مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في بيان ما جاءت به الشريعة الإسلامية
فصل في بيان ما جاءت به الشريعة الإسلامية
عدلوهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم، وهو الذي يصلح به دين الإنسان، كما قال النبي ﷺ: «أعدل الصيام صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما»، وفي رواية صحيحة: «أفضل» والأفضل هو الأعدل الأقوم. وهذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، وهي وسط بين هذين الصنفين؛ أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد.
ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين. قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه، وكانوا يقولون: احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه، وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور.
فالقسم الأول: أهل الفجور، وهم المترفون المنعمون، أوقعهم في الفجور ما هم فيه.
والقسم الثاني: المترهبون، أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم، هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم، وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهى عنها أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيرا منهم.
والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون ألا يفعلوه، إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء يقول أحدهم: للّه على ألا آكل طعاما بالنهار أبدا، ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر، فهذا يلتزم ألا يشرب الماء، وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز، وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع، وهذا يلتزم ألا يتكلم قط، وهذا يجب نفسه، وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة.
ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنى على الله»، لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله ورسوله، فلا يحرم الحلال ولا يسرف في تناوله، بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد في ذلك، ويقتصد في العبادة، فلا يحمل نفسه ما لا تطيق.
فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة، التي غالب من سلكها ارتد على حافره، ونقض عهده، ولم يرعها حق رعايتها. وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق، وتزكو به نفسه، وتسير به إلى ربه، ويجد بذلك من المزيد في إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق؛ فإنهم لابد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بنى آدم إلا من أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا، وقد قال تعالى: { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } 1.
قال طاوس في أمر النساء وقلة صبره عنهن كما تقدم. فميل النفس إلى النساء عام في طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران، كما هو المذكور عنهم، فيبتلى بالميل إلى المردان، وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلى بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة، ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة، إما في سره وإما بينه وبين الأمرد، ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس.
وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في الله، وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمرا أوجبه وحرمه هو على نفسه، فيكون في طاعة نفسه وهواه، بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فيصير بالمجاهدة في طاعة الله ورسوله.
وفى حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس مرفرعًا: «من عَشِق فَعفَّ وكَتَم وصبر ثم مات فهو شهيد»، وأبو يحيى في حديثه نظر؛ لكن المعنى الذي ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد ورجل، ومن الصبر أن يصبر عن شكوي ما به إلى غير الله عز وجل؛ فإن هذا هو الصبر الجميل.
وأما الكتمان فيراد به شيئان:
أحدهما: أن يكتم بَثَّه 2 وألمه، فلا يشكو إلى غير الله، فمتى شكا إلى غير الله نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين:
فإن شكا ذلك إلى طبيب، يعرف طب الأديان، ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان، فهذا بمنزلة المستفتى، وهذا حسن. وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام.
وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة، كما يشكو من الراحة، كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد، تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقا، إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذي يتسخط.
والثاني: أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما في ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛ فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتَشَهَّتْ وتَمَنَّتْ وتَتَيَّمَتْ 3. والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعيا له إلى الفعل والتشبه به، والنساء متى رأين البهائم تَنْزُو 4 الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله في نفسه دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّ إليه، وكل ما في نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه، وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل في النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر في بعض الأمور المتعلقة به، فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة.
ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، أو كان أوان الحج، أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه، أو أصحابه أو غيرهم، ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك، فتتحرك بذكر الأبْرَق والأجْرَع والعُلىَ ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهبا إلى محبوبه، فصار ذكرها يذكره بالمحبوب.
وكذلك أصحاب المتاجر والأموال، إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك، وكذلك أهل الفرج والتنزه، إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه، وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بنى آدم، والإنسان ظلوم جهول.
وكذلك ذِكْر آثار رسول الله ﷺ تُذَكٍّر به وتحرك محبته، فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة؛ فإذا تصورت جنسا تحرك إليها المحبوب.
ولهذا نهي الله تعالى عن إشاعة الفاحشة، وكذلك أمر بستر الفواحش، كما قال النبي ﷺ: «من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله؛ فإنه من يُبَدِ لنا صَفْحَتَه نُقِمْ عليه كتاب الله»، وقال: «كل أمتي مُعَافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به»، فما دام الذنب مستورا فعقوبته على صاحبه خاصة، وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاما، فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه.
ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار الغزل الرقيق لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر، فيكون حينئذ ممن قال الله فيه: { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } 5.
والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة، والمجاهد من جاهد نفسه في الله، وأما المبتدعون في الزهد والعبادة، السالكون طريق الرهبان، فإنهم قد يزهدون في النكاح، وفضول الطعام، والمال ونحو ذلك. وهذا محمود، لكن عامة هؤلاء لابد أن يقعوا في ذنوب من هذا الجنس، كما نجد كثيرا منهم يبتلى بصحبة الأحداث، وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية.
وحكايتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها في كتاب، وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم، وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس، ولو اتبعوا السُّنَّة لاستراحوا من ذلك.
قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان في المنام: لي فيكم لطيفتان: السماع وصحبة الأحداث. قال أبو سعيد: قَلَّ من ينجو منها من أصحابنا، حتى لقوة محبة نفوسهم صار ذلك ممتزجا بطريقهم إلى الله؛ فإن أحدهم يجد في نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده من العبادة والزهادة ما لا يجدها بدون ذلك، وعنده في نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن، فصاروا في شبهة وشهوة، لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم في الأمور المحرمة، التي تفتنهم، حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة، كالذين قال الله فيهم: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا } الآية 6، وهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة واتَّبَعُوا الشهوات.
وإذا وقعوا في السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية، ومحبة تامة، وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم، فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم، ويدخلون في الدياثة لأغراضهم، فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به، ويسمونه حوارا، وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم، ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ، ويرتفع الحياء بين أم الصبى وأبيه وبين الفقراء.
وإذا صَلُّوا صَلُّوا صلاة المنافقين، يقومون إليها وهم كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، فقد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، ومع هذا فهم قد يزهدون في بعض الطيبات التي أحلها الله لهم، ويجتهدون في عبادات وأذكار، لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز، مما تقدم ذكره، فتلك البدعة هي التي أوقعتهم في اتباع الشهوات، وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم، ويتوب الله على من تاب.
والسالكون للشريعة المحمدية، إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال، بل من الحنيفية السمحة، وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصارا وأغلالا، كما كانت على من قبلنا من الرهبان؛ فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد، من أجل خروجه عن السنة.
وهؤلاء قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه السلوك إلى الله تعالى إلا ببدعة.
وكذلك أهل الفجور المترفين، قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه فعل الواجبات إلا بما يفعله من الذنوب، ولا يمكنه ترك المحرمات إلا بذلك، وهذا يقع لبشر كثير من الناس.
منهم من يقول: إنه لا يمكن أداء الصلوات واجتناب الكلام المحرم من الغيبة وغيرها إلا بأكل الحشيشة.
ويقول الآخر: إنّ أكْلَها يعينه على استنباط العلوم وتصفية الذهن، حتى يسميها بعضهم معدن الفكر والذكر، ومحركة العزم الساكن، وكل هذا من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء وغيرهم، وإنها لعمى الذهن، ويصير آكلها أبكم مجنونا لا يَعِي ما يقول.
وكذلك في هؤلاء من يقول: إن محبته لله ورغبته في العبادة، وحركته ووجده وشوقه وغير ذلك لا يتم إلا بسماع القصائد، ومعاشرة الشاهد من الصبيان وغيرهم، وسماع الأصوات والنغمات، ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات ورؤية الصور المحركات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ما لا تتحرك بدون ذلك، وأنهم بدون ذلك قد يتركون الصلوات، ويفعلون المحرمات الكبار، كقطع الطريق، وقتل النفوس، ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم، وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم والكبائر، وتحملها على الصلاة والصوم والحج.
وهذا مستند كثير من الشيوخ الذين يدعون الناس إلى طريقهم بالسماع المبتدع على اختلاف ألوانه وأنواعه، منهم من يدعو إليه بالدف والرقص، ومنهم من يضيف إلى ذلك الشبابات، ومنهم من يعمله بالنساء والصبيان، ومنهم من يعمله بالدف والكف، ومنهم من يعمله بأذكار واجتماع، وتسبيحات وقيام، وإنشاد أشعار، وغير ذلك من سائر أنواعه وألوانه.
وربما ضموا إليه من معاشرة النساء والمردان ونحو ذلك، ويقولون: هؤلاء الذين تَوَّبْنَاهم وقد كانوا لا يصلون، ولا يحجون، ولا يصومون، بل كانوا يقطعون الطريق، ويقتلون النفس، ويزنون، فتوبناهم عن ذلك بهذا السماع. وما أمكن أحدهم استتابتهم بغير هذا.
