مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/فصل في تفسير سورة الفلق والناس


فصل في تفسير سورة الفلق والناس

عدل

وقال شيخ الإسلام قدسَ الله روحَه:

فصل في سورة الفلق والناس

في الفلق أقوال ترجع إلى تعميم وتخصيص، فإنه فسر بالخلق عمومًا، وفسر بكل ما يفلق منه كالفجر والحب والنوى، وهو غالب الخلق، وفسر بالفجر. وأما تفسيره بالنار، أو بجب، أو شجرة فيها، فهذا مرجعه إلى التوقيف.

و«الغاسق» قد روى في الحديث المرفوع عن عائشة في الترمذي والنسائي؛ أن النبي نظر إلى القمر وقال لها: «ياعائشة، تَعَوَّذِى بالله من هذا، فهذا الغاسق إذا وقب». قال ابن قتيبة: الغاسق: القمر إذا كُسِفَ فاسود، ومعنى وقب: دخل في الكسوف.

والمشهور عند أهل التفسير واللغة أن الغاسق: الليل، وقب: دخل في كل شيء فأظلم، و الغَسَقُ: الظلمة. وقال الزجاج: الغاسق: البارد، فقيل لليل: غاسق؛ لأنه أبرد من النهار، أو يقال: الغَسَقُ: السيلانُ والإحاطةُ، وغسق الليل: سيلانه وإحاطته بالأرض، وإذا فسر بالقمر، فقد يقال: وقوبه، أي: دخوله، وهو دخوله في الكسوف، ولا منافاة بين تفسيره بالليل وبالقمر؛ فإن القمر آية الليل، فهنا ثلاث مراتب: الليل مطلقًا، ثم القمر مطلقًا، ثم القمر حال كسوفه.

وهذا مناسب لما ذكر في المستعاذ به، فإن عموم الفلق للخلق بإزاء من شر ما خلق، وخصوصه بالفجر الذي هو ظهور النور بإزاء الغاسق إذا وقب، الذي هو دخول الظلام.

وقال ابن زيد: الغَاسِقُ: الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها، وقد تقع عند طلوعها، ويشبه والله أعلم أن يكون من الحكمة في ذلك: أن النور هو جنس الخير، والظلمة جنس الشر، وفي الليل يقع من الشرور النفسانية ما لا يقع في النهار، والقمر له تأثير في الأرض لا سيما حال كسوفه؛ فإن النبي قال: «إنهما آيتان يخوف الله بهما عباده». والتخويف إنما يكون بانعقاد سبب الخوف، ولا يكون ذلك إلا عند سبب العذاب، أو مظنته، فعلم أن الكسوف مظنة حدوث عذاب بأهل الأرض؛ ولهذا شرع عند الكسوف الصلاة الطويلة، والصدقة، والعَتَاقَةُ، والدعاء لدفع العذاب، وكذلك عند سائر الآيات التي هي إنشاء العذاب، كالزلزلة، وظهور الكواكب، وغير ذلك. وهو أقرب الكواكب التي لها تأثير في الأرض بالترطيب واليبس وغير ذلك.

ولهذا كان الطالبون للمنفعة والمضرة من الكواكب إنما يأخذون الأحداث بحسب سير القمر، فإذا كان في شرفه كالسرطان كان الوقت عندهم سعيدًا، وإذا كان في العقرب وهو هبوطه كان نحسًا، فهذا في علمهم، وكذلك في عملهم من السحر وغيره: القمر أقرب المؤثرات، حتى صنفوا مصحف القمر لعبادته وتسبيحه، فوقع ترتيب المستعاذ منه في هذه السورة على كمال الترتيب، انتقالًا من الأعم الأعلى الأبعد إلى الأخص الأقرب الأسفل، فجعلت أربعة أقسام:

الأول: من شر المخلوقات عمومًا، وقول الحسن: إنه إبليس وذريته، وقول بعضهم: إنه جهنم ذكر للشر الذي هو لنا شر محض من الأرواح والأجسام.

والثاني: شر الغاسق إذا وقب، فدخل فيه ما يؤثر من العلويات في السفليات من الليل وما فيه من الكواكب، كالثريا وسلطانه الذي هو القمر، ودخل في ذلك سحر التمرسحات الذي هو أعلى السحر وأرفعه.

الثالث: شر النفاثات في العقد، وهن السواحر اللواتى يتصورن بأفعال في أجسام.

والرابع: الحاسد، وهي النفوس المضرة سفهًا، فانتظم بذلك جميع أسباب الشرور، ثم خص في سورة الناس الشر الصادر من الجن والإنس، وهم الأرواح المضرة.


هامش



مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السابع عشر
سورة الإخلاص | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عما ورد في سورة قل هو الله أحد أنها تعدل ثلث القرآن | فصل في بيان هل كلام الله بعضه أفضل من بعض أو لا | أسماء المصادر | فصل في دلالة النصوص النبوية والآثار على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض | فصل في النصوص والآثار في تفضيل كلام الله | فصل في إذا علم أن بعض القرآن أفضل من بعض | فصل في مسألة التفاضل والتماثل إنما يقع بين شيئين فصاعدا | تنازع الذين قالوا كلام الله غير مخلوق | فصل في أصناف الناس في مقام حكمة الأمر والنهي | سئل شيخ الإسلام في تفسير قول النبي في سورة الإخلاص إنها تعدل ثلث القرآن | سئل عمن يقرأ القرآن، هل يقرأ سورة الإخلاص مرة أو ثلاثا وما السنة في ذلك | فصل في تفسير قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد | فصل في قول الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد | فصل في أن التولد لابد له من أصلين | فصل في أن كل ما يستعمل فيه لفظ التولد من الأعيان القائمة، فلابد أن يكون من أصلين | فصل فيما يبين أن ما نزه الله نفسه ونفاه عنه بقوله لم يلد ولم يولد | فصل في الذين كانوا يقولون من العرب إن الملائكة بنات الله، وما نقل عنهم من أنه صاهر الجن | فصل في ما يقوله الفلاسفة القائلون بأن العالم قديم صدر عن علة موجبة بذاته | فصل في الاحتجاج بسورة الإخلاص من أهل الكلام | مسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر الفردة | فصل في الألفاظ المحدثة المجملة النافية مثل لفظ المركب ونحو ذلك | كلام للإمام أحمد في رده على الجهمية | زعم الملاحدة أن الأدلة السمعية لا تفيد العلم | فصل في بيان أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة | فصل في المعنى الصحيح الذي هو نفي المثل والشريك والند | من أسس دين الإسلام أنه لا تقصد بقعة للصلاة إلا أن تكون مسجدا فقط | سورة الفلق | فصل في تفسير قوله تعالى قل أعوذ برب الفلق | سورة الناس | فصل في تفسير قوله تعالى قل أعوذ برب الناس | فصل في بيان بعض الاستعاذة كما جاءت بذلك الأحاديث | فصل في تفسير سورة الفلق والناس | فصل في ظهور المناسبة بين السورتين