مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في بيان أنه لا غنى عن الله تبارك وتعالى
فصل في بيان أنه لا غنى عن الله تبارك وتعالى
عدلإذا ظهر أن العبد وكل مخلوق فقير إلى الله محتاج إليه ليس فقيرا إلى سواه، فليس هو مستغنيا بنفسه ولا بغير ربه، فإن ذلك الغير فقير أيضا محتاج إلى الله، ومن المأثور عن أبى يزيد رحمه الله أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق. وعن الشيخ أبى عبد الله القرشي 1 أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وهذا تقريب وإلا فهو كاستغاثة العدم بالعدم؛ فإن المستغاث به إن لم يخلق الحق فيه قوة وحولا وإلا فليس له من نفسه شيء، قال سبحانه: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 2، وقال تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } 3، وقال تعالى: { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ } 4 واسم العبد يتناول معنيين:
أحدهما: بمعنى العابد كرها، كما قال: { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } 5، وقال: { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } 6 وقال: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } 7، { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } 8، وقال: { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } 9.
والثاني: بمعنى العابد طوعا وهو الذي يعبده ويستعينه، وهذا هو المذكور في قوله: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } 10، وقوله: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } 11، وقوله: { نَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } 12، وقوله: { إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } 13، وقوله: { يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } 14، وقوله: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } 15، وقوله: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } 16، وقوله: { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } 17، وقوله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } 18، وقوله: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } 19.
وهذه العبودية قد يخلو الإنسان منها تارة، وأما الأولى فوصف لازم، إذا أريد بها جريان القدر عليه وتصريف الخالق له، قال تعالى: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } 20، وعامة السلف على أن المراد بالاستسلام: استسلامهم له بالخضوع والذل، لا مجرد تصريف الرب لهم، كما في قوله: { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } 21، وهذا الخضوع والذل هو أيضا لازم لكل عبد لابد له من ذلك، وإن كان قد يعرض له أحيانا الإعراض عن ربه والاستكبار، فلابد له عند التحقيق من الخضوع والذل له، لكن المؤمن يسلم له طوعا فيحبه ويطيع أمره، والكافر إنما يخضع له عند رغبة ورهبة، فإذا زال عنه ذلك أعرض عن ربه، كما قال: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ } 22، وقال: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا } 23.
وفقر المخلوق وعبوديته أمر ذاتي له لا وجود له بدون ذلك، والحاجة ضرورية لكل المصنوعات المخلوقات، وبذلك هي أنها لخالقها وفاطرها؛ إذ لا قيام لها بدونه، وإنما يفترق الناس في شهود هذا الفقر والاضطرار وعزوبه عن قلوبهم.
وأيضا، فالعبد يفتقر إلى الله من جهة أنه معبوده الذي يحبه حب إجلال وتعظيم، فهو غاية مطلوبه ومراده ومنتهى همته، ولا صلاح له إلا بهذا، وأصل الحركات الحب، والذي يستحق المحبة لذاته هو الله، فكل من أحب مع الله شيئا فهو مشرك، وحبه فساد؛ وإنما الحب الصالح النافع حب الله والحب للّه، والإنسان فقير إلى الله من جهة عبادته له ومن جهة استعانته به للاستسلام والانقياد لمن أنت إليه فقير وهو ربك وإلهك.
وهذا العلم والعمل أمر فطري ضروري؛ فإن النفوس تعلم فقرها إلى خالقها، وتذل لمن افتقرت إليه، وغناه من الصمدية التي انفرد بها، فإنه { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } 24، وهو شهود الربوبية بالاستعانة والتوكل والدعاء والسؤال، ثم هذا لا يكفيها حتى تعلم ما يصلحها من العلم والعمل، وذلك هو عبادته والإنابة إليه؛ فإن العبد إنما خلق لعبادة ربه، فصلاحه وكماله ولذته وفرحه وسروره في أن يعبد ربه وينيب إليه، وذلك قدر زائد على مسألته والافتقار إليه؛ فإن جميع الكائنات حادثة بمشيئته، قائمة بقدرته وكلمته، محتاجة إليه، فقيرة إليه، مسلمة له طوعا وكرها، فإذا شهد العبد ذلك وأسلم له وخضع، فقد آمن بربوبيته، ورأى حاجته وفقره إليه صار سائلا له متوكلا عليه مستعينا به، إما بحاله أو بِقَالِه، بخلاف المستكبر عنه المعرض عن مسألته.
