كتاب الرسالة/(صفة نهي الله ونهي رسوله)

​كتاب الرسالة​ المؤلف الشافعي
(صفة نهي الله ونهي رسوله)



(صفة نهي الله ونهي رسوله)


فقال: فصف لي جماع نهي الله - جل ثناؤه - ثم نهي النبي: عاما، لا تبق منه شيئا.

فقلت له: يجمع نهيه معنيين:

- أحدهما: أن يكون الشيء الذي نهى عنه محرما، لا يحل إلا بوجه دل الله عليه في كتابه، أو على لسان نبيه.

فإذا نهى رسول الله عن الشيء من هذا فالنهي محرم، لا وجه له غير التحريم، إلا أن يكون على معنى، كما وصفت.

قال: فصف لي هذا الوجه الذي بدأت بذكره من النهي، بمثال يدل على ما كان في مثل معناه.

قال: فقلت له: كل النساء محرمات الفروج، إلا بواحد من المعنيين: النكاح والوطئ بملك اليمين، وهما المعنيان اللذان أذن الله فيهما. وسن رسول الله كيف النكاح الذي يحل به الفرج المحرم قبله، فسن فيه وليا وشهودا ورضا من المنكوحة الثيب، وسنته في رضاها دليل على أن ذلك يكون برضا المتزوج، لا فرق بينهما.

فإذا جمع النكاح أربعا: رضا المزوجة الثيب، والمزوج، وأن يزوج المرأة وليها بشهود: حل النكاح، إلا في حالات سأذكرها، إن شاء الله.

وإذا نقص النكاح واحد من هذا كان النكاح فاسدا، لأنه لم يؤت به كما سن رسول الله فيه الوجه الذي يحل به النكاح.

ولو سمى صداقا كان أحب إلي، ولا يفسد النكاح بترك تسمية الصداق، لأن الله أثبت النكاح في كتابه بغير مهر، وهذا مكتوب في غير هذا الموضع.

قال: وسواء في هذا المرأة الشريفة والدنية، لأن كل واحد منهما، فيما يحل به ويحرم، ويجب لها وعليها، من الحلال والحرام والحدود، سواء.

والحالات التي لو أتي بالنكاح فيها على ما وصفت أنه يجوز النكاح، فيما لم ينه فيها عنها من النكاح. فأما إذا عقد بهذه الأشياء كان النكاح مفسوخا، بنهي الله في كتابه وعلى لسان نبيه عن النكاح بحالات نهى عنها، فذلك مفسوخ.

وذلك: أن ينكح الرجل أخت امرأته، وقد نهى الله عن الجمع بينهما، وأن ينكح الخامسة، وقد انتهى الله به إلى أربع، فبين النبي أن انتهاء الله به إلى أربع حظر عليه أن يجمع بين أكثر منهن، أو ينكح المرأة على عمتها أو خالتها، وقد نهى النبي عن ذلك، وأن ينكح المرأة في عدتها.

فكل نكاح كان من هذا لم يصح، وذلك أنه قد نهي عن عقده، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم.

ومثله - والله أعلم - أن النبي نهى عن الشغار 1، وأن النبي نهى عن نكاح المتعة 2، وأن النبي نهى المحرم أن ينكح أو ينكح.

فنحن نفسخ هذا كله من النكاح، في هذه الحالات التي نهى عنها، بمثل ما فسخنا به ما نهى عنه مما ذكر قبله.

وقد يخالفنا في هذا غيرنا، وهو مكتوب في غير هذا الموضع. 3

ومثله: أن ينكح المرأة بغير إذنها، فتجيز بعد، فلا يجوز، لأن العقد وقع منهيا عنه.

ومثل هذا ما نهى عنه رسول الله من بيع الغرر، وبيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، أو غير ذلك مما نهى عنه.

