على مملكة فارس، وطلب بالذحول. وصار إلى أرض بابل وأقام بمهرجاقذق، وأكثر الفساد، وخرّب ما كان عامرا، ودفن الأنهار والقنيّ، فقحط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن أخرج، وردّ إلى بلاد الترك. فغارت المياه في تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة.
زو بن طهماسب
ولم يزل الناس في أعظم بليّة إلى أن ظهر زوّ بن طهماسب، ويقول بعضهم:
زاغ، وبعضهم: زاب، وبعضهم: زاسب، وهو من أولاد منوشهر، وبينه وبينه عدّة آباء.
فلما ظهر زوّ طرد فراسياب عن مملكة فارس، حتى ردّه إلى الترك بعد حروب كثيرة جرت بينهما لم يذكر لنا منها ما نستفيد منه تجربة. وكانت غلبة فراسياب على إقليم بابل اثنتي عشرة سنة من لدن توفّى منوشهر إلى أن طرده زوّبن طهماسب، إلى تركستان.
ثم ابتدأ زوّ في عمارة ما خرّبه فراسياب. فأمر ببناء ما هدم من الحصون وإعادة ما طمّر وعوّر من الأنهار والقنيّ وكرى ما كان اندفن من المياه حتى عاد جميع ذلك إلى أحسن ما كان، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين.
فعمرت البلاد في أيّامه، وكثرت المياه، ودرّت معايش الناس، واستخرج بالسواد نهرا، وسمّاه: الزاب، وبنى على حافتيه مدينة، وهي التي تسمى:
المدينة العتيقة، وكوّرها كورة، وجعلها ثلاث طساسيج: الزاب الأعلى، والزاب الأوسط، والزاب الأسفل، ونقل إليها بذور الرياحين وأصول الأشجار من الجبال. وزوّ هذا أوّل من عرف اتّخذ ألوان الطبيخ، وأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده مما غنم بالخيل، ومما أوجف عليه من أموال الترك، وكان وزيره « كرساسف » من أولاد طوج بن أفريذون. وقد حكى أنّ زوّا وكرساسف، اشتركا في الملك. والصحيح من أمره أنّه كان وزيرا لزوّ ومعينا له. فكان جميع ملك زوّ ثلاث سنين.
الكيية ومن عاصرهم
كيقباذ بن زو
ثم ملك بعده كيقباذ بن زوّ، وسلك سبيل أبيه. فكوّر الكور، وبيّن حدودها وحريمها، وأمر الناس بالعمارات، وأخذ العشر من الغلّات لأرزاق الجند، وكان حريصا على العمارة، ومانعا لحوزته. والملوك الكييّة من نسله. وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة. وكان مقيما في الحدّ الذي بين مملكة الفرس والترك بناحية بلخ، يمنع الترك من تطرّف شيء من حدود فارس. فجميع هذه العداوات والحروب سببها سوء نظر من قسم الملك بين أولاده، ثم وثوب من وثب من الإخوة بأخيه، واستمرار الشحناء بعد ذلك والعداوات.
وأما القيّم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع، فكان كالب بن توفيل، ثم حزقيل الذي يقال له: ابن العجوز - وكانت لهما أخبار مشهورة تركنا ذكرها لأنها معجزات لا تستفاد منها تجربة - وحزقيل هو صاحب القوم « الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم » لأنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا من بلاء كان أصابهم: إمّا طاعون، أو ما أشبهه، فخرجوا فرارا من ذلك.
ثم إلياس، ثم اليسع، ثم إيلاف. وفي خلال هؤلاء، كان يتملّك عليهم قوم من الكنعانيين وغيرهم، فيسومونهم البلايا والعظائم، وليس في ذكرهم فائدة. إلى أن جاءهم شمويل النبي. وكان من خبره مع جالوت وطالوت ما ذكره الله تعالى.
وملك داود لما كان منه من مبارزة جالوت. والخبر مشهور مقرون بمعجزة الأنبياء. ثم ملك سليمان، وأخباره ومعجزاته مذكورة.
كيقابوس وما جرى على ابنه سياوخش
ثم ملك بعد كيقباذ، كيقابوس بن كيبنة بن كيقباذ الملك. فشدّد على أعدائه وقتل خلقا من عظماء البلاد، ممن كان ينكر أمرهم وسكن بلخ. وولد له ابن لم ير مثله في عصره جمالا وتمام خلقة، وسمّاه سياوخش، وضمّه إلى رستم الشديد بن دستان من ولد كرساسف الذي ذكرناه قبيل، وكان إصبهبذ سجستان وما يليه من قبله، وأمره بتربيته وأوصاه به. فأخذه رستم، ومضى به إلى سجستان وتخيّر له الحواضن والمرضعات، حتى أدرك، فجمع له المعلّمين، وأدّبه، ثم علّمه الفروسة، حتى فاق فيها، وقدم على والده رجلا كاملا، فامتحنه كيقابوس والده، فوجده كاملا نافذا بارعا.
وكان لكيقابوس زوجة بارعة الجمال، يقال: إنّها بنت فراسياب ملك الترك، ويقال: إنّها بنت ملك اليمن. فهويت سياوخش، وهويها. والفرس تحكى أمورا طويلة، وتزعم أنّها كانت ساحرة، وأنّها سحرته، إلّا أن آخر أمرها آل إلى أن علم كيقابوس بما يجرى بينهما.
فكان من عاقبة ميلهما إلى الهوى، وظنّهما أنّ ذلك ينكتم، أن تغيّر كيقابوس لابنه سياوخش، وأشفق سياوخش على نفسه. فسأل رستم أن يسأل أباه توجيهه لحرب فراسياب. وكان قد تجدّدت وحشة بين كيقابوس وفراسياب. وأراد سياوخش بذلك البعد من والده، والتنحّى عما تكيده به امرأة أبيه. ففعل ذلك رستم وخاطب أباه فيه، واستأذن له في جند يضمّهم إليه. فأذن له، وضمّ إليه جندا كثيفا وأشخص سياوخش إلى بلاد الترك. فلما التقى سياوخش وفراسياب، جرى بينهما صلح. وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين فراسياب.
فكتب إليه أبوه بإنكار ذلك، وأمره بمناهضته ومناجزته الحرب. فرأى سياوخش أنّ في فعله ما كتب به أبوه من محاربة فراسياب - بعد الذي جرى بينهما من الصلح والهدنة، من غير نقض فراسياب شيئا من أسباب ذلك - عارا ومنقصة. فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك. ورأى أنّه يؤتى في كلّ ذلك من زوجة أبيه. فمال إلى الهرب من أبيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان لنفسه منه، واللحاق به وفراق والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك. وكان السفير بينهما رجلا من عظماء الترك يقال له: فيران. فلمّا فعل ذلك سياوخش، انصرف عنه من كان معه من جند أبيه، إلى أبيه. وأكرم فراسياب سياوخش، وزوّجه ابنة له، وهي أمّ كيخسرو، ولم يزل على إكرامه، إلى أن ظهر له من أدب سياوخش وإربه وكماله، ونجدته ما أشفق منه، وضرّب بينهما أخ كان لفراسياب وابنان له حذرا على ملكهم. وله خبر طويل في ذلك، إلى أن قتل وامرأة سياوخش - وهي ابنة فراسياب - حامل منه، بابنه كيخسرو. فطلبوا له الحيلة، لاسقاطها ما في بطنها، فلم تسقط.
ثم إن فيران الذي توسّط الصلح بين سياوخش وبين فراسياب، أنكر ما جرى من فعل فراسياب، وحذّره عاقبة الغدر والطلب بالثأر، وأشار عليه أن يدفع ابنته إليه، يعنى: زوجة سياوخش، لتكون عنده إلى أن تضع، ثم إن أراد قتله قتله.
ففعل فراسياب ذلك. فلما وضعت، امتنع فيران من قتل الولد، وستر أمره حتى بلغ المولود، وهو كيخسرو.
ويحكى: أن كيقابوس بعث بيب بن جوذرز إلى بلاد الترك، وأمره بالبحث عن أمر المولود الذي لسياوخش، والتأتّى لإخراجه مع أمّه. ففعل بيب ذلك، وبقي زمانا طويلا يبحث عن أمره، إلى أن وقف على خبره. فاحتال فيه وفي أمّه، حتى أخرجهما من أرض الترك. فاستقبلهما رستم الشديد في جند عظيم من أولى البأس والنجدة، وطلب الترك أثر كيخسرو، فجرت بينهم وبين رستم حروب ظفر فيها رستم.
فللفرس هاهنا خرافات، وتزعم أنّ الشياطين كانت مسخّرة لكيقابوس. وقوم يزعمون أنّ سليمان بن داود - عليهما السلام - أمرهم بذلك، في خرافات كثيرة ظاهرة الإحالة، من الصعود إلى السماء، وبناء مدينة كنكرز بأسوار ذهب وفضّة وحديد ونحاس، وأنّها بين السماء والأرض، وأشباه ذلك مما لا فائدة في ذكره.
إلّا أنّ جملة أمره، أنّه تجبّر لما تمّ له أكثر ما كان يقصده. وسار من خراسان حتى نزل بابل، وترك ما كان يسوسه بنفسه، ويباشره برأيه. وأوحش الناس بالحجّاب والتعظّم، وآثر الخلوة. فكان من عاقبة ذلك أن فسد عليه ملكه، وكثرت الملوك في النواحي، حتى كان يغزوهم بعد ذلك ويغزونه، فيظفر مرّة وينكب أخرى، إلى أن غزا بلاد اليمن والملك يومئذ بها ذو الأذعار بن أبرهة بن ذي المنار بن الرايش. فلمّا أظلّه كيقابوس، خرج إليه ذو الأذعار في جموع حمير وولد قحطان، فظفر بكيقابوس، وأسره واستباح عسكره، وحبسه في بئر وأطبق عليها طبقا.
فخرج من سجستان رستم الشديد في من أطاعه من الناس. وأمّا الفرس فتحكى حكايات لا فائدة فيها عن شدّة رستم وبأسه، وأنّه وغل في البلاد بلاد اليمن، واستخرج كيقابوس من محبسه. وأما اليمن فتزعم أنّه لم يكن من ذلك شيء، وأنّ ذا الأذعار لمّا بلغه إقبال رستم، خرج إليه في جنود عظيمة، وخندق كل واحد منهما على نفسه وعسكره، وأنّهما أشفقا من البوار على جنديهما، وتخوّفا - إن تزاحما - أن لا يكون لهما بقيّة. فاصطلحا على دفع كيقابوس إلى رستم ووضع الحرب. فانصرف رستم بكيقابوس إلى بابل، فكتب له كيقابوس كتابا بالعتق، وأقطعه سجستان وزابلستان. وكانت الكتب يومئذ والرسائل يسيرة نزرة الكلام، لا يذكر فيها الأسباب والعلل. ونسخة الكتاب:
« من كيقابوس بن كيقباذ، إلى رستم.
إني قد أعتقتك من العبودة، وملّكتك على بلاد سجستان. فلا تقرّنّ لأحد بعبودة. واملك سجستان كما أمرتك، واجلس على سرير من فضّة مموّهة بالذهب. والبس قلنسوة منسوجة بالذهب متوّجة ».
ومما يدلّ على صدق ما حكيناه من أمر كيقابوس، قول الحسن بن هاني:
وقاظ قابوس في سلاسلنا ** سنين سبعا وفت لحاسبها
ثم ملك كيخسرو بن سياوخش بن كيقابوس
فعقد التاج على رأسه، وخطب رعيّته خطبة بليغة، أعلمهم فيها أنّه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب. ثم كتب إلى جوذرز بإصبهان وكان إصفهبذه على خراسان، يأمره بالمصير إليه، وأمره أن يعرض جنده وأن [ ينتخب ] ثلاثين ألف رجل، وضمّهم إلى طوس، وكان في من أشخص معه برزافره عمّ كيخسرو، وابن لجوذرز، وجماعة من إخوته. وتقدّم كيخسرو إلى طوس أن يكون قصده لفراسياب وطراخنته، وحذّره من ناحية ببلاد الترك فيها أخ له يقال له: فروذ بن سياوخش، من بعض نساء الأتراك، كان سياوخش تزوّجها أيام صار إلى فراسياب، فولدت له فروذ، وأقام بموضعه إلى أن شبّ.
فكان من غلط طوس أن خالف كيخسرو، وذاك أنّه لمّا صار بالقرب من المدينة التي فيها فروذ، هاجت الحرب، وقتل فروذ. واتصل خبره بكيخسرو.
فكتب إلى برزافره عمّه كتابا غليظا يعلمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس، ومحاربته فروذ، وقتله إيّاه. وأمره بتوجيه طوس إليه مقيّدا مغلولا. وتقدّم إليه في القيام بالعسكر، والتوجه إليه لوجهه. ففعل برزافره ذلك، وتولّى أمر العسكر، وعبر النهر المعروف ب « كاسرود »، وانتهى خبره إلى فراسياب. فوجّه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته لمحاربته. فالتقوا وفيهم فيران واخوته.
فاقتتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشل لما اشتدّ الحرب، وكثر القتلى، فهرب وانحاز بالعلم إلى رؤوس الجبال، واضطرب على ولد جوذرز أمرهم، فقتل منهم في تلك الملحمة، في وقعة واحدة، سبعون رجلا، وقتل بشر كثير.
وانصرف برزافره ومن أفلت معه إلى كيخسرو. فرئيت الكآبة في وجهه، وامتنع من الطعام والشراب، إلى أن مضت أيام. ثم راسل جوذرز. ولمّا دخل عليه شكا إليه برزافره، وأعلمه أنّه كان سبب الهزيمة بالعلم وخذلانه ولده.
فقال كيخسرو:
« إنّ حقّك لازم لنا لخدمتك أبانا، وهذه جنودنا وخزائننا مبذولة لك.
فاطلب ترتك، واستعدّ وتهيّأ للتوجّه إلى فراسياب.
فنهض جوذرز، فقبّل يده وقال:
« أيها الملك، نحن رعيّتك وعبيدك. فإن كانت آفة، أو نازلة، فلتكن بالعبيد، دون الملوك. وأولادى المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من الترك. » وكتب كيخسرو إلى رؤساء أجناده ووجوه عسكره يأمرهم بموافاته في صحراء تعرف بشاه اسطون من كورة بلخ، في وقت وقّته لهم. فوافت رؤساء الأجناد في ذلك اليوم، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذيه وأصحابهم وفيهم برزافره عمه، وجوذرز وبقية ولده. فتولى كيخسرو بنفسه عرض الجند، حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم. ثم دعا بجوذرز وثلاثة نفر معه، فأعلمهم أنه يريد إدخال العساكر على الترك من أربعة وجوه، حتى يحيطوا بهم برّا وبحرا، وقوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز وجماعة من الإصهبذين كثيرة. ودفع إليه يومئذ العلم الأكبر الذي يسمونه: درفش كابيان، ولم يكن يدفع قبل ذلك إلى أحد من القواد، وإنّما كانوا يسيّرونه مع أولاد الملوك، وأمر أحد القواد بالدخول مما يلي الصين، وضمّ إليه جماعة كبيرة، وأمر آخر بالدخول من ناحية الخزر، وضمّ إلى آخر ثلاثين ألف رجل وأمرهم بالدخول من طريق بين جوذرز، وبين الذي دخل من طريق الصين.
ودخل جوذرز من ناحية خراسان، وبدأ بفيران. فالتحمت بينهما حرب مذكورة، تحكى فيها الفرس عجائب، بارز فيها بيزن بن بيب خمان وهو أخو فيران، فقتله مبارزة وقتل جوذرز فيران مبارزة أيضا. وقصد جوذرز فراسياب، وألحّت عليه العساكر من كل وجه، واتّبع القوم كيخسرو بنفسه، وجعل قصده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصيّر مدخله منه. فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن في القتل. وقتل فيران إصهبذ فراسياب والمرشّح للملك بعده، وجماعة كبيرة من إخوته وأولاده، وأسر بروين قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى وما غنم من الكراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفا ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألفا على ما تزعم الفرس، وحاز من الكراع والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه، أن يجعل أسيره أو قتيله عند علمه، لينظر إليه كيخسرو عند موافاته.
فلمّا وافى كيخسرو العسكر موضع الملحمة، اصطفّت الرجال له وتلقاه جوذرز. فلمّا دخل العسكر، جعل يمرّ بعلم علم. فكان أول قتيل رآه جثّة فيران.
فنظر إليه، وخاطبه بما يجرى مجرى الاشتفاء، ولم يزل يفعل ذلك حتى وقف على علم بيب بن جوذرز، ووجد تحته بروين حيّا أسيرا، فسأل عنه، فأخبر أنه قاتل سياوخش الذي مثل به بعد قتله. فقرب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسه بالسجود، ثم قال: « الحمد لله الذي أمكننى منك. » ووبّخه طويلا. ثم أمر بقطع أعضائه حيّا. فلمّا لم يبق له طابق ذبحه. ثم استقرّ في مضربه، وأجلس عمّه عن يمينه، ودعا بجوذرز، فأحسن صلته ومخاطبته، وحمد ما كان منه، وفوّض إليه الوزارة التي يقال لها: بزرج فرمذار، وهو مرتبة الوزارة، وجعل إليه مع ذلك إصبهان وجرجان، وفعل مثل ذلك من الحباء والكرامة بكلّ من أبلى من قوّاده ورجاله.
ثم أتته الأخبار من الوجوه الثلاثة الأخر: أنّهم قد أحاطوا بفراسياب. وبرز فراسياب، وما كان بقي من ولده إلّا شيذه، فتوجه نحو كيخسرو بعدّة وعتاد.
فيقال: إنّ كيخسرو أشفق يومئذ، وهابه، وظنّ أن لا طاقة له به، وإنّ القتال بقي متّصلا بينهما أربعة أيام، إلى أن انهزم شيذه واتّبعه كيخسرو، فلحقه وضربه بالعمود على رأسه فخرّ ميّتا، وغنم كيخسرو ماله.
وبلغ الخبر فراسياب، فأقبل في جمع عظيم. فلمّا التقى مع كيخسرو، نشبت بينهما حرب يقال: إنّه لم ير مثلها قطّ على وجه الأرض، حتى اختلط رجال إيرانشهر برجال الترك. ثم انهزم فراسياب وكثر القتل. فتزعم الفرس أنّه بلغ عدد القتلى أمرا عظيما، لم أستحسن ذكره لكثرته. وجدّ كيخسرو في طلبه، حتى لحقه بآذربيجان، فظفر به واستوثق منه بالحديد. ثم وبّخه، وسأله عن سبب قتله سياوخش. فلم تكن له حجّة، فذبحه كما ذبح سياوخش. ثم انصرف غانما مسرورا.
وكان لفراسياب أخ يقال له: كي شواسف، صار إلى بلاد الترك بعد أخيه، وكان له ابن يقال له: خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه كي شواسف، وهو ابن أخي فراسياب الذي حارب منوشهر.
ولما فرغ كيخسرو من المطالبة بوتره، واستقرّ في ملكه، زهد في الملك، وتنسّك وأعلم الوجوه من أهل بيته ومملكته، أنّه على التخلّى. فاشتدّ جزعهم، وتضرّعوا إليه، وراودوه على المقام على تدبير ملكهم. فأبى عليهم، ولما يئسوا، قالوا:
« فإذا قمت على ما أنت عليه، فسمّ من يقوم به. » وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنّه خاصّته ووصيّه. فقبل لهراسف الوصية، وأقبل الناس عليه، وفقد كيخسرو. فبعض الناس يقول: إنّه غاب للتنسك، ولا يدرى أين مات. وبعضهم يقول غير ذلك. وكان ملكه ستين سنة. ثم ملك بعده لهراسب.
لهراسب وما كان من أمر بختنصر
ويقال: إنّه ابن أخي كيقابوس. واتّخذ سريرا من ذهب مكلّلا بالجوهر، للجلوس عليه. وبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها: الحسناء. وهو أوّل من دوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخاب الجنود لنفسه وعمر الأرض.
وذلك أنّ الأتراك اشتدت شوكتهم في زمانه، فجعل منزله بلخ ليقاتل الأتراك.
ووجّه بختنصّر إصبهبدا لما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة.
ويقال: إن اسمه بالفارسية: بخت نرسى. فشخص حتى أتى دمشق، فصالحه أهلها.
ووجّه قائدا له، فأتى بيت المقدس، فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم، فقتلوه وقالوا:
« داهنت أهل بابل وخذلتنا »، واستعدّوا للقتال.
فكان من عاقبة جنايتهم على ملكهم أن كتب قائد بختنصّر إليه بما كان.
فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، وسار بختنصّر، حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، وقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وهرب الباقون إلى مصر.
فكتب بختنصّر إلى ملك مصر: « إنّ عبيدا لي هربوا مني إليك. فسرّحهم إليّ، وإلّا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل. » فكتب إليه ملك مصر:
« ما هم عبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار. » فغزاه بختنصّر، فقتله، وسبى أهل مصر. ثم انصرف بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن فيهم دانيال النبي وغيره من أبناء الأنبياء، وخرب بيت المقدس منذ ذاك.
وكان لهراسف بعيد الهمّة، طويل الفكر، شديد القمع للملوك المحيطة بإيرانشهر. وكانت ملوك الروم والمغرب والهند يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة معلومة، ويقرّون له أنّه ملك الملوك هيبة له. وكان بختنصّر حمل إليه من بيت المقدس خزائن وأموالا عظيمة. ثم كبرت سنّه، وأحسّ بالضعف.
فملّك ابنه بشتاسف، واعتزل الملك، وكان عمره وملكه فيما ذكر مائة وعشرين سنة. وقد قيل: إنّ بختنصّر كان في خدمة لهراسف، وتوجّه من قبله إلى الشام وبيت المقدس، ليجلى اليهود عنها، ففعل، ثم انصرف. ثم كان في خدمة ابنه بشتاسف، ثم في خدمة ابنه بهمن، وإنّ بهمن أقام ببلخ التي كانت تسمى: الحسناء، وأنفذ بختنصّر إلى بيت المقدس لإجلاء اليهود، وإنّ السبب في ذلك كان وثوب صاحب بيت المقدس على رسل بهمن وقتله بعضهم. فمضى بختنصّر، فسبى وهدم بيت المقدس. وانصرف إلى بابل، وملّك « متنيا » وسمّاه: « صدقيا ». فلمّا صار بختنصّر ببابل، خالفه صدقيا. فغزاه بختنصّر ثانيا، وظفر به. فأخرب المدينة والهيكل وأوثق صدقيا وحمله إلى بابل، بعد أن ذبح ولده وسمل عينيه، فمكث بنو إسرائيل ببابل، إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس. فكانت غلبة بختنصّر - وهو بخت نرسى - إلى أن مات، في هذا القول الذي حكيناه آنفا، أربعين سنة.
ثم قام بعده ابن له يقال له: نمروذ، ثم ابن له يقال له: بلتنصّر، فخلّط، ولم يرتض بهمن أمره، فعزله، وملّك مكانه:
كيرش
وتقدّم إليه بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبّوا، والرجوع إلى أرضهم وأن يولّى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي ﵇ فولّا أمرهم. وكان ملك كيرش ومدة سنيه معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصّر ومبلغها سبعون سنة. ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته يقال له:
اخشوارس
ابن كيرش بن جاماسب الملقّب ب « العالم ».
وولد لإخشوارس ولد من امرأة من سبى بني إسرائيل يقال لها: أشير، صنعا من الله لبني إسرائيل، فسمّاه:
كيرش
فملك بعد أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وعلّمه خاله التوراة، وفهم أمر دانيال ومن كان معه: مثل حننيا، وعازريا، وعزير. وتأدّب وعلم العلوم. وسأله بنو إسرائيل أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال:
« لو كان معي منكم ألف نبي، ما فارقني [ ما فارقني ] ما دمت حيّا ».
وولّى دانيال القضاء، وأمره ان يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصّر أخذه من بيت المقدس، فبنى وعمر في أيام كيرش، ومات بهمن لثلاث عشرة سنة خلت من قيام كيرش ببابل.
وقد حكى أهل التوراة في أمر بختنصّر أقوالا مختلفة تركنا ذكرها. إلّا أنهم ذكروا أن بختنصّر لما خرّب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا، ثم يقذفه في بيت المقدس. فقذفوا فيه من التراب ما ملأه. ولما انصرف إلى بابل، اجتمع معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم. فاجتمع عنده الكلّ، فاختار منهم سبعين ألف صبيّ. فلمّا خرجت غنائم جنده، سألوه أن يقسم فيهم الصبيان. فقسم في الملوك منهم، فأصاب كلّ رجل منهم أربعة. فكان من أولئك الغلمة: دانيال النبي، وحننيا، وميشايل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط آسر بن يعقوب، وعلى ذلك سائر أولاد يعقوب الأسباط.
ثم غزا بختنصّر العرب. وذلك في زمن معدّ بن عدنان. فوثب على كلّ من كان في بلاده من تجّار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات، ويمتارون من عندهم الحبّ والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، وبنى لهم حيرا على النجف، وحصّنه، وضمّهم فيه، ووكّل بهم حرسا. ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهّبوا لذلك، وانتشر الخبر في من يليهم من العرب، فخرجت إليهم طوائف منهم مسالمين فأحسن إليهم، وأنزلهم بختنصّر شاطئ الفرات، فابتنوا موضع معسكرهم، وسمّوه: « الأنبار » وخلّى عن أهل الحيرة، فاتّخذوها منزلا مدّة حياة بختنصّر. فلمّا مات انضموا إلى أهل الأنبار وبقي ذلك الحير خرابا.
وملك كي بشتاسف بن كي لهراسف، فبنى مدينة فسّا، وهو أول من عرف بسط دواوين الكتّاب، لا سيّما ديوان الرسائل، وأمر الكتّاب أن يطيلوا كتب الرسائل، ويذكروا فيها الأسباب والعلل.
وكان له ديوانان: أحدهما ديوان الخراج، والآخر ديوان النفقات. فكان كلّ ما يرد، فإلى ديوان الخراج، وكل ما يخرج من جيش وغيره، فإلى ديوان النفقات. وكان من رسم الوزير - واسمه: « برزج فرمذار » - أن يكون له خليفة يسمى:
« إيرانمارغر »، يصل إلى الملك، ويعرض عليه وينوب عن الوزير. فأمّا المتقلّد لديوان الرسائل فيسمّى: « دبيرفذ »، وكان له كاتب موكّل بدار المملكة، فان وقع على أحد تقصير في منزلة، أو حطّ في درجة، رجع إلى ذلك الكاتب حتى يبيّن حال مرتبته، فيجري عليه رسمه.
ظهور زردشت
وظهر في أيامه زردشت، وأراده على قبول دينه، فامتنع من ذلك، ثم صدّقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به، من كتاب يكتب في جلد اثنى عشر ألف بقرة، حفرا في الجلود، ونقشا بالذهب. وصيّر بشتاسف ذلك بإصطخر ووكّل به الهرابذة، ومنع تعليمه العامة، وبنى ببلاد الهند بيوتا للنيران، وتنسّك واشتغل بالعبادة. وهادن خرزاسف بن كي سواسف ابن أخي فراسياب وملك الترك على ضرب من الصلح. وفي شريطة الصلح أن يكون [ بباب ] خرزاسف دابّة موقوفة في منزلة الدواب التي تكون على أبواب الملوك، فأشار زردشت على بشتاسف، بنقض الهدنة، ومفاسدة ملك الترك. فقبل منه، وبعث إلى الدابّة، والموكّل بها، أن ينصرف، وأظهر الغدر. فغضب خرزاسف، وكتب إليه كتابا غليظا، وأمره بتوجيه زردشت إليه، وأقسم - إن امتنع - أن يغزوه حتى يسفك دمه ودماء أهل بيته.
فلما ورد الرسول بالكتاب، كتب كتابا أغلظ منه جوابا عن كتابه، وآذنه بالحرب، وأعلمه أنّه غير ممسك [ عنه ] إن أمسك، فسار بعضهما إلى بعض، ومع كلّ واحد منهما إخوته وأهل بيته. فقتل بينهما خلق كثير، وأحسن الغناء ابن بشتاسف إسفنديار، وقتل بيدرفش الساحر بيده مبارزة. فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا قتلا ذريعا، ومضى خرزاسف هاربا على وجهه، ورجع بشتاسف إلى بلخ.
فلمّا مضت لتلك الحرب سنون، سعى على إسفنديار رجل يقال له: فرّوخ، فأفسد قلب بشتاسف عليه. وذاك أنه أعلمه: أنه ينتدب للملك، ويزعم أنه أحقّ به، وأن الناس مائلون إليه. فصدّق بشتاسف بذلك، وترك الرفق ومعالجة الأمور على تؤدة، وأخذ في أن يندبه لحرب دون حرب. فكان ينجح فيها كلّها، ثم أمر بتقييده، وصيّره في الحصن الذي فيه حبس النساء. وصار بشتاسف إلى جبل يقال له: « طميذر »، لدراسة دينه، والتنسك هناك، وخلّف أباه لهراسف في مدينة بلخ شيخا هرما قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله على امرأته.
فكان من عاقبة ذلك، أن حملت الجواسيس خبره إلى خرزاسف، فجمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ. فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس، قدّم أمامه جوهرمز أخاه - وكان مرشّحا للملك - في جماعة من المقاتلة كثيرة، وأمرهم أن يغذّوا السير، حتى يتوسطوا المملكة، ثم يوقعوا بأهلها ويغيروا على المدن والقرى. ففعل جوهرمز ذلك، وسفك الدماء، واستباح الحرم، وسبى ما لا يحصى كثرة، واتبعه خرزاسف، فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسف، وأخذ فيما أخذ « درفش كابيان »، وشخص يتبع بشتاسف، فهرب منه بشتاسف، حتى تحصّن في الجبل الذي يعرف بطميذر مما يلي فارس، ونزل ببشتاسف ما ضاق به ذرعا وندم على ما صنعه بإسفنديار.
فيقال: إنه وجّه إليه بجاماسف، حتى استخرجه من محبسه، وصار به إلى أبيه. فلما دخل عليه، اعتذر إليه ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل به لهراسف، وقلّده عسكره، وأمره بمحاربة خرزاسف. فلما سمع إسفنديار كلام أبيه، طابت نفسه، وكفّر بين يديه، وتولّى الأمر، وتقدم فيما احتاج إليه.
ثم عبّى ليلته أصحابه، فلما أصبح، أمر بنفخ القرون، وسار بالجنود نحو عسكر الترك. فلما رأت الترك عسكره، خرجوا إليه على وجوههم يتسابقون وفي القوم جوهرمز وأندرمان. فالتحمت الحرب بينهم، وانقضّ إسفنديار [ و ] بيده الرمح كالبرق، حتى خالط القوم، وأكبّ عليهم بالطعن. فلم تكن هنيهة حتى ثلم في القوم ثلمة عظيمة، وفشا في الترك: إسفنديار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع العلم الأكبر، وحمل معه منشورا.
فلمّا دخل على بشتاسف، استبشر بظفره، وأمر باتّباع القوم وقتل خرزاسف إن قدر عليه، بلهراسف، وبقتل جوهرمز وأندرمان، بمن قتل من ولده، وبهدم حصون الترك وبحرق مدنها وبقتل أهلها، بمن قتلوا من حملة الدين، وباستنقاذ السبايا، ووجّه معه من القواد والعظماء خلقا كثيرا. فدخل إسفنديار بلاد الترك، ورام ما لم يرمه أحد، واعترض - على ما تزعم الفرس - العنقاء المذكورة، ورماها، ودخل مدينة الصفر عنوة، حتى قتل ملكها وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله، وسبى ذراريّه ونساءه واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه.
ياسر أنعم
فأمّا ملوك اليمن، فقد كتبناهم إلى عهد سليمان وأيّامه، ثم صار الملك إلى ياسر بن عمرو الذي يقال له: ياسر أنعم، لإنعامه على العرب. وكان سار غازيا نحو المغرب. حتى بلغ واديا يقال له: وادي الرمل، ولم يكن بلغه أحد قبله، ولم يجد وراءه مجازا لكثرة الرمل. فبينا هو مقيم إذ انكشف الرمل. فأمر بعض أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه. فعبروا، ولم يرجعوا. فأمر بصنم من نحاس، فصنع ثم نصب على صخرة عظيمة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند:
« هذا الصنم لياسر أنعم الحميري، ليس وراءه مذهب، فلا يتكلّفن ذلك أحد فيعطب. »
تبع
ثم ملك بعد تبّع. وهو تبان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن مليكيكرب، تبّع بن زيد بن عمرو بن تبّع ذي الاذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ.
وكان تبّع هذا في أيام بشتاسف وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسف.
خرج وغزا، وبلغ الأنبار، والموصل، ثم آذربيجان، ولقي بها الترك، فهزمهم، وقتل بها المقاتلة، وسبى الذريّة، فأقام بها دهرا، وهابته الملوك، وأهدت إليه، وقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والطرف من الحرير والمسك، وسائر الطرف، فرأى ما لا يرى مثله.
فقال: « ويحك! أكلّ هذا في بلادكم؟ » فقال: أبيت اللعن، هذا أقلّ ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين. » ووصف له بلاد الصين، وسعتها وخصبها. فآلى ليغزونّها، وسار بحمير، حتى أتى الصين في جمع عظيم، حتى دخلها، فقتل مقاتلتها، واكتسح ما وجد فيها.
ويزعمون أنّ مسيره إليها كان - ومقامه بها ورجعته منها - في سبع سنين. وخلّف بالتبّت اثنى عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت اليوم، ويزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانهم.
أردشير بهمن
وملك بعد بشتاسف أردشير بهمن. وانبسطت يده، وتناول الممالك بقدرة [ حتى ] ملك الأقاليم. وابتنى بالسواد مدينة وهي المعروفة ب « همينيا » وهو أبو دارا [ الأكبر ]، وأبو ساسان أبي الفرس الأخير أردشير بن بابك وولده.
وكان بهمن بن إسفنديار كريما، متواضعا، مرضيّا. وكانت تخرج كتبه: « من أردشير بهمن عبد الله، وخادم الله، والسائس لأمركم ».
ويقال: إنّه غزا الرومية الداخلة، في ألف ألف مقاتل. ولم تزل ملوك الأرض تحمل إليه الإتاوة، إلى أن هلك، وابنه دارا [ الأكبر ] في بطن أمه. فملّكوا خماى بنته شكرا لأبيها. وكان من أعظم ملوك الفرس شأنا، وأفضلهم تدبيرا. وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده. وتفسير « بهمن » بالعربية: « الحسن النيّة ».
خماي
ثم ملكت خماي بنته، لأنّها حملت منه دارا الأكبر، وسألته أن يعقد التاج له في بطنها، ويؤثره بالملك، ففعل بهمن ذلك. وكان ساسان بن بهمن في ذلك الوقت رجلا يتصنّع للملك، [ لا يشكّ ] فيه. فلما رأى ساسان ما فعل أبوه، شقّ عليه، فلحق بإصطخر، وتزهّد، وخرج من الحلية، واتخذ غنيمة، فكان يتولّى ماشيته بنفسه، واستشنعت العامة ذلك من فعله، وقالوا: « صار ساسان راعيا ».
وسبّوه به. ثم لمّا كبر دارا حوّل التاج إليه. وكانت خماى ضبطت الحكم بنجدة ورأى وحصافة، وأغزت الروم جيشا، وأوتيت ظفرا. فقمعت الأعداء وشغلتهم عن تطرّف شيء من بلادها، ونال رعيّتها في تدبيرها خفض ورفاهة، إلى أن ملّك ابنها:
دارا بن بهمن
فنزل بابل، وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك يؤدّون إليه الخراج. ابتنى بفارس مدينة، وسماها: « دارا بجرد ». وحذف دوابّ البريد ورتّبها. وكان معجبا بابنه « دارا »، وبلغ من حبّه إيّاه أن سمّاه باسم نفسه، وصيّر له الملك من بعده، وكان له وزير يسمّى: « رشتين » محمودا في عقله. فشجر بينه وبين غلام تربّى مع دارا الأصغر يقال له: « بيرى »، شرّ وعداوة. فسعى رشتين عليه عند الملك. فيقال: إنّ الملك سقى بيرى شربة فمات، فاضطغن دارا الأصغر على رشتين، وعلى جماعة كانوا عاونوه.
دارا الأصغر
فلمّا ملك دارا ابن دارا بن بهمن، كان أول ما تكلم به حين عقد التاج على رأسه، قال:
« لن ندفع أحدا في مهوى الهلكة، ومن تردّى فيها، لم نكففه عنها. » واستكتب أخا بيرى، واستوزره، رعاية لحق أخيه، وأنسا به، ولم يكن في موضع الوزارة، ولا كان له كفاية رشتين.
فكان من عاقبة ذلك، أن أفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم، فاستوحشت منه الخاصّة والعامّة، ونفروا عنه، وكان حقودا جبّارا. فعرف خبره الإسكندر فغزاه وقد ملّه أهل مملكته، واستوحش جنده، وأحبّ الجميع الراحة منه. فلحق كثير من وجوه أصحابه وأعلام جنده بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا وقوّوه عليه، فلمّا التقيا ببلاد الجزيرة، اقتتلا سنة. ثم إنّ رجالا من أصحاب دارا وثبوا به، فقتلوه، وتقرّبوا بذلك إلى الإسكندر، فأمر بقتلهم وقال:
« هذا جزاء من اجترأ على ملكه. » وتزوّج ابنته: روشنك. ثم غزا الهند ومشارق الأرض، فملكها. ثم انصرف وهو يريد الاسكندرية، فهلك بناحية السواد، فحمل في تابوت من ذهب إلى أمّه. وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع ملك الروم وكان قبل الإسكندر متفرقا، وتفرّق ملك فارس وكان مجتمعا.
مما يحكى عن الإسكندر وحيله الإسكندر ودارا
وقد كان فيلفوس أبو الإسكندر، صالح دارا، على خراج يحمله إليه في كلّ سنة. فلمّا هلك الأب، وملك الإسكندر، وطمع في دارا، منعه الخراج الذي كان يحمله أبوه إليه. فأسخط دارا، فكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، وأنه إنما دعاه إلى حبس ذلك، الصبى والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة وبقفيز من السمسم: يعلمه بذلك أنه إنّما ينبغي أن يلعب مع الصبيان بالصولجان، ولا يتقلّد الملك، ولا يتلبّس به، ويعلمه أنه إن لم يقتصر على ما أمره به، وتعاطى الملك، بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وأن عدّة جنوده الذين يبعث بهم، كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب الإسكندر في جواب ذلك، أن قد فهم ما كتب به، ونظر إلى ما أرسله من الصولجان والكرة، وتيمّن به، لإلقاء الملقى الكرة إلى الصولجان واجتراره إيّاها، وأنّه شبّه الأرض بالكرة، وتفأل بملكه إياها، واحتوائه عليها، وأنه يجترّ ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى حيّزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به، كنظره إلى الصولجان والكرة، لدسمه وبعده من المرارة والحرافة. وبعث إلى دارا مع كتابه بصرّة من « خردل »، وأعلمه في ذلك الجواب: أنّ ما بعث به إليه قليل، غير أنّ ذلك مثل الذي بعث به في القوّة، والحرافة، والمرارة، وأنّ جنوده فيما وصف به منه.
فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده، وتأهّب لمحاربة الإسكندر، وتأهّب له الإسكندر، وسار نحو بلاد دارا. فلمّا التقيا، وجرى ما جرى من أمر القائدين اللذين تقرّبا إلى الإسكندر وطلبا الحظوة عنده والوسيلة، وكان نادى الإسكندر ألّا يقتل دارا، وأن يؤسر أسرا، فلمّا أعلم الإسكندر بما جرى، سار حتى وقف عنده، فرآه يجود بنفسه. فنزل الإسكندر عن دابته، حتى جلس عند رأسه، وأخبره أنه ما همّ بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رأيه.
وقال له: « سلني ما بدا لك فإنى أسعفك به. » فقال له دارا: « لي حاجتان: إحداهما أن تنتقم لي من الرجلين اللذين فتكا بي - وسمّاهما - والأخرى أن تتزوج ابنتى: روشنك. » فأجابه إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين انتهكا من ملكهما ما انتهكا، وتزوّج روشنك وملك الأرض كلها.
ويقال: إن الرجلين اللذين قتلا دارا، إنّما فعلا ذلك بأمر الإسكندر، وكان شرط لهما شرطا. فلما طعناه، دفع إليهما حكمهما، ووفى لهما بشرطهما، ثم قال:
« قد وفيت لكما بالشرط، ولم تكونا شرطتما أنفسكما، وأنا قاتلكما، فإنّه ليس ينبغي لقتلة الملوك أن يستبقوا، إلّا بذمّة لا تخفر »، فقتلهما وصلبهما.
ويقال: إنّ الإسكندر في الأيام التي نازل فيها دارا كان يصير إليه بنفسه على أنه رسول. فيتوسط العسكر، ويعرف كثيرا مما يحتاج إليه. فكان إذا وصله دارا، أعجب به واستحسن سمته ومجاراته. إلى أن اتهمه وأحسّ الإسكندر، فهرب.
ذكر حيلة للإسكندر
فلمّا تواقفت الخيلان يوم الحرب، خرج الإسكندر من صفّ أصحابه وأمر من ينادى:
« يا معشر الفرس! قد علمتم ما كتبنا لكم من الأمانات، فمن كان منكم على الوفاء، فليعتزل عن العسكر، وله منّا الوفاء بما ضمنّاه. » واتهمت الفرس بعضها بعضا. فكان أول اضطراب حدث فيهم.
حيلة أخرى
ومما يحكى من حيله في الحروب: أنه لما شخص عن فارس إلى أرض الهند، تلقّاه فور ملكها في جمع عظيم، ومعه ألف فيل عليها السلاح والرجال، وفي خراطيمها السيوف والأعمدة، فلم تقف دواب الإسكندر وانهزم. فلما حصل في مأمنه، أمر باتخاذ فيلة من نحاس مجوّفة، وربط خيله بين تلك التماثيل حتى ألفتها، ثم أمر فملئت نفطا وكبريتا، وألبسها الدروع، وجرّت على العجل إلى المعركة، وبين كلّ تمثالين منها جماعة من أصحابه. فلما نشبت الحرب، أمر بإشعال النيران في أجواف التماثيل، فلما حميت، انكشف أصحابه عنها، وغشيتها الفيلة، فضربتها بخراطيمها، فنشطت وولّت مدبرة راجعة على أصحابها، وصارت الدبرة على ملك الهند.
حيلة أخرى له
ومما يحكى أيضا عنه: أنه كان نزل على مدينة حصينة. فتحصن منه أهلها وعرف خبرها، فأعلم أنّ فيها من الميرة والعيون المنفجرة كفايتهم. فدسّ تجّارا متنكرين، وأمرهم بدخول المدينة، وأمدّهم بمال على سبيل التجارة، وتقدم إليهم ببيع ما معهم، وابتياع ما أمكنهم من الميرة، والمغالاة بها. ففعل التجار ذلك، ورحل الإسكندر عنهم. فلم يزل التجار يشترون الميرة، إلى أن حصل في أيديهم أكثره. فلما علم الإسكندر ذلك، كتب إليهم أن أحرقوا الميرة التي في أيديكم واهربوا. ففعلوا ذلك، وزحف الإسكندر إليها، فحاصرهم أياما يسيرة، فأعطوه الطاعة، وملك المدينة.
وكان أيضا إذا انصرف عن مثل هذه المدينة، شرّد من حولها من أهل القرى، وتهدّدهم بالسبي، حتى خرجوا هاربين معتصمين بالمدينة، فلا يزال بذلك حتى يعلم أنّه قد دخلها أضعاف أهلها وأسرعوا في الميرة، فيرجع حينئذ، فيحاصرهم، ويفتح المدينة.
الإسكندر وأرسطوطالس
ومما يحكى عنه: أنّه كتب إلى أرسطوطالس يخبره: أنّ في عسكره من الروم جماعة من خاصته، لا يأمنهم على نفسه، لما يرى من بعد هممهم وشجاعتهم وكثرة آلتهم، ولا يرى لهم عقولا تفي بتلك الفضائل، ويكره الإقدام بالقتل عليهم بالظنّة، مع وجوب الحرمة.
فكتب إليه أرسطوطالس:
« فهمت كتابك، وما وصفت به أصحابك. فأمّا ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمة. وأمّا ما ذكرت من شجاعتهم ونقص عقولهم عنها، فمن كانت هذه حاله، فرفّهه في معيشته، واخصصه بحسان النساء. فإنّ رفاهة العيش توهى العزم، وتحبّب السلامة، وتباعد من ركوب الخطأ والغرر. وليكن خلقك حسنا تخلص لك النيات، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط إخوتك مثله.
فليس مع الاستيثار محبة، ولا مع المواساة بغضة. واعلم أنّ المملوك إذا اشترى لا يسأل عن مال مولاه وإنّما يسأل عنه خلقه. » وكان الإسكندر في الأيام التي لقي فيها دارا، وجل من محاربته، ودعاه إلى الموادعة، لما رأى كثرة عدّته وعتاده وعدد جنده. فاستشار دارا أصحابه في أمره، فغشّوه، وزيّنوا له الحرب، لفساد قلوبهم عليه، وكاتبوا الإسكندر، وأطمعوه فيه. وكان ملك دارا أربع عشرة سنة. فهدّم الإسكندر حصون الفرس، وبيوت النيران، وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، ودواوين دارا.
وكاتب معلّمه ووزيره أرسطوطالس يعلمه: أنّه شاهد بإيرانشهر رجالا ذوي أصالة في الرأي، وجمال في الوجوه، لهم مع ذلك صرامة وشجاعة، وأنه رأي لهم هيآت وخلقا، لو كان عرف حقيقتها، لما غزاهم، وأنّه إنّما ملكهم بحسن الاتفاق والبخت، وأنّه لا يأمن - إن ظعن عنهم - وثوبهم، ولا تسكن نفسه إلّا ببوارهم.
فكتب إليه أرسطوطالس:
« فهمت كتابك في رجال فارس. فأما قتلهم فهو من الفساد في الأرض ولو قتلتهم لأنبت البلد أمثالهم لأنّ إقليم بابل يولّد أمثال هؤلاء الرجال، من أهل العقول والسداد في الرأي، والاعتدال في التركيب، فصاروا أعداءك وأعداء عقبك بالطبع، لأنّك تكون قد وترت القوم، وكثرت الأحقاد على أرض الروم منهم وممن بعدهم، وإخراجك إياهم في عسكرك مخاطرة بنفسك وأصحابك. ولكنى أشير عليك برأى هو أبلغ لك في كلّ ما تريد من القتل، وهو أن تستدعى أولاد الملوك منهم، ومن يستصلح للملك ويترشح له، فتقلّدهم البلدان، ويتوليهم الولايات، ليصير كل واحد منهم ملكا برأسه، فتتفرّق كلمتهم، ويجتمعوا على الطاعة لك، ولا يؤدّى بعضهم إلى بعض طاعة، ولا يتّفقوا على أمر واحد، ولا تجتمع كلمتهم. » ففعل الإسكندر ذلك، فتمّ أمره، وأمكنه أن يتجاوز ملك الفرس، فسار قدما إلى أرض الهند، حتى قتل ملكها مبارزة، بعد حروب عظيمة هائلة، وفتح مدنها، ثم صار إلى الصين، وصنع بها كصنيعه بأرض الهند، ثم طاف مما يلي القطب الشمالي، ورجع إلى العراق، وخرج منها بعد أن ملّك ملوك الطوائف، فمات في طريقه بشهرزور، ويقال: بل في قرية من قرى بابل، وكان عمره ستّا وثلاثين سنة، وملك منها ثلاث عشرة سنة وأشهرا. وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه.
الإسكندر وملك الصين
وفي الرواية الصحيحة: أنّ الإسكندر لما انتهى إلى بلاد الصين، أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره، فقال:
« هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن في الدخول عليك. » قال: « أدخله. » فأدخله. فوقف بين يدي الإسكندر، وسلّم، ثم قال:
« إن رأى الملك يستخلينى. » فأمر الملك من بحضرته أن ينصرفوا، فانصرفوا كلهم وبقي حاجبه. فقال:
« إن الذي جئت له، لا يحتمل أن يسمعه غيرك. » قال: « فتّشوه. » فلم يوجد معه سلاح. فوضع الإسكندر بين يديه سيفا مسلولا وقال له:
« قف بمكانك وقل ما شئت. » وأخرج كلّ من كان بقي عنده.
فقال:
« أنا ملك الصين، لا رسوله، جئت أسألك عما تريده، فإن كان مما أمكن عمله - ولو على أصعب الوجوه - عملته، وأغنيتك عن الحرب. » فقال له الإسكندر: « ما الذي آمنك منى؟ » قال: « علمي بأنّك عاقل حكيم، ولم تك بيننا عداوة، ولا مطالبة بذحل، وأنّك تعلم، إن قتلتني، لم يكن ذلك سببا لتسليم أهل الصين إليك ملكهم، ولم يمنعهم قتلي من أن ينصبوا لأنفسهم ملكا، ثم ينسب إلى غير الجميل، وضدّ الحزم. » فأطرق الإسكندر، وعلم أنه رجل عاقل، ثم قال له:
« الذي أريد منك ارتفاع مملكتك لثلث سنين عاجلا، ونصف ارتفاع مملكتك لكلّ سنة ».
قال: « هل غير هذا؟ » قال: « لا. » قال: « قد أجبتك، ولكن سلني: كيف تكون حالي بعد ذلك؟ » قال: « قل، كيف تكون حالك؟ » قال: « أكون أول قتيل من محارب، أو أول أكيلة مفترس. » قال: « فإن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف تكون حالك؟ » قال: « تكون أصلح قليلا وأفسح مدّة. » قال: « فإن قنعت منك بارتفاع سنة؟ » قال: « يكون في ذلك بقاء لملكى، وذهاب جميع لذّاتى. » قال: « فإن قنعت منك بارتفاع الثلث، كيف تكون حالك؟ » قال: يكون السدس للفقراء ومصالح البلاد، ويكون الباقي لجيشى ولسائر أسباب الملك ».
فقال: « قد اقتصرت منك على هذا. » فشكره وانصرف. فلما طلعت الشمس، أقبل جيش الصين، حتى طبّق الأرض، وأحاط بجيش الإسكندر، حتى خافوا الهلاك. وتواثب أصحابه حتى ركبوا الخيل، واستعدوا للحرب بعد الأمن والطمأنينة إلى السلم. فبينا هم كذلك، إذ طلع ملك الصين وعليه التاج وهو راكب. فلما تراءى الصفّان، ورأى الإسكندر ملك الصين، قدّر أنه حضر للحرب.
فصاح به: « أغدرت؟ » فترجّل، وقال: « لا، والله. » قال: « فادن منى. » فدنا وقال: « ما هذا الجيش الكثير؟ » قال: « إني أردت أن أريك أنّى لا أطيعك من قلّة وضعف، ولكني رأيت العالم العلوي مقبلا عليك، ممكّنا لك ممن هو أقوى منك وأكثر عددا، ومن حارب العالم العلوي غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والتذلل له بالتذلل لك. » فقال له الإسكندر: « ليس مثلك من يسام الذلّ، ولا من يؤدّى الجزية، فما رأيت بيني وبينك من الملوك، من يستحق التفضيل والوصف بالعقل، غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك ».
فقال ملك الصين: « فلست تخسر. » ثم انصرف عنه الإسكندر، فبعث إليه ملك الصين بضعف ما قرّره معه.
وبنى الإسكندر اثنتي عشرة مدينة، وسمّاها كلّها « الاسكندرية »، منها: مدينة « جيّ » بإصبهان، وثلاث مدن أخرى بخراسان، وهي: هراة، ومرو، وسمرقند.
وبنى بأرض بابل مدينة لروشنك، وبنى بأرض يونان سبع مدن.
البطالسة
وعرض على ابن للإسكندر الملك بعد وفاة أبيه، فأبى واختار النسك، ملّكت اليونانية على رواية أكثر الناس بطليموس. ثم ملك عدة متوالية يقال لكل واحد منهم: « بطلميوس »، كما يقال لملوك الفرس: « الأكاسرة » وتغلّب قوم من اليونانيين بعده على نواحي مصر والشام.
الأشغانية ومن عاصرهم
واختلف أهل الرواية في عدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، إلى أن قام بالملك أردشير بابكان، فنظم ملك الفرس. فبعضهم يزعم أنّ آشك - وهو ابن دارا الأكبر - جمع جمعا كثيرا وسار إلى أنطيخس، وكان مقيما بسواد العراق من قبل الروم، وزحف إليه أنطيخس. فالتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس، وغلب آشك على السواد، وصار في يده من الموصل إلى الريّ وإصبهان، وعظّمه سائر ملوك الطوائف لشرفه، وما كان من فعله، وبدءوا به على أنفسهم في كتبهم، وبدأ فيما كان يكتب إليهم بنفسه، وسمّوه ملكا، وأهدوا إليه، من غير أن يعزل أحدا منهم، أو يستعمله.
ثم ملك جوذرز بن أشكان
وهو الذي غزا بني إسرائيل المرّة الثانية. وذلك بعد قتلهم يحيى بن زكريّا.
فسلّطه الله عليهم، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم [ جماعة بعد ] ذلك ورفع الله عنهم النبوّة، وأنزل بهم الذلّ.
وكان من سنّة الفرس بعد الإسكندر، أن يخضعوا لمن ملك بلاد الجبل.
فخضعوا للأشغانيّة، وأوّلهم: أشك بن أشكان، ثم سابور بن أشكان - وفي أيامه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين - ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، ثم بيرى الأشغانى، ثم جوذرز الأشغانى، ثم نرسى الأشغانى، ثم هرمز الأشغانى، ثم أردوان الأشغانى، ثم كسرى الأشغانى، ثم بلاش الأشغانى، ثم أردوان الأصغر الأشغانى، ثم أردشير بن بابك.
فكان مدّة هؤلاء إلى أن وثب أردشير على الأردوان، فقتله وجمع أمر الفرس، مائتين وستّا وستّين سنة. ولم يقع إلينا شيء من تدابيرهم يستفاد منه تجربة إلّا خبر لبعض الروم، وهو:
ذكر حيلة لبعض ملوك الروم
كان أحد ملوك الفرس وجّه رجلا من جلّة قوّاده في جيش إلى ملك الروم، فحاربه، فأجلاه الفارسيّ عن أكثر بلاده، حتى فتح أنطاكية، وجاوزها، وأوغل في بلاد الروم. فجمع ملك الروم رؤساء قومه، فشاورهم. فأشاروا بأمور مختلفة، حتى انفرد له رجل من أهل مملكته، ولم يكن من أبناء الملوك.
فقال: « إنّ عندي رأيا أشير به. فإن رزق الله الظفر، فما لي عندك؟ »
قال الملك: « سل حاجتك. » قال: « إني أرى الرأي الصحيح، وأخاطر فيه بنفسي، فاجعل لي الملك من بعدك. » قال: « نعم »، فوثّق له به.
فقال الرومي: « إنّ الفرس قد طمعت في ملكنا، فلم يبق منهم نجد ولا ذو رأى إلّا وجّهوه في وجوهنا، وقد ضعفنا عنهم، وقد حملوا ذراريّهم إلى الشام والجزيرة. فالرأي أن تأذن لي فأنتخب من عسكرك خمسة آلاف رجل، ثم أحملهم في البحر، وأصير من خلفهم، فأوكل بمضائق الطرق، وصعاب العقاب، رجالا من أصحابي من أهل البأس والنجدة، فإنّ خبري إذا بلغهم، فتّ في عضدهم ونخبت قلوبهم، ورجعوا إلى عيالاتهم وأموالهم متقطّعين، فلا يمرّ بالمواضع التي وكّلت بها أحد من الفرس إلّا قتل، فلا يسلم إلّا القليل الذين إذا صاروا إلى الشام أتيت عليهم وتشرّدهم أنت من خلفهم. » فأجابه الملك إلى رأيه، وأنفذه إلى الشام. فلما بلغ الفرس أنّ الروم قد خلفتهم في أموالهم، وأهاليهم، خرج أكثرهم على وجوههم متقطّعين لا يلوون على شيء، ومرّوا بمضائق الطرق، فقتل أكثرهم، وخرج ملك الروم إلى من بقي منهم، فهزمهم، فلم يسلم منهم إلّا القليل. فتحوّل الملك بذلك السبب من أهل بيت المملكة بالروم، إلى قوم ليسوا من أهل بيتها، بل هم من أهل إرميناقس، فبقى فيهم إلى هذه الغاية.
ذكر سبب طمع العرب في أطراف الفرس
كنّا حكينا من أمر بختنصّر أنّه أنزل الحيرة من العرب جماعة، فانتقلوا بعد موته إلى الأنبار، وبقي الحير خرابا يبابا، زمانا طويلا، لا تطلع [ عليهم ] طالعة من بلاد العرب، ولا يطمع أحد فيهم من الريف، بعد ما قصدهم بختنصّر.
فلمّا غلب الإسكندر على مملكة الفرس، وجعلها مقسومة في ملوك الطوائف، ضعف كل واحد منهم في نفسه، وصار عدوّه بالقرب منه من الأرض، ولكلّ واحد خندق يقصده الآخر، فيغير بعضهم على بعض، ثم يرجع كالخطفة.
وقد كان كثر في ذلك الزمان أولاد معدّ بن عدنان، ومن كان معهم من قبائل العرب، وملأوا بلادهم من تهامة وما يليهم، وحدثت بينهم أحداث وحروب، فتفرّقوا، وخرجوا يطلبون متّسعا في بلاد اليمن ومشار [ ف ] الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين وبها جماعة من الأزد، وكانوا نزلوها في زمان ابن ماء السماء، وتحالف القوم الذين خرجوا من تهامة على التنوخ بالبحرين - التّنوخ: المقام - وكان منهم قوم من قضاعة، وقوم من معدّ، وقوم من إياد.
فتعاقدوا على التوازر والتناصر، وصاروا يدا على الناس وصار اسمهم: « تنوخ ».
ثم لمّا بلغهم انتشار أمر الفرس واختلاف كلمتهم، تطلّعت نفوسهم إلى ريف العراق، وطمعوا في الفرس وفيما يلي بلاد العرب من أعمالهم، أو مشاركتهم فيها، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على المسير الى العراق. فلمّا ساروا، وجدوا الإرمانيّين - وهم القوم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل - يقاتلون الأردوانيّين، وهم: ملوك الطوائف، وهم فيما بين نفّر - قرية من سواد العراق - إلى الأبلّة وأطراف البادية. فلم تدن لهم، فدفعوهم عن بلادهم. وإنما قيل: « الإرمانيّين » لأنّه كان يقال لعاد: « إرم »، فلمّا هلكت، قيل لثمود: « إرم »، ثم سمّوا: « الإرمانيّين » وهم بقايا « إرم »، وهم نبط السواد. ويقال لدمشق: « إرم ».
ثم طلع قوم من تيم الله، وغطفان في من تنخ معهم من الحلفاء والعشائر على الأنبار، على ملك الإرمانيّين. وطلع قوم من كندة وبنى فهم مع من حالفهم. وتنخ بعضهم على نفّر على ملك الأردوانيّين، فأنزلوا الحير، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة نفّر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم، حتى قدمها تبّع - وهو أسعد بن مليكيكرب - في جيوشه، فخلّف بها من لم تكن به قوّة ومن لم يقو على الغزو معه، ولا الرجوع إلى بلاده. فانضمّوا إلى أهل الحيرة، وخرج تبّع في حمير سائرا، ثم رجع إليهم، فأقرّهم على حالهم، وانصرف إلى اليمن وفيهم من كلّ القبائل من بنى لحيان - وهم بقايا جرهم - وطيّء، وكلب، وتميم، وغيرهم، واتّصلت جماعتهم وقووا، وكانوا بين الأنبار والحيرة إلى طفّ الفرات في المظالّ والأبنية، وكانوا يسمّون: « عرب الضاحية ».
من عاصر الأشغانيين من ملوك العرب
فكان أوّل من ملك منهم:
مالك بن فهم، وملوك الفرس طوائف، وقد دخل الوهن عليهم، وطمع فيهم.
ثم ملك أخوه عمرو بن فهم.
ثم جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، فقوى أمره، وكان جيّد الرأي، شديد النكاية في الأعداء بعيد المغار. فاستجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وعظّمته العرب، وكنت - عن برص به - ب « الأبرش » وب « الوضّاح »، فكان تفد عليه الوفود، وتجبى إليه الأموال.
وكان عنده غلام من إياد يقال له: عديّ بن نصر بن ربيعة، وضيء، له جمال وظرف، يلي شرابه. فعشقته أخت جذيمة رقاش، وما زالت تحتال، وتواطئه، حتى زوّجها الملك بعديّ في سكره. فوطئها من ليلته وعلقت منه. فلما أصبح جذيمة وعرف الخبر، ندم ندامة شديدة. وعرف عديّ الخبر، فهرب، ولحق بإياد حتى هلك. واشتملت رقاش على حبل، فولدت غلاما وسمّته عمرا. فترعرع الغلام وحسن وبرع، فالبسته وحلّته، وأزارته خاله جذيمة، فأعجب به، وأحبّه، وخلطه بولده، وأمر فطوّق، وهو أوّل عربيّ ألبس طوقا. ثم تزعم العرب أنّ الجنّ استهوته زمانا إلى أن عاد إلى جذيمة. وله خبر.
عمرو بن ظرب
وكان قد ملك بأرض الحيرة ومشار [ ف ] بلاد الشام، عمرو بن ظرب بن حسّان العمليقى. فجمع جذيمة جموعه من العرب ليغزوه. وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام. فالتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عمرو بن ظرب، وفضّت جموعه، وغنمه جذيمة وانصرف موفورا. فملكت من بعده ابنته:
الزباء
واسمها نائلة. وكان جنودها بقايا من العماليق، والعاربة الأولى، وقبائل من قضاعة. فلمّا استحكم حكمها، أجمعت على غزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها. واستشارت أهل الرأي، فأشير عليها بالعدول عن الحرب إلى المكر، وأعلموها أنّها امرأة، والحرب سجال بين الرجال، وأنّها لو قد هزمت كان البوار، وأعلموها من غبّ مباشرة مثلها للحرب، ما كرهته.
وأشارت عليها أختها « زنيبة » وكانت ذات دهاء وإرب - أن تأتى الأمر من جهة الخدع والمكر، وأن تكتب إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها.
فقبلت ذلك وكتبت إليه:
أنها لم تجد ملك النساء إلّا إلى قبح في السماع، وضعف في السلطان وقلّة ضبط للمملكة، وأنّها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤا « غيرك. فهلمّ إليّ، واجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتولّ تدبيري كلّه وأمري، لتموت الضغائن والأحقاد، وتزول عن قلوب الناس ما خامرها من العداوات. » فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها بمخاطبات شبيهة بهذا المعنى، استخفّه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع أهل الرأي من أصحابه، فاستشارهم. فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولى على ملكها.
وكان فيهم رجل يقال له:
قصير بن سعد
وكان سعد هذا تزوّج أمة تخدم لجذيمة، فولدت له قصيرا، وكان حازما، أريبا، أثيرا عند جذيمة. فخالفهم في ما أشاروا به عليه، وقال:
« رأى فاتر وغدر حاضر. » - فذهب مثلا.
فنازعوه الرأي، فقال لجذيمة:
« أكتب إليها: فلتقبل إليك إن كانت صادقة. فإن لم تفعل. لم تسر إليها ممكّنا [ إيّاها ] من نفسك وقد وترتها، وقتلت أباها. » فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، وقال جذيمة:
« أنت امرؤ رأيك في الكنّ، لا في الضحّ » - فذهبت مثلا.
دعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عديّ، فاستشاره، فشجّعه على المسير، وقال:
« هناك نمارة قومي، ولو قد رأوك، صاروا معك. » فأطاعه وعصى قصيرا. فقال قصير:
« لا يطاع لقصير أمر. » وفي ذلك يقول الشعراء ما حذفناه طلب الإيجاز.
واستخلف جذيمة عمرو بن عديّ على ملكه وسلطانه. وسار في وجوه أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربيّ. فلمّا نزل رحبة مالك بن طوق - وكان تدعى في ذلك الزمان « الفرضة» - دعا قصيرا، فقال: ما الرأي؟ »
فقال: « ببقّة تركت الرأي. »
فذهبت مثلا. واستقبلته رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: « يا قصير كيف ترى؟ » قال:
« خطر يسير في خطب كبير - فذهبت مثلا - وستلقاك الخيل، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك، فالقوم غادرون، فاركب العصا، فإني مسايرك عليها. » وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تجارى، فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير مولّيا على متنها، فقال:
« ويل أمّه حزما على ظهر العصا. » - فذهبت مثلا.
ونجا قصير، وأدخل على الزبّاء. فلما رأته كشفت له عن إسبها، فإذا هو مضفور. فقالت:
« يا جذيمة! أدأب عروس ترى؟ » - فذهبت مثلا.
فقال: « بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى. » - فذهبت مثلا.
فتمّت حيلتها على جذيمة، حتى قتلته بأن قطعت راهشيه، في خبر طويل، وأمثال محفوظة. فهلك جذيمة، وخرج قصير حتى قدم على عمرو بن عديّ
وهو بالحيرة.
فقال له قصير: « أداثر، أم ثائر؟ » فقال: « بل ثائر سائر. » - فذهبت مثلا.
ذكر حيلة لقصير على الزباء تمت له عليها
كانت الزبّاء قد سألت الكهنة والمنجّمين عن أمرها وملكها، فقالوا:
« نرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين. » ووصفوا قصيرا وعمرو بن عديّ، وقالوا:
« لن تموتي إلّا بيده، ولكنّ حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون. » فحذرت عمرا، واتّخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه، إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجئنى أمر دخلت النفق إلى حصني.
ثم دعت مصوّرا حاذقا فجهّزته، وقالت:
« سر حتى تقدم على عمرو بن عديّ متنكّرا فتخلو بحشمه وتخالطهم بما عندك من التصوير، ثم أثبت عمرو بن عديّ معرفة، فصوّره جالسا، وقائما، وراكبا، ومتفضّلا، ومتسلّحا بهيئته، ولبسته، وثيابه، ولونه. فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إليّ. » فانطلق المصوّر، حتى قدم على عمرو بن عديّ وبلغ جميع ما وصّته به، ثم رجع إليها بما وجّهته له من الصور. فعرفت عمرا على جميع هيئاته، وحذرته.
ثم إنّ قصيرا قال لعمرو: « إجدع أنفى، واضرب ظهري، ودعني وإيّاها. » فقال عمرو: « وما أنا بفاعل، ولا أنت بمستحقّ مني لذلك. » فقال قصير: « خلّ عني إذا وخلاك ذمّ. » فذهبت مثلا.
فقال له عمرو: « فأنت أبصر. » فجدع قصير أنف نفسه، وأثّر بظهره، وقيلت فيه الأشعار. وخرج قصير كأنّه هارب، وأظهر أنّ عمرا فعل به ذلك، وأنّه يزعم أنّه مكر بخاله جذيمة، وغرّه من الزبّاء.
فسار قصير حتى قدم على الزبّاء. فقيل لها: « إنّ قصيرا بالباب. » فأمرت به، فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب.
فقالت: « ما الذي أرى بك يا قصير؟ » قال: « زعم عمرو أنّى غررت خاله، وزيّنت له المسير إليك، وغششته، ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك، وعرفت أنّى لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. » فأكرمته، وأصابت عنده حزما ورأيا وتجربة ومعرفة بأمور الملوك. فلمّا علم أنّها قد وثقت به، واسترسلت إليه، قال لها:
« إنّ لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزوزها، وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة، والطيب، والتجارات، فتصيبين ما لا غناء للملوك عنه، مع أرباح عظيمة، فإنّه لا طرائف كطرائف العراق. » فلم يزل بها يزيّن لها ذلك، حتى سرّحته، ودفعت إليه أموالا، وجهّزت معه عيرا، وقالت:
« انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهّزناك به، وابتع لنا طرائف ما يكون بها. » فسار قصير، وأتى الحيرة متنكّرا، فدخل على عمرو، وأخبره بالخبر، وقال:
« جهّزنى بالبزّ والطرف من الأمتعة، لعلّ الله يمكّن من الزبّاء، فتصيب ثأرك، وتقتل عدوّك. » فأعطاه حاجته، وجهّزه بصنوف الثياب وغيرها. فرجع بذلك كلّه إلى الزبّاء فعرضه عليها. فأعجبها ما رأت، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهّزته بأكثر ممّا كانت جهّزته به. فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عديّ، وحمل من عنده ما ظنّ أنّه موافق للزبّاء، ولم يترك جهدا ولا حيلة في طرفة ولا متاع قدر عليه إلّا حمله إليها.
ثم عاد الثالثة إلى العراق. فقال لعمرو:
« اجمع إليّ ثقات قومك وأصحابك وجندك، وهيّئ لي الغرائر والمسوح. » وحمل كلّ رجلين في غرارتين، وجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها، وقال:
« إذا دخلنا مدينة الزبّاء، أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإذا أقبلت الزبّاء تريد النفق، حلّلتها بالسيف. » ففعل عمرو بن عدى جميع ذلك. فلمّا قرب من المدينة، تقدّم قصير إليها، وبشّرها، وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال. وكان قصير يكمن النهار ويسير بالليل. فخرجت الزبّاء فأبصرت الإبل. فلمّا توسّطت الإبل المدينة أنيخت، ودلّ قصير عمرا على باب النفق، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة، ووضعوا فيهم السلاح. وقام عمرو بن عديّ بباب النفق، وأقبلت الزبّاء مبادرة تريد النفق لتدخله. فأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة التي صوّرها المصوّر، فمصّت خاتمها وكان فيه سمّ، وقالت:
« بيدي، لا بيدك يا عمرو! » فحلّلها بالسيف، فقتلها وأصاب ما أصاب، وانكفأ سالما.
عمرو بن عدي
وصار الملك بعد جذيمة لعمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتّخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وإليه تنسب ملوك آل نصر، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة، لا يدين لملوك الطوائف، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس، فكان من أمرهم ما كان. ولم يكن لملوك اليمن نظام قبل آل نصر، وإنّما كان الرئيس يكون ملكا على مخلافه ومحجره، ولا يتجاوزه، فإن نبغ منهم نابغ مثل تبّع وغيره، فتجاوز ذلك، فإنّما هو عن غير نظام ولا ملك موطّد [ له ] ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من تشرّد، فيغير عند الغرّة، فإذا قصده الطلب، لم يكن له ثبات. فكذلك كان أمر ملوك اليمن كان الواحد منهم بعد الواحد، في قديم الدهر، يخرج من مخلافه ومحجره أيّاما، فيصيب ما مرّ به، ثم يتشمّر عند الطلب راجعا إلى موضعه من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه ومحجره بالطاعة، أو يؤدّى إليه خرجا إلّا ما يصيب على جهة الغارة، حتى كان عمرو بن عديّ، ابن أخت جذيمة، فإنّه اتّصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على من كان بنواحي العراق، وبادية الحجاز، باستعمال ملوك فارس إيّاهم واستكفائهم أمر من وليهم من العرب.
طسم وجديس
وممّن أساء السيرة فاصطلم، طسم وجديس، وكانوا في أيّام ملوك الطوائف. فأما طسم فكان الملك فيهم، وكانوا ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار، ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة. وكان ملكهم ظلوما غشوما راكبا هواه. فكان مما لقوا من ظلمه: أنه أمر ألّا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها. فغبر على ذلك دهرا، حتى أنف منهم رجل يقال له: الأسود بن عفار.
فقال لرؤساء قومه:
« قد ترون ما نحن فيه من العار والذلّ، الذي ينبغي للكلاب أن تعافه، وتمتعض منه، فأطيعونى، فإني أدعوكم إلى عزّ الدهر ونفى الذلّ. » قالوا: « وما ذاك؟ » فأخذ عهودهم إلى أن وثق ثم قال:
« إني صانع للملك طعاما، فإذا حضر نهضنا إليهم بأسيافنا، فانفردت به فقتلته، وأجهز كلّ رجل منكم على جليسه. » فأجابوه إلى ذلك، واجتمع رأيهم عليه. فاتّخذ طعاما وأمر قومه، فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال:
« إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفكم ثم شدّوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنّكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئا. » وحضر الملك، فقتل وقتل الرؤساء، ثم شدّوا على البقيّة، فأفنوهم.
حدة بصر اليمامة
فهرب رجل من طسم يقال له: رياح بن مرّة، حتى أتى حسان بن تبّع، فاستغاث به. فخرج حسّان بن تبّع في حمير، فلمّا كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح:
« أبيت اللعن، إنّ لي أختا متزوّجة في جديس يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها. إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم، فمر أصحابك، فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فيجعلها أمامه. » ففعلوا ذلك، فأبصرتهم، فقالت لجديس:
« لقد سارت حمير. » فكذّبوها وقالوا:
« ما الذي ترين؟ » قالت: « أرى رجلا في شجر معه كتف يتعرّقها أو نعل يخصفها. » فلم يستمعوا منها، واستهانوا، فكان كما قالت. وصبّحهم حسّان فأبادهم وأخرب بلادهم، وهدّم قصورهم وحصونهم. وأتى حسّان باليمامة ففقأ عينها، وقالت العرب في ذلك الأشعار، وهي معروفة.
الساسانية ومن عاصرهم أردشير بن بابك
ثم لمّا استولى أردشير بن بابك على الأرمانيّين (و هم ملوك العراق وأنباط السواد، وكان كلّ واحد منهم يقاتل صاحبه، فاستولى أردشير عليهما، وقتل الأردوان - ويسمّى « شاهنشاه»)، كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، فخرجوا، فلحقوا بالشام، وانضمّوا إلى من كان هناك، وكان ناس من العرب يحدثون الأحداث لو تضيق بهم المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة على ثلاثة أثلاث: الثلث [ الأوّل ]: « تنوخ »، وهم من كان يسكن المظالّ وبيوت الشعر والوبر في غربيّ الفرات فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها.
والثلث الثاني: « العبّاد »، وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا بها. والثلث الثالث:
« الأخلاف »، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيهم ممن لم تكن من تنوخ الوبر ولا من العبّاد الذين دانوا لأردشير. وكانت الحيرة والأنبار جميعا بنيتا في زمن بختنصّر، فخربت الحيرة لما تحول أهلها عند هلاك بختنصّر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عديّ باتّخاذه إيّاها منزلا، فعمرت الحيرة خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة، إلى أن وضعت الكوفة، ونزلها المسلمون.
ودبّر أردشير أمر الفرس والعرب، وردّ نظام الملك، وكان حازما أريبا كثير الاستشارة طويل الفكر، معتمدا في تدبيره على رجل فاضل من الفرس يعرف ب « تنسر »، وكان هربذا. فلم يزل يدبّر أمره ويجتمع معه على سياسة الملك، إلى أن أطاعه من جاوره من ملوك الطوائف، وعرفوا فضله، ودخلوا تحت رايته رهبة ورغبة، وحارب من امتنع منهم عليه.
وله مكايد وحروب يطول الكتاب بذكرها. فمن أحسن ما حفظ له عهده إلى الملوك بعده، وهذه نسخته:
عهد أردشير
« باسم وليّ الرحمة. من ملك الملوك أردشير بن بابك، إلى من يخلفه بعقبه من ملوك فارس، السلام والعافية. أمّا بعد، فإنّ صيغ الملوك على غير صيغ الرعية، فالملك يطبعه العزّ والأمن والسرور والقدرة، على طباع الأنفة والجرأة والعيث والبطر. ثم كلّما ازداد في العمر تنفّسا وفي الملك سلامة، زاده في هذه الطبائع الأربع، حتى يسلمه إلى سكر السلطان الذي هو أشدّ من سكر الشراب، فينسى النكبات والعثرات والغير والدوائر وفحش تسلّط الأيام، ولؤم غلبة الدهر، فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول. وقد قال الأوّلون منّا: عند حسن الظنّ بالأيّام تحدث الغير. وقد كان من الملوك من يذكّره عزّه الذلّ، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وبطره [ السوقة ]، [ وقدرته المعجزة ]، ولا حزم إلّا في جميعها.
