مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/مسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر الفردة
مسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر الفردة
عدلومسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر الفردة، قد اضطرب فيها جماهير أهل الكلام، وكثير منهم يقول بهذا تارة وبهذا تارة؛ وأكثر ذلك لأجل الألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة، وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.
لكن المقصود هنا أنه لو قُدِّرَ أن الإنسان تبين له أن الأجسام ليست متماثلة، ولا مركبة لا من هذا ولا من هذا، لم يكن له أن يبتدع في دين الإسلام قوله: إن الله جسم ويناظر على المعنى الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة، بل يكفيه إثبات ذلك المعنى بالعبارات الشرعية. ولو قدر أنه تبين له أن الأجسام متماثلة، وأن الجسم مركب، لم يكن له أن يبتدع النفي بهذا الاسم، ويناظر على معناه الذي اعتقده بعقله، بل ذلك المعنى المعلوم بالشرع والعقل يمكن إظهاره بعبارة لا إجمال فيها ولا تلبيس. والذين يقولون: إن الجسم مركب من الجواهر، يدعى كثير منهم أنه كذلك في لغة العرب؛ لأن العرب يقولون: هذا أجسم من هذا يريدون به أنه أكثر أجزاء منه ويقولون: هذا جسيم، أي: كثير الأجزاء.
قال: والتفضيل بصيغة أفعل، إنما يكون لما يدل عليه الاسم، فإذا قيل: هذا أعلم وأحلم، كان ذلك دالًا على الفضيلة فيما دل عليه لفظ العلم والحلم، فلما قالوا: أجسم لما كان أكثر أجزاءً دل على أن لفظ الجسم عندهم المراد به المركب، فمن قال: جسم وليس بمركب، فقد خرج عن لغة العرب.
قالوا: وهذه تخليطة في اللفظ، وإن كنا لا نكفره، إذا لم يثبت خصائص الجسم من التركيب والتأليف، وقد نازعهم بعضهم في قولهم: هذا أجسم من هذا، وقالوا: ليس هذا اللفظ من لغة العرب، كما يحكى عن أبي زيد، فيقال له: لا ريب أن العرب تقول: هذا جسيم، أي: عظيم الجثة، وهذا أجسم من هذا، أي: أعظم جثة، لكن كون العرب تعتقد أن ذلك لكثرة الأجزاء التي هي الجواهر الفردة، إنما يكون إذا كان أهل اللغة قاطبة يعتقدون أن الجسم مركب من الجواهر الفردة، والجوهر الفرد هو شيء قد بلغ من الصغر والحقارة إلى أنه لا يتميز يمينه من يساره. ومعلوم أن أكثر العقلاء من بني آدم لا يتصور الجوهر الفرد، والذين يتصورونه أكثرهم لا يثبتونه، والذين أثبتوه إنما يثبتونه بطرق خفية طويلة بعيدة، فيمتنع أن يكون اللفظ الشائع في اللغة التي ينطق بها خواصها وعوامها أرادوا به هذا.
وقد علم بالاضطرار أن أحدًا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينطق بإثبات الجوهر الفرد، ولا بما يدل على ثبوته عنده، بل ولا العرب قبلهم، ولا سائر الأمم الباقين على الفطرة، ولا أتباع الرسل، فكيف يدعى عليهم أنهم لم يقولوا: لفظ جسم إلا لما كان مركبًا مؤلفًا؟! ولو قلت لمن شئت من العرب: الشمس والقمر والسماء مركب عندك من أجزاء صغار كل منها لا يقبل التجزيء، أو الجبال أو الهواء أو الحيوان أو النبات لم يتصور هذا المعنى إلا بعد كلفة، ثم إذا تصوره قد يكذبه بفطرته، ويقول: كيف يمكن أن يكون شيء لا يتميز منه جانب عن جانب؟! وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد، فالفقهاء قاطبة تنكره، وكذلك أهل الحديث والتصوف.
ولهذا كان الفقهاء متفقين على استحالة بعض الأجسام إلى بعض، كاستحالة العَذِرَةِ رمادًا، والخنزير ملحًا، ثم تكلموا في هذه الاستحالة هل تطهر أم لا تطهر؟ والقائلون بالجوهر الفرد لا تستحيل الذوات عندهم، بل تلك الجواهر التي كانت في الأول هي بعينها في الثاني، وإنما اختلف التركيب؛ ولهذا يتكلم بلفظ التركيب في الماء ونحوه من الفقهاء المتأخرين من كان قد أخذ هذا التركيب عن المتكلمين، ويقول: إن الماء يفارق غيره في التركيب فقط. وكذلك القائلون بالجوهر الفرد عندهم: إنا لم نشاهد قط إحداث الله تعالى لشيء من الجواهر والأعيان القائمة بنفسها، وإن جميع ما يخلقه من الحيوان والنبات والمعدن والثمار والمطر والسحاب وغير ذلك إنما هو جمع الجواهر وتفريقها، وتغيير صفاتها من حال إلى حال، لا أنه يبدع شيئًا من الجواهر والأجسام القائمة بأنفسها، وهذا القول أكثر العقلاء ينكره، ويقول: هو مخالف للحس والعقل والشرع، فضلًا عن أن يكون الجسم في لغة العرب مستلزمًا لهذا المعنى.
ثم الجسم قد يراد به الغلظ نفسه، وهو عرض قائم بغيره، وقد يراد به الشيء الغليظ، وهو القائم بنفسه. فنقول: هذا الثوب له جسم، أي: غلظ، وقوله: { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } 1 قد يحتج به على هذا، فإنه قرن الجسم بالعلم الذي هو مصدر. فنقول: المعنى: { وَزَادَهُ بَسْطَةً } في قدره، فجعل قدر بدنه أكبر من بدن غيره، فيكون الجسم هو القدر نفسه لا نفس المقدر.
