كتاب الرسالة/الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه
قال الشافعي: مما نَقَل بعضُ مَن سمعتُ مِنه مِن أهل العلم، أن الله أنزل فَرْضا في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: { يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1) قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ القُرَآن تَرْتِيلًا(4) } 1
ثم نَسَخَ هذا في السورة معه، فقال: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ القُرَآن، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } 2
ولما ذكر الله بعد أمْره بقيام الليل نصْفِه إلا قليلا، أو لزيادة عليه، فقال: { أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ } المزمل: 20، فخَفَّفَ، فقال: { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى } قرأ إلى: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } 3
قال الشافعي: فكان بيِّنا في كتاب الله نسخُ قيام الليل ونصفِه والنقصانِ من النصف، والزيادة عليه بقول الله: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } 4
فاحتمل قول الله: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } 5: معنيين:
- أحدهما: أن يكون فرضا ثابتا، لأنه أزِيل به فرض غيره.
- والآخر: أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره، كما أُزيل به غيره، وذلك لقول الله: { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } 6
فاحتمل قوله: { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ }، أن يتهجَّد بغير الذي فُرِض عليه، مما تَيَسَّرَ مِنه.
قال: فكان الواجب طلبَ الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألاَّ واجب من الصلاة إلا الخَمسُ، فصِرنا إلى أن الواجب الخمسُ، وأن ما سواها من واجب مِن صلاة قبلَها، منسوخ بها، استدلالا بقول الله: { فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } 7
وأنها ناسخة لقيام الليل ونصفِه وثلثِه وما تيسر.
ولَسْنَا نُحِبُّ لأحد تركَ أن يتهجد بما يسره الله عليه من كتابه، مُصَلِّيًا به، وكيف ما أكْثَرَ فهو أحبُّ إلينا.
أخبرنا مالك عن عمه أبي سُهَيْل بن مالك عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الإسْلَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَة، قاَلَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَان، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غّيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُوُل اللهِ: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ) 8
ورواه عُبادة بن الصامِت عن النبي، أنَّهُ قال: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اْسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ: كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا 9 أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ) 10
هامش
- ↑ [المزمل: 1، 4]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [الإسراء: 79]
- ↑ [الإسراء: 79]
- ↑ [ البخاري: كتاب الإيمان/44؛ مسلم: كتاب الإيمان/12؛ النسائي: كتاب الصلاة/454؛ أبو داود: كتاب الصلاة/331؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/382. ]
- ↑ [هكذا هي النصب وتقدم توجيه نحوها ص 103 غير أن ذاك التوجيه لا يصلح هنا وانظر توجيه الكلام في ص 158]
- ↑ [ النسائي: كتاب الصلاة/457؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1210؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1391؛ أحمد: باقي مسند الأنصار/21635؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/248. ]