« اعلموا أنّ الذي أنتم لاقون بعدي، هو الذي لقيني من الأمور، وهي بعدي واردة عليكم [ بمثل الذي وردت به عليّ ]، فيأتيكم السرور والأذى في الملك من حيث أتيانى، وأن منكم من سيركب الملك صعبا فيمنى من شماسه وجماحه وخبطه واعتراضه بمثل الذي منيت به. ومنكم من سيرث الملك عن الكفاة المذلّلين له مركبه، وسيجرى على لسانه ويلقى فيه قلبه أن قد فرع له، وكفى، واكتفى وفرغ للسعي في العبث والملاهي، وأنّ من قبله من الملوك إلى التوطيد له أجروا، وفي التمكين له سعوا، وأن قد خصّ بما حرموا، وأعطى ما منعوا، فيكثر أن يقول مسرّا ومعلنا: خصّوا بالعمل وخصصت بالدعة، وقدّموا قبلي إلى الغرر، وخلّفت في الثقة.
وهذا الباب من الأبواب التي تكسر سكور الفساد، ويهاج بها قربات البلاء، ويغنى البصير اللطيف ما ينتهك من الأمور في ذلك. فإنّا قد رأينا الملك الرشيد السعيد المنصور المكفيّ المظفر الحازم في الفرصة، البصير بالعورة، اللطيف [ للشبهة ] المبسوط له في العلم والعمر، يجتهد فلا يعدو صلاح ملكه حياته، إلّا أن يتشبّه به متشبّه. ورأينا الملك القصير عمره، القريبة مدّته، إذا كان سعيه بإرسال اللسان بما قال، واليد بما عملت، بغير تدبير يدرك، أفسد جميع ما قدّم له من الصلاح قبله، ويخلّف المملكة خرابا على من بعده.
« وقد علمت أنكم ستبلون مع الملك بالأزواج والأولاد والقرناء والوزراء والأخدان والأنصار والأصحاب والأعوان والمتنصّحين والمتقربين والمضحكين والمزيّنين: كلّ هؤلاء - إلّا قليلا - أن يأخذ لنفسه أحبّ إليه من أن يعطى منها، وإنّما عمله لسوق يومه وحياة غده. فنصيحته الملوك فضل نصيحته لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها يجعل نفسه هي العامّة، والعامّة هي الخاصّة: فإن خصّ بنعمة دون الناس فهي عنده نعمة عامّة، وإذا عمّ الناس بالنصر على العدوّ، والعدل في البيضة، والأمن على الحريم، والحفظ للأطراف، والرأفة من الملك، والاستقامة من الملك، ولم يخصص من ذلك بما يرضيه، سمّى تلك النعمة نعمة خاصّة. ثم أكثر شكيّة الدهر، ومذمّة الأمور. يقيم للسلطان سوق المودّة ما أقام له سوق الأرباح، ولا يعلم ذلك الوزير والقرين أنّ في التماس الربح على السلطان فساد جميع الأمور، وقد قال الأوّلون منّا: رشاد الوالي خير للرعيّة من خصب الزمان.
« واعلموا أنّ الملك والدين أخوان توأمان. لا قوام لأحدهما إلّا بصاحبه، لأنّ الدين أسّ الملك وعماده، وصار الملك بعد حارس الدين، فلا بدّ للملك من أسّه، ولا بدّ للدين من حارسه، فإنّ ما لا حارس له ضائع، وإنّ ما لا أسّ له مهدوم. وإنّ رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إيّاكم إلى دراسة الدين [ وتلاوته والتفقّه فيه، فتحملكم الثقة بقوّة السلطان ] على التهاون بهم، فتحدث في الدين رئاسات مستسرّات في من قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة الناس والرعيّة وحشو العامّة، ولم يجتمع رئيس في الدين مسرّ، ورئيس في الملك معلن، في مملكة واحدة قطّ، إلّا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأنّ الدين أسّ والملك عماد، وصاحب الأسّ أولى بجمع البنيان من صاحب العماد.
« وقد مضى قبلنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الجملة بالتفسير والجماعات بالتفصيل، والفراغ بالأشغال، كتعهّده جسده بقصّ فضول الشعر والظفر وغسل الدرن والغمر ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن. وقد كان من أولئك الملوك من صحّة ملكه أحبّ إليه من صحّة جسده، وكان بما يخلّفه من الذكر [ الجميل ] المحمود، أفرح وأبهج منه بما يسمعه بأذنه في حياته.
فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد، وكأنّ أرواحهم روح واحدة، يمكّن أوّلهم لآخرهم، ويصدّق آخرهم أوّلهم بجميع أنباء أسلافهم، ومواريث آرائهم، وصياغات عقولهم، عند الباقي منهم بعدهم، فكأنّهم جلوس معه، يحدّثونه، ويشاورونه، حتى كان على رأس دارا بن دارا ما كان، وغلبة الإسكندر على ما غلب من ملكنا. فكان إفساده أمرنا، وتفريقه جماعتنا، وتخريبه عمران مملكتنا، أبلغ له في ما أراد من سفك دمائنا. فلمّا أذن الله في جمع مملكتنا ودولة أحسابنا، كان من ابتعاثه إيّانا ما كان، وبالاعتبار تتّقى الغير، ومن يخلفنا أوجد للاعتبار، منّا، لما استدبروا من أعاجيب ما أتى علينا.
« واعلموا أنّ سلطانكم إنّما هو على أجساد الرعيّة، وأنّه لا سلطان للملوك على القلوب. واعلموا أنكم إن غلبتم الناس على ذات أيديهم، فلن تغلبوهم على عقولهم. واعلموا أنّ العاقل [ المحروم ] سالّ عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإنّ أشدّ ما يضربكم به من لسانه، ما صرف الحيلة فيه إلى الدين: فكأنّ بالدين يحتجّ وللدين - فيما يظهر - يغضب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، وهو أوجد للتابعين والمصدّقين والمناصحين والمؤازرين منكم. لأنّ بغضة الناس هي موكّلة بالملوك، ومحبّتهم ورحمتهم موكلّة بالضعفاء المغلوبين. وقد كان من قبلنا من الملوك يحتالون لعقول من يحذرون، بتخريبها، فانّ العاقل لا تنفعه [ جودة ] نحيزته إذا صيّر عقله خرابا [ مواتا ]، وكانوا يحتالون للطاعنين بالدين على الملوك، فيسمّونهم المبتدعين.
فيكون الدين هو الذي يقتلهم ويريح الملوك منهم. ولا ينبغي للملك أن يعترف للعبّاد والنسّاك [ والمتبتّلين ] أن يكونوا أولى بالدين، ولا أحدب عليه، ولا أغضب له منه. ولا ينبغي للملك أن يدع النسّاك بغير الأمر والنهى لهم في نسكهم [ ودينهم ] فإنّ خروج النساك وغير النسّاك من الأمر والنهى عيب على الملوك وعيب على المملكة. وثلمة يتسنّمها الناس بنيّة الضرر للملك ولمن بعده.
« واعلموا أنّ مصير الوالي إلى غير أخدانه، وتقريبه غير وزرائه، فتح لأبواب [ الأنباء ] المحجوب عنه علمها. وقد قيل: إذا استوحش الوالي ممّن لم يوطّن نفسه عليه، أطبقت عليه ظلم الجهالة، وقيل: أخوف ما تكون العامّة آمن ما يكون الوزراء.
« اعلموا أنّ دولتكم تؤتى من مكانين: أحدهما غلبة بعض الأمم المخالفة لكم، والآخر فساد أدبكم. ولن يزال حريمكم من الأمم محروسا، ودينكم من غلبة الأديان محفوظا، ما عظّمت فيكم الولاة، وليس تعظيمهم بترك كلامهم، ولا إجلالهم بالتنحّى عنهم، ولا المحبّة لهم بالمحبّة لكل ما يحبّون. ولكن تعظيمهم تعظيم أديانهم وعقولهم، وإجلالهم إجلال منزلتهم من الله، ومحبّتهم محبّة إصابتهم، وحكاية الصواب عنهم.
« واعلموا أنه لا سبيل إلى أن يعظّم الوالي إلّا بالإصابة في السياسة، ورأس إصابة السياسة أن يفتح الوالي لمن قبله من الرعية بابين: أحدهما باب رقّة ورحمة [ ورأفة وتضرّع وبذل وتحنّن وإلطاف ومواساة ومؤانسة ] وبشر وتهلل [ وعفو ] وانبساط وانشراح، والآخر: باب غلظة وخشية وتعنّت وتسدّد وإمساك ومباعدة وإقصاء ومخالفة ومنع وقطوب وانقباض [ وتضييق وعقوبة ] ومحقرة إلى أن يبلغ القتل. واعلموا انّى لم أسمّ [ هذين البابين ] باب رفق وباب عنف، ولكني [ سمّيتهما ] جميعا « بابى رفق »، لأنّ فتح باب المكروه مع باب السرور هو أو شك لغلقه، حتى لا يبتلى به أحد. وفي الرعيّة من الأهواء الغالبة للرأى والفجور المستثقل للدين والسفلة الحنقة على الوجوه بالنفاسة والحسد، ما لا بدّ معه أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة، وبباب الاستبقاء باب القتل، وقد يفسد الوالي بعض الرعيّة من حرصه على صلاحها، ويغلظ عليها من رقّته لها، ويقتل فيها من حرصه على حياتها.
« واعلموا أنّ قتالكم الأعداء من الأمم قبل قتالكم الأدب من أنفس رعيّتكم، ليس بحفظ، ولكنّه إضاعة. وكيف يجاهد العدوّ بقلوب مختلفة، وأيد متعادية. وقد علمتم أنّ الذي بنى عليه الناس، وجبلت عليه الطباع، حبّ الحياة وبغض الموت، [ وأنّ الحرب تباعد من الحياة وتدنى من الموت ]، فلا دفع ولا منع ولا صبر ولا محاماة مع هذا، إلّا بأحد وجهين: إمّا بنيّة، والنيّة ما لن يقدر على الوالي عند الناس بعد النيّة التي تكون في أوّل الدولة، وإمّا بحسن الأدب وإصابة السياسة.
« واعلموا أنّ بدء ذهاب الدول من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة، ولا أعمال معلومة. فإذا فشى الفراغ [ في الناس ]، تولّد منه النظر في الأمور، والفكر في الأصول. فإذا نظروا في ذلك، نظروا فيه بطبائع مختلفة، فتختلف بهم المذاهب، ويتولّد من اختلاف مذاهبهم، تعاديهم وتضاغنهم وتطاعنهم، وهم في ذلك مجتمعون - في اختلافهم - على بغض الملوك، لأنّ كل صنف منهم إنما يجرى إلى فجيعة الملك بملكه، ولكنهم لا يجدون سلّما إلى ذلك أوثق من الدين، ولا أكثر أتباعا، ولا أعزّ امتناعا، ولا أشدّ على الناس صبرا. ثم يتولّد من تعاديهم أنّ الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد، فإذا انفرد ببعضهم، فهو عدوّ بقيّتهم، ثم تتولّد من عداوتهم [ للملك ] كثرتهم، فإنّ من شأن العامّة الاجتماع على استثقال الولاة والنفاسة عليهم. لأنّ في الرعيّة المحروم، والمضروب، والمقام عليه وفيه وفي حميمه الحدود، والداخل عليه بعزّ الملك الذلّ في نفسه وخاصّته. فكلّ هؤلاء يجرى إلى متابعة أعداء الملك. ثم يتولّد من كثرتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم، فإنّ إقدام الملك على جميع الرعيّة تغرير بملكه ونفسه، ويتولّد من جبن الولاة عن تأديب العامة تضييع الثغور التي فيها الأمم من ذوي الدين والبأس، لأنّ الملك إن سدّ الثغور بخاصّته المناصحين له، وخلت به العامّة الحاسدة المعادية، لم يعد بذلك تدريبهم في الحرب، وتقويتهم في السلاح، وتعليمهم المكيدة مع البغضة، فهم عند ذلك أقوى عدو [ وأضرّه، وأحنقه ]، وأحضره، وأخلقه بالظفر، ولا بدّ من استطراد هذا كله إذا ضيّع أوّله.
« فمن ألفى منكم الرعيّة بعدي وهي على حال أقسامها الأربعة التي هي: أصحاب الدين، والحرب، والتدبير، والخدمة - من ذلك:
الأساورة صنف، والعبّاد والنسّاك وسدنة النيران صنف، والكتّاب والمنجّمون والأطبّاء صنف، والزرّاع والمهّان والتجار صنف - فلا يكوننّ بإصلاح جسده أشدّ اهتماما منه بإحياء تلك الحال، وتفتيش ما يحدث فيها من الدخلات، ولا يكوننّ لانتقاله عن الملك بأجزع منه من انتقال صنف من هذه الأصناف إلى غير مرتبته. لأنّ تنقّل الناس عن مراتبهم سريع في نقل الملك عن ملكه: إمّا إلى خلع، وإمّا إلى فتك. فلا يكوننّ من شيء من الأشياء أوحش بتّة من رأس صار ذنبا، أو ذنب صار رأسا، أو يد مشغولة أحدثت فراغا، أو كريم ضرير، أو لئيم مرح. فانّه يتولّد من تنقّل الناس عن حالاتهم، أن يلتمس كلّ امرئ منهم أشياء فوق مرتبته. فإذا انتقل أو شك أن يرى أشياء أرفع مما انتقل إليه، فيغبط وينافس. وقد علمتم أنّ من الرعيّة أقواما هم أقرب الناس من الملوك حالا. وفي تنقّل الناس عن حالاتهم مطمعة للذين يلون الملوك في الملك، ومطمعة للذين دون الذين يلون الملوك في تلك الحال، وهذا لقاح بوار الملك.
« ومن ألفى منكم الرعيّة وقد أضيع أوّل أمرها، فألفاها في اختلاف من الدين، واختلاف من المراتب، وضياع من العامّة، وكانت به على المكاثرة قوّة، فليكاثر بقوّته ضعفهم، وليبادر بالأخذ بأكظامهم قبل أن يبادروا بالأخذ بكظمه، ولا يقولنّ:
أخاف العسف. فإنّما يخاف العسف من يخاف جريرة العسف على نفسه، فأمّا إذا كان العسف لبعض الرعيّة صلاحا لبقيّتها، وراحة له ولمن بقي معه من الرعيّة، من النغل والدغل والفساد، فلا يكوننّ إلى شيء بأسرع منه إلى ذلك، فإنّه ليس نفسه ولا أهل موافقته يعسف، ولكنّما يعسف عدوّه.
« ومن ألفى منكم الرعيّة في حال فسادها، ولم ير بنفسه عليها قوّة في [ إ ] صلاحها، فلا يكوننّ لقميص قمل بأسرع خلعا منه لما لبس من ذلك الملك، وليأته البوار - إذا أتاه - وهو غير مذكور بشؤم، ولا منوّه به في دنياه، ولا مهتوك به ستر ما في يديه.
« واعلموا أنّ فيكم من يستريح إلى اللهو والدعة، ثم يديم من ذلك ما يورثه خلقا وعادة. فيكون ذلك لقاح جدّ لا لهو فيه، وتعب لا خفض فيه، مع الهجنة في الرأي والفضيحة في الذكر. وقد قال الأولون منّا: لهو رعيّة الصدق بتقريظ الملوك، ولهو ملوك الصدق بالتودّد إلى الرعيّة.
« واعلموا أنّ من شاء منكم ألّا يسير بسيرة إلّا قرّظت له فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأذكاها، فلم تكن الناس بعيب نفوسهم بأعلم منه بعيبه.
« ثم إنه ليس منكم ملك إلّا كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده، ومن فساد الرعيّة نشر أمور ولاة العهود، فإنّ في ذلك من الفساد أنّ أوّله دخول عداوة ممضّة بين الملك، وولى عهده، وليس يتعادى متعاديان بأشدّ من أن يسعى كلّ واحد منهما في قطع سؤل صاحبه. وهكذا الملك، وولى عهده: لا يسرّ الأرفع أن يعطى الأوضع سؤله في فنائه. ولا يسرّ هذا الأوضع أن يعطى الآخر سؤله في البقاء، ومتى يكن فرح أحدهما في الراحة من صاحبه، تدخل كل واحد منهما وحشة من صاحبه في طعامه وشرابه، ومتى تداينا بالتهمة، يتّخذ كلّ واحد منهما [ أحبّاء وأخدانا وأهلا، ثم يدخل كلّ واحد منهما ] وغر على أحبّاء صاحبه. ثم تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما لما لا بدّ منه من الفناء، فتفضى الأمور إلى الآخر وهو حنق على جيل من الناس، يرى أنه موتور إن لم يحرمهم ويضعهم، وينزل بهم التي كانوا يريدون إنزالها به لو ولوا.
فإذا وضع بعض الرعية وأسخط بعضا على هذه الجهة، تولّد من ذلك ضغن وسخط من الرعيّة، ثم ترامى ذلك إلى بعض ما أحذر عليكم بعدي. ولكن ليختر الوالي منكم لله، ثم للرعيّة، ثم لنفسه، وليّا للعهد من بعده، ثم ليكتب اسمه في أربع صحائف، فيختمها بخاتمه، فيضعها عند أربعة نفر من خيار أهل المملكة. ثم لا يكوننّ منه في سرّ ولا في علانية أمر يستدلّ به على وليّ ذلك العهد، لا في إدناء وتقريب يعرف به، ولا في إقصاء وتنكّب يستراب له، وليتّق ذلك في اللحظة والكلمة. فإذا هلك، جمعت تلك الكتب التي عند الرهط الأربعة، إلى النسخة التي عند الملك، ففضضن جميعا، ثم نوّه بالذي وضع اسمه في جميعهن. فيلقى الملك - إذا لقيه - بحداثة عهده بحال السوقة، فلبس ذلك الملك - إذا لبسه - ببصر السوقة، وسمعها، ورأيها. فإنّ في سكر السلطان الذي سيناله، ما يكتفى به له من سكر ولاية العهد مع سكر الملك.
فيصمّ ويعمى قبل لقاء الملك لصمم الملوك وعماهم، ثم يلقى الملك، فيزيده صمما وعمى مع ما يلقى في ولاية العهد من بطر السلطان، وحيلة العتاة، وبغى الكذّابين و [ ترقية ] النمّامين وتحميل الوشاة بينه وبين من فوقه.
« ثم اعلموا أنّه ليس للملك [ أن يبخل، لأنه لا يخاف الفقر، وليس له ] أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، وليس له أن يغضب، لأنّ الغضب والعداوة لقاح الشرّ والندامة، وليس له أن يلعب ولا يعبث، لأنّ العبث واللعب من عمل الفرّاغ، وليس له أن يفرغ، لأنّ الفراغ من أمر السّوق، وليس له أن يحسد إلّا ملوك الأمم على حسن التدبير، وليس له أن يخاف، لأنّ الخوف من المعور، وليس له أن يتسلّط، إذ هو معور.
« واعلموا أنّ زين الملوك، في استقامة الحال: أن لا تختلف منه ساعات العمل والمباشرة، وساعات الفراغ والدعة، وساعات الركوب والنزهة، فإنّ اختلافها منه خفّة، وليس للملك أن يخفّ.
« اعلموا أنّكم لن تقدروا على ختم أفواه الناس من الطعن والإزراء عليكم، ولا قدرة بكم على أن تجعلوا القبيح حسنا.
« واعلموا أنّ لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وبالحريّ أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحدا.
وليس فضل الملك على السوقة إلّا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم. فإنّ الملك إذا شاء أحسن، وليس السوقة كذلك.
« واعلموا أنّه يحقّ على الملك منكم أن يكون ألطف ما يكون نظرا، أعظم ما يكون خطرا، وألّا يذهب حسن أثره في الرعيّة خوفه لها، وألّا يستغنى بتدبير اليوم عن تدبير غد، وأن يكون حذره للملاقين أشدّ من حذره للمباعدين، وأن يتّقى بطانة السوء أشدّ من اتّقائه عامّة السوء، ولا يطمعنّ ملك في إصلاح العامّة إذا لم يبدأ بتقويم الخاصّة.
« واعلموا أنّ لكل ملك بطانة، وأنّ لكل رجل من بطانته بطانة، ثم لكلّ امرئ من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع في ذلك [ جميع ] أهل المملكة! فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب، أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامّة الرعيّة.
« اعلموا أنّ الملك منكم قد تهون عليه العيوب، لأنّه لا يستقبل بها إن عملها حتى يرى أنّ الناس يتكاتمونها بينهم كمكاتمتهم إيّاه تلك العيوب. وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى، وطاعة الهوى داعية إلى غلبته، فإذا غلب الهوى اشتدّ علاجه من السوقة المغلوب فضلا عن الملك الغالب.
« اتّقوا بابا واحدا طالما أمنته فضرّنى، وحذرته فنفعني: احذروا إفشاء السرّ عند الصغار من أهليكم وخدمكم، فانّه لا يصغر أحد منهم [ عن ] حمل ذلك السرّ كاملا! لا يقول منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون، إمّا سقطا وإما غشّا، والسقط أكثر ذلك. اجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وسرّكم عند من يلزمه خير ذلك وشرّه وزينه وشينه. « واعلموا أنّ صحة الظنون مفاتيح اليقين، وأنكم ستستيقنون من بعض رعيّتكم بخير وشرّ، وستظنّون ببعضهم خيرا وشرّا، فمن استيقنتم منه بالخير والشرّ، فليستيقن منكم بهما، ومن ظننتموهما به، فليظنّهما بكم في أمره، فعند ذلك يبدو من المحسن إحسانه، فيخالف الظنّ فيغتبط، ومن المسيء إساءته، فيصدق الظنّ به فيندم.
« واعلموا أنّ للشيطان في ساعات من الدهر طمعا في السلطان عليكم، منها: ساعات الغضب والحرص والزهو، فلا تكونوا له في شيء من ساعات الدهر أشدّ قتالا منكم عندهنّ حتى يتقشّعن.
وكان يقال: اتّق مقارنة الحريص الغادر، فإنّه إن رءاك في القرب، رأى منك أخبث حالاتك، وإن رءاك في الفضول، لم يدعك وفضولك.
أسعدوا الرأي على الهوى، فإنّ ذلك تمليك للرأى. واعلموا أنّ من شأن الرأي الاستخذاء للهوى، إذا جرى الهوى على عادته.
وقد عرفنا رجالا كان الرجل منهم يؤنس من قوّة طباعه، ونبالة رأيه ما تريه نفسه أنّه على إزاحة الهوى عنه، وإن جرى على عادته، ومعاودته الرأي، وإن طال به عهده قادر، لثقة يجدها بقوّة الرأي. فإذا تمكّن الهوى منه، فسخ عزم رأيه، حتى يسمّيه كثير من الناس ناقصا في العقل. فأمّا البصراء فيستبينون من عقله عند غلبة الهوى عليه ما يستبان من الأرض الطيّبة الموات.
« واعلموا أنّ في الرعية صنفا من الناس هم بإساءة الوالي أفرح منهم بإحسانه، وإن كان الوالي لم يترهم، وكان الزمان لم ينكبهم، وذلك لاستطراف حادثات الأخبار، فإنّ استطراف الأخبار معروف من أخلاق حشو الناس. ثم لا طرفة عندهم فيما اشتهر، فجمعوا في ذلك سرور كلّ عدو لهم ولعامّتهم مع ما وتروا به أنفسهم وولاتهم.
فلا دواء لأولئك إلّا بالأشغال. وفي الرعية صنف وتروا الناس كلّهم وهم الذين قووا على جفوة الولاة، ومن قوى على جفوتهم فهو غير سادّ ثغرا ولا مناصح إماما، ومن غشّ الإمام فقد غشّ العامّة وإن ظنّ أنه للعامة مناصح، وكان يقال: لم ينصح عملا من غشّ عامله.
« وفي الرعيّة صنف تركوا إتيان الملوك من قبل أبوابهم وأتوهم من قبل وزرائهم. فليعلم الملك منكم أنّ من أتاه من قبل بابه فقد آثره بنصيحته إن كانت عنده، ومن أتاه من قبل وزرائه فهو موثر للوزير على الملك في جميع ما يقول ويفعل.
« وفي الرعيّة صنف دعوا إلى أنفسهم الجاه، بالإباء والردّ له، ووجدوا ذلك عند المغفّلين نافقا، وربّما قرّب الملك الرجل من أولئك لغير نبل في رأى، ولا إجزاء في العمل، ولكن الإباء والردّ أغرياه به.
« وفي الرعيّة صنف أظهروا التواضع، واستشعروا الكبر.
فالرجل منهم يعظ الملوك زاريا عليهم بالموعظة، يجد ذلك أسهل طريقي طعنه عليهم ويسمّى هو ذلك - وكثير ممن معه - تحرّيا للدين. فإن أراد الملك هو انهم لم يعرف لهم ذنبا يهانون عليه، وإن أراد إكرامهم فهي منزلة حبوا بها أنفسهم على رغم الملوك، وإن أراد إسكاتهم كان السماع في ذلك أنّه استثقل ما عندهم من حفظ الدين، وإن أمروا بالكلام قالوا [ ما يفسد ولا يصلح ]. فأولئك أعداء الدول وآفات الملوك. فالرأي للملوك تقريبهم من الدنيا، فإنّهم إليها أجروا، وفيها عملوا، ولها سعوا، وإيّاها أرادوا. فإذا تلوّثوا فيها بدت فضائحهم، وإلّا فإنّ فيما يحدثون ما يجعل للملوك سلّما إلى سفك دمائهم. وكان بعض الملوك يقول: القتل أقلّ للقتل.
« وفي الرعيّة صنف أتوا الملوك من قبل النصائح لهم، والتمسوا صلاح منازلهم بإفساد منازل الناس. فأولئك أعداء الناس وأعداء الملوك، ومن عادى الملوك وجميع الرعيّة، فقد عادى نفسه.
« واعلموا أنّ الدهر حاملكم على طبقات، منهنّ: حال السخاء حتى تدنو من السرف، ومنهن: حال التقتير حتى تقرب من البخل، ومنهنّ: حال الأناة، حتى تصير إلى البلادة، ومنهنّ: حال المناهزة للفرصة حتى تدنو من الخفّة، ومنهنّ حال الطلّاقة في اللسان حتى تدنو من الهذر، ومنهنّ: حال الأخذ بحكم الصمت حتى تدنو من العيّ، فالملك منكم جدير أن يبلغ من كلّ طبقة في محاسنها حدّها، فإذا وقف على الحدود التي ما وراءها سرف، ألجم نفسه عمّا وراءها.
« واعلموا أنّ الملك منكم ستعرض له شهوات في غير ساعاتها. والملك إذا قدّر ساعة العمل، وساعة الفراغ، وساعة المطعم، وساعة المشرب، وساعة الفضيلة، وساعة اللهو، كان جديرا ألّا يعرف منه الاستقدام بالأمور، ولا الاستيخار عن ساعاتها. فإنّ اختلاف ذلك يورث مضرّتين: إحداهما السخف، وهي أشدّ الأمرين، والأخرى نقص الجسد، بنقص أقواته وحركاته.
« واعلموا أنّ من ملوككم من سيقول: لي الفضل على من كان قبلي من آبائي وعمومتي ومن ورثت عنه هذا الأمر، لبعض الإحسان يكون منه. فإذا قال ذلك، سوعد عليه بالمتابعة له.
فليعلم ذلك الملك والمتابعون: إنما وضعوا أيديهم وألسنتهم في قصب آبائه من الملوك وهم لا يشعرون. ولبالحريّ أن يشعر بعض المتابعين له فيغمّض على ما لا يحزنه من ذلك.
« واعلموا أنّ ابن الملك وأخاه وعمّه وابن عمّه كلّهم يقول:
كدت أن أكون ملكا، وبالحريّ ألّا أموت حتى أكون ملكا، فإذا قال ذلك، قال ما لا يسرّ الملك. فإن كتمه، فالداء في كلّ مكتوم، وإن أظهره كلم في قلب الملك كلما يكون لقاحا للتباين والتعادي.
وستجدون القائل ذلك من المتابعين والمحتملين والمتمنّين، ما تمنّى لنفسه ما يريده، إلّا ما اشتاق إليه شوقا. فإذا تمكّن في صدره الأمل، لم يرج النيل له، إلّا في اضطراب من الحبل، وزعزعة تدخل على الملك وأهل المملكة. فإذا تمنّى ذلك فقد جعل الفساد سلّما إلى الصلاح، ولم يكن الفساد سلّما إلى صلاح قطّ. وقد رسمت لكم في ذلك مثالا لا مخرج لكم منه إلّا به.
اجعلوا أولاد الملك من بنات عمومتهم. ثم لا يصلح من أولاد بنات الأعمام، إلّا كامل غير سخيف العقل، ولا عازب الرأي، ولا ناقص الجوارح، ولا معيوب عليه في الدين. فإنّكم إذا فعلتم ذلك، قلّ طلّاب الملك، وإذا قلّ طلّابه استراح كلّ امرئ على جديلته، وعرف حاله، وغضّ بصره، ورضى بمعيشته واستطاب زمانه.
« واعلموا أنّه سيقول قائل من عرض رعيّتكم، أو من ذوي قرابتكم: ما لأحد عليّ فضل ولو كان لي ملك..، فإذا قال ذلك فإنّه قد تمنّى الملك وهو لا يشعر، ويوشك أن يتمنّاه بعد ذلك وهو يشعر. فلا يرى ذلك من رأيه خطلا، ولا من فعله زللا، وإنّما يستخرج ذلك فراغ القلب واللسان ممّا يكلّف أهل الدين والكتّاب والحسّاب، أو فراغ اليد ممّا يكلّف الأساورة، أو فراغ البدن مما يكلّف التجّار، والمهنة، والخدم. واعلموا أنّ الملك ورعيّته جميعا يحقّ عليهم ألّا يكون للفراغ عندهم موضع، فإنّ التضييع في فراغ الملك، وفساد المملكة في فراغ الرعيّة.
« واعلموا أنّا على فضل قوّتنا، وإجابة الأمور إيّانا، وحدّة دولتنا، وشدة بأس أنصارنا، وحسن نيّة وزرائنا، لم نستطع إحكام تفتيش الناس، حتى بلغنا من الرعيّة مكروهها، ومن أنفسنا مجهودها.
« واعلموا أنّه لا بدّ من سخط سيحدث منكم على بعض أعوانكم المعروفين بالنصيحة لكم، ولا بدّ من رضى سيحدث لكم من بعض أعدائكم المعروفين بالغشّ لكم، فلا تحدثوا، عند ما يكون من ذلك، انقباضا عن المعروف بالنصيحة، ولا استرسالا إلى المعروف بالغشّ.
« قد خلّفت لكم رأيي، إذ لم أستطع تخليف بدني، وقد حبوتكم بما حبوت به نفسي وقضيت حقّكم فيما آسيتكم به من رأى.
فاقضوا حقّى بالتشفيع لي في صلاح أنفسكم والتمسك بعهدي إليكم. فإني قد عهدت إليكم عهدي، وفيه صلاح جميع ملوككم وعامّتكم وخاصّتكم. ولن تضيعوا ما احتفظتم بما رسمت لكم ما لم تصنعوا غيره. فإذا تمسّكتم به، كان علامة في بقائكم ما بقي الدهر.
« ولولا اليقين بالبوار النازل على رأس الألف من السنين، لظننت أنّى قد خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به، كان علامة في بقائكم الدهر. ولكن القضاء إذا جاءت أيّامه، أطعتم أهواءكم، واستثقلتم ولاتكم، وأمنتم وتنقّلتم عن مراتبكم وعصيتم خياركم [ وأطعتم شراركم ]، وكان أصغر ما تخطئون فيه سلّما إلى أكبر منه حتى تفتقوا ما رتقنا، [ وتوهوا ما وثّقنا ]، وتضيعوا ما حفظنا. والحقّ علينا وعليكم ألّا نكون للبوار أغراضا، وفي الشؤم أعلاما. فإنّ الدهر إذا أتى بالذي تنتظرون، اكتفى بوحدته. ونحن ندعو الله لكم بنماء المنزلة، وبقاء الدولة، دعوة لا يفنيها فناء قائلها حتى المنقلب، ونسأل الله الذي عجّل بنا وخلّفكم، أن يرعاكم رعاية يرعى بها ما تحت أيديكم [ وأن يرفعكم رفعة يضع بها من عاداكم ]، ويكرمكم كرامة يهين بها من ناوأكم. ونستودعكم الله وديعة يكفيكم بها الدهر الذي يسلّمكم إلى زياله وغيره [ وعثراته ] وعداوته، والسلام على أهل الموافقة ممّن يأتى عليه العهد من الأمم الكائنة بعدي. »
ثم انتهى الملك إلى سابور بن أردشير
فمن وجوه المكائد الغريبة ما تمّ على رجل من الجرامقة يقال له: الساطرون، وهو الذي تسمّيه العرب: الضيزن، وكان ينزل بجبال تكريت بين دجلة والفرات في مدينة يقال لها: الحضر. وزعم هشام بن الكلبي أنّه من العرب من قضاعة، وأنّه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى، وبلغ ملكه الشام.
ثم إنه تطرّف بعض السواد في غيبة لسابور إلى ناحية خراسان. فلمّا قدم من غيبته، شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصّن الضيزن، كما قال الأعشى ميمون بن قيس، سنتين، لا يقدر سابور على الوصول إليه، وهو قوله:
ألم تر للحضر إذ أهله ** بنعمى، وهل خالد من نعم
أقام به شاهبور الجنو ** د حولين يضرب فيه القدم
وكان للضيزن هذا ابنة يقال لها: النضيرة، عركت فأخرجت إلى ربض المدينة - وكذلك كان يفعل بالنساء إذا عركن - وكانت من أجمل نساء زمانها، وكان سابور أيضا من أجمل رجال زمانه. فاطّلعت عليه يوما، فرأته، فعشقته، وأرسلت إليه:
« ما تجعل لي، إن دللتك على ما تهدم به سور هذه المدينة، وتقتل أبي؟ » قال:
« حكمك، وأرفعك على نسائي، وأخصّك بنفسي دونهن ».
فاحتالت للحرس حتى سقتهم الخمر وصرعتهم، وأظهرت علامة ذلك لسابور.
فنصب للسور حتى [ تسوّر ] وفتحها عنوة، وقتل الحرس والضيزن، وأباد قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبق منهم باق يعرف إلى اليوم، وأخرب سابور المدينة، وفي ذلك يقول عمرو بن إله:
ألم يحزنك والأنباء تنمى ** بما لاقت سراة بنى العبيد
ومصرع ضيزن وبنى أبيه ** وأحلاس الكتائب من تزيد
أتاهم بالفيول مجلّلات ** وبالأبطال سابور الجنود
فهدّم من أواسى الحصن صخرا ** كأنّ ثفاله زبر الحديد
واحتمل سابور النضيرة بنت الضيزن، فأعرس بها بعين التمر. فذكر أنّها لم تنم، وتضوّرت ليلتها من خشونة فرشها وهي من حرير محشوّة بالقزّ. فالتمس ما كان يؤذيها. فإذا ورقة آس، ملتزقة بعكنة من عكنها قد أثّرت فيها من لين بشرتها.
فقال لها سابور: « ويحك! بأيّ شيء كان يغذوك أبوك؟ » فقالت: « بالزبد، والمخّ، وشهد الأبكار من النحل، وصفو الخمر. » قال: « وأبيك لأنا أحدث عهدا بك، وأوتر لك من أبيك، الذي غذّاك بما تذكرين. » فأمر رجلا، فركب فرسا جموحا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها، فقطّعها قطعا. وقد أكثر الشعراء في ذكر الضيزن هذا، وإيّاه عنى عديّ بن زيد بقوله:
وأخو الحضر، إذ بناه وإذ دج ** لة تجبى إليه، والخابور
شاده مرمرا، وجلّله كل ** سا، فللطّير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ** ملك عنه، فبابه مهجور
توالى ستة ملوك
ومضت أيّام سابور، وهي ثلاثون سنة، حميدة. وفي أيّامه ظهر ماني الزنديق، وكذلك أيّام ابنه هرمز الملقّب بالبطل والجريء. وكان عظيم الخلق جريئا. له حكايات عظيمة جدّا، وكوّر مدينة « رامهرمز » وملك سنة. ثم مضت أيّام ابنه بهرام بن هرمز كذلك، وقتل مانى وسلخه. ومضت أيّام ابنه بهرام بن بهرام، ثم [ أيّام ] ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام، ثم [ أيّام ] نرسى بن بهرام أخي بهرام الثالث، ثم أيّام هرمز بن نرسى، وكان فظّا، إلّا أنّه رفق بالرعيّة، وسار بأعدل سيرة فيهم، وحرص على العمارة وانتعاش الضعفاء، ثم هلك وببعض نسائه حبل. فبعض الناس يزعم أنه وصّى بالملك لذلك الحمل في بطن أمّه، وبعضهم زعم أنّ الناس لما شقّ عليهم موت هرمز، سألوا عن نسائه. فلمّا عرفوا أنّ ببعضهنّ حبلا، عقدوا التاج عليه في بطن أمّه، ثم ولد:
سابور الملقب بذي الأكتاف
وهو سابور بن هرمز بن نرسى بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. فكتب إليه الناس الكتب من الآفاق، ووجّه البرد إلى الأطراف، وقلّد الوزراء والكتّاب، والعمّال، الأعمال التي كانوا يعملونها في ملك أبيه.
فممّا حدث في أيّامه: أنّ خبره لمّا فشا وشاع، وعلم أصحاب الأطراف أنّ ملك الفرس صبيّ يدبّر، ولا يدرى ما يكون منه، طمع فيهم وفي مملكتهم الروم، والترك، والعرب. وكانت أدنى بلاد الأعداء إلى فارس بلاد العرب، وكانوا من أحوج الأمم إلى تناول شيء من المعايش، لسوء حالهم وشظف عيشهم. فسار جمع عظيم منهم في البحر، من ناحية بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة، حتى أناخوا براشهر وسواحل أردشير خرّه، وأسياف فارس، وغلبوا أهلها على مواشيهم وحروثهم ومعايشهم، وأكثروا الفساد في تلك البلاد، ومكثوا بذلك حينا لا يغزوهم أحد من الفرس لقلّة الهيبة، وانتشار الأمر، وكثرة المدبّرين، ولأنّ الملك طفل، حتى ترعرع سابور، وجعل الوزراء يعرضون عليه أمر الجنود التي في الثغور، ووردت الأخبار بأنّ أكثرهم قد أحلّ. وعظّموا عليه الأمر بعد الأمر. وكان ممّن عرض عليه، أمر الجنود التي في الثغور، ومن كان منهم بإزاء الأعداء، وأنّ الأخبار وردت بإحلال أكثرهم. وهوّلوا عليه الخطب في ذلك.
فقال لهم سابور: « لا يكبرنّ عليكم هذا، فانّ الحيلة فيه يسيرة »، وأمر بالكتاب إلى أولئك الجنود بأنه:
« انتهى إليّ طول مكثكم في النواحي التي أنتم فيها، وعظم غناءكم عن إخوانكم وأوليائكم، فمن أحبّ منهم الانصراف إلى أهله، فلينصرف مأذونا له في ذلك، ومن أحبّ أن يستكمل الفضل بالصبر في موضعه عرف له ذلك. » وتقدّم إلى من اختار الانصراف، في لزوم أهله وبلاده إلى وقت الحاجة إليه.
فلمّا سمع الوزراء ذلك من قوله ورأيه، استحسنوه وقالوا: « لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور وسياسة الجنود، ما زاد رأيه على ما سمعنا منه. » ثم تتابعت آراؤه في تقويم أصحابه وقمع أعدائه، حتى إذا تمّت له ست عشرة سنة، وأطاق حمل السلاح وركوب الخيل، واشتدّ عظمه، جمع إليه رؤساء أصحابه وأجناده، ثم قام فيهم خطيبا. فذكر الله عز وجل، وذكر ما أنعم به عليه وعليهم بآبائه، وما أقاموا من إربهم، ونفوا من أعدائهم، وما اختلّ من أمورهم في الأيّام التي مضت من أيّام صباه، وأعلمهم: أنّه يستأنف العمل في الذبّ عن البيضة، وأنّه يقدّر الشخوص إلى بعض الأعداء لمحاربته، وأنّ عدّة من يشخص معه من المقاتلة ألف رجل. فنهض إليه القوم داعين متشكرين، وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجّه القواد والجنود ليكفوه ما قدّر من الشخوص فيه. فأبى أن يجيبهم إلى المقام.
فسألوه الإزدياد على العدة التي ذكرها، فأبى. ثم انتخب ألف فارس من صناديد جنده وأبطالهم وأغنيائهم، وتقدّم إليهم في المضيّ لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على العرب وعلى من لقوا منهم، ووصّاهم ألّا يعرّجوا على مال ولا غنيمة ولا يلتفتوا إليه.
ثم سار بهم، حتى أوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارّون. فقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيّتهم. ثم قطع البحر في أصحابه فورد الخطّ، واستبرى بلاد البحرين. فجعل يقتل أهلها ولا يقبل فداء ولا يعرّج على غنيمة. ثم مضى على وجهه، فورد هجر وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس. فسفك فيهم من الدماء سفكا سالت كسيل المطر، حتى كان الهارب منهم يرى أن لن ينجيه غار ولا جبل ولا بحر ولا جزيرة. ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلّا من هرب منهم. فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة، فقتل بها مثل تلك المقتلة. ولم يمرّ بماء من مياه العرب إلّا عوّره ولا جبّ من جبابهم إلّا طمّه. ثم أتى قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب وفيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام. فقتل من وجد بها من العرب وسبى وطمّ مياههم.
ثم أسكن قوما من بنى تغلب ومن سكن منهم البحرين، دارين والخطّ، ومن كان من عبد القيس وطوائف تميم، هجر، ومن كان من بكر بن وائل، كرمان، - وهم الذين يدعون بكر إياد - ومن كان منهم من بنى حنظلة، بالرميلة من بلاد الأهواز. وبنى بالسواد مدينة بزرج سابور، وبنى الأنبار، وبنى السوس والكرخ. وغزا بعد ذلك أرض الروم، فسبى سبيا كثيرا. وبنى بخراسان نيسابور.
ثم هادن قسطنطين ملك الروم الذي بنى قسطنطينيّة، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الروم.
ذكر حيلة لقسطنطين
كان قسطنطين لمّا ملك الروم كبرت سنّه، وساء خلقه، وظهر به وضح.
فأرادت الروم خلعه، وكاشفته وقالت: « اعتزل الملك، فإنّ لك من المال ما لا تفقد معه شيئا ممّا أنت فيه من نعمتك. »
فشاور نصحاءه فقالوا له: « لا طاقة لك بالقوم، فقد اجتمعت كلمتهم على خلعك. » قال: « بما الحيلة؟ » قالوا: « تحتال بالدين - وكانت النصرانية قد ظهرت وهي خفيّة - وذلك بأن تستأذن في زيارة بيت المقدس، وتستمهلهم مدّة ما تعود. فإذا حصلت بها دخلت في هذا الدين النصراني تحمل الناس عليه، فانّهم يفترقون فرقتين، فتقاتل بمن أطاعك من عصاك، وما قاتل قوم على دين قط إلّا غلبوا. » ففعل قسطنطين ذلك، فظفر بالروم. فأحرق كتبهم وحكمتهم، وبنى البيع، وحمل الناس على النصرانية، ونقلهم من الرومية وكانت دار مملكتهم، وبنى قسطنطينية ولم يزل الملك محروسا بالنصرانية، وغلب على الشام، إلى أن ظهر الإسلام.
ثم ملك من الروم لليانوس
وكان يدين بملة اليونانية القديمة التي كانت قبل النصرانية. فلمّا ملك، أظهر ملّته، وأعادها كهيئتها، وأمر بهدم البيع، وجمع جموعا من الروم والخزر ومن كان في مملكته من العرب.
عاقبة سرف سابور في القتل
فكان من عاقبة ذلك السرف الذي أقدم عليه سابور من قتل العرب: أن اجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة وسبعون ألف مقاتل. فوجّههم مع بطريق له في مقدمته. وأقدموا على فارس حنقين موتورين. وذلك أنّ سابور لم يقتصر على الانتقام ممّن أذنب وتجاوز حدّه، حتى قتل البريء، وسفك من الدماء ما لا يحصى.
فلما انتهى إلى سابور كثرة من مع لليانوس من الجنود، وشدّة بصائرهم، وحنق العرب، وعدد الروم والخزر، هاله ذلك، ووجّه عيونا تأتيه بأخبارهم، ومبلغ عددهم، وشجاعتهم، وعدّتهم. فاختلفت عليه أقاويل العيون في ما أتوه من الأخبار عن لليانوس وجنده. فتنكّر سابور، وسار في ثقاته ليعاين عسكرهم.
تخلصه بحسن الاتفاق
فكان مما جنى فيه على نفسه وتخلّص منه بحسن الاتفاق: أنّه لمّا قرب من عسكر البطريق الذي كان على المقدمة وكان اسمه يوسانوس ومعه العرب والخزر، وجّه قوما ليتجسّسوا الأخبار ويأتوه بحقائقها. فنذرت بهم الروم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس. فأقرّ من جملتهم رجل واحد، وأخبر بالقصة على وجهها وبمكان سابور، وسأله أن يوجّه معه جندا فيدفع إليهم سابور.
فأرسل يوسانوس رجلا من بطانته إلى سابور يعلمه ما ألقى إليه من أمره وينذره. وإنّما فعل ذلك لميله إلى النصرانية التي قصدها لليانوس. فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه وصار إلى عسكره. ثم زحف لليانوس بمسألة العرب إيّاه، فقاتل سابور وفضّ جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب سابور في من بقي من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلّة سابور، وظفر ببيوت أمواله وخزائنه فيها. ثم اجتمع إلى سابور من آفاق بلاده جنوده، وحارب لليانوس، واستنقذ منه طيسبون، واختلفت الرّسل بينه وبين لليانوس.
سوء تحفظ لليانوس
فكان من سوء تحفّظ لليانوس في تلك الحال واسترساله: أن كان يوما جالسا في حجرة من فسطاطه، والرسل تختلف بينه وبين سابور، فجاءه سهم غرب فأصاب مقتله من فؤاده، فسقط ومات، وأسقط في روع جنده وهالهم ما نزل به، ويئسوا من التقصّى في بلاد فارس، فصاروا نشرا لا ملك عليهم. فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولّى الملك لهم ليملّكوه عليهم. فأبى ذلك، وألحّوا عليه، فأعلمهم أنّه على ملّة النصرانية، وأنّه لا يلي قوما هم له مخالفون في دينه.
فأخبرتهم الروم أنّهم على ملّته، وأنّهم كتموها مخافة لليانوس. فأجابهم حينئذ، فلمّا ملّكوه أظهروا النصرانية.
ثم إنّ سابور لما علم بهلاك لليانوس، أرسل إلى قوّاد جنوده الروم يقول:
« إنّ الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، ونرجو أن تهلكوا ببلادنا جوعا من غير أن نهزّ لقتالكم سيفا، أو نشرع له رمحا، فسرّحوا إلينا رئيسا إن كنتم رأستموه عليكم. » فعزم يوسانوس على إتيان سابور لما كان بينه وبينه، لما أنذره ومن عليه. فلم يتابعه أحد من قوّاد جنده. فاستبدّ برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلا من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه. فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقّاه، وتساجدا، فعانقه سابور شكرا لما كان منه في أمره، وطعم عنده يومئذ ونعم. وإنّ سابور أرسل إلى قوّاد جند الروم وذوي الرئاسة فيهم يعلمهم: أنّهم لو ملّكوا غير يوسانوس، لجرى هلاكهم في بلاد فارس، ولكن تمليكهم إيّاه ينجيهم من سطوته. ثم قوّى أمر يوسانوس بكلّ جهد، وقال له عند منصرفه:
« إنّ الروم قد شنّوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشرا كثيرا، وقطّعوا بأرض السواد من الشجر والنخل ما كان بها، وخرّبوا عمرانها، فإمّا أن تدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخرّبوا، وإمّا أن تعوّضونا من ذلك نصيبين وحيّزها. » فأجاب يوسانوس وأشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا إليه نصيبين. فبلغ ذلك أهلها، فجلوا عنها إلى مدن للروم، خوفا على أنفسهم من ملك مخالف ملّتهم. فبلغ ذلك سابور، فنقل اثنى عشر ألف أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر، من بلاده إلى نصيبين، فأسكنهم إيّاها. وانصرف يوسانوس إلى الروم وملكها يسيرا ثم هلك.
وضرى سابور على قتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم زمانا طويلا، فسمّته العرب « ذا الأكتاف ». ثم إنّه استصلح العرب وأسكن من بعض تغلب وعبد القيس وبكر، كرمان وتوّج والأهواز. وبنى مدينة نيسابور ومدائن أخر بالسند وسجستان، ونقل طبيبا من الهند، فأسكنه السوس، فورث طبّه أهل السوس.
وهلك سابور بعد اثنتين وسبعين سنة من ملكه.
أردشير بن هرمز
وقام بالملك بعد سابور، أخوه أردشير بن هرمز بن نرسى بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك. فلمّا استقرّ به الملك ظهر منه شرّ، وقتل [ من ] ذوي الرئاسة والعظماء خلقا كثيرا، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه، وملّكوا:
سابور بن سابور ذي الأكتاف
فاستبشرت الرعية به وبرجوع ملك أبيه إليه. فأحسن السيرة ورفق بالرعية، إلى أن سقط عليه فسطاط كان ضرب عليه، فمات وملّك بعده أخوه:
بهرام بن سابور ذي الأكتاف
وكان يلقّب بكرمان شاه، لأن سابور ولّاه « كرمان »، فمضت أيّامه محمودة، وكان جميل السياسة محبّبا. ثم قام بالملك:
يزدجرد المعروف بالأثيم ابن بهرام بن سابور ذي الأكتاف
ومن الفرس من يقول: هو أخو بهرام وهو يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف.
وكان فظّا غليظا ذا عيوب كثيرة، وكان من أشدّ عيوبه وضعه ذكاء ذهن وحسن أدب كانا فيه، غير موضعهما. وذلك أنّه كان كثير الرؤية في الضارّ من الأمور، واستعمل علمه الذي أوتيه، في الدهاء والختل، واستخفّ بكلّ علم كان عند الناس، واحتقر آدابهم واستطال بما عنده، وكان من ذلك معجبا، غلقا، سيئ الخلق، ردىء الطعمة، حتى بلغ من شدة غلقه وحدّته أن يستعظم صغير الزلّات ولا يرضى في عقوبتها إلّا بما لا يستطاع أن يبلغ مثلها. ثم لم يقدر أحد من بطانته - وإن كان لطيف المنزلة منه - أن يشفع لمن ابتلى به، وإن كان ذنب المبتلى به يسيرا. ولم يكن يأتمن أحدا على شيء من الأشياء. ولم يكن يكافئ على حسن البلاء. وكان يعتدّ بالخسيس من العرف إذا أولاه ويستجزل ذلك. فإن جسر على كلامه أحد في أمر قال له:
« ما قدر جعالتك في هذا الأمر الذي كلّمتنا فيه، وما الذي بذل لك؟ » وما أشبه ذلك. فلقى الناس منه عنتا. فلما اشتدّت بليّته، وكثر إهانته للعظماء، وحمل على الضعفاء، وأكثر من سفك الدماء، اجتمعوا وتضرّعوا إلى ربّهم في تعجيل إنقاذهم منه.
فتزعم الفرس: أنه كان مطّلعا من قصره ذات يوم إذ رأى فرسا عائرا لم ير مثله قطّ في الخيل، حسن صورة وتمام خلق، حتى وقف على بابه، فتعجّب الناس منه، لأنه كان متجاوز الأمر. فأمر يزدجرد أن يسرج ويلجم ويدخل عليه. فحاول ساسته وأصحاب مراكبه إلجامه وإسراجه، فلم يمكّن أحدا منهم من نفسه. فخرج بنفسه إلى الموضع الذي فيه الفرس، فألجمه بيده وأسرجه ولّينه فلم يتحرّك، فلمّا استدار به ورفع ذنبه ليثفره، رمحه الفرس على فؤاده رمحة هلك منها مكانه، ثم لم يعاين ذلك الفرس. فأكثرت الفرس في حديثه وظنّت الظنون. وكان أحسنهم مذهبا من قال: « إنما استجاب الله دعاءنا ».
ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه:
بهرام جور
وكان أسلمه يزدجرد إلى المنذر بن النعمان ليربّيه في ظهر الحيرة، لصحّة التربة والهواء، وليتعلّم هناك الفروسية. وتكفّله النعمان وعظّم يزدجرد المنذر بن النعمان وشرّفه، وملّكه على العرب، وسار به المنذر، فربّاه، واستدعى له الحواضن من الفرس والعرب، ثم أحضره المؤدّبين، وحرص بهرام على الأدب.
فتحكى عنه حكايات من النجابة في صغره، فمنها أنّه قال للمنذر بن النعمان وهو ابن خمس سنين:
« أحضرنى مؤدّبين ليعلّمونى الكتابة والفقه والرمى والفروسية. » فقال له المنذر: « إنّك بعد صغير السنّ، ولم يأن لك ذلك بعد. » فقال له بهرام: « أما تعلم أيّها الرجل، أنّى من ولد الملوك، وأنّ الملك صائر إليّ، وأولى ما كلّف به الملوك وطلبوه، صالح العلم، لأنّه زين لهم وركن، وبه يفوقون؟ أما تعلم أنّ كلّ ما يتقدّم في طلبه ينال وقته، وما لا يتقدّم فيه، بل يطلب في وقته، ينال في غير وقته، وما يفرّط فيه وفي طلبه، يفوت فلا ينال؟ عجّل عليّ بما سألتك! » فوجّه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام، إلى باب الملك من أتاه برهط من المعلّمين والفقهاء ومعلّمى الرمى والفروسية، وجمع له حكماء الروم وفارس ومحدّثى العرب، فألزمهم إيّاه، ووقف أوقاتا لكل قوم منهم. فتفرّغ بهرام لتعلّم كل ما سأل أن يعلّم، واستمع من أهل الحكمة، ووعى ما سمع، وثقف كل ما علّم بأيسر سعى، وبلغ أربع عشرة سنة وقد فاق معلّميه، واستفاد كل ما أفيد وحفظ وفاق. ثم حرص على انتخاب الأفراس العربيّة وركوبها وإحضارها والرمى عليها، فبرع في ذلك. وتحكى الفرس عنه حكايات عظيمة جدّا.
ثم أعلم المنذر أنّه على الإلمام بأبيه، فشخص، وكان أبوه لا يحفل بولد له، فاتّخذ بهرام للخدمة، ولقي بهرام من ذلك عنتا. واتفق أن ورد على يزدجرد وفد من قيصر - وفيهم أخو قيصر - في طلب الصلح والهدنة، فسأله بهرام أن يكلّم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر. فأذن له أبوه وانصرف إلى بلاد العرب وقد عرّض بأبيه ورأى قلّة نفاق أدبه عليه، ولقي شدّة وهوانا. فأقبل على التنعم والتلذّذ، إلى أن هلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب.
فتعاقد قوم من العظماء ألّا يملّكوا أحدا من نسل يزدجرد، وأظهروا: أنّ ولد يزدجرد لا يحتملون الملك، وليس فيهم نجيب غير بهرام، وبهرام لم يتأدّب بأدب الفرس، وإنّما أدبه أدب العرب، وأخلاقه أخلاقهم، لنشئه في ما بينهم وبين أظهرهم، واجتمعت كلمة العامّة معهم على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك يقال له:
كسرى فملّكوه، وانتهى هلاك يزدجرد وما كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام. فدعا بالمنذر وبالنعمان ابنه وناس من علية العرب. فذكّرهم إحسان والده إليهم وإنعامه عليهم مع فظاظته وشدّته على الفرس، وأخبرهم بموت والده وما كان من الفرس من تمليك غيره، ومنّاهم من نفسه ووعدهم بما أنسوا به. فقال المنذر:
« لا يهولنّك ذلك حتى ألطف للحيلة. » ثم إنّ المنذر جهّز عشرة آلاف من فرسان العرب مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريبا منهما، وأن يغير على ما والاهما، وإن تحرّك أحد لقتاله قاتله. وأذن له في الأسر والسبي، ونهاه عن لقتل.
فسار النعمان حتى نزل قريبا من المدينتين، ووجّه طلائعه إليهما واستعظم قتال الفرس. فاجتمع رأى العظماء وأهل البيوتات على إنفاذ حواى على تأدية رسالة - وحواى هذا صاحب رسائل يزدجرد - إلى المنذر ويستكفونه أمر النعمان ابنه، ويخوّفونه من عقبى جنايته عليه.
فلمّا ورد حواى على المنذر قال له: « الق الملك بهرام. » ووجّه معه من يوصله إليه. فلمّا دخل عليه راعه منظر بهرام وما رأى من وسامته. فكلّمه بهرام ووعده ومنّاه وردّه إلى المنذر، ورسم له أن يجيب عمّا كتب إليه.
فقال المنذر لحواى: « قد تدبّرت ما جئتني به، وقرأت الكتاب ولست صاحب النعمان، وإنّما صاحبه الملك بهرام، وهو الذي وجّهه إلى ناحيتكم، ورسم له ما هو لا محالة متمثّلة، لأنّ الملك صار له بعد أبيه، ولا حظّ لغيره فيه. » فلمّا سمع حواى مقالته، وتذكّر ما عاين من بهاء بهرام وروائه وحسن كلامه، علم أنّ جميع من يشاور في صرف الملك عنه مخصوم محجوج. فقال للمنذر:
« إني لست محيرا جوابا، ولكن سر - إن رأيت - إلى محلّة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وأت في الأمر ما يجمل، فانّهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به. » فردّ المنذر حواى، واستعدّ وسار بعده بيوم مع بهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك. فلمّا وردهما، جمع الناس وجلس بهرام على منبر من ذهب مكلّل بالجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلّم عظماء الفرس، وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد كانت وسوء سيرته، وأنّه أخرب الأرض وأكثر القتل ظلما حتى قلّ الناس. وذكروا أمورا فظيعة، وذكروا أنّهم إنّما تعاقدوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك. وسألوا المنذر ألّا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه.
فقال المنذر لبهرام:
« أنت أولى بإجابة القوم. » فقال بهرام:
« إني لست أكذّبكم في شيء مما نسبتم إلى يزدجرد لما استقرّ عندي من ذلك. ولقد كنت منكرا سوء هديه متنكّبا طريقته، ولم أزل أسأل الله أن يفضى بالملك إليّ فأصلح كلّ ما أفسد، وأرأب ما صدع، وسأعيد الأمور بمشيئة الله إلى أتمّ ما كانت عليه في وقت من الأوقات انتظاما، وأعمر البلاد، وأرفّه الرعيّة، وأوسع لهم، وأوطّئ جانبي، وأدرّ أرزاق الجنود وأهل الطاعة، وأسدّ الثغور، وأنفى أهل الفساد. فإن أتت لملكى سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت عليكم، تبرّأت من الملك طائعا، وأشهد الله بذلك وملائكته وموبذان موبذ. » فسمع أكثر الناس ورضوا، وتكلّمت طائفة كان رأيها مع كسرى.
فقال بهرام:
« فإني على ما ضمنته لكم، واستيجابى للملك، وأنّه حقّ لي. قد رضيت أن يوضع التاج والزينة بين أسدين مشبلين، فمن تناوله فهو الملك. »
بهرام يتناول التاج والزينة من بين أسدين مشبلين
فلمّا سمع القوم هذه المقالة، مع ما وعد من نفسه، سكنوا، وأظهروا الاستبشار والرضاية، وقالوا:
« إنّا إن تمّمنا صرف الملك عن بهرام، لم نأمن هلاك الفرس على يده بمن يرى رأيه ولكثرة من استجاش من العرب. وقد عرض علينا ما لم يدعه إليه أحد، لولا ثقته ببطشه وجرأته. فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس الرأي إلّا تسليم الملك إليه والسمع والطاعة، وإن يهلك ضعفا وعجزا فنحن برءاء منه، آمنون لشرّه وغائلته. » فتفرّقوا على هذا الرأي، وجلس بهرام من الغد في مثل مجلسه بالأمس، وحضر من كان يحادّه فقال:
« إمّا أن تجيبوني عمّا تكلّمت به أمس، وإمّا أن تسكتوا باخعين لي بالطاعة. » فقال القوم: « قد رضينا بحكمك، وأن يوضع التاج والزينة بين الأسدين كما ذكرت بحيث رسمت، وتنازعاهما أنت وكسرى. » فأتى بالتاج والزينة، وتولّى موبذان موبذ الذي كان يعقد التاج على رأس كلّ ملك يملك، فوضعهما ناحية، وجاء إصبهبذ مع ثقات القوم بأسدين ضاريين مجوّعين مشبلين. فوقف أحدهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما.
ثم قال بهرام لكسرى:
« دونك التاج والزينة! » فقال كسرى:
« أنت أولى بالبدء مني، لأنّك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه دخيل. »
ولم يكره بهرام قوله لثقته بنفسه، وحمل جرزا وتوجّه نحو التاج والزينة.
فقال له موبذان موبذ:
« استماتتك في هذا الأمر الذي تقدم عليه هو تطوع منك، لا عن رأيي، ولا عن رأى أحد من الفرس، ونحن برءاء إلى الله من إتلافك نفسك. » فقال بهرام:
« نعم أنتم برءاء، ولا وزر عليكم. » ثم أسرع نحو الأسدين. فلمّا رأى موبذان موبذ جدّه، هتف به وقال:
« بح بذنوبك وتب منها، ثم أقدم إن كنت لا محالة مقدما. » فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبذر أحدهما، فلمّا دنا من بهرام، وثب وثبة، فإذا هو على ظهر الأسد، وعصر جنبي الأسد بفخذيه حتى أثخنه، فجعل يضرب على رأسه بالجرز، ثم قرب من الأسد الآخر. فلمّا تمكّن منه قبض على أذنيه وعركهما بكلتي يديه، ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان ركب ظهره، حتى دمغهما، ثم قتلهما ضربا على رأسهما بالجرز، وذلك كلّه بمشهد من جميع من حضر ذلك الموضع وبمرأى من كسرى. فتناول بهرام التاج والزينة، وكان كسرى أوّل من هتف به وقال:
« عمّرك الله بهرام، الذي يسمع له من حوله ويطيع، ورزقه الله ملك أقاليم الأرض السبعة. » ثم هتف الناس وجميع من حضر ذلك المجلس، وقالوا:
« أذعنّا للملك بهرام ورضينا به ملكا. » وكثر الدعاء والضجيج.
ولقي الرؤساء المنذر بعد ذلك وسألوه أن يكلّم بهرام في التغمّد لاساءتهم والصفح عنهم. فسأله المنذر وأسعفه الملك. ثم جلس بهرام - وهو ابن عشرين سنة - سبعة أيّام متوالية للجند والرعيّة، يعدهم الخير من نفسه ويحضهم على تقوى الله وطاعته، وغبر زمانا يحسن السيرة ويعمر البلاد ويدرّ الأرزاق.
ثم آثر اللهو على ذلك، وكثرت خلواته بأصحاب الملاهي والجواري، حتى كثرت ملامة رعيّته إيّاه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده والغلبة على بلاده.
خاقان يغزو بهرام
وكان أوّل من سبق إلى مكاثرته ومغالبته خاقان ملك الترك. فإنّه غزاه في مائتين وخمسين ألفا من الأتراك. فبلغ الفرس إقبال خاقان في هذا الجمع العظيم فهالهم وتعاظمهم، ودخل إليه من عظمائهم قوم من أهل الرأي فقالوا:
« أيّها الملك، قد أزفك من بائقة هذا العدوّ ما يشغلك عمّا أنت فيه من اللهو والتلذّذ، فتأهّب له، كي لا يلحقك منه أمر يلزمك فيه مسبّة وعار. » فكان بهرام لثقته بنفسه ورأيه، يجيب القوم: بأن الله ربّنا قوى ونحن أولياؤه، ثم يقبل على المثابرة واللزوم لما فيه من اللهو والصيد.
حيلة بهرام جور على خاقان
إلى أن أظهر ذات يوم التجهّز إلى آذربيجان لينسك في بيت نارها ويتوجّه منها إلى أرمينية ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره، في سبعة رهط من العلماء وأهل البيوتات وثلاثمائة رجل من رابطته، ذوي بأس ونجدة. واستخلف أخا له يقال له: « نرسى »، على ما كان يدبّر من ملكه. فلم يشكّ الناس حين بلغهم مسير بهرام في من سار بهم، واستخلافه أخاه على ما استخلف، في أنّ ذلك هرب من عدوّه، وإسلام لملكه. وتوامروا في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإقرار له بالخراج، ومخافة منه، لاستباحة بلادهم، واصطلامه مقاتلتهم ووجوههم، إن هم لم يفعلوا ذلك ويبادروا إليه. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع. فأمنهم وتودّع وترك كثيرا من الجدّ والاستعداد، وآثر جنده أيضا ذلك. وأتى بهرام عين له من جهة خاقان، فأخبره بحاله، وحال جنده وفتورهم عن الجدّ الذي كانوا عليه.
فسار بهرام في العدّة الذين كانوا معه، فبيّت خاقان وقتله بيده، وانهزم من سلم من القتل منهم، وخلّفوا عسكرهم وأثقالهم. فأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم، ويحوى الغنائم ويسبى الذراريّ، وانصرف هو وجنده سالمين، وظفر بتاج خاقان وإكليله، وبخع له أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه، بالطاعة. وسألوه أن يحدّ لهم حدّا بينه وبينهم فلا يتعدّوه.
ثم بعث قائدا له إلى ما وراء النهر، فأثخنهم وأقروا له بالعبوديّة وأداء الجزية.
وانصرف بهرام بالغنائم العظيمة والتاج والإكليل وما فيهما من الياقوت الأحمر وسائر الجواهر فنحلها بيت النار بآذربيجان.
ورفع الخراج عن الناس ثلاث سنين، وقسم في الفقراء مالا عظيما، وفي البيوتات وأهل الأحساب عشرين ألف ألف درهم.
وكتب كتبا إلى الآفاق يذكر فيها أنّ الخبر كان ورد عليه بورود خاقان بلاده وأنه مجّد الله وتوكّل عليه، وسار في سبعة رهط من أهل البيوتات، وثلاثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق آذربيجان، وجبل القبق، حتى نفذ إلى براري خوارزم ومفاوزها، وأبلاه الله أحسن بلاء، وذكر في الكتاب ما وضعه عن الناس من الخراج، وهذا الكتاب كان بليغا، والفرس يحفظونه.
ويقال: إنّ بهرام ترك من حقّ بيت المال من الخراج سبعين ألف ألف درهم بقسط تلك السنة، وكان هذا مقدار ما بقي منه، ثم [ أمر بترك ] الخراج ثلاث سنين أخر.
قصده الهند والروم والسند والسودان
ثم إنّ بهرام لما انصرف من غزوه خاقان مظفّرا قصد الهند، فيحكى له حكايات عظيمة وأمور كبار تولّاها، وغلب عليها، وزوّجه ملك الهند ابنته ونحله الديبل ومكران وما يليها، فضمّها بهرام إلى أرض الفرس، وحمل خراجها إلى بهرام.
ثم أغزى بهرام « مهرنرسى » إلى بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها. فتوجّه مهرنرسى في تلك العدّة، ودخل قسطنطينية، ومقامه مشهور هناك، فهادنه ملك الروم، وانصرف بجميع ما أراد بهرام - وكان مهرنرسى هذا من ولد بهمن بن اسفندياذ بن بشتاسف، وربما خفّف اسمه، فقيل: « نرسى» - وبلغ مبلغا، وكلّ ذلك بهيبة بهرام وما تمكّن له في قلوب الملوك وأهل الأطراف والجند من جودة الرأي وحسن التدبير والشجاعة ونفاذ العزيمة، وقلّة الاتّكال على غيره.
وذكر أنّ بهرام بعد فراغه من أمر خاقان وأمر ملوك الروم والسند، مضى إلى بلاد السودان من ناحية اليمن، فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى منهم خلقا، وانصرف إلى مملكته.
ارتطام بهرام في سبخة
وهلك بعد ذلك في « ماه » وذلك أنه توجّه إليها للصيد فشدّ على عير وأمعن في طلبه فارتطم في ماء في سبخة وغرق هناك. فسارت والدته إلى ذلك الموضع بأموال عظيمة، فأقامت قريبة منها، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه. فنقلوا طينا عظيما وحمأة كثيرة، وجمعوا منه إكاما عظاما، ولم يقدروا على جثة بهرام. وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده:
يزدجرد بن بهرام جور
فكان يسير بسيرة أبيه ولم يزل قامعا لعدوّه رؤوفا برعيّته وجنوده. وكان له ابنان: أحدهما يسمّى هرمز، والآخر فيروز. فغلب هرمز على الملك بعد أبيه يزدجرد، وهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصّته وقصّة أخيه هرمز، وأنّه أولى بالملك منه، وسأله أن يمدّه بجيش يقاتل بهم أخاه. فأبى عليه ملك الهياطلة وقال:
« سأعلم علمه، ثم أمدّك إن كنت صادقا. » فلما عرف ملك الهياطلة أنّ هرمز ملك ظلوم غشوم، قال:
« إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عليه الملك، ولا تقوم به سياسة، ولا يحترف الناس في ملك الملك الجائر إلّا بالجور، وفي هذا هلاك الناس وخراب الأرض. » فأمدّ فيروز، ودفع إليه الطالقان. فأقبل فيروز من عنده بجيش طخارستان وطوائف خراسان، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد وهو بالريّ، وكانت أمّهما واحدة، وكانت بالمدائن تدبّر ما يليها من الملك، فظفر فيروز بأخيه، فحبسه وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتديّن، إلّا أنّه كان محارفا مشؤوما على رعيته، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن فيها إلى الناس، وقسم ما في بيوت الأموال وكفّ عن الجباية، وساسهم أحسن سياسة.
ويقال: إنّ الأنهار غارت في مدّة هذه السبع السنين، وكذلك القنيّ والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وتماوتت الوحوش والطيور، وجاعت الأنعام والدوابّ، حتى كانت لا تطيق أن تحمل حمولة، وعمّ أهل البلاد الجهد والمجاعة.
حسن سياسة من فيروز
فبلغ من حسن سياسة فيروز لذلك الأمر أن كتب إلى جميع أهل رعيّته: أنّه لا خراج عليكم ولا جزية ولا سخرة، وأنّه قد ملّكهم أنفسهم وأمرهم بالسعي فيما يقوتهم ويصلحهم. ثم كتب إليهم في إخراج الهوى والطعام والمطامير لكلّ من كان يملك شيئا من ذلك مما يقوت الناس، والتآسى فيه، وترك الاستيثار به، وأن يكون حال أهل الفقر والغنى وأهل الشرف والضعة في التآسى واحدة، وأخبرهم أنّه إن بلغه أن إنسيّا مات جوعا، عاقب أهل تلك المدينة أو القرية أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الإنسى، ونكّل بهم أشدّ النكال.
ويقال: إنّه لم يهلك في تلك اللزبة والمجاعة أحد من رعيّته إلّا رجل من رستاق كورة أردشير خرّة.
ثم إنّ فيروز لما حييت بلاده، وأغاثه الله بالمطر، وعادت المياه، وصلحت الأشجار، واستوسق له الملك، أثخن في الأعداء وقهرهم، وبنى مدنا:
إحداها بالريّ، والأخرى بين جرجان وصول، والأخرى بناحية آذربيجان.
ثم سار بجنوده نحو خراسان مريدا حرب أخشنواز ملك الهياطلة، لأشياء كانت في نفسه، ولأنّ هؤلاء القوم كانوا يأتون الذكران ويرتكبون الفواحش، فتأوّل بها وسار إليهم. فلما بلغ أخشنواز خبره اشتدّ منه رعبه وعلم أن لا طاقة له به.
حيلة تمت لملك الهياطلة على فيروز
فكان مما تمّ له على فيروز من الحيلة حتى قهره وقتله وقتل عامّة من كان معه: أنّ رجلا من أصحاب أخشنواز، لما علم أنّ ملكه قد بعل، وأنه قد أشرف على الهلاك هو وأهل بلاده، تنصّح إليه وقال:
« إني رجل كبير السنّ قريب الأجل، وقد فديت الملك وأهل مملكته بنفسي فاقطع يديّ ورجليّ وأظهر في جسمي وجنبي آثار السياط والعقوبات، وألقنى في طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي بعدي، فإني أكفيك أمر فيروز. » ففعل ذلك أخشنواز بذلك الرجل، وألقاه في طريق فيروز. فلمّا مرّ به أنكر حاله ورأى شيئا فظيعا. فسأله عن أمره، فأخبره: أنّ أخشنواز فعل به ذلك، لأنّه قال له: « لا قوام لك بالملك فيروز وجنوده »، وأشار عليه بالانقياد له والعبودة.
فرقّ له فيروز، ورحمه، وأمر بحمله معه، فأعلمه على وجه النصح، أو في ما زعم، أنه يدلّه على طريق قريب مختصر لم يدخل أحد منه قطّ إلى أخشنواز على طريق المفازة، وسأله أن يشتفى له منه. فاغترّ فيروز بذلك منه وأخذ الأقطع بالقوم في الطريق الذي ذكره له، فلم يزل يقطع بهم مفازة بعد مفازة.
فلما شكوا عطشا أعلمهم أنّهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة، حتى بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على تقدّم ولا تأخر، بيّن لهم أمره.
فقال أصحاب فيروز لفيروز:
« قد كنّا حذّرناك، أيّها الملك، فلم تحذر، فأمّا الآن فلا بدّ من المضيّ قدما، فإنّه لا سبيل إلى الرجوع، فلعلّك توافى القوم على الحالات كلّها. » فمضوا لوجوههم وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى عدوّهم. فلمّا أشرفوا عليهم - وهم بأسوأ حال من الضرّ والضعف - دعوا أخشنواز إلى الصلح، على أن يخلّى سبيلهم حتى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل له فيروز عهد الله وميثاقه ألّا يغزوهم ولا يروم أرضهم ولا يبعث إليه جندا يقاتلونهم، ويجعل بين المملكتين حدّا لا يجوزه. فرضي أخشنواز بذلك، وكتب له كتابا مختوما وأشهد له على نفسه شهودا، ثم خلّى سبيله وانصرف. فلما صار إلى مملكته حمله الأنف على معاودة أخشنواز.
عاقبة غدره
فكان من عاقبة غدره: أنّه غزاه بعد أن نهاه وزراؤه وخاصّته عن ذلك، لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبي إلّا ركوب رأيه. وكان في من نهاه عن ذلك رجل يخصّه ويجتبى رأيه يقال له: مربوذ. فلمّا رأي لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها. ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد أخشنواز.
فلمّا بلغ فيروز منارة كان بناها بهرام جور في ما بين تخوم بلاد خراسان وبلاد الترك - لئلّا يجوزها الترك إلى خراسان، لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدّى لها، وكان فيروز عاهد أخشنواز أن لا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة - أمر فيروز فصمد فيها خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجرّت أمامه جرّا واتّبعها، وزعم أنّه يريد بذلك الوفاء، وترك مجاوزة ما عاهد عليه.
فلمّا بلغ أخشنواز ذلك من فعل فيروز، أرسل إليه يقول له:
« إنّ الله عز وجل لا يخادع ولا يماكر، فانته عمّا انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه ».
فلم يحفل فيروز لقوله، ولم يكترث برسالته، وجعل يستطعم محاربة أخشنواز ويدعوه إليها، وجعل أخشنواز يمتنع من محاربته ويتكرّهها، لأنّ جلّ محاربة الترك إنّما هو بالخداع والمكر والمكائد.
ثم إنّ أخشنواز أمر فحفر خلف عسكره خندق عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعا، وغمّى بخشب ضعاف، وألقى عليه التراب، ثم ارتحل في جنده ومضى غير بعيد. فبلغ فيروز رحلة أخشنواز بجنده من معسكره، فلم يشكّ أنّ ذلك هزيمة منهم وأنّه قد انكشف وهرب. فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في طلب أخشنواز وأصحابه وأغذّوا السير. وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلمّا بلغوه اقتحموه على عماية، فتردّى فيها فيروز وعامّة جنده، وهلكوا من آخرهم. وعطف أخشنواز إلى عسكر فيروز واحتوى على كلّ شيء فيه، وأسر موبذان موبذ، وصارت فيروز دخت بنت فيروز في من صار في يده من نساء فيروز.
ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد، ابنه:
بلاش بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور
وكان حسن السيرة، حريصا على العمارة. وبلغ من حسن نظره أنّه كان لا يبلغه أنّ بيتا خرب وجلا أهله عنه، إلّا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت، على تركه إنعاشهم وسدّ فاقتهم، حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم.
ثم ملك قباذ بن فيروز أخو بلاش
وكان صار إلى خاقان يستنصره على أخيه بلاش ويذكر أنّه أحقّ بالملك منه.