وكذلك قوله تعالى: { تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } 2 أي: صورهم القائمة بأبدانهم، كما تقول: أعجبني حسنه وجماله ولونه وبهاؤه، فقد يراد صفة الأبدان، وقد يراد نفس الأبدان، وهم إذا قالوا: هذا أجسم من هذا، أرادوا أنه أغلظ وأعظم منه، أما كونهم يريدون بذلك أن ذلك العظم والغلظ كان لزيادة الأجزاء، فهذا مما يعلم قطعًا أنه لم يخطر ببال أهل اللغة، إلا من أخذ ذلك عمن اعتقده من أهل الكلام المحدث الذي أحدث في الإسلام بعد انقراض عصر الصحابة، وأكثر التابعين، فإن هذا لم يعرف في الإسلام من تكلم به أو بمعناه إلا في أواخر الدولة الأموية، لما ظهر جهم بن صفوان، والجعد بن درهم، ثم ظهر في المعتزلة.
فقد تبين أن من قال: الجسم هو المؤلف المركب، واعتقد أن الأجسام مركبة من الجواهر الفردة، فقد ادعى معنى عقليًا ينازعه فيه أكثر العقلاء من بني آدم، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه وافقه عليه، وأنه جعل لفظ الجسم في اصطلاحه يدل على معنى لا يدل عليه اللفظ في اللغة، فقد غَيَّرَ معنى اللفظ في اللغة، وادعى معنى عقليًا فيه نزاع طويل، وليس معه من الشرع ما يوافق ما ادعاه من معنى اللفظ، ولا ما ادعاه من المعنى العقلي، فاللغة لا تدل على ما قال، والشرع لا يدل على ما قال، والعقل لم يدل على مسميات الألفاظ، وإنما يدل على المعنى المجرد، وذلك فيه نزاع طويل، ونحن نعلم بالاضطرار أن ذلك المعنى الذي وجب نفيه عن الله لا يحتاج نفيه إلى ما أحدثه هذا من دلالة اللفظ، ولا ما اداعاه من المعنى العقلي، بل الذين جعلوا هذا عمدتهم في تنزيه الرب على نفي مسمى الجسم، لا يمكنهم أن ينزهوه عن شيء من النقائص ألبتة، فإنهم إذا قالوا: هذا من صفات الأجسام، فكل ما أثبتوه هو أيضا من صفات الأجسام، مثل كونه حيًا عليمًا قديرًا، بل كونه موجودًا قائمًا بنفسه، فإنهم لا يعرفون هذا في الشاهد إلا جسمًا، فإذا قال المُنَازِعُ: أنا أقول فيما نفيتموه نظير قولكم فيما أثبتموه، انقطعوا.
ثم هؤلاء لهم في استحقاق الرب لصفات الكمال عندهم، هل علم بالإجماع فقط، أو علم بالعقل أيضا؟ فيه قولان. فمن قال: إن ذلك لم يعلم بالعقل كأبي المعالي والرازي وغيرهما لم يبق معهم دليل عقلى ينزهون به الرب عن كثير من النقائص، هذا إذا لم ينف إلا ما يجب نفيه عن الله، مثل نفيه للنقائص، فإنه يجب تنزيه الرب عنها، وينفي عنه مماثلة المخلوقات، فإنه كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب يجب تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له، وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، دلت على النوعين. فقوله: { أَحَدٌ }، مع قوله: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ينفي المماثلة والمشاركة، وقوله: { الصَّمَدُ }، يتضمن جميع صفات الكمال، فالنقائص جنسها منفي عن الله تعالى وكل ما اختص به المخلوق، فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها، بخلاف ما يوصف به الرب، ويوصف العبد بما يليق به، مثل العلم والقدرة والرحمة، ونحو ذلك، فإن هذه ليست نقائص، بل ما ثبت لله من هذه المعاني، فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات، فضلا عن أن يماثله فيه، بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس، لا يماثل ما خلقه في الدنيا وإن اتفقا في الاسم، وكلاهما مخلوق. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، فقد أخبر الله أن في الجنة لبنًا وخمرًا وعسلًا وماءً وحريرًا وذهبًا وفضةً، وتلك الحقائق ليست مثل هذه، وكلاهما مخلوق. فالخالق - تعالى - أبعد عن مماثلة المخلوقات من المخلوق إلى المخلوق.
وقد سمى الله نفسه عليمًا، حليمًا، رؤوفًا، رحيمًا، سميعًا، بصيرًا، عزيزًا، ملكًا، جبارًا، متكبرًا، مؤمنًا، عظيمًا، كريمًا، غنيًا، شكورًا، كبيرًا، حفيظًا، شهيدًا، حقًا، وكيلًا، وليًا، وسمى أيضا بعض مخلوقاته بهذه الأسماء، فسمى الإنسان سميعًا بصيرًا، وسمى نبيه رؤوفًا رحيمًا، وسمى بعض عباده ملكًا، وبعضهم شكورًا، وبعضهم عظيمًا، وبعضهم حليمًا وعليمًا، وسائر ما ذكر من الأسماء مع العلم بأنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلًا للخالق جل جلاله في شيء من الأشياء.
وكذلك النزاع في لفظ التحيز والجهة ونحو ذلك، فمن الناس من يقول: هو متحيز، وهو في جهة. ومنهم من يقول: ليس بمتحيز، وليس في جهة. ومنهم من يقول: هو في جهة وليس بمتحيز، ولفظ المتحيز يتناول الجسم، والجوهر الفرد، ولفظ الجوهر قد يراد به المتحيز، وقد يراد به الجوهر الفرد، ومن الفلاسفة من يَدَّعى إثبات جواهر قائمة بأنفسها غير متحيزة. ومتأخرو أهل الكلام كالشهرستانى والرازي والآمدى ونحوهم يقولون: ليس في العقل ما يحيل ذلك؛ ولهذا كان من سلك سبيل هؤلاء وهو إنما يثبت حدوث العالم بحدوث الأجسام يقول بتقدير وجود جواهر عقلية، فليس في هذا الدليل ما يدل على حدوثها؛ ولهذا صار طائفة ممن خلط الكلام بالفلسفة إلى قِدَمِ الجواهر العقلية، وحدوث الأجسام، وأن السبب الموجب لحدوثها هو حدوث تصور من تصورات النفس، وبعض أعيان المصنفين كان يقول بهذا.
