كتاب الرسالة/باب: ما نزل عاما دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص
قال الله - جل ثناؤه -: { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } 1
وقال: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ، وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } 2
فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات، وكان عامَّ المخرج، فدلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج، دون بعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحدا، ولا يكون الوارث منهما قاتلا ولا مملوكا.
وقال: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ }.
فأبان النبي أن الوصايا مقتَصَرٌ بها على الثلث، لا يُتَعدى، ولأهل الميراث الثلثان؛ وأبان أن الدَّين قبل الوصايا والميراث، وأن لا وصية ولا ميراث حتى يستوفي أهل الدَّين دينهم.
ولولا دلالة السنة، ثم إجماعُ الناس، لم يكن ميراثٌ إلا بعد وصية أو دين، ولم تعد الوصية أن تكون مُبَدَّاةً على الدين أو تكون والدين سواء.
وقال الله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } 3
فقصد - جل ثناؤه - قصْدَ القدمين بالغسل، كما قصد الوجه واليدين، فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل، أو الرأس من المسح؛ وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما، بعضُ المتوضئين دون بعض.
فلما مسح رسول الله على الخفين، وأمر به من أدخل رجليه في الخفين، وهو كامل الطهارة، دلت سنة رسول الله ﷺ على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض.
وقال الله تبارك وتعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ } 4
وسن رسول الله أن: ( لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ) 5.
وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار، فصاعدا.
وقال الله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } 6
وقال في الإماء: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } 7
فدل القُرَآن على أنه إنما أريد بجلد المائة: الأحرارُ، دون الإماء. فلما رجم رسول الله الثيب من الزناة، ولم يجلده: دلت سنة رسول الله على أن المراد بجلد المائة من الزناة: الحُرَّان البِكْرَان، وعلى أن المراد بالقطع في السرقة: من سرَق من حِرْز، وبلغت سرقته ربع دينار، دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا.
وقال الله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } 8
فلما أعطى رسول الله ﷺ بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى: دلت سنة رسول الله أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهما من الخمس: بنو هاشم وبنو المطلب، دون غيرهم.
وكل قريش ذو قرابة، وبنو عبد شمس مساويةُ بني المطلب في القرابة، هم مَعًا بنو أب وأم، وإن انفرد بعض بني المطلب بولادة من بني هاشم دونَهم.
فلما لم يكن السهم لمن انفرد بالولادة من بني المطلب دون من لم تصبه ولادة من بني هاشم منهم: دل ذلك على أنهم إنما أعطُوا خاصة دون غيرهم بقرابة جذم النسب، مع كَيْنُونَتِهِمْ معًا مجتمعين في نصر النبي بالشِّعْب وقبله وبعده، وما أراد الله - جل ثناؤه - بهم خاصًّا.
ولقد وَلَدَتْ بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم أحد بولادتهم من الخمس شيئا، وبنو نوفل مُسَاوِيَتُهُمْ في جِذْمِ النسب، وإن انفردوا بأنهم بنوا أم دونهم.
قال الله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } 9
فلما أعطى رسول الله السلَبَ القاتلَ في الإقبال: دلَّت سنة النبي على أن الغنيمة المَخْمُوسَة في كتاب الله، غيرُ السلب، إذْ كان السلب مَغْنُوما في الإقبال، دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال، وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمةٌ تُخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنة.
ولولا الاستدلال بالسنة، وحُكْمُنا بالظاهر قطعنا من لزمه اسمُ سرقة، وضربنا مائةً كلَّ مَنْ زَنَى، حُرا ثيبا، وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي قرابة، ثم خلص ذلك إلى طوائف من العرب، لأن له فيهم وَشَايِجَ أرحام، وَخَمَسْنا السَّلَب، لأنه من المَغْنم مع ما سواه من الغنيمة.
هامش
- ↑ [النساء: 11]
- ↑ [النساء: 12]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [المائدة: 38]
- ↑ [ الترمذي: كتاب الحدود/1369؛ النسائي: كتاب قطع السارق/4874؛ أبو داود: كتاب الحدود/3815؛ مسند احمد: مسند المكثرين/15243؛ مالك: كتاب الحدود/1320؛ الدارمي: كتاب الحدود/ 2202]
- ↑ [النور: 2]
- ↑ [النساء: 25]
- ↑ [الأنفال: 41]
- ↑ [الأنفال: 41]