فبقى هناك أربع سنين، ثم جهّزه خاقان. فلمّا عاد وبلغ نيسابور بلغه موت أخيه بلاش. وكان في وقت اجتيازه تزوّج ابنة رجل من الأساورة متنكّرا، وواقعها، فحملت بأنوشروان. ولما عاد في هذا الوقت الذي ذكرناه، سأل عن الجارية، فأتى بها وبابنه أنوشروان. فتبرّك به وبها. ولما بلغ حدود فارس والأهواز بنى مدينة أرجان، وبنى حلوان، وبنى قباذ خرّة، وعدة مدن أخر.
من آرائه الجيدة
فكان من آرائه الجيّدة وعزائمه النافذة، قبضه على خاله « سوخرا ». وكان سبب ذلك أنّ فيروز لما جرى عليه ما جرى من الهياطلة كان سوخرا يخلفه على مدينة الملك بالمدائن. فجمع جموعا كثيرة من الفرس، وقصد أخشنواز ملك الهياطلة وحاربه وانتقم منه وتحكّم عليه. وكان وقع في يده دفاتر الديوان الذي صحب فيروز. فتقاضى بجميع ما كان في خزائنه وخزائن قوّاده وأهله، وطلب الوجوه من الأسارى الذين بقوا في يد أخشنواز. ولم يزل يحارب أخشنواز ويكيده ويبلغ منه ما يتحكّم به عليه، حتى استنقذ من يده عامّة الفرس، وأكثر ما احتوى عليه من خزائن فيروز.
فكان له أثر حسن عند الفرس وعند ابني فيروز، أعنى: بلاش وقباذ. فعظّموه ورفعوا منزلته إلى حيث ليس بينه وبين الملك إلّا مرتبة واحدة. فتولّى سياسة الأمر بحنكة وتجربة، واستوى على الأمر، ومال إليه الناس واستخفّوا بقباذ، وتهاونوا به. فلم يحتمل قباذ ذلك، وكتب إلى سابور الرازي - الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان اصبهبذ البلاد - في القدوم عليه في من قبله من الجند، فقدم بهم سابور، فواضعه قتال خاله سوخرا، وأمره فيه بأمره، على لطف وكتمان شديد خفيّ. فغدا سابور على قباذ، فوجد عنده سوخرا جالسا. فمشى نحو قباذ مجاوزا له، وتغفّل سوخرا. فلم يأبه سوخرا لإرب سابور، حتى ألقى وهقا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه، فأخرجه، وأوثقه، واستودعه السجن. فحينئذ ضربت الفرس المثل بأن قالوا:
« نقصت ريح سوخرا، وهبّت ريح مهران ».
ثم قتل قباذ سوخرا. فكان هذا رأيا تمّ على سكون، ولم يضطرب فيه أمر.
سوء تدبير قباذ عند ظهور مزدك وزوال ملكه
وكان ممّا أساء فيه التدبير والرأي حتى اجتمعت كلمة موبذان موبذ وجماعة الفرس على حبسه وإزالة ملكه عنه. أنّه اتّبع رجلا يقال له « مزدك »، مع أصحاب له يقال لهم: « العدليّة ».
قالوا: « إنّ الله جعل الأرزاق في الأرض مبسوطة ليقسمها عباده بينهم بالتآسى، ولكن الناس تظالموا. »
وزعموا: أنّهم يأخذون للفقراء من الأغنياء ويردّون من المكثرين على المقلّين، وأنّه من كان عنده فضل في المال والقوت، أو النساء والأمتعة، فليس هو أولى به من غيره.
فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه حتى قوى أمرهم.
فكانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على ماله ونسائه، فلا يستطيعون الامتناع منهم. وقوّاهم قبول الملك رأيهم، ودخوله معهم. فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى صار الرجل لا يعرف أباه، ولا الأب ولده، ولا يملك أحد شيئا ممّا يتّسع به.
وصيّروا قباذ في مكان لا يصل إليه غيرهم فيه. فأجمعت الفرس - حين رأوا فساد الملك - على تمليك أخيه جاماسف بن فيروز.
وقد حكى أيضا: أنّ المزدكيّة هم الذين أجلسوا جاماسف ليكون الملك من قبلهم لا منّة لغيرهم عليهم، إلّا أنّ الحكاية الأولى أشبه بالحقّ.
ذكر حيلة تمت لأخت قباذ حتى أخرجته من الحبس
ثم إنّ أختا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ. فحاولت الدخول إليه، فمنعها الموكّل الذي كان ثقة عليه، وطمع أن يفضحها بذلك السبب وألقى طمعه فيها.
فأخبرته أنّها غير مخالفة له في شيء مما يهواه منها. فأذن لها حتى دخلت السجن وأقامت عند قباذ يوما. ثم أمرت فلفّ قباذ في بساط، وحمل على عاتق غلام قويّ ضابط كان معه في الحبس. فلمّا مرّ الغلام بوالي الحبس، سأله عمّا يحمله. فأفحم، فاضطرب. فلحقته أخت قباذ فأخبرته أنّه فراش كانت افرشته في عراكها، وأنّها إنّما خرجت لتتطهر وتنصرف. فصدّقها ولم يمس البساط، ولم يدن منه استقذارا له على مذهبهم، وخلّى عن الغلام الحامل لقباذ. فمضى به، وخرجت في أثره، وهرب قباذ، فلحق بأرض الهياطلة، ليستمدّ ملكها فيحارب من يخالفه.
فيقال: إنّه نزل في مسيره ب « أبرشهر » على رجل من عظمائها. فتزوّج ابنة له معصرا، وإنّها أمّ كسرى أنوشروان وإنّ نكاحه لأم أنوشروان في سفره هذا. ثم إنّ قباذ رجع من سفره هذا بابنه أنوشروان. وغلب أخاه جاماسف بعد أن ملك اخوه ستّ سنين. ثم غزا الروم وافتتح آمد وبنى مدنا منها: أرجان وغيرها، وملّك ابنه كسرى أنوشروان وأعطاه خاتمه.
وهلك قباذ وكان ملكه بسنى ملك أخيه ثلاثا وأربعين سنة.
سبب هلاك قباذ
وكان سبب هلاكه سوء رأيه، وفساد عقيدته، وضعف ملكه. وذلك أنّه لمّا التقى الحارث بن عمرو بن حجر الكندي والنعمان بن المنذر بن إمرئ القيس، قتله، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك النعمان. فبعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي أنّه:
« قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد وإني أحبّ لقاءك ». وكان قباذ زنديقا يظهر الخير، ويكره سفك الدماء، ويدارى أعداءه في ما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس.
فخرج إليه الحارث بن عمرو في عدد وعدّة، حتى التقيا بقنطرة الفيّوم. فأمر قباذ بطبق من تمر، فنزع نواه، وأمر بطبق آخر، فجعل فيه تمر بنواه. ثم وضعا بين أيديهما، وجعل الذي فيه النوى بين يدي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه بين يدي الملك قباذ. فكان الحارث يأكل التمر ويلقى النوى، والملك يأكل التمر ولا يحتاج إلى إلقاء النوى.
فقال الحارث: « ما لك لا تأكل كما آكل؟ » فقال الحارث: « إنّما يأكل النوى إبلنا وغنمنا. » وعلم أنّ قباذ يهزأ به. ثم افترقا على الصلح وعلى أن لا يتجاوز الحارث وأصحابه الفرات.
إلّا أنّ الحارث استضعفه وطمع فيه، فأمر أصحابه أن يعبروا الفرات ويغيروا على قرى السواد. فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن، فقال:
« هذا من تحت كنف ملكهم ».
ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو: أنّ لصوصا من العرب قد أغاروا على السواد وأنه يحبّ لقاءه.
فلقيه، فقال قباذ كالعاتب:
« لقد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك. » فطمع الحارث في لين كلامه فقال:
« ما علمت ولا شعرت، ولا أستطيع ضبط لصوص العرب، وما كلّ العرب تحت طاعتي، وما أتمكّن منهم إلّا بالمال والجنود. » فقال له قباذ: « فما الذي تريد؟ » قال: « أريد أن تطعمني من السواد ما أتّخذ به سلاحا. » فأمر له بما يلي جانب الغرب من أسفل الفرات وهي ستّة طساسيج.
فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبّع وهو باليمن:
« إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستّة طساسيج، فأجمع الجنود وأقبل، فانّه ليس دون ملكهم شيء، لأنّ الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحلّ هراقة الدماء، وله دين يمنعه من ضبط الملك، فبادر بعدّتك وجندك. » فجمع تبّع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن يشقّ له نهرا إلى النجف، ففعل وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجّه ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قباذ. فقاتله، فهزمه شمر، حتى لحق بالريّ، ثم أدركه بها فقتله.
ذكر ما تم لتبع وابن أخيه شمر وابنه حسان بعد احتوائهم على مملكة الفرس
ثم إنّ تبّعا أمضى شمرا ذا الجناح إلى خراسان، ووجّه ابنه حسّان إلى السغد وقال:
« أيّكما سبق إلى الصين فهو عليها. » وكان كلّ واحد منهما في جيش عظيم يقال: إنهما كانا ستمائة ألف وأربعين ألفا. وبعث ابن أخيه الآخر واسمه: « يعفر » إلى الروم.
فأمّا يعفر فإنّه سار حتى أتى قسطنطينية. فأعطوه الطاعة والإتاوة. ثم مضى إلى روميّة فحاصرها. ثم أصابهم جوع، ووقع فيهم طاعون فرقّوا. وعلم الروم بذلك، فوثبوا عليهم فلم يفلت منهم أحد.
وأمّا شمر ذو الجناح فانّه سار حتى انتهى إلى سمرقند، فحصرها، فلم يظفر منها بشيء. فلمّا رأى ذلك، أطاف بالحرس حتى أخذ رجلا من أهلها، فاستمال بقلبه، ثم سأله عن المدينة وملكها.
فقال: « أمّا ملكها فأحمق الناس ليس له همّ إلّا الشرب والأكل والجماع، ولكن له بنت هي التي تقضى أمر الناس. » فمنّاه ووعده حتى طابت نفسه. ثم بعث معه هديّة إليها وقال:
« أخبرها أنّى إنّما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها، لتنكحنى نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العرب والعجم، وأنّى لم أجئ التماس المال، وأنّ معي من المال أربعة آلاف تابوت ذهبا وفضّة هاهنا، وأنا أدفعها إليها وأمضى إلى الصين، فإن كانت لي الأرض، كانت امرأتى، وإن هلكت كان المال لها. » فلمّا انتهت رسالته إليها قالت:
« قد أجبته، فليبعث بالمال. » فأرسل إليها بأربعة آلاف تابوت، وفي كلّ تابوت رجلان. وكان لسمرقند أربعة أبواب، على كلّ باب منها أربعة آلاف رجل. وجعل شمر العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل. وتقدّم في ذلك إلى رسله الذين وجّه معهم. فلمّا صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل. فخرجوا، فأخذوا بالأبواب ونهد شمر في الناس فدخل المدينة، وقتل أهلها وحوى ما فيها.
ثم سار إلى الصين. فلقى زحوف الترك فهزمهم، وانتهى إلى الصين.
فوجد حسّان [ بن ] تبّع قد كان سبقه إليها ثلاث سنين. فأقاما بها - في بعض الروايات - حتى ماتا، وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة. وفي بعض الروايات - وهو المجمع عليه -: أنّ شمرا وحسّانا انصرفا في الطريق التي كانا أخذا فيه، حتى قدما على تبّع بما حازا من الأموال بالصين وصنوف الجوهر والطيب والسبي، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم. وذلك أنّه كانت همّة ملوك العرب الغزو والغنيمة ولم يطمعوا في الملك الثابت. وكان أحدهم إذا ملأ يده من الغنائم وأرضى جنده وظفروا بما في نفوسهم، انكفأوا إلى بلادهم.
وكانت وفاة تبع باليمن ولم يخرج أحد من ملوك اليمن بعده غازيا إلى شيء من البلاد. وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة.
وأمّا في الرواية الأخرى: فإنّه أقام تبّع وواطأ ابن أخيه شمرا وابنه حسّانا أن يملكا الصين، ويحملا إليه الغنائم، ونصب بينه وبينهم المنار. فكان إذا حدث حدث أوقدوا النار، فأتى الخبر في ليلة. وكان جعل آية ما بينه وبينهم [ أنه ]:
« إن أنا أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثا فهو هلاك تبّع. وإن كانت من عندهم نار فهو هلاك حسّان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما ».
فمكثوا بذلك. ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثا فكان هلاك تبّع.
وقد ذكر بعض الرواة: أنّ الذي سار إلى المشرق من التبابعة، تبّع الآخر وهو:
تبّع تبان أسعد أبو بكر بن مليكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار وهو أبو حسّان.
وقام بالملك بعد قباذ ابنه كسرى أنوشروان
فاستقبل الأمر بجدّ وسياسة وحزم. وكان جيّد الرأي، كثير النظر، صائب التدبير، طويل الفكر ثم الاستشارة. فجدّد سيرة أردشير، ونظر في عهده، وأخذ نفسه به، وأدّب به رعيته وبطانته، وبحث عن سياسات الأمم، واستصلح لنفسه منها ما رضيه، ونظر في تدابير أسلافه المستحسنة فاقتدى بها.
وكان أوّل ما بدأ به أن أبطل ملّة زرداشت الثاني الذي كان من أهل فسّا، وكان ممّن دعا إليها مزدك بن فامارد، وكان ممّا آمن به الناس - لما زيّنه لهم وحثّهم عليه - التآسى في أموالهم وأهاليهم. وذكر أنّ ذلك من البرّ الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنّه لو لم يكن الذي أمرهم به من الدين، لكان مكرمة في الفعال ورضى في التفاوض. فحضّ السفلة بذلك على الأشراف واختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهّل سبيل الظلمة إلى الظلم، والعهّار إلى قضاء نهمتهم وإلى الوصول إلى الكرائم. فشمل الناس بلاء عظيم.
فلما أبطل الملك أنوشروان ملّة هذين، وقتل عليه بشرا كثيرا، وسفك من الدماء ما لا يحصى كثرة ممن لا ينتهى، وقتل قوما من المانوية وثبت ملة المجوسية القديمة، كتب في ذلك كتبا بليغة إلى أصحاب الولايات والاصبهبذين، وقوّى الملك بعد ضعفه بإدامة النظر، وهجر الملاذ وترك اللهو إلّا في أوقات، حتى نظّم أموره وقوّى جنوده بالأسلحة والكراع، وعمر البلاد، وحفظ الأموال، وفرّق منها ما لا يسع حفظه من الأرزاق والصلات الموضوعة مواضعها، وسدّ الثغور، وردّ كثيرا من الأطراف التي غلب عليها الأمم بعلل وأسباب شتّى، منها: السّند، والرّخج، وزابلستان، وطخارستان، ودروستان وغيرها. وقتل أمّة يقال لها: البافرز واستبقى منهم من فرّقهم واستعبدهم واستعان بهم في حروبه. وأسرت له أمّة يقال لهم: صول، وقدم بهم عليه، فقتلهم واستبقى ثمانين رجلا من كماتهم، وعمل أعمالا عظيمة منها: بنيانه الحصون والآطام والمعاقل لأهل بلاده، يكون حرزا لهم يلجأون إليها من عدوّ إن دهمهم.
من ثمرة أعماله
فكان من ثمرة هذه الأعمال: أنّ خاقان - واسمه سنحوا - كان في ذلك الوقت أمنع الترك وأشجعهم. وهو الذي قاتل « ورز » ملك الهياطلة، غير هائب كثرة الهياطلة ومنعتهم، وبأسهم. فقتل ورز وعامّة جنده، وغنم أموالهم واحتوى على بلادهم إلّا ما كان كسرى غلب عليه منها. وأقبل في جموعه من أمم استمالهم، وهم: أبجر، وبنجر، وبلنجر. وبلغت عدّة الجميع مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل أنجاد.
فأرسل إلى كسرى يتوعّده ويطلب منه أموالا، وأنّه إن لم يجعل بالبعثة إليه ما سأله، وطئ بلاده وناجزه. فلم يحفل كسرى به ولم يجبه إلى ما سأل، لتحصينه نواحيه لا سيما ناحية صول التي أقبل منها خاقان، ولمناعة السبل والفجاج، ولمعرفته بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية. فأقدم خاقان على ناحية صول من نواحي جرجان، فرأى من الحصون والرجال الذين أعدّهم كسرى ما لا حيلة له فيه، فانصرف خائبا.
فأما تدبيره للمزدكية ورده المظالم وما دبر في أمر النساء المغلوبات على أنفسهن وتدابيره الأخرى
فإنّه ضرب أعناق رؤسائهم، وقسم أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن كان دخل على الناس في أموالهم وأهاليهم ممن عرف، وردّ الأموال إلى أربابها، وأمر بكل مولود اختلف فيه، أن يلحق بمن هو في سيما ذلك منهم إذا لم يعرف أبوه، وأن يعطى نصيبا من مال الرجل الذي يسند إليه، إن قبله الرجل، وبكلّ امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها ويرضى أهلها، ثم تخيّر المرأة بين الاقامة عليه وبين تزويج غيره، إلّا أن يكون لها زوج أوّل فتردّ إليه. وأمر بكل من كان أضرّ برجل في ماله، أو ركب أحدا بمظلمة أن يؤخذ منه الحقّ ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه. أمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيّمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح بنيهم من بيوتات الأشراف، وأغناهم وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله. وخير نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصيّرن في الإجراء أمثالهن، أو تبتغى لهن أكفاؤهن من البعولة. وأمر بكرى الأنهار وحفر القنيّ وإسلاف [ أصحاب ] العمارات وتقويتهم. وأمر بإعادة كلّ جسر أو قنطرة خرّبت أن تردّ إلى أحسن ما كانت عليه. وأمر بتسهيل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخيّر الحكام والعمّال وتقدّم إلى من ولّى منهم أبلغ التقدّم، وتقدّم بكتب سير أردشير ووصاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها.
فتوح أنوشروان
فلما انتظمت له هذه الأمور واستوسق ملكه ووثق بجنده وقوّته، سار نحو أنطاكية فافتتحها وأمر أن تصوّر له المدينة على ذرعها وطرقها وعدّة منازلها، وأن يبنى على صورتها له مدينة إلى جانب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالروميّة.
ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إيّاها. فلمّا دخلوا باب المدينة مضى أهل كلّ بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية. ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الاسكندرية، وأذعن له قيصر، وحمل إليه الفدية.
ثم انصرف من الروم وأخذ نحو الخزر، فأدرك فيهم تبله، وما كانوا وتروه به في رعيّته، ثم نحو عدن، فسكر هناك ناحية من البحر بين جبلين بالصخور وعمد الحديد. ثم سار إلى الهياطلة مطالبا لهم بدم فيروز، بعد أن صاهر خاقان واستعان به. فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة. ثم انصرف إلى المدائن، وبعث قوما إلى الحبشة في جند من الديلم. فقتلوا مسروقا الحبشي باليمن. وأقام مظفّرا منصورا يهابه جميع أمرائهم، ويحضر بابه وفود الترك والصين والخزر ونظرائهم. وكان مكرما للعلماء. وقد كان غزا برجان. ثم رجع فبنى الباب والأبواب.
وفي زمانه ولد عبد الله أبو النبي ﷺ. والنبي أيضا ﵇ وملك ثماني وأربعين سنة. أمّا عبد الله بن عبد المطلب فانّه ولد لأربع وعشرين سنة من ملكه. وبعث إلى المنذر بن النعمان - وأمّه ماء السماء امرأة من اليمن - فملّكه الحيرة وما كان يليه آل الحارث بن عمرو، وردّ الأمر إلى نصابه.
تدابير أنوشروان لاستغزار الأموال وتثميرها
ومن أحسن ما دبّره أنوشروان في استغزار الأموال وتثميرها أنّه بعد فراغه من الثغور وملوك الأطراف، وتوظيفه الوظائف على أقاصى الملوك من الترك والخزر والهند وغيرهم، وبيعه مدن الشام ومصر والروم على ملك الروم بأموال عظيمة، وإلزامه جزية يحملها في كلّ سنة على ألّا يغزو بلاده، نظر في الخراج وأبواب المال التي كان يستأديها الملوك قبله من بلاده. فإذا رسوم الناس كانت جارية على الثلث من الارتفاع خراجا، ومن بعض الكور الربع، ومن بعضها الخمس، ومن بعضها السدس، على حسب شربها وعمارتها، ومن جزية الجماجم شيئا معلوما.
وكان الملك قباذ بن فيروز تقدّم - في آخر ملكه - بمسح الأرض سهلها وجبلها، ليصحّ الخراج عليها، فمسحت. غير أنّ قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة. فلمّا ملك أنوشروان أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون وغير ذلك، والجماجم. ثم أمر الكتّاب فأخرجوا جمل ذلك غير مفصّلة، وأذن للناس إذنا عامّا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل المستخرجة من أصناف الغلّات وعدد النخل والزيتون والجماجم. فقرأ ذلك عليهم.
ثم قال لهم كسرى:
« إنّا رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان هذه المساحة ومن النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها في السنة في ثلاثة أنجم. ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من الثغور، أو طرف من الأطراف، فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالا، كانت الأموال عندنا معدّة موجودة، ولم نرد استيناف اجتبائها على تلك الحال. فما ترون في ما رأينا من ذلك وأجمعنا عليه؟ » فلم يشر عليه أحد منهم بمشورة ولم ينبس بكلمة. فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات.
فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى:
« أتضع أيّها الملك - عمّرك الله خالدا - من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر يغيض، وعين أو قناة ينقطع ماؤها؟ » فقال له كسرى: « يا ذا الكفلة المشؤوم! من أيّ طبقات الناس أنت؟ » قال: « أنا رجل من الكتّاب. » فقال كسرى: « اضربوه بالدويّ حتى يموت. » فضربوه بها الكتّاب خاصّة تبرّيا منه إلى كسرى من رأيه وما جاء منه حتى قتلوه.
وقال الناس:
« نحن راضون أيّها الملك بما أنت ملزمنا من خراج. » وإنّ كسرى اختار رجالا من أهل الرأي والنصيحة. فأمرهم بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدد النخل والزيتون ورؤوس الجزية، ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أنّ فيه صلاح الرعية ورفاغة معايشهم، ورفع ذلك إليه.
فتكلّم كل امرئ منهم بمبلغ رأيه في ذلك وفي قدر الوضائع، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم وهو: الحنطة، والشعير، والأرز، والكرم، والرطاب، والنخل، والزيتون.
وكان الذي وضعوا على كل جريب أرض من مزارع الحنطة والشعير درهما، وعلى كل جريب كرم ثمانية دراهم، وعلى كلّ جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كلّ أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كلّ ست نخلات دقل مثل ذلك، وعلى كلّ ستّة أصول زيتون مثل ذلك. ولم يضعوا إلّا على كلّ نخل في حديقة، أو مجتمع غير شاذّ، وتركوا ما سوى ذلك من الغلّات السبع.
فقوى الناس في معايشهم، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات، والعظماء، والمقاتلة، والهرابذة، والكتّاب، ومن كان في خدمة الملك. وصيّروها على طبقات:
اثنى عشر درهما، وثمانية، وستّة، وأربعة، على قدر إكثار الرجل وإقلاله. ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السنين دون العشرين، أو فوق الخمسين.
عمر يقتدي بوضائع كسرى
ورفعوا هذه الوضائع إلى كسرى. فرضيها، وأمر بإمضائها، والاجتباء عليها في ثلاثة أنجم كلّ سنة، وسمّاها « أبراسيار » - وتأويله: الأمر المتراضى به - وهي الوضائع التي اقتدى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بها حين افتتح بلاد الفرس، وأمر باجتباء الناس من أهل الذمّة عليها. إلّا أنّه وضع على كلّ جريب غامر على قدر احتماله مثل الذي وضع على الأرض المزروعة، وزاد على كلّ جريب أرض - مزارع حنطة أو شعير - قفيزا من حنطة إلى القفيزين، ورزق منه الجند. ولم يخالف بالعراق خاصّة وضائع كسرى على جربان الأرض وعلى النخل والزيتون والجماجم، وألغى ما كان كسرى ألغاه في معايش الناس.
ذكر قطعة من سيرة أنوشروان وسياساته كتبتها على ما حكاه أنوشروان نفسه في كتاب عمله في سيرته وما ساس به مملكته
وقرأت فيما كتب أنوشروان من سيرة نفسه قال:
رجل اخترط السيف وأراد الوثوب علينا
« كنت يوما جالسا بالدّسكرة وأنا سائر إلى همذان لنصيف هناك وقد أعدّ طعام للرسل الذين بالباب من قبل خاقان، والهياطلة، والصين، وقيصر، وبغبور، إذ دخل رجل من الأساورة مخترطا سيفه حتى وصل إلى الستر. فقطع الستر في ثلاثة أماكن، وأراد الدخول حيث نحن، والوثوب علينا. فأشار عليّ بعض خدمي أن أخرج إليه بسيفي. فعلمت أنّه إن كان إنّما هو رجل واحد، فسوف يحال بيننا وبينه، وإن كانوا جماعة فانّ سيفي لا يغنى شيئا، فلم أخف ولم أتحرّك من مكاني. فأخذه بعض الحرس، فإذا هو رجل رازي من حشمنا وخاصتنا فلم يشكّوا أنّ من هو على رأيه كثير، فسألونى ألّا أجلس ولا أحضر الشرب في جماعة حتى أستبين الأمر. فلم أجبهم إلى ذلك لئلّا يرى الرسل مني جبنا، فخرجت لشربى، فلمّا فرغنا هدّدت الرازي بقطع اليمين والعقوبات، وسألت أن يصدقني عن الذي حمله على ذلك، وأنّه إن صدقنى لم تنله عقوبة بعد ذلك. فذكر أنّ قوما وضعوا من قبل أنفسهم كتبا وكلاما، وذكروا أنّه من عند الله، أشاروا عليه بذلك وأخبروه أن قتله - إن قتلني - يدخله الجنّة. فلمّا فحصت عن ذلك وجدته حقّا، فأمرت بتخلية الرازي وبردّ ما أخذ منه من المال، وتقدّمت بضرب رقاب أولئك الذين انتحلوا الدين، وأشاروا به عليه حتى لم أدع منهم أحدا. » وقال أنوشروان:
استحلال قتلي
« إني لمّا أحضرت القوم الذين اختلفوا في الدين وجمعتهم للنظر فيما يقولونه، بلغ من جرأتهم وخبثهم وقوّة شياطينهم أن لم يبالوا بالقتل والموت في إظهار [ دينهم ] الخبيث، حتى إني سألت أفضلهم رجلا، على رؤوس الناس، عن استحلاله قتلى فقال:
« نعم! أستحلّ قتلك وقتل من لا يطاوعنا على ديننا. » « فلم آمر بقتله حتى إذا حضر وقت الغذاء، أمرت أن يحتبس للغداء، وأرسلت إليه بظرف من الطعام، وأمرت الرسول أن يبلّغه عني: أنّ بقائى أنفع له ممّا ذكر. فأجاب رسولي:
« أنّ ذلك حقّ، ولكن سألنى الملك أن أصدقه ذات نفسي ولا أكتمه
شيئا مما أدين به، وإنّما أدين بما أخذته من مؤدّبى. » وقال أنوشروان:
تصدقت على مساكين الروم
« لمّا غدر بي قيصر وغزوته فذلّ وطلب الصلح وأنفذ إليّ بمال وأقرّ بالخراج والفدية، تصدّقت على مساكين الروم وضعفاء مزارعيها مما بعث إليّ قصير بعشرة آلاف دينار، وذلك في ما وطئته من أرض الروم دون غيرها. » وقال:
تخفيف الخراج لعمارة الأراضي
« لما هممت بتصفّح أمر الرعية بنفسي، ورفع البلاء والظلم عنهم، وما ينوبهم من ثقل الخراج - فإنّ فيه مع الأجر تزيين المملكة، وغناهم، وقدرة الوالي على ما يجب أن يستخرج منهم، إن هو احتاج إلى ذلك، وقد كان في آبائنا من يرى أنّ وضع الخراج عنهم للسنة والسنتين والتخفيف أحيانا، ممّا يقوّيهم على عمارة أرضيهم - فجمعت العمال ومن يؤدّى الخراج، فرأيت من تخليطهم ما لم أر له حيلة إلّا التعديل والمقاطعة على بلدة بلدة، وكورة كورة، ورستاق رستاق، وقرية قرية، ورجل رجل، واستعملت عليهم أهل الثقة والأمانة في نفسي، وجعلت في كلّ بلد مع كلّ عامل أمناء يحفظون عليه، وولّيت قاضى كلّ كورة النظر في أهل كورته، وأمرت أهل الخراج أن يرفعوا ما يحتاجون إلى رفعه إلينا، إلى القاضي الذي ولّيته أمر كورهم، حتى لا يقدر العامل أن يزيد شيئا، وأن يؤدّوا الخراج بمشهد من القاضي، وأن يعطى به البراءة، وأن يرفع خراج من هلك منهم، ولا يراد الخراج ممن لم يدرك من الأحداث، وأن يرفع القاضي وكاتب الكورة وأمين أهل البلد والعامل، محاسبتهم إلى ديواننا، وفرّقت الكتب بذلك. » وقال:
ما رفع إلينا موبذان موبذ
« رفع إلينا موبذان موبذ: أنّ قوما سمّاهم من ذوي الشرف - بعضهم بالباب كان شاهدا وبعضهم ببلاد أخر - دينهم مخالف لما ورثنا عن نبّينا وعلمائنا، وأنّهم يتكلّمون بدينهم سرّا ويدعون إليه الناس، وأنّ ذلك مفسدة للملك، حيث لا تقوم الرعيّة على هوى واحد: فيحرّمون جميعهم ما يحرّم الملك ويستحلّون ما يستحلّ الملك في دينه، فإنّ ذلك إذا اجتمع للملك، قوى جنده لأجل الموافقة بينهم وبين الملك، فاستظهر على قتال الأعداء.
فأحضرت أولئك المختلفين في الأهواء [ ثمّ أمرت ] أن يخاصموا حتى يقفوا على الحقّ ويقرّروا به، وأمرت أن يقصوا عن مدينتي وعن بلادي ومملكتي، وبتتبّع كلّ من هو على هواهم، فيفعل به ذلك. » وقال:
ما سألته الترك ومسيرنا إلى باب صول
« إنّ الترك الذين في ناحية الشمال، كتبوا إلينا بما قد أصابهم من الحاجة، وأنهم لا يجدون بدّا - إن لم نعطهم شيئا - من أن يغزونا، وسألوا خصالا، أحدها: أن نتّخذهم في جندنا ونجري عليهم ما يعيشون به، وأن نعطيهم من أرض الكنج وبلنجر وتلك الناحية، ما يتعيّشون منه. فرأيت أن أسير في ذلك الطريق إلى باب صول، وأحببت أن تعرف الملوك من قبلنا هناك نشاطنا للأسفار وقوّتنا عليها متى هممنا، وأن يروا ما رأوا من هيبة الملوك، وكثرة الجنود، وتمام العدّة، وكمال السلاح ما يقوون به على أعدائهم ويعرفون به قوّة من خلفهم إن هم احتاجوا إليه، وأحببنا - بمسيرنا - أن يجرى لهم على أيدينا الجوائز والحملان والقرب من المجلس واللطف في الكلام، ليزيدهم ذلك مودّة لنا، ورغبة فينا، وحرصا على قتال أعدائنا. وأحببت أيضا التعهّد لحصونهم، وأن أسأل أهل الخراج عن أمرهم في مسيرنا، فسرت في طريق همذان وآذربيجان. فلمّا بلغت باب الصول ومدينة فيروز خسره، رمّمت تلك المدائن العتيقة والحدود، وأمرت ببناء حصون أخر.
« فلمّا بلغ خاقان الخزر نزولنا هناك، تخوّف أن نغزوه. فكتب:
أنّه لم يزل - منذ ملكت - يحبّ موادعتى، وأنّه يرى الدخول في طاعتي سعادة، ورأى بعض قوّاده لما شاهد حاله تركه، فأتانا في ألفين من أصحابه، فقبلناه، وأنزلناه مع أساورتنا في تلك الناحية، وأجريت عليه وعلى أصحابه الرزق، وأمرت لهم بحصن هناك، وأمرت بمصلّى لأهل ديننا، وجعلت فيه موبذا وقوما نسّاكا، وأمرتهم أن يعلّموا من دخل في طاعتنا من الترك، ما في طاعة الولاة من المنفعة العاجلة في الدنيا، والثواب الآجل في الأخرى، وأن يحثّوهم على المودّة والصحّة والعدل والنصيحة ومجاهدة العدوّ، وأن يعلّموا أحداثهم رأينا ومذهبنا. وأقمت لهم في تلك التخوم الأسواق وأصلحت طرقهم، وقوّمت السكك، ونظرنا فيما اجتمع لنا هناك من الخيل والرجال، فإذا بحيث لو كان في وسط فارس، لكان منزلنا بها فاضلا. » قال:
تجديد النظر في أمر المملكة
« ولمّا أتى لملكنا ثمان وعشرون سنة جدّدت النظر في أمر المملكة والعدل على الرعية، والنظر في أمرهم وإحصاء مظالمهم وإنصافهم، وأمرت موبذ كلّ [ ثغر ] ومدينة وبلد وجند بإنهاء ذلك إليّ، وأمرت بعرض الجند من كان منهم بالباب، بمشهد مني، ومن غاب في الثغور والأطراف، بمشهد القائد وباذوسبان والقاضي وأمين من قبلنا، وأمرت بجمع أهل كور الخراج في كلّ ناحية من مملكتي إلى مصرها، مع القائد وقاضى البلد والكاتب والأمين، وسرّحت من قبلي من عرفت صحّته وأمانته ونسكه وعلمه، ومن جرّبت ذلك منه إلى كلّ مصر ومدينة، حيث أولئك [ الغلمان و ] العمال وأهل الأرض، ليجمعوا بينهم وبين أهل أرضيهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه: [ فما ] نفذ فيه لهم أمر - لو صحّ فيه القضاء ورضى به أهله - فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه إليّ. وبلغ اهتمامي بتفقّد ذلك ما لولا الذي أدارى من الأعداء والثغور، لباشرت أمر الخراج والرعيّة بنفسي قرية قرية، حتى أتعهّدها وأكلّم رجلا رجلا من أهل مملكتي، غير أنّى تخوّفت أن يضيع بذلك السبب أمر هو أعظم منه، والأمر الذي لا يغنى فيه غنائى ولا يقدر على إحكامه غيري، ولا يكفينيه كاف، مع الذي في الشخوص إلى قرية قرية، ومن المؤونة على الرعيّة من جندنا، ومن لا نجد بدّا من إشخاصه معنا. وكرهنا أيضا إشخاصهم إلينا، مع تخوّفنا أن يشغل أهل الخراج عن عمارة أرضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه في ذلك مؤونة في تكلف السير إلى بابنا، وقد ضيّع قراه وأنهاره وما لا يجد بدّا من تعهّده في السنة كلّها في أوقات العمارة.
ففعلنا ذلك بهم، ووكّلنا موبذان موبذ وكتبنا به الكتب وسرّحنا من وثقنا به ورجونا أن يجرى مجرانا، وشخّصنا وقلّدناه ذلك. » قال:
جلوسنا مع أهل الكور للفحص عن الرعية وأمناء الخراج
« ولمّا آمن الله جميع أهل مملكتنا من الأعداء. فلم يبق منهم إلّا نحو من ألفى رجل من الديلم الذين عسر افتتاح حصنهم لصعوبة الجبال عليها، لم نجد شيئا أنفع لمملكتنا من أن نفحص من الرعيّة وأولئك الأمناء الذين وصّيناهم بإنصاف أهل الخراج، وكان بلغنا أنّ أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا في ذلك، فأمرت بالكتب إلى قاضى كورة كورة: أن يجمع أهل الكورة بغير علم عاملهم وأولى أمرهم، فيسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم، ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه، ويبالغ فيه، ويكتب حال رجل رجل منهم، ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضا من أهل تلك الكورة، ويبعث به إليّ، ويسرّح ممن يجتمع رأى أهل الكورة عليه بالرضا نفرا، وإن أحبّوا أن يكون في من يشخص، بعض سفلتهم أيضا، فعل ذلك.
« فلمّا حضروا جلست للناس وأذنت بمشهد من عظماء أرضنا وملوكهم، وقضاتهم وأحرارهم وأشرافهم، ونظرت في تلك الكتب والمظالم. فأيّة مظلمة كانت من العمّال ومن وكلائنا، أو من وكلاء وكلائنا، ونسائنا، وأهل بيتنا، حططنا عنهم بغير بيّنة، لعلمنا بضعف أهل الخراج عنهم وظلم أهل القوّة من السلطان لهم، وأية مظلمة كانت لبعضهم من بعض ووضحت لنا، أمرت بإنصافهم قبل البراح، وما أشكل، أو وجب الفحص عنه، بشهود البلد وقاضيها، سرّحت معه أمينا من الكتّاب، وأمينا من فقهاء ديننا، وأمينا ممن وثقنا به من خدمنا وحاشيتنا، فأحكمت ذلك إحكاما وثيقا، ولم يجعل الله لذوي قرابتنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل، فإنّ من شأن قرابة الملك وحاشيته أن يستطيلوا بعزّة وقوّة. فإذا أهمل السلطان أمرهم هلك من حاوروه إلّا أن تكون فيهم متأدّب بأدب ملكه، محافظ على دينه، شفيق على رعيّته، وأولئك قليل. فدعانا الذي اطّلعنا عليه من ظلم أولئك، إلى أن لا نطلب البيّنة عليهم في ما ادّعى قبلهم، ولم نرد ظلم أحد ممن كان عزيزا بنا، ومنيعا بمكانه ومنزلته عندنا، فانّ الحق واسع للضعفاء والأقوياء، والفقراء والأغنياء، ولكنّا لمّا أشكلت الأمور في ذلك علينا، كان الحمل على خواصّنا وخدمنا، أحبّ إلينا من أن نحمل على ضعفاء الناس ومساكينهم وأهل الفاقة والحاجة منهم.
وعلمنا أنّ أولئك الضعفاء لا يقدرون على ظلم من حولنا وعلمنا مع ذلك أنّ [ الذين ] أعدينا عليهم من خاصّتنا يرجعون من نعمتنا وكرامتنا إلى ما لا يرجع إليه أولئك الضغفاء.
ولعمري، إنّ أحبّ خواصّنا إلينا، وأبرّ خدمنا في أنفسنا، الذين يحفظون سيرتنا في الرعيّة، ويرحمون أهل الفاقة والمسكنة، وينصفونهم، فإنّه قد ظلمنا من ظلمهم، وجار علينا من جار عليهم، وأراد تعطيل ذمّتنا التي هي حرزهم وملجأهم. » قال:
ما كتبه إلينا أربعة أصناف من ترك الخزر
« ثم كتب إلينا على رأس سبع وثلاثين سنة من ملكنا أربعة أصناف من الترك من ناحية الخزر، ولكلّ صنف منهم ملك، يذكرون ما دخل عليهم من الحاجة، وما لهم من الحظّ في عبودتنا، وسألوا أن نأذن لهم في القدوم بأصحابهم لخدمتنا والعمل بما نأمرهم به، ولا نحقد عليهم ما سلف منهم قبل ملكنا، وأن ننزلهم منزلة سائر عبيدنا، فإنّا سنرى في كلّ ما نأمرهم به من قتال وغيره، كأفضل ما نرى من أهل نصيحتنا.
« فرأيت في قبولي إيّاهم عدّة منافع، منها: جلدهم وبأسهم، ومنها: أنّى تخوّفت أن تحملهم الحاجة على إتيان قيصر أو بعض الملوك فيقووا بهم علينا. وقد كان في ما سلف يستأجر قيصر منهم لقتال ملوك ناحيتنا بأغلى الأجرة، فكان لهم في ذلك القتال بعض الشوكة بسبب أولئك الأتراك، ولأنّ الترك ليس عندهم لذّة الحياة، فهو الذي يجرّيهم مع شقاء معيشتهم على الموت.
فكتبت إليهم: أنّا نقبل من دخل في طاعتنا ولا نبخل على أحد بما عندنا. وكتبت إلى مرزبان الباب آمره أن يدخلهم أوّلا فأولا.
« فكتب إليّ أنّه: قد أتاه منهم خمسون ألفا بنسائهم وأولادهم وعيالاتهم، وأتاه من رؤسائهم ثلاثة آلاف بأهل بيتهم ونسائهم وأولادهم وعيالاتهم.
« ولمّا بلغني ذلك أحببت أن أقرّبهم إليّ، ليعرفوا إحسانى إليهم في ما أكرمهم به وأعطيهم، وليطمئنّوا إلى قوّادنا حتى إذا أردنا تسريحهم مع بعض قوّادنا، كان كلّ واحد بصاحبه واثقا. فشخصت إلى آذربيجان. فلما نزلت آذربيجان أذنت لهم في القدوم، وأتانى عند ذلك طرائف من هدايا قيصر، وأتانى رسول خاقان الأكبر ورسول صاحب خوارزم، ورسول ملك الهند، والداور، وكابل شاه، وصاحب سرنديب، وصاحب كله، وكثير من الرسل، وتسعة وعشرون ملكا في يوم واحد، وانتهيت إلى أولئك الأتراك الثلاثة والخمسين الألف، فأمرت أن يصفّفوا هناك، وركبت لذلك، فكان يومئذ من أصحابي، ومن قدم عليّ، ومن دخل في طاعتي وعبودتى، من لم يسعهم مرج كان طوله نحو عشرة فراسخ.
فحمدت الله كثيرا، وأمرت أن يصنّف أولئك الأتراك في أهل بيوتاتهم على سبع مراتب ورأّست عليهم منهم، وأقطعتهم، وكسوت أصحابهم، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرت لهم بالمياه والأرضين، وأسكنت بعضهم مع قائد لي ببرجان، وبعضهم مع قائد لي باللّان، وبعضهم بآذربيجان، وقسمتهم في كلّ ما احتجنا إليه من الثغور، وضممتهم إلى المرزبان. فلم أزل أرى من مناصحتهم واجتهادهم في ما نوجههم له، ما يسرّنا في جميع المدائن والثغور وغيرها. »
خاقان الأكبر يعتذر إلي ويسأل التجاوز
« وكتب إليّ خاقان الأكبر يعتذر إليّ من بعض غدراته، ويسأل المراجعة والتجاوز، وذكر في كتابه ورسالته: إنّ الذي حمله على عداوتي وغزو أرضى من لم ينظر له، وناشدني الله أن أتجاوز عنه، ويوثّق لي بما أطمئن إليه، وذكر أنّ قيصر قد أرسل إليه، وزعم أنّه يستأذننى في قبول رسله، وأنّه لا يعمل في قبول رسل أحد إلّا بما أمرته، ولا يجاوز أمري، ولا يرغب في الأموال ولا في المودّات لأحد إلّا برضاي. وكان دسيس لي في الترك كاتبني بندم خاقان وندم أصحابه على غدره وعداوته إيّاي.
« فأجبته: إني لعمري لا أبالى أبطبيعة نفسك وغريزتك غدرت بنا، أم أطعت غيرك في غدرك بنا، وما ذنبك في طاعة من أطعت في ذلك إلّا كذنبك في ما فعلته برأى نفسك، وإنّك قد استحققت أشدّ العقوبة. - وكتبت: - إني لا أظنّ شيئا مما وجب بيني وبينكم إلّا وقد كنت صنعته، ولا أظنّ شيئا من الوثيقة بقي لكم إلّا وقد وثّقت لنا به قبل اليوم ثم غدرتم، فكيف نطمئنّ إليك ونثق بقولك، ولسنا نأمنك على مثل ما فعلت من الغدر ونقض العهد والكذب في اليمين؟ وذكرت أنّ رسل قيصر عندك، ووقفنا على استيذانك إيّانا فيهم، وإني لست أنهاك عن مودّة أحد. وكرهت أن يرى أنّى أتخوّف مصادقته وأهاب ذلك منه، وأحببت أن أعلمه أنّى لا أبالى بشيء ممّا يجرى بينهما، « ثم سرّحت لمرمّة المدائن والحصون التي بخراسان وجمع الأطعمة والأعلاف إليها ما يحتاج إليه الجند، وأمرتهم أن يكونوا على استعداد وحذر، ولا يكون من غفلتهم ما كان في المرّة الأولى وهم على حال الصلح. » قال:
المقاتلة وأهل العمارة سواء
« وكان شكرى لله تعالى لمّا وهب لي وأعطاني متّصلا بنعمه الأول التي وهبها لي في أوّل خلقه إيّاى، فإنّما الشكر والنعم عدلان ككفّتى الميزان، أيّهما رجح بصاحبه احتاج الأخفّ إلى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه. فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلا، انقطع الحمل وهلك ظهر الحامل، وإذا كان ذلك مستويا استمرّ الحامل. فكثير النعم يحتاج صاحبها إلى كثير الشكر، وكثير الشكر يجلب كثير النعم. ولمّا وجدت الشكر بعضه بالقول، وبعضه بالعمل، نظرت في أحبّ الأعمال إليه، فوجدته الشيء الذي به أقام السماوات والأرض، وأرسى به الجبال، وأجرى به الأنهار، وبرأ به البريّة، وذلك الحقّ والعدل فلزمته، ورأيت ثمرة الحقّ والعدل عمارة البلدان التي بها معاش الناس والدوابّ والطير وسكّان الأرض.
« ولمّا نظرت في ذلك، وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، ووجدت أيضا أهل العمارة أجراء للمقاتلة. وأمّا المقاتلة فإنّهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكّان البلدان لمدافعتهم عنهم، ومجاهدتهم من ورائهم. فحقّ على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم. فإنّ عمارتهم تتمّ بهم، وإن أبطأوا عليهم بذلك أوهنوهم، فقوى عدوّهم. فرأيت من الحقّ على أهل الخراج ألّا يكون لهم من عمارتهم إلّا ما أقام معايشهم، وعمروا به بلدانهم. ورأيت أن لا أجتاحهم وأستفرغ ذات أيديهم للخزائن والمقاتلة، فإني إذا فعلت ذلك ظلمت المقاتلة مع ظلم أهل الخراج، وذلك أنّه إذا فسد العامر فسد المعمور، وذاك أهل الأرض والأرض، فإنّه إذا لم يكن لأهل الخراج ما يعيشهم ويعمرون به بلادهم، هلكت المقاتلة الذين قوّتهم بعمارة الأرض وأهل العمارة. فلا عمارة للأرض إلّا بفضل ما في يد أهل الخراج، فمن الإحسان إلى المقاتلة، والإكرام لهم أن أرفق بأهل الخراج وأعمر بلادهم وأدع لهم فضلا في معايشهم.
فأهل الأرض وذوو الخراج أيدى المقاتلة والجند، وقوّتهم، والمقاتلة أيضا أيدى أهل الخراج وقوّتهم.
« ولقد فكّرت وميّزت ذلك جهدي وطاقتي، فما رأيت أن أفضّل هؤلاء على أولئك ولا أولئك على هؤلاء، إذ وجدتهما كاليدين المتعاونتين، وكالرِجلين المترافدتين. ولعمري ما أعفى أهل الخراج من الظلم من أضرّ بالمقاتلة، ولا كفّ الظلم عن المقاتلة من تعدّى على أهل الخراج، ولولا سفهاء الأساورة لأبقوا على الخراج والبلاد إبقاء الرجل ضيعته التي منها معيشته وحياته وقوّته. ولولا جهّال أهل الخراج لكفّوا عن أنفسهم بعض ما يحتاجون إليه من المعايش إيثارا للمقاتلة على أنفسهم. » قال:
أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن
« ولمّا فرغنا من إصلاح العامّة والخاصّة بهذين الركنين من أهل الخراج والمقاتلة، وكان ذلك ثمرة العدل والحقّ الذي به دبّر الله العظيم خلائقه، وشكرت الله على نعمه في أداء حقّه على مواهبه، وأحكمنا أمور المقاتلة وأهل الخراج ببسط العدل، أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن. ثم بدأنا بالأعظم فالأعظم نفعا لنا والأكبر فالأكبر عائدة على جندنا ورعيّتنا. ونظرنا في سير آبائنا من لدن بشتاسف، إلى ملك قباذ أقرب آبائنا منّا، ثم لم نترك صلاحا في شيء إلّا أخذناه، ولا فسادا إلّا أعرضنا عنه، ولم يدعنا إلى قبول ما لا خير فيه من السنن حبّ الآباء، ولكنّا آثرنا حبّ الله وشكره وطاعته.
« ولمّا فرغنا من النظر في سير آبائنا - وبدأنا بهم وكانوا أحقّ بذلك، فلم ندع حقّا إلّا أكثرناه، ووجدنا الحقّ أقرب القرابة - نظرنا في سير أهل الروم والهند، فاصطفينا محمودها، وجعلنا عيار ذلك عقولنا، وميّزناه بأحلامنا، فأخذنا من جميع ذلك ما زيّن سلطاننا، وجعلناه سنّة وعادة، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا، وأعلمناهم ذلك وأخبرناهم به، وكتبنا إليهم بما كرهنا لهم من السير ونهيناهم عنه، وتقدمنا إليهم فيه، غير أنّا لم نكره أحدا على غير دينه وملّته ولم نحسدهم ما قبلنا، ولا مع ذلك أنفنا من تعلّم ما عندهم، فإنّ الإقرار بمعرفة الحق والعلم، والإتّباع له، من أعظم ما تزيّنت به الملوك، ومن أعظم المضرّة على الملوك الأنفة من التعلّم، والحميّة من طلب العلم، ولا يكون عالما من لا يتعلّم.
« ولمّا استقصيت ما عند هاتين الأمّتين من حكمة التدبير والسياسة، وصلت بين مكارم أسلافى، وما أحدثته برأيي، وأخذت به نفسي، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منّا وثبتّ على الأمر الذي نلت به الظفر والخير. ورفضت سائر الأمم، لأنّى لم أجد عندهم رأيا ولا عقولا، ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلّة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ بها نعمة. »
وقرأت مع هذه السيرة في آخر هذا الكتاب، الذي كتبه أنوشروان في سيرة نفسه، أنّ أنوشروان لمّا فرغ من أمور المملكة وهذّبها، جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنسّاك والموابذة وأماثل الناس معهم، فخطبهم فقال:
خطبة أنوشروان
« أيّها الناس! أحضرونى فهمكم، وأرعونى أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، فانّى لم أزل واضعا سيفي على عنقي - منذ وليت عليكم - غرضا للسيوف والأسنّة، كل ذلك للمدافعة عنكم والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى المشرق، وتارة في آخر المغرب، وأخرى في ناحية الجنوب، ومثلها في جانب الشمال.
ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع في بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطينية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه بعد سهولة، وأصبر على المخمصة والمخافة، وأكابد البرد والحرّ، وأركب هول البحر وخطر المفازة، إرادة هذا الأمر الذي قد أتمّه الله لكم من الإثخان في الأعداء، والتمكين في البلاد، والسعة في المعاش ودرك العزّ، وبلاغ ما نلتم. فقد أصبحتم بحمد الله ونعمته على الشرف الأعلى من النعمة والفضل الأكبر من الكرامة والأمن، وقد هزم الله أعداءكم وقتلهم. فهم بين مقتول هالك، وحيّ مطيع لكم سامع.
« وقد بقي لكم عدوّ عددهم قليل، وبأسهم شديد، وشوكتهم عظيمة، وهؤلاء الذين بقوا، أخوف عندي عليكم، وأحرى أن يهزموكم ويغلبوكم، من الذين غلبتموهم من أعدائكم أصحاب السيوف والرماح والخيول. فإن أنتم - أيّها الناس - غلبتم عدوّكم هذا الثاني غلبتكم لعدوّكم الذين قاتلتم وحاصرتم، فقد تمّ الظفر والنصر، وتمّت فيكم القوّة وتمّ لكم العزّ، وتمّت عليكم النعمة، وتمّ لكم الفضل، وتمّ لكم الاجتماع والألفة والنصيحة والسلامة. وإن كنتم قصّرتم ووهنتم، وظفر هذا العدو بكم، فإنّ الظفر الذي كان منكم على عدوّكم بالمغرب والمشرق وفي الجنوب والشمال، لم يكن ظفرا منكم. فاطلبوا أن تقتلوا من هذا العدوّ الباقي مثل الذي قتلتم من ذلك العدوّ الماضي، وليكن جدّكم في هذا واجتهادكم واحتشادكم أكبر وأجلّ وأحزم وأعزم وأصحّ وأسدّ. فإنّ أحقّ الأعداء بالاستعداد له أعظمهم مكيدة وأشدّهم شوكة، وليس الذي كنتم تخافون من عدوّكم الذي قاتلتم، بقريب من هؤلاء الذين آمركم بقتالهم الآن. فاطلبوه، وصلوا ظفرا بظفر، ونصرا بنصر، وقوّة بقوّة، وتأييدا بتأييد، وحزما وعزما بحزم وعزم، وجهادا بجهاد. فإنّ ذلك اجتماع صلاحكم، وتمام النعمة عليكم، والزيادة في الكرامة من الله لكم، والفوز برضوانه في الآخرة.
« ثم اعلموا أنّ عدوّكم من الترك والروم والهند وسائر الأمم، لم يكونوا ليبلغوا منكم - إن ظهروا عليكم وغلبوكم - مثل الذي يبلغ هذا العدوّ منكم، إن غلبكم وظهر عليكم، فإنّ بأس هذا العدوّ أشدّ، وكيده أكبر، وأمره أخوف من ذلك العدوّ.
« يا أيّها الناس، إني قد نصبت لكم كما رأيتم، ولقيت ما قد علمتم بالسيف والرمح والمفاوز والبحار والسهولة والجبال أقارع عدوّا عدوّا، وأكالب جندا جندا، وأكابد ملكا ملكا، لم أتضرع إليكم هذا التضرع في قتال أولئك الجنود والملوك، ولم أسألكم هذه المسألة في طلب الجدّ والاجتهاد والاحتفال والاحتشاد، وإنّما فعلت هذا اليوم لعظم خطره، وشدّة شوكته ومخافة صولته بكم، وإن أنا - أيّها الناس - لم أغلب هذا العدوّ وأنفه عنكم، فقد أبقيت فيكم أكبر الأعداء، ونفيت عنكم أضعفها. فأعينونى على نفى هذا العدوّ المخوف عليكم، القريب الدار منكم. فأنشدكم الله - أيّها الناس - لمّا أعنتمونى عليه حتى أنفيه عنكم وأخرجه من بين أظهركم، فيتمّ بلائي عندكم، وبلاء الله فيكم عندي، وتتمّ النعمة عليّ وعليكم، والكرامة من الله لي ولكم، ويتمّ هذا العزّ والنصر وهذا الشرف والتمكين، وهذا الثروة والمنزلة.
« يا أيّها الناس! إني تفكّرت بعد فراغي من كتابي هذا وما وصفت من نعمة الله علينا في الأمر الذي، لما غلب « دارا » الملوك والأمم، وقهرها واستولى على بلادها، ثم لما لم يحكم أمر هذا العدو، هلك [ بسببه ] وهلكت جنوده، بعد السلامة والظفر والنصر والغلبة. وذلك أنّه لم يرض بالأمر الذي تمّ له به الملك، واشتدّ به له السلطان وقوى به على الأعداء، وتمّت عليه به النعمة، وفاضت عليه من وجوه الدنيا كلّها الكرامة، حتى احتيل له بوجوه النميمة: البغي، فدعا البغي، والحسد، فتقوّى به وتمكّن، ودعا الحسد بعض أهل الفقر لأهل الغنى، وأهل الخمول لأهل الشرف. ثم أتاهم الإسكندر على ذلك من تفرق الأهواء، واختلاف الأمور، وظهور البغضاء، وقوة العداوة فيما بينهم، والفساد منهم. ثم ارتفع ذلك إلى أن قتله صاحب حرسه وأمينه على دمه، للذي شمل قلوب العامّة من الشرّ والضغينة، وثبت فيها من العداوة والفرقة، فكفى الإسكندر مؤنة نفسه. وقد اتّعظت بذلك اليوم فذكرته.
« يا أيّها الناس! فلا أسمعنّ في هذه النعمة تفرّقا ولا بغيا ولا حسدا ظاهرا ولا وشاية ولا سعاية، فإنّ الله قد طهّر من ذلك أخلاقنا وملكنا وأكرم عنه ولايتنا. وما نلت ما نلته - بنعمة ربنا وحمده - بشيء من هذه الأمور الخبيثة التي نفتها العلماء، وعافتها الحكماء، ولكني نلت هذه الرتب بالصحّة والسلامة، والحبّ للرعيّة، والوفاء والعدل والاستقامة والتؤدة. وإنّما تركنا أن نأخذ عن هذه الأمم التي سميناها أعني: من الترك والبربر والزنج والجبال وغيرهم مثل ما أخذنا عن الهند والروم، لظهور هذه الأخلاق فيهم وغلبتها عليهم. ولم تصلح أمّة قطّ ولا ملكها على ظهور هذه الأخلاق فيها. وإنّ أول ما أنا ناف وتارك من هذه الأمور، هذه الأخلاق التي هي أعدى أعداءكم.
« أيّها الناس! إنّ فيما بسط الله علينا بالسلامة والعافية والاستصلاح، غنى لنا عمّا نطلب بهذه الأخلاق المردية المشؤومة.
فاكفوني في ذلك أنفسكم فإنّ قهر هذه الأعداء أحبّ إليّ وخير لكم من قهر أعدائكم من الترك والروم. فامّا أنا - يا أيّها الناس - فقد طبت نفسا بترك هذه الأمور ومحقها وقمعها ونفيها عنكم، لا حاجة لي بما فيها، ولا بالذي عليّ منها، فطيبوا أنفسا بالذي طبت به نفسا منكم.
« يا أيها الناس! إني قد أحببت أن أنفى عنكم عدوّكم الباطن والظاهر، فأمّا الظاهر منهما، فإنّا بحمد الله ونعمته، قد نفيناه وأعاننا الله عليه وخضد لنا شوكته، وأحسنتم فيه وأجملتم وآسيتم وأجهدتم. فافعلوا في هذا العدوّ كما فعلتم في ذلك العدوّ، واعملوا فيه كالذي عملتم في ذلك، واحفظوا عنى ما أوصيكم به، فانّى شفيق عليكم ناصح لكم.
« أيّها الناس! من أحيى هذه الأمور فينا، فقد أفسد بلاءه عندنا بقتاله من كان يقاتلنا من أعدائنا، فإنّ هذه أكثر مضرّة وأشدّ شوكة وأعظم بليّة وأضر تبعة. اعلموا أنّ خيركم - يا أيّها الناس! - من جمع إلى بلاءه السالف عندنا، المعونة لنا على نفسه في هذا الغابر.
واعلموا أنّ من غلبه هذا غلب عليه ذاك، ومن غلب هذا فقد قهر ذاك. وذلك أن بالسلامة، والألفة، والمودّة، والاجتماع، والتناصح منكم يكون العزّ والقدرة والسلطان، ومع التحاسد، والبغي، والنميمة، والتشتّت، يكون ذهاب العزّ وانقطاع القوّة، وهلاك الدنيا والآخرة. فعليكم بما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، ولا قوّة إلّا بالله. عليكم بمواساة أهل الفاقة وضيافة السائلة. وأكرموا جوار من جاوركم، وأحسنوا صحبة من دخل من الأمم فيكم، فإنّهم في ذمّتى. لا تجبهوهم ولا تظلموهم، ولا تسلّطوا عليهم، ولا تحرجوهم، فإنّ الإحراج يدعو إلى المعصية، ولكن اصبروا لهم على بعض الأذى، واحفظوا أمانتكم وعهدكم، واحفظوا ما عهدت إليكم من هذه الأخلاق. فإنّا لم نر سلطانا قطّ ولا أمّة هلكوا إلّا بترك هذه الأخلاق، ولا صلحوا إلّا معها. وبالله ثقتنا في الأمور كلّها. » ثم هلك أنوشروان بعد ثمان وأربعين سنة من ملكه، وملك أبنه:
هرمز بن أنوشروان
وكانت أمّه بنت خاقان الأكبر، وكان كثير الأدب، حسن النيّة في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، إلّا أنّه كان يحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، فعلم بذلك منهم، فكان في نفسه منهم مثل ما في أنفسهم منه.
من سيرته المرتضاة
وكان من سيرته المرتضاة: أنّه تحرّى الخير والعدل على الرعيّة، وتشدّد على العظماء المستطيلين على الضعفاء، وبلغ من عدله أنّه كان يسير إلى ال « ماه » ليصيف هناك، فأمر فنودي في مسيره ذلك في مواضع الحروث أن يتحامى، ولا يسير فيها الراكب لئلّا يضرّوا بأحد ووكّل بتعهّد ما يجرى في عسكره، ومعاقبة من تعدّى أمره، وتغريمه عوضا لصاحب الحرث.
وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار مركب من مراكبه، ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه، فرتع فيها، وأفسد منها. فأخذ ذلك المركب، ورفع إلى الرجل الذي وكّله هرمز بمعاقبة من أفسد هو أو دابّته شيئا من المحارث وتغريمه، ولم يقدر الرجل على إنفاذ أمر هرمز في كسرى ابنه، ولا أحد من حشمه. فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فأمره أن يجدع أذنيه، ويبتّر ذنبه، ويغرّم كسرى. فخرج الرجل لإنقاذ الأمر. فدسّ له كسرى رهطا من العظماء ليسألوه التغبيب في أمره، فلقوه وكلّموه في ذلك، فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخّر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلّموه. فأمر بالكفّ عنه، ففعل. فلقى أولئك الرهط هرمز، وأعلموه أنّ بذلك [ المركب ] الذي عار، زعارة، وأنّه أخذ للوقت. وسألوه أن يأمر بالكفّ عن جدعه وتبتيره لما فيه من سوء الطيرة. فلم يجبهم إلى ما سألوه، وأمر بالمركب، فجدع أذناه وبتّر ذنبه وغرّم كسرى كما يغرّم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل.
وأيضا: ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط المدائن وكان ممرّه على بساتين وكروم. فاظّلع بعض أساورته في كرم، فرأى فيه حصرما فأصاب منها عناقيد، ودفعها إلى غلامه وقال:
« اذهب بها إلى المنزل، واطبخها بلحم، واتخذ منها مرقة، فانّها نافعة في هذا الإبّان. » فأتاه حافظ ذلك الكرم، فلزمه وصرخ. فبلغ اشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم، أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلّاة بذهب كانت عليه، عوضا له من الحصرم الذي رزأه من كرمه، وافتدى بها نفسه، ورأى أنّ قبض الحافظ إيّاها منه، وتخليته عنه، منّة من بها عليه.
فهذه كانت سيرة هرمز في العدل والضبط والهيبة، وكان مظفّرا منصورا لا يمدّ يده إلى شيء إلّا وأتاه، وكان مع ذلك أديبا، داهيا، إلّا عرقا قد نزعه أخواله من الترك. فكان لذلك مقصيا للأشراف وأهل البيوتات والعلماء.
وقيل: إنّه قتل ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل. ولم يكن [ له رأى ] إلّا في [ تألّف ] السفلة واستصلاحهم. وحبس خلقا من العظماء، وحطّ مراتب خلق، وقصّر بالأساورة، [ ففسدت ] عليه نيات جنده من الكبراء، [ واتصل ] ذلك بما جناه على بهرام شوبين مما سنحكيه. فكان ذلك سبب هلاكه.
ذكر سوء اختياره جنده وبهرام جوبين حتى هلك
خرج على هرمز خوارج منها: « شابة ملك الترك الأعظم في ثلاثمائة ألف مقاتل. وصار إلى باذغيس، وذلك بعد إحدى عشر سنة من ملكه، وخرج عليه ملك الروم في ثمانين ألف مقاتل قاصدا له، وخرج عليه ملك الخزر حتى صار إلى باب الأبواب، وخرج عليه من العرب خلق نزلوا في شاطئ الفرات، وشنّوا الغارة على أهل السواد واجترأ عليه أعداؤه، وغزوا بلاده.
فأمّا شابة ملك الترك فإنّه أرسل إلى هرمز وإلى عظماء الفرس يؤذنهم بإقباله ويقول:
« رمّوا لي قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كلّ نهر لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، فإني مجمع على المسير إليها من بلادكم.
فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، فشاور فيه، فأجمع له على قصد ملك الترك وصرف العناية إليه. فوجّه إليه رجلا من أهل الريّ يقال له: بهرام بن بهرام جشنس ويعرف ب « جوبين ». فاختار بهرام من الجند اثنى عشر ألف رجل على عينيه من الكهول دون الشباب، وكانت عدّة من يشتمل عليه الديوان سبعين ألف مقاتل.
فمضى بهرام بجدّ وإغذاذ، حتى حاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرا. فجرت بينهما حروب ورسائل، إلى أن قتل بهرام شابة برمية رماها إيّاه، فاستباح عسكره، وأقام موضعه، فوافاه برموذة بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه، فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألحّ عليه حتى استسلم له، فوجّهه أسيرا إلى هرمز، وغنم كنوزا عظيمة.
فيقال: إنّه حمل إلى هرمز من الأموال والجواهر والأوانى وسائر الأمتعة ممّا غنمه وقر مائتين وخمسين ألف بعير في مدّة تلك الأيّام. فشكره هرمز على ذلك، إلّا أنّه أراد منه أن يتقدّم بمن معه إلى بلاد الترك، وكاتبه في ذلك، فلم ير بهرام ذلك صوابا. ثم خاف بهرام سطوة هرمز، وحكى له: أنّ الملك يستقلّ ما حمله إليه من الغنائم في جنب ما وصل إليه وأنّه يقول في مجالسه:
« بهرام قد ترفّه، واستطاب الدعة ».
وبلغ ذلك الجند، فخافوا مثل خوفه.
فيقال: إنّ بهرام جمع ذات يوم وجوه عسكره، فأجلسهم على مراتبهم، ثم خرج عليهم في زيّ النساء، وبيده مغزل وقطن، حتى جلس في موضعه، وحمل لكلّ واحد من أولئك القوم مغزل وقطن، فوضع بين أيديهم، فامتعضوا من ذلك وأنكروه. فقال بهرام:
« إنّ كتاب الملك ورد عليّ بذلك، ولا بدّ من امتثال أمره إن كنتم طائعين. » فأظهروا أنفة وحميّة، وخلعوا هرمز، وأظهروا أنّ ابنه أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك خلق كثير ممّن كان بحضرة هرمز.
وأنفذ هرمز جيشا كثيفا مع آذينجشنس لمحاربة بهرام، وأشفق أبرويز من الحديث وخاف سطوة بهرام، فهرب إلى آذربيجان. فاجتمع إليه هناك عدّة من المرازبة والإصفهبذين، فأعطوه بيعتهم. ولم يظهر أبرويز شيئا، وأقام بمكانه إلى أن بلغه قتل آذينجشنس الموجّه لمحاربة بهرام جوبين، وانفضاض الجمع الذي معه، واضطراب أمر أبيه هرمز.
وكتبت إليه أخت آذينجشنس - وكانت تربه - تخبره بضعف أبيه هرمز، وأعلمته أنّ العظماء والوجوه قد أجمعوا على خلعه، وأعلمته أنّ جوبين - إن سبقه إلى المدائن - احتوى على الملك. ولمتلبث العظماء بذلك أن وثبت على هرمز وفيهم بندويه وبسطام خالا أبرويز. فخلعوه وسملوا عينيه وتركوه تحرّجا من قتله. فلمّا بلغ ذلك أبرويز، بادر بمن معه إلى المدائن وسبق إليها بهرام جوبين، وتتوّج وجمع إليه الوجوه والأشراف، وجلس لهم على سريره، ومنّاهم ووعدهم وقال:
« إنّ هرمز كان لهم قاضيا عادلا، ومن نيّتنا البرّ والإحسان، فعليكم بالسمع والطاعة. » فاستبشر له الناس، ودعوا له.
فلمّا كان اليوم الثاني، أتى أباه، فسجد له وقال:
« عمّرك الله أيّها الملك، إنّك تعلم أنّى بريء مما آتاه إليك المنافقون، وإنّما هربت خوفا منك. » فصدّقه هرمز وقال له:
« يا بنيّ! لي إليك حاجتان، فأسعفنى بهما: إحداهما أن تنتقم ممّن عاون على خلعى والسمل لعيني، ولا تأخذك بهم رأفة، والأخرى أن تؤنسني كلّ يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأى، وتأذن لهم في [ الوصول ] إليّ. »
فتواضع له أبرويز وقال:
« عمّرك الله أيّها الملك، إنّ المارق بهرام قد أظلّنا ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمدّ يدا إلى من أتى إليك ما أتى، فإنّهم وجوه أصحابك. ولكن إن أدالنى الله من المنافق، فأنا خليفتك وطوع أمرك. »
ذكر الحيلة التي تمت لأبرويز حتى أفلت من بهرام بعد ظفره به ورجوعه بعد ذلك وقتله إياه ببلاد الترك واستيلائه على الملك
إنّ أبرويز خرج إلى النهروان لما وردها بهرام، وواقفه وجعل النهر بينه وبينه، ودار بينهما كلام كثير، كلّ ذلك يدور على استصلاح بهرام، فلا يردّ عليه بهرام إلّا ما يسوءه، حتى يئس منه وأجمع على حربه. ولهما أخبار كثيرة وأحاديث طويلة آخرها: أن أبرويز ضعف عنه بعد أن قتل بيده ثلثة نفر من الأتراك كانوا وثّقوا بهرام من أبرويز، وضمن لهم عليه مالا عظيما، وكان هؤلاء الثلاثة من أشدّ الأتراك وأعظمهم أجساما وشجاعة. ثم رأى أبرويز من أصحابه فتورا وحرّض أصحابه فتبيّن منهم فشلا. فصار إلى أبيه وشاوره، فرأي له المصير إلى ملك الروم فأحرز نساءه وشخص في عدّة يسيرة فيهم: بندويه، وبسطام، وكردى أخو بهرام. لأنّ كردى هذا كان ماقتا لأخيه، معاديا له، شديد الطاعة والنصيحة لأبرويز. فلمّا خرجوا، من المدائن خاف القوم من بهرام وأشفقوا أن يردّ هرمز إلى الملك، ويكاتب ملك الروم عن هرمز في ردّهم فيتلفوا. فأعلموا أبرويز ذلك واستأذنوا في إتلاف هرمز فلم يحر جوابا. فانصرف بندويه وبسطام وطائفة معهما إلى هرمز حتى أتلفوه خنقا، ثم رجعوا إلى كسرى وقالوا:
« سر على خير طائر. » فحثّوا دوابّهم، وصاروا إلى الفرات، فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة، بدلالة رجل يقال له: خرشيذان، وصاروا إلى بعض الديارات في أطراف العمارة. فلمّا أوطنوا الراحة، لحقتهم خيل بهرام. فلمّا نذروا بهم، أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له:
« احتل لنفسك، فإنّ القوم قد أظلّوك. » فقال كسرى: « ما عندي حيلة. » فقال بندويه: « فإني سأحتال لك بأن أبذل نفسي دونك. » قال: « وكيف ذلك؟ » قال: تدفع إليّ بزّتك وزينتك لأعلوا الدير وتنجو أنت ومن معك من وراء الدير، فإنّ القوم إذا وصلوا إليّ ورأوا هيئتك عليّ، اشتغلوا عن غيري وطاولتهم حتى تفوتهم. » ففعلوا ذلك وبادروهم حتى تواروا بالجبل. ثم وافاهم خيل بهرام وعليهم قائد له يقال له: بهرام بن سياوش. فاطّلع عليهم بندويه من فوق الدير وعليه بزّة أبرويز، وأوهمه أنّه هو، وسأله أن ينظره إلى غد ليصير في يده سلما، ويصير به إلى بهرام جوبين. فأمسك عنه وحفظ الدير بالحرس ليلته.
فلمّا أصبح اطّلع عليه في بزّته وحليته وقال:
« إنّ عليّ وعلى أصحابي بقيّة شغل من استعداد لصلوات وعبادات، فأمهلنا. »
ولم يزل يدافع حتى مضى عامّة النهار. وأمعن أبرويز وعلم أنّه قد فاتهم. ففتح الباب حينئذ، وأعلم بهرام بأمره. فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يد بهرام بن سياوش.
فأمّا بهرام جوبين فإنّه دخل المدائن، وجلس على سرير الملك، وجمع العظماء، فخطبهم وذمّ أبرويز، ودار بينهم كلام. فكان كلّهم منصرفا عنه إلّا أن بهرام تتوّج وانقاد له الناس خوفا.
ثم إنّ بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين وظهر جوبين على ذلك فقتله، وأفلت بندويه ولحق آذريبجان. وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب ملك الروم منها وراسله بجماعة ممّن كان معه، وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك وانساقت الأمور بالمقادير، إلى أن زوّجه ابنته مريم وحملها إليه، وبعث إليه ب « تياذوس » أخيه ومعه ستّون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له:
سرجس يتولّى تدبير أمرهم، ورجل آخر يقال له: « الكميّ » - كان يعدل بألف رجل - معظّم في الروم، وسأله ترك الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم، إذا هو ملّك. فاغتبط بهم أبرويز، وأراحهم خمسة أيّام، ثم عرضهم وعرّف عليهم العرفاء، وفي القوم تياذوس، وسرجس، والكميّ الذي وصفناه، وسار بهم حتى نزل من آذربيجان في صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من إصبهبذى الناحية - ويقال له: موسيل - في أربعين ألف مقاتل وانفضّ إليه الناس بالخيل من إصبهان وخراسان وفارس، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكميّ الرومي بضربة ضربه بها بعض الفرس على رأسه، فقدّ رأسه ويده، وعار فرسه بنصف بدنه الباقي إلى معركة أبرويز ومعسكره، فاستضحك أبرويز، وعظم ذلك على الروم حتى كثر الكلام فيه، وعوتب أبرويز، وقيل له:
« هذا جزاؤنا منك، يقتل كميّنا وواحد عصره في طاعتك، وبين يديك، فتضحك؟ » فاعتذر بأن قال:
« إني والله ما ضحكت لما تكرهون. ولقد شقّ عليّ أن فقدت مثله أكثر ممّا شقّ عليكم، ولكني رأيتكم تستصغرون شأن بهرام جوبين، وتنكرون هربي منه، فذكرت ذلك من قولكم الآن، وعلمت أنكم برؤيتكم هذه الضربة وأثرها على هذا الكميّ تعذروننى وتعلمون يقينا أنّ هربي إنّما كان من أمثال هؤلاء القوم الذين هذا مبلغ نكايتهم في الأبطال. » ويقال: إنّ أبرويز حارب بهرام منفردا عن العسكر بأربعة عشر رجلا منهم كردى أخو بهرام، وبندويه وبسطام حربا شديدة وصل فيها بعضهم إلى بعض، والمجوس تحكى حكايات عظيمة لا فائدة في ذكرها مع امتناعها، وجملتها: أنّ أبرويز استظهر استظهارا أيس معه بهرام جوبين، وعلم أنّه لا حيلة له فيه، فانحاز عنه نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرّق في الجنود من الروم أموالا عظيمة وصرفهم إلى ملك الروم.
ولبث بهرام في الترك مكرّما عند الملك، حتى احتال عليه أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز: إلى الترك بجوهر نفيس وغيره، حتى احتال لخاتون امرأة الملك، ولاطفها بذلك الجوهر وغيره من الهدايا حتى دسّت لبهرام من قتله. فاغتمّ خاقان لموته، وأرسل إلى أخته كردية وامرأته يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسأل أن يتزوّجها وطلّق امرأته خاتون بهذا السبب، فأجابته كردية جوابا ليّنا، وضمّت من كان مع أخيها من المقاتلة إليها، وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس فأتّبعها ملك الترك أخاه بطرا في اثنى عشر ألف فارس.
فيقال: إنّ كردية قاتلت، وقتلت بطرا بيدها، ومضت لوجهها، حتى تلقّتها خيول الفرس من الحدود. وكتبت إلى أخيها كردى، فأخذ لها أمانا من أبرويز. فلمّا قدمت عليه اغتبط بها، وتزوّج بها أبرويز.