وكذلك الأرموى صاحب اللباب الذي أجاب عن شبهة الفلاسفة على دوام الفاعلية المتضمنة: أنه لابد للحدوث من سبب، فأجاب بالجواب الباهر الذي أخذه من كلام الرازي في المطالب العالية فإنه أجاب به، وهو في المطالب العالية يخلط كلام الفلاسفة بكلام المتكلمين، وهو في مسألة الحدوث والقدم حائر، وهذا الجواب من أفسد الأجوبة.
فإنه يقال: ما الموجب لحدوث تلك التصورات دائمًا؟ ثم إن النفس عندهم لابد أن تكون متصلة بالجسم، فيمتنع وجود نفس بدون جسم.
وأيضا، فالذي علم بالاضطرار من دين الرسل: أن كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن.
وأيضا، فما تثبته الفلاسفة من الجواهر العقلية إنما يوجد في الذهن لا في الخارج، وأما أكثر المتكلمين فقالوا: انتفاء هذه معلوم بضرورة العقل. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن ما تدعى الفلاسفة إثباته من الجواهر العقلية التي هي العقل والنفس والمادة والصورة فلا حقيقة لها في الخارج، وإنما هي أمور معقولة في الذهن يجردها العقل من الأمور المعينة كما يجرد العقل الكليات المشتركة بين الأصناف، كالحيوانية الكلية، والإنسانية الكلية، والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان.
ومن هؤلاء من يظن أنها تكون في الخارج كليات، وأن في الخارج ماهيات كلية مقارنة للأعيان غير الموجودات المعينة، وكذلك منهم من يثبت كليات مجردة عن الأعيان يسمونها: المثل الأفلاطونية، ومنهم من يثبت دهرًا مجردًا عن المتحرك والحركة، ويثبت خلاءًا مجردًا ليس هو متحيزًا ولا قائمًا بمتحيز، ويثبت هيولى مجردة عن جميع الصور، والهيولى في لغتهم بمعنى المحل. يقال: الفضة هيولى الخاتم، والدرهم والخشب هيولى الكرسي، أي: هذا المحل الذي تصنع فيه هذه الصورة، وهذه الصورة الصناعية عرض من الأعراض، وَيَدَّعُونَ أن للجسم هيولي محل الصورة الجسمية غير نفس الجسم القائم بنفسه، وهذا غلط؛ وإنما هذا يقدر في النفس كما يقدر امتداد مجرد عن كل ممتد، وعدد مجرد عن كل معدود، ومقدار مجرد عن كل مقدر، وهذه كلها أمور مقدرة في الأذهان، لا وجود لها في الأعيان. وقد اعترف بذلك من عادته نصر الفلاسفة من أهل النظر. كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.
فالجواهر العقلية التي يثبتها هؤلاء الفلاسفة يعلم بصريح العقل بعد التصور التام انتفاؤها في الخارج، وأما الملائكة الذين أخبر الله عنهم، فهذه لا يعرفها هؤلاء الفلاسفة أتباع أرسطو، ولا يذكرونها بنفي ولا إثبات، كما لا يعرفون النبوات، ولا يتكلمون عليها بنفي ولا إثبات، إنما تكلم في ذلك متأخروهم كابن سينا وأمثاله الذين أرادوا أن يجمعوا بين النبوات وبين الفلسفة؛ فلبسوا ودلسوا.
وكذلك العلة الأولى التي يثبتونها لهذا العالم إنما أثبتوا علة غائىة يتحرك الفلك للتشبه بها، وتحريكها للفلك من جنس تحريك الإمام المقتدى به للمؤتم المقتدى، إذا كان يحب أن يتشبه بإمامه ويقتدى بإمامه، ولفظ الإله في لغتهم يراد به المتبوع الإمام الذي يتشبه به، فالفلك عندهم يتحرك للتشبه بالإله؛ ولهذا جعلوا الفلسفة العليا و الحكمة الأولى إنما هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، وكلام أرسطو في علم ما بعد الطبيعة في مقالة اللام التي هي منتهي فلسفته وفي غيرها كله يدور على هذا، وتارة يشبه تحريكه للفلك بتحريك المعشوق للعاشق، لكن التحريك هنا قد يكون لمحبة العاشق ذات المعشوق، أو لغرض يناله منه، وحركة الفلك عندهم ليست كذلك، بل يتحرك ليتشبه بالعلة الأولى، فهو يحبها، أي: يحب التشبه بها، لا يحب أن يعبدها، ولا يحب شيئًا يحصل منها، ويشبه ذلك أرسطو بحركة النواميس لأتباعها، أي: أتباع الناموس قائمون بما في الناموس، ويقتدون به، والناموس عندهم: هي السياسة الكلية للمدائن التي وضعها لهم ذوو الرأي والعقل، لمصلحة دنياهم؛ لئلا يتظالموا ولا تفسد دنياهم.
ومن عرف النبوات منهم يظن أن شرائع الأنبياء من جنس نواميسهم، وأن المقصود بها مصلحة الدنيا بوضع قانون عدلي؛ ولهذا أوجب ابن سينا وأمثاله النبوة، وجعلوا النبوة لابد منها لأجل وضع هذا الناموس، ولما كانت الحكمة العملية عندهم هي الخلقية، والمنزلية، والمدنية، جعلوا ما جاءت به الرسل من العبادات والشرائع والأحكام هي من جنس الحكمة الخلقية، والمنزلية، والمدنية فإن القوم لا يعرفون الله، بل هم أبعد عن معرفته من كفار اليهود والنصارى بكثير. وأرسطو المعلم الأول من أجهل الناس برب العالمين إلى الغاية، لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية، وهذا بحر علمهم، وله تفرغوا، وفيه ضيعوا زمانهم، وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جدًا، وأما ملائكته وأنبياؤه وكتبه ورسله والمعاد، فلا يعرفون ذلك البتة، ولم يتكلموا فيه لا بنفي ولا إثبات، وإنما تكلم في ذلك متأخروهم الداخلون في الملل.