وذلك أن أصل مال كل امرئ محرم على غيره، إلا بما أحل به، وما أحل به من البيوع ما لم ينه عنه رسول الله، ولا يكون ما نهى عنه رسول الله من البيوع محلا ما كان أصله محرما من مال الرجل لأخيه، ولا تكون المعصية بالبيع المنهي عنه تحل محرما، ولا تحل إلا بما لا يكون معصية، وهذا يدخل في عامة العلم.

فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نهي المرء فيه عن شيء، وهو يخالف النهي الذي ذكرت قبله؟

فهو - إن شاء الله - مثل نهي رسول الله أن يشتمل الرجل على الصماء 4، وأن يحتبي في ثوب واحد مفضيا بفرجه إلى السماء، وأنه أمر غلاما أن يأكل مما بين يديه، ونهاه أن يأكل من أعلى الصحفة، ويروى عنه، وليس كثبوت ما قبله مما ذكرنا: أنه نهى عن أن يقرن الرجل إذا أكل بين التمرتين، وأن يكشف التمرة عما في جوفها، وأن يعرس على ظهر الطريق.

فلما كان الثوب مباحا للابس، والطعام مباحا لآكله، حتى يأتي عليه كله إن شاء، والأرض مباحة له إذا كانت لله لا لآدمي، وكان الناس فيها شرعا، 5 فهو نهي فيها عن شيء أن يفعله، وأمر فيها بأن يفعل شيئا غير الذي نهي عنه.

والنهي يدل على أنه إنما نهى عن اشتمال الصماء والاحتباء مفضيا بفرجه غير مستتر: أن في ذلك كشف عورته، قيل له يسترها بثوبه، فلم يكن نهيه عن كشف عورته نهيه عن لبس ثوبه فيحرم عليه لبسه، بل أمره أن يلبسه كما يستر عورته.

ولم يكن أمره أن يأكل من بين يديه ولا يأكل من رأس الطعام، إذا كان مباحا له أن يأكل ما بين يديه وجميع الطعام: إلا أدبا في الأكل من بين يديه، لأنه أجمل به عند مواكله، وأبعد له من قبح الطعمة والنهم، وأمره ألا يأكل من رأس الطعام لأن البركة تنزل منه له، على النظر له في أن يبارك له بركة دائمة يدوم نزولها له، وهو يبيح له إذا أكل ما حول رأس الطعام أن يأكل رأسه.

وإذا أباح له الممر على ظهر الطريق فالممر عليه إذ كان مباحا لأنه لا مالك له يمنع الممر عليه فيحرم بمنعه: فإنما نهاه لمعنى يثبت نظرا له، فإنه قال: فإنها مأوى الهوام، وطرق الحيات 6 على النظر له، لا على أن التعريس محرم، وقد ينهى عنه إذا كانت الطريق متضايقا مسلوكا، لأنه إذا عرس عليه في ذلك الوقت منع غيره حقه في الممر.

فإن قال قائل: فما الفرق بين هذا والأول؟

قيل له: من قامت عليه الحجة يعلم أن النبي نهى عما وصفنا، ومن فعل ما نهي عنه - وهو عالم بنهيه - فهو عاص بفعله ما نهي عنه، وليستغفر الله ولا يعود 7

فإن قال: فهذا عاص، والذي ذكرت في الكتاب قبله في النكاح والبيوع عاص، فكيف فرقت بين حالهما؟

فقلت: أما في المعصية فلم أفرق بينهما، لأني قد جعلتهما عاصيين، وبعض المعاصي أعظم من بعض.

فإن قال: فكيف لم تحرم على هذا لبسه وأكله وممره على الأرض بمعصيته، وحرمت على الآخر نكاحه وبيعه بمعصيته؟

قيل: هذا أمر بأمر في مباح حلال له، فأحللت له ما حل له، وحرمت عليه ما حرم عليه، وما حرم عليه غير ما أحل له، ومعصيته في الشيء المباح له لا تحرمه عليه بكل حال، ولكن تحرم عليه أن يفعل فيه المعصية.