ذكر سوء سياسة اتفق على أبرويز في جنده حتى ظهر الروم عليه
لم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم. الذي كان نصره، ويهاديه، إلى أن وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه، فقتلوه وملّكوا غيره. فبلغ ذلك أبرويز، فامتعض، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن الملك المقتول اللاجئ إليه، وتوّجه، وملّكه على الروم، ووجّه معه جنودا كثيفة مع شهر براز، فدوّخ بهم البلاد، وملك صاحب كسرى بيت المقدس، وأخذ خشبة الصليب، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين سنة من ملكه. ثم احتوى على مصر، والإسكندرية، وبلاد نوبة، وبعث مفاتيح مدينة الإسكندرية إلى كسرى في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وقصد قسطنطينية، فأناخ على ضفّة الخليج القريب منها، وخيّم هناك. فأمر كسرى فخرّب بلاد الروم، غضبا مما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ولم يخضع لابن ملكهم المقتول أحد، ولا منحوا الطاعة، غير أنّهم قتلوا الملك الذي ملّكوه بعد أبيه المسمّى فوقا لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره، وملّكوا عليهم رجلا يقال له: هرقل. فلمّا رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إيّاها، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريّهم، واستباحتهم أموالهم، تضرّع إلى الله، وأكثر الدعاء والإبتهال.
فيقال: إنّه رأى في منامه رجلا ضخم الجثّة رفيع المجلس، عليه [ بزّة، قائما في ناحية عنه ]، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل:
« إني قد سلّمته في يدك. » فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثاله. فرأى بعض لياليه: كأنّ رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع عليه، ثم دفعه إليه وقال له:
« ها قد دفعت إليك كسرى برمّته. » فلمّا تتابعت هذه الأحلام، قصّها على عظماء الروم وذوي العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه. فاستعدّ هرقل، واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذي فيه شهريار صاحب كسرى، وسار حتى وغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين سنة، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى قد استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأمّا شهربراز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به [ وترك البراح منه ]. ثم بلغ كسرى تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين. فوجّه لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزاذ، في اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى - وهي التي تدعى الآن الموصل - على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها.
وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وأنّه مغذّ، وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك. فنفذ راهزاذ لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر، إلى الناحية التي كان فيها جند فارس. فأذكى راهزاذ العيون عليه، فانصرفوا إليه، فأخبروه أنّه في سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزاذ ومن معه من الجند، أنّهم عاجزون عن مناهضته. فكتب إلى كسرى غير مرّة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدّتهم. كل ذلك يجيبه كسرى بأنّه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته.
فلمّا تتابعت على راهزاذ جوابات كسرى بذلك، عبّى جنده وناهض الروم بهم. فقتلت الروم راهزاذ وستة آلاف رجل، وانهزمت بقيّتهم وهربوا على وجوههم. وبلغ كسرى قتل الروم راهزاذ وما نال هرقل من الظفر، فهدّه ذلك، وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصّن بها لعجزه كان عن محاربة هرقل، وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن. فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعدّ لقتاله انصرف إلى أرض الروم. وكتب كسرى إلى قوّاد الجند الذين انهزموا، يأمرهم أن يدلّوه على كلّ رجل منهم ومن أصحابه، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فأمر بأن يعاقب بحسب ما استوجب. فأحوجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه. وكتب إلى شهربراز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف له ما نال هرقل منه ومن بلاده.
وقد حكى: أنّ كسرى عرف امرأة في فارس لا تلد إلّا الملوك الأبطال، فدعاها وقال:
« إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا، وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيرى عليّ: أيّهم أستعمل؟ » فوصفت أولادها فقالت:
« هذا فرّخان أنفذ من سنان، وهذا شهربراز أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا. » فاستعمل شهربراز. فسار إلى الروم، فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم.
فلمّا ظهرت فارس على الروم، جلس فرّخان يشرب، فقال لأصحابه:
« لقد رأيت كأنى جالس على سرير كسرى. » فبلغت كسرى، وكتب إلى شهربراز:
« إذا أتاك كتابي هذا، فابعث إليّ برأس فرّخان. » فكتب إليه:
« أيّها الملك، إنّك لن تجد مثل فرّخان، فانّ له نكاية في العدوّ وصوتا، فلا تفعل. » فكتب إليه:
« إنّ في رجال فارس خلفا منه، فعجّل عليّ برأسه. » فراجعه، فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس:
« إني قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرّخان. » ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال:
« إذا ولى فرّخان الملك، وانقاد له أخوه، فأعطه. » فلما قرأ شهر براز الكتاب قال:
« سمعا وطاعة. » ونزل عن السرير، وجلس فرّخان، ودفع الصحيفة إليه، فقال:
« ايتوني بشهربراز. » فقدّمه ليضرب عنقه، فقال:
« لا تعجل، حتى أكتب وصيتي. » قال: « افعل! » فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف، وقال:
« كلّ هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد! » فردّ الملك على أخيه.
فكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم:
« إنّ لي حاجة لا تحملها البرد ولا تبلّغها الصحف. فالقنى، ولا تلقني إلّا في خمسين روميا، فإني أيضا ألقاك في خمسين فارسيا. » فأقبل قيصر في خمسمائة روميّ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه: ليس معه إلّا خمسون رجلا. ثم بسط لهما، والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما، واجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا بينهما.
فقال شهربراز:
« إنّ الذين خرّبوا مدينتك، وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخي بشجاعتنا وكيدنا، وإنّ كسرى حسدنا، فأراد أن أقتل أخي فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني. فقد خلعناه جميعا، فنحن نقاتله معك. » قال: « قد أصبتما ووفّقتما. » ثم أشار أحدهما إلى صاحبه: أنّ السرّ إنّما يكون بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا.
قال صاحبه: « أجل! » فقاما جميعا إلى الترجمان بسكّينهما، فقتلاه! واتّفقا على قتال كسرى.
فمما اتفق في أيام كسرى من الحوادث التي تستفاد منها تجربة ما كان من يوم ذي قار وحرب العرب والفرس
وكان سبب ذلك قتل النعمان بن المنذر اللخمي، قتله كسرى لأسباب نذكر جملها إن شاء الله:
كان عديّ بن زيد العباديّ وابنه زيد بن عديّ سبب ولاية النعمان وسبب هلاكه جميعا.
قتل النعمان بن المنذر وأسبابه
وذلك أنّ عديّا وأخويه - وهما: عمار، وعمرو، ويعرف عمار ب « أبيّ »، وعمرو ب « سميّ» - كانوا في خدمة الأكاسرة، ولهم من جهتهم قطائع. وكان قابوس الأكبر عمّ النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى أبرويز بعديّ بن زيد وأخويه، ليكونوا في كتّابه يترجمون له.
فلمّا مات المنذر بن المنذر ترك من أولاده اثنى عشر رجلا، وهم الأشاهب، سمّوا بذلك لجمالهم، وفيهم يقول الأعشى:
فبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ** يمشون غدوة كالسيوف
فجعل المنذر ابنه النعمان في حجر عديّ، وجعل ابنه الأسود في حجر رجل يقال له: عديّ بن أوس بن مرينا. وبنو مرينا قوم لهم شرف وهم من لخم، وبنو المنذر الباقون، وهم عشرة، مستقلّون بأنفسهم.
وكان المنذر جعل على أمره كلّه، إياس بن قبيصة الطائي، فكان في مكانه أشهرا يدبّر أمر العرب كلّه. وطلب كسرى من يملّكه على العرب، فدعا عديّ بن زيد فقال له:
« من بقي من بنى المنذر، وما هم، وهل فيهم خير؟ » فقال: « بقيتهم من ولد هذا الميت - يعنى المنذر بن المنذر - وهم رجال نجباء. » فكتب إليهم، فقدموا عليه، فأنزلهم على عديّ بن زيد. فكان عديّ يفضّل اخوة النعمان عليه في النزل، ويريهم أنّه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلا رجلا، ويقول لهم:
« إن سألكم الملك: أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلّا النعمان. » وقال للنعمان:
« إن سألك الملك عن إخوتك، فقل: إن عجزت عنهم فإني عن غيره أعجز. » وكان عديّ بن أوس بن مرينا داهية أريبا. فكان يوصى الأسود بن المنذر ويقول له:
« قد عرفت أنّى لك راج، وأنّ طلبتي ورغبتي إليك أن تخالف عديّ بن زيد في ما يشير به عليك، فإنّه والله لا ينصح لك أبدا. » فلم يلتفت الأسود إلى قوله. فلمّا أمر كسرى عديّ بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلا رجلا فيكلّمه. فكان الملك كسرى يرى رجالا قلّ ما رأى مثلهم. فإذا سألهم:
« هل تكفوننى ما كنتم تلون؟ » قالوا: « نكفيك العرب إلّا النعمان. » فلمّا دخل النعمان عليه، رأى رجلا دميما قصيرا أحمر، فكلّمه، وقال:
« أتستطيع أن تكفيني العرب؟ » قال: « نعم. » قال: « وكيف تصنع بإخوتك؟ » قال: « أيّها الملك، إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز. » فملّكه، وكساه، وألبسه تاجا قيمته ستّون ألف درهم فيه اللؤلؤ، والذهب. فلمّا خرج وهو ملك على العرب، قال عديّ بن أوس بن مرينا للأسود:
« دونك، فإنّك خالفت الرأي. » ثم إنّ عديّ بن زيد صنع طعاما في بيعة، وأرسل إلى ابن مرينا أن: ائتنى مع من أحببت، فإنّ لي حاجة. فأتاه في ناس، فتغدّوا في البيعة غداءهم المعدّ، وشربوا. فقال عديّ بن زيد لعديّ بن أوس:
« يا عديّ! إنّ أحقّ من عرف الحقّ ثم لم يلم عليه، من كان مثلك. إني عرفت أنّ صاحبك الأسود بن المنذر كان أحبّ إليك من أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحبّ ألّا تحقد عليّ شيئا لو قدرت عليه ركبته، وأحبّ أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإنّ نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. » فقام عديّ بن زيد إلى البيعة، فحلف ألّا يهجوه، ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يزوى عنه خيرا. فلمّا فرغ عديّ بن زيد، قام ابن مرينا فحلف على مثل يمينه ألّا يزال يهجوه أبدا، ويبغيه الغوائل ما بقي.
وخرج النعمان حتى نزل منزله بالحيرة، وافترق العديّان على وحشة كما ذكرت.
حيلة لعدي بن أوس على عدي بن زيد
فقال عديّ بن مرينا للأسود:
« وإذا لم تظفر، فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدّى الذي عمل بك ما عمل. فقد كنت أخبرك أنّ معدّا لا ينام مكرها، وأمرت أن تخالفه فعصيتني. » قال: « فما تريد؟ » قال: « أريد أن لا تأتيك فائدة من مائك وأرضك إلّا عرضتها عليّ. » ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال واسع الضيعة. فلم يمرّ به يوم إلّا بعث فيه إلى النعمان هديّة أو تحفة. فلمّا توالى ذلك وكثر عند النعمان هدايا ابن مرينا صار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضى في ملكه شيئا إلّا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عديّ بن زيد عنده أحسن ابن مرينا الثناء عليه، وذكر فضله وقال:
« إنّه لا يصلح المعديّ إلّا أن يكون فيه مكر وخديعة. » فلمّا رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده، لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه:
« إذا رأيتمونى أذكر عديّ بن زيد عند الملك بخير، فقولوا: إنّه لكما يقول، ولكنّه لا يسلم عليه أحد، وإنّه يقول: إنّ الملك - يعنى النعمان - إنّما هو عامله، وإنّه هو الذي ولّاه ما ولّاه. » ولم يزالوا بهذا وأشباهه، حتى أضغنوه عليه. ثم إنّهم كتبوا كتابا عن عديّ إلى قهرمان كان له، ودسّوا له حتى أخذ الكتاب، وأتى به النعمان، فقرأه وأغضبه.
فأرسل إلى عديّ بن زيد:
« عزمت عليك إلّا زرتنى، فإني قد اشتقت إليك. » وهو عند كسرى.
فاستأذن كسرى، فأذن له. فلمّا أتاه، لم ينظر إليه، حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. فجعل عديّ بن زيد يقول الشعر، ويبلغه النعمان، وكان أوّل ما قاله في السجن:
ليت شعري عن الهمام ويأتي ** ك بخبر الأنباء عطف السّؤال
وقال أشعارا كثيرة، وكان كلما قال عديّ من الشعر شيئا بلغ النعمان وسمعه، فندم على حبسه إيّاه، وعلم أنّه كيد فيه. فكان يرسل إليه، ويعده ويمنّيه، ويفرق أن يرسله فيبغيه الغوائل. فلمّا طال سجن عديّ وأعياه التضرّع إلى النعمان بالأشعار التي يستعطفه فيها مرّة ويخبره فيها بما كيد به مرّة، ومرّة يذكّره بالموت، ويخبره بهلاك من هلك قبله، كتب إلى أخيه أبيّ وهو مع كسرى:
أبلّغ أبيّا على نأيه ** فهل ينفع المرء ما قد علم
بأنّ أخاك شقيق الفؤا ** د كنت به واثقا ما سلم
لدى ملك موثق في الحدي ** د إمّا بحقّ وإمّا ظلم
فلا أعرفنك كذات الغلا ** م ما لم تجد عارما تعترم
فأرضك أرضك إن تأتنا ** تنم نومة ليس فيها حلم
فكتب إليه أخوه:
إن يكن خانك الزّمان فلا عا ** جز قوم ولا ألفّ ضعيف
ويمين الإله لو أنّ جأوا ** ء طحونا تضيء فيها السيوف
ذات رزّ مجتابة غمرة المو ** ت صحيح سربالها مكفوف
كنت في حميها لجئتك أسعى ** فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف
إن تفتني والله ألف جزوعا ** لا يعفّيك ما يصوت الخريف
فلعمري لئن جزعت عليه ** لجزوع على الصّديق أسوف
ولعمري لئن ملكت عزائى ** لقليل شرواك في ما أطوف
كسرى يكتب في إرسال عدي وعدي يقتل
ويقال: إنّ عديّا لما كاتب أبيّا، قام أبيّ، فدخل على كسرى، فكلّمه، فكتب له وبعث معه رجلا، وأذن له في المسير لاستنقاذ أخيه. فكتب خليفة النعمان المقيم بباب الملك إليه أنّه: قد كتب إليك في أمر عديّ. فأتاه أعداء عديّ من غسّان، فأشاروا على النعمان بقتل عديّ.
وقالوا: « افرغ منه الساعة. » فأبى عليهم، وجاء الرجل، وكان تقدّم أخو عديّ إليه فرشاه، وأمره أن يبدأ بعديّ. فدخل عليه وهو محبوس وكان قال له:
« ابدأ بالدخول إليه في الحبس فانظر ما يأمرك به. » فلمّا دخل الرسول على عديّ قال له:
« إني قد جئتك بإرسالك فما عندك؟ » قال: « عندي الذي تحبّ. » ووعده، وسأله ألّا يخرج من عنده، وقال:
« أعطنى الكتاب حتى أرسل به أنا، فإنّك إن خرجت من عندي، قتلت. » فقال الرسول: « لا أستطيع إلّا أن آتى النعمان بالكتاب فأوصله بنفسي إليه. »
فانطلق مخبر، فأتى النعمان، فقال:
« إنّ رسول كسرى قد دخل على عديّ وهو ذاهب به، وإن فعل لم يستبق منّا أحدا، ولم تنج أنت ولا غيرك. » فبعث إليه النعمان بأعدائه، فغمّوه حتى مات، ثم دفنوه.
ودخل الرسول على النعمان بالكتاب.
فقال: « نعم وكرامة وسمعا وطاعة. » وبعث إلى الرسول بأربعة آلاف مثقال ذهبا، وجارية، وقال له:
« إذا أصبحت فادخل عليه وأخرجه أنت بنفسك. » فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس:
« إنّه قد مات منذ أيام، فلم نجترئ على أن نخبر الملك النعمان فرقا منه، لعلمنا بكراهيته لذلك. » فرجع الرسول إلى النعمان فقال:
« إني كنت بدأت به، فدخلت إليه وهو حيّ. » فقال النعمان: « يبعثك الملك إليّ فتدخل إليه قبلي! كذبت ولكنّك أردت الرشوة والخبث. » وتهدّده. ثم إنه استدعاه بعد ذلك، وزاده جائزة وكسوة، وأكرمه واستوثق منه أن لا يخبر الملك، إلّا أنّه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، فقال:
« إنه مات قبل أن أدخل عليه. »
زيد بن عدي يخلف أباه عند كسرى
وندم النعمان على قتل عديّ ندامة شديدة، واجترأ أعداء عديّ على النعمان، وهابهم النعمان هيبة شديدة، فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم، فلقى ابنا لعديّ يقال له: زيد. فلمّا رآه عرف شبهه، فقال:
« من أنت؟ » فقال: « أنا زيد بن عديّ بن زيد. » فكلّمه، فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا، وقرّبه، واعتذر إليه من أمر أبيه، ثم جهّزه وكتب إلى كسرى:
« إنّ عديّا كان ممّن أعين به الملك في نصحه ولبّه، فأصابه ما لا بدّ منه وانقضت مدّته وانقطع أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتي، وأمّا الملك فلم يكن ليفقد رجلا من عبيده إلّا جعل الله له منه خلفا لما عظم الله من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه وقد سرّحته إلى الملك. فإن رأى أن يجعله مكان أبيه ويصرف عمّه إلى عمل آخر فعل. » فكان هو الذي يلي ما يكتب إلى أرض العرب وخاصّة الملك، وكانت له من العرب وظيفة في كلّ سنة من الأفراس المهارة، ومن الكمأة الرطبة واليابسة، والأقط، والأدم، وسائر تجارات العرب. وكذلك كان عديّ بن زيد له هذه الرسوم.
فلمّا وقع عند الملك هذا الموقع سأل عن النعمان، فأحسن الثناء عليه، فمكث سنوات بمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى وكان يكثر الدخول إليه.
فرصة انتهزها زيد
فلمّا كان بعض دخلاته على كسرى جرى حديث النساء، وطلب الملك امرأة لها صفات ونعوت مكتوبة عند الملوك. وكان من رسم الملوك أن يطلب لهم جارية تجمع تلك النعوت في ممالكهم، فكتبت تلك الصفة. فدخل زيد على كسرى فكلّمه في ما دخل فيه، ثم قال:
« إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وأنا خبير بآل المنذر، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. » قال: « فكتب فيهنّ. » فقال: « أيّها الملك، إنّ شرّ شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرّمون - زعموا في أنفسهم - عن العجم. فأنا أكره أن يغيّبهنّ، وإن قدمت أنا عليه على معرفتي، لم يقدر على تغييبهنّ، فابعثني وابعث معي رجلا يفقه العربية. » فبعث معه رجلا جلدا حصيفا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة. فلمّا دخل عليه، أعظم الملك وقال:
« إنّه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك وبعث إليك.
فقال: « وما هؤلاء النسوة؟ » فقال: « هذه صفتهنّ قد جئنا بها. »
صفة جارية أهداها المنذر الأكبر إلى أنوشروان
وكانت الصفة أنّ المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية كان أصابها لمّا أغار على الحارث الأكبر الغسانيّ ابن أبي شمر، فكتب إلى أنوشروان يصفها له:
« هي معتدلة الخلق، نقيّة اللون والثغر، بيضاء، قمراء، وطفاء، دعجاء حوراء، عيناء، قنواء، شمّاء، زجّاء، برجاء، أسيلة الخدّ [ شهيّة المقبّل ] جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة البنان، لطيفة طيّ البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، مفعمة الساق، لفّاء الفخذين، ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين، عظيمة الركبة، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضّة المتجرّد، شموع للسيّد، ليست بخنساء ولا سعفاء ذليلة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذ في بؤس، حييّة، وزينة، حليمة، ركينة، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب في الأدب، فرأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت وتشين العدوّ، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب شفتاها وتبادرك الوثبة ».
فقبلها أنوشروان، وأمر بإثبات هذه الصفة في ديوانه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز.
فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشقّ عليه، فقال لزيد وللرسول:
« أما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم! » فقال الرسول لزيد: « ما العين؟ » فقال: « البقر. » فقال زيد للنعمان: « إنّما أراد كرامتك، ولو علم أنّه يشقّ عليك لم يكتب به إليك. » فأنزلهما يومين، ثم كتب إلى كسرى:
« إنّ الذي طلب الملك ليس عندي. » وقال لزيد:
« اعذرنى عنده. » فلما رجعا إلى كسرى، قال زيد للرسول الذي جاء معه:
- أصدق الملك، الذي سمعت منه، فإني سأحدّثه بحديثك، ولا أخالفك فيه. » فلمّا دخلا على كسرى قال زيد: « هذا كتابه. » فقرأه عليه.
فقال كسرى: « فأين ما كنت خبّرتنى به؟ » فقال: « قد كنت أخبرتك بضنّهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم:
اختيارهم الجوع والعرى على الشبع والرياش، واختيارهم السّموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنّهم ليسمّونها السجن، فسل هذا الرسول معي عن الذي قال، فإني أكره أن أحكى للملك قوله أو أردّ عليه ألفاظه. » فقال للرسول: « ما قال؟ » قال: « انّه قال - أيّها الملك -: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟ » فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنّه قال:
« ربّ عبد قد قال هذا، فصار أمره إلى التباب. »
كسرى يدعو النعمان وهو يحمل السلاح
وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وجعل النعمان يستعدّ ويتوقّع حتى أتاه كتابه أن:
« أقبل، فإنّ للملك إليك حاجة. » فانطلق حين أتاه كتابه، فحمل سلاحه وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيّء، وكانت عنده فرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم وقد ولدت له رجلا وكانت عنده أيضا زينب بنت أوس بن حارثة. فأراد النعمان طيّئا على أن يدخلوه ويمنعوه، فأبوا ذلك وقالوا:
« لولا صهرك لقاتلناك، فإنّه لا حاجة لنا في معاداة كسرى. » فأقبل ليس أحد من الناس يقبله، حتى نزل بذي قار، في بنى شيبان سرّا، فلقى هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وكان سيّدا منيعا، وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلّة. فكره النعمان لذلك أن يدفع إليه أهله، وعلم أنّ هانئا مانعه ممّا يمنع منه نفسه، فأودعه سلاحه، وتوجّه بنفسه إلى كسرى، فلقى زيد بن عديّ على قنطرة ساباط.
فقال: « انج نعيم! » فقال: « أنت يا زيد فعلت هذا، أما والله لئن انفلتّ لأفعلنّ بك ولأصنعنّ. » فقال له زيد: « امض نعيم! فقد - والله - وضعت لك عنده آخيّة لا يقلعها المهر الأرن.
فلما بلغ كسرى أنه بالباب، بعث إليه، فقيّده، وأنفذه إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون، فمات فيه، والناس يظنّون أنّه مات بساباط، لبيت قاله الأعشى. والصحيح ما قلناه.
إياس وما أدى إلى يوم ذي قار
وأمر كسرى إياس بن قبيصة الطائي أن يضمّ ما كان النعمان ينظر فيه، ويجمع ماله ويبعث به إليه. فبعث إياس إلى هانئ أن:
« أرسل ما استودعك النعمان من السلاح وغيره. » وكان ثمانمائة درع. فأبى هانئ أن يسلّم خفارته.
فلمّا منعها هانئ غضب كسرى، وأظهر أنّه يستأصل بكر بن وائل وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي - وهو يحبّ هلاك بكر بن وائل - فقال لكسرى:
« يا خير الملوك، أدلّك على غرّة بكر بن وائل؟ » قال: « نعم. » قال: « أمهلها حتى تقيظ، فإنّهم يجتمعون إلى مآلهم يقال له: ذو قار، فيتساقطون عليه تساقط الفراش في النار، فتأخذهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم. » فترجم له، فأقرّهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل، فنزلت حنو ذي قار، وهو على ليلة من ذي قار. فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة أن: اختاروا واحدا من ثلاث خصال. فنزل النعمان على هانئ وقال:
« أنا رسول الملك إليكم، أخيّركم في ثلاث خصال: إمّا أن تعطوا بأيديكم فيحكم الملك فيكم بما شاء، وإمّا أن تدعوا الديار، وإمّا أن تأذنوا بحرب. » فتآمروا، فولّوا أمورهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى، وكانوا يتيمّنون به، فقال:
« لا أرى إلّا القتال، لأنّكم إن أعطيتم بأيديكم، قتلتم، وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقّاكم تميم فتهلككم، فآذنوا الملك بحرب. » فبعث الملك كسرى إلى إياس، وإلى الهامرز التستري، وكان مسلحه بالقطقطانية وإلى جلابزين وكان مسلحه ببارق. وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدّين - وكان كسرى استعمله على طفّ سفوان - أن يوافوا إياسا، فإذا اجتمعوا، فإياس على الناس. وجاءت الفرس ومعها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي ﷺ.
فقال ﵇:
« اليوم انتصفت العرب من العجم. » فحفظ ذلك اليوم، فإذا هو يوم الوقعة.
رأي جيد رآه قيس بن مسعود لهانئ
لمّا دنت جيوش الفرس بمن معهم انسلّ قيس بن مسعود ليلا، فأتى هانئا فقال:
« أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا لنفوسهم وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردّوه عليك. » ففعل، وقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه، فلمّا دنا الجمع من بكر بن وائل، قال لهم هانئ:
« يا معشر بكر، إنّه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة. » فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيّار. فقال:
« إنّما أراد نجاتنا، فلم يزد على أن ألقانا في الهلكة. » فردّ الناس، وقطع وضن الهوادج لئلّا تستطيع بكر أن تسوق نساءها إن هربوا، فسمّى: « مقطّع الوضن. » فضرب حنظلة على نفسه قبّة ببطحاء ذي قار، وآلى: لا يفرّ حتى تفرّ القبّة.
فمضى من مضى من الناس ورجع أكثرهم، واستقرى ماء لنصف شهر. فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، ولم تقم لمحاصرتهم فهربت إلى الجبابات فتبعتهم بكر وعجل أوائل بكر، فتقدّمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنا، واضطمّت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل. ثم حملت بكر، فوجدت عجلا ثابتة تقاتل، وامرأة تقول:
إن يظفروا يجوّزوا فينا الغرل ** إيها فداء لكم بنى عجل
وتقول أيضا:
إن تهزموا نعانق ** ونفرش النّمارق
أو تهربوا نفارق ** فراق غير وامق
فقاتلوهم بالجبابات يوما، فعطش العجم، فمالوا إلى بطحاء ذي قار.
فأرسلت إياد إلى بكر سرّا - وكانوا مع إياس عونا على بكر -:
« أيّ الأمرين أعجب إليكم: أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم، ونفرّ حين تتلاقون؟ » قالوا: « بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم. » فصبّحتهم بكر بن وائل والظعن واقفة يذمرن الرجال على القتل. فقال يزيد بن حمار السكوني وكان حليفا لبنى شيبان:
« يا بنى شيبان، أطيعونى واكمنوا لهم كمينا. » ففعلوا، فكمنوا في مكان من ذي قار يسمّى إلى اليوم « الخبء. » فاجتلدوا على ميمنة إياس بن قبيصة وفيها الهامرز، وعلى ميسرته وفيها الجلابزين، وعلى ميمنة هانئ بن قبيصة رئيس بكر يزيد بن مسهر الشيبانى، وعلى ميسرته حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى وحنظلة يرتجز ويقول:
قد شاع أشياعكم فجدّوا ** ما علّتى وأنا شيخ جلد
والقوس فيها وتر عردّ ** مثل ذراع البكر أو أشدّ
ثم صيّروا الأمر بعد هانئ إلى حنظلة. فمال إلى مارية ابنته وهي أمّ عشرة نفر، فقطع وضينها، فوقعت على الأرض، وقطع وضن النساء، فوقعن على الأرض.
ونادت بنت القرين الشيبانيّة حين وقعت النساء إلى الأرض:
ويها بنى شيبان صفّا بعد صفّ ** إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف
فقطع سبعمائة من بنى شيبان أيدى أقبيتهم من قبل مناكبهم، لتخفّ أيديهم بالضرب، فجالدوهم، ونادى الهامرز لمّا رأى جدّ القوم وثباتهم للحرب وصبرهم للموت:
« مرد ومرد! » فقال برد بن حارثة اليشكري: « ما يقول؟ » قال: « يدعو إلى البراز ويقول: رجل ورجل. » فقال: « وأبيكم لقد أنصف. » وبرز له برد، فلم يلبث برد أن تمكّن من الهامرز فقتله، ونادى حنظلة بن ثعلبة:
« يا قوم، لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشّاب. »
فحملت ميسرة بكر - وعليها حنظلة - على ميمنة الجيش، وقد قتل الهامرز رئيسهم، قتله برد، وحملت ميمنة بكر - وعليها يزيد بن مسهر - على ميسرة الجيش، وعليهم الجلابزين، وخرج الكمين من خبء ذي قار من ورائهم [ وعليهم ] يزيد بن حمار، فشدّوا على قلب الجيش، وفيهم إياس بن قبيصة وولّت إياد منهزمة كما وعدتهم. وانهزمت الفرس واتّبعوهم يسعون، لم ينظروا إلى سلب ولا إلى شيء حتى تعارفوا « بأدم» - موضع قريب من ذي قار - فوجد ثلاثون فارسا، من عجل ومن سائر بكر ستون فارسا وقتلوا جلابزين، قتله حنظلة بن ثعلبة، وذلّت الفرس بعد ذلك، وذلّ أمرهم.
ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم
كان أبرويز وجّه رجلا من جلّة أصحابه في جيش جرّار إلى بلاد الروم فنكا فيهم، وبلغ منهم، وفتح الشامات وبلغ الدرب في آثارهم فعظم أمره وخافه أبرويز. فكاتبه بكتابين أمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه، ويأمره في الآخر أن يقيم بموضعه، فإنّه لما تدبّر أمره وأجال الرأي، لم يجد من يسدّ مسدّه، ولم يأمن الخلل، إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له:
« أوصل الكتاب الأول بالأمر بالقدوم، فإن خفّ لذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة، فاسكت عليه أيّاما، ثم أعلمه أنّ الكتاب الثاني ورد عليك، وأوصله إليه ليقيم بموضعه. » فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام، فأوصل الكتاب إليه، فلمّا قرأه قال:
« إمّا أن يكون كسرى قد تغيّر لي وكره موضعي، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في بحر العدوّ. » فدعا الأصحاب وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام، أوصل الكتاب الثاني بالمقام، وأوهمه أنّ رسولا ورد به، فلمّا قرأه قال: « هذا تخليط. » ولم يقع منه موقعا، ودسّ إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما، على أن يخلّى الطريق لملك الروم، حتى يدخل بلاد العراق على غرّة من كسرى، وعلى أنّ لملك الروم ما تغلّب عليه من دون العراق، وللفارسي ما وراء ذلك إلى بلاد فارس.
فأجابه ملك الروم إلى ذلك وتنحّى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطرق، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم من ناحية قرقيسياء، وكسرى غير معدّ، وجنده متفرّقون في أعماله. فوثب من سريره مع قراءة الخبر وقال:
« هذا وقت حيلة لا وقت شدّة. » وجعل ينكت في الأرض مليّا. ثم دعا برقّ، وكتب فيه كتابا صغيرا بخطّ دقيق إلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه:
« قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم، وإطماعه في نفسك وتخلية الطريق له حتى إذا تولّج في بلادنا أخذته من أمامه وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه، فيكون ذلك بواره، وقد تمّ في هذا الوقت ما دبّرناه، وميعادك في الإيقاع به يوم كذا! » ثم دعا راهبا كان في دير بجانب مدينته وقال له: « أيّ جار كنت لك؟ » قال: « أفضل جار. » قال: « قد بدت لنا إليك حاجة. » قال الراهب: « الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك. » قال كسرى: « تحمل لي كتابا إلى فلان صاحبي؟ » قال: « نعم. » قال كسرى: « فإنّك تجتاز بأصحابك النصارى، فأخفه. » قال: « نعم. » فلمّا ولّى عنه الراهب قال له كسرى:
« أعلمت ما في الكتاب؟ » قال: « لا. » قال: « فلا تحمله حتى تعلم ما فيه. » فلمّا قرأه أدخله في جيبه ثم مضى.
فلمّا صار في عسكر الروم ونظر إلى الصلبان والقسيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات احترق قلبه لهم وأشفق ممّا خاف أن يقع بهم. وقال في نفسه:
« أنا شرّ الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية، وهلاك هؤلاء الخلق. » فصاح: « أنا لم يحمّلنى كسرى رسالة ولا معي كتاب. » فأخذوه ووجدوا الكتاب معه.
وقد كان كسرى وجّه رسولا قبل ذلك اختصر الطريق حتى مرّ بعسكر الروم وكأنّه رسول إلى كسرى من صاحبه الذي طابق ملك الروم ومعه كتاب فيه:
« إنّ الملك كان قد أمرنى بمقاربة ملك الروم وأن أختدعه وأخلّى له الطريق، فيأخذه الملك من أمامه، وآخذه أنا من خلفه وقد فعلت ذلك، فرأى الملك في إعلامى وقت خروجه إليه. » فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال:
« قد عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن على كسرى. » ووافاه أبرويز في من أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولّى هاربا، فاتّبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ صاحب كسرى هزيمة الروم، فأحبّ أن يجلّى نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبّر، فخرج خلف الروم الهاربين، فلم يسلم منهم إلّا القليل.
ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله
كان سبب هلاك أبرويز وقتله تجبّره، واحتقاره العظماء، وعتوّه. وذاك أنّه استخفّ بما لا يستخفّ به الملك الحازم. وكان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله قسطنطينية وإفريقية، وكانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلّا فيل واحد، وخمسون ألف دابّة، ومن الجواهر، والآلات والأوانى ما يليق بذلك. وأمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده وسائر أبواب المال سنة ثماني عشرة من ملكه. فرفع إليه: أنّ الذي اجتبى في تلك السنة من الخراج وسائر الأبواب ستمائة ألف ألف درهم. وأمر فحوّل إلى بيت مال بنى بمدينة طيسبون، من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز اثنتا عشرة ألف بدرة في أنواع من الجواهر والكسيّ وغير ذلك. فعتا واستهان بالناس والأحرار.
وبلغ من جرأته أنّه أمر رجلا كان على حرس بابه الخاصّة يقال له: زاذانفروخ، أن يقتل كلّ مقيّد في سجن من سجونه. فأحصوا، فبلغوا ستّة وثلاثين ألفا. فلم يقدم زاذانفروخ على قتلهم، وتقدّم بالتوقّف عمّا أمر به كسرى وأعدّ عللا له في ما أمر به فيهم.
فكان هذا أحد ما كسب به كسرى عداوة أهل مملكته.
والثاني: احتقاره إيّاهم واستخفافه بعظمائهم.
والثالث: أنّه سلّط علجا يقال له « الفرّخان زاذ » عليهم، حتى استخرج بقايا الخراج بعنف وعذاب، وكان ضمن من ذلك مالا عظيما، فسلّطه على الناس.
والرابع: إجماعه على قتل الفلّ الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل.
فمضى قوم من العظماء إلى عقر بابل وفيه شيرى بن أبرويز مع إخوته بها، وقد وكّل بهم مؤدّبون وأساورة يحولون بينهم وبين براح ذلك الموضع، فأقبلوا به، ودخلوا مدينة بهرسير ليلا. فخلّى عمّن كان في سجونها وأخرج من كان فيها، واجتمع إليه الفلّ الذين كانوا عملوا بأمر كسرى بقتلهم. فنادوا:
« قباذ شاهنشاه »، وصاروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب الحرس من قصر أبرويز، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ له قريب من قصره يدعى: « باغ الهندوان » فارّا.
فأخذ وحبس خارجا عن دار المملكة في دار رجل يقال له: مارسفند. إلى ان قتل، بعد حديث طويل ومراسلات بينه وبين شيرى بمواطأة العظماء، وبعد تقريع كثير وتوبيخ على ما كان منه في أشياء عدّدوها عليه. فأجاب عن الكلّ بجوابات مقنعة صحيحة لم نذكرها لخروجها عما بنينا عليه غرض هذا الكتاب.
وكان هلاكه بعد ثمان وثلاثين سنة، ولمضيّ اثنين وثلاثين سنة وخمسة عشر يوما من ملكه، هاجر النبي ﷺ من مكّة إلى المدينة.
وخلّف في بيت المال يوم قتل من الورق أربعمائة ألف بدرة، سوى الكنوز والذخائر والجواهر وآلات الملك، وفي تلك الكنوز « كنزباذ آورد ».
ثم ملك شيرويه بن أبرويز.
ذكر عاقبة شيرويه بن أبرويز
قتل شيرويه أباه، وقتل سبعة عشر أخا له ذوي آداب وشجاعة، بمشورة وزرائه، فابتلى بالأسقام، وانتقض عليه بدنه، فلم يلتذّ بشيء من لذّات الدنيا، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا، وكان يبكى إلى أن رمى بالتاج عن رأسه، وعاش ما عاش مهموما حزينا مدنفا. وكان الطاعون فشا في أيّامه، فأهلك أكثر الفرس. وكان ملكه ثمانية أشهر.
ثم ملك أردشير بن شيرويه
وكان طفلا، وقيل: إنّه كان ابن سبع سنين، لأنّه لم يوجد غيره من أهل بيت المملكة، وحضنه رجل يقال له: مهاذر جشنس، فأحسن سياسة الملك فبلغ من إحكامه ذلك أنه: لم يحسّ بحداثة أردشير سوى أنّه غلط في أمر شهربراز المقيم بثغر الروم.
ذكر غلطه في ذلك واستهانته بأمره حتى كان سبب هلاكه
كان شهربراز في جند ضمّهم إليه كسرى، وكان كسرى وشيرويه لا يزالان يكتبان إليه في الأمر يهمّهما ويستشيرانه. فلمّا لم يشاوره عظماء الفرس في تمليك أردشير، ولم يكاتبه أيضا مهاذرجشنس، تعنّت الفرس، وتبغّى عليهم، وبسط يده، وجعله سببا للطّمع في الملك، واستطال، واحتقر أردشير لحداثة سنّه، ودعا الناس إلى التشاور في الملك. ثم أقبل بجنده وقد عمد مهاذرجشنس، فحصّن سور مدينة طيسبون وأبوابها، وحوّل أردشير ومن بقي من نسل الملوك ونسائهم، وما كان في بيت مال أردشير من مال وخزائن وكراع، إلى مدينة طيسبون.
فلما ورد شهربراز أناخ إلى جانب مدينة طيسبون، وحاصر من فيها، ونصب المجانيق عليها، فلم يصل إليها. فلمّا رأى عجزه عن افتتاحها أتاها من قبل المكيدة، فلم يزل يخدع رجلا يقال له: نيوخسرو، ورجلا كان اصبهبذ نيمروزكان، حتى فتحا له باب المدينة، فدخلها، وأخذ جماعة من الرؤساء، فقتلهم، واستصفى أموالهم، وقتل أردشير بن شيرويه. وكان ملكه سنة وستة أشهر.
ثم ملك شهربراز
ولم يكن من أهل بيت المملكة ودعا نفسه ملكا، ولمّا جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدّة ذلك عليه أنّه لم يقدر على إتيان الخلاء، فدعا بالطّست، فوضع أمام ذلك السرير، ومدّ في وجهه ما ستره، فتبّرز في الطّست! ثم امتعض رجل يقال له « بسفرّوخ » وأخوين له، من قتل شهربراز أردشير بن شيرويه، وغلبته على الملك، فتحالفوا على قتله. وكان من السنّة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين عليهم الدروع، والبيض، والترسة، والسيوف، وبأيديهم الرماح، فإذا حاذاهم الملك وضع كل رجل منهم ترسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته عليه كهيئة السجود. وإنّ شهربراز ركب بعد أن ملك بأيام، فوقف له بسفرّوخ، ثم طعنه أخواه، فسقط عن دابته، فشدّوا في رجله حبلا وجرّوه إقبالا وإدبارا ساعة، وساعدهم قوم من العظماء وقتلوا عدّة عاونوا في الفتك بأردشير، وملّكوا بوران بنت كسرى. وكان جميع ما ملك شهربراز أربعين يوما.
وملكت بوران بنت كسرى أبرويز
فأحسنت السيرة، وبسطت العدل، وأمرت برمّ القناطر والجسور وإعادة العمارات، ووضعت بقايا الخراج، وكتبت إلى الناس عامّة كتبا تعلمهم ما هي عليه
من الإحسان، وأنّها ترجو أن يريهم الله من الرفاهة والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون به أنه ليس ببطش الرجال تدوّخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكائدهم ينال الظفر، وتطفأ النوائر، ولكنّ ذلك كلّه بالله عز وجل، وحسن النيّة، واستقامة التدبير. وأمرت بالمناصحة وحسن الطاعة، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم. وكان ملكها سنة وأربعة أشهر.
ثم ملك بعدها رجل يقال له جشنسبنده
وكان ملكه أقلّ من شهر، ولم يظهر له أثر تستفاد منه تجربة.
ثم ملكت آزرمى دخت ابنة كسرى أبرويز
كانت آزرمى دخت من أجمل نساء دهرها، وكان عظيم فارس يومئذ « فرّخ هرمز » إصهبذ خراسان، وأرسل إليها: يسألها أن تزوّجه نفسها، فأرسلت إليه:
« إنّ التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أنّ إربك فيما ذهبت إليه، قضاء حاجتك مني، فصر إليّ ليلة كذا وكذا. » ففعل [ فرّخ هرمز ]، وركب إليها في تلك الليلة، وتقدّمت آزرمى دخت إلى صاحب حرسها أن يترصّده في الليلة التي تواعدا الالتقاء فيها، حتى يقتله. فنفذ صاحب حرسها لأمرها، وأمر به فجرّ برجله، وطرح في رحبة دار المملكة. فلمّا أصبح الناس ورأوه، علموا أنّه لم يقتل إلّا لعظيمة. فأمرت بجثّته فغيّبت.
وكان رستم بن فرّخ هرمز هذا عظيم البأس قويّا في نفسه وهو رستم صاحب القادسية الذي تولّى قتال العرب من قبل يزدجرد في ما بعد، وسنحكي خبره هناك. فلمّا بلغه ما صنع بأبيه، أقبل في جند عظيم، حتى نزلوا المدائن، وسمل عيني آزرمى دخت، وقتلها، وكان ملكها ستة أشهر. واختلف فيمن ملك بعد آزرمى دخت، فقيل: أتى برجل من عقب أردشير بن بابك، كان ينزل الأهواز يقال له:
كسرى بن مهرجشنس
فلبس التاج وقتل بعد أيّام. ويقال: بل كان رجلا يسكن ميسان يقال له:
فيروز
فلملّكوه كرها، وكان ضخم الرأس. فلما توّج قال:
« ما أضيق هذا التاج! » فتطيّر العظماء من افتتاح كلامه بالضيق، وقتلوه. ثم أتى برجل من أولاد كسرى كان لجأ إلى موضع من المغرب قريب من نصيبين يقال له: « حصن الحجارة » حين قتل شيرويه بن كسرى، يقال له:
فرخ باذخسرو
فانقاد له الناس طوعا زمنا يسيرا، ثم استعصوا عليه وخالفوه وكان ملكه ستة أشهر، وكان أهل إصطخر ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز بإصطخر، قد هرب إليها حين قتل شيرويه إخوته، فلمّا بلغ عظماء إصطخر أنّ من بالمدائن خالفوا فرّخ زادخسرو، أتوا بيزدجرد بيت نار يدعى: « بيت نار أردشير »، فتوّجوه هناك وملّكوه وكان حدثا. ثم أقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا « خرّهداد خسرو » بحيل احتالوها له وساغ الملك ليزدجرد.
ملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز
فملك يزدجرد. غير أنّ ملكه كان عند ملك آبائه كالخيال وكالحلم، وكانت العظماء والوزراء يدبّرون ملكه لحداثة سنّه، وكان أشدّهم نباهة في وزرائه وأذكاهم رئيس الخول. وضعف أمر مملكة فارس، واجترأ عليه أعداؤه من كلّ وجوه، وتطرّفوا بلاده، وأخربوا منها، وغزت العرب بلاده بعد أن مضى من ملكه ثلاث أو أربع سنين، وكان عمره كلّه إلى أن قتل بمرو عشرين سنة.
وله أحاديث وسير، سنذكرها بعد فراغنا من الأحوال التي تمّت من جهة الرأي والتدبير في أيام النبي ﷺ والخلفاء من بعده، إلى أن يتصل بذكر يزدجرد، وما كان منه.
عصر النبي (ص) والخلفاء الراشدين
مما جرى في غزوات الرسول ﷺ من تدابيره البشرية في غزوة الخندق
فممّا جرى في غزوات رسول الله ﷺ من التدابير البشرية والحيل الإنسانية ما كان منه ﵇ في غزوة الخندق. وذلك أنّ النبي ﷺ لمّا أجلى اليهود من بنى النضير عن ديارهم، اجتمع رؤساؤهم، وفيهم سلام بن أبي الحقيق وحييّ بن أخطب وغيرهما، فقدموا مكّة، ودعوهم إلى حرب رسول الله ﷺ وحزّبوا الأحزاب التي ذكرها الله تعالى وطمعوا في استيصال النبي ﷺ فنشطت قريش لذلك، وتذكّروا أحقادهم ببدر، فخرجوا وقائدهم أبو سفيان بن حرب. وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وبنو فزارة وغيرهم من الأحزاب.
فأشار سلمان على رسول الله ﷺ لمّا رآه يهمّ بالمقام بالمدينة، ويدبّر أن يتركهم حتى يردوا، ثم يحاربهم على المدينة وفي طرقها، أن يخندق. ففعل ذلك، ووردت قريش بعددها وعدّتها، ووردت الأحزاب، وكثر الناس والأعداء على رسول الله ﷺ وكان قد وادع بنى قريظة وهم أصحاب حصون بالمدينة، وصاحب عقدهم وعهدهم كعب بن أسد القرظيّ.
احتيال حيي بن أخطب لكعب بن أسد
فاحتال حييّ بن أخطب لكعب بن أسد، حتى وصل إلى حصنه، فأغلق كعب دونه باب الحصن، وقال: « بيني وبين محمّد عقد، ولن أنقض ما بيني وبينه. » قال: « افتح الباب أكلّمك. » فقال: « ما أنا بفاعل. » فقال: « والله إن أغلقت دوني الباب إلّا على جشيشتك أن آكل معك منها. » فأحفظ الرجل حتى فتح له. فقال: « ويحك يا كعب! جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنختهم بالمدينة. وجئتك بغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني ألّا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. » فتأبّى كعب، ولم يزل به، يفتله في الذروة والغارب، حتى أعطاه عهدا من الله وميثاقا أن يكون معه. ونقض كعب ما بينه وبين رسول الله ﷺ وبرئ مما كان عليه له.
فلما صحّ عند رسول الله ﷺ ذلك، ضاق ذرعا وخشي أن يفتّ ذلك في أعضاد المسلمين. فعظم البلاء، واشتدّ الخوف، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ونجم النفاق من المؤمنين، وكثر الخوض.
ما كان من نعيم بن مسعود من تخذيل وخداع
وأقام رسول الله ﷺ وأصحابه في ما وصف الله من الخوف والشدّة، لتظاهر الأعداء عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى أتاه نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة الغطفاني مسلما، فقال: « يا رسول الله، إني قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامى، فأمرنى بما شئت، أنته إليه. » فقال رسول الله ﷺ: « إنّما أنت رجل واحد فينا، وإنّما غناؤك أن تخذّل عنّا ما استطعت، وعليك بالخداع، فإنّ الحرب خدعة. » فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة وكان نديما لهم، فقال: « يا بنى قريظة، قد عرفتم ودّى إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم. » قالوا: « صدقت، لست عندنا بمتّهم. » فقال لهم: « إنّ قريشا وغطفان ومن التفّ معهم، جاءوا لحرب محمد، فإن ظاهرتموهم عليه، فليسوا [ كهيئتكم ]، وذاك أنّ البلد بلدكم، به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحوّلوا إلى غيره. فأمّا قريش وغطفان فإنّ أموالهم وأبناءهم ونساءهم ببلاد غير بلادكم، فإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلادكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه. » قالوا: « لقد أشرت علينا برأى ونصح. » ثم خرج حتى أتى قريشا. فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه: يا معشر قريش! قد عرفتم ودّى إيّاكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر رأيت حقّا عليّ أن أبلغكم، نصحا لكم، فاكتموا عليّ. » قالوا: « نفعل. » قال: « اعلموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما صنعنا، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين: من قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم وكبرائهم ونعطيكم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم. فإن بعثت إليك يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا. » فوقع ذلك من القوم.
وخرج حتى أتى غطفان. فقال: « يا معشر غطفان! أنتم أصلى وعشيرتي، وأحبّ الناس إليّ، ولا أراكم تتّهمونى. » قالوا: « صدقت. » قال: « فاكتموا عليّ. » قالوا: « نفعل. » ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذّرهم مثل ما حذّرهم.
اتفاق جيد
فكان من الاتّفاق الجيّد أن أرسل بعد ذلك أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقال لهم: « إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه. »
فأرسلوا إليه: « إنّ اليوم السبت - وكان اتّفق ذلك - وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ومع ذلك فلسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنّا نخشى - إن ضرستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال - أن تشمّروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد. » فلمّا رجعت الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: « والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ. » فأرسلوا إلى بن قريظة: « إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا. فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. »
فقالت بنو قريظة حين أدّت إليهم الرسل: « إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ. ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا. فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل. »
فأرسلوا إلى القوم: « إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. » وتخاذل القوم. واتّهم بعضهم بعضا، وذلك في زمن شات وليال باردة كثيرة الرياح تطرح أبنيتهم، وتكفأ قدورهم. وضاق ذرع القوم وبلغ رسول الله ﷺ اختلاف القوم وما هم فيه من الجهد. فدعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. فذهب حذيفة بن اليمان، حتى دخل في القوم. قال حذيفة: فذهبت فرأيت من الرياح أمرا هائلا لا يقرّ لهم نارا ولا بناء.
فقام أبو سفيان ابن حرب، فقال: « يا معشر قريش، لينظر امرؤ جليسه. » قال: فبادرت وأخذت بيد الرجل الذي إلى جانبي، فقلت: « من أنت؟ » قال: « أنا فلان بن فلان. » ثم قال أبو سفيان: « إنكم يا قوم ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم ما نكره، ولقينا من الجهد والشدّة وهذه الريح ما ترون. فارتحلوا، فإني مرتحل. » ثم قام إلى جمله، وقام الناس معه. وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانصرفوا إلى بلادهم، وتفرّق ذلك الجمع من غير قتال، إلّا ما كان من عدّة يسيرة اتّفقوا على الهجوم على الخندق، يحكى أن فيهم عمرو بن عبد ودّ، فقتلوا. أما عمرو فقتله عليّ بن أبي طالب مبارزة لما اقتحم عليه الخندق. وانتقض ذلك الجمع والتدبير كلّه.
ومن ذلك ما كان يوم حنين وفيه ذكر لدريد بن الصّمّة وبعض آرائه
ومن ذلك أنّه لما افتتح رسول الله ﷺ مكّة، وأقام خمسة عشر يوما، جاءت هوازن وثقيف لمحاربته، فنزلوا بحنين. وذاك أنّهم كانوا قبل ذلك قد جمعوا له حين سمعوا بمخرجه من المدينة، وظنّوا أنه يريدهم. فلمّا قصد مكّة أقبلوا عامدين إليه، ومعهم الأموال والنساء والصبيان، ورئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف. وأقبلت معهم ثقيف، ونصر، وجشم. ولم يشهد معهم من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم دريد بن الصمّة [ وهو ] شيخ كبير، لا شيء فيه إلّا أنّهم يتيمّنون برأيه ومعرفته بالحرب ودربته بها.
فلما نزل بأوطاس، اجتمع الناس إلى رئيسهم مالك بن عوف وفيهم دريد بن الصمّة يقاد به وهو في شجار له. فقال: « بأيّ واد أنتم؟ » قالوا: « بأوطاس. » قال: « نعم، مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس. ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير؟ » فقالوا له: « ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم. » فقال: « أين مالك؟ » فدعى له، فقال: « يا مالك، إنّك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ » قال: « سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم. » قال: « ولم؟ » قال: « أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وولده وماله، ليقاتل عنهم. » قال: فأنقض به. ثم قال: « راعى ضأن والله. ويحك! هل يردّ المنهرم شيء؟ إنّها إن كانت لك، لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟ » قالوا: « لم يشهدها منهم أحد. » قال: « غاب الجدّ والحدّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب. فمن شهدها منكم؟ »
قالوا: « عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. » قال: « [ ذانك ] الجذعان من بنى عامر لا ينفعان ولا يضرّان. يا مالك إنّك لن تصنع بتقديم البيضة، بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق هؤلاء الصبّاء على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك قد أحرزت أهلك ومالك. » قال: [ والله لا أفعل ذلك، إنّك قد كبرت وكبر علمك ]، والله لتطيعنّى يا معشر هوازن، أو لأتّكئنّ على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري ».
وكره أن يكون فيها لدريد ذكر ورأي.
فقال دريد: « هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. »
يا ليتني فيها جذع ** أخبّ فيها وأضع
أقود وطفاء الزّمع ** كأنّها شاة صدع
وكان دريد رئيس قومه بنى جشم وسيّدهم وأوسطهم مع شجاعته ودربته وتجاربه، ولكن السنّ أدركته حتى فنى.
ثم قال مالك للناس: « إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم، وشدّوا شدّة رجل واحد عليهم. » فلمّا استقبل خيل رسول الله ﷺ- وكان يومئذ اثنى عشر ألفا، منهم عشرة آلاف فتحوا مكة، وألفان ممن أسلم وانضاف إليهم بوادي حنين - انحدروا في واد من أودية تهامة أجوف، إنّما ينحدرون فيه انحدارا، وذلك في عماية من الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وتهيّئوا وأعدّوا. فما راع خيل رسول الله ﵇ وهم منحطّون، إلّا الكتائب، قد شدّت عليهم، فانشمروا لا يلوى أحد على أحد.
وانحاز رسول الله ﷺ ذات اليمين وصاح: « أيّها الناس، أين؟ هلمّوا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله. » وبقي مع النبي ﷺ نفر من أهل بيته، فيهم عليّ بن أبي طالب، والعباس، وابنه الفضل، وجماعة من المهاجرين.
فقال رسول الله ﷺ للعباس: « اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة. » فأجابوه من كل ناحية وحملوا على الناس فكانت إيّاها. وقتل عليّ بن أبي طالب ﵇ صاحب الراية، وقتل خيل مالك بن عوف كلّ مقتلة، وغنم المسلمون تلك الأموال، وسبوا النساء والأولاد، وقتل دريد. وكان عدّة السبي يومئذ من هوازن ستّة آلاف من النساء والأولاد.
فلمّا قدمت وفود هوازن على النبي ﵇ مسلمين، أعتق لهم أبناءهم ونساءهم كلّهم، في حديث طويل.
ومن ذلك ما كان بعد ظهور العنسي الكذاب
ومن ذلك: أنّه لما ظهر الأسود العنسي الكذّاب متنبّئا باليمن وحضرموت وصنعاء، حاربه شهر بن باذام، وكان رسول الله ﷺ استخلفه بعد أبيه باذام على الأبناء وعلى بعض أعمال أبيه. فهزمه الأسود، وفرّق الأبناء عنه، وظفر به بعد، فقتله وغلب على صنعاء، وهرب عمّال رسول الله ﷺ وجعل أمر الأسود الكذّاب يعلو ويستطير استطارة الحريق.
وكان جعل عمرو بن معديكرب خليفته في مذحج بعد أن ارتدّ عمرو، وجعل أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الديلمي ودادويه، وكان شهر قد تزوّج بنت عمّ فيروز، وكانت جميلة، فلمّا قتل شهر تزوّج بها الأسود.
فأنفذ رسول الله ﷺ إلى فيروز، وإلى جشنس، وغيره من الأبناء يأمرهم بالقيام على دينهم، وأن ينهضوا في الحرب والعمل في الأسود، إما غيلة وإمّا مصادمة. فألقى كتاب رسول الله ﷺ إلى أصحابه، تغيّر الأسود لقيس بن عبد يغوث.
فقال أصحاب رسول الله ﵇: « إنّ قيسا يخاف على دمه، وهو لأوّل دعوة، فهلمّ ندعوه. » فاجتمعوا لذلك ثم دعوه، وأبثّوه أمرهم، وأبلغوه عن النبي ﷺ وكأنّما وقعوا عليه من السماء، لأنّه كان في غمّ وضيق بأمره، فأجابهم إلى ما أحبّوا.
ثم إنّ عامر بن شهر بن باذام اعترض في قوم منهم: ذو مرّان، وذو الكلاع، وذو ظليم. فكاتبوا أصحاب النبي ﷺ وبذلوا لهم النصر.
وكان النبي ﷺ قد كاتبهم، فكان أصحاب النبي في سرّ قد اتّفقوا عليه، فأجابوا القوم بالتوقّف. وذاك أنّ الأمر كان استتبّ للأسود واستفحل، فهابوه هيبة شديدة.
ثم إنّه دخل جشنس الديلمي على آزاذ - وهي امرأة الأسود التي خلف عليها شهر بن باذام - فقال: « يا ابنة عمّ، قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك. قتل زوجك وطأطأ في قومك القتل، وسفك بالإباحة دماء من بقي منهم، وفضح النساء، فهل عندك ممالأة عليه؟ » فقالت: « وعلى أيّ أمره؟ » قال جشنس: فقلت: « إخراجه. » فقالت: « أو قتله؟ » قلت: « أو قتله. » قالت: « نعم. والله، ما خلق الله شخصا أبغض إليّ منه، ما ينتهى عن حرمة لله. فإذا عزمتم فأعلمونى أخبركم بمأتى هذا الأمر. » قال جشنس:
فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظرانى، وإذا قيس قد دعاه الأسود، فدخل إليه في عشرة من مذحج وهمدان.
فقال له الأسود: « يا قيس! ألم أفعل بك، ألم أصنع؟ » يعتدّ عليه بنعمته.
فقال: « بلى. »
قال: « فإنّه يقول - يعنى الشيطان الذي معه -: « إنّ قيسا على الغدر بك، إيه، يا سوءة، يا سوءة، إلّا تقطع من قيس يده، يقطع قنّتك العليا. » حتى ظنّ أنه قاتله. فقال: « كذبك وذي الخمار، فإمّا قتلتني، فإنّها موتة مريحة أهون عليّ من موتات أموت بها كلّ يوم، خوفا وفرقا، وإمّا صدّقتنى. فوالله لأنت أهيب وأجلّ في نفسي، من أن أحدّثها بغدر لك. » فرقّ له، وأخرجه.
قال: فخرج قيس علينا وطوانا، غير أنّه قال: « اعملوا عملكم. » ثم خرج الأسود علينا، فقمنا مثولا بين يديه بالباب، فقال: « يا فيروز، أحقّ ما بلغني عنك؟ - وهيّأ له الحربة - لقد هممت أن أنحرك. » فقال فيروز: « اخترتنا أيّها الملك لصهرك، وفضّلتنا على الأبناء، ولو لم تكن نبيا ما بعنا نصيبك ونصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة وأولى، لا تقبلنّ علينا أمثال ما يبلغك، فإنّا بحيث تحبّ. » ثم ذبح الأسود مائة من بين بقرة وبعير غير محبّسة ولا معقّلة، بحربته، وقال لفيروز: « اقسم هذه، فأنت أعلم بمن هاهنا. » قال فيروز: ففعلت هذا ولحقته قبل أن يصل إلى داره، فإذا رجل يسعى إليه بي، فأستمع له وهو يقول: « أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد عليّ. » ثم التفت فإذا هو بفيروز، فقال: « مه؟ » قال: « قد قسمتها كما أمرتنى. » قال: « أحسنت ».
وضرب دابّته ودخل. فرجع فيروز إلى أصحابه، فأخبرهم بالخبر.
قال جشنس:
فأرسلنا إلى قيس فجاءنا. فاجتمع ملؤهم أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا لتشير علينا برأيها. فأتيت المرأة وقلت: « ما عندك؟ » قالت: « هو متحرّز محترس، وليس من القصر شيء إلّا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإنّ ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه، فإنّكم من دون الحرس، وليس دون قتله شيء. » وقالت: « إنّكم ستجدون فيه سلاحا وسراجا وهو علامة لكم. » فخرجت من عندها وتلقّانى الأسود خارجا من بعض منازله، فقال: « ما أدخلك عليّ؟ » ووجأ رأسى حتى سقطت، وكان شديدا، وصاحت المرأة - فأدهشته عني، ولولا ذلك لقتلني - وقالت: « ابن عمّى جاءني زائرا، فقصّرت بي. » فقال: « اسكتي لا أبا لك! فقد وهبته لك. » فتحاملت وأتيت أصحابي فقلت: « النجاء، الهرب. » وأخبرتهم الخبر. فإنّا على ذلك حيارى إذا جاءني رسولها يقول: « لا تدعنّ ما فارقتك عليه، فإني لم أزل به حتى اطمأن واعتذر. » فقلنا لفيروز: « ايتها وتثبّت، فأمّا أنا فلا سبيل لي إلى الدخول بعد النهى. » ففعل. وكان فيروز أفطن منّا، فلما أخبرته الخبر قال: « وكيف ننقب على بيوت مبطّنة الأبواب؟ ينبغي لنا أن نقلع بطانة الباب. » فدخلا، فاقتلعا البطانة، ثم أغلقاه وجلسا عندها كالزائر. فدخل عليها فاستخفّته غيرة، وأخبرته برضاع وقرابة مثلها محرّم. فصاح به وأخرجه وجاء بالخبر. فلمّا أمسينا عملنا في أمرنا وقد كنّا واطأنا أشياعنا، ولكن عجّلنا عن مراسلتهم. فنقبنا البيت من خارج، ثم دخلناه، وفيه سراج تحت جفنة، واتّقينا بفيروز لأنّه كان أنجدنا وأشدّنا، فقلنا: « انظر ما ذا ترى وأين موضعه؟ » فدخل ونحن بينه وبين الحرس الذين معه في مقصورته. فلمّا دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا، فإذا المرأة جالسة. فلمّا قام على الباب فتح عينيه فقال أيضا: « ما لي ومالك يا فيروز! » فخشي أن يرجع لأخذ السلاح وإعلامنا فنهلك وتهلك المرأة. فعاجله - وكان مثل الجمل - فأخذ برأسه فدقّ [ عنقه ] ووضع ركبته في ظهره فدقّه، ثم قام ليخرج. فأخذت بثوبه وهي ترى أنّه لم يقتله، وقالت: « أين تدعني؟ » قال: « لا بأس، أخبر أصحابي وأعود معهم. » فأتانا وقمنا معه فأردنا حزّ رأسه. فتحرّك واضطرب فلم نضبطه، فقلت: « اجلسوا على صدره. » فجلس الاثنان على صدره وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة، فألجمته بميلاة، وأمرّ الشفرة على حلقه، فخار كأشدّ خوار من ثور سمعته قطّ. فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة: « ما هذا، ما هذا؟ » فقالت المرأة: « النّبي يوحى إليه، اهدأوا! » [ فخمد ]. ثم سهرنا ليلتنا ونحن نأتمر: كيف نخبر أشياعنا ليس غيرنا ثلاثتنا: أنا وفيروز وقيس. فأجمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا، ثم ننادي الأذان. فلما طلع الفجر فعلنا ذلك، فتجمّع الحرس فناديتهم: « أشهد أنّ محمدا رسول الله وأنّ عبهلة كذّاب. » وألقينا إليهم برأسه، وخلصت صنعاء والجند، وأعزّ الله الإسلام، وتنافسنا الإمارة، وتراجع أصحاب رسول الله ﷺ إلى أعمالهم فاصطلحوا على معاذ، فكان يصلّى بنا. وكتبنا إلى رسول الله ﷺ بالخبر، وذلك في حياته فقدمت رسلنا وقد مات النبي ﷺ صبيحة الليلة التي فتكنا فيها بالأسود فأجابنا أبو بكر رضي الله عنه.
أسماء كتاب النبي ﷺ
كان عليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفّان يكتبان الوحى، فإن غابا كتبه أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يشهد هؤلاء كتبه سائر الكتّاب، وهم: عمر بن الخطّاب، وطلحة، وخالد بن سعيد، ويزيد بن أبي سفيان، والعلاء الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الأشهل، وعبد الله بن أبي سرح، وحويطب بن عبد العزّى، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية، وعثمان، وأبان: ابنا سعيد، وحاطب بن عمرو، وجهيم بن الصلت.
وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه. وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان بين الناس وينوبان عن خالد ومعاوية، إذا غابا. وكان عبد الله بن الأرقم ربما كتب إلى الملوك عن النبي ﵇. وكان زيد بن ثابت مع ما يكتبه من الوحى، يكتب إلى الملوك، وكان يحسن بالفارسية وبالرومية وبالحبشية. وكان حنظلة بن الربيع خليفة كلّ كاتب من كتّاب النبي ﵇ غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب من بينهم. وكان النبي ﵇ يضع عنده خاتمه، وقال له: « الزمني وأذكرني بكلّ شيء لثالثة. » فكان لا يأتى على مال ولا حاجة ثلاثة أيام إلّا ذكّره به، فلا يبيت ﵇ وعنده منه شيء. فأمّا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فإنّه ارتدّ بعد كتابته للنبي ﵇. وكان يتكلّم، فسمعه رجل من الأنصار، فحلف بالله: لئن أمكنه الله منه ليضربنّه بالسيف. فلمّا كان يوم فتح مكة، جاء به عثمان - وكان بينهما رضاع - فقال: « يا رسول الله، هذا عبد الله، أقبل تائبا. » فأعرض عنه، والأنصاري حاضر بيده السيف. فأعاد عليه عثمان القول، فأعرض عنه. فلمّا أعاد الثالثة مدّ ﷺ يده، فبايعه وقال للأنصاري: « لقد تلوّمت أن توفّى بنذرك. » فقال: « فهلّا أومضت إليّ؟ » فقال: « إنّه لا ينبغي للنبي أن يومض. »
مما حدث في خلافة أبي بكر
ومن صرامة الرأي وحصافته ما كان من أبي بكر رضي الله عنه.
وذلك أنّه لمّا مات النبي ﷺ ارتدّت العرب واضطرمت الأرض واشتغل الناس بالمرتدّين وتروخى عن مسيلمة وطليحة. فاستغلظ أمرهما وارتدّت من كل قبيلة عامّة وخاصّة إلّا قريشا وثقيفا. فتشدّد أبو بكر وكان فيه لين، إلّا أنّه حزم وحصف وخالف الناس، وكانوا أشاروا عليه بالمقاومة. وذلك أنّ أسامة بن زيد كان غائبا بالجيش الذي جهّزه رسول الله ﵇ معه إلى حيث قتل فيه أبوه زيد، وكان أهل المدينة في قلّة، وكان طليحة قد قوى بأسد وغطفان وطيّء. فبعثوا وفودا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - من كلّ قبيلة، ونزلوا على وجوه الناس على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فجرّد أبو بكر العزيمة وقال: « لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه. » فرجعوا فأخبروا عشائرهم بقلّة من أهل المدينة وأطمعوهم فيها.
فكان من حصافة أبي بكر أن جعل على أنقاب المدينة بعد خروج الوفد عليّا والزبير وطلحة ونفرا معهم. وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد، وقال لهم: « إنّ الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلّة، وإنّكم لا تدرون أليلا تؤتون، أم نهارا؟ وأدناهم منكم على بريد وقد كان القوم يأملون أن نوادعهم، ونقبل منهم وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم فاستعدّوا وأعدّوا. » فما لبثوا إلّا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارّة مع الليل وخلّفوا ردءا لهم بذي حسى، فوافوا الأنقاب وعليها المقاتلة ودونهم أقوام يدرجون.
فنهنهوهم وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر. فخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانهزموا واتّبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسى. فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحى في طوله فنفرت الإبل إبل المسلمين وهم عليها، ولا تنفر من شيء نفارها من الأنحاء. فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة، إلّا أنّه لم يصرع مسلم ولم يصب، وظنّ القوم بالمسلمين الوهن فبعثوا إلى الناس بالخبر فقدموا عليهم أعمارا.
وبات أبو بكر ليلته يتهيّأ، فعبّى الناس، ثم خرج في تعبئته من أعجاز ليلته يمشى، فما طلع الفجر إلّا وهم مع العدوّ في صعيد واحد. فما سمعوا لأحد من المسلمين همسا ولا حسّا حتى وضعوا فيهم السيوف. فما ذرّ قرن الشمس حتى ولّوهم الأدبار وغلبوهم على عامّة ظهرهم، وقتل رئيسهم حبال وكان صاحب طليحة، واتبعهم أبو بكر - فكان أول فتح - فلما بلغ ذا القصة وضع بها النعمان بن مقرّن في عدد، ورجع إلى المدينة، فذلّ المشركون وعزّ المسلمون بوقعة أبي بكر - رضي الله عنه - فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كلّ قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم. فحلف أبو بكر ليقتلنّ في كل قبيلة قتلة من قتلوا وليزيدنّ وليفعلنّ وليصنعنّ.
فوفى بذلك، فازداد المسلمون ثباتا على دينهم وتفرّق أمر المشركين، وطرقت المدينة صدقات صفوان والزبرقان وعديّ. فاستبشر لذلك أبو بكر والمسلمون، وذلك لستّين يوما من خروج أسامة.
ثم قدم أسامة واستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: « أريحوا واستريحوا. » ثم خرج بنفسه مع الذين كانوا على الأنقاب، فقال له المسلمون: « ننشدك الله أن تعرّض نفسك، فإنّك إن تصب لم يكن للناس نظام. ومقامك أشدّ على العدوّ. فابعث رجلا إن أصيب أمّرت آخر. » فقال: « لا والله حتى أواسيكم بنفسي. » فخرج في تعبئته إلى ذي القصة والنعمان وأصحابه على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق. فاقتتلوا، فهزم القوم وأخذ الحطيئة أسيرا، وطارت عبس وبنو بكر. فأقام أبو بكر على الأبرق أيّاما وقد غلب بنى ذبيان على البلاد، وقال:
« حرام على بنى ذبيان البلاد أن يطأوها بعد أن غنّمناها الله. »
فلمّا غلب أهل الردّة ودخلوا فيما خرجوا منه، جاءت بنو ثعلبة ومن كان ينازلهم. فمنعوا منها فأتوه في المدينة فقالوا:
« علام نمنع من لزوم بلادنا؟ » فقال: « كذبتم، ليست لكم ببلاد. »
عقد أحد عشر لواء لمحاربة أهل الردة
ثم حمى بلاد الربذة كلّها لصدقات المسلمين وجاءت الصدقات الكثيرة. فلمّا أراح أسامة وجنوده ظهورهم وجمّوا، عقد أبو بكر أحد عشر لواء وقطع عليها البعوث: عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن قام له، وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة، وعقد للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود الأسود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من اليمن عليهم، ثم يمضى إلى كندة بحضرموت، وعقد لخالد بن سعيد بن العاص وكان قدم من اليمن، وترك عمله، ولعمرو بن العاص إلى جمّاع قضاعة ووديعة والحارث، ولحذيفة بن محصن، وأمره بأهل دبا، ولعرفجة بن هرثمة، وأمره بمهرة، ولشرحبيل بن حسنة على قضاعة، ولطريفة بن حاجز، وأمره ببني سليم وهوازن، ولسويد بن مقرّن وأمره بتهامة اليمن، وللعلاء بن الحضرمي، وأمره بالبحرين.
ففصل الأمر من ذي القصّة وقد كتب لهم عهدهم، فلحق بكلّ أمير جنده.
وكتب إلى جميع المرتدّة كتبا بليغة بالإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، ونفذت الرسل أمام الجنود بالكتب ونفذ خالد إلى طليحة، فهزمه وفضّ خيله.
وكان طليحة ارتدّ في حياة رسول الله ﷺ وادعى النبوّة. فوجه النبي ﷺ ضرار بن الأزور عاملا على بنى أسد وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتدّ فأشجوا طليحة وأخافوا ونقص أمره، حتى لم يبق إلّا أخذه سلما. سوى أنّه كان ضرب ضربة بالجراز، فنبا عنه. فشاعت في الناس وأتى المسلمين - وهم على ذلك - موت نبيهم. وقال ناس: « إنّ السلاح لا يعمل في طليحة. » فقوي أمره ونقص أمر المسلمين لذلك، حتى إنّهم قالوا عرفنا ذلك في أنفسنا يوم ورد علينا الخبر بوفاة رسول الله ﷺ.
وقام عيينة بن حصين بنصره، وقام في غطفان فقال: « ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بنى أسد، وإني مجدّد الحلف الذي كان بيننا في الجاهلية، ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتبع نبيا من قريش. » وقد مات رسول الله ﷺ وبقي طليحة، فطابقوه على رأيه. فلمّا قوى أمر طليحة واستفحل، هرب ضرار وأصحاب النبي ﷺ وطاروا كلّ مطار.
قال ضرار بن الأزور: « فما رأيت أحدا - ليس رسول الله - أملأ لحرب شعواء من أبي بكر، لجعلنا نخبره ولكأنّما نخبره بما له، لا عليه. »
صرامة عمر وحصافته في هذا الوقت
ومما ظهر من عمر - رضي الله عنه - في هذا الوقت صرامة وحصافة: أنّ عمرو بن العاص كان بعمان. فلمّا مات رسول الله ﷺ أقبل حتى انتهى إلى البحرين، وسار في بنى تميم، وفي بنى عامر، حتى قدم المدينة، فأطافت به قريش وسألوه. فأخبرهم أنّ العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم. وأخبرهم من اضطراب الإسلام وقوّة الأعداء ما كسرهم. فتفرّقوا وتحلّقوا حلقا. وأقبل عمر بن الخطاب يريد التسليم على عمرو. فمرّ بحلقة وهم في شيء مما سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة عثمان وعليّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد. فلمّا دنا عمر منهم سكتوا.
فقال عمر: « فيم أنتم؟ » فلم يخبروه، فقال: « ما أعلمني بالذي خلوتم له. » فغضب طلحة وقال: « يا ابن الخطاب أتخبرنا بالغيب؟ » فقال: « لا يعلم الغيب إلّا الله، ولكن أظنّ أنكم قلتم: ما أخوفنا على قريش، من العرب وأخلقهم ألّا يقرّوا بهذا الأمر. » قالوا: « صدقت. » قال: « فلا تخافوا هذه المنزلة. أنا والله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا لدخلته العرب في آثاركم. فاتقوا الله فيهم. » ثم مضى عمر إلى أبي بكر واجتمع مع عمرو.
إسلام طليحة بعد ارتداده وادعائه النبوة
فأمّا طليحة، فإنّه لما هزم أصحابه، هرب حتى نزل على كعب على النقع.
فأسلم، ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر. وإنّما أسلم هنالك حتى بلغه أنّ أسدا وغطفان وعامرا قد أسلموا. فلمّا مات أبو بكر، أتى عمر للبيعة، فقال له عمر: « أنت قاتل عكاشة وثابت، والله لا أحبّك أبدا. » فقال يا أمير المؤمنين، ما تنقم عليّ من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهنّى بأيديهما. » فبايعه عمر. ثم قال له خريم: « ما بقي من كهانتك؟ » قال: « نفخة أو نفختان بالكير. » ثم رجع إلى دار قومه، وأقام بها حتى خرج إلى العراق.
ولما أعطى أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيئ بأيديهم على الإسلام، لم يقبل خالد من أحد منهم ولا من هوازن وسليم، إلّا على أن يأتوا بالذين حرقوا ومثّلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردّتهم. فأتوه بهم، فقتل منهم إلّا قرّة بن هبيرة ونفرا معه أو ثقتهم، ومثّل بالذين مثّلوا بالمسلمين، وأحرقهم بالنيران، ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكّسهم في الآبار، وخرق بعضهم بالنبال، وكتب بخبرهم وما صنع، إلى أبي بكر.
فكتب إليه أبو بكر:
« ليزدك الله ما أنعم به عليك خيرا، فاتق الله، ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلّا قتلته ونكلت به غيره، وإن كنت أحييت ممّن حادّ الله وضادّه فاقتله. » فأقام خالد شهرا على بزاخة يصعّد ويصوّب ويرجع في طلب القوم، فمنهم من يحرق، ومنهم من يرضخه، ومنهم من يرمى به من الجبل.