وأما قدماء اليونان، فكانوا مشركين من أعظم الناس شركًا وَسِحْرًا، يعبدون الكواكب والأصنام؛ ولهذا عظمت عناياتهم بعلم الهيئة والكواكب لأجل عبادتها، وكانوا يبنون لها الهياكل، وكان آخر ملوكهم بطليموس صاحب المجسطي ولما دخلت الروم في النصرانية، فجاء دين المسيح صلوات الله عليه وسلامه أبطل ما كانوا عليه من الشرك.
ولهذا بَدَّل من بَدَّلَ دين المسيح، فوضع دينًا مركبًا من دين الموحدين ودين المشركين، فإن أولئك كانوا يعبدون الشمس والقمر والكواكب، ويصلون لها ويسجدون، فجاء قسطنطين ملك النصارى ومن اتبعه فابتدعوا الصلاة إلى المشرق، وجعلوا السجود إلى الشمس بدلًا عن السجود لها، وكان أولئك يعبدون الأصنام المجسدة التي لها ظل، فجاءت النصارى وصورت تماثيل القداديس في الكنائس، وجعلوا الصور المرقومة في الحيطان والسقوف بدل الصور المجسدة القائمة بأنفسها التي لها ظل.
وأرسطو كان وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني نسبة إلى مقدونية وهي جزيرة هؤلاء الفلاسفة اليونانيين، الذين يسمون المشائين، وهي اليوم خراب أو غمرها الماء وهو الذي يؤرخ له النصارى واليهود التاريخ الرومى، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة. فيظن من يعظم هؤلاء الفلاسفة أنه كان وزير لذى القرنين المذكور في القرآن، ليعظم بذلك قدره، وهذا جهل؛ فإن ذا القرنين كان قبل هذا بمدة طويلة جدًا، وذو القرنين بني سد يأجوج ومأجوج، وهذا المقدونى ذهب إلى بلاد فارس، ولم يصل إلى بلاد الصين؛ فضلا عن السد.
والملائكة التي أخبر الله ورسوله بها لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ليسوا عشرة ولا تسعة، وهم عباد الله أحياء، ناطقون، ينزلون إلى الأرض، ويصعدون إلى السماء، ولا يفعلون إلا بإذن ربهم، كما أخبر الله عنهم بقوله: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } 3، وقال تعالى: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } 4، وأمثال هذه النصوص.
وهؤلاء يدعون أن العقول قديمة أزلية، وأن العقل الفعال هو رب كل ما تحت هذا الفلك، والعقل الأول هو رب السموات والأرض وما بينهما، والملاحدة الذين دخلوا معهم من أتباع بني عبيد كأصحاب رسائل إخوان الصفا وغيرهم وكملاحدة المتصوفة، مثل ابن عربى، وابن سبعين، وغيرهما يحتجون لمثل ذلك بالحديث الموضوع: » أول ما خلق الله العقل«. وفي كلام أبي حامد الغزالي في الكتب المضنون بها على غير أهلها وغير ذلك من معانى هؤلاء قطعة كبيرة، ويعبر عن مذاهبهم بلفظ الملك والملكوت والجبروت، ومراده بذلك الجسم والنفس والعقل، فيأخذ هؤلاء العبارات الإسلامية، ويودعونها معانى هؤلاء، وتلك العبارات مقبولة عند المسلمين، فإذا سمعوها قبلوها، ثم إذا عرفوا المعاني التي قصدها هؤلاء ضل بها من لم يعرف حقيقة دين الإسلام، وأن هذه معانى هؤلاء الملاحدة ليست هي المعاني التي عناها محمد رسول الله ﷺ وإخوانه المرسلون مثل موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولهذا ضل كثير من المتأخرين بسبب هذا الالتباس، وعدم المعرفة بحقيقة ما جاء به الرسول، وما يقوله هؤلاء حتى يضل بهم خلق من أهل العلم والعبادة والتصوف، ومن ليس له غرض في مخالفة محمد ﷺ، بل يحب اتباعه مطلقًا، ولو عرف أن هذا مخالف لما جاء به لم يقبله، لكن لعدم كمال علمه بمعانى ما أخبر به الرسول ومقاصد هؤلاء، يقبل هذا؛ لا سيما إذا كان المتكلم به ممن له نصيب وافر في العلم والكلام والتصوف والزهد والفقه والعبادة.
ورأى الطالب أن هذا مرتبته فوق مرتبة الفقهاء الذين إنما يعرفون الشرع الظاهر، وفوق مرتبة المحدث الذي غايته أن ينقل ألفاظا لا يعلم معانيها، وكذلك المقرى والمفسر، ورأى من يعظمه من أهل الكلام، إما موافق لهم وإما خائف منهم، ورأى بحوث المتكلمين معهم في مواضع كثيرة لم يأتوا بتحقيق يبين فساد قولهم، بل تارة يوافقونهم على أصول لهم تكون فاسدة، وتارة يخالفونهم في أمر قالته الفلاسفة ويكون حقًا، مثل من يرى كثيرًا من المتكلمين يخالفهم في أمور طبيعية ورياضية ظانًا أنه ينصر الشرع، ويكون الشرع موافقًا لما اعلم بالعقل، مثل استدارة الأفلاك، فإنه لم يُعْلَمْ بين السلف خِلاَفٌ في أنها مستديرة والآثار بذلك معروفة، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك. وكذلك استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، هو مما اتفق عليه الفقهاء، كما قال هؤلاء، إلى أمور أخر.
لَكِنْ كثيرٌ من المتكلمين أو أكثرهم لا خبرة لهم بما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ بل ينصر مقالات يظنها دين المسلمين، بل إجماع المسلمين، ولا يكون قد قالها أحد من السلف، بل الثابت عن السلف مخالف لها، فلما وقع بين المتكلمين تقصير وجهل كثير بحقائق العلوم الشرعية، وهم في العقليات تارة يوافقون الفلاسفة على باطلهم، وتارة يخالفونهم في حقهم؛ صارت المناظرات بينهم دولًا. وإن كان المتكلمون أصح مطلقًا في العقليات الإلهية والكلية، كما أنهم أقرب إلى الشرعيات من الفلاسفة؛ فإن الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية كلام قاصر جدًا، وفيه تخليط كثير، وإنما يتكلمون جيدًا في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها، فكلامهم فيها في الغالب جيد.