فإن قيل: فما مثل هذا؟

قيل له: الرجل له الزوجة والجارية، وقد نهي أن يطأهما حائضتين وصائمتين، ولو فعل لم يحل ذلك الوطء له في حاله تلك، ولم تحرم واحدة منهما عليه في حال غير تلك الحال، إذا كان أصلهما مباحا وحلالا.

وأصل مال الرجل محرم على غيره إلا بما أبيح به مما يحل، وفروج النساء محرمات إلا بما أبيحت به من النكاح والملك، فإذا عقد عقدة النكاح أو البيع منهيا عنها على محرم لا يحل إلا بما أحل به، لم يحل المحرم بمحرم، وكان على أصل تحريمه، حتى يؤتى بالوجه الذي أحله الله به في كتابه، أو على لسان رسوله، أو إجماع المسلمين، أو ما هو في مثل معناه.

قال: وقد مثلت قبل هذا: النهي الذي أريد به غير التحريم بالدلائل، فاكتفيت من ترديده، وأسأل الله العصمة والتوفيق.


هامش

  1. [ الشغار: بالكسر نكاح كان في الجاهلية، وهو أن يقول الرجل لآخر: زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، كأنهما رفعا المهر وأخليا البضع عنه. مختار الصحاح - الرازي. ]
  2. [ نكاح المتعة: النكاح إلى أجل معين. النهاية - ابن الأثير. ]
  3. [ انظر اختلاف الحديث للشافعي والأم 5/68 - 72]
  4. [ اشتمال الصماء: أن يرد الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعا، أو الاشتمال بثوب واحد ليس عليه غيرهثم يضعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه. القاموس المحيط - فيروزآبادي. ]
  5. [ أي سواء. ]
  6. [ مسلم: كتاب الإمارة/3553؛ الترمذي: كتاب الأدب؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/8563]
  7. [هكذا هي بإثبات الواو وقدمنا في غير موضع جوازه مع حرف الجزم ويجوز أن تكون (لا) نافية مع إرادة النهي. ]
كتاب الرسالة
المقدمة | باب كيف البيان | باب البيان الأول | باب البيان الثاني | باب البيان الثالث | باب البيان الرابع | باب البيان الخامس | باب: بيان ما نزل من الكتاب عاما يُراد به العام | باب: بيان ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص | باب: بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص | باب: الصنف الذي يبين سياقه معناه | الصنف الذي يدل لفظه على باطنه، دون ظاهره | باب: ما نزل عاماًّ دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص | بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه | باب: ما أمر الله من طاعة رسوله | باب: ما أبان الله لخلقه من فرائض | ابتداء الناسخ والمنسوخ | الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه | باب: فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بعذر | الناسخ والمنسوخ الذي تدلُّ عليه السنة والإجماع | باب: الفرائض التي أنزل الله نصاً | الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله معها | الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنما أراد الخاص | جمل الفرائض | في الزكاة | (في الحج) | (في العدد) | في محرمات النساء | في محرمات الطعام | عدة الوفاة | باب العلل في الحديث | وجه آخر من الناسخ والمنسوخ | وجه آخر في الناسخ والمنسوخ | وَجه آخر | وجه آخر من الاختلاف | اختلاف الرواية على وجه غير الذي قبله | وجه آخر مما يعد مختلفا وليس عندنا بمختلف | وجه آخر مما يعد مختلفا | وجه آخر في الاختلاف | في غسل الجمعة | النهي عن معنى دل عليه معنى في حديث غيره | النهي عن معنى أوضح من معنى قبله | النهي عن معنى يشبه الذي قبله في شيء ويفارقه في شيء غيره | باب آخر- وجه آخر يشبه الباب قبله | وجه يشبه المعنى الذي قبله | صفة نهي الله ونهي رسوله | باب العلم | باب خبر الواحد | الحجة في تثبيت خبر الواحد | باب الإجماع | القياس | باب الاجتهاد | باب الاستحسان | باب الاختلاف | أقاويل الصحابة | منزلة الإجماع والقياس