مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في أنه لا يجوز الجدال عن الخائن
فصل في أنه لا يجوز الجدال عن الخائن
عدلودل قوله: { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } 1، أنه لا يجوز الجدال عن الخائن، ولا يجوز للإنسان أن يجادل عن نفسه إذا كانت خائنة؛ لها في السر أهواء وأفعال باطنة تخفى على الناس، فلا يجوز المجادلة عنها، قال تعالى: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } 2، وقال تعالى: { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } 3، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } 4، وقد قال تعالى: { بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } 5، فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها، وهو يبصرها بخلاف ذلك، وقال تعالى: { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } 6 وقال تعالى: { وَمِنَ
النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } 7.
وقد قال النبي ﷺ: «أبْغَضُ الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصِمُ»، فهو يجادل عن نفسه بالباطل، وفيه لدد. أي: ميل واعوجاج عن الحق، وهذا على نوعين: أحدهما: أن تكون مجادلته وذبه عن نفسه مع الناس، والثاني: فيما بينه وبين ربه، بحيث يقيم أعذار نفسه ويظنها محقة وقصدها حسنا، وهي خائنة ظالمة، لها أهواء خفية قد كتمتها حتى لا يعرف بها الرجل حتى يرى وينظر، قال شداد بن أوس: إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوة الخفية، قال أبو داود: هي حب الرياسة.
وهذا من شأن النفس، حتى إنه يوم القيامة يريد أن يدفع عن نفسه ويجادل الله بالباطل، قال تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَاللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } 8، وقال تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } 9.
وقد جاءت الأحاديث بأن الإنسان يجحد أعماله يوم القيامة، حتى يشهد عليه سمعه وبصره وجوارحه، وقال تعالى: { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرا مِّمَّا تَعْمَلُونَ } 10.
ومن عادة المنافقين المجادلة عن أنفسهم بالكذب والأيمان الفاجرة، وصفهم الله بذلك في غير موضع. وفى قصة تبوك لما رجع النبي ﷺ، وجاء المنافقون يعتذرون إليه، فجعل يقبل علانيتهم، ويَكِل سرائرهم إلى الله، فلما جاء كعب قال: والله يا رسول الله لو قعدت بين يدي ملك من ملوك الأرض لقدرت أن أخرج من سخطه؛ إنى أوتيت جدلا، ولكن أخاف إن حدثتك حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله أن يسخطك علىّ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد 11 علىّ فيه إنى لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى قط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال النبي ﷺ: «أما هذا فقد صدق» يعني: والباقي يكذبون ثم إنه هجره مدة، ثم تاب الله عليه ببركة صدقه.
فالاعتذار عن النفس بالباطل والجدال عنها لا يجوز، بل إن أذنب سرا بينه و بين الله اعترف لربه بذنبه، وخضع له بقلبه، وسأله مغفرته وتاب إليه؛ فإنه غفور رحيم تواب، وإن كانت السيئة ظاهرة تاب ظاهرًا، وإن أظهر جميلا وأبطن قبيحا تاب في الباطن من القبيح، فمن أساء سرا أحسن سرا، ومن أساء علانية أحسن علانية فإن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين.
هامش
- ↑ [النساء: 107]
- ↑ [غافر: 19]
- ↑ [الأنعام: 120]
- ↑ [الأعراف: 33]
- ↑ [القيامة: 14، 15]
- ↑ [الإسراء: 14]
- ↑ [البقرة: 402]
- ↑ [المجادلة: 18، 19]
- ↑ [الأنعام: 22 24]
- ↑ [فصلت: 22]
- ↑ [أي: تغضب. انظر: المصباح المنير، مادة: وجد]