وأما الغيب الذي تخبر به الأنبياء، والكليات العقلية التي تعم الموجودات كلها، وتقسيم الموجودات كلها قسمة صحيحة فلا يعرفونها البتة؛ فإن هذا لا يكون إلا ممن أحاط بأنواع الموجودات، وهم لا يعرفون إلا الحسيات وبعض لوازمها، وهذا معرفة بقليل من الموجودات جدًا؛ فإن ما لا يشهده الآدميون من الموجودات أعظم قدرًا وصفةً مما يَشْهَدُونَهُ بكثير.
ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا أخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وهم يظنون ألا موجود إلا ما علموه هم والفلاسفة يصيرون حائرين متأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه، وإن كان هذا لا دليل عليه، وليس لهم بهذا النفي علم؛ فإن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، لكن نفيهم هذا كنفي الطبيب للجن؛ لأنه ليس في صناعة الطب ما يدل على ثبوت الجن، وإلا فليس في علم الطب ما ينفي وجود الجن، وهكذا تجد من عرف نوعًا من العلم وامتاز به على العامة الذين لا يعرفونه، فيبقى بجهله نافيًا لما لم يعلمه، وبنو آدم ضلالهم فيما جحدوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به، قال تعالى: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } 5 ؛ وهذا لأن الغالب على الآدميين صحة الحس والعقل، فإذا أثبتوا شيئًا وصدقوا به كان حقًا.
ولهذا كان التواتر مقبولًا من جميع أجناس بني آدم؛ لأنهم يخبرون عما شاهدوه وسمعوه، وهذا أمر لا يشترك الخلق العظيم في الغلط فيه، ولا في تعمد الكذب فيه، فإذا علم أنهم لم يتواطؤوا عليه، ولم يأخذه بعضهم عن بعض، كما تؤخذ المذاهب والآراء التي يتلقاها المتأخر عن المتقدم، وقد علم أن هذا مما لا يغلط فيه عادة علم قطعا صدقهم، فإن المخبر إما أن يتعمد الكذب وإما أن يغلط، وكلاهما مأمون في المتواترات، بخلاف ما نفوه وكذبوا به، فإن غالبهم أو كثيرًا منهم ينفون ما لا يعلمون، ويكذبون بما لم يحيطوا بعلمه.
فصار هؤلاء الذين ظنوا الموجودات ما عرفه هؤلاء المتفلسفة، إذا سمعوا ما أخبرت به الأنبياء من العرش والكرسي وقالوا: العرش هو الفلك التاسع، والكرسي هو الثامن، وقد تكلمنا على ذلك في مسألة الإحاطة وبينا جهل من قال هذا عقلًا، وشرعًا، وإذا سمعهم يذكرون الملائكة ظن أنهم العقول والنفوس التي يثبتها المتفلسفة، والقوى التي في الأجسام، وكذلك الجن والشياطين يظن أنها أعراض قائمة بالنفوس، حيث كان هذا مبلغه من العلم، وكذلك يظن ما ذكره ابن سينا وأمثاله من أن الغرائب في هذا العالم سببها قوة فلكية، أو طبيعية أو نفسانية، ويجعل معجزات الأنبياء من باب القوى النفسانية، وهي من جنس السحر، لكن الساحر قصده الشر، والنبي قصده الخير، وهذا كله من الجهل بالأمور الكلية المحيطة بالموجودات وأنواعها، ومن الجهل بما جاء به الرسول، فلا يعرفون من العلوم الكلية ولا العلوم الإلهية إلا ما يعرفه الفلاسفة المتقدمون، وزيادات تلقوها عن بعض أهل الكلام، أو عن أهل الملة.
فلهذا صار كلام المتأخرين كابن سينا وأمثاله في الإلهيات والكليات أجود من كلام سلفه؛ ولهذا قربت فلسفة اليونان إلى أهل الإلحاد المبتدعة من أهل الملل، لما فيها من شوب الملة؛ ولهذا دخل فيها بنو عبيد الملاحدة، فأخذوا عن هؤلاء الفلاسفة الصابئة المشركين العقل والنفس، وعن المجوس النور والظلمة، وسموه: هم السابق والتالي، وكذلك الملاحدة المنتسبون إلى التصوف والتأله كابن سبعين وأمثاله سلكوا مسلكًا جمعوا فيه بزعمهم بين الشرع والفلسفة، وهم ملاحدة ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، وقد بسط الكلام على هؤلاء وهؤلاء في غير هذا الموضع.
وإنما ذُكِروا هنا؛ لأن أهل الكلام المحدث صاروا لعدم علمهم بما علمه السلف وأئمة السنة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، ولما وقعوا فيه من الكلاميات الباطلة يُدْخِلُ بسببهم هؤلاء الفلاسفة في الإسلام أمورًا باطلة، ويحصل بهم من الضلال والغي ما لا يتسع هذا الموضع لذكره.
ولما أحدثت الجهمية محنتهم، ودعوا الناس إليها، وضرب أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين، كان مبدأ حدوث القرامطة الملاحدة الباطنية من ذلك الزمان، فصارت البدع باب الإلحاد، كما أن المعاصي بريد الكفر، ولبسط هذا موضع آخر.
والمقصود هنا الكلام على لفظ التحيز والجهة، وهؤلاء المتكلمون المتفلسفة صار بينهم نزاع في الملائكة: هل هي متحيزة أم لا؟ فمن مال إلى الفلسفة ورأى أن الملائكة هي العقول والنفوس التي يثبتها الفلاسفة، وأن تلك ليست متحيزة، قال: إن الملائكة ليست متحيزة، لا سيما وطائفة من الفلاسفة لم تجعل عددها عشرة عقول وتسعة نفوس كما هو المشهور عن المشائين بل قال: لا دليل على نفي الزيادة، ورأى النبوات قد أخبرت بكثرة الملائكة، فأراد أن يثبت كثرتهم بطريقة فلسفية، كما فعل ذلك أبو البركات صاحب المعتبر والرازي في المطالب العالية وغيرهما.