وقد يعترفون أن ما فعلوه بدعة منهي عنها أو محرمة، ولكن يقولون: ما أمكننا إلا هذا، وإن لم نفعل هذا القليل من المحرم حصل الوقوع فيما هو أشد منه تحريما، وفى ترك الواجبات ما يزيد إثمه على إثم هذا المحرم القليل في جنب ما كانوا فيه من المحرم الكثير.
ويقولون: إن الإنسان يجد في نفسه نشاطا وقوة في كثير من الطاعات إذا حصل له ما يحبه، وإن كان مكروها حراما، وأما بدون ذلك فلا يجد شيئا، ولا يفعله. وهو أيضا يمتنع عن المحرمات، إذا عوض بما يحبه وإن كان مكروها، وإلا لم يمتنع، وهذه الشبهة واقعة لكثير من الناس، وجوابها مبنى على ثلاث مقامات:
أحدها: أن المحرمات قسمان:
أحدهما: ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئا لا لضرورة ولا لغير ضرورة؛ كالشرك، والفواحش، والقول على الله بغير علم، والظلم المحض، وهى الأربعة المذكورة في قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 7.
فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئا قط، ولا في حال من الأحوال؛ ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية، ونفى التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير، حرمه في حال دون حال، وليس تحريمه مطلقا.
وكذلك الخمر، يباح لدفع الغُصَّة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء، ومن لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد. فحينئذ، فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب، كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع؛ فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة في شيء من ذلك.
وكذلك الميسر، فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة في مصلحة الجهاد. وقد قيل: إنه ليس منه، وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقا إلا المحلل. ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر، وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى. والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء، فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة، وعلى الجهاد الذي فيه تعاون، وتتألف به القلوب على الجهاد، زالت هذه المفسدة.
وكذلك بيع الغرر، هو من جنس الميسر، ويباح منه أنواع عند الحاجة ورجحان المصلحة.
وكذلك الربا، حرم لما فيه من الظلم، وأوجب ألا يباع الشيء إلا بمثله، ثم أبيح بيعه بجنسه خرصا عند الحاجة، بخلاف غيرها من المحرمات؛ فإنها تحرم في حال دون حال؛ ولهذا - والله أعلم - نفي التحريم عما سواها، وهو التحريم المطلق العام؛ فإن المنفي من جنس المثبت، فلما أثبت فيها التحريم العام المطلق نفاه عما سواها.
المقام الثاني: أن يفرق بين ما يفعل في الإنسان، ويأمر به ويبيحه، وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريما منه لم ينه عنه، ولم يبحه أيضا.
ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه.
بخلاف ما أمر الله به الأنبياء وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها، كدعوة موسى لفرعون، ونوح لقومه، فإنه حصل لموسى من الجهاد وطاعة الله، وحصل لقومه من الصبر والاستعانة بالله ما كانت عاقبتهم به حميدة، وحصل أيضا من تفريق فرعون وقومه ما كانت مصلحته عظيمة.
وكذلك نوح حصل له ما أوجب أن يكون ذريته هم الباقين، وأهلك الله قومه أجمعين، فكان هلاكهم مصلحة.
فالنهي عنه إذا زاد شره بالنهي، وكان النهي مصلحة راجحة كان حسنا، وأما إذا زاد شره وعظم وليس في مقابلته خير يفوته لم يشرع، إلا أن يكون في مقابلته مصلحة زائدة؛ فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع، مثل أن يكون الآمر لا صبر له، فيؤذى فيجزع جزعا شديدا يصير به مذنبا، وينتقص به إيمانه ودينه.
فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك، بخلاف ما إذا صبر واتقى الله وجاهد، ولم يتعد حدود الله، بل استعمل التقوى والصبر؛ فإن هذا تكون عاقبته حميدة.
وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته، وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة، كما قال تعالى: { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 8.
وأما الإنسان في نفسه فلا يحل له أن يفعل، الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله؛ فإن هذا لا يكون إلا مفسدة، أو مفسدته راجحة على مصلحته، وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم، فلو علم أن في ذلك مصلحة لم يحرمه، لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب، وتكون مصلحته أنه يتوب منه، ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة، وإنابة إلى الله تعالى فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها، فإن الإنسان قد يحصل له بعدم الذنوب كبر وعجب وقسوة، فإذا وقع في ذنب أذله ذلك وكسر قلبه، ولين قلبه بما يحصل له من التوبة.