ثم هذا المستعين به السائل له، إما أن يسأل ما هو مأمور به، أو ما هو منهى عنه، أو ما هو مباح له، فالأول حال المؤمنين السعداء الذين حالهم: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } 25، والثاني حال الكفار والفساق والعصاة الذين فيهم إيمان به وإن كانوا كفارا، كما قال: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } 26 فهم مؤمنون بربوبيته، مشركون في عبادته، كما قال النبي ﷺ لحُصَيْن الخزاعى: «يا حصين، كم تعبد؟ » قال: سبعة آلهة؛ ستة في الأرض وواحدا في السماء، قال: «فمن الذي تدع لرَغْبَتك ورَهْبَتك؟ »، قال: الذي في السماء، قال: «أسلم حتى أعلمك كلمة ينفعك الله تعالى بها»، فأسلم، فقال: «قل: اللهم ألهمني رشدي، وقِنِي شر نفسي» رواه أحمد وغيره.
ولهذا قال سبحانه وتعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } 27، أخبر سبحانه أنه قريب من عباده، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فهذا إخبار عن ربوبيته لهم، وإعطائه سؤلهم، وإجابة دعائهم؛ فإنهم إذا دعوه فقد آمنوا بربوبيته لهم، وإن كانوا مع ذلك كفارا من وجه آخر، وفساقا أو عصاة، قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا } 28، وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون } 29، ونظائره في القرآن كثيرة، ثم أمرهم بأمرين فقال: { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } 30. فالأول أن يطيعوه فيما أمرهم به من العبادة والاستعانة، والثاني الإيمان بربوبيته وألوهيته، وأنه ربهم وإلههم.
ولهذا قيل: إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد، وعن كمال الطاعة؛ لأنه عقب آية الدعاء بقوله: { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } والطاعة والعبادة هي مصلحة العبد التي فيها سعادته ونجاته، وأما إجابة دعائه وإعطاء سؤاله، فقد يكون منفعة وقد يكون مضرة، قال تعالى: { وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولا } 31، وقال تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } 32، وقال تعالى عن المشركين: { وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } 33، وقال: { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } 34، وقال: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } 35، وقال: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } الآية 36، وقال: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } 37، وقال النبي ﷺ لما دخل على أهل جابر فقال: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون».
هامش
- ↑ [هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم، الأندلسي الصوفي، أقام بمصر مدة، وسكن القدس وتوفى بها سنة 995ه عن خمس وخمسين سنة]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الأنبياء: 28]
- ↑ [البقرة: 102]
- ↑ [مريم: 93]
- ↑ [آل عمران: 83]
- ↑ [البقرة: 117، والأنعام: 101]
- ↑ [البقرة: 116، والروم: 26]
- ↑ [الرعد: 15]
- ↑ [الفرقان: 63]
- ↑ [الإنسان: 6]
- ↑ [الحجر: 42]
- ↑ [الحجر: 40]
- ↑ [الزخرف: 68]
- ↑ [ص: 45]
- ↑ [النجم: 10]
- ↑ [ص: 30، 44]
- ↑ [الإسراء: 1]
- ↑ [الجن: 19]
- ↑ [آل عمران: 83]
- ↑ [الرعد: 15]
- ↑ [يونس: 12]
- ↑ [الإسراء: 67]
- ↑ [الرحمن: 29]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [يوسف: 106]
- ↑ [البقرة: 186]
- ↑ [الإسراء: 67]
- ↑ [يونس: 12]
- ↑ [البقرة: 186]
- ↑ [الإسراء: 11]
- ↑ [يونس: 11]
- ↑ [الأنفال: 32]
- ↑ [الأنفال: 19]
- ↑ [الأعراف: 55]
- ↑ [الأعراف: 175، 176]
- ↑ [آل عمران: 61]