وأما المتكلمون، فإنهم يقولون: إن كل ممكن أو كل محدث، أو كل مخلوق، فهو إما متحيز، وإما قائم بمتحيز، وكثير منهم يقول: كل موجود إما متحيز، وإما قائم بمتحيز، ويقولون: لا يعقل موجود إلا كذلك، كما قاله طوائف من أهل الكلام والنظر، ثم المتفلسفة كابن سينا وأتباعه، والشهرستانى والرازي وغيرهم لما أرادوا إثبات موجود ليس كذلك، كان أكبر عمدتهم إثبات الكليات كالإنسانية المشتركة، والحيوانية المشتركة، وإذا كانت هذه لا تكون كليات إلا في الذهن، فلم ينازعهم الناس في ذلك، وإنما نازعوهم في إثبات موجود خارج الذهن قائم بنفسه، لا يمكن الإحساس به بحال، بل لا يكون معقولًا.
وقالوا لهم: المعقول ما كان في العقل، وأما ما كان موجودًا قائمًا بنفسه، فلابد أن يمكن الإحساس به، وإن لم نحس نحن به في الدنيا، كما لا نحس بالجن والملائكة وغير ذلك؛ فلابد أن يحس به غيرنا كالملائكة والجن، وأن يحس به بعد الموت، أو في الدار الآخرة، أو يحس به بعض الناس دون بعض في الدنيا، كالأنبياء الذين رأوا الملائكة وسمعوا كلامهم.
وهذه الطريقة وهو أن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته هي التي سلكها أئمة النظار كابن كُلاَّب وغيره وسلكها ابن الزاغوني وغيره. وأما من قال: إن كل موجود يجوز رؤيته أو يجوز أن يحس بسائر الحواس الخمس كما يقوله الأشعري وموافقوه كالقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي وغيرهما فهذه الطريقة مردودة عند جماهير العقلاء، بل يقولون: فسادها معلوم بالضرورة بعد التصور التام، كما بسط في موضعه.
وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت على قول الجمهور الذين يقولون: هي عين قائمة بنفسها، ليست عَرَضًا من أعراض البدن كالحياة وغيرها ولا جزءًا من أجزاء البدن كالهواء الخارج منه فإن كثيرًا من المتكلمين زعموا أنها عرض قائم بالبدن، أو جزء من أجزاء البدن، لكن هذا مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والخلف، ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم، ومخالف للأدلة العقلية.
وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام. قال القاضي أبو بكر: أكثر المتكلمين على أن الروح عرض من الأعراض، وبهذا نقول إذا لم ىَعْنِ بالروح النفس، فإنه قال: الروح الكائن في الجسد ضربان:
أحدهما: الحياة القائمة به، والآخر: النفس، والنفس ريح ينبث به، والمراد بالنفس: ما يخرج بنفس التنفس من أجزاء الهواء المتحلل من المسام، وهذا قول الإسفرائيني وغيره. وقال ابن فَوْرَك: هو ما يجري في تجاويف الأعضاء، وأبو المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال: إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة، أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها، فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة.
ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة: أن الروح عين قائمة بنفسها، تفارق البدن، وتنعم وتعذب، ليست هي البدن، ولا جزءًا من أجزائه، كالنفس المذكور. ولما كان الإمام أحمد ممن نص على ذلك كما نص عليه غيره من الأئمة لم يختلف أصحابه في ذلك؛ لكن طائفة منهم كالقاضي أبي يعلى زعموا أنها جسم، وأنها الهواء المتردد في مخاريق البدن؛ موافقة لأحد المعنيين اللذين ذكرهما ابن الباقلاني. وهذه الأقوال لما كانت من أضعف الأقوال؛ تسلط بها عليهم خلق كثير.
والمقصود هنا أن الذين قالوا: إنها عين قائمة بنفسها غير البدن وأجزائه وأعراضه تنازعوا: هل هي جسم متحيز؟ على قولين، كتنازعهم في الملائكة.
فالمتكلمون منهم يقولون: جسم، والمتفلسفة يقولون: جوهر عقلي ليس بجسم، وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن ما تسميه المتفلسفة جواهر عقلية، لا توجد إلا في الذهن، وأصل تسميتهم المجردات والمفارقات هو مأخوذ من نفس الإنسان، فإنها لما كانت تفارق بدنه بالموت، وتتجرد عنه سموها مفارقة مجردة، ثم أثبتوا ما أثبتوه من العقول والنفوس وسموها مفارقات ومجردات بناء على ذلك وهم يريدون بالمفارق للمادة ما لا يكون جسمًا ولا قائمًا بجسم، لكن النفس متعلقة بالجسم تعلق التدبير والعقل، ولا تعلق له بالأجسام أصلا، ولا ريب أن جماهير العقلاء على إثبات الفرق بين البدن والروح التي تفارق، والجمهور يسمون ذلك روحًا، وهذا جسمًا، لكن لفظ الجسم في اللغة ليس هو الجسم في اصطلاح المتكلمين، بل الجسم هو الجسد كما تقدم، وهو الجسم الغليظ أو غلظه، والروح ليست مثل البدن في الغلظ والكثافة؛ ولذلك لا تسمى جسمًا، فمن جعل الملائكة والأرواح ونحو ذلك ليست أجسامًا بالمعنى اللغوي فقد أصاب في ذلك، ورب العالمين أولى ألا يكون جسمًا، فإنه من المشهور في اللغة الفرق بين الأرواح والأجسام.
وأما أهل الاصطلاح من المتكلمين والمتفلسفة، فيجعلون مسمى الجسم أعم من ذلك، وهو ما أمكنت الإشارة الحسية إليه، وما قيل: إنه هنا وهناك، وما قبل الأبعاد الثلاثة، ونحو ذلك.
وكذلك المتحيز في اصطلاح هؤلاء هو الجسم، ويدخل فيه الجوهر الفرد عند من أثبته، وقد تقدم معنى الجسم في اللغة، وأما المتحيز فقد قال تعالى: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ } 6.