ولهذا قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة. وهذا هو الحكمة في ابتلاء من ابتلى بالذنوب من الأنبياء والصالحين، وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة، فليس للإنسان أن يعتقد حل ما يعلم أن الله حرمه قطعا، وليس له أن يفعله قطعا، فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه، فإن تاب فصار بالتوبة خيرا مما كان قبله، فهذا من رحمة الله به حين تاب عليه، وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب، وليس له أن يقول: أنا أفعل ثم أتوب، ولا يبيح الشارع له ذلك، لأنه بمنزلة من يقول: أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى، أو آكل السم ثم أشرب التِّرْيَاق 9.
والشارع حكيم؛ فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا؟ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا؟ وهل يتمكن من الشرب أم لا؟ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة، وبالعفو عما سلف من ذنوبه، وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا في أن يذنب ويتوب، ولو لم يفعل ذلك كان شرا منه لو لم يذنب ويتوب؛ لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته، لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان؛ لأنه لا يدري أن ذلك خير له، وليس ما يفعله خلقا لعلمه وحكمته يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه، ويأمروا به.
وقصة الخِضْر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره، ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدرا كما يظنه بعض الناس، بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع، بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرما مطلقا، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار؛ فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما، وكذلك قتل الإنسان الصائل 10 لحفظ دين غيره أمر مشروع، وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع.
فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد، فيحرمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل، وهو مباح في الشرع باطنا وظاهرا لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته.
وهذا لا يجىء في الأنواع الأربعة؛ فإن الشرك والقول على الله بلا علم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والظلم، لا يكون فيها شيء من المصلحة، وقتل النفس، أبيح في حال دون حال، فليس من الأربعة. كذلك إتلاف المال يباح في حال دون حال، وكذلك الصبر على المجاعة؛ ولذلك قال: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } 11.
فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقا في كل حال، وفى كل شرع، فعلى العبد أن يعبد الله مخلصا له الدين، ويدعوه مخلصا له، لا يسقط هذا عنه بحال، ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد، وهم أهل «لا إله إلا الله».
فهذا حق الله على كل عبد من عباده، كما في الصحيحين من حديث معاذ أن النبي ﷺ قال له: «يا معاذ، أتدرى ما حق الله على عباده؟ » قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا» الحديث.
فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص للّه دينه وعبادته، ودعاه مخلصًا له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره؛ كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالا من المشرك، فلابد من عبادة الله وحده، وهذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره.
ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب الله بالنار أحدا إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون، والميت في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار.
فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال، وهو العدل في حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصا له الدين، ولا يظلم الناس شيئا، وما هو محرم على كل أحد في كل حال لا يباح منه شيء، وهو الفواحش والظلم والشرك، والقول على الله بلا علم وبين ما سوى ذلك.
قال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } 12، فهذا محرم مطلقا لا يجوز منه شيء، { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ، فهذا فيه تقييد؛ فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه، وهذا الأمر والنهى للوالد هو من الإحسان إليه، وإذا كان مشركا جاز للولد قتله، وفي كراهته نزاع بين العلماء.
قوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ } فهذا تحريم خاص، { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } 13، هذا مطلق، { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } 14 هذا مقيد؛ فإن يتامى المشركين أهل الحرب يجوز غنيمة أموالهم، لكن قد يقال: هذا أخذ وقربان بالتي هي أحسن، إذا فسر الأحسن بأمر الله ورسوله، { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } 15، هذا مقيد بمن يستحق ذلك { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } 16، هذا مطلق.
{ وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ } 17، فالوفاء واجب، لكن يميز بين عهد الله وغيره، ويفرق بين ما يسكت عنه الإنسان وبين ما يلفظ به، ويفعله ويأمر به، ويفرق بين ما قدره الله، فحصل بسببه خير، وبين ما يؤمر به العبد، فيحصل بسببه خير.
هامش
- ↑ [النساء: 28]
- ↑ [أي: حزنه الشديد. انظر: القاموس، مادة: بثث]
- ↑ [أي: عشقت وأحبّتْ. انظر: القاموس، مادة: تيم]
- ↑ [أي: تثب وتعلو. انظر: القاموس، مادة: نزا]
- ↑ [يوسف: 90]
- ↑ [الأعراف: 28]
- ↑ [الأعراف: 33]
- ↑ [الأنعام: 54]
- ↑ [هو دواء مركب. انظر: القاموس، مادة: ترق]
- ↑ [هو الذي يقتل الناس، ويعدو عليهم. انظر: القاموس، مادة: صؤل]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [الأنعام: 151]
- ↑ [الأنعا م: 151]
- ↑ [الأنعام: 152]
- ↑ [الأنعام: 152]
- ↑ [الأنعام: 152]
- ↑ [الأنعام: 152]