مكيدة للفجاءة تمت عليه
وقدم الفجاءة بن إياس بن عبد ياليل على أبي بكر، فقال:
« أعنّى بسلاح، ومرني بما شئت، ومن شئت من أهل البادية. » فأعطاه سلاحا، وأمَره أمْره، فخالفه، وخرج، ونزل الجواء، وبعث نجبة بن أبي الميثاء، وأمره بالمسلمين، فشنّها غارة على كلّ مسلم في سليم وهوازن، وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إليه من حاربه بالجواء حربا شديدا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه من أسره وبعث به إلى أبي بكر، فأوقد له في مصلّى المدينة حطب كثير، ثم رمى به في النار مقموطا.
قتل مسيلمة في حديقة الموت ومكيدة لمجاعة على خالد
ومن وجوه المكائد في الحرب أنّ خالدا لما مضى نحو اليمامة قاصدا مسيلمة، فضرب [ بها ] عسكره، خرج أهل اليمامة مع المسيلمة. ثم التقى الناس، ولم تلقهم حرب قطّ مثلها من حرب العرب. فاقتتل الناس قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون، وخاضوا إلى فسطاط خالد، فزال خالد عنه، وأسلم امرأته أمّ تميم، فرعبلوا الفسطاط بالسيوف.
ثم إنّ المسلمين تداعوا وتبرّأوا إلى الله ممن انهزم، وجالدوا حتى قتل زيد بن الخطّاب وعدّة من خيار الناس، وخلصوا إلى محكّم اليمامة، وكان سيّدا فيهم، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل، وزحف المسلمون، واشتدّ القتال. فكانت يومئذ سجالا إنّما يكون مرّة على المسلمين، ومرّة على الكافرين. واستحرّ القتال في المهاجرين والأنصار، وثبت مسيلمة، ودارت رحاهم عليه.
فعرف خالد بن الوليد أنّها لا تركد إلّا بقتل مسيلمة، ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم. فبرز خالد حتى إذا كان أمام الصفّ دعا إلى البراز، وانتمى وقال: « أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد. » فجعل لا يبرز له أحد إلّا حطّمه وقتله. ودارت عليه رحى المسلمين فطحنت.
ثم دنا خالد من مسيلمة، فدعاه مناديا بأعلى صوته ليطلب غرّته، وذلك لما علم أنّ الحرب لا تزول إلّا بزواله، فأجابه مسيلمة. فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة، ثم قال له: « إن قبلنا النصف، فأيّ الأنصاف تعطينا؟ » فكان إذا همّ بجوابه، أعرض عنه مستشيرا شيطانه، فكان شيطانه ينهاه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرّة من ذلك، فركبه خالد فأرهقه، فأدبر، وزالوا، فذمر خالد الناس، وقال: « دونكم لا تقيلوهم. »
فاقتحموا حديقة الموت، فاقتحم الناس عليهم، فقتلوا منهم عشرة آلاف، وقتل مسيلمة. قتله وحشيّ بحربته، وأعانه رجل من الأنصار.
وكان خالد ظفر قبل هذه الوقعة بمجّاعة مع نفر معه كانوا خرجوا في سريّة لهم، وكان ظنّ أنّهم استقبلوه. فلمّا سألهم صدقوه. ولو عرفوا خبره لقالوا: إنّما استقبلناك، فسلموا. فعرضهم على السيف، فقتلهم عن آخرهم إلّا مجّاعة، فإنّه استحياه طمعا في الانتفاع به. فلمّا فرغ من قتل مسيلمة وأخبر به أخرج مجّاعة يرسف في الحديد ليدلّه على مسيلمة، فجعل يكشف له القتلى حتى مرّ بمحكّم اليمامة، وكان وسيما حسنا. فلما رآه خالد قال: « هذا صاحبكم؟ » قال: « لا، هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكّم اليمامة. » ثم مضى خالد يكشف له القتلى. فإذا رويجل أصفر أخينس، فقال مجّاعة: « هذا صاحبكم، قد فرغتم منه. » فقال خالد لمجّاعة: « هذا فعل بكم ما فعل. » قال: « قد كان ذلك يا خالد، وإنّه والله ما جاءك إلّا سرعان الخيل، وإن الحصون لمملوءة رجالا، فهلّم أصالحك على قومي. » يقول ذلك لرجل قد نهكته الحرب، وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب، فقد رقّ، وأحبّ الدعة والصلح.
فقال: « هلمّ أصالحك. » فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي.
ثم قال: « فآتى القوم فأعرض عليهم ما قد صنعت. »
قال: « انطلق إليهم. » فذهب وقال للنساء - وليس في الحصون إلّا النساء والصبيان ومن ليس به طرق من الشيوخ: « البسن الحديد، ثم أشرفن على الحصون، وانشرن شعوركنّ. » ثم كرّ نحو خالد وقال: « أبوا ما صالحتك عليه، ولكن صالحني على ربع السبي لأعزم على القوم. » قال خالد: « قد فعلت. » فسرّحه وقال: « أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن لم تتمّوا ولم تقبلوا، لأنهدنّ إليكم، ثم لا أقبل منكم خصلة أبدا إلّا القتل. » فكان خالد إذا نظر إلى الحصون رآها مملوءة الحيطان بالسلاح والسواد، فيراها رجالا وإنّما هي النساء.
فلمّا رجع مجّاعة إليهم قال: « فأمّا الآن فاقبلوا. » ورجع إلى خالد، وقال: « بعد شرّ ما، قبلوا، اكتب كتابك. » فكتب:
« هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجّاعة من مرارة وفلانا وفلانا، قاضاهم على الصفراء، والبيضاء، وربع السبي، والحلقة، والكراع، وحائط من كل قرية ومزرعة، على أن تسلموا، ثم أنتم آمنون بأمان الله ولكم ذمّة خالد بن الوليد، وذمّة أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ وذمم المسلمين على الوفاء. »
فلمّا فرغ خالد بن الوليد من هذه الوقعة والصلح، فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلّا النساء والصبيان! فقال خالد لمجّاعة: « ويحك، خدعتني! » قال: « قومي، ولم أستطع إلّا ما صنعت. » ولمّا فرغ خالد من هذه الوقعة أمره أبو بكر بالمسير إلى العراق، وكان ما كان من أمره مع الفرس، ولم أجد في تلك الحروب والوقعات مع عظمها وشدتها موضع حيلة، ولا موقع تدبير تستفاد منه تجربة إلّا اليسير مما سنذكره، وباقيه كلّه جهاد من القوم ونصر من الله واجتهاد من المسلمين، وخذلان للفرس، وانصرام لمدّتهم، وانقضاء لملكهم.
وكان شرطنا في أول الكتاب ألّا نثبت من الأخبار إلّا ما فيه تدبير نافع للمستقبل، أو حيلة تمّت في حرب، أو غيرها، ليكون معتبرا وأدبا لمن يستأنف من الأمر مثله، فلذلك تركنا إثبات هذه الوقائع، وعلى أنّا سنذكر الجمل التي فيها أدنى تنبيه على موضع فائدة، ولأجل ذلك، تركنا ذكر أكثر مغازي رسول الله ﷺ ووقعاته، لأنّها كلّها توفيق الله ونصره وخذلان أعدائه، ولا تجربة في هذا، ولا تستفاد منه حيلة، ولا تدبير بشريّ.
ومن الآراء السديدة ما كان من خالد بالشام يوم اليرموك
وذلك أنّ خالدا افتتح السواد الذي بينه وبين دجلة، وحاز غربيّ دجلة كلّها بوقائع كثيرة وحروب عظيمة، وشغل الفرس عن أمر الملك. فإنّ أردشير بن شيرى مات وقد كان هلك العظماء وأهل بيت كسرى بما أفناهم شيرى، وبغزوات خالد للعظماء، وتفرّغ أبو بكر للشام، وكان أمر خالدا ألّا يقتحم على الفرس، لأنّ مسالح لهم كانت من وراء المسلمين. فخشي أن يؤتوا من ورائهم، وقد كان المسلمون أشرفوا على الهلاك بالشام لكثرة جنود الروم.
فكتب أبو بكر إلى خالد يأمره أن يستخلف على جنده، ويسير في عدد وافر إلى إخوانه المسلمين بالشام. ولما اهتمّ بأمر الشام كتب إلى عمرو بن العاص، وإلى الوليد بن عقبة، وكانا على عمل من الصدقات. أمّا عمرو فكان على صدقات هذيم وعذرة ومن لفّ لفّها. وأمّا الوليد فكان على النصف من صدقات قضاعة. فكتب أبو بكر إليهما يرغّبهما في الجهاد ويخيّرهما بين أعمالهما وما ندبهما إليه، فكتبا بإيثار الجهاد، فكتب أبو بكر بأن يندبا من يليهما، ويستخلفا على أعمالهما.
ثم ندب أبو بكر من كان اجتمع إليه، وقوّى بهم عمرا، وأمّره على فلسطين وأمره بطريق سمّاها له. وولّى الوليد الأردن، وأمدّه ببعض من كان اجتمع إليه.
ودعا يزيد بن أبي سفيان فأمّره على جند عظيم هم جمهور من انتدب له، وفي جنده سهيل بن عمرو، وأشباهه. واستعمل أبا عبيدة وأمّره على حمص مع جند.
وكان قد قدّم خالد سعيد بن العاص، وأمره أن يأتى تيماء، ويقيم بها، فلا تتجاوزها، وينتدب إليه من حوله ويتقوّى به، حتى تأتيه الجنود. وسمى ليزيد بن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل بن حسنة الأردن.
فتوافى الجند أطراف الشام مع الأمراء الأربعة، وهم سبعة وعشرون ألفا. وأمّر أبو بكر معاوية وشرحبيل على ثلاثة آلاف، وكان عكرمة بن أبي جهل ردءا لهم في ستة آلاف. وكان في ثغر الروم أبو عبيدة، فشجى بالروم وكثروا عليه، فكتب إلى أبي بكر يستمدّ، وأمدّهم بخالد بن الوليد من العراق في عشرة آلاف، فكانوا ستة وأربعين ألفا، وكان قتالهم على تساند: كلّ جند وأميرهم، ولا يجمعهم أمير واحد حتى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق.
تدبير حصيف من خالد
فلمّا قدم خالد، وجد الروم في جمع عظيم وقد استمدوا المستعربة ونصارى العرب ومسالح الفرس، فكانوا في مائتي ألف مقاتل على حنق شديد، وهم يقاتلون بنشاط واجتماع. ورأى المسلمين متساندين يقاتل كل قوم مع أميرهم.
فقال لهم: « هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعزّ الله به الدين، ولا يدخلكم منه نقيصة ولا مكروه؟ » قالوا: « وما ذلك؟ » قال: « إنّ هذا يوم من أيّام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإنّ هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة على تساند وانتشار فإنّ ذلك لا ينبغي ولا يحلّ، وإنّ من وراءكم لو يعلم علمكم، حال بينكم وبين هذا. فاعلموا في ما لم تؤمروا به، بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبّته. »
قالوا: « هات ما الرأي؟ » قال: « إنّ أبا بكر لم يبعثنا إلّا وهو يرى أنّا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم. إنّ الذي أنتم فيه أشدّ على المسلمين ممّا غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم. ولقد علمت أنّ الدنيا فرّقت بينكم، فالله الله في دينكم، فقد أفرد كلّ رجل ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده أن دانوا له.
إنّ تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، هلمّوا، فإنّ هؤلاء قد تهيّئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددنا القوم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردّهم. وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلمّوا، فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد حتى يتأمّر كلّنا. دعوني ألكم اليوم. » فأمّروه وهم يرون أنّها كخرجاتهم قبل قدوم خالد وأنّ الأمر طويل والإمارة تصل إلى كلّ واحد منهم.
فخرجت الروم في تعبئة لا يكون أحسن منها، ولم ير المسلمون مثلها قطّ.
وخرج خالد في تعبئة لم تعبّ مثلها العرب. وذلك أنّه لمّا رأى كثرة عدد الروم، قال:
« إنّه ليس في التعبئة تعبئة أكثر في رأى العين من الكراديس. فجعل القلب كراديس كثيرة، وأقام فيها أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وعليها عمرو بن العاص، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبي سفيان، وجميعها ستّة وثلاثون كردوسا. وفي الجماعة ألف رجل من أصحاب رسول الله ﷺ فيهم نحو من مائة من أهل بدر. وكان أبو سفيان يدور ويحرّض الناس.
فقال رجل لخالد: « ما أقلّ المسلمين وأكثر الروم! » فقال خالد: « ما أكثر المسلمين وأقلّ الروم، إنّما تكثر الجنود بالنصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرجال. والله، لوددت أنّ الأشقر براء من توجّيه، وأنّهم أضعفوا في العدد. » وكان فرسه قد حفى في مسيره.
ثم أنشب القتال والتحم الناس وتطارد الفرسان. فإنّهم على ذلك، إذ قدم البريد من المدينة. فأخذته الجنود، وسألوه الخبر. فلم يخبرهم إلّا بسلامة، وأخبرهم عن أمداد، وإنّما جاء بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة، فأبلغوه خالدا، فأخبره الخبر، وأسرّه إليه، وأخبره بما قال للجند، فقال: « أحسنت، فقف. » وأخذ الكتاب، فجعله في كنانته وخاف - إن أظهر ذلك - أن ينتشر أمر الجند.
وجدّ خالد في القتال، وصلى الناس الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب، حتى كان بين خيلهم ورجلهم.
وكان موضعهم الذي اختاروه للقتال واسع المطّرد، وضيّق المهرب. فلمّا وجدت خيلهم مهربا ذهبوا وتركوا رجلهم في مصافّهم، وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء. ولما رأى المسلمون خيل الروم توجّهت للهرب، أفرجوا لها ولم يحرجوها. فذهبت متفرّقة في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل، ففضّوهم. فكأنّما هدم بهم حائط، فاقتحموا في خندقهم فاقتحم عليهم فعمدوا إلى الواقوصة حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، فمن صبر من المقترنين للقتال هوى به من جشعت نفسه، فيهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه، كلّما هوى اثنان كانت البقية أضعف. فتهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف إنسان منهم ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل، وتجلّل أخو ملك الروم وأشراف من أشرافهم برانسهم وقالوا:
« لا نحبّ أن نرى يوم السوء، إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية. » فأصيبوا في تزمّلهم.
وقد كان عكرمة بن أبي جهل في بعض جولات الروم نزل عن فرسه وقال: « قاتلت عن رسول الله ﷺ في كلّ موطن وأفرّ اليوم! » ثم نادى: « من يبايع على الموت؟ » فبايعه ضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه الناس والفرسان، فقاتلوا قدّام فسطاط خالد، حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتلوا إلّا من برأ ومنهم ضرار.
وقاتل النساء يومئذ وجرحت جويرية بنت أبي سفيان، وكانت مع زوجها، بعد قتال شديد، وكان الأشتر ممن شهد هذا اليوم - وهو اليرموك - فأبلى بلاءا حسنا.
ولمّا فرغ خالد من حرب القوم نعى إلى الناس أبا بكر وقال: « الحمد لله الذي قضى على أبي بكر الموت، وكان أحبّ إليّ من عمر، والحمد لله الذي ولّى عمرو كان أبغض إليّ من أبي بكر، ثم ألزمني طاعته. » وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص، وبلغه قتل أخيه مع الصناديد وعامّة الخيل والرجل، فارتحل وصار الأمر لأبي عبيدة.
من عجيب ما ركبه خالد
ومن عجيب ما ركبه خالد بن الوليد في سفرته هذه التي خرج فيها من العراق لمعاونة أبي عبيدة على الروم، أنّه: لمّا هزمت الروم خالد بن سعيد بن العاص، وقتلوا ابنه وقتلوا الجيش الذي معه، واجتمعت الروم باليرموك، قالوا:
« والله لنشغلنّ أبا بكر والعرب في أنفسهم عن تورّد بلادنا. » ثم نزلوا الواقوصة مستعلين.
فبلغ ذلك أبا بكر، فقال: « والله لأنسينّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. » فكتب إليه أن: « سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فانّهم قد شجوا بالروم، وإنّه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجا من الناس نزعك، فلتهنئك - أبا سليمان - النية والحظوة، فأتمم - تمّم الله لك - ولا يدخلنّك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدلّ بعمل، فإنّ الله له المنّ وهو وليّ الجزاء، فاستخلف المثنّى بن الحارثة بالعراق، فإذا فتح الله على المسلمين الشام فارجع إلى عملك بالعراق. » فقال خالد: « كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الناس. » فجمع الأدلّاء وأهل الخيرة، فكلّهم قالوا: « لا نعرف إلّا طريقا لا يحمل جيشا، يأخذه الفذّ والراكب. » ونهوه أن يغرّر بالمسلمين. فعزم عليه، ولم يجبه أحد إلّا رافع بن عميرة على تهيّب شديد. فقام فيهم وقال: « يا قوم لا يخلفنّ هديكم، ولا يضعفنّ يقينكم، واعلموا أنّ المؤونة تأتى على قدر النيّة، والأجر على قدر الحسبة. » فأجابه نفر، وقالوا لخالد: « أنت رجل مصنوع لك، فشأنك. » فطابقوه ونووا، واحتسبوا.
فقال لهم رافع: « تروّوا للشفة لخمس. » فظمّأ كلّ قائد من الإبل الشرف الجلال ما يكتفى به، ثم سقوها العلّ بعد النهل، ثم صرّوا آذان الإبل وكعّموها وخلّوا أدبارها.
ثم ركبوا من قراقر مفوّزين إلى سوى وهي إلى جانبها الآخر ممّا يلي الشام. فلما ساروا يوما افتظّوا لكل من الخيل كروش عشر من تلك الإبل فمزجوا ما في كروشها بما كان من الألبان. ثم سقوا الخيل وشربوا للشفة جرعا، فعلوا ذلك أربعة أيّام. فلمّا نزلوا بسوى وخشي أن يفضحهم حرّ الشمس نادى خالد رافعا: « ما عندك يا رافع؟ » قال: « خير، أدركتم الريّ وأنتم على الماء. » وكان يشجعهم وهو متحيّر به رمد.
ثم قال: « أيها الناس، انظروا عليمين كأنّهما ثديان. » فأتوا عليهما وقالوا: « علمان. » فقام عليهما فقال: « اضربوا يمنة ويسرة لعوسجة كقعدة الرجل. » فقالوا: « لا نرى شيئا. » فقال: « إنّا لله، هلكتم وهلكت معكم، انظروا. » فنظروا فوجدوا جذمها، فقالوا: « جذم، ولا نرى شجرة. » فقال: « احتفروا حيث شئتم. » فاستثاروا أوشالا وأحساء رواء. فقال رافع: « أيها الأمير، ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته إلّا مرّة وأنا غلام مع أبي. » فانحاز خالد من سوى على مضيّح بهراء، وإنّهم لغارّون وناس منهم يشربون خمرا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها ومغنّيهم يقول:
ألا علّلانى قبل جيش أبي بكر ** لعلّ منايانا قريب وما ندري
أظنّ خيول المسلمين وخالدا ** سيطرقكم قبل الصّباح من البشر
فهل لكم في السّير قبل قتالهم ** وقبل خروج المعصرات من الخدر
فيزعمون أنّ مغنيهم قتل، وسال دمه في الجفنة عند الغارة. وقال شاعر المسلمين:
لله عينا رافع أنّى اهتدى ** فوّز من قراقر إلى سوى
خمسا إذا ما سارها الجيش بكى ** ما سارها قبلك إنسيّ أرى
فلما انتهى خالد إلى سوى أغار على أهله وقد خلّف ثغور الروم وجنودها ممّا يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك، ثم صمد لهم الطريق حتى صار إلى دمشق، ثم مرج الصفر. فلقى غسّان وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم وعيالاتهم وبعث بالأخماس إلى أبي بكر، ثم خرج حتى نزل مياه بصرى، فكانت أوّل مدينة فتحها خالد من الشام بمن معه من جنود العراق، فخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة في عشرة آلاف.
ولما تراءى العسكران بعث القيقلار أخو ملك الروم - وهو صاحب الجيش - رجلا عربيّا من قضاعة وقال له: « ادخل في هؤلاء القوم، فأقم فيهم يوما وليلة، ثم ائتني بخبرهم. » فدخل في الناس رجل عربيّ لا ينكر، فأقام فيهم، ثم أتاه.
فقال: « مه، ما وراءك؟ » قال: « هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحدّ. » فقال القيقلار: « لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها. »
المثنى بن الحارثة وشهربراز قائد الفرس
فأمّا المثنى بن حارثة، فكان من حديثه بعد خالد بن الوليد: أنّ الفرس اجتمعوا على شهربراز بن أردشير بن شهريار بن أبرويز، ووجدوه بميسان، فوجّه إلى المثنّى جندا عظيما عليهم هرمز المعروف بجاذويه في عشرة آلاف، ومعه فيل، فكتبت المسالح بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة، وضمّ إليه المسالح.
وكتب شهربراز إلى المثنّى:
« إنّي قد بعثت إليك جندا من وحش أهل القرى، إنّما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقابلك إلّا بهم. » فأجابه المثنّى: « من المثنّى إلى شهربراز، إنّما أنت أحد الرجلين: إما باغ، فذلك شرّ لك وخير لنا، وإمّا كاذب، فأعظم الكاذبين فضيحة وعقوبة عند الله والناس الملوك، وأمّا الذي يدلّنا عليه الرأي، فانّكم إنّما اضطررتم إليه، فالحمد لله الذي ردّ كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير. » فلمّا وقف الفرس على كتابه جزعوا وقالوا: « إنّما أتى شهربراز من لؤم منشأته. » وقالوا له: « جرّأت علينا عدوّنا بما كتبت إليه، فإذا كاتبت أحدا فاستشر. » ثم التقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا قتالا شديدا.
ثم إنّ المثنى وناسا من المسلمين اعتوروا الفيل، وكان يفرّق بين الصفوف والكراديس، فأصابوا مقتله، فقتلوه، وهزموا أهل فارس واتّبعهم المسلمون يقتلونهم حتى جازوا بهم مسالحهم، وطلبوا الفلّ حتى بلغوا المدائن. ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه، واختلف أهل فارس بعده، وأبطأ خبر أبي بكر على المسلمين لمرضه.
فخرج المثنى نحو أبي بكر ليخبره خبر المسلمين ويستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبته من أهل الردّة - وكان أمر أبو بكر ألّا يستعان بهم - وليخبره أنّه لم يخلّف أحدا أنشط لقتال فارس ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة واستخلف على عسكره بشير بن الخصاصيّة فوجد أبا بكر - رضي الله عنه - مريضا مرضه الذي مات فيه، فأخبره الخبر.
فدعا أبو بكر عمر - وكان قد عقد له - فقال:
« يا عمر، اسمع ما أقول لك، ثم اعمل عليه. إني أظنّ أن أموت من يومي هذا - وذلك يوم الاثنين - فإن أنا متّ، فلا تمسينّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنّكم مصيبة - وإن عظمت - عن أمر دينكم، ووصية ربّكم، وقد رأيتنى متوفّى رسول الله ﷺ وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله. وبالله لو أنّى أنى عن أمر الله لخذلنا ولاضطرمت المدينة نارا. وإن فتح الله على أمرائنا فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنّهم أهله وولاة حدّه، وأهل الضراوة بهم، والجرأة عليهم. » ومات أبو بكر رضي الله عنه مع الليل، وندب عمر الناس مع المثنى. وقال عمر:
« كأنّ أبا بكر علم أنّه يسوءنى أن أؤمّر خالدا على العراق حين أمرنى بصرف أصحابه، وترك ذكره. » وتشاغل أهل فارس فيما بينهم عن إزالة المسلمين عن السواد فيما بين خلافة أبي بكر إلى قيام عمر، ورجوع المثنى مع أبي عبيد إلى العراق، وكان جمهور جند العراق بالحيرة بالسيب والغارات تنتهي بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
أسماء كتاب أبي بكر رضي الله عنه
كتب لأبي بكر رضي الله عنه: عثمان بن عفّان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وحنظلة بن الربيع
.
مما حدث في خلافة عمر
عمر يقاسم خالدا ماله
فلمّا استخلف عمر كان أوّل ما تكلّم به عزل خالد بن الوليد. وكتب إلى أبي عبيدة بتأميره عليه، وقال له: « أدع خالدا، فإن أكذب نفسه في حديث تكلّم به خالد فهو أمير على ما هو عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير. ثم انزع عمامته عن رأسه، وقاسمه ماله نصفين. » فلما ذكر ذلك أبو عبيدة لخالد قال: « أنظرني أستشر في أمري. » ففعل أبو عبيدة. فدخل خالد على أخته فاطمة بنت الوليد، وكانت عند الحارث بن هشام، فذكر لها الحديث، فقالت: « والله لا يحبّك عمر أبدا، وما يريد إلّا أن تكذب نفسك ثم ينزعك. » فقبّل رأسها وقال: « صدقت. » وتمّ على أمره وأبي أن يكذب نفسه.
فقام بلال مولى أبي بكر، فقال: « ما أمرت به في خالد؟ » قال: « أمرت أن أنزع عمامته وأقاسمه ماله. » ففعل، وقاسمه ماله حتى بقيت نعلاه. فقال أبو عبيدة: « إنّ هذا لا يصلح إلّا بهذا. » فقال خالد: « أجل، وما أنا بالذي أعصى أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك. » فأخذ نعلا وأحذاه نعلا.
ثم قدم خالد المدينة على عمر. فكان كلّما مرّ بخالد، قال: « يا خالد أخرج مال المسلمين من تحت استك. » فيقول: « والله ما عندي مال لهم. » فلمّا أكثر عليه عمر قال له خالد: « يا أمير المؤمنين، قيمة ما أصبت في سلطانكم أربعون ألف درهم. » قال عمر: « قد أخذت ذلك منك. » قال: « هو لك ». قال: « وأخذته. » ولم يكن لخالد مال إلّا عدّة ورقيق. فحسب ذلك، فبلغت ثمانين ألف درهم، فناصفه عمر على ذلك وأعطاه أربعين ألف درهم وأخذ ماله. فقيل: « يا أمير المؤمنين، لو رددت على خالد ماله. » فقال: « إنّما أنا تاجر للمسلمين، والله لا أردّه عليه أبدا. » فكان عمر يرى أنّه قد اشتفى من خالد حين صنع به ذلك.
من حديث خالد وفتح دمشق
وكان خالد قبل أن ينقضي حرب الروم، على مقدمة خيل أبي عبيدة، وهو الذي فتح دمشق بيت المملكة. وكان من حديثه أن عمر كاتب المسلمين عند ما هزموا الروم باليرموك: أن يقصدوا لدمشق، فانّها مقرّ عزّ الروم، وأن يشغلوا أهل فحل وفلسطين، وأهل حمص بخيل تكون بإزائهم. فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك، وإن تأخّر فتحها حتى تفتح دمشق، فلينصرف أبو عبيدة وخالد الى حمص، وعمرو إلى فلسطين. وكان أبو عبيدة بعث ذا الكلاع ليكون بين دمشق وحمص ردءا. ففعل أبو عبيدة كما أمره، وقدّم خالدا - وهرقل يومئذ بحمص - فحاصر أهل دمشق حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة، وقاتلوهم بالمجانيق وهم معتصمون بالمدينة، يرجون الغياث من هرقل. وجاءت خيول هرقل مغيثة لأهل دمشق، فأشجتها خيول ذي الكلاع وشغلتها عن الناس.
فلمّا أيقن أهل دمشق أنّ الأمداد لا تصل إليهم فشلوا، وطمع فيهم المسلمون، وكانوا يرون أنّها كالغارات قبل ذلك إذا هجم البرد قفل الناس، فسقط النّحم والقوم مقيمون. فعند ذلك انقطع رجاؤهم وندموا على دخول دمشق.
اتفاق جيد للمسلمين
وكان من الاتّفاق الجيّد للمسلمين: أن ولد للبطريق الذي على أهل دمشق مولود. فصنع طعاما، فأكل القوم وشربوا، وغفلوا عن مواقفهم، ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلّا ما كان من خالد، فإنّه كان لا ينام ولا ينيم، ولا يخفى عليه شيء من أمورهم، عيونه ذاكية، وجواسيسه مفرّقة، وهو معنيّ بما يليه. وكان كل جانب من المدينة إلى قوم. وكان قد اتّخذ خالد حبالا كهيئة السلاليم وأوهاقا.
فلمّا أمسى ذلك اليوم وعرف خبر القوم نهد هو ومن معه من جنده الذين قدم بهم، وتقدّمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عديّ وأمثاله من أصحابه في أوّل نومه وقالوا:
« إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب. » فلما انتهى إلى الباب الذي يليه هو وأصحابه المتقدمون، رموا بالحبال الشّرف وعلى ظهورهم القرب التي قطعوا بها خندقهم. فلما ثبت لهم وهقان تسلّق فيهما القعقاع ومذعور. ثم لم يدعا أحبولة إلّا أثبتاها والأوهاق بالشّرف، وكان المكان الذي اقتحموا منه أحصن مكان بدمشق، أكثره ماء وأشدّه مدخلا. ولم يبق ممن خرج مع خالد تلك الليلة أحد إلّا رقى أو دنا من الباب، حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه وانحدر معهم، وخلّف من يحمى ذلك المكان لمن يرتقى، وأمرهم بالتكبير. فكبّر الذين على السور، فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير فوثبوا فيها. وانتهى خالد إلى أوّل من يليه، فأنامهم، وانحدر إلى الباب، فقتل البوّابين، وثار أهل المدينة، وفزع سائر الناس، فأخذوا مواقفهم ولا يدرون ما الشأن، وتشاغل كل ناحية بما يليهم، وقطع خالد بن الوليد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل، حتى ما بقي مما يلي باب خالد مقاتل إلّا أنيم.
ولما شدّ خالد على من يليه، وبلغ منهم ما أراد عنوة، وأرز من أفلت إلى أهل الأبواب التي تلى غيره، دعوا المسلمين إلى الصلح. فأجابوهم وقبلوا منهم ولا يدرون بما كان من خالد. ففتحوا لهم الأبواب وقالوا: « ادخلوا، وامنعونا من أهل ذلك الباب. » فدخل أهل كلّ باب، بصلح من يليهم، ودخل خالد بما يليه عنوة. فالتقى خالد والقوّاد في وسطها، هذا استعراضا وانتهابا، وهذا صلحا وتسكينا. فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح.
ولما فرغ المسلمون من فتح دمشق، ساروا إلى فحل وبيسان، ولاقوا حربا شديدا، وافتتحوها بعد شدائد وبأس كثير.
عمر وانتداب أبي عبيد للخروج إلى فارس
فأمّا خبر فارس، فإن عمر ندب الناس مع المثنى بن حارثة، وقد ذكرنا فيما تقدّم قدوم المثنى على أبي بكر ووصاة أبي بكر عمر به. فلم ينتدب أحد مع المثنى. وذاك أنّ هذا الوجه أعنى فارس كانت أكره الوجوه إلى الناس، لشدّة بأس الفرس وعظم شوكتهم، وقهرهم الأمم.
فكان المثنى يحرّض الناس ويقول: « أيها الناس، إنّا قد غلبناهم على نصف السواد، وقد ضرى من قبلنا، واجترأنا عليهم، ولنا من بعد ما ينتظره المسلم من الكافر. » وقام عمر في الناس، وخطبهم، وحضّهم وأذكرهم وعد الله في كتابه أن يورثهم الأرض، وقوله عز وجل: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. أين « عباد الله الصالحون؟ »
فكان أوّل من انتدب أبو عبيد ابن مسعود الثقفي، وقال: « أنا لها. » ثم سليط بن قيس.
فلما اجتمع ذلك البعث قيل لعمر: « أمّر عليهم رجلا من المهاجرين والأنصار. » قال: « لا والله لا أفعل. إنّما رفعكم الله بسبقكم إلى الجهاد، وسرعتكم إلى العدو. فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء، واثّاقلتم إلى الأرض، فأولى بالرئاسة منكم من سبق إلى الدفع، وأجاب إلى الدعاء. لا والله، لا أؤمّر عليهم إلّا أوّلهم انتدابا. » ثم دعا أبا عبيد وقال له: « اسمع من أصحاب رسول الله ﷺ، وأشركهم في الأمر. ولا تسرعنّ حتى يتبيّن. فإنّها الحرب، والحرب لا يصلح لها إلّا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة. » وقال لأبي عبيد: « إنّه لم يمنعني أن أؤمّر سليطا إلّا سرعته إلى الحرب، وفي التسرّع إلى الحرب ضياع إلّا عن بيان. »
قدوم أبي عبيد مع المثنى بعد استخراج الفرس يزدجرد وتتويج بوران رستم
فقدم أبو عبيد ومعه المثنى بن حارثة، وقد استخرج الفرس يزدجرد. وكانت بوران عدلا في ما بينهم، لما افتتنت الفرس وقتل الفرّخزاذ بن البندوان. وكان سياوخش قدم، فقتل آزرمىدخت. وذلك في غيبة المثنى. وكان شغل الفرس طول غيبته في ما بينهم. وكانت بوران دعت رستم، وشكت إليه تضعضع فارس، ودعته إلى القيام بأمرهم، وتوّجته.
فقال رستم: « أنا عبد سامع مطيع. » فولّته أمر فارس وحربها، وأمرت فارس أن يسمعوا له ويطيعوا. فقتل رستم سياوخش، ودانت له الفرس، وذلك بعد قدوم أبي عبيد.
ثم إنّ عمر لما فصل المثنى وأبا عبيد، استعجلهما، وقال لهما: « النجا، النجا، بمن معكم، فإني ممدّكم بالناس. » ثم ندب أهل الردّة، وأذن لهم في الغزو، ورمى بهم العراق والشام.
فقدم المثنى قبل أبي عبيد بنصف شهر، ونزل خفّان لئلّا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه. وكتب رستم إلى دهاقين السواد: أن يثوروا بالمسلمين. ودسّ في كل رستاق رجلا ليثور بأهله. وبلغ ذلك المثنى، وعجل جابان، وكان اجتمع إليه بشر كثير، بالنمارق، ولحق أبو عبيد، فأجمّ الناس، ثم تعبّى: فجعل المثنى على الخيل، وعبّى الميمنة والميسرة. فنزلوا على جابان بالنمارق، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انهزم جابان، فأسر. فكان آمنه من أسره، فخلّى عند أبو عبيد. فأخبروه أنه ملك. فأشاروا بقتله. فأبى أبو عبيد، وقال: « إنّ المسلمين في التوادّ والتناصر كالجسد الواحد، ما لزم بعضهم فقد لزم كلّهم. » قالوا: « إنّه ملك. » قال: « وإن كان، لا أغدر. » فتركه، وقسم الغنائم، وكان فيها مال وعطر كثير، وبعث بالأخماس إلى عمر.
السقاطية بكسكر
وثار نرسى بكسكر، وكان رستم أمره بذلك. ونرسى هذا ابن خالة كسرى، وكانت كسكر قطيعة له، وكان النّرسيان له يحميه لا يأكله ولا يشربه ولا يغرسه غير آل كسرى إلّا من أكرموه بشيء منه.
فلما انهزمت الفرس يوم النمارق اجتمعت الفالّة إلى نرسى، وهو في عسكره، ونادى أبو عبيد بالرحيل، وقال للمجرّدة: « اتّبعوا الفالّة حتى تدخلوهم عسكر نرسى أو تبيدوهم. » ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر - ونرسى يومئذ بأسفل كسكر، والمثنى معه في تعبئته التي قاتل فيها جابان، ونرسى على مجنّبتيه ابنا خاله وهما: ابنا خال كسرى بندويه وتيرويه ابنا بسطام، وأهل باروسما ونهر جوبر والزوابي معه إلى جنده.
وكان قد أتى الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان. فبعثوا الجالنوس، وبلغ ذلك نرسى ومن معه، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة، وعاجلهم أبو عبيد، فالتقوا أسفل من كسكر في مكان يدعى السّقاطية، فاقتتلوا في صحارى ملس قتالا شديدا.
ثم انهزم نرسى، وقتل أصحابه، وغلب على عسكره وأرضه، وجمع أبو عبيد الغنائم. وهناك رأى المسلمون من الأطعمة ما لم يروا مثله، وأخذت خزائن نرسى. فلم يكونوا بشيء أفرح منهم بالنّرسيان. لأنّه كان حمى، فاقتسموه، وجعلوا يطعمونه الفلاحين، وبعثوا بخمسه إلى عمر، وكتبوا إليه: « إنّ الله أطعمنا مطاعم كان الأكاسرة يحمونها، وأحببنا أن تروها، وتشكروا إنعام الله وإفضاله. » وأقام أبو عبيد، وسرّح المثنى إلى باروسما، وعاصما إلى نهر جوبر. فأخربوا، وسبوا، وهرب ذلك الجند إلى الجالنوس. وسار أبو عبيد واستقبله الجالنوس، فنهد إليه أبو عبيد في المسلمين على تعبئته. فهزمهم المسلمون، وهرب الجالنوس، وأقام أبو عبيد قد غلب على تلاك البلاد.
ولما رجع الجالنوس إلى رستم ومن أفلت معه قال رستم: « أيّ العجم أشدّ على العرب؟ » قال: « بهمن جاذويه. » وهو ذو الحاجب. فوجّهه ومعه فيلة، وردّ معه الجالنوس، وقال له: « قدّم الجالنوس، فإن عاد لمثلها فاضرب عنقه. » فأقبل بهمن جاذويه ومعه « درفش كابيان ». وكانت من جلود النمر، عرض ثماني أذرع، وطول اثنى عشر ذراعا. وأقبل أبو عبيد، ونزل المروحة موضع البرج والعاقول.
فبعث إليه بهمن جاذويه: « إمّا أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإمّا أن تدعونا نعبر إليكم. » فقال الناس: « لا تعبر يا با عبيد! ينهاك عن العبور، قل لهم: فليعبروا! » وكان من أشدّ الناس عليه في ذلك سليط.
فلجّ أبو عبيد، وقال: « لا يكونون أجرأ على الموت منّا، بل نعبر إليهم. » فعبروا إليهم في منزل ضيّق المطّرد. فاقتتلوا يوما، حتى إذا كان آخر النهار، واستبطأ رجل من ثقيف الفتح، ألّف بين الناس، فتصافحوا بالسيوف في أهل فارس، وأصيب منهم ستة آلاف في المعركة ولم يبق إلّا الهزيمة. فحمل أبو عبيد على الفيل، وضربه، فخبط الفيل أبا عبيد، وقام عليه، وجال المسلمون جولة، ثم تمّوا عليها وركبهم أهل فارس.
خطأ في الرأي
فكان من خطأ الرأي والعجلة فيه أن بادر رجل من ثقيف الجسر فقطعه.
فانتهى الناس إليه، والسيوف تأخذهم من خلفهم، فتهافتوا في الفرات. فأصابوا يومئذ من المسلمين أربعة آلاف بين غريق أو قتيل، وحمى الناس المثنى وعاصم ومذعور، وقد كان سليط - كما قدمنا الخبر عنه - يناشد أبا عبيد مع وجوه الناس، ويقولون: « إنّ العرب لم تلق مذ كانوا، مثل جنود فارس، وقد حفلوا لنا واستقبلونا من الزهاء والعدّة، بما لم يلقنا به [ أحد ] قبل، وقد نزلت منزلا لنا فيه مجال ومرجع من فرّة إلى كرّة. » فقال: لا أفعل، جبنت يا سليط.
فقال سليط: « أنا والله أجرأ منك، نفسا، وقد أشرنا عليك بالرأي، فستعلم. »
رؤيا رأتها امرأة أبي عبيد
وكانت امرأة أبي عبيد رأت رؤيا وهو في المروحة: أنّ رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد وابنه وجماعة من أهل بيته.
فأخبرت أبا عبيد، فقال: « هذه الشهادة. » وعهد أبو عبيد إلى الناس، فقال: « إن قتلت فعلى الناس فلان، فإن قتل فعليكم فلان. » إلى أن أمّر الذين شربوا من الإناء على الولاء.
ثم قال: « إن قتل أبو القاسم فعليكم المثنى. » ثم نهد بالناس وعبر، وعضّلت الأرض بأهلها، والتحمت الحرب. فلمّا نظرت الخيول إلى الفيلة عليها النخل، والخيل عليها التجافيف، والفرسان عليهم الشّعر، رأت شيئا منكرا لم تر مثله. فجعل المسلمون إذا حملوا لم تقدم خيلهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرّقت بين كراديسهم لا تقوم لها الخيل إلّا على نفار. وخرقهم الفرس بالنشّاب، وعض المسلمين الألم، وترجّل أبو عبيد، وترجّل معه الناس، فصافحوهم بالسيوف، فصارت الفيلة إذا حملت دفعتهم.
فنادى أبو عبيد:
« احتوشوا الفيلة وقطّعوا بطنها، واقلبوا عنها أهلها. » وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلّق ببطانه فقطّعه، ووقع الذين عليه. وفعل القوم مثل ذلك: فما تركوا فيلا إلّا حطّوا رحله وقتلوا أصحابه. وأهوى الفيل لأبي عبيد، فنفح مشفره بالسيف، فاتقاه الفيل بيده ووقع، فخبطه الفيل. وأخذ اللواء، الذي كان أمّره بعده. فقاتل الفيل حتى تنحّى عنه، فاجترّه إلى المسلمين، وأحرزوا شلوه. ثم تجرثم الفيل فاتّقاه بيده، دأب أبي عبيد، وخبطه وقام عليه.
وتتابع سبعة من ثقيف كلّهم يأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت. ثم أخذ اللواء المثنى وهرب عنه الناس.
فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفيّ ما يصنع الناس، بادرهم الجسر، فقطعه. فلما توافاه الناس تهافتوا في الفرات، فغرق من لم يصبر، وقتل من صبر. وهذا الخبر تصديق لدريد حيث قال: « إنّ المنهزم لا يردّه شيء. » ونادى: « أيّها الناس! أنا دونكم، فاعبروا. » وعقد لهم الجسر وقال: « لا تدهشوا اعبروا على هينتكم، فإنّا لن ندع الموضع ولن نزايل حتى نراكم من ذاك الجانب. » وأتى بعبد الله بن مرثد، وكان يمنع الناس من العبور. فضربه المثنى وقال: « ما حملك على ما فعلت؟ » قال: « ليقاتلوا. » فلمّا ضمّت السفن، وعبر الناس كان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس. وعبر المثنى، وحمى جانبه، واضطرب عسكره، وارفضّ عنه أهل المدينة، حتى لحقوا بالمدينة، وتركها بعضهم فنزلوا البوادي، وبقي المثنى في قلّة.
ورامهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم لاعتراض الفرات، وقطع الجسر.
وهلك يومئذ من المسلمين أربعة آلاف من بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقي مع المثنى ثلاثة آلاف، فكأنّ الجميع كانوا تسعة آلاف. وجرح المثنى جراحة شديدة، وأثبت فيه حلق من درعه هتكهنّ الرمح.
ولما بلغ عمر ما صنعه أهل المدينة، وأخبر عمّن سار في البلاد استحياء من الهزيمة اشتدّ عليه، ورحمهم، وقال: « اللهم إنّ كلّ مسلم في حلّ مني، أنا فئة لكل مسلم، يرحم الله أبا عبيد، لو انحاز إليّ لكنت فئة له. » فبينا ذو الحاجب يروم أن يعبر إلى المسلمين أتاه الخبر باضطراب الفرس.
فرجع بعد أن ارفضّ عنه جنده، وأتاه الخبر أنّ الناس في المدائن ثاروا برستم، ونقضوا ما بينهم وبينه، وصاروا فرقتين: الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان. ثم إنّ جابان ومردانشاه خرجا حتى أخذا بالطريق وهم يرون أنّهم سيرفضّون ولا يشعرون بما جاء ذا الحاجب من فرقة أهل فارس.
وبلغ المثنى فعلة جابان ومردانشاه. فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج في جريدة خيل يريدهما وظنّا أنه هارب، فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس على أصحابهما، فأتوه بهم أسرى، وعقد المثنى لهم بها ذمّة وقدّمهما وضرب أعناقهما وأعناق الأسرى، ثم رجع إلى عسكره. وكان جرير بن عبد الله البجلي يسأل قديما في بجيلة أن تلتقط من القبائل، وكان النبي ﷺ وعده ذلك، فلمّا ولى عمر دعاه بالبيّنة، فأقامها. فكتب له إلى عمّاله في العرب كلّها ممن كان فيه أحد ينسب إلى بجيلة في الجاهلية، وثبت عليه في الإسلام بغير ذلك فأخرجوه إلى جرير. فلما أعطى جرير حاجته في استخراج بجيلة من الناس وجمعهم، أخرجوا إلى المثنى مددا له. وكتب عمر يستنفر الناس من أهل الردّة وغيرهم، فلم يرد عليه أحد إلّا رمى به المثنى.
يوم البويب ويسمى يوم الأعشار
وبعث المثنى بعد الجسر في من يليه من الممدّين، فتوافوا إليه في جمع عظيم.
وبلغ رستم والفيرزان ذلك، وأتتهم العيون به، وبما ينتظرون من الأمداد، فاجتمعا على أن يبعثا بمهران الهمذاني حتى يريا من رأيهما ويجتمع أمرهما. فخرج مهران في الخيول، وأمره بالحيرة. وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بين القادسية وخفّان في الذين أمدّوه من العرب. فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير وعصمة، وإلى كلّ قائد أظلّه أنّه:
« جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجّلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب. » وسلك المثنى وسط السواد، وسلك جرير على الجوف ومن كان معه، حتى انتهوا إلى المثنى وهو على البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، وكان عمر عهد إليهم ألّا يعبروا بحرا ولا جسرا إلّا بعد ظفر. فاجتمعوا بالبويب، واجتمع العسكر على شاطئ البويب الشرقيّ. وكان البويب مغيضا للفرات أيام المدود أزمان فارس يصبّ في الجوف.
وقدم على عمر غزاة بنى كنانة، والأزد، فأمّر على بنى كنانة غالب بن عبد الله، وعلى الأزد عرفجة بن هرثمة، وأمرهم بالعراق. فقدموا على المثنى، وقدم عليه هلال بن علّفة فيما اجتمع إليه من الرياب. فأمره عمر وسرّحه، فقدم على المثنّى، وكذلك فعل بغزاة كلّ قبيلة من جشم وخثعم وبنى حنظلة وبنى ضبّة وغيرهم. فاجتمعوا عند المثنى.
واجتمع رستم والفيرزان معا، واستأذنا بوران - وكذلك كانا يعملان إذا أرادا شيئا استأذنا من حجّابها فكلّماها به - فأخبراها بعدد الجيش وكثرة الذين ينفذون مع مهران، وكانت فارس لا تكثر البعوث.
فقالت بوران: « ما بال فارس لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟ » قالا: « إنّ الهيبة كانت قبل اليوم مع عدوّنا وإنّها اليوم فينا. » فعرفت رأيهم واستصوبته.
ولما نزل مهران في جنده وراء الفرات - والفرات بينهما - قال: « إمّا أن تعبروا إلينا، وإمّا أن نعبر إليكم. » فقال المسلمون: « اعبروا إلينا. » فعبروا، وأقبلوا إلى المسلمين في صفوف ثلاثة مع كلّ صفّ فيل، ورجلهم أمام فيلهم، وجاءوا لهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: « إنّ هذا الزجل وجل! » قالوا: « أجل. » قال: « فالزموا الصمت وائتمروا همسا. » فدنوا من المسلمين وجاءوهم من قبل نهر بنى سليم اليوم. فلما دنوا زحفوا، وركب المثنى فرسه الشموس، وكان لا يركبه إلّا إذا قاتل. ودعى الشموس للين عريكته وطهارته. فوقف على الرايات يحضّهم ويذكر أحسن ما فيهم ويقول: « إني أرجو ألّا يؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله ما يسرّنى اليوم لنفسي شيء إلّا وهو يسرّنى لعامّتكم. » فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم المثنى بالقول والفعل، وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا.
ثم قال: « إني مكبّر ثلاثا، فتهيّأوا، ثم احملوا مع الرابعة. » فلما كبّروا أوّل تكبيرة أعجلهم فارس، فعاجلوهم وخالطوهم مع أوّل تكبيرة.
وركدت الحرب مليّا. فرأى المثنى خللا في بعض صفوفه، فأرسل إليهم: « الأمير يقرأ السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم. » فقالوا: « نعم. » واعتدلوا.
وكانوا يرونه قبل ذلك وهو يمدّ بلحيته لما يرى منهم! فلمّا أعتبوه رأوه يضحك فرحا.
فلمّا طال القتال، نظر المثنى إلى نفر من الثعلبيّين نصارى وفيهم جلّاب خيل قدموا مع أنس بن هليل. فقال: « يا أنس، إنّك امرؤ عربيّ وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران، فاحمل معي. » وقال لابن [ مردى ] الفهر مثل ذلك. فأجابوه إليه. فحمل المثنى على مهران حتى أزاله، فدخل في ميمنته. ثم خالطوهم واجتمع القلبان، وثار الغبار والمجنّبات تقتتل، لا يفرغون لنصر أمرائهم، ولا يستطيعون ذلك، لا المشركون ولا المسلمون. وقتل غلام تغلبيّ نصراني مهران. ووقف المثنى عند ارتفاع الغبار حتى أسفر وقد فنى قلب المشركين. فأما المجنّبات فهي بحالها، فجعل المثنى يدعو لهم، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول: « المثنى [ يقول ]: عادتكم في أمثالهم! » حتى هزموهم. فسابقهم المثنّى إلى الجسر، فسبقهم وأخذ الأعاجم يفترقون بشاطئ الفرات مصعدين ومصوّبين، واعتورتهم خيول المسلمين فجعلهم جثاء.
فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رمّة منها، كانوا يحرزونها مائة ألف، وما عفى عليها إلّا ادّفان البيوت.
فيحكى أهل تلك الناحية: أنهم كانوا يأتون البويب، فيرون في ما بين موضع السكون اليوم وبنى سليم عظاما بيضا تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم، يعتبر بها.
وسمّى يوم البويب يوم الأعشار: أحصى مائة رجل قتل كل واحد منهم عشرة يومئذ.
وندم المثنى على أخذه الجسر، وقال: « قد عجزت عجزة وقى الله شرّها بمسابقتى القوم إلى الجسر حتى أحرجتهم وإني غير عائد. فلا تعودوا ولا تعتدوا بي أيها الناس، فإنّها كانت زلّة، ولا ينبغي إحراج أحد إلّا من لا يقوى على امتناع. » وكان المثنى أصاب نزل مهران غنما، وبقرا، ودقيقا، فبعثوا إلى عيالات الناس، وكانوا خلّفوهنّ بالقوادس مع عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة. فلما رفعوا للنساء فرأين الخيل، تصايحن وحسبنها غارة. فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد. فقال عمرو: « هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش أن يكنّ. » وبشّرهنّ بالفلح.
وعقد المثنى الجسر، وسرّح في طلب المنهزمين أصحاب الجسر، فأصابوا غنائم كثيرة وتبعوهم. وكتب القوّاد والرؤساء منهم إلى المثنى: « إنّ الله سلّم ووجّه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شيء، أفتأذن لنا في الإقدام. » فأذن لهم. فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصّن منهم أهل ساباط، واستمكنوا من الغارة على من بينهم وبين دجلة، ومخروها لا يخافون كيدا، وانتقضت مسالح العجم، فرجعت إليهم، واعتصموا بساباط.
المثنى يغير على قرية بغداد غارة
ثم إنّ المثنى بلغه خبر قرية يأتيها تجّار مدائن كسرى والسواد، ويجتمعون بها في كل سنة مرّة ومعهم فيها من الأموال كبيت المال، وتلك أيّام سوقهم.
فاستدعى المثنى من وثق به من أهل الحيرة فاستشاره.
فقال له: « إن أنت قدرت أن تغير عليهم وهم لا يشعرون، أصبت فيها مالا فيه غنى المسلمين دهرهم وقووا على أعدائهم أبدا. » قال: « وكم بينها وبين مدائن كسرى؟ » قال: « بعض يوم أو عامّة يوم. » قال: « فكيف لي بها؟ » قالوا: نشير عليك أن تأخذ طريق البرّ حتى تنتهي إلى الخنافس، فإنّ أهل الأنبار يضربون إليها ويخبرونك فيأمنون، وتأخذ دهاقين الأنبار بالأدلّاء، وتسير سواد ليلتك حتى تأتيهم صبحا، فتصبّحهم غارة. » ففعل المثنى ذلك، فلما انتهى إلى الأنبار، تحصّن منه صاحبها وهو لا يدرى من هو، وذلك ليلا. فلمّا عرفه نزل إليه، فأطعمه المثنى واستكتمه وسأله الأدلّاء إلى بغداد حتى يعبر منها إلى المدائن.
قال: « أنا أجيء معك. » قال: لا أريدك معي، ابعث معي من هو أدلّ منك. » فزوّدهم الأطعمة والأعلاف، وبعث معهم الأدلّاء، فساروا.
فلما كانوا بالنصف، قال المثنى: « كم بيني وبين هذه القرية بغداد؟ » قال: « خمسة فراسخ. » فندب من أصحابه جماعة للحرس، وبعث طلائع فحسبوا الناس لئلّا يسبق الخبر وقال: « أيّها الناس، أطعموا وتوضّئوا وتهيّئوا. » ثم سرى آخر الليل فصبّحهم في أسواقهم، فوضع فيهم السيف، فأخذوا ما شاءوا.
وقال المثنى: « لا تأخذوا إلّا الذهب والفضة والحرّ من كل شيء. » ثم انكفأ راجعا حتى نزل بنهر السّيلحين بالأنبار، فسمع همسا في ما بين الناس: « ما أسرع القوم في طلبنا. » فخطبهم وقال: « أيها الناس، احمدوا الله وتناجوا بالبرّ والتقوى، ولا تناجوا بالإثم والعدوان، انظروا في الأمور وقدّروها، ثم تكلّموا. ما بلغ النذير مدينتهم بعد، ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم إنّ للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل. ولو طلبكم المحامير من رأى العين ما أدركوكم وأنتم على العراب، حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم، ولو أدركوكم لقاتلتهم ورجوت النصر والأجر. فثقوا بالله، وأحسنوا به الظنّ، فقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة وهم أعدّ منكم، وسأخبركم عني أنّ أبا بكر أوصانا أن نقلّل العرجة ونسرع الكرّة في الغارات ».
ثم أقبل بهم ومعهم الأدلّاء حتى انتهى بهم إلى الأنبار.
ثم إنّ المثنى أغار على حيّ من تغلب على دجلة، وعلى قوم كانوا بتكريت، وأصابوا ما شاءوا من النعم.
القادسية وأيامها
فقال أهل فارس لرستم والفيرزان: « إنّه لم يبرح منكما الاختلاف حتى أوهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوّهم، ولم يبلغ من خطركما أن نقرّكما على هذا الرأي وأن تعرّضا فارس للهلكة. ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلّا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأنّ بكما قبل أن يشمت شامت، ونشفينّ نفوسنا منكما. »
تمليك يزدجرد
فاجتمع رستم والفيرزان عند بوران وقالا لها: « اكتبي لنا نساء كسرى وسراريّه. » - ففعلت.
فأرسلوا في طلبهنّ، فلم تبق امرأة إلّا أتوا بها، فأخذوهنّ بالرجال، ووضعوا عليهنّ العذاب يستدلّون على ذكر من أبناء كسرى. فلم يوجد عندهنّ أحد.
فقالت إحداهنّ: « لم يبق إلّا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن أبرويز، وأمّه من أهل بادوريا. »
فأرسلوا إليها، فأخذوها به، وكانت قد أنزلته [ في أيام شيرى ] حين جمعهنّ في القصر الأبيض، وقتل الذكور إلى أخواله وكانت واعدتهم، ثم دلّته إليهم في زبيل. فلما أخذت أمّه به، دلّتهم عليه، فأرسلوا، فجاؤوا به، فملّكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه واطمأنّت فارس، واستوسقوا، وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته. فسمّى الجنود لكلّ مسلحة كانت لكسرى أو موضع ثغر. فسمّى جند الحيرة وجند الأنبار والأبلّة والمسالح، وأظهروا الجدّ والنصيحة.
وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بما ينتظرون منهم. فلم يصل الكتاب إلى عمر، حتى كفر أهل السواد كلهم: من كان له عهد ومن لم يكن له عهد.
فكتب عمر إليهم: « فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم، وتفرّقوا في المياه التي تليهم على حدود أرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحدا ولا مضر ولا حلفاءهم من أهل النجدات، ولا فارسا، إلّا اجتلبتموه، فإن جاء طائعا، وإلّا حشرتموه. احملوا العرب على الجدّ إذا جدّ العجم. » فنزل المثنى بذي قار، ونزل الناس بالحلّ، وبشراف إلى غضيّ - وغضيّ جبل البصرة - فكان في أمواه العرب من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويعين بعضهم بعضا إن كان كون. وذلك في ذي العقدة من سنة ثلاث عشرة للهجرة.
وكتب عمر إلى عمّال العرب على الكور والقبائل أن: « لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة إلّا انتخبتموه، ثم وجّهتموهم إليّ، والعجل العجل. » فمضت الرسل، ووافاه هذا الضرب من القبائل، وأخبروه عمّن وراءهم بالحثّ والجدّ.
وخرج عمر في أول يوم من المحرّم سنة أربع عشرة حتى نزل ما يدعى صرارا، فعسكر به ولا يدرى الناس ما يريد. وكان عثمان أجرأ عليه، فقال له: « ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ » فنادى: « الصلوة جامعة. » فاجتمع إليه الناس، فأخبرهم الخبر، ثم نظر ما يقول الناس.
فقام العامّة: سر وسر بنا معك! » فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعه حتى يخرجهم منه في رفق، فقال: « استعدّوا، فانّى سائر، إلّا أن يجيء رأى هو أمثل من ذلك. » ثم جمع أهل الرأي ووجوه أصحاب النبي ﷺ فقال: « أحضرونى الرأي. » فأجمع ملأهم أن يقيم، ويبعث رجلا من أصحاب رسول الله، ويرميه بالجنود.
فنادى عمر: « الصلوة جامعة. »
فاجتمع إليه الناس. فأرسل إلى عليّ، وكان استخلفه على المدينة، فأتاه، وإلى طلحة، وكان على مقدمته، فرجع إليه، وإلى الزبير وعبد الرحمن بن عوف، وكانا في المجنّبتين.
ثم قام فيهم، فقال:
« إنّ الله جمع على الإسلام أهله، فألّف بين القلوب وجعلهم فيه إخوانا، فالمسلمون فيما بينهم كالجسد، لا يخلو منه شيء مما أصاب غيره، وكذلك يحقّ عليهم أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم. فالناس تبع لمن قام لهذا الأمر ما اجتمعوا عليه، ورضوا به، وما رءاه أولوا الرأي لزم الناس، وكانوا له تبعا، فمن قام بهذا الأمر فهو تبع لأولى الرأي. أيّها الناس! إني كنت كرجل منكم، حتى صرفني ذوو الرأي عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلا وقد أحضرت هذا الأمر من قدّمت ومن خلّفت. »
فكان طلحة ممن تابع وعبد الرحمن ممن نهاه وقال: « بأبي أنت وأمي... » قال عبد الرحمن: فما فديت أحدا بأبي وأمي بعد النبي ﷺ غيره، وقلت: «.. اجعل عجزها بي، وأقم، وابعث جندا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك فإن يهزم جيشك فليس كهزيمتك، وإنّك إن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت على المسلمين. »
قال عمر: « فأشيروا عليّ برجل! » قال عبد الرحمن: « وجدته. » وكان ورد كتاب سعد بن أبي وقاص وهم في تلك الحال، جوابا عن كتاب عمر: « إني قد انتخبت لك ألف فارس كامل كلّهم له نجدة ورأى وصاحب حيطة يحوط حريم قومه ويمنع ذمارهم، إليه انتهت أحسابهم ورأيهم فشأنك بهم. » ووافق كتابه مشورتهم.
وقال عبد الرحمن: « وجدته لك. » قال: « من؟ » قال: « الأسد عاديا، سعد بن مالك. » فأرسل إليه، فقدم، فأمّره على حرب العراق، وأوصاه، وقال: « يا سعد سعد بنى وهيب! لا يغرّنّك من الله أن قيل: خال رسول الله! ليس بينه وبين أحد نسب إلّا طاعته. فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء: الله ربّهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله ﷺ منذ بعث إلى أن فارقنا - عليه، فالزمه، فإنّه الأمر.
هذه عظتى إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين. » فسار سعد، ومات المثنى من انتقاض جراحته قبل أن يصل إليه سعد. وذاك أنّ جرحه كان ينتقض ويبرأ حتى مات. وقدم سعد، فأغار في ما يليه، ولم يزل كذلك، إلى أن ألحّ يزدجرد على رستم، وقال: « لا بدّ أن تلى حرب العرب بنفسك. » فخرج رستم في العدّة والعديد والخيول والفيول، وراسله سعد بالمغيرة بن شعبة وغيره من دهاة العرب وأصحابه من ذوي الهيئات والآراء، فجرت بينهم مخاطبات، لا تجربة فيها ولا فائدة في المستأنف، فتركنا ذكرها.
إلى أن صافّهم رستم وعبر إليهم. وكان في القلب الذي فيه رستم ثمانية عشر فيلا عليها الصناديق والرجال، وفي المجنّبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين.
تدبيره دبره يزدجرد للإسراع في تسلم أنباء الحرب
وكان يزدجرد وضع بينه وبين رستم رجالا: فأوّلهم على باب إيوانه والآخر على دعوة منه، بحيث يسمعه، والآخر كذلك إلى أن انتظم بينه وبين رستم بالرجال. فلما نزل رستم بساباط قال الرجل الذي بساباط: « نزل! » وقال الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يقوله من يلي الإيوان ويسمعه يزدجرد. فكان كلّما ارتحل، أو نزل، أو حدث أمر، جرى الأمر فيه على ما شرحته، وترك البرد.
وكان ذلك شأنه إلى أن انقضى الحرب.
وكان بسعد حبون وخراجات يومئذ لا يستطيع أن يركب. فإنّما هو على وجهه، في صدره وسادة وهو مكبّ عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمى بالرّقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة، وكان الصف إلى جانب القصر.
فشغّب قوم من وجوه الناس على سعد، ولم يرضوا بما صنع خالد. فهمّ بهم سعد وشتمهم. ثم خطبهم، واعتذر إليهم، فرضوا، وأمر الرؤساء حتى خطبوا في من يلونهم، ففعلوا، وتحاضّوا وتواصوا.
فأما الفرس فإنّهم تعاهدوا، وتواصوا، واقترنوا بالسلاسل. فكان المقترنون ثلاثين ألفا، وجملتهم مائة وعشرون ألفا، وثلاثون فيلا عليها المقاتلة، وفيلة عليها الملوك وقوف لا تقاتل.
يوم أرماث
وأمر سعد فقرئ سورة الجهاد. وقال سعد: « إني مكبّر، فإذا سمعتم التكبيرة الأولى فشدّوا شسوع نعالكم، فإذا كبّرت الثانية فتهيّأوا، فإذا كبّرت الثالثة فشدّوا النواجذ على الأضراس واحملوا. » فلمّا فرغ القرّاء، كبّر سعد وكبّر الناس، ثم ثنّى فتهيّأ الناس، ثم ثلّث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال.
وخرج أمثالهم من أهل فارس، فاعتوروا الضرب والطعن. وخرج هرمز إلى غالب بن عبد الله - وكان هرمز من ملوك الباب متوّجا - فأسره غالب أسرا، وجاء به إلى سعد، فأدخل، وانصرف إلى المطاردة. فبينا الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة، قام صاحب رجّالة بنى نهد، فقال: « يا بنى نهد، إنّما سمّيتم نهدا لتفعلوا. » فبعث إليه سعد خالد بن عرفطة: « والله لتكفّنّ، أو لأوّلينّ عملك غيرك. » ولما تطاردت الفرسان خرج رجل ينادى: « مرد ومرد ». فانتدب له عمرو بن معدى كرب، فرماه الفارسي بنشّابة، فما أخطأت سئة قوسه - وكان متنكّبها - فحمل عليه عمرو، فاعتنقه، ثم أخذ منطقته فاحتمله فوضعه بين يديه. ثم جاء به حتى إذا دنا منّا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه.
ثم قال: « أنا هكذا، فاصنعوا بهم، إنّما الفارسي إذا فقد قوسه تيس! » فقلنا: « يا با ثور من يستطيع أن يصنع كما تصنع؟ » وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فبارزه، فما لبّثه طليحة أن قتله. وقام الأشعث بن قيس، فقال: « يا معشر كندة! لله درّ بنى أسد، أيّ فرى يفرون، وأيّ هذّ يهذّون! » وكذلك كانوا، لأنّهم حبسوا الفيلة بالضرب والطعن.
«.. يا معشر كندة! أراكم تنتظرون من يكفيكم الناس. العرب منذ اليوم يقاتلون وأنتم جثاة على الرّكب تنتظرون. » فوثب إليه عدّة، وقالوا: « عثر جدّك إنّك لتؤبّخنا ونحن أحسن الناس موقفا، ها نحن معك. » فنهد ونهدوا فأزالوا من بإزائهم. ولما رأى فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد، رموهم بحدّهم كلّه، وبدروا الشدّة على المسلمين عليهم ذو الحاجب والجالنوس والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد. فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم الفيلة قد ثبتوا لهم. وكبّر سعد الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة على الخيول، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد.
فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر، فقال: « يا معشر بنى تميم. ألستم أصحاب الإبل والخيل، أما لكم لهذه الفيلة من حيلة؟ » قالوا: « بلى والله. » ثم نادى في رجال من قومه رماة، وآخرين أهل ثقافة، فقال لهم: « يا معشر الرماة، ذبّوا ركبان الفيلة بالنّبل. » وقال: « يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة، فقطعوا وضنها. » وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد. وأقدم أصحاب عاصم بن عمرو على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وأذناب توابيتها، فقطّعوا وضنها وارتفعت عن ظهورها. فما بقي لهم يومئذ فيل إلّا عرّى وقتل أصحابها، ونفّس عن أسد، فردّوا عنهم فارس إلى مواقفهم، ولم يزالوا يقتتلون حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهب هدأة من الليل. ثم رجع هؤلاء ورجع هؤلاء، وأصيب في أسد تلك العشيّة خمسمائة، وكانوا ردءا للناس. وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم. فهذا يومها الأوّل وهو يوم أرماث.
يوم أغواث
ولما أصبح القوم على تعبئة من غد وقفوا. ووكّل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب، وإسلام الرثيث إلى النساء، يقمن عليهم، والناس ينتظرون بالجملة نقل الرثيث. فلمّا استقلّت بهم الإبل، وتوجّهت بهم نحو العذيب، طلعت بوادي الخيل من الشام، الذين صرفهم عمر بعد دمشق إلى العراق. وكان أبو عبيدة، لما قدم عليه كتاب عمر: أن يصرف أهل العراق أصحاب خالد بن الوليد ولم يذكر خالدا، ضنّ بخالد، واحتبسه عنده، وسرّح الجيش - وهم ستّة آلاف - وأمّر عليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو. فعجّله أمامه، فانجذب القعقاع وطوى وتعجّل، فتقدّم على الناس يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه وهم ألف، أن يتقطّعوا أعشارا: فكلما بلغ عشرة مدى البصر، سرّحوا في آثارهم عشرة. فتقدّم القعقاع أصحابه في عشرة، فأتى الناس، فسلّم عليهم، وبشّرهم بالجنود، وقال: « أيها الناس! إني قد جئتكم في قوم والله لو كانوا بمكانكم ثم أحسّوكم، لحسدوكم بحظوتها، وحالوا أن يظفروا بها دونكم. فاصنعوا كما أصنع. » فنادى: « من يبارز؟ » فسكن الناس، وتذاكروا قول أبي بكر فيه: « لا يهزم جيش فيه مثل هذا. » فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع: « من أنت؟ » قال: « أنا بهمن جاذويه. » فنادى: « يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب الجسر. » ثم اجتلدا، فقتله القعقاع.
وجعلت خيل القعقاع ترد قطعا إلى الليل وينشط الناس، فكأن لم يكن بالأمس مصيبة، وكأنّها استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وللحاق القطع، وانكسرت الفرس لذلك.
ونادى القعقاع أيضا: « من ينازل؟ » فخرج إليه رجلان أحدهما الفيرزان والآخر البندوان. فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، فبادر القعقاع الفيرزان فضربه، فإذا رأسه مطروح، وبادر ابن ظبيان البندوان فضربه، فإذا رأسه كذلك، وتورّدهم فرسان المسلمين، وجعل القعقاع يقول: « يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنّما يحصد الناس بها. » فتواصى الناس واجتلدوا بها حتى المساء. فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئا مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، لأنّ توابيتها تكسّرت بالأمس، فاستأنفوا علاجها حين أصبحوا، فلم ترتفع حتى كان من الغد. وفي هذا اليوم حمل بنو عمّ القعقاع عشرة عشرة من الرجّالة على إبل قد ألبسوها، فهي مجلّلة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم فحموهم، وأمرهم أن يحملوها على خيلهم بين الصفّين يتشبّهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث. فجعلت الإبل لا تصمد لقليل ولا كثير إلّا نفرت خيلهم، وركبتهم سيوف المسلمين. فلمّا رأوا ذلك استنّوا بهم، فلقى أهل فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وجعل رجل من بنى تميم يتعرّض للشهادة، فأبطأت عليه حتى تعرّض لرستم يريده، فأصيب دونه.
وخرج رجل من فارس ينادى: « من يبارز؟ » فبرز له علباء، فأسجده ونفحه الفارسي فأمعاه، فلم يستطع القيام، فعالجها، فلم يتأتّ له حتى مرّ به رجل من المسلمين، فقال: « يا هذا أعنّى على بطني. » فأدخله له، فأخذ بصفاقيه، ثم زحف نحو صفّ فارس ما يلتفت على المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صفّ فارس، وقال:
أرجو بها من ربّنا ثوابا ** قد كنت [ ممّن ] أحسن الضّرابا
وخرج رجل من أهل فارس ينادى: « من يبارز؟ » فبرز له الأعرف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر من فارس فقتله، ثم برز آخر فقتله، فأحاطت به فوارس منهم، فصرعوه، وندر سلاحه عنه، فأخذوه، فجعل يغبّر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه وقال:
[ و ] إن تأخذوا بزّى، فإني مجرّب ** خروج من الغمّاء، محتضر النّصر
وإني لحام من وراء عشيرتي ** ركوب لآثار الهوى محفل الأمر
وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلّما طلعت قطعة من الخيل حمل حملة فيصيب فيها. فقتل في يوم أغواث ثلاثين فارسا، وكان آخرهم بزرجمهر الهمداني، وقال القعقاع فيه:
حبوته جيّاشة بالنّفس ** هدّارة مثل شعاع الشّمس
في يوم أغواث قليل الفرس ** أنخس بالقوم أشدّ النّخس
حتى تفيظ معشرى ونفسي
واقتتل الناس صتيتا حتى انتصف الليل. فكانت ليلة أرماث تدعى « الهداة »، وليلة أغواث تدعى « السواد ». ولم يزل المسلمون يرون الظفر يوم أغواث في القادسية، وقتلوا عامّة أعلامهم، وجالت فيهم خيل القلب، وثبت رجلهم، فلو لا أنّ خيلهم كرّت، لأخذ رستم أخذا. وانتمى المسلمون لدن أمسوا. فلمّا أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: « إن تمّ الناس على الانتماء فلا توقظنى، فإنّهم أقوياء على عدوّهم، فإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظنى، فإنّهم على السواء، وإن سمعتهم ينتمون، فأيقظنى، فإنّ انتماءهم لشرّ. »
قصة أبي محجن مع سلمى وسعد
فلمّا اشتدّ القتال بالسواد، سأل أبو محجن سلمى بنت خصفة، وكان محبوسا مقيّدا في القصر. فقال: « يا ابنة خصفة، هل لك إلى خير؟ » قالت: « وما ذاك؟ » قال: « تخلّين عني وتعيرينني البلقاء. فلله عليّ، إن سلّمني الله أرجع إليك حتى أضع رجليّ في قيدي. »! فقالت: « وما أنا وذاك؟ » فجعل يرسف في قيده وقال:
كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا ** وأترك مشدودا عليّ وثاقيا
إذا قمت عنّانى الحديد وغلّقت ** مصاريع من دوني تصمّ المناديا
قالت سلمى: « إني استخرت الله، ورضيت بعهدك. » فأطلقته وقالت: « أمّا الفرس فلا أعيرها. » فرجعت.
« فاقتادها رويدا، وأخرجها من باب القصر، فركبها. ثم دبّ عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة. ثم حمل على الميسرة ميسرة الفرس، يلعب برمحه وسلاحه بين الصفّين - وقد حكي أنّ الفرس كانت عريا، وحكي أنّها كانت بسرجها - ثم رجع من خلف صفّ المسلمين إلى الميسرة، فكبّر، وحمل على ميمنة القوم، يلعب بين الصّفين برمحه وسلاحه. ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب، فبدر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفّين برمحه وسلاحه. فكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا، وتعجّب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالنهار.
فقال بعض الناس: « هذا من أوائل أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه. » وانتبه سعد وهو منكبّ مشرف من فوق القصر، فقال: « والله لولا محبس أبي محجن لقلت إنّه هو وهذه البلقاء. » وقال بعض الناس: « إن كان الخضر يشهد الحروب فهذا الخضر. » وقال بعضهم: « لولا أنّ الملائكة لا تباشر [ القتال ] لقلنا: ملك بيننا! » فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر من حيث خرج منه، ووضع عن نفسه وعن دابّته، وأعاد رجليه في قيده، وقال في أبيات:
لقد علمت ثقيف غير فخر ** بأنّا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات ** وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنّا وفدهم في كلّ يوم ** فإن عميوا فسل بهم عريفا
وليلة قادس لم يشعروا بي ** ولم أشعر بمخرجى الزّحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائي ** وإن أترك أذيقهم الحتوفا
وإنّما حبس في أبيات قالها وهي:
إذا متّ، فادفنّي إلى أصل كرمة...............
فلمّا أصبحت سلمى أتت سعدا، وكانت مغاضبة له، وصالحته وأخبرته خبرها مع أبي محجن. فدعا به، وأطلقه، وقال: « اذهب، فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله، حتى تفعله. » قال: « لا جرم والله، لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدا. »
يوم عماس
أصبح الناس اليوم الثالث على مواقفهم وبينهم كالرّجلة الحمراء ميل في عرض الصفّين، وقد قتل من المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف، وكان أهل الدين يجمعون القتلى يحملونهم إلى المقابر ويبلّغون الرثيث إلى النساء والصبيان، و [ النساء و ] الصبيان يحرفون القبور في اليومين: يوم أغواث ويوم أرماث. وبات القعقاع ليلته كلها يسرّب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم بالأمس. ثم قال لهم: « إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة، كلّما توارت مائة فليتّبعها مائة. فإن جاء هاشم فذاك، وإلّا جدّدتم للناس رجاء وجدّا. » ففعلوا ولا يشعر بذلك أحد.
فأصبح الناس على مواقفهم قد أحرزوا قتلاهم: فأمّا قتلى المشركين فقد أضيعوا، لأنّهم لا يعرضون لأمواتهم، وكان ذلك مما صنع الله للمسلمين مكيدة ليشدّ بها أعضادهم.
فلمّا ذرّ قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل طلعت نواصيها. فكبّر، وكبّر الناس وقالوا: « جاء المدد » وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها. فجاؤوا من قبل خفّان. فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى لهم هاشم في سبعمائة، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع في يوميه، فعبّى أصحابه سبعين سبعين.
فلما نجز أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه، فيهم قيس بن هبيرة، حتى إذا خالط القلب كبّروا، وقد أخذ المسلمين الفرح، فكبّروا جميعا وقد أصلح المشركون توابيت الفيلة معها الرجّالة يحمونها أن تقطع وضنها ومع الرجّالة فرسان يحمونهم، إذا رأوا كتيبة دلفوا إليها بفيل واتباعه لينفروا به الخيل.
فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس، لأنّ الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد، كان أوحش وأهول، وإذا طاف به الناس كان آنس. فكان القتال كذلك. وكان يوم عماس من أوّله إلى آخره شديدا، العجم والعرب فيه سواء، ولا يكون بينهم لفظة إلّا تعاورها الرجال حتى تبلغ يزدجرد، فكان يبعث إليهم بأهل النجدات ممن بقي عنده فيقوون بهم، وتجيئهم الأمداد على البرد. فلو لا الذي صنع القعقاع في اليومين، ومجيء هاشم بعقبه كسر ذلك المسلمين، وما كان عامّة جنن المسلمين إلّا براذع الرحال، قد أعرضوا فيها الجريد، ومن لم تكن له وقاية لرأسه، عصّب رأسه بالأنساع. وأبلى يومئذ قيس بن هبيرة بن مكشوح.
وقال عمرو بن معدى كرب: « إني حامل على الفيل بازائهم، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخّرتم فقدتم أبا ثور، وأين لكم مثل أبي ثور، وإن أدركتمونى وجدتمونى وفي يدي السيف. »! فحمل، فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار. فقال أصحابه: « ما تنتظرون؟ ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم. » فحلموا، فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه وإنّ سيفه لفي يده يضاربهم به، وقد طعن فرسه. فلمّا انفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس عليه فارسي، فحرّكه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت إلى عمرو، فهمّ به، فغشيه المسلمون. فنزل عنه، وحاضر إلى الفرس، وقال عمرو لأصحابه: « أمكنونى من لجامه. » فأمكنوه منه فركبه.
اتفاق جرى يوم عماس ويحذر أن يقع مثله
ومن الاتفاق الذي جرى في يوم عماس ويحذر أن يقع مثله: أنّ رجلا من الفرس خرج بين الصفّين فهدر وشقشق ودعا إلى البراز.
قال: فبرز رجل منّا يقال له: شبر بن علقمة، وكان قصيرا دميما، وقال: « يا معشر المسلمين! قد أنصفكم الرجل. » فلم يجبه ولم يخرج إليه أحد.
فقال: « أما والله، لولا أن يزدرونى لخرجت إليه. » فلمّا رأى أنّ المسلمين لا يمنعونه أخذ سيفه وحجفته، وتقدّم. فلمّا رآه الفارسي نزل إليه، فاحتمله، وجلس على صدره وأخذ سيفه ليذبحه وقد كان شدّ مقود فرسه بمنطقته. فلمّا سلّ السيف حاص الفرس حيصة، فجذبه المقود، فقلبه عنه. فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه. وجعل أصحابه يصيحون به، فقال: « صيحوا ما بدا لكم، فوالله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه. » فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعدا، فقال: « إذا كان حين الظهر فائتني. » فوافاه، فحمد سعد الله، وأثنى عليه، ثم قال: « إني قد رأيت أن أنفّله إيّاه، وكلّ من سلب سلبا فهو له. » فباعه باثنى عشر ألفا.
ما جرى في يوم عماس أيضا
ولما عادت الفيلة لفعلها يوم أرماث تفرّق بين الكتائب، راسل قوما ممن أسلموا من الفرس، فدخلوا عليه، فسألهم عن الفيلة: « هل لها مقاتل؟ » قالوا: « نعم! المشافر والعيون. لا ينتفع بها بعدها. » فأرسل إلى القعقاع وعاصم ابني مذعور: « اكفياني الأبيض. » وذاك أنّ الفيلة كانت تألفه، وكان بإزائهما، وأرسل إلى حمّال والربّيل: « اكفيانى الأجرب» - وكان بازائهما.
فأما القعقاع وعاصم فانّهما أخذا رمحين أصمّين ليّنين، ثم دبّا في خيل ورجل، وقالا: « اكتنفوه لتحيّروه. »
فنظر الفيل يمنة ويسرة وهما يريدان أن يخبط. فحمل القعقاع وعاصم - والفيل متشاغل بمن حوله - فوضعا رمحيهما في عيني الفيل الأبيض، فقبع، ونفض رأسه، فطرح ساسته، ودلّى مشفره، فبادره القعقاع، فنفحه بالسيف، فرمى به، وأقعى الفيل، فقتلوا من كان عليه.
وأما حمّال والربّيل فانّهما قالا: « يا معشر المسلمين، أيّ الموت أشدّ؟ » قالوا: « أن تشدّا على هذا الفيل. » قال: « فنزّقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بازائهم. فطعن أحدهما عينه فوطئ الفيل من خلفه، ويضرب الآخر مشفره، فيضربه سائس الفيل ضربة شانئة في وجهه بالطبرزين، فأفلت بها هو والربّيل، فبقى الفيل متلدّدا بين الصفّين كلّما أتى صفّ المسلمين وخزوه، وإذا أتى صفّ المشركين نخسوه، وصاح الفيلان صياحا عظيما. ثم ولّى الأجرب الذي عوّر، فوثب في العتيق فاتّبعته الفيلة فخرقت صفّ الأعاجم، وعبرت العتيق في إثره، فبيّتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظلّ، فتزاحفوا، واجتلدوا بالسيوف حتى أمسوا. فلمّا طعنوا في الليل اشتدّ القتال وصبر الفريقان، ولم يسمع إلّا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسمّيت « ليلة الهرير » لم يكن بعدها قتال بليل بالقادسيّة.
ثم إنّ سعدا وجّه طليحة وعمرو بن معدى كرب إلى مخاضة كانت أسفل منهم، وخشي أن يؤتى المسلمون منها بعبور الفرس، ووصّاهما أن يقفا هناك، فإن أحسّا بكيد أنذرا المسلمين. فانتهيا إلى هناك، فلم يجدا أحدا. فأمّا طليحة فرأى أن يعبر، وأمّا عمرو فقال: « ما أمرنا بذلك. » فعبر طليحة حتى إذا صار وراء صفّ المشركين كبّر ثلاث تكبيرات، فدهش القوم، وكفّوا عن الحرب لينظروا ما هو، وطلبوه فلم يدروا أين سلك! وسفل حتى غاص، وأقبل إلى العسكر فأتى سعدا خبره، فاشتدّ ذلك على الفرس، وفرح المسلمون. وقال طليحة للفرس: « لا تعدموا أمرا ضعضعكم. » ثم إنّهم عادوا، وجدّدوا تعبئة، وأخذوا في أمر لم يكونوا عليه في الأيام الثلاثة والمسلمون على تعبيتهم، فطاردهم فرسان العرب، فإذا القوم لا يشدّون، ولا يريدون إلّا الزحف فقدّموا صفا له أذنان، وأتبعوا آخر وآخر حتى تمّ صفوفهم ثلاثة عشر صفّا في القلب والمجنّبتين. فرماهم فرسان العسكر فلم يعطفهم ذلك. ثم لحقت بالفرسان الكتائب، فحمل القعقاع على ناحيته التي رمى بها مزدلفا. فقاموا على ساق والناس على راياتهم، بغير إذن سعد.
فقال سعد: « اللهمّ اغفرها له وانصره، وا تميماه سائر الليلة. » ثم قال: « إنّ الرأي ما رءاه القعقاع. فإذا كبّرت ثلاثا فاحملوا. » فلمّا كبّروا واحدة حملت أسد، فقال: اللهمّ اغفرها لهم وانصرهم. وا أسداه سائر الليلة. » ثم حمل الناس وعصوا سعدا. فقام قيس بن المكشوح في من يليه - ولم يشهد شيئا من لياليها إلّا تلك الليلة، لأنّه كان آخر من ورد مع هاشم - فقال: « إنّ عدوّكم قد أبي إلّا المزاحفة، والرأي رأى أميركم، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجل. » قال القوم: « إذا زحفوا وطاردهم عدوّهم على الخيل لا رجال معهم عفّروا بهم، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم. تيسّروا للحملة، وانتظروا التكبير. » - وإنّ نشّاب الأعاجم لتجوز صفّ المسلمين. » فتكلّم الرؤساء. فقال دريد بن كعب النخعي - وكان معه لواء النخع -: « إنّ المسلمين قد تهيّئوا للمزاحفة، فاستبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد، نافسوهم الشهادة، وطيبوا نفسا بالموت، فإنّه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلّا فالآخرة ما أردتم. » وتكلّم الأشعث بن قيس، فقال: « لا ينبغي أن يكون هؤلاء أجرأ على الموت منّا، ولا أسخى نفسا عن الدنيا، لا تجزعوا من القتل، فإنّه أمانيّ الكرام، ومنايا الشهداء. » وترجّل وتكلّم طليحة فقال مثل ذلك، وتكلّم غالب وحمّال وأهل النجدات، فقالوا قريبا من ذلك، وفعلوا فعلهم. وقامت حربهم على ساق، حتى الصباح.
فتلك ليلة الهرير.
وحكى أنس بن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قطّ، وانقطعت الأصوات عن رستم وسعد. فبعث سعد نجّارا - وهو غلام - إلى الصفّ لم يجد رسولا، فقال: « أنظر ما ترى من حالهم. » فرجع، فقال: « ما رأيت يا بنيّ؟ » قال: « رأيت قوما يلعبون ويجدّون. » فأوّل شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الأخير، صوت القعقاع بن عمرو، وهو يقول:
نحن قتلنا معشرا وزائدا ** أربعة وخمسة وواحدا
تحسب فوق اللّبد الأساودا ** حتى إذا ماتوا دعوت شاهدا
الله ربّى واحتردت جاهدا
وأصبحوا ليلة القادسية - وهي ليلة الهرير. سمّيت بليلة القادسية من بين تلك الليالي والأيّام - والناس حسرى لم يغمّضوا ليلتهم كلّها. فسار القعقاع في الناس، فقال: « إنّ الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم، فاصبروا فإنّ النصر مع الصبر. » فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، فصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه.
ولمّا رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث المكشوح، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدى كرب، وأشباههم، فحضّوا الناس وحرّضوا.
فكان أوّل من زال حين قام قائم الظهيرة الهرمزان والبندوان، فتأخّرا وثبتا حيث انتهيا. وانفرج القلب، وركد عليهم النقع، وهبّت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق وهي دبور، ومال الغبار عليهم. وانتهى القعقاع وأصحابه إلى السرير، فعبروا به، وقد قام رستم حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة. فاستظلّ في ظلّ بغل وحمله. فقصده هلال بن علّفة، وولّى عنه رستم، فاتبعه هلال، فرماه رستم، فشكّ قدمه في الركاب، وقال بالفارسية: « بباى. » - يقول: « كما أنت ارفق. » فحمل عليه هلال، فضربه ضربة نفحت مسكا. ومضى رستم نحو العتيق، فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه، فتناوله وقدم عام وهلال قائم. فأخذ رجله، ثم خرج به، وضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين يدي رحله وأرجل البغال، وأخذ سلبه، ثم صعد السرير، ونادى: « قتلت رستم وربّ الكعبة، إليّ إليّ! » فأطافوا به، وكبّروا وما يحسون السرير، ولا يرونه، وانهزم المشركون. وقام الجالنوس على الردم ونادى أهل فارس إلى العبور، وأسفر الغبار. فأما المقترنون فإنّهم جشعوا. فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم، فما أفلت منهم مخبر وهم ثلاثون ألفا.
درفش الكابيان وغيره من الأسلاب
وأخذ ضرار بن الخطّاب درفش الكابيان، فعوّض منها ثلاثين ألفا، وكانت قيمتها ألفي ألف ومائتي ألف. وجمعت الأسلاب والأموال، فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده.
وأرسل سعد إلى هلال، فدعى، فقال: « أين صاحبك؟ » قال: « رميت به تحت أبغل كانت هنالك. » قال: « اذهب، وجئ به. » فأمضى له سلبه. وبعث زهرة بن الحويّة يتبع الجالنوس ومن لحق به، وأمر القعقاع بمن سفل، وشرحبيل بمن علا. وأمر بدفن الشهداء. فخرج زهرة بن الحويّة في آثارهم. فلمّا انتهى إلى الردم وجده مبثوقا، ليمنعوهم من الطلب. فقال زهرة: « يا بكير - وكان معه - أقدم فرسك! » وكان بكير يقاتل على الإناث، وقال: « ثبى أطلال! » فتجمّعت ووثبت. وأوثب زهرة فرسه - وكان على حصان - فاتبعه وتتابع على ذلك ثلاثمائة فارس. ونادى زهرة حين كاعت الخيل: « خذوا أيها الناس على القنطرة فعارضونا! » ففعل الناس ذلك ومضى زهرة، فلحق الفرس، وقد نزلوا الخرّارة وطمعوا، وهم يتعجّبون من رميهم وأنّه لم يعمل في العرب. وكان الجالنوس قد رفع له كرة، فهو يرميها ويشكّها بالنشّاب. فشدّ زهرة على الجالنوس، فقتله، وانهزمت الفرس.
وقد قيل: إنّ الجالنوس كان راكبا يحمى الفرس حين لحقهم زهرة، فشاوله، واختلفا ضربتين سبقه زهرة، فقتله.
وأمّا القعقاع وشرحبيل فإنّهما خرجا في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كلّ قرية وأجمة وشاطئ نهر، وراجعوا. فتوافوا عند صلاة الظهر، وهنّأ الناس بعضهم بعضا، وأثنى سعد على كلّ حيّ، وذكر خيرا.
وتدرّع زهرة ما كان على الجالنوس، فبلغ بضعة وسبعين ألفا. فلمّا رجع إلى سعد نزع سلبه وقال: « ألا انتظرت إذنى؟ » فكتب عمر إلى سعد: « تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وقد بقي من حربك ما بقي، تكسر قوّته، وتفسد قلبه! أمض له سلبه، وفضّله عند العطاء بخمسمائة. » وقد حكى أنّ عامة من شهد القادسية فضّلوا عند العطاء بخمسمائة. وأمّا أهل الأيّام، فإنّهم فضّلوا على أهل القادسية، فإنّهم فرض لهم على ثلاثة آلاف.
فقيل لعمر: « لو ألحقت بهم أهل القادسية، أو فضّلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه. » فقال: « كيف أفضّلهم وهم شجى العدوّ، فهلّا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوهم بفنائهم مثل هذا. » فحكى عن رجل من عبس قال: أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما لم يصب الناس قبلهم. لقد كان الرجل من المسلمين يدعو الفارس منهم وعليه السلاح التامّ، فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه ويأخذ سلاحه، وربما قتله بسلاحه، وربما أمر الرجلين أحدهما بصاحبه، وكذلك في العدّة. وكان ممن هرب: الهرمزان، وقارن، وأهود.
وكان ممن استقتل: شهريار بن كنارا، وابن الهربذ، والفرّخان، وخسروشنوم.
وباع هلال بن علّفة سلب رستم - وكان تخفّف لما وقع في الماء - بسبعين ألفا، وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف لو ظفر بها.
وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد، فقالوا: « أيها الأمير، رأينا جسد رستم على باب قصرك، وعليه رأس غيره. » وكان الضرب قد شوّهه، فضحك.
ومن أنباء الشام
وأما جند الشام فإنّ حمص افتتحت، وتوجّه علقمة إلى غزّة، وتوجّه معاوية إلى قيساريّة، وصمد عمرو بن العاص إلى الأرطبون بأجنادين، وكان الأرطبون أدهى الروم، أبعدها غورا، وأذكاها فعلا، وكان على الروم، وقد وضع بالرملة جندا عظيما، وكتب عمرو إلى عمر [ بالخبر ].
فقال عمر: « قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عمّا تنفرج. »
ذكر خديعة عمرو لأرطبون
وجعل عمرو ينفذ إلى الأرطبون رسلا فلا يشفونه. ولا يقدرون من أرطبون على سقطة. فعزم على أن يتولّاه بنفسه، فدخل عليه كأنّه رسول. فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه، وتأمّل حصونه حتى عرف ما أراد.
وقال أرطبون في نفسه: « والله إنّ هذا لعمرو، أو الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأعظم عليهم من قتله. »
ثم دعا حرسيّا، فسارّه بقتله، وقال: « اخرج بمكان كذا وكذا، فإذا مرّ بك هذا فاقتله. » وفطن له عمرو فقال: « قد سمعت مني وسمعت منك. فأمّا ما قلت فقد وقع مني موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطّاب مع هذا الوالي لنكاتفه ويشهدنا أموره. فأرجع، فآتيك بهم الآن. فإذا رأوا في الذي عرضت مثل رأيي فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك. » فقال: « نعم. » ودعا رجلا، فسارّه وقال: « اذهب إلى فلان فردّه إليّ. » فرجع الرجل. وقال لعمرو: « انطلق، فجئ بأصحابك. » فخرج عمرو ورأى ألّا يعود لمثلها، وعلم الرومي أنّه قد خدعه. فقال: « خدعني الرجل. هذا أدهى الخلق. » فبلغت عمر فقال: « خدعه عمرو وغلبه. لله عمرو. »
سعد بن أبي وقاص يقدم زهرة إلى بهرسير
ثم إنّ سعد بن أبي وقاص قدّم زهرة بهرسير. فمضى زهرة من كوثى في المقدّمات حتى نزل بهرسير، فتلقاه شيرزاد بساباط بالصلح وتأدية الجزى.
فأمضاه إلى سعد، فأقبل معه وتبعته المجنّبات. وخرج هاشم وخرج سعد في إثره وقد فلّ زهرة كتيبة كسرى بوران [ حول ] المظلم، وانتهى هاشم إلى مظلم ساباط، ووقف لسعد حتى لحق به، وكانت به كتائب كسرى تدعى: « الأسود »، يحلفون بالله كلّ يوم: « لا يزول ملك فارس ما عشنا. » فتنادوا ورئيسهم المقرّط. وقال المقرّط: « إليّ إليّ. » وذلك لما انتهى إليه. فنزل إليه هاشم فقتله. فقبّل سعد رأس هاشم، وقبّل هاشم قدم سعد. وقدم سعد إلى بهرسير، فنزل إلى المظلم وقرأ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ من قَبْلُ ما لَكُمْ من زَوالٍ. ثم ارتحل فنزل بهرسير. وجعل المسلمون كلّما قامت طائفة على بهرسير، وقفوا، ثم كبّروا كذلك، حتى انجرّ آخر من مع سعد، فكان مقامه على بهرسير شهرين. وعبروا في الثالث، وذلك أنّهم أقاموا شهرين يرمونهم بالمجانيق، ويدبّون إليهم بالدبابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة. وكان سعد استصنع شيرزاد عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها. وكانت العرب مطيفة ببهرسير والعجم متحصّنة فيها. وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في العدّة والعديد لقتال المسلمين، فلا يقومون لهم. فكان آخر ما خرجوا في رجّالة، وناشبة تجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون ولم يلبّثوهم، فكذبوا وتولّوا.
ذكر استهانة في الحرب عادت بهلكة
هكذا وجدت في التاريخ وهو سهو، لأنّ زهرة بن الحويّة عاش بعد هذا، وشهد مواقف كثيرة، وسيرد جميعه على الأثر. ولعلّ هذا زهرة بن خالد، فلينظر في ذلك.
كان في ذلك اليوم على زهرة بن الحويّة درع مفصومة، فقيل له: « لو أمرت بهذا الفصم فسرد. » فقال: « ولم؟ » قال: « نخاف عليك منه. » قال: « إني لكريم على الله، إن ترك سهم فارس الجند كلّهم، ثم أتانى من هذا الفصم حتى يثبت في. » فكان أول رجل من المسلمين يومئذ أصيب هو بنشّابة ثبتت فيه من ذلك الفصم.
فقال بعضهم: « انزعوها عنه. » فقال: « دعوني، فإن نفسي معي ما دامت في، لعلّى أصيب منهم بطعنة، أو ضربة، أو خطوة. » فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل، وانكشفوا. وتنادى أهل بهرسير، فعبروا. فلمّا رآهم سعد والمسلمون يعبرون، زحفوا إلى السور والمجانيق تأخذه. فناداهم رجل: « الأمان ». فآمنوه، فقال: « أيّ شيء ترمون؟ ما بقي في المدينة أحد. » فتسوّروا، ودخلوا بهرسير، وفتحوا أبوابها، وتحوّل العسكر إليها، وحاولوا العبور، فوجدوهم قد ضمّوا السفن إليهم في ما بين البطائح وتكريت.
بهرسير وأبيض كسرى
ولما دخل المسلمون بهرسير لاح لهم الأبيض. فقال ضرار بن الخطّاب: « الله أكبر، هذا ما وعد الله ورسوله: أبيض كسرى. » والله لتتابعوا بالتكبير حتى أصبحوا. وخبّرهم ذلك الرجل الذي نادى بالأمان: أنّكم حصرتم القوم حتى أكلوا الكلاب والسنانير.
ولمّا نزل سعد بهرسير - وهي المدينة التي كان فيها منزل كسرى - طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شيء، وأقام أيّاما يصعّد ويصوّب. فأتاه أعلاج يدلّونه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وأبقى على المسلمين وفجئهم المدّ، فرأوا أمرا هائلا في سنة جود صيفها متتابع.
فجمع سعد الناس وخطبهم وقال بعد حمد الله: « إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، وقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم. وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدوّ بنيّاتكم قبل أن تحصدكم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. » فقالوا جميعا: « عزم الله لنا ولك على الرشد. » فندب سعد الناس إلى العبور، فقال: « من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى لا يتلاحقوا ويلحق الناس، فلا يمنعوا من الخروج من الماء؟ ».
فانتدب له عاصم بن عمرو وجماعة من ذوي البأس. ثم انتدب بعدهم ستمائة من أهل النجدات. فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة، وقال: « من ينتدب معي لمنع الفراض من عدوّكم لنحميكم حتى تعبروا؟ » فانتدب له ستون، فجعل نصفهم على خيول إناث، ونصفهم على ذكورة. ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقيّة الستمائة على أثرهم. فكان أول من فصل من الستمائة، رجل يعرف بأصمّ التيم وشرحبيل وعدّة من معه.
فلمّا رآهم الفرس وما صنعوا، أعدّوا للخيل التي عبرت مثلها، فاقتحموا دجلة فأعاموها إليهم. فقال عاصم وقد لقوه في السرعان وقد دنا من الفرضة: « الرماح، الرماح أشرعوها، وتوخّوا بها العيون ».
فالتقوا، وتوخّى المسلمون عيونهم. فولّوا بأجمعهم والمسلمون يشمّصون بهم خيلهم ما يملك رجالها منع شيء منها، فلحقوهم في الجدّ فقتلوا عامّتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم الخيل، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين، وأذن سعد للناس في الاقتحام وأمرهم بالاقتران، فتلاحق عظم الجند، فركبوا من دجلة اللجّة وإنّها لترمى بالزبد وهي مسودّة، وإنّ الناس ليتحدّثون في عومهم، وقد اقترنوا ما يكترثون، كما يتحدّثون في مسيرهم على الأرض. ففجئوا أهل فارس بما لم يكن في حسابهم، فأعجلوهم عن جمهور أموالهم.
وكان يزدجرد قد قدّم عياله وما خفّ من ذخائره معهم حين نزل المسلمون بهر سير إلى حلوان. وبلغ ذلك سعدا. جاءه بالخبر بعض الأعلاج وقال: « ما تنتظر إذا كان بعد ثلاث لم يبق بالمدائن مال لكسرى، ولا لأهله ».
فكان ذلك مما هيّج سعدا وحمله على ما فعل. فكان قرين سعد الذي يسايره في الماء سلمان الفارسيّ، وكان سفيرهم، والمترجم لهم وعنهم.
وحكي: أنّ ذلك الخيل عبر بأجمعه، وقد اسودّت منه دجلة حتى ما يرى الماء، فسلموا بأجمعهم، ما فقدوا رجلا واحدا، ولا أداة. غير أنّ رجلا كانت له علاقة في قدح رثّة، فانقطعت، وذهب القدح في الماء، والتقطه رجل من الماء كان أسفل، تناوله برمحه، وجاء به إلى العسكر يعرّفه، فأخذه صاحبه.
وزال رجل من بارق يومئذ يدعى غرقدة عن ظهر فرس له شقراء، فنظر إليها المسلمون عريا تنفض أعرافها والغريق طاف، فثنّى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فأخذ بيده، وجرّه حتى عبر، وكان البارقيّ من أشدّ الناس، فقال: أعجزت الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع؟ » - وكان للقعقاع فيهم خؤولة.
وما زالت حماة فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال:
« علام تقاتلون، ولم تقتلون أنفسكم؟ فوالله ما في المدائن أحد. »
مبادرة يزدجرد إلى حلوان
وبادر يزدجرد إلى حلوان، وخلّف مهران الرازي والنخيرجان - وكان على بيت المال بالنهروان - وخرجت الفرس بما قدرت عليه من حرّ المتاع وخفيفه وبالنساء والذراريّ، وتركوا في الخزائن من الثياب، والأمتعة والآنية، والفضول، والألطاف، والعطر، ما لا يدرى: ما قيمته. وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من الأطعمة، والأشربة، وأصناف المأكول والحيوان من البقر، والغنم.
دخول المدائن
فدخل المسلمون المدائن، وأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه، إلّا من كان في القصر الأبيض. فأحيط بهم ودعوهم. وكانوا قد اتعظوا بأهل بهرسير. وذلك أنّ المسلمين لما نزلوا عليهم أجّلوهم ثلاثا، ودعوهم إلى ثلاث خصال: إمّا الإسلام، وإمّا الجزية، وإمّا الحرب. فلما لم يجيبوا في [ اليوم ] الثالث أبادوهم. ولما دعوا أهل القصر الأبيض إلى مثل ذلك اختاروا الجزية. وكان المخاطب لهم سلمان الفارسي.
وملك المسلمون الغنائم، واحتوى سعد على بيوت المال، فوجد فيها ثلاثة آلاف ألف ألف. فنزل سعد القصر الأبيض، واتّخذ الإيوان مصلّى. وقدّم جيشا إلى النهروان، عليهم زهرة، وتراجع إلى المدائن أهلها على الأمان والرضا بالجزية.
ووجدوا بالمدائن قبابا تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، قالوا: فما حسبناها إلّا طعاما من حلواء، فإذا هي آنية الذهب والفضّة! وقسمت بعد في الناس.
قال حبيب: لقد رأيت رجلا يطوف ويقول: « من معه بيضاء بصفراء. » ولقد أتينا على كافور كثير. فما حسبناه إلّا ملحا، فجعلنا نعجّن به الدقيق حتى وجدنا مرارته في الخبز! ولما انتهى زهرة في المقدمة إلى النهروان وجدهم قد ازدحموا، فوقع بغل في الماء كلبوا عليه. فقال زهرة: « إني أقسم بالله انّ لهذا البغل لشأنا ما كلب عليه القوم، ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلّا لأمر. » وإذا الذي عليه خرزات كسرى ووشائحه، وعليها من الجواهر ما لا تعرف قيمته، وكان يجلس فيها يوم المباهاة.
فترجّل زهرة يومئذ حتى أزاحهم عن البغل، فاحتمله هو وأصحابه، وجاءوا بما عليه إلى صاحب الأقباض، لا يدرون ما عليه حتى فتح هناك.
تاج كسرى وأدراعه
وحكى هبيرة بن الأشعث عن جدّه قال:
كنت ممن خرج في الطلب، فإذا ببغلين فذاد راكباهما عنهما بالنشّاب، ونظرت، وإذا لم يبق معهما غير نشّابين. فألححت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: « على ما أرى، ارمه وأحميك، أو أرميه واحمنى! » فحمى كلّ واحد منهما صاحبه حتى رميا بهما. ثم إني حملت عليهما، فقتلتهما، وجئت بالبغلين ما أدري ما عليهما، حتى أتيت بهما صاحب الأقباض وإذا هو يكتب ما يأتى به الناس وما يجمع من الخزائن والدور، فقال: « على رسلك حتى ننظر ما معك! » فأطلت الوقوف بعد ما حصلت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسّخا، وكان لا يحمله إلّا أسطوانتان، وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى منسوجة بالذهب المنظوم بالجوهر.
وخرج القعقاع بن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسيّ يحمى الناس، فاقتتلا، فقتله، وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان، وفي أحد الغلافين خمسة أسياف، وفي الآخر ستة أسياف، وإذا في إحدى العيبتين أدراع: درع كسرى، ومغافره، وساقاه، وساعده، ودرع هرقل، وفي الآخر درع سياوخش، ودرع خاقان، ودرع داهر، ودرع بهرام شوبين، ودرع النعمان، وكان الفرس استلبوها من أربابها أيام خالفوا كسرى.
وحكى عاصم بن الحارث قال: خرجت في الطلب. فأخذت طريقا مسلوكا، وإذا حمار. فلمّا رآني صاحبه حثّه، فلحق بآخر أمامه، فمالا، وحثّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرّقا ورمانى أحدهما، فألظظت حتى قتلته، وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض.
فنظرنا، فإذا على أحدهما سفطان، في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضّة، على ثفره ولببه الياقوت والزمرّد منظوما على الفضّة، ولجامه كذلك، وفارس من فضّة مكلّل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضّة عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب، ولهما شناق أو زمام من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالجوهر، وإذا عليها رجل من ذهب مكلّل بالياقوت كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتى التاج.
وحكى غيره: أنّ رجلا أقبل بحقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال هو والذين معه: « ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. » ثم سألوه عن نفسه، فأبى أن يخبرهم، وقال: « لا والله، لا أخبركم لتحمدونى، ولا لتقرّظونى، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. » وقال سعد: « لولا ما سبق به أهل بدر، لقلت: إنكم أفضل منهم وأكرم وأيم الله، لقد تتبّعت من أهل بدر هنات وهنات فيما أحرزوا، وما أحسّها ولا أسمعها من هؤلاء القوم.
وقال جابر بن عبد الله: « والله الذي لا إله إلّا هو، ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسية أنّه يريد الدنيا مع الآخرة. ولقد اتّهمنا ثلاثة أنفس فما رأينا كأمانتهم وزهدهم وورعهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معدى كرب، وقيس بن المكشوح. »
عمر وتاج كسرى
ولما قدم على عمر بن الخطّاب بتاج كسرى وبزّته، وزبرجه، ومنطقته، وسلاحه، قال: « إنّ قوما أدّوا هذا لذو أمانة. » فقال عليّ صلوات الله عليه: « إنّك عففت فعفّت الرعيّة. » ولما قسم سعد الفيء أصاب الفارس اثنا عشر ألف درهم، وكلّهم كان فارسا يوم المدائن، وليس فيهم راجل، وكانت الجنائب كثيرة. ولما نزل سعد المدائن بعث إلى العيالات، فأنزلهم الدور وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء، وحلوان، وتكريت، والموصل. ثم تحوّلوا إلى الكوفة.
بساط يساوى جريبا
ولما قسم سعد الفيء أخذ يسأل بعد القسم وإخراج الخمس [ عن ] القطف، فلم تعدل قيمته، فقال للمسلمين: « هل لكم في أن نطيب نفسا عن أربعة أخماسه ونبعث به إلى عمر، فيضعه حيث يرى، فانّا لا نراه ينفق بيننا؟ » فقالوا: « نعم، هاء الله إذا. » فبعث. وكان ستّين ذراعا في ستّين ذراعا، بساطا واحدا مقدار جريب، فيه طرق كالصور، وفصوص كالأنهار، وخلال ذلك كالدير، وفي حافاته كالأرض المزروعة المبقلة بالنبات، وعليه ما كانوا يعدّونه في الشتاء، إذا ذهبت الرياحين، وكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه، وكأنّهم في رياض، لأنّ الأرض - أرض البساط - مذهّب، ووشيه فصوص، وعليه قضبان الذهب، عليها أنوار من الذهب والفضة، وأوراق كذلك من حرير قد أجرى فيه ماء الذهب، وكانت العرب تسميه القطف.
فلما قدم به على عمر جمع الناس، وخطبهم، واستشارهم في البساط، وأخبرهم خبره. فاختلف عليه الناس، فمن مشير بقبضه وآخر مفوّض إليه، وآخر مرقّق.
فقام عليّ ﵇ فقال: « لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا؟ إنّك إن تقبله على هذا، اليوم، لم تعدم في غد من يستحلّ به ما ليس له. » فقال: « صدقتني ونصحتني. » فقطعه وقسمه. وأصاب عليّا قطعة منه باعها بعشرين ألفا، وما هي بأجود تلك القطع.
زي كسرى على محلم
ولما عرض على عمر - رضي الله عنه - حليّ كسرى وزيّه في المباهاة - وكانت له عدّة أزياء لكلّ حالة زيّ - قال: « عليّ بمحلّم. » وكان أجسم عربيّ يومئذ بالمدينة، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب وصبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس. فنظر إليه عمر والناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها. ثم أقيم عن ذلك، وألبس زيّه الآخر، فنظروا إليه، ثم كذلك في غير نوع حتى أتى عليها كلّها، ثم ألبسه سلاحه، وقلّده سيفه، فنظروا إليه في ذلك.
فقال عمر: « إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة. » قال: « أحمق بامرئ من المسلمين غرّته الدنيا، هل يبلغنّ مغرور منها إلّا دون هذا؟ وما خير امرئ مسلم سبقه كسرى فيما يضرّه ولا ينفعه. إنّ كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتى عن آخرته، فجمع لزوج امرأته، أو زوج ابنته، أو امرأة ابنه، ولم يقدّم لنفسه، فقدّم امرؤ لنفسه، ووضع الفضول مواضعها تحصل له، وإلّا حصلت للثلاثة بعده، وأحمق من جمع لهم أو لعدوّ جارف. »
وقعة جلولاء
ثم إنّ سعدا أتاه الخبر بأنّ مهران قد عسكر بجلولاء وخندق عليه، وأنّ أهل الموصل قد عسكروا بتكريت. وكتب إلى عمر بذلك. فكتب إليه عمر:
« قدّم هاشما إلى جلولاء في اثنى عشر ألفا من وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتدّ، ومن لم يرتدّ، واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو. »
وكان الفرس لما انتهوا بعد الحرب من المدائن إلى جلولاء، رأوا الطريق يفترق بأهل آذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس. فتذامروا، وقال بعضهم لبعض:
« يا معشر الفرس، إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، هذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا، فلنجتمع للعرب به، ولنقاتلهم بجميع عزائمنا. فإن كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى، كنّا قد أبلينا العذر. »
فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه، على مهران، ونفذ يزدجرد إلى حلوان، ورماهم بالرجال، وخلّف فيهم الأموال. فأقاموا في خندقهم وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلّا طرقهم.
فلمّا قدم هاشم أحاط بهم، وطاولهم أهل فارس، وكانوا لا يخرجون إلّا إذا أرادوا. وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفا كلّ ينصر المسلمون، ويغلب المشركون، حتى غلبوهم على حسك الخشب، فاتخذوا حسك الحديد، وتركوا للمجال وجها. فخرجوا على المسلمين منه، واقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير، إلّا أنّه كان أكمش وأعجل، ولم ير المسلمون ولا المشركون مثله في موطن قطّ حتى أنفذوا النبل، وقصفوا الرماح، وصاروا إلى السيوف والطبرزينات، فكانوا بذلك إلى بين الصلاتين، وصلّى الناس إيماء.
ثم خنست كتيبة للمشركين وجاءت أخرى، فوقفت مكانها، ثم كذلك، فكسر المسلمين ما رأوا.
فقال القعقاع بن عمرو: « أيها الناس، أهالتكم هذه؟ » فقالوا: « وكيف لا يهولنا ونحن مكلّون وهم مريحون. » فقال القعقاع: « اصبروا إلى الساعة، فإني حامل عليهم، فاحتملوا معي ولا يكذّبنّ أحد حتى يحكم الله بيننا. » ثم حمل، وحمل معه الناس، وانتهى بالقعقاع وجهه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذه. وأمر مناديا فنادى: « يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل الخندق وأخذ به، فأقبلوا إليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله. » وإنّما أمر بذلك ليقوّى المسلمين به، ولئلّا يتحاجزوا. فحمل المسلمون ولا يشكّون إلّا أنّ هاشما في الخندق. فلم يقم لحملتهم شيء، حتى انتهوا إلى باب الخندق فإذا هم بالقعقاع قد أخذ به، والمشركون يمنة ويسرة على المجال الذي بحيال خندقهم. فهلكوا فيما أعدّوا للمسلمين من الحسك، وعقرت دوابّهم وعادوا رجّالة، ويتّبعهم المسلمون. فلم يفلت إلّا من لا يعدّ، وقتل منهم يومئذ مائة ألف أو يزيدون، فجلّلت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسمّيت: « جلولاء الوقيعة ». واقتسم الناس في جلولاء مثل ما اقتسموا في المدائن. ويقال: إنّهم اقتسموا على ثلاثين ألف ألف، وكان الخمس منه ستة ألف ألف. واقتسم السبايا، فاتخذن، وولدن في المسلمين.
استيذان عمر في الإنسياح
ولما بلغت الهزيمة يزدجرد، سار من حلوان نحو الجبل، وقدم القعقاع حلوان.
وكوتب عمر بفتح جلولاء ونزول القعقاع حلوان، واستأذنوه في اتّباعهم، فقال: « وددت أن بين السواد وبين الجبل سدّا من نار لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم. حسبنا من الريف السواد. إني قد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال. » وبعث بالأخماس مع جماعة فيهم زياد بن أبي سفيان، وكان هو الذي يكتب للناس ويدوّنهم.
فلمّا قدموا على عمر، كلّم زياد عمر فيما جاء له من الاستيذان في التقدّم، ووصف له الحال.
فقال عمر: « هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلّمتنى به؟ » فقال: « والله، ما على الأرض شخص أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى على هذا من غيرك! » فقام في الناس بما أصابوا، وبما صنعوا، وبجميع ما يستأذنون فيه من الإنسياح في البلاد.
فقال عمر: « هذا الخطيب المصقع. » وقال: « إنّ جندنا بالفعال أطلقوا ألسنتنا بالمقال. » ثم إنّ عمر لما نظر إلى الأخماس المحمولة من جلولاء قال: « والله، لا يحمّنّه سقف بيت حتى أقسمه. » فبات عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في سقف المسجد.
فلمّا أصبح جاء في الناس، فكشف عنه الأنطاع. فلمّا نظر إلى ياقوته، وزبرجده، وجوهره، بكى.
فقال له عبد الرحمن: « ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله، إنّ هذا لموطن شكر وسرور. »
فقال عمر: « ما ذا يبكيني؟ والله، ما أعطى الله هذا قوما إلّا تحاسدوا، وتباغضوا. ولا تحاسدوا إلّا وقع بأسهم بينهم. » ولما فرض عمر العطاء، قال قائل: « يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال عدّة لكون إن كان. » فقال: « كلمة ألقاها الشيطان على فيك، وقاني الله شرّها، وهي فتنة لمن بعدي. بل أعدّ لهم ما أعدّ الله ورسوله. طاعة الله ورسوله، فهما عدّتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون. »
ما عامل به عمر خالد بن الوليد
وفي سنة سبع عشرة، أدرب خالد بن الوليد وعياض، وكان خالد على قنّسرين من تحت يد أبي عبيدة، فأصابوا أموالا عظيمة. فانتجع خالدا رجال.
وكان الأشعث بن قيس فيمن انتجع خالدا بقنّسرين، فأجازه بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، فكتب إليه بخروج من خرج من تلك الغزاة من الشام، وبجائزة من أجيز.
فدعا البريد وكتب معه إلى أبي عبيدة:
أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث: أمن ماله، أم من إصابة، فإن زعم أنّها من إصابة أصابها، فقد أقرّ بخيانة، وإن زعم أنّها من ماله، فقد أسرف، فاعزله على كلّ حال، واضمم إليك عمله.
فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه. ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد، فقال: « يا خالد! أمن مالك أجزت بعشرة آلاف، أم من إصابة؟ » فلم يجبه حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا.
فقال بلال بعد أن قام إليه: « إنّ أمير المؤمنين أمر بكذا وكذا. » وتناول عمامته فنقضها، لا يمنعه سمعا وطاعة. ووضع قلنسوته، ثم أقامه، فعقله بعمامته وقال: « ما تقول، أمن مالك، أم من أصابة؟ » قال: « لا. بل من مالي. » فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثم عممه بيده وقال: « نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا. » وأقام خالد متحيّرا لا يدرى: أمعزول أم غير معزول. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويزيده تفخيما ولا يخبره. فلمّا طال على عمر أن يقدم خالد، ظنّ الذي كان.
فكتب إليه بالإقبال.
فأتى خالد أبا عبيدة، فقال: « رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت؟ كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعرفه قبل اليوم. » فقال أبو عبيدة: « إني والله ما كنت لأروعك: ما وجدت بدّا، وقد علمت أنّ ذلك يروعك. » فرجع خالد إلى قنّسرين فخطب أهل عمله، وودّعهم، وتحمّل، ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه، وقال: « لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله، إنّك في أمري غير مجمل يا عمر. » فقال له عمر: « من أين هذا الثراء؟ » قال: « من الأنفال والسّهمان. » ثم أخذ منه عشرين ألف درهم، فأدخلها بيت المال. ثم قال: « يا خالد، والله إنّك عليّ لكريم، وإنّك إليّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. »
وكتب عمر في الأمصار:
« إني لم أعزل خالدا عن سخط ولا خيانة ولكنّ المسلمين فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا [ به ] وأحببت أن تعلموا أنّ الله هو الصانع، وألّا نكون بعرض فتنة. »
وحجّ عمر في هذه السنة، وبنى المسجد الحرام، ووسّع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها.
علاء بن الحضرمي وعاقبة عصيانه
وكان علاء بن الحضرمي بالبحرين واليا من قبل أبي بكر ثم من قبل عمر وكان يبارى سعدا، فطال العلاء على سعد في الردّة بالفضل. فلمّا ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة، وأخذ حدود ما يلي السواد وغيرها، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، أحبّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، ورجا أن يدال كما قد أديل.
ولم ينظر العلاء في ما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ. وكان عمر لما ولّاه نهاه عن البحر، فلم يفكّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، وطمع في فارس من جهته.
فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا: على أحدها الجاورد بن المعلّى، وعلى الآخر السوار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جماعة الناس. فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر وبازائهم أهل فارس وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم.
فقام خليد في الناس فقال:
« أمّا بعد، فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى يصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنّما جئتم لمحاربتهم والأرض والسفن لمن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة. »
فأجابوه إلى ذلك وصلّوا الظهر، ثم ناهدوهم في موضع يقال له: طاؤوس.
فقتل جماعة من المسلمين فيهم السوار والمنذر بن الجارود. وتزجّل خليد بن المنذر وارتجز:
يال تميم جمّعوا النزول ** قد كاد جيش عمر يزول
وكلّكم يعلم ما أقول
« وانزلوا! » فنزلوا، فقاتلوا القوم، فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها، وهزم الباقون. ثم خرجوا يريدون البصرة، فغرقت سفنهم ولم يجدوا إلى الرجوع سبيلا. فوجدوا سهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم ذلك.
وبلغ عمر ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر، فألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إليه بعزله، وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وقال له:
« الحق بسعد بن أبي وقّاص في من قبلك، فهو أمير عليك. » فخرج بمن معه نحو سعد.
وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان:
« انّ العلاء بن الحضرمي حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنّه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم ألّا ينصروا، وأن يغلبوا، وينشبوا. فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا. »
فندب عتبة الناس إليهم وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة وجماعة يجرون مجراهم كالأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وصعصعة بن معاوية، فخرجوا في اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم. فسار أبو سبرة بالناس وساحل لا يلقاه أحد ولا تعرّض له حتى التقى مع خليد، بحيث أخذ عليهم الطريق غبّ وقعة القوم بطاؤوس، وإنّما كان ولى قتالهم أهل إصطخر والشذّاذ من غيرهم، وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا بالطرق على المسلمين وأنشبوهم، استصرخوا أهل فارس كلهم، فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة.
فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاؤوس وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم، وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين سهرك. فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا، وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا.
وكتب إليهم عتبة بالحثّ وقلّة العرجة، فانضمّوا إليه بالبصرة، وقبل ذلك فتح عتبة الأهواز، وقاتل فيها الهرمزان حتى ظفر به بتستر بعد وقعات أسر في آخرها الهرمزان وأعطى بيده على الرضا بحكم عمر. وقتل الهرمزان بيده البراء بن مالك ومجزأة بن ثور.
إرسال الهرمزان إلى المدينة
ووفد أبو سبرة وفدا فيهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس. فأرسل الهرمزان معهم فقدموا مع أبي موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة.
فلما دخلوها هيّأوا الهرمزان في هيأته، وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى ال « آذين » مكلّلا بالياقوت، وعليه حليته كي ما يراه عمر والمسلمون. ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله، فلم يجدوه. فسألوا عنه، فقيل لهم: « جلس في المسجد. » ولم يروه. فلمّا انصرفوا، مرّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون.
فقالوا لهم: « ما تلدّدكم، تريدون أمير المؤمنين؟ فإنّه نائم في ميمنة المسجد، متوسّد برنسه. » وكان عمر جلس لوفد الكوفة في برنس. فلمّا فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه، نزع برنسه، ثم توسّده فنام.
فانطلقوا ومعهم النظّارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرّة في يده معلّقها.
فقال الهرمزان: « أين عمر؟ » قالوا: « ها هو ذا! » وجعل الوفد يشيرون إلى الناس: أن اسكتوا عنه. وأصغى الهرمزان إلى الوفد.
فقال: « أين حرسه وحجّابه عنه؟ » قالوا: « ليس له حاجب ولا حارس ولا كاتب ولا ديوان. »
قال: « فينبغي أن يكون نبيا. » فقالوا: « لا، ولكنّه يعمل عمل الأنبياء. »
وكثر الناس وكلامهم، فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا. ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: « الهرمزان؟ » فقالوا: « نعم! » فتأمله، وتأمّل ما عليه، ثم قال: « أعوذ بالله من النار، الحمد لله الذي أذلّ بالإسلام هذا وأشياعه. يا معشر المسلمين! تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنّكم الدنيا، فإنّها غرّارة. » فقال الوفد: « هذا ملك الأهواز، فكلّمه! » قال: « لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء. »
فرمى عنه بكلّ شيء إلّا ما يستره، فألبسوه ثوبا صفيقا.
فقال عمر: « هي يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ » فقال: « يا عمر! إنّا وإيّاكم في الجاهلية كان الله خلّى بيننا وبينكم، فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمّا صار معكم غلبتمونا. » فقال عمر: « إنّما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرّقنا. »
ذكر خديعة للهرمزان وحيلة له حتى آمنه عمر
ثم قال عمر: « ما عذرك وما حجّتك في انتقاضك مرّة بعد مرّة؟ » فقال: « أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك. »
قال: « لا تخف ذلك. » واستسقى ماء، فأتى به في قدح. فقال: « لو متّ عطشا لم أستطع الشرب في مثل هذا. » فأتى به في إناء يرضاه. فجعلت يده ترعد، وقال: « إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب. » فقال له عمر: « لا تخف، فلا بأس عليك حتى تشربه. » فألقاه. فقال عمر: « أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش. » فقال: « لا حاجة لي في الماء، إنّما أردت أن أستأمن به. »! فقال له عمر: « إني قاتلك. » قال: « قد آمنتنى. » فقال: « كذبت. » فقال أنس: « صدق يا أمير المؤمنين »! فقال: « ويحك! أنا أومن قاتل مجزأة والبراء؟ لتأتينّى بمخرج ما قتلت! » قال: « قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني. وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه. » وقال جلّة الصحابة ممن حوله مثل ذلك.
فأقبل على الهرمزان وقال: « تكلّم بحجّتك. » قال: « كلام حيّ أم كلام ميّت؟ » قال: « بل كلام حيّ. » قال: « قد آمنتنى ثالثة. »
قال عمر: « خدعتني! لا والله، لا أومنك إلّا أن تسلم. » فقيل له: « أسلم! وإلّا قتلت. » فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة.
عمر واللغة الفارسية
وكان المغيرة بن شعبة يترجم بينهما إلى أن حضر الترجمان.
فقال عمر للمغيرة: « سله: من أيّة أرض أنت؟ » فقال المغيرة: « أز كذام أرضيه؟ » فقال: « مهرجانيّ. » وكان المغيرة يفقه شيئا [ من الفارسيّة ].
فقال له عمر: « ما أراك حاذقا بها. ما أحسنها منكم أحد إلّا خبّ، وما خبّ إلّا دقّ. إيّاكم وإيّاها، فإنّها تنقص الإعراب. » وأقبل زيد بعد ذلك، فجعل يترجم بينهما.
ذكر رأي صحيح للأحنف بن قيس
وقال عمر للوفد: « لعلّ المسلمين يفضون إلى أهل الذمّة بأذى، أو بأمور لها ما ينتقضون بكم. » فقالوا: « ما نعلم إلّا حسن ملكة. » قال: « فكيف هذا؟ »
فلم يجد عند أحد ما يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلّا ما كان من الأحنف فإنّه قال: « يا أمير المؤمنين، أخبرك أنّك نهيتنا عن الإنسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وأنّ ملك فارس حيّ بين أظهرهم، وأنّهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان حتى يفنى أحدهما صاحبه. وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلّا بانبعاثهم مرّة بعد مرّة، وأنّ ملكهم هو الذي يبعثهم. ولا يزالون هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح في بلادهم، حتى نزيله عن بلادهم، ونخرجه من مملكته وعزّ أمّته، فهناك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربوا جأشا. » فقال عمر: « صدقتني والله، وشرحت لي الأمر عن حقّه. » فكان هذا سبب إذنه لهم في الإنسياح.
يزدجرد يمضى إلى إصطخر وسياه يشترط للإسلام
ومضى يزدجرد بمشورة الموبذ إلى إصطخر فينزلها، لأنّها دار المملكة ويوجّه الجنود. فلمّا بلغ إصبهان أقام أياما وقدم سياه لينتخب من كلّ بلدة مرّ بها من أحبّ. فمضى سياه واتبعه يزدجرد حتى نزلوا بإصطخر، ووجّه سياه إلى السوس. ولم يزل كذلك حتى قدم عمار بن ياسر وأبو موسى يومئذ بتستر.
سياه يرى الدخول في الإسلام
فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من إصبهان، وقال: « قد علمتم أنّا كنّا نتحدّث أنّ هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس، سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابّهم في أبواب إصطخر ومصانع الملوك، ويشدّون خيلهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلّا فلّوه، ولا ينزلون بحصن إلّا فتحوه. فانظروا لأنفسكم. » قالوا: « رأينا رأيك. » قال: « فليكفنى كلّ رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإني أرى أن ندخل في دينهم. » ووجّهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى يأخذ لهم شروطا على أن يدخلوا في الإسلام.
فقدم شيرويه على أبي موسى فقال: « إنّا قد رغبنا في دينكم على أن نقاتل معكم العجم ولا نقاتل معكم العرب، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منهم، وننزل حيث شئنا، ونكون في من شئنا منكم، وتلحقوننا بأشرف العطاء، يعقد لنا بذلك الأمر، الذي هو فوقك. » فقال أبو موسى: « لكم ما لنا، وعليكم ما علينا. » قالوا: « لا نرضى. » وكتب أبو موسى إلى عمر بذلك. فقال: « أعطهم ما سألوك. » فكتب لهم أبو موسى فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر. فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدّا ولا نكاية.
فقال لسياه: « يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنّا نرى قبل اليوم! » قال: « لسنا مثلكم في هذا الدين، ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهنّ، ولم تلحقونا بأشرف العطاء، ولنا سلاح وكراع وأنتم حسّر. » فكتب أبو موسى في ذلك إلى عمر. فكتب إليه عمر أن: « ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء، وأكثر شيء أخذه أحد من العرب. » ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستّة منهم في ألفين وخمسمائة: لسياه وخسرو - ولقبه مقلاص - وشهريار، وشيرويه، وسارويه، وأفريذون.
ذكر مكيدة في فتح حصن
فأمّا سياه فمشى إلى حصن. ويقال: إنّه تستر في زيّ العجم، حتى رمى بنفسه إلى جنب الحصن ونضح ثيابه بالدم. فأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيّهم صريعا، فظنّوه منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلّوا عن باب الحصن وهربوا. ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون. وأمّا خسرو فمشى إلى حصن آخر حاصروه، فأشرف عليه رجل رئيس منهم، فكلّمه، ثم رماه خسرو بنشّابة فقتله.
ذكر حيلة قوم في الحصار خرجوا بها من حصارهم وسياسة لعمر
وأما جنديسابور فإنّ أبا سبرة لمّا فرغ من السوس خرج في جنده حتى نزل عليها، وحاصرهم أيّاما يغادونه ويراوحونه القتال. فرمى إليهم بأمان من عسكر المسلمين وفتح بابها. فلم يفجأ المسلمين إلّا أبوابها تفتح. ثم خرج السرح وخرجت الأسواق وانبثّ أهلها.
فأرسل المسلمون أن: « ما لكم؟ » قالوا: « رميتم إلينا بالأمان فقبلناه وأقررنا لكم بالجزى على أن تمنعونا. » فقالوا: « ما فعلنا. » فقالوا: « ما كذبنا. » فتساءل المسلمون بينهم، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها هو الذي كتب لهم.
فقالوا: « إنّما هو عبد. » فقالوا: « نحن لا نعرف حرّكم من عبدكم، قد جاءنا أمان، فنحن عليه، قد قبلناه ولم نبدّل. فإن شئتم فاغدروا. » فأمسكوا عنهم وكتبوا بذلك إلى عمر. فكتب إليهم: « لم تكونوا أوفياء، حتى تفوا على الشكّ، أجيزوهم وفوا لهم. » ثم عمل عمر برأى الأحنف، وعقد الأولوية للأمراء والجنود من أهل الكوفة وأهل البصرة. فكان لواء الأحنف على خراسان.
يوم نهاوند فتح الفتوح
ولما خرج يزدجرد من الجبل، وصار إلى مرو، وكاتب الجيوش بالأطراف، فكتب إلى أهل الجبال، ممّن بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحرّكوا وتكاتبوا وركب بعضهم إلى بعض، فأجمعوا أن يوافوا نهاوند، ثم يبرموا فيها أمورهم. فتوافى إليها من بين حلوان وخراسان ومن بين الباب وحلوان، ومن بين سجستان إلى حلوان، فاجتمعت حلبة فارس والفهلوج وأهل الجبال وهم مائة وخمسون ألفا.
ثم تآمر الرؤساء عند الفيرزان وكان عليهم، فقالوا: « إنّ محمدا الذي جاء العرب بالدين لم يعرض عرضنا. ثم ملكهم أبو بكر من بعده، فلم يعرض عرض فارس إلّا في غارة تعرض لهم فيها، وإلّا في ما يلي ديارهم. ثم ملك عمر فطال ملكه وعرض حتى تناولكم، وأخذ السواد كلّه، والأهواز. ثم لم يرض حتى أتى أهل فارس والمملكة في عقر دارهم وهو آتيكم إن لم تأتوه. وقد أخرب بيت مملكتكم، واقتحم بلاد ملككم، وليس بمنته حتى تخرجوا من في بلادكم من جنوده، وتقطعوا هذين المصرين وتشغلوه في بلاده وقراره. » فتعاهدوا وتواثقوا. وكتبوا بينهم على ذلك كتابا، وتمالئوا عليه.
وبلغ الخبر سعدا، وخرج إلى عمر ليشافهه بذلك، ولأنّ قوما من جنده شغبوا عليه، وسعوا به إلى عمر، فاستخلف عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فكتب عبد الله بن عبد الله إلى عمر أنّه: « قد تجمّعت الفرس مائة وخمسين ألفا مقاتلة مستميتين، فإن جاءونا قبل أن تبدرهم الشدّة ازدادوا جرأة وقوّة، وإن نحن عاجلناهم كان ذلك لنا عليهم. » وكان الرسول بذلك قريب بن ظفر. ولما قدم الرسول بالكتاب على عمر وبالخبر قرأه، وسمع منه، وقال: « ما اسمك؟ » قال: « قريب. » قال: « ابن من؟ » قال: « ابن ظفر. » فتفأّل بذلك وقال: « ظفر قريب، إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله. »
ذكر آراء صح منها واحد
ونودى في الناس: « الصلاة جامعة. » فاجتمع الناس ووافاه سعد فقال: « إليّ سعد بن مالك! » وقام عمر على المنبر خطيبا، فأخبر الناس الخبر، واستشارهم، وقال: « هذا يوم له ما بعده، فاسمعوا لي، ثم أجيبوني، وأوجزوا، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، ولا تكثروا ولا تطيلوا فتفشغ لكم الأمور، ويلتوي عليكم الرأي، إني قد رأيت أن أسير في من قبلي ومن قدرت عليه حتى أنزل منزلا من هذين المصرين وسطا، ثم أستنفرهم، ثم أكون لهم ردءا، حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحب. » فقام طلحة بن عبيد الله فقال: « يا أمير المؤمنين، قد أحكمتك التجارب، وأنت وشأنك ورأيك. » في كلام طويل يشبه هذا، ثم جلس.
فعاد عمر فقال: « هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلّموا. » فقام عثمان بن عفّان، فتشهّد، وقال: « أرى - يا أمير المؤمنين - أن تكتب إلى أهل اليمن، فيسيروا من يمنهم، وإلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وتسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة، فتلقى جميع المشركين بجميع المسلمين، فإنّك إذا سرت بمن معك وعندك، قلّ في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم، وكنت أعزّ عزّا. يا أمير المؤمنين، إنّك لا تستبقى من نفسك بعد العرب باقية، ولا تمتنع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام [ فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه ]، فتكلّموا. » فقام عليّ ﵇ فقال: « أما بعد، فإنّك إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى ذراريّهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إلى ذراريّهم، وإنّك إن أشخصت أهل الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى تكون ما تدع وراءك، أهمّ إليك مما بين يديك من العورات والعيالات. أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة، فليفترقوا ثلاث فرق: فلتقم فرقة في أهل عهدهم لئلّا ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم، لأنّ الأعاجم إن ينظروا إليك ويقولوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، كان أشدّ لكلبهم، وألّبتهم عليك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم، فإنّ الله هو أكره لمسيرهم منك، ولهو أقدر على تغيير ما يكره، وأمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، ولكنّا كنّا نقاتلهم بالنصر. » فقال عمر: « أجل، هذا الرأي. والله أين سرت لينتقضنّ عليّ الأرض من أطرافها وأكنافها، ولئن نظرت إليّ الأعاجم لا يفارقوا العرصة وليمدّنّهم من لم يمدّهم، وليقولنّ: هذا أصل العرب، فإن اقتطعتموه فقد اقتطعتم أصل العرب. فأشيروا عليّ برجل أولّه ذلك الثغر، واجعلوه عراقيّا. » فقالوا: « أنت أعلم يا - أمير المؤمنين - بجندك وأهل عراقك، فقد وفدوا عليك، ورأيتهم وكلّمتهم. »
ابتداء وقعة نهاوند
وكان النعمان بن مقرّن على كسكر، ولّاه سعد الخراج بها. فكتب إلى عمر: « إنّ مثلي ومثل كسكر مثل رجل شابّ إلى جنبه مؤمسة تلوّن له وتعطّر، فأنشدك الله لمّا عزلتني وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين. » فلمّا كان هذا اليوم الذي خطب فيه عمر، وجرى ما جرى مما كتبته، قال عمر: « أما والله لأولّينّ أمرهم رجلا ليكوننّ أول الأسنّة إذا لقيها غدا. » فقيل: « من، يا أمير المؤمنين؟ » فقال: « النعمان بن مقرّن ». قالوا: « هو لها. »
فكتب إليه عمر أن: « ائت نهاوند، فأنت على الناس بها. » فلمّا التقوا كان أول قتيل. وسنحكى خبره في موضعه.
وردّ عمر قريب بن ظفر، وردّ معه السائب الأقرع وكان السائب يومئذ مندوبا للأمانة وقسمة الفيء، لأنّه كان كاتبا حاسبا، كما كان محمد بن مسلمة مندوبا لتتبع العمال والطواف عليهم.
وقال عمر للأقرع: « إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم، ولا تخدعني، ولا ترفع إليّ باطلا، وإن نكب القوم، فلا تراني ولا أراك، فبطن الأرض خير لك من ظهرها. » فقدما الكوفة بكتاب عمر بالاستحثاث. وكان أسرع أهل الكوفة إلى ذلك الروادف، ليبلوا في الدين، وليدركوا حظّا.
ذكر خديعة للهرمزان لم تتم له وما جرى بعد ذلك
كان عمر بن الخطّاب استدعى الهرمزان حين آمنه، فقال: « انصح لي فقد آمنتك. » قال: « نعم. إنّ الفرس اليوم رأس وجناحان. » قال: « فأين الرأس. » قال: « بنهاوند مع بندار، ومعه أساورة كسرى وأهل إصبهان. » قال: « فأين الجناحان؟ » فذكر مكانا. قال الهرمزان: « فاقطع الجناحين يهن الرأس. »
فقال عمر: « كذبت يا عدوّ الله بل أعمد إلى الرأس، فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يقبض عليه الجناحان. »
فكتب إلى أبي موسى أن: سر بأهل البصرة، وإلى حذيفة أن: سر بأهل الكوفة.
وبعث بعثا من المدينة فيهم ابنه عبد الله بن عمر، وفيهم المهاجرون والأنصار، وقال: « إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرّن. » فخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم بن مقرّن حتى قدموا على النعمان بالطزر وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النّسير، وقد كتب عمر إلى سلمى بن القين وحرملة وزرّ بن كليب وقوّاد المسلمين الذين كانوا بين فارس والأهواز أن: « اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمّتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين الأهواز وفارس حتى يأتيكم أمري. » وبعث مجاشع بن مسعود السلميّ إلى الأهواز، وقال له: انصل منها على ماه.
فلما صار بغضي شجر ناحية مرج القلعة، أمره النعمان أن يقيم بمكانه ونصل سلميّ وحرملة وزرّ، فكانوا في تخوم إصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن نهاوند الأمداد من فارس.
وورد على النعمان، وهو بطزر، كتاب عمر: « إنّ معك حدّ العرب ورجالهم فاستعن بهم وبرأيهم، وسل طليحة وعمرا، ولا تولّهم شيئا ».
فبعث من بطزر طليحة وعمرا، وعمرو بن أبي سلمى ليؤاتوه بالخبر. فأما عمرو وعمرو فإنّهما رجعا من الطريق آخر الليل.
فقال طليحة: « ما الذي يرجعكما؟ »
قالا: « سرنا يوما وليلة ولم نر شيئا، وخفنا أن يؤخذ علينا بالطريق. » ولم يحفل بهما. ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند، وبينها وبين الطزر بضعة وعشرون فرسخا.
فقال الناس: « ارتدّ الثانية. » فلما علم طليحة علم القوم، رجع، حتى إذا انتهى إلى الجمهور كبّر الناس.
وقال: « ما شأن القوم؟ » فأخبروه بالذي خافوا عليه.
فقال: « والله لو لم يكن [ دين ] إلّا العربية فقط، ما كنت لأجزر هذه العرب العاربة لهذه العجم الطماطمة. » فأتى النعمان، فدخل إليه، وأخبره أن ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه.
فنادى النعمان بالرحيل وعبّأهم، وجعل على المجرّدة القعقاع بن عمرو، وكذلك جعل على ميمنته وميسرته ومقدمته أهل النجدات.
إرسال المغيرة بن شعبة إلى الفرس
فلما اجتمعوا بنهاوند أرسل إليهم الفرس أن: أرسلوا رجلا نكلّمه. فأرسلوا المغيرة بن شعبة.
فلما رجع سألوه عما جرى.
فقال: وجدت العلج قد استشار أصحابه: « بأى شيء تأذنون لهذا العربيّ، بالشارة والبهجة أو بتقشّف له؟ » فاجتمع رأيهم على أفضل ما يكون من الشارة والعدّة. فتهيّأوا بها. فلمّا أتيناهم كادت تلك الحراب والنيازك يلتمع منها البصر، وإذا هم على رأسه مثل الشياطين، وإذا هو على سرير من ذهب، على رأسه التاج.
قال: فمضيت كما أنا، ونكّست رأسى. فدفعت، ونهيت.
فقلت: « الرسل لا يفعل بهم هذا! » فقالوا: « إنّما أنت كلب. » فقلت: « معاذ الله، لأنا في قومي أشرف من في قومه ».
فانتهرونى وقالوا: « اجلس! ». فأجلسوني، ثم قال - وترجم لي قوله -:
« إنّكم معشر العرب أبعد الناس من كلّ خير، أطول الناس جوعا، وأشقاهم شقاء، وأقذرهم قذرا، وأبعدهم دارا، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم من النشاب بمثل شوك القنفذ، إلّا تنجّسا لجيفكم، فإنّكم أرجاس. فإن تذهبوا نخلّ عنكم، وإن تأبوا، نركم مصارعكم. »
قال: فحمدت الله وأثنيت عليه، ثم قلت:
« والله، ما أخطأت من صفتنا شيئا. إن كنّا لكذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا، فوعدنا النصر في الدنيا، والجنّة في الآخرة. فوالله ما زلنا نتعرّف من ربّنا، منذ جاء رسوله، الفتح والنصر حتى أتيناكم. وإنّا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا، حتى نغلبكم على ما في أيديكم، أو نقتل بأرضكم. » فقال: « والله لقد صدقكم الأعور ما في نفسه. »
فقمت وقد أرعبت العلج. فأرسل إلينا العلج:
« إمّا أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم. »
فقال النعمان: « اعبروا ».
وكانوا قد انتهوا إلى الإسبيذهان وهم وقوف دون وادي خرد على تعبيتهم، وأمرهم إلى الفيرزان، وقد جعل بهمن جاذويه مكان ذي الحاجب، فهو على مجنبته، وقد توافى إليه كلّ من غاب عن القادسية والأيّام من أهل الثغور، وأمرائها، وأعلامهم. وأنشب النعمان بعد ما حطّ الأثقال وضرب الفسطاط القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس وهم كأنّهم جبال الحديد، وقد تواثقوا ألّا يفرّوا من العرب وألقوا حسك الحديد خلفهم وقالوا: من فرّ منّا عقره حسك الحديد.
فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: « لم أر كاليوم فشلا، إن عدوّنا يتركون يتأهّبون لا يعجلون، أم والله لو أنّ الأمر إليّ لأعجلتهم ».
وكان النعمان رجلا ليّنا، فقال: « قد كان الله يشهدك أمثالها، فلا يخزيك. إنّه والله ما منعني من المناجزة إلّا شيء شهدته من رسول الله ﷺ إذا غزا فلم يقاتل أول النهار، ولم يعجل حتى تحضر الصلاة وتهبّ الأرواح ويطيب القتال، فما منعني إلّا ذلك. اللهمّ إني أسألك أن تقرّ عيني بفتح يكون فيه عزّ الإسلام وذلّ الكفار، ثم اقبضنى إليك على الشهادة. ائمنوا يرحمكم الله. »
فأمنّا وبكينا. ثم أقدم بعد الصلاة للقتال.
قال: ولمّا كان يوم الجمعة انجحروا في خنادقهم، وذلك لما رأوا صبرنا أنّا لا نبرح العرصة فصبروا معنا. ثم إنّهم لم يصبروا، فحصرهم المسلمون، فأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار لا يخرجون إلّا إذا أرادوا. فاشتدّ ذلك على المسلمين حدّا، وخافوا أن يطول أمرهم.
ذكر آراء صح أحدها على طريق المكيدة
حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع، تجمّع أهل الرأي من المسلمين، فتكلّموا، وأتوا النعمان، وقالوا: « نراهم بالخيار والقوّة ».
وهو يروّى فيما روّوا فيه. فقال: « على رسلكم، لا تبرحوا ».
وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحرب، فتوافوا إليه.
فتكلّم النعمان فقال:
« قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنّهم لا يخرجون إلّا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وابتعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق الذي هم فيه وعليه من الخروج. فما الرأي الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل؟ »
فتكلّم عمرو بن أبي سلمى وكان أسنّ القوم، فقال: « التحصّن أشدّ عليهم من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم وقاتل من أتاك منهم. »
فردّوا جميعا رأيه، وقالوا: « إنّا على يقين من إنجاز ربّنا وعده لنا. »
وتكلّم عمرو بن معدى كرب، فقال: « ناهدهم ولا تخف وكاثرهم. »
فردّوا جميعا عليه رأيه، وقالوا: « إنما نناطح الجدران. »
وتكلّم طليحة فقال: « قد قالا ولم يصيبا تفسير ما أرادا. فأمّا أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية فيحدقوا بهم، ثم يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم، فإذا استحمشوهم واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنّا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم إلى اليوم، فإنّهم إذا أرادوا ذلك طمعوا في هزيمتنا ولم يشكّوا فيها، وخرجوا، فجادّونا، وجاددناهم حتى يقضى الله بيننا. »
فأمر النعمان بن عمرو، وكان على المجرّدة بذلك، ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، وأنغضهم. فلمّا خرجوا نكص، ثم نكص، واغتنمها العجم. ففعلوا كما ظنّ طليحة، وقالوا: « هي، هي ». فخرجوا، فلم يبق أحد إلّا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع والنعمان بن مقرّن والمسلمون على تعبئتهم.
وفي يوم جمعة وفي صدر النهار، وقد عهد النعمان عهده وقال: إن أصبت ففلان، فإن أصيب ففلان. وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم.
ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمى، وجعل المشركون يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض ثم قالوا للنعمان: « ألا ترى ما نحن فيه؟ ائذن لنا في الحملة. » فقال لهم النعمان: « رويدا رويدا. » قالوا ذلك مرارا، فأجابهم بمثل ذلك.
فقال المغيرة: « لو إليّ هذا الأمر، علمت ما أصنع. » فقال: رويدا، ترى أمرك وقد كنت تلى الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إيّاك، ونحن نرجو في المكث مثل ما ترجو في الحثّ. » وانتظر النعمان أحبّ الأوقات كان إلى رسول الله ﷺ.
فلمّا كان قريبا من تلك الساعة وهي الزوال، سار فوقف على الرايات، ومدحهم، وحضّهم. ثم عاد إلى موقفه، وكبّر الأولى والثانية والثالثة والناس على غاية السمع والطاعة. وحمل النعمان والناس معه، فالتقوا بالسيوف، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة قطّ كانت أشدّ منها، لا يوم القادسية لا غيرها مما تقدّم، قتلوا فيها من الفرس فيما بين الزوال والإعتام ما طبّق أرض المعركة وما يزلق فيه الناس والدواب، وزلق بالنعمان فرسه وصرع، فأصيب.
وتناول الراية أخوه نعيم بن مقرّن، وسجّى النعمان بثوب، وأتى حذيفة بالراية، وكان عهد إليه بعده، فأقام اللواء. وقال المغيرة: « اكتموا مصاب أميركم حتى تنظروا ما يصنع الله فينا لكيلا يهن الناس، واقتتلوا. » فلما أظلم الليل انكشف المشركون، وتركوا قصدهم، وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان. فوقعوا فيه، وجعل لا يهوى فيه أحد إلّا قال:
« واى خرد »، فسمّى بذلك « وايه خرد » إلى اليوم. فمات فيه منهم نحو مائة ألف، وقتل في المعركة أعدادهم، ولم يفلت إلّا الشريد. ونجا الفيرزان من الصرعى في المعركة، فهرب نحو همذان في ذلك الشريد، فاتّبعه نعيم بن مقرّن، وقدّم القعقاع قدّامه، فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان، وكانت الثنية مشحونة من بغال وحمير موقّرة عسلا، فحبسته الدوابّ على أجله. فلما غشيه القعقاع وهو لا يجد طريقا فتوقّل في الجبل، وتوقّل القعقاع في أثره حتى أخذه، ومضى الفلّال حتى انتهوا إلى مدينه همذان والخيل في آثارهم، فدخلوها. وسمّيت الثنية: ثنية العسل، وقال المسلمون: « إنّ لله جنودا من عسل. » واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال.
دخول نهاوند
ودخل المسلمون بعد هزيمة الفرس نهاوند، واحتووا على ما فيها، وجمعوا الأسلاب إلى صاحب الأقباض السائب الأقرع. فبيناهم كذلك، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على إتان، فأبلغ حذيفة؟ فقال: « أتؤمننى على أن أخبرك بما أعلم؟ » قال: « نعم! » فقال: « إنّ النخيرجان وضع عندي ذخيرة كسرى، وأنا مخرجها لك على أمانى وأمان من شئت. »
سفطان ملؤهما اليواقيت واللؤلؤ
فأعطاه ذلك، وأخرج له الذخيرة سفطين عظيمين ليس فيهما إلّا اليواقيت واللؤلؤ. فلمّا فرغ السائب من قسمة الأموال اجتمع رأى المسلمين على دفعهما إلى عمر.
قال السائب: فأصاب سهم الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان. فلمّا فرغت قدمت على عمر ومعي السفطان، فقال: « ما وراءك يا سائب! » فقلت: « خير، يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك - فأعظم الفتح - واستشهد النعمان بن مقرّن. » فقال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. ثم بكى فنشج حتى إني لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده ».
قال: فلمّا رأيت ما لقي قلت: « يا أمير المؤمنين، ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه. » فقال: « المستضعفون من المؤمنين، لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم، وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة ابن أمّ عمر. » ثم قام ليدخل، فقلت: « إنّ معي مالا عظيما جئت به. » ثم أخبرته الخبر عن السفطين، فقال: « أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك. » قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعا إلى الكوفة، وبات تلك الليلة التي خرجت فيها. فلما أصبح بعث أثرى رسولا، فوالله ما أدركنى حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبى بعيري، وقال: « الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك ولم أقدر عليك إلّا الآن. » قال: قلت: « ويلك! ولما ذا؟ » قال: « لا أدري والله. » فركبت معه حتى قدمت عليه. فلما رآني قال: « ما لي ولابن أمّ السائب، بل ما لابن السائب وما لي! » قال: قلت: « وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ » قال: « ويحك! والله، إن هو إلّا نمت في تلك الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة الله تسحبنى إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا، يقولون: لنكوينّك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني لا أبا لك، فالحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. » قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة وغشيني [ التجار ] فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعها بأربعة آلاف ألف درهم.
فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد.
وقسم حذيفة لأهل المسالح جميعا في نهاوند، مثل الذي قسم لأهل المعركة، لأنّهم كانوا ردءا للمسلمين لئلّا يؤتوا من وجه من الوجوه، وكان خلّف قوما على قلاع يحاصرون من فيها لئلّا ينزلوا فيؤتى المسلمون من قبلهم، فقسم لهم أيضا.
وسمّى يوم نهاوند فتح الفتوح ولم تكن للفرس بعد قائمة.
ومن عجيب ما مرّ في حصار نهاوند أنّ رجلا يقال له: جعفر بن راشد، قال لطليحة: « لقد أخذتنا خلّة، فهل بقي من أعاجيبك شيء تنفعنا به؟ » فقال: « كما أنتم، حتى أنظر. » فأخذ كساء، فتقنّع به غير كثير، ثم قال: « البيان، البيان، غنم الدقّان في البستان، مكان أرونان. » فدخلوا البستان، فوجدوا الغنم مسمنة.
ثم جاء دينار إلى حذيفة، فصالحه عن ماه، فنسب إليه ماه. فكان يوافى الكوفة كل سنة. فقدم الكوفة في إمارة معاوية، فقام في الناس جميعا، فقال: « يا معشر أهل الكوفة، إنّكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فغبرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيّرتم وفشت فيكم خلال أربع: بخل، وخبّ، وغدر، وضيق، لم تكن فيكم واحدة منهنّ. فنظرت في ذلك، فإذا ذلك في مولّديكم، فعلمت من أين أتى، فإذا الخبّ من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز. »
فتح الري
ثم إنّ نعيم بن مقرّن فتح همذان، وسار إلى الريّ، وكان بالريّ يومئذ سياوخش ملكا عليها وهو سياوخش بن مهران بن بهرام شوبين.
[ فاستمدّ ] أهل دنباوند، وطبرستان، وقومس، وجرجان، وقال: « قد علمتم أنّ هؤلاء إن حلّوا بالريّ إنّه لا مقام لكم. » فاحتشدوا له. فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الريّ إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به. وكان الزينبي متوحّشا من سياوخش، فكاتب نعيم بن مقرّن، وصالحه وعاونه، وكان الزينبي قال لنعيم: « إنّ القوم كثير وأنت في قلّة، فابعث معي رجلا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنّهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لذلك. » فبعث معه خيلا من الليل عليها ابن أخيه المنذر بن عمرو. فأدخلهم الزينبي المدينة ولا يشعر القوم، وبيّتهم نعيم بياتا، فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا، وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم. ثم إنّهم انهزموا فقتلوا مقتلة عظيمة، فأفاء الله على المسلمين بالريّ نحوا من فيء المدائن، وصالحه الزينبي على أهل الريّ ومرزبه عليهم. وكتب نعيم بالفتح وبعث بالأخماس إلى عمر.