وقال الجوهري: الحَوْزُ الجمع، وكل من ضم إلى نفسه شيئًا فقد حَازَهُ حَوْزًا، وحِيَازَةً، واحْتَازَهُ أيضا، والحَوْزُ والحيْزُ: السوقُ اللينُ، وقد حاز الإبل يحوزها ويحيزها، وحَوَزَ الإبل: ساقها إلى الماء. وقال الأصمعي: إذا كانت الإبل بعيدة المرعى عن الماء فأول ليلة توجهها إلى الماء ليلة الحوز، وتحوَّزَت الحية وتحيَّزَت: تلوت. يقال: مالك تتحوز تحوز الحية، وتتحيز تحيز الحية. قال سيبويه: هو تَفَعُّل من حزت الشيء، قال القطامي:
تَحِيزُ مني خشية أن أضيفها ** كما انحازت الأفعى مخافة ضارب
يقول: تتنحي عني هذه العجوز وتتأخر خشية أن أنزل عليها ضيفًا. والحيز: ما انضم إلى الدار من مرافقها، وكل ناحية حيز، وأصله من الواو، والحيِّزُ تخفيف الحيز، مثل هين وهين، ولين ولين، والجمع أحياز، والحوْزَةُ: الناحية، وانحاز عنه: انعدل، وانحاز القوم: تركوا مركزهم إلى آخر، يقال للأولياء: انحازوا عن العدو، وحاصوا، والأعداء انهزموا وولوا مدبرين، وتحاوز الفريقان في الحرب، انحاز كل فريق عن الآخر.
فهذا المذكور عن أهل اللغة في هذا اللفظ ومادته يقتضي أن التحيز والانحياز والتحوز ونحو ذلك يتضمن عدولًا من محل إلى محل، وهذا أخص من كونه يحوزه أمر موجود، فهم يراعون في معنى الحوز ذهابه من جهة إلى جهة؛ ولهذا يقولون: حزت المال، وحزت الإبل، وذلك يتضمن نقله من جهة إلى جهة، فالشيء المستقر في موضعه كالجبل والشمس والقمر لا يسمونه متحيزًا، وأعم من هذا أن يراد بالمتحيز ما يحيط به حيز موجود، فيسمى كل ما أحاط به غيره أنه متحيز، وعلى هذا فما بين السماء والأرض متحيز؛ بل ما في العالم متحيز إلا سطح العالم الذي لا يحيط به شيء، فإن ذلك ليس بمتحيز، وكذلك العالم جملة ليس بمتحيز بهذا الاعتبار، فإنه ليس في عالم آخر أحاط به. والمتكلمون يريدون بالمتحيز ما هو أعم من هذا، والحيز عندهم أهم من المكان، فالعالم كله في حيز، وليس هو في مكان، والمتحيز عندهم لا يعتبر فيه أنه يحوزه غيره، ولا يكون له حيز وجودي، بل كلما أُشير إليه وامتاز منه شيء عن شيء فهو متحيز عندهم.
ثم هم مختلفون بعد هذا في المتحيز: هل هو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة؟ أو هو غير مركب لا من هذا ولا من هذا؟ كما تقدم نزاعهم في الجسم، فالجسم عندهم متحيز، ولا يخرج عنه شيء إلا الجوهر الفرد عند من أثبته، وهؤلاء يعتقد كثير منهم أو أكثرهم أن كل متحيز فهو مركب، أي: يقبل الانقسام إلى جزء لا يتجرأ، بل يظن بعضهم أن هذا إجماع المسلمين، وأكثرهم يقولون: المتحيزات متماثلة في الحد والحقيقة. ومن كان معنى المتحيز عنده هذا، فعليه أن ينزه الله - تعالى - أن يكون متحيزًا بهذا الاعتبار، وإذا قال: الملائكة متحيزون بهذا الاعتبار، أو الروح متحيزة بهذا الاعتبار نازعه في ذلك جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم، بل لا يعرف أحد من سلف الأمة وأئمتها يقول: إن الملائكة متحيزة بهذا الاعتبار، ولا قالوا لفظًا يدل على هذا المعنى، وكذلك روح بني آدم التي تفارقه بالموت لم يقل أحد من السلف: إنها متحيزة بهذا الاعتبار، ولا قال فيها لفظًا يدل على هذا المعنى، فإذا كان إثبات هذا التحيز للملائكة والروح بدعة في الشرع وباطلًا في العقل، فلأن يكون ذلك بدعة وباطلًا في رب العالمين بطريق الأولى والأحرى.
ومن هنا يتبين أن عامة ما يقوله المتفلسفة وهؤلاء المتكلمة في نفوس بني آدم وفي الملائكة باطل، فكيف بما يقولونه في رب العالمين؟! ولهذا توجد الكتب المصنفة التي يذكر فيها مقالات هؤلاء وهؤلاء في هذه المسائل الكبار في رب العالمين، وفي ملائكته، وفي أرواح بني آدم، وفي المعاد، وفي النبوات ليس فيها قول يطابق العقل والشرع، ولا يعرفون ما قاله السلف والأئمة في هذا الباب، ولا ما دل عليه الكتاب والسنة.