توجه بكير إلى آذربيجان
وكان بكير بن عبد الله قد توجه إلى آذربيجان، فأمدّه نعيم بعد فتح الريّ بسماك بن خرشة الأنصاري.
مردانشاه يراسل نعيما في الصلح
فأما المصمغان - وهو مردانشاه صاحب دنباوند والخزر والأرز والسرو - فإنّه راسل نعيما في الصلح على شيء يفتدى منه به، من غير أن يسأله النصر والمنعة. فقبل منه، وكتب على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم.
فتح قومس
وقدّم سويد بن مقرّن أخاه بأمر عمر إلى قومس، فلم يقم له أحد، وأخذها سلما، وكتب لهم أمانا، وقبل جزيتهم.
فتح جرجان وطبرستان وآذربيجان
ثم كاتب ملك جرجان رزبان صول. ثم صار إليها، فبادره بالصلح، وتلقّاه، فدخل معه جرجان، وعسكر بها، وجبى إليه الخراج، وسمّى له فروجها، فسدّها بترك دهستان. فرفع الجزى عمن أقام بمنعتها، وأخذ الخراج من باقى أهلها، وكتب بينهم كتابا بالأمان وقبول الجزية ما نصحوا وقروا المسلمين، وعلى أنّ من سبّ مسلما بلغ جهده، ومن ضربه حلّ دمه. وراسله الإصبهبذ في الصلح أن يتوادعا ويجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد. فكتب له بذلك كتابا على ألّا يؤووا للمسلمين بغية، ولا يسلّوا لهم إلى عدوّ، ولا يدخل عليه إلّا بإذنه، وكذلك سبيلهم.
وكان بكير سار حين بعث إلى آذربيجان حتى إذا طلع بجبال خرشدان طلع عليهم اسفندياذ بن الفرّخزاذ مهزوما من واج رود. فكان أول قتاله لقيه بآذربيجان، فاقتتلوا، فهزمه، وأخذ بكير اسفندياذ أسيرا.
فقال له اسفندياذ: « الصلح على آذربيجان أحبّ إليك أم الحرب؟ » قال: « بل الصلح. » قال: « فأمسكنى عندك. فإنّ أهل آذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجئ لم يقيموا، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم. ومن كان على التحصن تحصّن إلى يوم ما. » فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلّا ما كان من حصن.
وقدم عليه سماك بن خرشة، وقد صار اسفندياذ في إساره. وفتح عتبة بن فرقد من جهته ما يليه.
فقال بكير لسماك بن خرشة كالممازح: « ما الذي أصنع بك وبعتبة؟ أريد أن أمضى قدما فأخلّفكما، فإن شئت فاذهب معي، وإن شئت أتيت عتبة، فقد أذنت لك. » وكاتب عمر في ذلك. فكتب إليه في الإذن على أن يتقدم نحو الباب، وأمره أن يستخلف على عمله. فاستخلف عتبة على ما افتتح. ومضى قدما، وقدّم إسفندياذ إلى عتبة، وأقرّ عتبة سماك بن خرشة، وليس بأبي دجانة، على عمل بكير الذي كان افتتح.
وجمع عمر آذربيجان كلّها لعتبة، وقد كان بهرام بن الفرّخان أخذ بطريق عتبة بن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فهزمه عتبة وهرب بهرام.
فلما بلغ خبر هزيمته إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال: « الآن تمّ الصلح وطفئت الحرب وعادت آذربيجان سلما. » فبعث بالأخماس. وكان بكير سبق عتبة بفتح ما ولى، وتمّ الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام. فكتب عتبة بينه وبين أهل آذربيجان كتابا - حيث جمع له عمر بكير إلى عمله - بالأمان وشروط الجزية وقرى المسلمين وغير ذلك.
فتح الباب والفتوح التي كانت بعده
وأنفذ عمر سراقة بن عمرو - وكان يكنّى ذا النون - إلى الباب وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة، وسمى لإحدى مجنّبتيه حذيفة بن أسد، وسمى للأخرى بكير بن عبيد الله الليثي، وهو الذي كان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة عليه. فلمّا قدم سراقة قدّم بكيرا في أدانى الباب، فدخل بكير بلاد الباب والملك يومئذ شهربراز الذي أفسد بني إسرائيل وأعرى الشام منهم.
فكاتب عبد الرحمن شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه. ففعل، فأتاه، فقال له:
« إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذي الحسب حيث كان، ولست من الأرمن في شيء ولا من القبق، وإنّكم قد غلبتم على بلادي وأمّتى، وأنا اليوم منكم، ويدي مع أيديكم، وصفوي معكم، وجزيتنا إليكم، والنصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تذلّونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم. »
فقال عبد الرحمن: « فوقى أمير قد أظلّك، فسر إليه. » فجوّزه فسار إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك.
فقال سراقة: « قد قبلت ذلك ممن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بدّ من الجزى ممن يقيم ولا ينهض. » فقبل ذلك، وكتب سراقة إلى عمر بن الخطّاب بذلك، فأجازه، وحسّنه، وصارت سنّة فيمن يحارب العدو من المشركين وفيمن لم يكن عنده الجزى أن يستنفروا، ثم يوضع عنهم جزى تلك السنة.
ووجّه سراقة بعد ذلك بكير بن عبد الله، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسد، وسلمان بن ربيعة إلى الجبال المطيفة بأرمينية، ووجه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللّان، وسلمان إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبمن وجّه من هؤلاء النفر. فأتى عمر بن الخطّاب أمر لم يكن يرى انّه يستمر بتلك السرعة بغير مؤونة. فلما استوسق الأمر بتلك الناحية واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة.
فأقرّ عمر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك. فخرج عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب.
فقال له شهربراز: « ما تريد أن [ تصنع ]؟ » قال: « أريد بلنجر. » قال: إنّا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. »
قال: « لكنّا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم. والله إنّ معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم. » قال: « وما هم؟ » قال: « قوم صحبوا رسول الله ﷺ ودخلوا في هذا الأمر بنيّة، كانوا أصحاب حياء وتكرّم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرّمهم، فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم أمر، أو يلفتوا عن حالهم بمن يغيّرهم. » فغزا بلنجر - غزاه في زمن عمر - لم تئم فيها امرأة، ولا يتم فيها صبيّ. وبلغت خيله البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم أيضا، وغزا [ غزوات ] في زمن عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدّل أهل الكوفة في إمارة عثمان، لما استعمل من كان ارتدّ واستعان بهم، فساد من طلب الدنيا، وعضّلوا بعثمان حتى كان يتمثل:
وكنت وعمرا كالمسمّن كلبه ** فخدّشه أنيابه وأظافره
وكان عبد الرحمن بن ربيعة لما غزا الترك، قالوا:
« ما اجترأ علينا هذا الرجل إلّا ومعهم الملائكة يمنعهم من الموت ».
فتحصّنوا منه، وهربوا. فرجع بالغنم.
فلمّا كان بعد ذلك غزا تلك الغزوات الأخر على تلك العادة، حتى إذا كان في زمن عثمان بعد السنين الستّ منه، غزا غزوة. وكان من الترك طائفة في الغياض مختفين، فرمى رجل منهم مسلما على غرّة، فقتله وهرب عنه أصحابه، فتجاسروا بعد ذلك وتنادوا.
فأمّا عبد الرحمن فقتل، واشتدّ القتال، وأخذ الراية سلمان بن ربيعة، وخرج بالناس على جيلان إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها، ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن.
ما جرى بين يزدجرد وآبان جاذويه في الري
ولما انتهى يزدجرد في مسيره بعد جلولاء إلى الريّ كان عليها آبان جاذويه، فوثب عليه، فأخذه فقال: « يا آبان جاذويه، تغدر بي؟ » قال: « ولكنّك تركت ملكك وصار في يد غيرك وأريد أن أكتتب على ما كان لي من شيء، وما أردت من غير ذلك. » وأخذ خاتم يزدجرد وكتب الصكاك على الأدم، وسجّل السجلّات بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها، وردّ الخاتم. ثم أتى بعد سعدا فردّ عليه كلّ شيء في كتابه. واستوحش يزدجرد من آبان وكرهه. فخرج هاربا إلى أصبهان ومعه النار، وأراد كرمان. ثم عزم على خراسان ليستمدّ الترك والصين وهو قريب منهم. فأتى مرو، فنزلها، وبنى للنار بيتا، واطمأنّ في نفسه.
غزو خراسان وهزيمة يزدجرد في بلخ
وخرج عبد الله بن عامر من البصرة في هذه السنة، وهي سنة إحدى وثلاثين، غازيا إلى خراسان. ففتح نيسابور وطوس ونسّا، حتى بلغ سرخس، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس. فلقيه الهياطلة، وهم أهل هراة، فهزمهم الأحنف، فبعثه ابن عامر إلى طخارستان. فلمّا دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ، فنزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد إلى خاقان من مرو الروذ يستمدّه، وكتب إلى ملك الصغد يستمدّه. فخرج رسوله إليهما، وكتب إلى ملك الصين يستعينه.
وخرج الأحنف من مرو الشاهجان، واستخلف عليه بعد ما لحقته الأمداد من أهل الكوفة قاصدا مرو الروذ. فلمّا بلغ مسيره يزدجرد خرج إلى بلخ.
ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة، فساروا إلى بلخ، واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فهزم يزدجرد، وتوجّه في أهل فارس إلى النهر، فعبر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة وقد فتحوا بلخ، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ.
وكتب عمر إلى الأحنف:
« أمّا بعد، فلا تجوزوا النهر، واقتصروا على ما دونه. » وبلغ رسولا يزدجرد خاقان وعارك، فلم يستتبّ لهم إنجاده، حتى عبر إليهم النهر مهزوما. فأنجده خاقان، فأقبل في الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد، حتى خرج بهم راجعا إلى خراسان. فعبر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل الكوفة إلى مرو الروذ، إلى الأحنف.
ذكر رأي صحيح في وقت شدة
فاستشار الأحنف المسلمين. فاختلفوا، فبين قائل يقول: « نرجع إلى أبرشهر »، وقائل يقول: « نقيم ونستمدّ. » وقائل يقول: « نناجزهم. »
وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف مرو الرّوذ. وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان نهر بلخ غازيا له، خرج في عسكره ليلا يتسمّع: هل يسمع برأى ينتفع به؟ فلمّا خرج مرّ برجلين ينقّيان علفا، إمّا تبنا، وإمّا شعيرا، وأحدهما يقول لصاحبه: « الرأي للأمير أن يلقى العدوّ حيث لقيهم أوّلا، فإنّه أرعب لهم. » فقال له صاحبه: « أخطأت الرأي، إن لقي العدوّ مصحرا في بلادهم لقي جمعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا. ولكنّ الرأي للأمير أن يسندنا إلى هذا الجبل، ليكون النهر بيننا وبين عدونا خندقا، وكان الجبل في ظهورنا، نأمن أن نؤتى من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد، [ و ] رجونا أن ينصرنا الله. » فرجع، واجتزأ بها. وذلك في ليلة مظلمة. فلما أصبح جمع الناس، ثم قال: « إنكم قليل، وعدوّكم كثير، فلا يهولنّكم: ف كَمْ من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ. ارتحلوا من مكانكم، فاستندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوه من وجه واحد. » ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم في عشرة آلاف من أهل البصرة، وأهل الكوفة نحو منهم. وأقبلت الترك ومن اجتلبت من الصغد وغيرهم حتى نزلوا بهم. فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ويتنحّون عنهم بالليل ما شاء الله.
وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل. فخرج ليلة بعد ما علم علمهم طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من عسكر خاقان، فوقف. فلما كان في وجه الصبح خرج فارس الترك بطوقه، وضرب بطبله، ووقف من العسكر موقفا يقفه مثله.
فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين سبقه الأحنف، فقتله. قال الأحنف: فارتجزت:
إنّ على الرئيس حقّا حقّا ** أن يخضب الصعدة أو تندقّا
ثم وقف موقف التركي، وأخذ طوقه، وخرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف، فقتله. ثم وقف موقف التركيّ الثاني. قال الأحنف: فارتجزت:
إنّ الرئيس يرتبى ويطلع ** ويمنع الحلاء إمّا أربعوا
وأخذ طوق التركيّ، ثم خرج ثالث، ففعل فعل الرجلين، ووقف دون الثاني منهما، فحمل عليه الأحنف، فقتله، قال: وارتجزت:
جرى الشموس ناجزا بناجز ** محتفل في جريه مشارز
ثم انصرف إلى عسكره ولا يعلم بذلك أحد. وكان من شيمة الترك أنّهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من كبرائهم وفرسانهم يضربون بالطبول، ثم يخرجون بعد خروج الثالث. فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث على فرسانهم مقتّلين. فتشاءموا، وتشاءم خاقان وتطيّر وقال: « قد طال مقامنا وأصيب هؤلاء القوم بمكان لم يصب بمثله أحد منّا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، انصرفوا بنا. » فكان وجوههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا. وأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ، وقد كان يزدجرد ترك خاقان بمرو الروذ، وخرج إلى مرو الشاهجان فتحصّن منه حارثة بن النعمان خليفة الأحنف، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها وخاقان ببلخ ينتظره مقيم له.
فقال المسلمون: « نحن نتبع خاقان. » فقال: « بل أقيموا مكانكم. » ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو وأعجل عنه، وأراد أن يستقلّ منها، حاول أمرا عظيما من خزائن أهل فارس، وكان أراد اللحاق بخاقان.
فقال أهل فارس: « ما تريد أن تصنع؟ » قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. » فقالوا له: « مهلا، فإنّ هذا رأى سوء. إنّك إنّما تأتى قوما في مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم، فإنّهم أوفياء وأهل دين، وهم يلون بلادنا، وإنّ عدوّا يلينا في بلادنا أحبّ إلينا من عدوّ يلينا في بلاده، ولا دين لهم، فلا ندري ما وفاءهم. » فأبى عليهم، فأبوا عليه. قالوا: « فدع خزائننا نردّها إلى بلادنا ومن يليها، لا تخرجها من بلادنا إلى غيرها. » فأبى. فقالوا: « فإنّا لا ندعك. » فاعتزلوا وتركوه في حاشيته. ثم اقتتلوا، فهزموه، وأخذوا الخزائن واستولوا عليها، ونكبوه، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر. فاعترضهم المسلمون والمشركون بمرو، فقاتلوه، وأصابوه في آخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال ومضى حتى قطع النهر إلى فرغانة والترك، فلم يزل مقيما زمان عمر كلّه يكاتبهم ويكاتبونه إلى زمان عثمان.
فأقبل أهل فارس إلى الأحنف، فصالحوه، وعاقدوه، ودفعوا الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل ما كانوا في زمان الأكاسرة.
فكانوا كأنّهم في ملكهم. إلّا أنّ المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم.
وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.
ولما سمع خاقان ما لقي يزدجرد وخروج المسلمين مع الأحنف من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر، وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ، وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ، فنزل بها، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس. ووفد الوفود إليه.
حوار بين خاقان ورسول يزدجرد
ولما عبر خاقان النهر، وعبر معه حاشية آل كسرى مع يزدجرد لقوا رسول يزدجرد الذي كان نفذ إلى ملك الصين، فسألوه عما وراءه.
فقال: لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون. - وأراهم هديته وجوابه عن كتاب يزدجرد إليه - قال لي:
« قد علمت أنّ حقّا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك، تذكر قلّة منهم وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف [ منكم ] معما أسمع من كثرتكم إلّا بخير عندهم وشرّ فيكم. » فقلت: « سلني عما أحببت أخبرك. » قال: « أيوفون بالعهد؟ » قلت: « نعم. » قال: « وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ » قلت: « يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. » قال: « فكيف طاعتهم أمراءهم؟ » قلت: « أطوع قوم لمرشدهم. » قال: « فما يحرّمون وما يحلّون؟ » فأخبرته.
قال: « أفيحلّون ما حرّم عليهم، أو يحرّمون ما حلّل لهم؟ » قلت: « لا. » قال: « فإنّ هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يبدّلوا. » ثم قال: « أخبرني عن لباسهم ». فأخبرته، « وعن مطاياهم » فقلت: « الخيل العراب. » ووصفتها.
فقال: « نعمت الحصون هذه. » ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها.
فقال: « هذه صفة دوابّ طوال الأعناق. » وكتب معه إلى يزدجرد:
« إنّه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوّله بمرو، وآخره بالصين، الجهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم، لو يحاولون الجبال لهدّوها، ولو خلّى سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك. »
وأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة معهم عهد بخاقان. ثم جرى ما جرى من قبل عمر، رضي الله عنه.
ذكر كتاب عمر وجمل من سياسته
كان يكتب لعمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات على ديوان البصرة، وأبو حبيرة بن الضحّاك الأنصاري على ديوان الكوفة. فأمّا زيد بن ثابت فإنّه كان كاتب النبي ﷺ فكان يخلو به عمر. فقال له يوما: « إني استصحبتك لكتب أسرارى الذي رأيت رسول الله ﷺ يفعله بك. فأخبرني عن كتبه كيف كانت إلى الملوك وغيرهم. » فقال زيد: « اعفني يا أمير المؤمنين. » فقال له: « ممّ ذاك؟ » قال زيد: « إنّ رسول الله (ص) قال لي: يا زيد! إني انتخبتك، فاحفظ أسرارى، واكتم ما استحفظتك. فضمنت له ذلك. » فأمسك عمر عن معاودته، لكن كان يملى عليه ويستعين برأيه. وكان زيد ذا رأى ونفاذ.
وكان عمر يقول لكتّابه ويكتب إلى عمّاله: « إنّ القوة على العمل أن لا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنّكم إذا فعلتم ذلك تداكّت الأعمال عليكم، فلا تدرون بأيّها تبدأون، وأيّها تؤخّرون. »
تدوينه الدواوين
وكان عمر أول من دوّن الدواوين من العرب. وكان سبب ذلك أنّ أبا هريرة قدم عليه من البحرين ومعه مال، فلقى عمر. فقال له عمر: « ما ذا جبيت؟ » قال: « خمسمائة ألف درهم. » فقال عمر: « أتدرى ما تقول؟ » قال: « نعم، مائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف. » فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أيّها الناس، قد جاء مال عظيم، فإن شئتم كلنا كيلا، وإن شئتم أن يعدّ عددنا. » فقام رجل فقال: « يا أمير المؤمنين، هؤلاء الأعاجم يضبطون هذا بالديوان. » قال: « فدوّنوا الدواوين. » وكان عمر بعث بعثا بعد أن آمن الفيرزان وحضره فقال: « يا أمير المؤمنين، هذا البعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف منهم رجل وأخلّ بمكانه ما يدرى صاحبك به؟ » وأشار عليه بالديوان وفسّره له، فوضع عمر الديوان.
وكان أبو موسى الأشعري كتب إلى عمر رضي الله عنه:
« انّ المال كثر وكثر من يأخذه، فلسنا نحصيه إلّا بالأعاجم، فاكتب إلينا برأيك. » فكتب إليه عمر: « لا تعدهم في شيء سلبهم الله إياه، أنزلوهم حيث أنزلهم الله وتعلّموا. »
فاستكتب أبو موسى زيادا، وكتب عمر إلى أبي موسى يستقدمه. فاستخلف زياد عمران بن حصين وقدم عليه. فقال عمر: « لئن كان أبو موسى استخلف حدثا لقد استخلف الحدث كهلا. » ثم دعا بزياد وقال: « أكتب إلى خليفتك بما يجب أن يعمل به. » فكتب إليه كتابا ودفعه إلى عمر، فنظر فيه، ثم قال: « أعد »، فكتب غيره، ثم قال: « أعد »، فكتب الثالث.
فقال عمر بعد ذلك: « لقد بلغ ما أردت في الكتاب الأول، ولكني ظننت أنّه قد روّى فيه، ثم بلغ في الثاني ما أردت، فكرهت أن أعلمه ذلك لئلّا يدخله العجب، فوضعت منه لئلّا يهلك ».
وكان عمر يملي على كاتب بين يديه وزياد حاضر. فكتب الكاتب غير ما قال عمر.
فقال له زياد: « يا أمير المؤمنين، إنه يكتب غير ما قلت له. » فقال عمر: « أنّى علمت هذا. » فقال: « رأيت رجع فيك وخطّه، فرأيت ما أجارت كفه غير ما رجعت به شفتيك. » فاستحسنه عمر.
ثم قال له يوما: « يا زياد، هل أنت حامل كتابي إلى أبي موسى في عزلك عن كتابته؟ » قال: « نعم، يا أمير المؤمنين. ولكن أعن عجز أم خيانة؟ » قال: « لا عن واحد منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعيّة. »
وضعه التأريخ
وكان عمر أول من كتب التاريخ من الهجرة، لأنّ أبا موسى كتب إليه أنه: « تأتينا منك كتب ليس فيها تاريخ. » - وكانت العرب تؤرّخ بعام الفيل. فجمع عمر الناس للمشهورة.
فأشار بعضهم: أن يؤرّخ بمبعث النبي ﷺ.
وقال بعضهم: « بمهاجرته. ».. فأرّخ به. وكان ذلك في سنة سبع عشرة، أو ثماني عشر من الهجرة.
ثم قالوا: « بأيّ الشهور نبدأ؟ » فقال بعضهم: « بشهر رمضان. » فقال عمر: « بل بالمحرّم، فهو منصرف الناس من حجّهم، وهو شهر حرام. » فأجمعوا على المحرّم.
ودخل كاتب لعمرو بن العاص على عمر، فحاوره فأحسن الكلام، فقال عمر: « ألست ابن القين بمكة؟ » فقال: بلى.
فقال عمر: « لا يلبث القلم، أو يبلغ بصاحبه. » وكان عمر إذا استعمل عاملا كتب له عهدا، وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأنصار واشترط عليه ألّا يركب برذونا، ولا يأكل ما لا يقدر عليه أوساط رعيّته، ولا يلبس رقيقا، ولا يتّخذ بابا دون حاجات الناس.
أنتم المؤمنون وأنا أميركم
وهو أول من خوطب ب « أمير المؤمنين » وذاك أنّ أبا بكر خوطب ب « خليفة رسول الله » ﷺ فلما خلف عمر خوطب ب « خليفة خليفة رسول الله ». قال عمر: « أمر يطول. إذا جاء خليفة آخر قلتم: « خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم ».
وهو أول من جمع الناس على إمام [ يصلّي بهم التراويح ] في شهر رمضان، وكتب به إلى البلدان وأمرهم بذلك، وزاد في مصابيح المساجد.
وهو أول من حمل الدرّة وضرب بها.
فمن ذلك ما رويناه أنّ عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أتي بمال، فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه. فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدرّة، وقال: « إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض. فأحببت أن أعلمك أنّ سلطان الله لا يهابك. »
ورأت الشفاء بنت عبد الله قوما يقصدون في المشي، ويتكلّمون رويدا. فقالت: « ما هذا؟ » قالوا: « نسّاك. » فقالت: « كان والله عمر إذا تكلّم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع. هو والله الناسك حقّا. »
وذكر قوم رجلا بين يدي عمر، ووصفوه وقالوا: « هو فاضل لا يعرف الشرّ. » قال: « أجدر له أن يقع فيه. »
واستعمل عمر عتبة بن أبي سفيان على كنانة، فقدم عليه بمال. فقال عمر: « ما هذا يا عتبة؟ » قال: « هذا مال خرجت به معي فتجرت فيه. » قال: « وما لك تخرج المال معك في هذا الوجه، فصيّره في بيت المال. » فلمّا ولى عثمان قال لأبي سفيان: « إن طلبت ما أخذ عمر من عتبة رددته عليك. » فقال أبو سفيان: إنّك إن خالفت صاحبك الذي تقدّمك ساء رأي الناس فيك، إياك أن تردّ على من قبلك فيردّ عليك من يجيء بعدك.
كان معجبا بسياسات ملوك العجم
وكان عمر يكثر الخلوة بقوم من الفرس يقرأون عليه سياسات الملوك وسيّما ملوك العجم الفضلاء، وسيّما أنوشروان، فإنّه كان معجبا بها، كثير الاقتداء بها. وكان أنوشروان مقتديا بسيرة أردشير آخذا نفسه بها، وبعهده الذي كتبناه فيما مضى، مطالبا به غيره. وكان أردشير متبعا لبهمن وكورس، مقتديا بهما. فهؤلاء جلّة ملوك الفرس وفضلاؤهم الذين ينبغي أن يقتدى بأفعالهم وسيرهم وتتعلّم سياساتهم ويتشبّه بهم.
وروينا عن عمران بن سوادة أنه قال: دخلت على عمر، فذكرت أشياء مما عابه بها الناس فأصغى إليّ: وضع رأس درّته في ذقنه، ووضع أسفلها على فخذه يستمع إلى ما أقول، إلى أن قلت: « وإنّ الرعيّة يشكون منك عنف السياق. » فشرع الدرّة، ثم مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: « أم والله، إني لأرتع فأشبع، وأسقى فأروى، وأنهز العروض وأؤدّب (أؤرب؟ ) قدري، وأزجر اللقوف، وأسوق خطري، وأضمّ الهيوب، وألحق العطوف، وأكثر الزجر، وأقلّ الضرب، وأشهر العصا، وأدفع باليد. » فبلغ ذلك معاوية بعد، فقال: « كان والله عالما برعيّته. »
خلافة عثمان بن عفان
ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب
لما قتل عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قيل له حين طعن: « استخلف. » فأبى أن يسمّى رجلا بعينه وقال: « عليكم هؤلاء الرهط الذين توفّى رسول الله ﷺ وهو عنهم راض: عليّ، وعثمان ابنا عبد مناف، وعبد الرحمن، وسعد خالا رسول الله ﷺ والزبير بن العوام حواريّ رسول الله ﷺ وابن عمّته، وطلحة الخير. فليختاروا رجلا منهم، ويشاوروا ثلاثة أيام، وليصلّ بالناس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الثالث إلّا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم. » وقال لأبي طلحة الأنصاري: « إنّ الله تعالى طال ما أعزّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا. » وقال لصهيب: « صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليّا، وعثمان، والزبير، وسعدا، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة - إن قدم - وأحضر عبد الله بن عمر، ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة ورضوا واحدا منهم وأبي واحد فاشدخ رأسه واضرب رأسه بالسيف، وإن اتّفق أربعة فرضوا واحدا وأبي اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضى ثلاثة منهم رجلا واحدا وثلاثة رجلا منهم فحكّموا عبد الله بن عمر، فأيّ الفريقين حكم فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس. » فخرجوا من عنده، فقال لعليّ قوم كانوا معه من قريش: « ما ترى؟ » فقال عليّ: « إن أطيع فيكم قومكم، لم تؤمّروا أبدا. » وتلقّاه العباس، فقال له عليّ: « عدلت عنّا ». قال: « وما علمك؟ » قال: « قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون: فيولّيها عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعانى، بله أنّى لا أرجو إلّا أحدهما. » فقال العباس: « لم أدفعك في شيء إلّا رجعت إليّ مستأخرا بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله ﷺ أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، ثم أشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر، فأبيت، ثم أشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى ألّا تدخل معهم، فأبيت. احفظ عني واحدة: كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولّوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به غيرنا، وأيم الله، لا نناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير. » فأجابه عليّ بما سمع بعضه ولم يسمع بعضه، وتمثّل بأبيات. والتفت، فرأى أبا طلحة، فكره مكانه. فقال أبو طلحة: « لم ترع أبالحسن ».
وكان خلع عبد الرحمن نفسه، ورضوا أن يكون هو الذي يختار للمسلمين، وقد كان جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والقوم في البيت يتشاورون، فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما.
ولما كان اليوم الرابع صعد عبد الرحمن المنبر في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ﷺ ثم قال:
« أيّها الناس، إني قد سألتكم سرّا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد الرجلين: إما عليّ وإما عثمان. فقم إليّ يا عليّ! » فوقف تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: « هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيه وفعل أبي بكر؟ » قال: « اللهم لا، ولكن على جهدي وطاقتي. » قال: فأرسل يده، ثم نادى: « قم يا عثمان! » فأخذ بيده وهو في موقف عليّ الذي كان فيه، فقال: « هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيه وفعل أبي بكر؟ » قال: « اللهم نعم. » فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال: « اللهم اسمع واشهد، اللهمّ اسمع واشهد: إني جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان. » فازدحم الناس يبايعون عثمان، وكان عبد الرحمن قعد مقعد النبي ﷺ من المنبر، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية.
قال: وجعل الناس يبايعونه، وتلكّأ عليّ، فقال عبد الرحمن: فَمَنْ نَكَثَ، فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمن أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا. فرجع عليّ يشقّ الناس حتى بايع عثمان وهو يقول: « خدعة وأيّما خدعة ».
ذكر هذه الخدعة
كان سبب قول عليّ: « خدعة. » أن عمرو بن العاص كان لقي عليّا في ليالي الشورى فقال: « إني أحبّك وأريد نصحك: إنّ عبد الرحمن رجل مجتهد، ومتى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك، فلا تظهر كلّ الرغبة، ولا تبذل له من نفسك إلّا الجهد والطاقة، ولا تضمن له كلّ ما يسألك وأوم إلى التواضع. » ثم أتى عثمان، فقال له: « إنّ عبد الرحمن ليس والله يبايعك إلّا بالعزيمة، فاقبل ما يعطيك، وأعطه ما يسألك. » فلذلك قال عليّ: « خدعة. » وقد قيل: إنّ عليّا قال ذلك لأجل ما ذكرناه من اقتران عثمان وعبد الرحمن.
قال: ثم انصرف عثمان إلى بيت فاطمة بنت قيس، والناس معه، فقام المغيرة بن شعبة خطيبا، فقال: « يا أبا محمد، الحمد لله الذي وفّقك. ما كان لنا غير عثمان - وعليّ جالس.
فقال عبد الرحمن: « يا ابن الدبّاغ، ما أنت وذاك، والله ما كنت أبايع أحدا من هؤلاء إلّا قلت فيه هذه المقالة.
وكان أول ما كتبه عثمان إلى أمراء الأجناد في الفروج: « أما بعد، فانّكم حماة المسلمين، وذادتهم، وقد وضع عنكم عمر ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملأ منّا، فلا يبلغنّي عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغيّر الله ما بكم، ويستبدل بكم غيركم. » وكتب إلى عمّال الخراج كتابا يحضّهم فيه على العدل، وكتابا إلى العامّة يأمرهم فيه بالطاعة والاقتداء وترك الابتداع.
مقتل يزدجرد وما تم عليه من الاتفاقات الطريفة
إنّ يزدجرد لما وقع إلى أرض فارس بقي سنين. ثم أتى كرمان، فأقام بها مثل ذلك. فطلب إليه دهقان كرمان شيئا، فلم يجبه إليه، فطرده عن بلاده. ثم أجمع أن ينزل خراسان، فأتى سجستان، فأقام بها، ثم سار إلى مرو، ومعه الرهن من أولاد الدهاقين، ومعه من رؤسائهم فرّخزاد.
فلمّا قدم مرو، واستغاث منها الملوك، وكتب إليهم يستمدّهم مثل صاحب الصين، وملك فرغانة، وملك كابل، وملك الخزر، كان الدهقان بمرو ماهويه، وكان له ابن يسمّى نزار، فوكّل ماهويه ابنه نزار بمدينة مرو، وتقدّم إليه وإلى أهل المدينة ألّا يفتحوا الباب ليزدجرد، وقال لهم: « ليس هذا لكم بملك لأنّه قد سلّم بلاده وجاءكم مفلولا مجروحا، ومرو لا تحتمل ما تحتمل غيرها من الكور. فإذا جئتكم غدا فلا تفتحوا الباب. » فلمّا أتاهم فعلوا ذلك.
وانصرف [ فرّخزاذ ]، فجثا بين يدي يزدجرد وقال: « استصعبت عليك مرو، وهذه العرب قد أتتك. » قال: « فما الرأي؟ » قال: « أن تلحق ببلاد الترك، فتقيم بها، حتى يتبيّن لنا أمر العرب. فإنّهم لا يدعون بلدة إلّا دخلوها. » قال: « لست أفعل، ولكن أرجع عودي على بدئي. » فعصاه ولم يقبل رأيه. فسار يزدجرد، [ وأتى نزار دهقان مرو ]، وأجمع على صرف الدهقنة عن ابنه نزار إلى سنجان ابن أخيه.
فبلغ ذلك ماهويه وهو أبو نزار وعمل في هلاك يزدجرد، وكتب إلى نيزك طرخان يخبره أن يزدجرد وقع إليه مفلولا، ودعاه إلى القدوم عليه، ليكون أيديهما معا في أخذه والاستيثاق منه، فيقتلوه، ويصالحوا عليه العرب، وجعل له في كلّ يوم ألف درهم، وسأله أن يكتب إلى يزدجرد مما كرا له لينحّى عامّة جنده، ويحصل في طائفة من خواصّه، فيكون أضعف لركنه وأهون لشوكته، وقال: « تعلمه في كتابك إليه الذي عزمت عليه في مناصحته ومعونته على العرب: أن يشتقّ لك اسما من أهل الدرجات بكتاب مختوم بالذهب، وتعلمه أنك لست قادما عليه حتى تنحّى عنه فرّخزاد. » فكتب نيزك بذلك إلى يزدجرد، فلمّا ورد عليه كتابه بعث إلى عظماء مرو، فاستشارهم.
فقال له سنجان: « لست أرى أن تنحّى عنك أصحابك ولا فرّخزاد لشيء. »
وقال نزار: « بل أرى أن تبايعه يعنى نيزك - وتجيبه إلى ما سأل. » فقبل رأيه، وفرّق عنه جنوده، وأمر فرّخزاد [ أن يأتى ] لأجمة سرخس، فصاح فرّخزاد، وشق جيبه وتناول عمودا بين يديه يريد ضرب نزار به، وقال: « يا قتلة الملوك، قتلتم ملكين، وأظنّكم قاتلي. » هذا، ولم يبرح فرّخزاذ. حتى كتب له يزدجرد كتابا بخطّ يده، نسخته: « هذا كتاب لفرخزاذ: إنك قد أسلمت يزدجرد وأهله وولده وحاشيته وما معه، إلى ماهويه دهقان مرو. » وأشهد عليه بذلك.
فأقبل نيزك إلى موضع من مرو يقال له حلبندان. فلما أجمع يزدجرد على لقائه والمسير إليه، أشار عليه أبو نزار ألّا يلقاه في السلاح فيرتاب به وينفر عنه، ولكن يلقاه بالملاهي والمزامير. ففعل، وسار إليه كذلك، وتقاعس عنه أبو نزار، وكردس نيزك أصحابه كراديس.
فلما تدانيا استقبله نيزك ماشيا ويزدجرد على فرس له. فأمر لنيزك بجنيبة من جنائبه، فركبها، فتوسط عسكره، فتواقفا.
فقال له نيزك في ما يقول: « زوّجنى إحدى بناتك لأناصحك وأقاتل معك عدوّك. » فقال له يزدجرد: « عليّ تجترئ يا كلب! » فعلاه نيزك بمخفقته. وصاح يزدجرد: « غدر الغادر. »
وركض منهزما، ووضع أصحاب نيزك سيوفهم فيهم، فأكثروا القتلى.
يزدجرد والطحان
وانتهى يزدجرد في هزيمته إلى مكان من أرض مرو، فنزل عن فرسه، ودخل بيت طحّان، مكث فيه ثلاثة أيام.
فقال له الطحان: « أيها الشقيّ، اخرج فاطعم شيئا فإنّك جائع منذ ثلاث. » قال: « لست أصل إلى ذلك إلّا بزمزمة. » وكان رجل من زمامة مرو قريبا منه، فأتاه الطحّان، وسأله أن يزمزم عليه ليأكل. ففعل ذلك. فلما انصرف إلى مرو سمع أبا نزار يذكر يزدجرد ويطلبه، فأتاه، فسأله وأصحابه عن حليته. فوصفوه. فأخبرهم أنّه رءاه في بيت طحان وهو رجل جعد مقرون حسن الثنايا مقرّط مسوّر.
فوجه إليه رجلا من الأساورة، وأمره أن يخنقه بوتر ويطرحه في نهر مرو.
فلقوا الطحان، فضربوه ليدلّ عليه، فلم يفعل وجحدهم أن يعرف أين يتوجّه. فلما أرادوا الانصراف عنه، قال رجل منهم: « إني أجد ريح المسك فلو تتبّعته. » فنظر إلى طرف ثوب من ديباج في الماء، فاجتذبه إليه، فإذا هو يزدجرد، فسأله ألّا يقتله ولا يدلّ عليه: ويجعل له خاتمه وسواره ومنطقته.
فقال: « أعطنى أربعة دراهم وأخلّى عنك. » قال: « ويحك! خاتمي لك وثمنه لا يحصى! » فأبى عليه.
قال يزدجرد: « قد كنت أخبرت أنّى سأحتاج إلى أربعة دراهم، وأضطرّ إلى أن يكون أكلى أكل الهرّ، فقد عانيته. » ثم انتزع أحد قرطيه، وأعطاه الطحّان مكافأة لكتمانه عليه، ودنا منه كأنّه يكلّمه بشيء، فأنذر الرجل أصحابه، وأتوه، فطلب إليهم يزدجرد ألّا يقتلوه، وخوّفهم ما عليهم من دينهم من ذاك. وقال: « آتوني الدهقان أو سرّحونى إلى العرب، فإنّهم يستحيون مثلي من الملوك. » فأخذوا ما كان عليه من الحليّ، فجعلوه في جراب، وختموا عليه، ثم خنقوه بوتر، وطرحوه في نهر مرو، فجرى به الماء حتى انتهى إلى فوهة الدريق، فتعلّق بعود، فأخذ من هناك. ثم تفقّد أبو نزار أحد قرطيه، فأخذ الذي دلّ عليه، فضربه حتى أتى على نفسه، وبعث بما أصيب له إلى الخليفة يومئذ، فأغرم الخليفة الدهقان قيمة القرط المفقود.
رواية أخرى في ذلك
وقد حكى في رواية أخرى: أنّ نزار وسنجان كانا متباغضين متحاسدين، وخصّ به نزار فحسده سنجان، فظهر ذلك لنزار، فجعل يوغر صدر يزدجرد ويسعى في قتله، ولم يزل يغرى يزدجرد بسنجان حتى عزم على قتله، وأفشى ما كان عليه عزم من ذلك إلى امرأة من نسائه كان نزار واطأها. فأرسلت إلى نزار تبشّر بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا الحديث وبلغ سنجان.
فجمع جموعا وتوجّه نحو القصر الذي فيه يزدجرد، وبلغ ذلك نزار، فنكص عن سنجان لكثرة جمعه، وأرعب ذلك يزدجرد. فخرج ذاهبا على وجهه راجلا ينجو بنفسه، فمشى نحوا من فرسخين حتى وقع إلى رحى من ماء، فدخل بيت الرحى، فجلس فيه كالّا لغبا، فرآه صاحب الرحى ذا هيئة، وطرّة، وبزّة كريمة. ففرش له وأتاه بطعام. فطعم ومكث عنده يوما وليلة. فسأله صاحب الرحى أن يأمر له بشيء، فبذل له منطقته، وكانت مكلّلة بجوهر. فأبى صاحب الرحى أن يقبلها وقال: « إنما يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم آكل بها وأشرب ».
فأخبره ألّا ورق معه، فتملّقه صاحب الرحى حتى إذا أغفى، قام إليه بفأس، فضرب بها هامته، فقتله، وأخذ ما كان عليه من ثياب وحليّ، وألقى جيفته في النهر وبقر بطنه، فأدخل فيه من أصول طرفاء كانت نابتة على النهر ليحبس جثته في الموضع الذي ألقاها فيه، فلا ينتقل فيعرف ويطلب وما أخذ من سلبه، وهرب على وجهه.
وبلغ قتل يزدجرد رجلا من الأهواز كان مطرانا على مرو يقال له: إيليا، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال:
« إنّ ملك الفرس قتل وهو ابن شهريار بن كسرى وإنّما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي عرفتم حقّها وإحسانها إلى أهل ملّتها وكانت بنت قيصر. ثم لهذا الملك عنصر في النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جدّه من الشرف، حتى بنى لهم البيع، وشدّ ملّتهم، فينبغي أن نجزى هذا الملك بقدر طاقتنا من الكرامة، وقد رأيت أن أبنى له ناووسا وأحمل جثّته في كرامة، حتى أجعلها فيه. »
فقال النصارى: « أمرنا لأمرك تبع. » فأمر المطران، فبنى له في جوف بستانه بمرو ناووس، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثّة يزدجرد، وكفّنها في تابوت، وحمله ومن كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس، وواروه فيه، وردموا بابه.
وقيل: بل حمله إلى إصطخر فوضع في الناووس هناك. وذلك في سنة إحدى وثلاثين للهجرة.
وكان ملك يزدجرد عشرين سنة منها أربع سنين في دعة وستّ عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إيّاه، ومحنته بهم، وغلظتهم عليه. وكان آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك، وصفا الملك بعده للعرب.
ما جرى في خلافة عثمان مما تستفاد منه تجربة
وقد كنّا ذكرنا ما يجب ذكره من خلافة عثمان - رضي الله عنه - وما تمّ منه على الوجه الذي اقتصصناه.
ثم جرى بعد ذلك مما تستفاد منه تجربة أنّ قوما من المسلمين أنكروا منه أشياء، فكانوا يتذاكرونها بينهم، وذلك بالعراق خاصّة وبالمدينة دون غيرهما. ثم انتشر منهم طائفة في سائر الأعمال ينعون على عثمان أمورا ويشنّعون عليه.
فسيّر عثمان منهم نفرا إلى الشام ليذلّهم بمعاوية، وجرى لهم معه خطب طويل. ثم تكاتبوا بعد ذلك، وجميع ذلك شبيه بالسرّ.
إلى أن شرب الوليد بن عقبة، وهو وال على الكوفة خمرا وشهد عليه به من لم يمكن ردّ شهادته، فاستقدمه عثمان المدينة وجلده الحدّ، وردّ مكانه سعيد بن العاص، فورد سعيد، وأمر بغسل المنبر من مقامه، فكلّمه في ذلك قوم من قريش، فأبى عليهم، وغسل الموضع ودارى الناس، فلم يتمّ له ما أراد، وشغّب عليه الناس.
ثم أجمع رأى الناس على أن يبعثوا إلى عثمان رجلا يكلّمه ويخبره بأحداثه.
فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس التيمي، وكان يعدّ من النسّاك. فأتاه فدخل عليه فقال: « إنّ ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما، فاتق الله، وتب إليه، وانزع عنها. » فقال عثمان: « انظروا إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارئ، ثم يجئ فيكلّمنى في المحقّرات ويزعم أنها عظائم، فوالله ما يدرى أين الله. » قال عامر: « أنا لا أدري أين الله؟ » قال: « نعم، والله لا تدرى أين الله. » قال عامر: « بلى والله، إني لأدرى أنّ الله لك لبالمرصاد. » فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص وأمثالهم، فجمعهم يشاورهم ويخبرهم بما بلغ منه. فلما اجتمعوا عنده قال: « إنّ لكل امرئ وزراء نصحاء، وإنّكم وزرائى ونصحائى وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما رأيتم، وطلبوا إليّ أن أعزل عمّالى وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون. فاجتهدوا لي رأيكم ثم أشيروا عليّ. » فقال عبد الله بن عامر: « رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلّوا لك، فلا تكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبر دابّته وقمل فروته. » ثم أقبل على سعيد بن العاص فقال: « ما رأيك؟ » قال: « يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد رأينا فاحسم عنّا الداء، واقطع ما تخاف من الأصل، واعمل برأيي. » قال: « وما هو؟ » قال: « إنّ لكلّ قوم قادة متى تهلك تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر. » فقال عثمان: « إنّ هذا الرأي لولا ما فيه. » ثم أقبل على معاوية، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « رأيي يا أمير المؤمنين أن تردّ عمّالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لما قبلي. » ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « يا أمير المؤمنين، الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.
ثم أقبل على عمرو بن العاص، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتزل، فإنّك قد ولّيت الناس بني أمية وحملتهم على أرقابهم، فاعتزل، فإن أبيت فامض قدما. » فقال له عثمان: « مالك، قمل فروك مذ عزلتك، أهذا الجدّ منك؟ » فسكت عنه عمرو حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: « لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزّ عليّ من ذلك، ولكن قد علمت أنّ الناس قد علموا أنّك جمعتنا لتستشيرنا، وسيبلغهم قول كلّ رجل منّا. فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي لأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرّا. » فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
وردّ سعيد بن العاص أميرا على الكوفة.
أهل الكوفة يردون سعيد بن العاص
فخرج أهل الكوفة عليهم السلاح يقدمهم مالك بن الحارث الأشتر، فتلقّوه وردّوه وقالوا: « لا، والله، لا تلى علينا حكما، ولا تدخلها علينا ما حملنا سيوفنا. » فرجع سعيد وقال للناس: « أما اختلفتم إلّا لي؟ إنّما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وتضعوا لي رجلا، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل؟ » ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره الخبر.
فقال عثمان: « ما يريدون، أخلعوا يدا عن الطاعة؟ » قال: « أظهروا أنّهم يريدون البدل. » قال: « فمن يريدون؟ » قال: « أبا موسى. » قال: « أثبتنا أبا موسى عليهم. والله لا نجعل لأحد منهم عذرا، ولا نترك لهم حجّة، ولنصيرنّ كما أمرنا حتى يبلغ الله ما يريد. » وكان يزيد بن قيس لما استغوى الناس على سعيد بن العاص، خرج منه ذكر قبيح لعثمان. فأقبل إليه القعقاع بن عمرو حتى أخذه.
فقال: « ما تريد يا قعقاع، ألك علينا في أن نستعفى سبيل؟ » قال: « وهل إلّا ذاك؟ » قال: « لا. » وإنما قال ذلك لما لم يتمّ له جميع ما يريد - فقال له القعقاع: « فأمسك عن الكلام واستعف كيف شئت. »
كثر الناس على عثمان وكلموا عليا فيه
فلما كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله ﷺ بعضهم إلى بعض أن: « اقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد. » وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون، ليس منهم أحد يذبّ ولا ينهى.
فاجتمع الناس فكلّموا عليّ بن أبي طالب، ﵇. فدخل عليّ على عثمان فقال:
« إنّ الناس ورائي، وقد كلّمونى فيك، وو الله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه وما خصصنا بأمر دونك. قد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله ﷺ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك، ولا ابن الخطّاب بأولى بشيء من الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله ﷺ رحما. فالله الله في نفسك. فإنّك والله ما تبصّر من عمى ولا تعلّم من جهل، وإنّ الطريق لواضح بيّن، وإنّ أعلام الدين لقائمة. تعلم يا عثمان، أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى وهدى، واستقام وأقام سنّة معلومة، وأمات بدعة معلومة. فوالله إنّ كلّا لبيّن، وإنّ السنن لقائمة لها أعلام، وإنّ البدعة لقائمة لها أعلام. وإني أحذّرك الله وسطوته ونقماته، وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمّة الذي سمعنا به، فإنّه كان يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح به عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس عليهم أمورهم، ويتركهم شيعا لا يبصرون الحق لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجا. » قال عثمان: « قد والله علمت أنّك تقول [ الذي قالوه ] أما والله لو كنت بمكاني ما عنّفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، وإني ما جئت منكرا إن وصلت رحما، وسددت خلّة، وأويت ضائعا، وولّيت شبيها بمن كان يولّى عمر.
أنشدك الله يا على، هل تعلم أنّ مغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: « نعم. » قال: « فتعلم أنّ عمر ولّاه. » قال: « نعم. » قال: « فلم تلومني أن ولّيت عبد الله بن عامر في رحمه وقرابته؟ » قال عليّ: « سأخبرك. إنّ عمر كان كلّ من ولّى فإنّما يطأ على صماخه، إن بلغه حرف خلعه، ثم بلغ أقصى الغاية، وأنت لا تفعل. ضعفت ورققت على أقربائك. » قال عثمان: « هم أقرباؤك أيضا. » قال عليّ: « أجل. لعمري إنّ رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم. » قال: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها، فقد ولّيته. » قال علي: « أنشدك الله، هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من عمر، من يرفأ غلام عمر، منه؟ » قال: « نعم. » قال عليّ: « فإنّ معاوية يقطع الأمر دونك، وأنت تعلم، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك، فلا تغيّر على معاوية. »
ثم خرج عليّ من عنده وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر، فقال:
أما بعد، فإنّ لكلّ شيء آفة ولكل أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون يرونكم ما تحبون ويسرّون ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلّا تبرّضا ولا يردون إلّا عكرا، لا يقوم لهم رائد، قد أعيتهم الأمور، وتعذّرت عليهم المكاسب، ألا! والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله، ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، ووطّأت لكم كنفى، وكففت يدي ولساني، فاجترأتم عليّ. أما والله، لأنا أعزّ نفرا، وأقرب ناصرا، وأكثر عددا وأقمن. إن قلت: هلمّ، أتى إليّ، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم [ منّى ] خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به. فكفّوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فقد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا، فما تفقدون من حقّكم. والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل من مال. فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد، فلم كنت إماما؟ »
فقام مروان بن الحكم فتكلّم، فقال عثمان: « اسكت لا سكتّ، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا، ألم أتقدّم إليك ألّا تنطق بحرف؟ » فسكت مروان ونزل عثمان.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين فيها كان ظهور السبائية وخروج أهل مصر إلى المدينة لقتل عثمان
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن سبا كان يهوديّا من أهل صنعاء، وأمّه سوداء.
فأسلم أيام عثمان، ثم تنقّل في بلدان المسلمين يحاول بدعة. فبدأ بالحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام. فلم يجتمع له أمر على ما يريد، فمضى نحو مصر. فلمّا أتاها، قال لأهلها في ما يقول: « أنا أعجب ممن يصدّق بأنّ عيسى يرجع، ويكذّب بأنّ محمدا لا يرجع، وقد قال الله: « إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد. » فمحمد أحقّ بالرجوع. » فوضع لهم الرجعة.
ثم قال: « ما من نبي إلّا وله وصيّ، وعليّ وصيّ محمّد. »
ثم قال: « من أظلم ممن لم يجز وصيّة رسول الله ﷺ ووثب على حقّ ليس له، وتناول [ أمر ] الأمة؟ » ثم قال: « هذا عثمان قد غصب عليّا، وغيّر وبدّل، وكان وكان، فانهضوا في الأمر، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واطعنوا على أمرائكم تجدوا مقالا، وادعوا إلى هذا الأمر. » وبثّ دعاة في الأمصار، وكاتب من استفسده في الأمصار وكاتبوه. ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، وتكاتب أهل الأمصار، حتى أوسعوا الأرض إذاعة، وتناولوا المدينة.
فدخل قوم على عثمان، فقالوا: « يا أمير المؤمنين، أيأتيك ما يأتينا؟ » قال: « لا، ما جاءني إلّا السلامة. » قالوا: « فإنّا قد أتانا كيت وكيت. » قال: « فأشيروا عليّ. » قالوا: « نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم. » فدعا جماعة من وجوه الصحابة فيهم عمار بن ياسر، فأرسل أحدهم إلى الكوفة، وأرسل آخر إلى البصرة، وأرسل عمارا إلى مصر، وأرسل ابن عمر إلى الشام، وفرّق الباقين في البلاد. فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا: « أيها الناس، ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين، ولا عوامّهم، والناس ساكتون قارّون. » فاستبطأ الناس عمّارا، فلم يفجأهم إلّا كتاب من عبد الله بن أبي سرح يخبرهم: أنّ عمارا قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وسودان بن حمران، وفلان وفلان.
فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: « أما بعد، فإني آخذ العمّال بموافاتي في كلّ موسم، فاقدموا عليّ. »
فقدم عليه عبد الله بن عامر، ومعاوية، وعبد الله بن سعد، وأدخل في المشورة سعدا وعمرا. فقال: « ويحكم! ما هذه الشكاة، وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بي. » فقالوا: « لا والله، ما صدقوا ولا برّوا، ولا يجلّ الأخذ بها، والانتهاء إليها. » قال: « فأشيروا عليّ. » قالوا: « هذا أمر يصنع في السرّ، ثم يلقى إلى غير ذي المعرفة، فيخبر به، فيتحدّث به الناس في مجالسهم. » قال: « فما دواء ذلك؟ » قالوا: « طلب هؤلاء القوم، ثم قتل الذين يخرج هذا من عندهم. » وقال معاوية: « ولّيتنى، فولّيت قوما لا يأتيك عنهم إلّا الخير. » قال: « فما الرأي؟ » قال: « حسن الأدب. » قال: « فما ترى يا عمرو؟ » قال: « أرى أنك قد لنت لهم، وأرخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تصنع كما كان يصنع عمر. » فتكلّم عثمان بكلام ليّن ونفّر، فشخص معاوية وعبد الله بن سعد، ورجع ابن عامر وسعيد معه، وردّ سائر الأمراء إلى أعمالهم.
وكان معاوية قد قال لعثمان غداة ودّعه: « يا أمير المؤمنين، انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإنّ أهل الشام على الأمر، لم يزولوا. » فقال: « أنا أبيع جوار رسول الله ﷺ وإن كان فيه قطع خيط عنقي؟ » قال: « فأبعث إليك جندا منهم يقيم بين ظهرانيّ أهل المدينة لنائبة إن نابت. » قال: « أنا أقتّر على جيران رسول الله ﷺ الأرزاق بجند يساكنهم وأضيّق على دار الهجرة والنصرة! » قال: « والله يا أمير المؤمنين لتقاتلنّ، ولتغزينّ. » قال: « حسبي الله ونعم الوكيل. » فقال معاوية: « يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور! » ثم خرج.
ثم إنّ السبائية كاتبوا أهل الأمصار أن يتوافوا المدينة لينظروا في ما يريدون، وأظهروا أنهم يأمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء لتطير في الناس، ولتحقّق عليه. فتوافوا المدينة، وأرسل عثمان رجلين فقال: « انظرا ما يريدون، واعلما علمهم. » فأتياهم وداخلاهم حتى أمنوهما، فأخبروهما بما يريدون، فقالا: « من معكم من أهل المدينة؟ » قالوا: « ثلاثة نفر. » قالا: « [ فهل إلّا؟ ] » قالوا: « لا. » قالا: « فكيف تريدون أن تصنعوا؟ » قالوا: « نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنقول: إنّا قرّرناه بها. فلم يخرج منها ولم يتب، ثم نخرج بعد ذلك كأنّا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنختلعه، فإن أبي قتلناه فكانت إيّاها. » فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وقال: « اللهم سلّم هؤلاء النفر، أما عمّار فحمل عليّ ذنب غيري وعركه بي، وأمّا محمد بن أبي بكر، فإنه رجل معجب يرى أنّ الحقوق لا تلزمه، وأما ابن [ سهله ] فإنّه يتعرض للبلاء. » ثم خطب عثمان، فجمع أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، وخبّرهم بما جاء به الرجلان، واعتذر مما تجنى الناس عليه، واستشارهم. فأشار قوم بقتلهم، ولان عثمان، فأبى أولئك إلّا قتلهم، وأبي إلّا تركهم. فرجعوا إلى بلادهم وفي نيّاتهم أن يغزوه مع الحجّاج كالحجّاج. فتكاتبوا وقالوا: موعدهم في ضواحي المدينة في شوال. فلمّا كان ذلك الوقت اجتمعوا، فنزلوا قرب المدينة - وذلك سنة خمس وثلاثين - وعدّتهم ألفا رجل، ينقصون قليلا أو يزيدون، من أهل البصرة والكوفة. وخرج أهل مصر ومعهم ابن السوداء، وكنانة بن بشر، وسودان بن حمران، وفي أهل الكوفة زيد بن صوحان، والأشتر النخعي، وفي أهل البصرة حكيم بن جبلة وبشر بن شريح وأميرهم حرقوص بن زهير، ثم تلاحق بهم الناس.
فأمّا أهل مصر فإنّهم كانوا يشتهون عليّا، وأمّا أهل البصرة فإنّهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنّهم كانوا يشتهون الزبير. وكان خروجهم جميعا، وقلوبهم شتى في من يختارون، ولا تشكّ فرقة إلّا أنّ الفلج معها، حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث، تقدّم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة، فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر وتركوا عامّتهم بذي المروة، وقالوا: « لا تعجلوا ولا تعجلونا! حتى ندخل المدينة ونرتاد، فإنّه بلغنا أنّهم قد عسكروا لنا. فوالله إن كان أهل المدينة استحلّوا قتالنا، وهم لم يعلموا علمنا لهم إذا علموا علمنا أشدّ، وإنّ أمرنا هذا لباطل، وإن لم يستحلّوا قتالنا، ووجدنا الذي بلغنا باطلا لنرجعنّ إليكم بالخبر. » قالوا: « فاذهبوا! » فدخل رجلان، فلقيا أزواج النبي ﷺ وطلحة، والزبير، وعليّا، وقالوا: « إنّما نؤمّ هذا البيت، ونستعفى هذا الوالي من بعض عمّالنا، ما جئنا إلّا لذلك. » [ واستأذناهم ] للناس بالدخول، فكلّهم أبي ونهى.
فاجتمع قوم من أهل مصر، فأتوا عليّا، ونفر من أهل البصرة، فأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة، فأتوا الزبير.
فأما المصريّون فانّهم لما أتوا عليّا وجدوه في عسكر عند أحجار الزيت، فسلّم المصريّون على عليّ وعرّضوا، فصاح بهم، وطردهم، وقال: « ارجعوا لا صحبكم الله. » فانصرفوا من عنده على ذلك.
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى حيث هو، وقد أرسل ابنيه إلى عثمان. فسلّم البصريّون عليه، وعرّضوا له، فصاح بهم وطردهم، وقال قريبا مما قال عليّ.
وأتى الكوفيّون الزبير وهو في جماعة وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلّموا عليه، وعرّضوا له، فصاح بهم وقال مثل ما قال صاحباه.
فانصرف القوم إلى عساكرهم وهي على ثلاث مراحل كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرّوا راجعين. فافترق أهل المدينة وكرّوا راجعين. فلم يفجأ أهل المدينة إلّا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم. وأحاطوا بعثمان وقالوا: « من كفّ يده فهو آمن. » وصلّى عثمان بالناس أياما، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدا من الكلام.
فأتاهم الناس فكلّموهم وفيهم عليّ. فقال: « ما ردّكم بعد ذهابكم؟ » قالوا: « أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا. »
وأتاهم طلحة، فقالوا له مثل ذلك. وأتاهم الزبير فقالوا له مثل ذلك. وأجمعوا على أن يعتزل عثمان، وهو في ذلك يصلّى بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى عثمان من شاء وهم في عينه أدقّ من التراب.
وكتب إلى أهل الأمصار يستمدّهم، ويشكو ما يلقى، بكتاب بليغ. فأتاهم الكتاب، وخرجوا على الصعب والذلول. فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج السكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو.
وكان بالكوفة جماعة يحضّضون على إغاثة أهل المدينة مثل حنظلة بن الربيع وأشباهه من أصحاب النبي ﷺ فكانوا يطوفون على مجالسها ويقولون: « يا أيها الناس، إنّ الكلام اليوم وليس به غدا، وإنّ النظر يحسن اليوم ويقبح غدا، انهضوا إلى نصرة خليفتكم. » وقام بالبصرة عمران بن الحصين وأنس بن مالك في أمثالهما من أصحاب النبي ﷺ يقولون مثل ذلك، وقام بالشام عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء في أمثالهما من أصحاب النبي ﷺ يقولون مثل ذلك، وقام بمصر خارجة في أشباه له.
ولما جاءت الجمعة التي [ على ] أثر [ نزول ] المصريّين مسجد الرسول خرج عثمان، فصلّى بالناس، ثم قام على المنبر، فقال: « الله الله يا معشر الغزّى! فامحوا الخطأ بالصواب. »
فقام محمد بن مسلمة فقال: « أنا أشهد بذلك. » فأخذه حكيم بن جبلة، فأقعده.
فقام زيد بن ثابت، فقال: « أبغنى الكتاب. » فثار إليه محمد بن أبي بكر فنتره وأقعده وقال: « اقطع! » وقام الناس بأجمعهم ثائرين بأهل المدينة، فحصبوهم، حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيّا عليه، فاحتمل وأدخل داره.
وكان المصريّون لا يطمعون في مساعدة أحد من أهل المدينة إلّا في ثلاثة فإنّهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.
وسار ناس مستقتلين منهم: سعد بن مالك، والحسن بن عليّ، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا، فانصرفوا.
وأقبل عليّ وطلحة والزبير حتى دخلوا على عثمان يعودونه من صرعته، ثم رجعوا إلى منازلهم. وكان الناس قبل ذلك وافقوه على أشياء وجد فيها اعتذارا، وعلى أشياء لم يجد فيها مقالا، فقال: « أستغفر الله وأتوب إليه. » وأخذوا ميثاقه وكتبوا عليه شرطا، وأخذ عليهم ألّا يشقّوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم.
ثم قالوا: « نريد ألّا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنّما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد. »
فرضوا، وأقبلوا معه حتى خطب عثمان، وقال: « ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحلب، ألا! إنّه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد ﷺ. » فغضب الناس وقالوا: « هذا مكر بني أمية. »
راكب له شأن
ورجع وفد المصريين راضين، فبيناهم في الطريق إذا هم براكب يتعرّض، فمرّة يرونه، ومرّة يغيب عنهم، فقالوا: « إنّ لهذا الرجل لشأنا. » فأخذوه، وقرّروه، فقال: « أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. » ففتشوه فإذا هم بكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه، إلى عامله بمصر، قد جعل في إداوة [ يابسة ] يأمر بأن يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، أو يصلبهم.
فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليّا، فقالوا: « ألم تر إلى عدوّ الله! إنّه كتب فينا بكذا وكذا، بعد الميثاق الذي بيننا وبينه، وإنّ الله قد أحلّ لنا دمه، قم معنا إليه. » قال: « والله لا أقوم معكم! » قالوا: « فلم كتبت إلينا؟ » قال: « والله ما كتبت إليكم كتابا قطّ. » فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض: « ألهذا تقاتلون؟ أم لهذا تغضبون؟ » فخرج عليّ من المدينة إلى قرية، وانطلق القوم حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: « كتبت فينا بكذا وكذا. » فقال عثمان: « إنّما هما ثنتان: إمّا أن تقيموا عليّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله، الذي لا إله إلّا هو، ما كتبت، ولا أمللت، ولا علمت. وقد علمتم أنّ الكتاب يكتب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على الخاتم. » فقالوا: « لئن كنت كاذبا في يمينك فقد أحلّ الله دمك، ولئن كنت صادقا لقد ضعفت عن الأمر، حين لا تضبط من أمرك هذا المقدار. » وقد حاصروه، وقد ذكر الناس في هذه الروايات أشياء شنعة لم نذكرها.
وقد كان عثمان لما أحسّ بانصراف المصريين إليه من الطريق، أتى عليّا في منزله، فقال: « يا ابن عمّ! إنّه ليس منزل، وإنّ قرابتي قريبة، ولى حقّ عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبّحيّ، وأنا أعلم أنّ لك عند الناس قدرا، وأنّهم يستمعون منك، فأنا أحبّ أن تركب إليهم، فتردّهم عني. فإني لا أحبّ أن يدخلوا عليّ، فإنّ تلك جرأة منهم عليّ، ويسمع بذلك غيرهم. » فقال عليّ: « على م أردّهم؟ » قال: « على أن أصير إلى ما أشرت به عليّ، ورأيته لي، ولست أخرج من يديك. » فقال عليّ: « إني قد كنت كلّمتك مرّة بعد مرّة، وكل ذلك تخرج فتتكلّم وتقول وتقول، وذلك كلّه فعل مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر، ومعاوية، تطيعهم وتعصينى. » قال: وأمر الناس المهاجرين والأنصار، فركبوا معه. وأرسل عثمان إلى عمار بن ياسر، فكلّمه أن يركب مع عليّ، فأبى. ومضى عليّ في المهاجرين والأنصار، وهم ثلاثون رجلا. فكلّمهم عليّ ومحمد بن مسلمة حتى رجعوا.
فلما رجع عليّ إلى عثمان وأعلمه أنهم رجعوا، وكلّمه عليّ كلاما كان في نفسه، وخرج إلى بيته، مكث عثمان ذلك اليوم حتى إذا كان الغد جاءه مروان بن الحكم، فقال له: « تكلّم، وأعلم الناس أن أهل مصر علموا أنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا، وقد رجعوا، فإنّ خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم، فيأتيك أمر لا تستطيع دفعه. » [ فأبى ] عثمان، ولم يزل به مروان حتى خرج، فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد، فإنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر، فلما تيقّنوا أنه باطل رجعوا إلى بلادهم. » فقال له عمرو بن العاص: « اتق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتب إلى الله نتب معك. » فناداه عثمان: « وإنّك هناك يا ابن النابغة قملت جبّتك منذ عزلتك عن العمل. » فنودي من ناحية أخرى: « أظهر التوبة يا عثمان يكفّ الناس عنك. » ونودى من ناحية اخرى بمثل ذلك.
فرفع عثمان يده واستقبل القبلة، فقال: « اللهمّ إني أول تائب إليك. »
ورجع إلى منزله.
ثم إنّ عليّا جاءه، فقال له: « تكلّم كلاما يسمعه الناس عامّة ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن ركبا آخر يقدمون من الكوفة أو البصرة، فتقول لي: اركب إليهم، فلا أركب، ولا أسمع لك عذرا، وتراني قد قطعت رحمك واستخففت بحقّك. »
فخرج عثمان، فخطب الخطبة المشهورة التي يقول فيها:
« إني نزعت وتبت مما فعلت، إذ التوبة خير من التمادي في الهلكة، والله أيها الناس، لئن ردّني الحق عبدا، لأذلّنّ ذلّ العبد، ولأكوننّ كالمرقوق الذي إن ملك صبر، وإن عتق شكر. فليأتنى وجوهكم. فوالله لأنزلنّ عند رأيكم، ولأنتهينّ إلى حكمكم. » فرقّ له الناس وبكى من بكى منهم، وعلت الأصوات بالنشيج.
فقال له سعيد بن زيد: « اتقّ الله يا أمير المؤمنين في نفسك، وأتمم على ما قلت. » فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان، وسعدا، ونفرا من بني أمية لم يشهدوا الخطبة. قال مروان: « يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أصمت؟ » فقال بعض أهله: « لا، بل اصمت، فأنتم والله قاتلوه، إنّه قال مقالة مشهورة لا ينبغي أن ينزع عنها. » فأقبل عليها مروان بكلام قبيح إلى أن سكّتها عثمان. ثم قال مروان: « أتكلّم، أم أصمت؟ » قال: « بل تكلّم. » فقال مروان: « بأبي وأمي، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع، وكنت أول من رضى بها، وأعان عليها، ولكنّك قلت حين بلغ الحزام الطبيين، وحين أعطى الخطّة الغليظة الذليل، والله لإقامة على خطيئة تستغفر منها، أجمل من توبة تجبر عليها، وقد اجتمع بالباب مثل الجبل من الناس. » فقال عثمان: « فاخرج إليهم، فكلّمهم، فإني أستحى أن أكلّمهم. » فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال: « ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنّكم جئتم لنهب، كلّ إنسان آخذ بأذن صاحبه، شاهت الوجوه، ألا، من أريد؟ جئتم أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنّا، أما والله لئن رمتمونا لتلقون ما لا يسرّكم ارجعوا، فوالله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا. » فرجع الناس إلى عليّ يشكون إليه. فجاء عليّ مغضبا حتى دخل على عثمان، فقال: « أما رضيت من مروان ولا رضى منك، إلّا بإخراجك عن دينك وعقلك، مثل جمل الظعينة، يقاد حيث شاء ربّته؟. والله ما مروان بذي رأى في دينه، ولا في نفسه، وإني لأراه سيوردك ولا يصدرك، وما أنا بعائد بعد هذا لمعاتبتك، فقد أكثرت وأكثرت. أذهب شرفك وغلبت على أمرك. » فلما خرج عليّ دخل إليه بعض أهله فقال: « إني سمعت قول عليّ لك، وإنه ليس يعاودك، فقد خالفته مرارا وأطعت مروان. »
قال: « فما أصنع؟ » قال: « تتقي الله وحده وتطيعه يرشدك، فإنّ مروان ليس له عند الناس قدر، ولا هيبة، ولا محبّة، وأراه سيقتلك، فأرسل إلى عليّ واستصلحه، فإنّه يعطف عليك ولا يعصى، وقوله مقبول. » فأرسل عثمان إلى عليّ، فأبى أن يأتيه وقال: « قد أعلمته أنّى غير عائد إليه. » ومكث عثمان لا يخرج ثلاثة أيام حياءا من الناس. ثم ذهب عثمان بنفسه حتى أتى عليّا في منزله ليلا، وجعل يقول: « إني غير عائد، وإني فاعل، وإني فاعل. » فقال له عليّ: « أبعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله ﷺ وأعطيت من نفسك، وبكيت حتى اخضلّت لحيتك بالدمع، وأبكيت الناس، ودخلت منزلك. وخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك، ويتلقّاهم بما يكرهونه؟ » وانصرف من عند عليّ، ولم يزل عليّ متنكّبا عنه، لا يفعل ما كان يفعل، إلّا أنّه لما منع الماء وحصر امتعض له وغضب غضبا شديدا، وكلّم طلحة وغيره حتى دخلت الروايا إلى عثمان.
ولما رأى عثمان ما نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية، وهو بالشام. يسأله أن يبعث له مقاتلة الشام على كلّ صعب وذلول. فلما جاء معاوية كتابه تربّص، وكره إظهار مخالفة أصحاب النبي ﷺ فلمّا أبطأ نصره على عثمان كتب إلى أهل الشام يستنفرهم، ويعظّم حقّه، ويذكر أمر الخلفاء، وما أمر الله به من طاعتهم ويقول: « والعجل، العجل، فإنّ القوم معاجليّ. » فقام قوم يحضّضون على نصره، وانتدب خلق كثير.
وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بالبصرة: أن اندب إليّ أهل البصرة، وكتب إلى أهل البصرة نسخة كتابه إلى الشام. فقامت الخطباء من أهل البصرة بحضرة عبد الله بن عامر يحضّون على نصر عثمان، وعلى المسير إليه، فيهم مجاشع بن مسعود، وهو يومئذ سيّد قيس في البصرة. فتسارع الناس، وكان أشار مروان على عثمان بمقاربة من حوله من أهل مصر وغيرهم حتى يقوى، وقال له: « أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك، وأرسل إلى عليّ يكلّمهم. » فراسل عليّا وقال: « إنّ الأمر بلغ القتل، فاردد الناس عني، فإنّ الله لهم أن أعتبهم من كلّ ما يكرهون، وأعطيهم الحقّ من نفسي وغيري، وإن كان في ذلك سفك دمى. » فراسله عليّ بأنّ: « الناس إلى عدلك! أحوج منهم إلى قتلك، وإني لأرى قوما لا يرضون إلّا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في المرة الأولى من العهود ما نقضته، ولم تف به لهم. » فقال عثمان: « أعطهم اليوم ما يحبّون، فوالله لأفينّ. » فخرج عليّ إلى الناس، فقال: « أيها الناس! إنّكم إنّما طلبتم الحقّ وقد أعطيتموه. إنّ عثمان يزعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه. » قال الناس: « قد قبلنا، فاستوثق لنا، فإنّا لا نرضى بقول دون فعل. » فقال عليّ: « ذلك لكم. » وأخبر عثمان الخبر، فقال عثمان: « اضرب بيني وبينهم أجلا تكون لي فيه مهلة، فإني لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد. » فقال عليّ: « ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب، فأجله وصول أمرك. » قال: « نعم، ولكن أجّلنى في ما في المدينة ثلاثة أيام. » فقال عليّ: « نعم. » فخرج عليّ، وكتب بينهم وبين عثمان كتابا على الأجل، شرط فيه أن يردّ كل مظلمة، ويعزل كلّ عامل كرهه المسلمون، ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد أو ميثاق، وأشهد ناسا من وجوه المهاجرين والأنصار. فكفّ المسلمون عنه، ورجوا أن يفي لهم بما أعطاهم.
يوم الدار
فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسلاح، وكان اتّخذ جندا عظيما من رقيق الخمس. فلمّا انقضت الأيام الثلاثة، وهو على حاله، لم يغيّر شيئا مما كرهوه، ولا عزل عاملا ثار به الناس وهجموا. فدخلوا يومئذ وما سلّموا عليه بالخلافة، وقالوا: « سلام عليكم. » فقال من حضره: « عليكم السلام. » فتكلّم الناس، وذكروا ما صنع عبد الله بن سعد بمصر من استيثاره بغنائم المسلمين، وتحامله عليهم وعلى أهل الذمّة، فإذا قيل له في ذلك، قال: « هذا كتاب أمير المؤمنين. » ثم ذكروا ما أحدثه بالمدينة وأطالوا، وقالوا: « إنّا رحلنا من مصر، لا نريد إلّا دمك أو تنزع الخلافة، فردّنا عليّ ومحمد بن مسلمة، وضمنّا له النزوع عن كل ما تكلّمنا فيه.. (ثم أقبلوا على محمد وقالوا: « هل قلت لنا ذلك؟ » قال محمد: « نعم»).. فرجعنا إلى بلادنا حتى إذا كنّا بالبويب، أخذنا غلامك على راحلة من صدقات المسلمين ومعه كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد تأمره فينا بجلد ظهورنا والمثلة بنا بالقطع والحبس الطويل، وهذا كتابك، ثم فعلت وفعلت. » فحمد الله عثمان وأثنى عليه وقال: « والله ما كتبت ولا أمرت ولا شوورت. » قالوا: « فمن كتبه؟ » قال: « لا أدري. » قالوا: « فيجترأ عليك، ويبعث بغلامك، وجمل من صدقات المسلمين، وينقش خاتمك، ويكتب إلى عاملك في إعلام المسلمين بهذه العظائم وأنت لا تعلم! ليس مثلك من يلي الخلافة، اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه. » فأبى وقال: « لا أنزع قميصا ألبسنيه الله، ولكني أتوب من كلّ ما تكرهون. » قالوا: « قد فعلت ذلك وكذبت، وقد وقعت عليك التهمة مع ما بلونا منك في مرات كثيرة، من الجور في الحكم والأثرة في القسم، والعقوبة لمن أمر بالمعروف، وإظهارك التوبة مرة بعد مرة، ثم رجوعك إلى كلّ منكر. ولقد كنّا رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك ونستبدل بك من نرضاه، ومن لم نجرّب عليه ما جرّبناه عليك، فاردد خلافتنا. »
فأجابهم عثمان بجوابه الأول، فآذنوه بالحرب، وشدّدوا عليه الحصار.
فصعد بعض عبيد عثمان إلى سطح داره، فدلّى منه حجرا، فقتل رجلا يقال له: دينار.
فأرسلوا إلى عثمان أن: « أمكنّا من قاتله. » فقال عثمان: « والله ما أعرف قاتله. » فباتوا تلك الليلة. فلمّا أصبحوا، وهو يوم الجمعة، أحضروا نارا ونفطا، ودخلوا من ناحية الحرم، فأضرموا جوانب الدار، فاحترقت.
فقال عثمان لأصحابه: « ما بعد الحريق شيء، فمن كانت لي عليه طاعة فليمسك يده، فإنّما يريدني القوم، ولو كنت في أقصاكم لتخطّوكم إليّ، ولو وجدوني في أدناكم ما تخطّوني إليكم. » فأبى مروان وقال: « والله لا وصلوا إليك وفي روح. » وخرج إلى الناس بسيفه وعليه درع. فناوشوه القتال. ثم خرج إليه غلام شابّ طوال، فضربه مروان على ساقه، وضرب الغلام مروان على رقبته، فسقط لا ينبض منه عرق، وقتل المغيرة بن الأخنس، وجرح عبد الله بن الزبير، وانهزم من في الدار، وخرجوا هرّابا في طرق المدينة، وخلص إلى عثمان، فقتل قبل أن يلحقه الغوث من الأمصار.
أسماء كتاب عثمان
كتب له مروان بن الحكم، وكتب له عبد الملك بن مروان على ديوان المدينة، وأبو جبيرة على ديوان الكوفة، وعبد الله بن الأرقم على بيت المال، وكتب أهيب مولاه، وكتب له حمران مولاه، فأنكر عليه شيئا، فنفاه إلى البصرة، فلم يزل بها حتى قتل عثمان.
سبب سقوط هذا الكاتب من عين عثمان
وكان سبب نفيه إيّاه أنّ عثمان اشتكى شكاة، فقال له: « اكتب العهد بعدي لعبد الرحمن بن عوف. » فانطلق حمران إلى عبد الرحمن بن عوف فقال له: « البشرى! » فقال: « لك البشرى، فما ذا؟ » فأخبره الخبر. فصار عبد الرحمن إلى عثمان، فأخبره بما قال حمران، فقلق عثمان، وخاف أن يشيع، فنفاه لذلك.
ذكر تدبير تم لعثمان بمعاونة علي رضي الله عنه ورأيه لما حصر عثمان الحصار الأول
كان عليّ بخيبر، فلمّا قدم أرسل إليه عثمان. فذهب إليه، فكلّمه عثمان، وأذكره بحقّه من الإسلام والقرابة والصهر، وماله في عنقه من العهد. ثم قال له: « ولو لم يكن من هذا شيء، ثم كنّا نحن في جاهليّة، لكان عيبا على عبد مناف أن يبتزّهم أخو بني تيم ملكهم ».
يعنى طلحة، وقد كان اجتمع إلى طلحة قوم وطمع فيها.
فتكلّم عليّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد، فكلّ ما ذكرت من حقّك عليّ كما ذكرت، وأما قولك: لو كنّا في جاهلية لكان عيبا على عبد مناف أن يبتزّهم أخو بنى تيم، فصدقت وسيأتيك الخبر. » ثم خرج فدخل المسجد، فرأى أسامة جالسا، فدعاه، واعتمد عليه، وخرج يمشى إلى طلحة، فلمّا دخل عليه، وجد داره ممتلئة بالرجال، فقام عليه وقال: « يا طلحة! ما هذا الأمر الذي وقفت فيه؟ » فقال: « يا أبا الحسن، أبعد ما مسّ الحزام الطبيين؟ » فسكت عليّ وانصرف حتى أتى بيت المال، فقال: « افتحوا هذا الباب. » فلم يقدر على المفاتيح، وتأخّر عنه صاحب المفاتيح، فقال: « اكسروه. » فكسر باب بيت المال، وقال: « أخرجوا المال. » وجعل يعطي الناس. فبلغ الذين في دار طلحة ما صنع عليّ، فجعلوا يتسلّلون إليه، حتى ترك طلحة وحده، وبلغ الخبر عثمان، فسرّ به، ثم أقبل طلحة عامدا إلى دار عثمان. فقال بعض الصحابة: « والله لأنظرنّ ما يقول هذا. » قال: فتبعته، فاستأذن على عثمان. فلمّا دخل عليه، قال: « يا أمير المؤمنين، أستغفر الله وأتوب إليه. أردت أمرا، فحال الله بيني وبينه. » فقال عثمان: « إنّك والله، ما جئت تائبا، ولكنّك جئت مغلوبا. الله حسيبك يا طلحة. »
خلافة الإمام علي
ذكر بيعة علي بن أبي طالب ﵇
لمّا قتل عثمان اجتمع عامة المهاجرين والأنصار على عليّ، فأتوه، فتأبّى عليهم، وقال: « أنا وزيرا خير لكم مني أميرا. » فارتدّ الناس عنه وأتوا طلحة والزبير فتكلّما في قتل عثمان بما ظنّوه توعّدا، فقالوا لطلحة والزبير: « إنّ كلامكما لوعيد. » ثم انصرفوا عنهما وقال بعضهم لبعض: « إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعد قائم بهذا الأمر، لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة. » فعادوا إلى عليّ وخاطبوه. فأخذ الأشتر بيد عليّ، فقبضها عليّ.
فقال الأشتر: « ما لك تتعسّر، وأنت ترى ما فيه الناس؟ » فقال عليّ: « أبعد ثلاثة؟ »
فقال له الأشتر: « أما والله لئن تركتها لتعصرنّ عينيك عليها حينا. » فبايعوه. وفي ما رواه صاحب التاريخ، قال: اجتمع أهل الأمصار وقالوا: « دونكم يا أهل المدينة، فقد أجّلناكم ثلاثا، فو الله لئن لم تفرغوا لنفعلنّ ولنفعلنّ. » فغشى الناس عليّا وقالوا: « ترى ما نزل بالناس وما ابتلينا به من بين تلك القرى؟ » فقال عليّ: « دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه. لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. » فقالوا: « ننشدك بالله. ألا ترى ما نرى؟، ألا ترى الفتنة؟ أما تخاف الله؟ » قال: « اعلموا أنّى - إن أجبتكم - ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم، ألا، إني أسمعكم، وأطوعكم لمن ولّيتموه. » فافترقوا على ذلك، واتّعدوا لغد، وتشاور الناس في ما بينهم، وقالوا: « إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت. » فبعث المصريّون بصريّا إلى الزبير وقالوا: « احذر لا تحابه. » - وكان رسولهم حكيم بن جبلة في نفر - فجاؤوا يحدونه بالسيف. وبعثوا إلى طلحة كوفيّا وقالوا: « احذر لا تحابه. » وبعثوا بنفر، فجاؤوا يحدونه بالسيف.
وبعثوا الأشتر إلى عليّ، وأهل الكوفة وأهل البصرة شامتون بصاحبيهم، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد صار أهل الكوفة والبصرة كالأتباع، وهم جشعون.
فلما أصبحوا يوم الجمعة حضر الناس المسجد. وجاء عليّ حتى صعد المنبر، فقال: « يا أيها الناس، عن ملأ وإذن، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلّا من رضيتم وأمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أحد على أحد. » قالوا: « نحن على ما افترقنا عليه بالأمس. » وقام الأشتر، فقدّم طلحة، وقال له: « بايع. » فقال: « أمهلنى أنظر. » فجرّد سيفه وقال: « لتبايعنّ، أو لأضعنّه بين عينيك. » فقال طلحة: « وأين المذهب عن أبي حسن. » فصعد المنبر، فبايعه. فنظر رجل من بعيد يقتاف، فقال: « إنّا لله، أول يد بايعت أمير المؤمنين يد شلّاء، لا يتمّ هذا الأمر أبدا. » وكان طلحة وقى رسول الله بيده حين رأى سهما أقبل نحو وجهه، فأصاب السهم يده، وشلّت يده.
ثم قدّم الزبير، فبايع، وفي الزبير خلاف، ثم تتابع الناس بالبيعة لا يكرهها أحد، وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
وخطب على - رضي الله عنه - خطبته المشهورة، واجتمع إلى عليّ عدة من الصحابة فيهم طلحة والزبير، فقالوا: « يا عليّ، إنّا اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل، وأحلّوا بأنفسهم. » فقال لهم: « يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم. ها هم هؤلاء، وقد ثارت معهم عبيدكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم، يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟ » قالوا: « لا. » قال: « فإني والله لا أرى إلّا رأيا ترونه، إلّا أن يشاء الله. إنّ الناس من هذا الأمر - إن حرّك - على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة لا ترى ما ترون، وفرقة لا ترى لا هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق.
فاهدأوا عني، وانظروا ما ذا يأتيكم، ثم عودوا. » ثم إنّ بنى أمية تهاربت وخرجت عن المدينة. فاشتدّ عليّ ﵇ على قريش وحال بينهم وبين الخروج على حالها تلك.
ثم خرج عليّ في اليوم الثاني فقال: « يا أيها الناس، أخرجوا عنكم الأعراب. » وقال: « يا أيها الأعراب، الحقوا بمياهكم. » فأبت السبائية، وأطاعهم الأعراب. ودخل عليّ بيته، ودخل عليه عدة من أصحاب رسول الله ﷺ فيهم طلحة والزبير.
فقال لهم عليّ: « دونكم ثأركم، فاقتلوه. » فقالوا: « قد عسوا عن ذلك. » فقال لهم: « هم والله بعد اليوم أعسى. » وتمثّل:
ولو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** أمرتهم أمرا يديخ الأعاديا
وقال طلحة: « تدعني، فآتي البصرة، فلا يفجأوك إلّا وأنا في خيل. » وقال الزبير: « آتي الكوفة، فلا يفجأوك إلّا وأنا في خيل. » فقال: « حتى أنظر. » وسمع المغيرة بذلك المجلس.
ذكر رأي جيد للمغيرة
فجاء المغيرة حتى دخل على عليّ ﵇ فقال: « إنّ حولك من يشير ويرى، ولك عليّ حقّ الطاعة، وأنّ النصح رخيص، وأنت بقية الناس، وأنا لك ناصح. واعلم أنّ الرأي اليوم تحوز به ما في غد، وأن الضياع اليوم يضيع به ما في غد. أقرر معاوية على عمله، وأقرر ابن عامر على عمله، واردد عمّال عثمان عامك هذا، واكتب بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك واطمأنّ الأمر عزلت من أحببت، وأقررت من أحببت. » فقال عليّ: « والله، لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا ولّيت أمثال هؤلاء [ ولا مثلهم يولّى ]، وما كنت متخذ المضلّين عضدا. » فقال المغيرة: « فإذ قد أبيت فاترك معاوية، فإنّ له جرأة، وأهل الشام يطيعونه، ولك حجّة في إثباته، كان عمر بن الخطّاب قد ولّاه الشام كلّها. » فقال عليّ: « لا والله لا أستعمله يومين. » فقام المغيرة وانصرف، ثم عاد إليه بعد ذلك، فقال: « إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت، وخالفتني. ثم رأيت بعد ذلك رأيا، وأنا الآن أرى أن تصنع الذي رأيت، فتنزعهم، وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله أمرهم، وهم أهون شوكة من ذاك. »
رأي لابن عباس وما أشار به على علي
وخرج المغيرة، وتلقّاه ابن عباس خارجا. فدخل إلى عليّ، فقال: « يا أمير المؤمنين، أخبرني عن شأن المغيرة، ولم خلا بك؟ » قال: « إنّه جاءني بعد مقتل عثمان بثلاثة أيام وقال: أخلنى. ففعلت. فقال: كيت وكيت. فأجبته بكيت وكيت. فانصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنّه يرى أنّى مخطئ. ثم عاد إليّ الآن، فقال: كيت وكيت.
فقال ابن عباس: « أمّا في المرة الاولى فقد نصحك، وأمّا في المرة الأخرى فقد غشّك. » قال له: « وكيف نصحنى؟ » قال ابن عباس: « لأنّك تعلم أنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم، لا يبالون من ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم، يقولوا: أخذ الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا، وحمّلك ما قدر عليه من الذنب، فتنتقض عليك الشام. ولا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك. » فقال عليّ: « أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشكّ أنّ ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحق، والمعرفة بعمّال عثمان، فوالله لا أولّى منهم أحدا أبدا، فإن أقبلوا فذلك خير، وإن أدبروا بذلت لهم السيف. » قال ابن عباس: « فأطعنى، وادخل دارك، والحق بما لك بينبع، وأغلق بابك، فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب، ولا تجد غيرك. فإنّك والله لو نهضت مع هؤلاء القوم ليحمّلنّك الناس غدا دم عثمان. »
فأبى عليّ وقال لابن عباس: « سر إلى الشام، فقد ولّيتكها. » فقال ابن عباس: « ما هذا والله برأى. معاوية رجل من بنى أمية، وهو ابن عمّ عثمان، وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكّم عليّ. » قال عليّ: « ولم تظنّ ذلك؟ » قال: لقرابة ما بيني وبينك، ولأنّ كلّ ما عليك فهو عليّ، ولكن اكتب إلى معاوية، فمنّه، وعده. » فقال عليّ: « إنّ هذا ما لا يكون أبدا. » وتمثّل:
فما ميتة، إن متّها غير عاجز ** بعار، إذا ما غالت النفس غولها
فقال ابن عباس: « أنت - يا أمير المؤمنين - رجل شجاع، ولست بأرب في الحرب. أما سمعت رسول الله ﷺ يقول: الحرب خدعة؟ » قال: « بلى. » قال ابن عباس: « أنا والله، لئن أطعتنى لأصدرنّ بهم بعد ورد، ولأتركنّهم ينظرون في دبر الأمور، ولا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثم لك. » فقال عليّ: « يا ابن عباس، لست من هنيّاتك وهنيّات معاوية في شيء، تشير عليّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعنى. » فقال ابن عباس: « أفعل، إنّ أيسر ما لك عندي السمع والطاعة. »
علي يفرق عماله على الأمصار
وفرّق عليّ ﵇ عمّاله في سنة ست وثلاثين. فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام.
فأما سهل، فإنّه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل.
فقالوا: « من أنت؟ » قال: « أمير على الشام. » فردّوه، ولم يدعوه يتجاوزها.
وأما قيس بن سعد، فإنّه لما انتهى إلى أيلة، لقيته خيل. » فقالوا: « من أنت؟ » فقال: « من فالّة عثمان، أطلب من آوى إليه، وأنتصر به. » قالوا: « فمن أنت؟ » قال: « قيس بن سعد. » قالوا: « امض. » فدخل مصر فافترق الناس: فبعضهم دخل في الجماعة وكانوا معه، وفرقة اعتزلت وقالت: « إن قتل قتلة عثمان [ فنحن معكم ]، وإلّا فنحن على جديلتنا. » وأمّا عثمان بن حنيف، فإنّه سار، ولم يردّه أحد عن دخول البصرة، ولم يوجد لابن عامر في ذلك رأى ولا تدبير، وافترق الناس بالبصرة كما افترقوا بمصر.
وأما عمارة، فلمّا صار بزبالة، لقيه طليحة بن خويلد، وكان خرج يطلب بدم عثمان. وقال له: « ارجع، فإنّ الناس لا يريدون بأميرهم بدلا، وإن أبيت ضربت عنقك. » فرجع وهو يقول: « أحرز الخطر ما تماسّك الشرّ خير من شرّ منه » - فصار مثلا.
وعلقه عمار بن ياسر إلى أن قتل.
وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن. فجمع يعلي بن أميّة كلّ ما كان جباه، وخرج وسار على حاميته إلى مكة، فقدمها بالمال.
فدعا عليّ طلحة والزبير فقال: « إنّ الذي كنت أحدّثكم به قد وقع، وإنّما هي فتنة كالنار، كلما سعّرت ازدادت واستثارت. » فقالا له: « ائذن لنا نخرج من المدينة. » فقال: « سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بدّا فآخر الداء الكيّ. » وكتب إلى أبي موسى، وهو بالكوفة، وإلى معاوية، وهو بالشام. فأمّا أبو موسى فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة، وبيّن الكاره منهم لما كان، والراضي بما كان، حتى كان عليّ على الواضحة من أمر أهل الكوفة. وأمّا معاوية فلم يكتب بشيء، ولم يجب الرسول، وجعل يردّده. وكان كلّما تنجّزه تمثّل بشعر لا يحصل منه على بيّنة، حتى أحكم أمر نفسه، وواطأ من أراد. وأتى على الرسول ثلاثة أشهر. ثم دعا بأحد ثقاته، ووصاه، ودفع طومارا مختوما إليه، عنوانه: « من معاوية إلى عليّ. »
وقال: « إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار ليقرأ الناس العنوان. » ثم أوصاه بأشياء يفعلها، ويقولها، وسرّح رسول عليّ معه.
فلما دخلا المدينة رفع رسول معاوية الطومار، فتفرّق الناس إلى منازلهم وقد علموا أنّ معاوية ممتنع، ومضى الرسول حتى دخل على عليّ، فدفع إليه الطومار، ففضّ خاتمه، فلم تجد في جوفه كتابا.
فقال للرسول: « ما وراءك؟ » قال: « آمن أنا؟ » قال: « نعم، لعمري إنّ الرسل لآمنة. » قال: « ورائي أنى تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود. » قال: « ممن؟ » قال: « من خيط رقبتك، ولقد تركت ستين شيخا يبكى تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق. » فقال: « منى يطلبون دم عثمان، ألست موتورا كترة عثمان؟ اللهمّ إني أبرأ إليك من دم عثمان، نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله، فإنّه إذا أراد أمرا أمضاه، اخرج. » قال: « وأنا آمن؟ » قال: « وأنت آمن. » فخرج وصاحب السبائية واقف، فقالوا: « هذا الكلب وافد الكلاب، اقتلوه. » فنادى: « يا آل مضر، يا آل قيس، الخيل والنبل! أحلف بالله ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصيّ، فانظروا كم الفحولة والركّاب. »
فتغاووا عليه، ومنعته مضر، وجعلوا يقولون له: « اسكت لا أبا لك. » فيقول: « والله، لا أسكت، فلقد أتاهم ما يوعدون. » فيقولون له: « اسكت. » فيقول: « لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمارهم، ذهبت والله ريحهم. » ولم يزل بذلك حتى تبيّن الذلّ فيهم، وتمّ لمعاوية تدبيره هذا.
علي يدبر لقتال أهل الفرقة بالشام
واستأذن طلحة والزبير في العمرة، فأذن عليّ لهما، فلحقا بمكة، وأحبّ أهل المدينة [ أن يعلموا ] ما رأى عليّ في معاوية وانتقاضه، ليعرفوا بذلك رأيه في قتال أهل القبلة، أيقدم عليه، أم يجزع منه. وكان بلغهم أنّ الحسن ابنه دخل عليه، وحذّره، ودعاه إلى القعود وترك الناس. فدسّوا زياد بن حنظلة التميمي، وكان منقطعا إلى عليّ، فدخل عليه وجلس إليه ساعة. ثم قال له عليّ: « يا زياد، تيسّر. » قال: « لأيّ شيء؟ » قال: « لغزو الشام. » قال زياد: « الأناة والرفق أمثل »، وقال:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ** يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم
فتمثّل عليّ وكأنّه لا يريده:
متى تجمع القلب الذكيّ وصارما ** وأنفا حميّا تجتنبك المظالم
فخرج زياد على الناس وهم ينتظرونه، فقالوا:
« ما وراءك؟ » قال: « السيف يا قوم. » فعرفوا رأى عليّ.
ودعا عليّ محمد بن الحنفية، فدفع إليه اللواء، وولّى عبيد الله بن عباس، ميمنته، وعمر بن أبي سلمة ميسرته، وجعل على مقدمته عمر بن الجرّاح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح، ولم يولّ أحدا ممن خرج على عثمان.
واستخلف على المدينة قثمّ بن العباس، وكتب إلى أبي موسى، وإلى قيس بن سعد، وإلى عثمان بن حنيف أن يندبوا الناس إلى الشام، وأقبل يتجهّز، وخطب الناس، فدعاهم إلى النهوض، وحضّهم على قتال أهل الفرقة.
ابتداء وقعة الجمل
طلحة والزبير يريدان البصرة للإصلاح
فبينا هو على ذلك، إذ أتاه من مكة عن عائشة أمّ المؤمنين وطلحة والزبير شيء آخر بخلاف ما هو فيه. ثم أتاه عنهم أنّهم يريدون البصرة للإصلاح. فقال: « إن فعلوا فقد انقطع نظام المسلمين، وما كان عليهم في المقام [ فينا مؤونة ] ولا إكراه. » فتعبّأ للخروج نحوهم، وخطب وندب الناس، فتثاقلوا.
ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس على عليّ انتدب وقال: « من تثاقل عنك يا أمير المؤمنين، فإنّا نقاتل معك ونخفّ بين يديك ما حملت أيدينا سيوفنا. » وأجابه رجلان من أعلام الأنصار.
عائشة تريد طلحة
ولمّا هرب بنو أمية لحقوا بمكّة، فاجتمعوا إلى عائشة، وكانوا ينتظرون أن يلي الأمر طلحة، لأن هوى عائشة كان معه، وكانت من قبل تشنّع على عثمان، وتحضّ عليه، وتخرج راكبة بغلة رسول الله ﷺ ومعها قميصه وتقول: « هذا قميص رسول الله ﷺ ما بلى وقد بلى دينه، اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا. » فلما صار الأمر إلى عليّ كرهته وعادت إلى مكة بعد أن كانت متوجّهة إلى المدينة، ونادت: « ألا، إنّ الخليفة قتل مظلوما، فاطلبوا بدم عثمان. »
من استجاب لعائشة ومن اعتزل
فأوّل من استجاب لها عبد الله بن عامر، ثم قام سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بنى أمية. وكان قدم عبد الله بن عامر قريبا، ويعلي بن أمية من اليمن، واجتمع رأيهم بعد نظر طويل، وخطاب كثير، على البصرة، وقالوا: « معاوية قد كفاكم الشام. » وكان مع يعلى ستمائة بعير، وستمائة ألف درهم، فأنفقهما في ذلك الوجه، وشتموا عبد الله بن عامر، وقالوا: « لا أنت مسالم ولا أنت محارب، هلّا أقمت بالبصرة فمنعت حوزتك كما منع معاوية، أو هلّا أرفدتنا اليوم بمالك كما فعل يعلي بن أمية. » فتكلّم بما لم يرضوه في جوابهم. وسأل الناس غير عائشة من أزواج النبي ﷺ فأرادت حفصة الخروج، فأتاه عبد الله بن عمر بن الخطّاب، فطلب إليها أن تقعد، فقعدت. وبعثت أمّ الفضل بنت الحارث بن عبد المطّلب رجلا من جهينة، واستأجرته على أن يطوى ويأتى عليّا بكتابها، فقدم من جهتها بالخبر على عليّ. فأما المغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص، فإنّهما خرجا من مكة مرحلة مع القوم، ثم تشاوروا. فقال المغيرة: « عندي أنّ الرأي لنا أن نعتزل الجميع، فأيّهم أظفره الله أتيناه وقلنا: كان هوانا معك وصغونا إليك. » فاعتزلا وعادا إلى مكة ومعهما غيرهما.
موقف آخر لسعيد بن العاص
ويقال: إنّ سعيد بن العاص أتى طلحة والزبير فقال: « إن ظفرتما، لمن يكون الأمر؟ » قالا: « لأحدنا، أيّنا رضيه المسلمون. » قال: « لا، بل اجعلوه لولد عثمان، فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. » قالا: لا والله، ما ندع مشايخ المهاجرين والأنصار ونجعل الخلافة في أبنائهم. » فقال: « ما أرانى أسعى إلّا في إخراجها من ولد عبد مناف. »
سؤال وتنازع حول الإمرة
فرجع مع من رجع، واستمرّ بالقوم المسير. فلما نزلوا ذات عرق أذّن مروان، ثم جاء حتى وقف عليهما، فقال: « على أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذّن بالصلاة؟ » فقال ابن الزبير: « على أبي. » وقال ابن طلحة: « على أبي. » وتنازعا. فأرسلت عائشة إلى مروان: « ما لك يا مروان! تريد أن تفرّق جماعتنا، ليصلّ ابن أختى بالناس. » فكان يصلّى بهم عبد الله بن الزبير حتى قدموا البصرة. فكانوا يقولون: « لو ظفرنا لافتتنّا، وما كان ليخلّى الزبيريّون الأمر لطلحة، ولا الطلحيون الأمر للزبير. » وإنّ عليّا تجهّز في من خفّ معه، يبادرهم ليعترض عليهم دون البصرة، وخرج معه تسعمائة رجل في التعبئة التي كان تعبّأ بها إلى الشام، حتى انتهى إلى الربذة، وبلغه ممرّهم وقد فاتوه. فأقام هناك يأتمر.
اتفاق في ذلك الوجه
فمما اتفق في ذلك الوجه، أنّ صاحب الجمل - الذي يقال له: « عسكر » وخبره مشهور - حكى أنه: لما اشترى منه الجمل بحكمه وركبته عائشة سألوه عن الطريق، وهل هو خبر؟
قال، فقلت: « أنا أهدى من القطا. » فأعطونى دنانير، وتقدّمتهم، وكانوا يسألوننى عن كلّ ماء، حتى نزلوا الحوءب، فكان الحديث المشهور، فبينا نحن كذلك، إذا بابن الزبير يركض وينادى: « أدرككم عليّ بن أبي طالب، النجا النجا. » وشتموني ورحلوا، وانصرفت. فما سرت إلّا قليلا حتى لقيت عليّ بن أبي طالب ومعه ركب، فقال: « عليّ بالراكب. » فأتيته. فقال: « أين لقيت الظعينة؟ » فقلت: « مكان كذا، وقد بعتهم جملي وأعطونى ناقتها وهي هذه تحتي، وأعطونى كيت وكيت. » قال: « وقد ركبته؟ » قلت: « نعم. وسرت معهم إلى الحوءب وكان من أمرهم كذا وكذا، وارتحلوا وأقبلت. » قال عليّ: « فهل لك دلالة بذي قار؟ » قلت: « نعم. » قال: « سر معنا. »
علي يستشير الناس والحسن يذكر له ما كان قد أشار به عليه قبل
فسرنا حتى نزلنا بذي قار. فأمر عليّ بجوالقين، فضمّ أحدهما إلى صاحبه، ثم جيء برحل، فوضع عليه، ثم صعد عليه، وخطب الناس وأعلمهم الخبر. ثم استشارهم، فقام الحسن، فبكى، وقال: « أشرت عليك فعصيتني، فتقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك. »
فقال له عليّ: « إنّك لا تزال تحنّ حنين الجارية، وما الذي أشرت به عليّ فعصيتك؟ تكلّم به ليسمعه الناس. » قال: « كنت قلت لك يوم أحيط بعثمان: أن تخرج من المدينة فلا تشهد قتله فأبيت. وقلت لك يوم قتل: لا تبايع حتى يأتيك وفود العرب وبيعة أهل الأمصار، فأبيت. ثم قلت لك حين فعل الرجلان ما فعلا أن: تجلس في بيتك حتى يصطلح الناس، فإن كان فساد كان على يدي غيرك فعصيتني في ذلك كلّه. » فقال: « أى بنيّ! أمّا قولك: لو خرجت من المدينة، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به. « وأمّا قولك: انتظره حتى يأتيك الوفود وأهل الأمصار، فإنّ الأمر أمر أهل المدينة، وعقدهم جائز على المسلمين، وكرهنا أن نضيع هذا الأمر فتكون فتنة. » « وأمّا قولك حين خرج طلحة والزبير أن اجلس في بيتك، فإنّ ذلك كان وهنا على أهل الإسلام لو فعلته. وو الله ما زلت مقهورا منذ ولدت، منقوصا لا أصل إلى حقّى، ولا إلى شيء مما ينبغي لي. » « وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما لزمني؟ أتريد أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال: داب داب، أمّ عامر ليست هاهنا، حتى يحلّ عرقوباها. إذا لم أنظر في ما لزمني ويعنيني فمن ينظر فيه. » فكفّ عليك يا بنيّ. إنّ النبي ﷺ قبض وما أرى أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر، فبايعت كما بايعوا. ثم هلك أبو بكر وما أرى أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر، فبايعت كما بايعوا. ثم هلك عمر وما أرى أحقّ بهذا الأمر مني، فجعلني سهما من ستة أسهم. ثم عدل عني إلى عثمان، فبايعت كما بايع الناس. ثم سار الناس إلى عثمان، فقتلوه، وأتوني طائعين غير مكرهين، فبايعوني. فأنا مقاتل بمن اتبعني من خالفني حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. » ولما قربت عائشة ومن معها من البصرة قدّمت عبد الله بن عامر وقالت: « أنت لك صنائع فاذهب إلى صنائعك، فليلقوا الناس. » وكتبت إلى رجال البصرة كالأحنف بن قيس وضبرة بن شيمان ووجوه الناس، وأقامت بالحفير تنتظر الجواب.
عثمان بن حنيف يبعث رسولين إلى عائشة وطلحة والزبير
ولما بلغ الخبر البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين، وكان رجل عامة، وأبا الأسود الدئلي وكان رجل خاصّة وقال: « انطلقا إلى هذه المرأة واعلما علمها وعلم من معها. » فانتهيا إليها والناس بالحفير، واستأذنا فأذن لهما، فسلّما وقالا: « إنّ أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك، فهل أنت مخبرتنا؟ » فقالت: « والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يمئى لبنيه الخبر، [ إنّ الغوغاء ]، ونزّاع القبائل غزوا حرم رسول الله، ونالوا من قتل الامام، ما استحقّوا به لعنة الله، وفعلوا وفعلوا. فخرجت في المسلمين إلى هذا المصر، لأعلمهم ما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم بأن يأتوه من الإصلاح، وقرأت: لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة، أو إصلاح بين النّاس، فهذا شأننا، نأمركم بالمعروف ونحضّكم عليه، وننهاكم عن منكر، ونحثّكم على تغييره. » فخرجا من عندها، وأتيا طلحة، فقالا ما قالا لعائشة وسألاه: ما الذي أقدمه؟ قال: « الطلب بدم عثمان. » قالا: « ألم تبايع عليّا؟ » قال: « بلى، واللّجّ في عنقي، وما أستقيل عليّا، إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. » ثم أتيا الزبير، فقالا: « ما أقدمك؟ » قال: « الطلب بدم عثمان. » قالا: « ألم تبايع عليّا؟ » قال: « بلى، واللّجّ في عنقي، وما أستقيل عليّا إن لم يحام على قتلة عثمان. » ومضى الرجلان، حتى دخلا على عثمان بن حنيف. فبدر أبو الأسود عمران وأنشد:
يا بن حنيف قد أتيت فانفر ** وطاعن القوم وجالد واصبر
وابرز لهم مستلئما وشمّر
فقال عثمان بن حنيف: « إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. دارت رحى الإسلام وربّ الكعبة. فانظر أيّ زيفان تزيف. » فقال عمران: « إى والله، لتعركنّكم عركا طويلا. » قال: « فأشر عليّ يا عمران. » قال: « إني قاعد، فاقعد. » قال: « بل أمنعهم حتى يأتى أمير المؤمنين. » فانصرف عمران، وقام عثمان في أمره، ونادى في الناس، وأمرهم بالتهيؤ.
فلبسوا السلاح، واجتمعوا في المسجد الجامع، وأقبل عثمان بن حنيف على الكيد.
كيد كاد به عثمان بن حنيف
فمما كاد به لينظر ما رأى الناس: أن دسّ رجلا إلى الناس كوفيّا قيسيّا يقال له: قيس به العقدية، فقام وقال: « أيها الناس، إنّ هؤلاء القوم الذين جاءوكم إن كانوا جاءوا خائفين، فقد جاءوا من مكان بعيد يأمن فيه الطير، وإن جاءوا يطلبون بدم عثمان، فما نحن بقتلة عثمان. أطيعونى في هؤلاء القوم، فردّوهم من حيث جاءوا. » فقال الأسود بن سريع: « أو زعموا أنّا قتلة عثمان. إنما فزعوا إلينا يستعينون بنا على قتلة عثمان منّا ومن غيرنا. » فتكلّم القيسيّ فحصبه الناس. فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصرا ممن معه، فكسره ذلك.
انتهاء عائشة ومن معها إلى المربد
وأقبلت عائشة في من معها، حتى انتهوا إلى المربد، فدخلوا من أعلاه، ووقفوا حتى خرج عثمان في من معه، وخرج إليها من أراد أن يكون معها.
واجتمع الناس بالمربد، وجعلوا يتوثّبون، واغتصّ المكان بالناس.
فتكلّم طلحة وهو في ميمنة المربد، وعثمان في زهو ميسرته، فأنصتوا، فذكر فضل عثمان، والبلد، وما استحلّوا منه، وعظّم ما أتى إليه، ودعا إلى الطلب بدمه، وقال في آخر كلامه: « إنّه حدّ من حدود الله، فإن فعلتم أصبتم، وعاد أمركم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان، ولم يكن لكم نظام. » فقال من في ميمنة المربد: « صدقا وبرّا ».
وقال من في الميسرة: « فجرا وغدرا. قد بايعا، ثم جاءا يقولان ما يقولان. » وتحاصب الناس، وتكلّموا. فتكلّمت عائشة. وكانت جهيرة الصوت، فحضّت على الطلب بدم عثمان والأخذ بالكتاب الذي يدعون إليه. وأقبل جارية بن قدامة السعدي، فقال: « يا أمّ المؤمنين، لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك عرضة للسلاح. فقد كان لك ستر من الله وحرمة: فهتكت سترك، وأبحت حرمتك، إنّ من رأى قتالك فهو يرى قتلك. فإن كنت خرجت طائعة فارجعى إلى بيتك، وإن خرجت كارهة فاستعيني بالناس. » وخرج رئيس كل طائفة، فتكلّم فقال بعضهم: « أمّا أنت يا زبير، فحواريّ رسول الله ﷺ، وأمّا أنت يا طلحة فوقيت رسول الله بيدك، وأرى أمّكما معكما، فهل جئتما بنسائكما؟ » قالا: « لا. » قال: « فما أنا منكما. » واعتزل.
قتال وتوادع
وأقبل حكيم بن جبلة فأنشب القتال، فاقتتلوا إلى الليل، وقتل خلق. ثم إنهم توادعوا على أن يكتبوا إلى المدينة، ويستعلموا الناس: هل بايعا مكرهين؟
فإن بايعا مكرهين خرج عثمان بن حنيف، وإن كانا بايعا طائعين خرج طلحة والزبير.
فجرى خطب طويل بالمدينة لما ورد الرسول من البصرة، ليس لذكره وجه في ما نحن بسبيله.
وكان الناس كتبوا بينهم كتابا شرط فيه ألّا يضارّ أحد بأحد في سوق ولا طريق إلى أن تعود الرسل. إلّا أن محمد بن طلحة قام يوما في المسجد مقام عثمان بن حنيف، فتعرض له عثمان، وجاء بعض الحرس، فنحّاه، وظنّ أنه جاء في شرّ.
ووصل كتاب عثمان بن حنيف إلى عليّ بما كان من الناس. فكتب عليّ - رضي الله عنه - يعجّزه ويقول: « ما أكرها على فرقة، وإنّما أكرها على جماعة، فإن كانا يريدان الخلع، فلا عذر لهما. »
ما جرى على عثمان بن حنيف
فقدم الكتاب على عثمان، واتّفق أن تأخّر ابن حنيف عن الصلاة، فقدّما عبد الرحمن بن عتّاب، فشهر الزطّ السلاح ومنعوه. ثم اقتتلوا في المسجد، وصبر الرجّالة لهم، فقتلوهم عن آخرهم وهم أربعون رجلا. وأدخلوا الرجال على عثمان، فما وصل إليه إلّا بعد أن لحقه مكروه عظيم. وأرسلوا إلى عائشة يستشيرونها في أمره. فأمرت بقتله، فناشدها قوم فيه، وأذكروها بصحبته رسول الله ﷺ فأشار مجاشع بن مسعود بضربه فضربوه أسواطا، ونتفوا شعر لحيته ورأسه حتى حاجبيه وعينيه، وأشفار عينيه.
ثم حبسوه. فغضب له قوم، وثار حكيم بن جبلة، وأصبح بيت المال والحرس في يدي طلحة والزبير.
وقال حكيم بن جبلة: « لست أخاف الله إن لم أنصر عثمان بن حنيف. » فجاء في جماعة من عبد القيس وبكر بن وائل، فأتى ابن الزبير في مدينة الرزق. فقال: « ما لك يا حكيم، ما تريد؟ » قال: « أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تحلّوا عثمان، فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم عليّ. وأيم الله لو أجد أعوانا لألحقنّكم بمن قتلتم. فقد أحلّ الله لنا دماءكم بمن قتلتم من إخواننا. أما تخافون الله، بم تستحلّون سفك الدماء؟ » قال: « بدم عثمان. » قال: « فالذين قتلتموهم قتلة عثمان! أما تخافون الله ومقته وعقوبته؟ » فقال ابن الزبير: « لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلّى سبيل عثمان بن حنيف حتى نخلع عليّا. » قال حكيم: « اللهمّ إنّك حكم عدل. » ثم قال لأصحابه: « إني لست في شكّ من قتال هؤلاء القوم. »
قتال شديد ضرب فيه رجل ساق حكيم
فاقتتلوا قتالا شديدا. وضرب رجل ساق حكيم، فقطعها. فأخذ حكيم ساقه ورماه بها، فأصاب عنقه، فصرعه. ثم حبا إليه فقتله واتكى عليه، فانتهى إليه رجل وقال له: « من قتلك؟ » قال: « وسادتى. » وقتل سبعون رجلا من عبد القيس.
وقال حكيم حين قطعت رجله:
يا فخذ لن تراعي ** إنّ معي ذراعي
[ أحمي بها كراعي ]
فاحتمل الرجل حكيما وضمّه في ستين من أصحابه. فتكلّم يومئذ وإنّه لقائم على رجل - وإنّ السيوف لتأخذهم - لا يتعتع: « إنّا خلّفنا هذين، وقد بايعا عليّا، وأعطياه الطاعة، ثم أقبلا مخالفين يطلبان بدم عثمان، وهما كاذبان، وإنّما أراغا المال والإمرة. » وأخذته السيوف، فأنيم، وأنيم أصحابه، وأفلت حرقوص بن زهير وحده.
ونادى منادي عائشة: « ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة، فليأتنا بهم. » فجيء بهم كما يجاء بالكلاب، فقتلوا. فما أفلت منهم غير حرقوص. فخشّنوا صدور بنى سعد، وإنهم لعثمانية، حتى انفردوا. وغضب عبد القيس لمن قتل منهم بعد الوقعة، ثم أمرا للناس بأعطياتهم، وفضّلا أهل السمع.
فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل. فبادروا إلى بيت المال، وركبهم الناس، وخرجوا حتى نزلوا على طريق عليّ، وأقام طلحة والزبير بالبصرة ليس معهما مخالف.
وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا، وقصّوا القصة وأطالوا، وذكروا أنّهم أقاموا حدّ الله، وأنهم قد أعذروا، وقضوا ما عليهم، فنناشدكم الله في أنفسكم إلّا نهضتم بمثل ما نهضنا به. وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثل ذلك، وإلى أهل اليمامة بمثله.
وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة كتابا بليغا طويلا تحضّهم على إقامة كتاب الله، وتذكر لهم ما صنعوا بالبصرة. وكتبت إلى رجال بأسمائهم وقالت: « ثبّطوا الناس عن نصرة هؤلاء القوم، والزموا بيوتكم ».
ولما قتلوا حكيما وأصحابه همّوا بقتل عثمان بن حنيف فقال لهم عثمان: « ما شئتم، إن أخي سهلا بالمدينة مع عليّ، وهو وال بها، فإن قتلتموني انتصر. » فخلّوا عنه، وصلّى بالناس عبد الله بن الزبير.
وكتبت عائشة بنت أبي بكر إلى زيد بن صوحان: « من عائشة أم المؤمنين وحبيبة الرسول إلى ابنه الخالص زيد بن صوحان.
أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم وانصرنا على أمرنا، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن عليّ بن أبي طالب. » فكتب إليها زيد بن صوحان: « إلى عائشة بنت أبي بكر. أمّا بعد، فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت من هذا الأمر، ورجعت إلى بيتك، وإلّا فأنا أوّل من نابذك. » وقال: « رحم الله عائشة. أمرت أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به، وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه. » وكان عليّ ﵇ حين انتهى إلى الربذة، أقام، وأرسل إلى أهل الكوفة، وكاتبهم، واستدعى من المدينة ما أحبّ من سلاح وغيره. وقدم عثمان بن حنيف الربذة على عليّ منتوف شعر الوجه كلّه، وقال: « يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية، وجئتك أمرد. » قال: « أصبت خيرا وأجرا. اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما، وأرهما المساءة في ما عملا. »
ماذا جرى في الكوفة
فأمّا أهل الكوفة، فلمّا انتهى إليهم رسول عليّ استشاروا أبا موسى. فقال لهم: « إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا. » وجعل يثبّط الناس. إلى أن أنفذ عليّ ﵇ ابن عباس والأشتر، فلم يغنيا، وكان بعث بهاشم بن عتبة إلى أبي موسى يستنفر الناس. فكتب إليه هاشم: « إني قدمت على رجل مشاقّ ظاهر الغلّ. » فبعث عليّ الحسن وعمارا، وكتب إلى أبي موسى: « أما بعد، فكنت أرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعل الله لك فيه نصيبا سيمنعك من ردّ أمري. وقد بعثت الحسن بن عليّ، وعمار بن ياسر، وبعثت قرطة بن كعب واليا. فاعتزل عملنا مذموما مدحورا. » فقدم الحسن بن عليّ وعمار بن ياسر. فلطف الحسن وقال: « أيها الناس! أجيبوا أميركم، وسيروا إلى إخوانكم. فإنّه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه. فوالله أن يليه أهل النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم. »
فقام زيد بن صوحان فقال: « يا قوم! سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين. »
فقام القعقاع بن عمرو، فقال: « أيها الناس! إني لكم ناصح وعليكم شفيق، ولأقولنّ لكم قولا هو الحقّ، إنّه لا بدّ لنا من إمارة تنظم الناس، وتردع الظالم، وتعزّ المظلوم، وهذا عليّ ولى ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا، وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع. » ثم تكلّم سيحان، وقال مثل قول القعقاع، وتكلّم عديّ بن حاتم في قومه لمّا بلغه كلام الحسن وجواب الناس وقال: « قد بايعنا هذا الرجل، ودعانا إلى أمر جميل، ونحن سائرون. » وتكلّم هند بن عمرو، وحجر بن عديّ، والأشتر، وقالوا مثل ذلك. وقال الحسن: « أيها الناس! إني غاد، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر، ومن شاء فليخرج في الماء. » فنفر معه تسعة آلاف رجل، وروى أيضا أنهم كانوا اثنى عشر ألفا، وأخرج أبو موسى من القصر، وشدّد عليه الأشتر.
علي يرسل القعقاع إلى أهل البصرة
فلمّا وردوا على عليّ ذا قار، تلقّاهم عليّ، فرحّب بهم، وأثنى عليهم. ثم دعا القعقاع بن عمرو، فأرسله إلى أهل البصرة، وقال: « الق هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفرقة. » ووصاه بما أراد.
ثم قال له: « كيف أنت صانع في ما جاءك منهم مما ليس عندك وصاة مني؟ »
قال: « نلقاهم بالذي أمرت به. فإذا جاءنا أمر ليس عندنا منك فيه وصاة اجتهدنا الرأي، وكلّمناهم على قدر ما نسمع منهم ونرى أنّه ينبغي. » قال: « أنت لها. » فخرج القعقاع حتى قدم البصرة. فبدأ بعائشة، فسلّم عليها، ثم قال: « أي أمّه! ما أشخصك. وما أقدمك؟ » قالت: « أي بنيّ! الإصلاح بين الناس. » قال: « فابعثي إلى طلحة والزبير، حتى تسمعي كلامي وكلامهما. » فبعثت إليهما، فجاءا. فقال: سألت أم المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: « الإصلاح بين الناس. » [ فقلت ]: « فما تقولان أنتما: متابعان، أم مخالفان؟ » قالا: « متابعان. » قال: فأخبرانى ما وجه هذا الصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحنّ، وإن أنكرناه لا نصلح. » قالا: « قتلة عثمان. فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن، وإن عمل به كان إحياءا للقرآن. » قال: « قد قتلتم بالبصرة من زعمتم أنهم قتلة عثمان، وأنتم كنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلّا رجلا فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الواحد الذي أفلت - يعنى حرقوص بن زهير - فمنعه ستة آلاف وهم على رجل. فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوا فأديلوا عليكم، فالذي حذرتم وقوّيتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم أحميتم مضر وربيعة من أهل هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير. » قال: أقول: « إنّ هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن احتلجوا. فإن أنتم تابعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية لهذه الأمة. وإن أبيتم إلّا مكاثرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شرّ، وذهاب هذا الثأر، وفناء هذه الأمة. فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم تكونون، ولا تتعرّضوا للبلاء ولا نتعرض له فيصرعكم ويصرعنا. إنّ هذا الأمر الذي أنتم فيه، أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل. » فقالوا: « إذا أحسنت وأصبت المقالة. فارجع، فإن قدم عليّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. » فرجع إلى عليّ، فأخبره الخبر، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود البصرة نحو عليّ حين نزل بذي قار.
فجاء وفد تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أيّ حال نهضوا [ إليهم ] وليعلمو هم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر قتالهم على بالهم.
فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل البصرة، وقالوا لهم مثل مقالتهم، فأدخلوهم إلى عليّ، فأخبروه بخبرهم. فسأل عليّ جرير بن شرس عن طلحة والزبير، وعن نياتهما، فأخبره بدقيق أمرهما وجليله، وحتى تمثّل له [ طلحة ]:
ألا أبلغ بنى بكر رسولا ** فليس إلى بنى كعب رسول
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ** طويل الساعدين له فضول
فتمثّل عليّ عندها:
ألم تعلم أبا سمعان أنّا ** نردّ الشيخ مثلك ذا الصداع
ونذهل عقله بالحرب حتى ** يقوم، فيستجيب بغير داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر ** وما بك يا سراقة من دفاع
وتحدّث الناس بهذه الأبيات، وتداولوها، لأنّ طلحة كان يديم إنشاد البيتين الأوّلين.
ورجع القعقاع من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم. فجمع عليّ الناس، ثم قام على الغرائر، فخطب، وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمة بالجماعة، وحضّ الناس على الألفة. ثم قال:
« إنّ قوما حسدوا هذه الأمة التي أفاء الله عليها ما أفاءه على الفضيلة، وأرادوا ردّ الأمور على أدبارها، والله مصيب أمره، وبالغ ما أراد. ألا وإني راحل غدا، فارتحلوا. ولا يرحلنّ أحد أعان على عثمان بشيء، في شيء من أمور الناس، وليغن سفهاؤهم عني أنفسهم. »
ذكر السبب في نقض ما أشرف عليه القوم من الإصلاح
فاجتمع نفر منهم: علباء بن الهيثم، وعديّ بن حاتم، وشريح بن أوفى، والأشتر، وغيرهم من طبقتهم ممن سار إلى عثمان، أو رضى بسير من سار.
وجاءهم ابن السوداء، وخالد بن ملجم، ومعهم المصريّون، فتشاوروا.
ذكر آراء هؤلاء وما تقرر عليه الرأي في ما اجتمعوا عليه ودبوا له من الحيلة في نقض الصلح
فقال القوم: « هذا والله عليّ، وهو أعلم وأبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم، والقليل من غيرهم. فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه، ورأوا قلّتنا في كثرتهم. أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. » فقال الأشتر: « أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما. وأما عليّ فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا واحد، وإن يصطلحوا مع عليّ فعلى دمائنا. فهلمّوا نتوثب على عليّ فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكوت. »
فقال عبد الله بن السوداء: « بئس الرأي رأيت. أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة. وهذا ابن الحنظليّة في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا فارق على ظلعك. » وقال علباء بن الهيثم: « انصرفوا بنا ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدوّهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، ارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان، وامتنعوا من الناس. » فقال ابن السوداء: « بئس ما رأيت، ودّ - والله - الناس أنكم على جديلة، ولم تكونوا مع قوم برءاء، ولو كان ذلك الذي تقول لتخطّفكم كلّ شيء. » فقال عديّ بن حاتم: « والله ما رضيت، ولا كرهت. ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله في خوض الحديث. فأما إذا وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإنّ لنا عناقا من خيول، وسلاحا محمولا. فإن أقدمتم أقدمنا، وإن أمسكتم أمسكنا. » فقال ابن السوداء: « أحسنت. » وقال سالم بن ثعلبة: « من كان أراد بما أتى الدنيا، فإني لم أرد ذلك. والله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى شيء، ولئن طال بقائى إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور. وأحلف بالله، إنكم لتفرقون السيف فرق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف. » فقال ابن السوداء: « قد قال قولا. »
وقال شريح بن أوفى: « أبرموا أموركم، ولا تؤخّروا أمرا ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجّلوا أمرا ينبغي لكم تأخيره، فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون غدا إذا هم التقوا. » وتكلّم عبد الله بن السوداء فقال: « يا قوم، إنّ عزّكم في خلطة الناس، فصانعوهم. وإذا التقى الناس غدا فأنشبوا القتال، ولا تفرّغوهم للنظر الطويل. فإنّ من أنتم معه لا يجد بدّا من أن يمتنع ويشغل الله عليّا وطلحة والزبير، ومن رأى رأيهم، عما تكرهون، فأبصروا الرأي وتفرّقوا عليه والناس لا يشعرون. » وأصبح عليّ على ظهر. فمضى ومضى الناس حتى انتهى إلى عبد القيس فنزل بهم والناس يتلاحقون به وقد قطعهم. ولما بلغ أهل البصرة نزول عليّ حيث نزل اجتمعوا إلى طلحة والزبير، وأشاروا عليهما أن يبعثا خيلا فتبيّت عليّا قبل أن يجتمع الناس إليه. فنهى الزبير وقال: « نرجو الصلح، وقد رددنا وافدهم - يعنى القعقاع - على أمر، وأرجو أن يتمّ. » فقام ضبرة بن شيمان إلى طلحة فقال: « يا طلحة! أيتهزّأ بنا هذا الرجل؟ إنّ الرأي في الحرب خير من الشدّة. » فقال: « يا ضبرة! إنّا وهم مسلمون، وهذا أمر حدث، ولم يكن قبل اليوم، ولسنا ننتظر نزول قرآن فيه، ولا فيه من رسول الله ﷺ سنّة، وهو عليّ ومن معه. » فأما أصحاب عليّ فتحركوا. وقام عليّ فقال: « إنّ الذي ندعو إليه من إقرار هؤلاء هو شرّ، وهو خير من شرّ منه وهو كامن، وقد كاد يبين لنا، وجاءت الأحكام من المسلمين بإيثار أعمّهما منفعة وأحوطهما. » وأقبل كعب بن سور، فقال: « ما تنتظرون يا قوم بعد تورّدكم أوائلهم؟ اقطعوا هذا من العنق. فقالوا: « يا كعب! إنّ هذا أمر بيننا وبين إخواننا، وهو أمر ملتبس، وإنّ الشيء يحسن عندنا اليوم، ويقبح عند إخواننا. فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم، وإنّا لنحتجّ عليهم بالحجة، فلا يرونها حجة، ثم يحتجون بها على أمثالنا. ونحن نرجو الصلح إن أجابونا إليه، وإلّا فإنّ آخر الداء الكيّ. »
ذكر فتوى لعلي بن أبي طالب ﵇ في تلك الحال
وقام إلى عليّ ﵇ جماعة من أهل الكوفة يسألونه عن إقدامهم على القوم، وسألوه: ما الذي يرى.
فقال عليّ: « الإصلاح وإطفاء النائرة، لعلّ الله يجمع شمل هذه الأمة بنا، ويضع حربهم. فقد أجابونى. » قالوا: « فإن لم يجيبوا؟ » قال: « تركناهم ما تركونا. »
قالوا: « فإن لم يتركونا؟ » قال: « دفعناهم عن أنفسنا. » وقام إليه أبو سلامة الدلاني فقال: « أترى لهؤلاء القوم حجّة في ما اجتمعوا له وطلبوه من هذا الدم؟ » قال: « نعم. » قال: « فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟ » قال: « نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك، فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعا. » فقال: « ما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ » قال: « إني لأرجو ألّا يقتل أحد منّا ومنهم تقيّ قلبه لله بما يصنع، إلّا دخل الجنة. »
علي يخطب سائلا كف الألسن والأيدى
وقام عليّ فخطب وقال: « أيها الناس! كفّوا ألسنتكم عن هؤلاء وأيديكم، فإنهم إخوانكم، وإياكم أن تسبقونا. فإنّ المخصوم من خصم اليوم. »
ثم ارتحل على تعبئة، حتى إذا أطلّ على القوم بعث إليهم: « إن كنتم على ما فارقتم القعقاع بن عمرو، فكفّوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر. »
فأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال.
قال: فكنّا نرسل إليهم وندعوهم. وبعث عليّ تلك العشيّة عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير. وبعثا هما من العشيّ محمد بن طلحة إلى عليّ وأن يكلّم كل واحد صاحبه.
فأرسل عليّ إلى رؤساء أصحابه ما خلا أولئك الذين ساروا إلى عثمان، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما وباتوا على الصلح بليلة لم يبيتوا بمثلها سرورا بالعافية مما أشرفوا عليه، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قطّ، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى اجتمعوا على إمضاء ما كانوا همّوا به من إنشاب الحرب في السرّ، واستسرّوا به خوفا من أن يفطن لهم. فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم. فانسلّوا انسلالا وعليهم ظلمة. فخرج مضريّهم إلى مضريّهم، وربعيّهم إلى ربعيّهم، ويمانيّهم إلى يمانيّهم، فوضعوا فيهم السلاح، فتنادى أهل البصرة، وثار كلّ قوم في وجوه أصحابهم الذين نهنهوهم. وخرج طلحة والزبير، ووجوه الناس من مضر، وبعثا إلى الميمنة والميسرة فعبّوهما، وقالا: « ما هذا؟ » قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا. فقالا: « قد علمنا أنّ عليّا غير منته حتى يسفك الدماء ويستحلّ الحرمة، وأنه لن يطاوعنا. »
ورجعا بأهل البصرة [ وقصف أهل البصرة أولئك ] حتى ردّوهم إلى عسكرهم. فسمع عليّ وأهل الكوفة الصوت. وقد كان ابن السوداء، والأشتر، وأصحابهما قد وضعوا رجلا قريبا من عليّ، ووصّوه بما يريدون. وقالوا: « إذا سمعت عليّا يسأل عن الخبر، فتقدّم وقل كيت وكيت. » فلما قال علي: « ما هذا؟ » قال ذلك الرجل: « ما فجئنا إلّا وقوم منهم قد بيّتونا، فرددناهم من حيث جاءوا، فوجدنا القوم على رجل فركبوا وثار الناس. » وقال عليّ لصاحب ميمنته: « ايت الميمنة. » وقال لصاحب ميسرته: « ايت الميسرة. » وقال: « فلقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهيين حتى يسفكا الدم ويستحلّا الحرمة، وأنهما لن يطاوعانا. » والسبائية لا تفتر [ إنشابا ].
فنادى عليّ: « يا أيها الناس كفّوا، فلا شيء! » وكان يحبّ أن يبدأ لتكون الحجّة على القوم.
وخرج الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين قد بعثوا حرقوص بن زهير إلى عليّ، فقال:
« يا عليّ، إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غدا، إنّك تقتل رجالهم وتسبى نساءهم. » فقال: « ما مثلي يخاف هذا منه. فهل أنت مغن عني قومك؟ » قال: « نعم. واختر مني واحدا من اثنين: إما أن آتيك، فأكون معك بنفسي، وإما أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف. »
قال: « بل اكفف عني عشرة آلاف سيف. » فرجع، ودعا قومه إلى القعود والكفّ، ففعلوا.
ما جرى بين علي وطلحة والزبير من حديث
ثم إن الزبير خرج على فرس له، على سلاح، فقيل لعليّ: « هذا الزبير. » قال: « أما إنه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكر. » وخرج طلحة، فخرج إليهما عليّ، ودنا منهما حتى اختلف أعناق دوابّهما فقال عليّ: « لعمري لقد أعددتما سلاحا، وخيلا، ورجالا إن كنتما أعددتما عذرا عند الله فاتقيا الله، ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها من بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا ألم أكن أخا لكما في دينكما تحرّمان دمى وأحرّم دمكما؟ فهل من حدث أحلّ لكما دمى؟ » قال طلحة: « ألّبت على عثمان. » قال عليّ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. يا طلحة، تطلب بدم عثمان، فلعن الله أشدّنا كان عليه. يا زبير! أتذكر يوم مررت مع رسول الله ﷺ في بنى غنم، فنظر إليّ وضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله: مه! إنّه ليس كذلك، ولتقاتلنّه وأنت له ظالم؟ » فقال: « اللهم نعم. ولو ذكرت، ما سرت مسيري هذا. والله لا أقاتلك أبدا. » فانصرف عليّ، وحكى ذلك لأصحابه. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: « ما كنت في موطن مذ عقلت وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. » قالت: « ما تريد أن تصنع؟ » قال: « أريد أن أدعهم وأذهب. » قال له ابنه عبد الله: « جمعت هذين الغارّين حتى إذا جرّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب. أحسست رايات بن أبي طالب وعلمت أنها فتية أنجاد. » فغضب الزبير حتى أرعد، ثم قال: « ويحك! إني قد حلفت ألّا أقاتله. » قال: كفّر عن يمينك.
فدعا غلاما له يقال له: مكحول، فأعتقه. فقال عبد الله بن سليمان التيميّ:
لم أر كاليوم أخا إخوان ** أعجب من مكفّر الأيمان
بالعتق في معصية الرحمن
وإنّما حكينا هذه الحكاية، لأنّ فيها تجربة تستفاد، وإن ذهب ذلك على قوم، فإنّا ننبّه عليه، وذلك أنّ المحنق ربما سكّن بالكلام الصحيح، والساكن ربما أحنق بالزور من الكلام، وذلك بحسب تأتّى من يريد ذلك، وإتيانه من وجهه.
ما يحفظ من كلام الأحنف في الاعتزال وحض الناس عليه
إنّه لما رجع من عند عليّ لقيه هلال بن وكيع، وهو سيّد رهطه، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « مكاتفة أمّ المؤمنين. أفتدعنا؟ وتعزل عنّا؟ وأنت سيّدنا؟ » قال: « إنّما أكون سيدكم غدا إذا قتلت وبقيت. » فقال هلال: « سبحان الله، تقول هذا وأنت شيخنا؟ » فقال: « أنا الشيخ المعصيّ وأنت الشابّ المطاع. » ولما ابتدأ القتال قال عليّ لأصحابه ابتداء القتال: « أيكم يعرض عليهم هذا المصحف ويدعوهم إلى ما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، فإن قطعت أخذه بأسنانه؟ » فقال فتى شابّ: « أنا. » فطاف على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلّا ذاك الفتى.
فقال له عليّ: « اعرض عليهم هذا وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، فالله الله في دمائنا ودمائكم. » فحمل القوم على الفتى وبيده المصحف، فقطعت يداه، فأخذه بأسنانه حتى قتل. فقال عليّ لأصحابه: « قد طاب لكم الضراب. » فقاتلوهم، فالتحمت الحرب، واشتدّ القتال إلى العصر. ثم انهزم أصحاب الجمل وعائشة يومئذ في هودجها على الجمل الذي يقال له: « عسكر ». وانهزم الزبير نحو وادي السباع، وتشاغل الناس عنه، واتبعه قوم. فلما رأى الفرسان تتبعه، كرّ عليهم. فلما عرفوه رجعوا عنه، وتركوه. وكان عليّ وصّاهم ألّا يتبعوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح.
وأصاب طلحة سهم، فشكّ ركبته بصفحة الفرس، فامتلأ موزجه دما وضعف.
فانتهى إلى القعقاع في نفر وهو يقول: « إليّ عباد الله! الصبر الصبر. »
فقال له: « يا با محمد! إنك لجريح، وإنك عما تريد لعليل، فادخل الأبيات. » فقال: « يا غلام! أدخلنى، وأبغنى مكانا. » فأدخل ومعه غلام ورجلان. واقتتل الناس بعده، وأقبل الناس في هزيمتهم.
فلما انتهوا إلى الجمل، عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا، وعادوا في أمر جديد، ووقفت الميمنة والميسرة.
وقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ خطام الجمل: « يا كعب: خلّ عن البعير، وتقدّم بكتاب الله، فادعهم إليه. » ودفعت إليهم مصحفا. فاستقبلهم بالمصحف.
وكانت السبائية أمام الناس يخافون أن يجرى الصلح. فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعليّ يزعهم، ويأبون إلّا إقداما، فرشقوا كعبا رشقا واحدا، فقتلوه، ورموا الهودج. فجعلت عائشة تنادي: « البقية، البقية يا نبي الله! » فيأبون إلّا إقداما.
أول ما أحدثته عائشة
فكان أول ما أحدثته عائشة حين رأت الناس يأبون إلّا قتالها أن قالت: « أيها الناس! العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. » وأقبلت تدعو، وضجّ أهل البصرة بالدعاء. وسمع عليّ الدعاء، فقال: « ما هذه الضجّة؟ » قالوا: « عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان. » فأقبل عليّ يدعو ويقول: « اللهمّ العن قتلة عثمان وأشياعهم. »
وذمرت عائشة الناس لما رأت أنّ الناس لا يريدون غيرها ولا يكفّون.
فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم عليّ. فكانت الحرب صبيحة هذا اليوم مع طلحة والزبير، فلما انهزم الزبير، وأصيب طلحة، وذلك بعد الظهر، صارت الحرب مع عائشة.
قال محمد بن الحنفية: دفع أبي إليّ اللواء، وقال: « احمل! » فحملت حتى لم أر موضعا لحملة - وقد كان زوحم عليّ.
فنخس عليّ قفا محمد، وقال: « تقدّم! » وقال: فلم أجد متقدما إلّا على سنان فقلت: « لا أجد متقدّما. » فتناول الرمح من يدي متناول لا أدري من هو. فنظرت، فإذا أبي بين يديّ. و [ اقتتلت ] المجنّبتان حين تزاحفتا قتالا يشبه ما فيه القلبان، وارتجز الفرسان، وكثر القتلى وتنادى الكماة في عسكر عليّ وعسكر عائشة، لما رأوا الصبر الشديد: « يا أيها الناس! طرّفوا إذا فرغ الصبر ونزع النصر. » فجعلوا يتوخّون الأطراف: الأيدى والأرجل، فما رأيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا سمع بها، أكثر يدا مقطوعة ورجلا مقطوعة منها، لا يدرى صاحبها.
فكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب بشيء من أطرافه استقتل [ إلى أن يقتل ].
ونادت عائشة من هودجها بصوت عال فيه كسرة: « إيه، لله أنتم. جالدوا جلادا يتفادى منه، بخّ بخّ، سيوف أبطحية، وسيوف قرشية. » ونادت بنو ضبّة: « ويها جمرة الجمرات. » وأحدقوا بجملها حتى أسرع فيهم القتل ورقّوا. وكانت عائشة تقول: « ما زال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي. » وضربوا ضربا ليس بالتقدير، حتى إذا كثر القتلى وظهر في العسكر التطريف كره بعضهم بعضا، وارتدّت المجنّبتان، فصارتا في القلب. ثم تلاقوا جميعا بقلبيهم. فأخذ ابن يثربى برأس الجمل، وارتجز وادّعى قتل علباء بن الهيثم، وزيد بن صوحان، وهند بن عمرو، فقال:
أنا لمن ينكرنى ابن يثربى ** قاتل علباء وهند الجمل
وزيد صوحان على دين عليّ
فناداه عمار: « لقد لذت بحريز وما إليك من سبيل، فإن كنت صادقا فاخرج من هذه الكتيبة إليّ. » فترك الزمام، وبرز حتى كان بين صفّ عائشة وصفّ عليّ، وأقبل إليه عمار، وهو يومئذ ابن تسعين سنة وقد شدّ وسطه بحبل، وعليه فرو. فضربه ابن يثربى فنحا له درقته، فنشب السيف فيها، وأسفّ عمار لرجليه، فضربه فقطعما، فوقع على استه، وحماه أصحابه فارتثّ بعد، فأتى به عليّ بن أبي طالب. فقال: « استبقني يا أمير المؤمنين. » فقال: « بعد ثلاثة تضرب وجوههم بسيفك؟ » وأمر به، فضربت عنقه.
وتتابع الناس على زمام الجمل حتى قتل أربعون رجلا يرتجزون ويأخذون الخطام فيقتلون. فحدّث عبد الله بن الزبير قال: أمسيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من طعنة وضربة، وما رأيت مثل يوم الجمل قطّ، ما ينهزم منّا أحد وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل.
فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: « من أنت؟ » قلت: « ابن الزبير. » قالت: « وثكل أسماء. » ومرّ بي الأشتر، فعرفته، وعانقته، وسقطنا جميعا، وناديت: « اقتلوني ومالكا. » فجاء ناس منّا، فقاتلوا عنّا حتى تحاجزنا، وضاع مني الخطام. فسمعت عليّا وهو ينادى: « اعقروا الجمل، فإنّه إن عقر تفرّقوا. » فضربه رجل، فسقط، فما سمعت قطّ أشدّ من عجيج الجمل.
وفي رواية أبي بكر بن عيّاش عن علقمة أنه قال: قلت للأشتر: « قد كنت كارها لقتل عثمان، فما أخرجك بالبصرة؟ » قال: « إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا، وكان ابن الزبير هو الذي هزّ عائشة على الخروج، فكنت أدعو الله أن يلقّينيه، فلقيني كفّة لكفّة. فما رضيت لشدّة ساعدي أن قمت في الركاب، فضربته ضربة على رأسه فصرعته. » قلت: « فهو القائل: اقتلوني ومالكا؟ » قال: « لا. ما تركته وفي نفسي منه شيء. ذاك عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، لقيني، فاختلفنا ضربتين، فصرعنى وصرعته، فجعل يقول: نحن مصطرعون، اقتلوني ومالكا، والناس لا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني. » ثم قال أبو بكر بن عيّاش: « هذا كأنك شاهده. » وتحدّث عوف بن أبي رجاء قال: رأيت رجلا قد اصطلمت أذنه فقلت: « أخلقة، أم شيء أصابك؟ » قال: « أحدّثك: بينا أنا امشى بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** ولم ننصرف إلّا ونحن رواء
قال: قلت: « يا عبد الله قل: لا إله إلّا الله. » قال: « أدن مني، ولقّنّى، فإنّ في أذنى وقرا. » قال: فدنوت منه، فقال لي: « ممن أنت؟ » قلت: « رجل من أهل الكوفة. » قال:
فوثب عليّ، واصطلم أذنى كما ترى وقال: « إذا رجعت إلى أمّك، فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبي فعل بك هذا. » وتمام أبيات عمير بن الأهلب:
أطعنا بنى تيم بن مرّة شقوة ** وهل تيم إلّا أعبد وإماء
لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه ** وشيعتها مندوحة وغناء
وروي عن الصعب بن عطيّة قال: كان منّا رجل يدعى الحارث، قال يومئذ: « يا آل مضر، علام نقتل بعضنا بعضا؟ » فنادوا: « لا ندري، إلّا أنّا إلى قضاء. » وما يكفّون.
وقال القعقاع بعد ذلك: ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفّين. لقد رأيتنا ندافعهم بأسنّتنا، ونتكئ على أزجّتنا، وهم مثل ذلك، حتى لو أنّ الرجال مشت عليها لاستقلّت بهم.
وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى [ فنيت ] وتطاعنّا بالرماح حتى تشبّكت في صدورنا وصدورهم، حتى لو سيّرت عليها الخيل لسارت. ثم قال عليّ: « السيوف يا أبناء المهاجرين. » قال الشيخ: فما دخلت دار الوليد بالبصرة وسمعت صوت القصّارين يضربون إلّا ذكرت ذلك اليوم، وما شبّهت هودج عائشة إلّا بالقنفذ.
حمل الهودج من بين القتلى
ثم أمر عليّ ﵇، بحمل الهودج من بين القتلى. وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعاه إلى جنب البعير. فأقبل محمد بن أبي بكر ومعه عمّار حتى احتملاه، وأدخل محمد يده. فقالت: « من أنت، ويلك؟ » قال: « أنا أخوك محمد. » قالت: « بل مذمّم! » قال: « يا أخيّة! هل أصابك شيء؟ » قالت: « ما أنت من ذاك؟ » قال: « فمن إذا الضّلّال؟ » قالت: « بل الهداة. » وانتهى إليها عليّ فقال: « كيف أنت أمّه؟ » قالت: « بخير. » قال: « يغفر الله لك. » قالت: « ولك. » وأما الزبير فإنه تبعه ابن جرموز فقتله. وأما الأحنف فقصد عليّا ومعه ابن جرموز.
فقال عليّ للأحنف: « تربّصت. » فقال: « ما كنت أرانى إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان أمير المؤمنين، فارفق، فإنّ طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحسانى، واستصف مودّتى، ولا تقولنّ مثل هذا. فإني لم أزل لك ناصحا. » وحملت عائشة إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي. وكان عبد الله هذا قتل يوم الجمعة مع عائشة، وقتل عثمان أخوه مع عليّ. وأما الجرحى فإنهم انسلّوا في جوف الليل، ودخلوا البصرة من كان يطيق الانبعاث.
وسألت عائشة عن عدة ممن كانوا معها وممن كانوا عليها. فكلّما نعى واحد منهم قالت: « رحمه الله. » فأما عليّ فصلّى على قتلى هؤلاء، وجمع الأسلاب إلى المسجد بالبصرة، ونادى: « من عرف شيئا فليأخذه، إلّا سلاحا كان في الخزائن عليها سمة السلطان. » وصلّى عليّ في المسجد، ثم دخل البصرة، فأتاه الناس. ثم راح إلى عائشة على بغلته، وهي في دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة. فوجدوا النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف، وصفيّة بنت الحارث مختمرة تبكى، فلمّا رأته قالت: « يا عليّ، يا قاتل الأحبّة، يا مفرّق الجمع، أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله. » فلم يردّ عليها شيئا، ولم يزل على حاله، حتى دخل على عائشة. فسلّم عليها، وقعد عندها. ثم قال: « جبهتنا صفيّة. أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم. » فلما خرج عليّ أقبلت عليه، فأعادت عليه الكلام. فكفّ بغلته ثم قال: « لهممت - وأشار إلى باب من أبواب الدار - أن أفتح هذا الباب وأقتل من فيه، ثم هذا، وأقتل من فيه. » وكان ناس من الجرحى لجأوا إلى عائشة. فأخبر عليّ بمكانهم فتغافل عنهم.
فسكتت صفيّة، وخرج عليّ.
فقال له رجل من الأزد: « ما تفلتنا هذه المرأة. » فغضب وقال: « مه! لا تهتكنّ سترا، ولا تدخلنّ دارا، ولا تهيجنّ امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعاف. ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، وإنّ الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضرب، فيعيّر به عقبه من بعده. فلا يبلغنّى عن أحد عرض لامرأة، فأنكّل به شرار الناس. » ومضى عليّ، فلحق به رجل فقال: « يا أمير المؤمنين، قام رجلان ممن لقيت على الباب فتناولا من هو أمضّ لك شتيمة من صفيّة. » قال: « ويحك، لعلّها عائشة! » قال: « نعم. » فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب. فأقبل بمن كان عليه. فأحالوا على رجلين.
فقال: « أضرب أعناقهما.. » ثم قال: « بل أنهكهما عقوبة.. » ثم قال: « لا، بل أضربهما مائة أخرجهما من ثيابهما. » ثم بايع أهل البصرة حتى الجرحى والمستأمنة. فلما فرغ من بيعتهم نظر في بيت المال، فإذا فيه ستمائة ألف. فقسمها على من شهد معه. فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة.
فقال لهم: « لكم إن أظفركم الله بالشام، مثلها إلى أعطياتكم. » فخاض في ذلك السبائية وطعنوا على عليّ من وراء وراء.
سيرة علي في من قاتل يوم الجمل
وكان من سيرة عليّ ألّا يقتل مدبرا، ولا يذفّف على جريح، ولا يكشف سترا، ولا يأخذ مالا.
فقال قوم يومئذ: « ما يحلّ لنا دماءهم، ويحرّم علينا أموالهم؟ » فقال عليّ: « القوم أمثالكم. من صفح عنّا فهو منّا ونحن منه، ومن لجّ حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر، وإنّ لكم في خمسه لغنى. » فيومئذ تكلّمت الخوارج.
وكتب كتاب البشارة إلى عامله بالمدينة. وكان زياد بن أبي سفيان ممّن اعتزل. فلمّا انجلت الحرب، ذكره عليّ، واستبطأه. فقال ابن أخيه عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكان ورد مستأمنا: « هو مستأمن يا أمير المؤمنين. » فقال: « امش أمامى، فاهدني إليه. » ففعل. فلمّا دخل عليه قال: « تقاعدت وتربّصت. » فاعتذر زياد. فقبل عذره، واستشاره في من يولّيه البصرة، وأراده عليها. فقال: « يا أمير المؤمنين، رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس، فإنّه أجدر أن يطمئنّوا إليه، وسأكفيه وأشير عليه. » فافترقا على ابن عبّاس، وولّى زيادا الخراج وبيت المال.
السبائية ترتحل بغير إذن علي
وأعجلت السبائية عليّا عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه. فارتحل على آثارهم ليقطع عنهم أمرا إن كانوا أرادوه. وقد كان له مقام لولاهم.
وكان عدّة القتلى يوم الجمل عشرة آلاف من الفريقين.
وتحدّث الناس: إنّ أهل المدينة علموا بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس، وفيه كان القتال، وذلك من نسر مرّ بماء حول المدينة معه شيء متعلّق، فتأمّله الناس، فوقع، فإذا كفّ فيها خاتم نقشه: « عبد الرحمن بن عتّاب ». ثم جعل من بين مكة والمدينة ممن قرب من البصرة أو بعد، قد علموا بالوقعة مما تنقل إليهم النسور من الأيدى والأقدام.
تجهيز علي عائشة
وجهّز عليّ عائشة لغرّة رجب سنة ستّ وثلاثين بكلّ شيء ينبغي لها، وأخرج معها كلّ من نجا ممن خرج معها إلّا من أحبّ المقام. واختار من نساء البصرة المعروفات أربعين امرأة، وأمر أخاها محمدا بالخروج معها، وخرج في تشييعها أميالا، وسرّح بنيه معها يوما.
ما جرى بين معاوية وقيس
وكان عليّ بن أبي طالب ولّى قيس بن سعد بن عبادة مصر لما قتل عثمان، فسار إليها، وبايع أهلها لعليّ بن أبي طالب، ودارى الناس. فاستجاب له أهل مصر إلّا أهل قرية يقال لها: « خرنبا »، فإنّ أهلها أعظموا قتل عثمان، وكانوا نحو عشرة آلاف رجل من الوجوه الفرسان فكره قيس أن يهيّجهم، فراسلهم قيس وراسلوه يقولون: « إنّا لا نقاتلك، فابعث عمّالك، فالأرض أرضك، ولكن دعنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس. » فأمسك عنهم، وأرسل إليهم عمّاله، فجباهم، ثم توثّب عليه قوم بمصر، فداراهم. وكان قيس ذا حزم ورأى. فجبى الخراج لا ينازعه أحد.
وخرج أمير المؤمنين إلى أهل الجمل وهو على مصر، ورجع إلى أرض الكوفة من البصرة وهو بمكانه. فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام مخافة أن يقبل إليه عليّ في أهل العراق ويقبل إليه قيس في أهل مصر فيقع معاوية بينهما.
فكتب إليه معاوية وعليّ بن أبي طالب بالكوفة يومئذ، يعظّم عليه قتل عثمان، ويذكر له أنّ صاحبه أغرى به الناس، وحملهم على قتله، ويحمل قيسا على متابعته، ويضمن له سلطان العراقين إذا ظهر، ما بقي، ويشترط له سلطان الحجاز يولّيه من شاء من أهله، ويقول له بعد ذلك: « وسلني غير هذا مما تحبّ، فإنّك لا تسألنى شيئا إلّا أجبتك إليه. » فأجابه قيس بالاعتذار من قتل عثمان، وأنّه لم يشهده ولا صاحبه أمير المؤمنين، ولا رضيه، واستمهله مما عرض عليه من متابعته، وقال: « لي فيه نظر ورأى. » فلما نظر في كتابه معاوية وقرأه لم يره إلّا مباعدا، ولم يأمن أن يكون مكايدا، فكتب كتابا آخر يقول له: « لم أرك تدنو فأعدّك سلما، ولم أرك تباعد فأعدّك حربا، وليس مثلي من يصانع بالخداع ومعي أعنّة الخيل، وعدد الرجال. » فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة، أظهر له ذات نفسه
وكتب إليه: « العجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك رأيي، تسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحقّ، وأقربهم إلى الرسول، وأهداهم سبيلا، وتأمرنى بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلّهم سبيلا، وأبعدهم من الله ورسوله وسبيله، ولد ضالّين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس، فأما قولك: إني مالئ عليك خيلا ورجلا، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك، إنّك لذو جدّ والسلام. » فلما أتى معاوية كتاب قيس بن سعد هذا. يئس منه، وثقل عليه مكانه، وأخذ في طريق الحيلة عليه، والمكيدة له.