فلهذا يغلب على فضلائهم الحيرة، فإنهم إذا أنهوا النظر لم يصلوا إلى علم؛ لأن ما نظروا فيه من كلام الطائفتين مشتمل على باطل من الجانبين؛ ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في آخر عمره: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروى غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } 7، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } 8، واقرأ في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 9، { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } 10، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
وأما من اعتقد أن المتحيز هو ما باين غيره فانحاز عنه، وليس من شرطه أن يكون مركبًا من الأجزاء المنفردة، ولا أنه يقبل التفريق والتقسيم، فإذا قال: إن الرب متحيز بهذا المعنى، أي: أنه بائن عن مخلوقاته فقد أراد معنى صحيحًا، لكن إطلاق هذه العبارة بدعة، وفيها تلبيس، فإن هذا الذي أراده ليس معنى المتحيز في اللغة، وهو اصطلاح له ولطائفته، وفي المعنى المصطلح نزاع بين العقلاء، فصار يحتمل معنى فاسدًا يجب تنزيه الرب عنه، وليس للإنسان أن يطلق لفظًا يدل عند غيره على معنى فاسد، ويفهم ذلك الغير ذلك المعنى الفاسد من غير بيان مراده؛ بل هؤلاء المتكلمون الذين أرادوا بالمتحيز ما كان مؤلفًا من أجزاء لا تقبل القسمة، وهو ما كان قابلًا للقسمة إذا قالوا: إن كل ممكن أو كل محدث أو كل مخلوق، فهو إما متحيز، وإما قائم بمتحيز، كان جماهير العقلاء يخالفونهم في هذا التقسيم، ولم يكن أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ولا سائر أئمة المسلمين موافقًا لهم على هذا التقسيم، فكيف إذا قال من قال منهم: كل موجود فهو إما متحيز، وإما قائم بمتحيز، وأراد بالمتحيز ما أراده هؤلاء؟! فإن قوله حينئذ يكون أبعد عن الشرع والعقل من قول أولئك؛ ولهذا طالبهم متأخروهم بالدليل على هذا الحصر، وليس خطأ هؤلاء من جهة ما أثبته المتفلسفة من الجواهر العقلية، فإن تلك قد علم بطلانها بصريح العقل أيضا.
وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا
ومسكون، ولا صعود ولا نزول، وليست داخل العالم ولا خارجه، هو أيضا كلام أبطل من كلام أولئك المتكلمين عند جماهير العقلاء، ولا سيما من يقول منهم كابن سينا وأمثاله: إنها لا تعرف شيئًا من الأمور الجزئية، وإنما تعرف الأمور الكلية؛ فإن هذا مكابرة ظاهرة، فإنها تعرف بدنها، وتعرف كل ما تراه بالبدن وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده، وتأمر به وتحبه وتكرهه، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها، فكيف يقال: إنها لا تعرف الأمور المعينة، وإنما تعرف أمورًا كلية؟
وكذلك قولهم: إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف، كتدبير الملك لمملكته من أفسد الكلام، فإن الملك يدبر أمر مملكته فيأمر وينهي، ولكن لا يصرفهم هو بمشيء ته وقدرته إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم، والملك لا يلتذ بلذة أحدهم، ولا يتألم بتألمه، وليس كذلك الروح والبدن، بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به، ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلًا لدخول شيء من الأجسام المشهودة، فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية، فإن هذه إنما تلاقى السطح الداخل من الأوعية، لا بطونها ولا ظهورها، وإنما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوساطها، وليس كذلك الروح والبدن، بل الروح متعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره، وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل، فإن ذلك له مجار معروفة، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته ولا جريانها في البدن كجريان الدم، فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض.
ففي الجملة، كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقًا بالآخر؛ بخلاف الروح والبدن، لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه، وتخرج منه وقت الموت، وتسل منه شيئًا فشيئًا فتخرج من البدن شيئًا فشيئًا لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبرها، والناس لما لم يشهدوا لها نظيرًا عسر عليهم التعبير عن حقيقتها، وهذا تنبيه لهم على أن رب العالمين لم يعرفوا حقيقته، ولا تصوروا كيفيته سبحانه وتعالى وأن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جل جلاله فإن الروح التي هي بعض عبيده توصف بأنها تعرج إذا نام الإنسان، وتسجد تحت العرش، وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلية. والإنسان في نومه يحس بتصرفات روحه تصرفات تؤثر في بدنه، فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات، فإنها إذا صعدت إلى مكان فارقت الأول بالكلية، وحركتها إلى العلو حركة انتقال من مكان إلى مكان، وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك.
فالرب سبحانه إذا وصفه رَسُولُهُ ﷺ بأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وأنه يدنو عشية عرفة إلى الحجاج، وأنه كلم موسى في الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأنه استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا: أتينا طائعين لم يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفعال من جنس ما نشاهده من نزول هذه الأعيان المشهودة حتى يقال: ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر، فإن نزول الروح وصعودها لا يستلزم ذلك فكيف برب العالمين؟! وكذلك الملائكة لهم صعود ونزول من هذا الجنس.
فلا يجوز نفي ما أثبته الله ورسوله من الأسماء والصفات، ولا يجوز تمثيل ذلك بصفات المخلوقات، لاسيما ما لا نشاهده من المخلوقات، فإن ما ثبت لما لا نشاهده من المخلوقات من الأسماء والصفات ليس مماثلًا لما نشاهده منها، فكيف برب العالمين الذي هو أبعد عن مماثلة كل مخلوق من مماثلة مخلوق لمخلوق؟! وكل مخلوق فهو أشبه بالمخلوق الذي لا يماثله من الخالق بالمخلوق، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وهذا الذي نبهنا عليه مما يظهر به أن ما يذكره صاحب المحصل وأمثاله من تقسيم الموجودات على رأى المتفلسفة والمتكلمة كله تقسيم غير حاصر، وكل من الفريقين مقصر عن سلفه. أما المتكلمون فلم يسلكوا من التقسيم المسلك الذي دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وكذلك هؤلاء المتفلسفة أتباع أرسطو لم يسلكوا مسلك الفلاسفة الأساطين المتقدمين، فإن أولئك كانوا يقولون بحدوث هذا العالم، وكانوا يقولون: إن فوق هذا العالم عالمًا آخر يصفونه ببعض ما وصف النبي ﷺ به الجنة، وكانوا يثبتون معاد الأبدان، كما يوجد هذا في كلام سقراط وتاليس وغيرهما من أساطين الفلاسفة، وقد ذكروا أن أول من قال منهم بقدم العالم أرسطو.
هامش
- ↑ [البقرة: 247]
- ↑ [المنافقون: 4]
- ↑ [الأنبياء: 26: 28]
- ↑ [النجم: 26]
- ↑ [يونس: 39]
- ↑ [الأنفال: 16]
- ↑ [فاطر: 10]
- ↑ [طه: 5]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [طه: 110]