مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه
تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه
عدلوقال رحمه الله:
تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه؟ وهل يكون نهيا عن ضده؟ مع اتفاقهم على أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده.
ومنشأ النزاع أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصوده اللوازم ولا ترك الضد، ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا على ترك المأمور فقط لا يعاقبه على ترك لوازمه وفعل ضده.
وهذه المسألة هي الملقبة: بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد غلط فيها بعض الناس فقسموا ذلك: إلى ما لا يقدر المكلف عليه، كالصحة في الأعضاء والعدد في الجمعة، ونحو ذلك مما لا يكون قادرا على تحصيله. وإلى ما يقدر عليه كقطع المسافة في الحج وغسل جزء من الرأس في الوضوء وإمساك جزء من الليل في الصيام ونحو ذلك. فقالوا: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب. وهذا التقسيم خطأ، فإن هذه الأمور التي ذكروها هي شرط في الوجوب فلا يتم الواجب إلا بها وما لا يتم الواجب إلا به يجب على العبد فعله باتفاق المسلمين سواء كان مقدورا عليه أو لا كالاستطاعة في الحج واكتساب نصاب الزكاة، فإن العبد إذا كان مستطيعا للحج وجب عليه الحج وإذا كان مالكا لنصاب الزكاة وجبت عليه الزكاة فالوجوب لا يتم إلا بذلك فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج ولا ملك النصاب، ولهذا من يقول: إن الاستطاعة في الحج ملك المال - كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد - فلا يوجبون عليه الاكتساب ولم يتنازعوا إلا فيما إذا بذلت له الاستطاعة إما بذل الحج وإما بذل المال له من ولده.
وفيه نزاع معروف في مذهب الشافعي وأحمد ولكن المشهور من مذهب أحمد عدم الوجوب وإنما أوجبه طائفة من أصحابه، لكون الأب له على أصله أن يتملك مال ولده فيكون قبوله كتملك المباحات. والمشهور من مذهب الشافعي الوجوب ببذل الابن بالفعل.
والمقصود هنا: الفرق بين ما لا يتم الواجب إلا به وما لا يتم الوجوب إلا به وأن الكلام في القسم الثاني إنما هو فيما لا يتم الواجب إلا به كقطع المسافة في الجمعة والحج ونحو ذلك فعلى المكلف فعله باتفاق المسلمين لكن من ترك الحج وهو بعيد الدار عن مكة، أو ترك الجمعة وهو بعيد الدار عن الجامع، فقد ترك أكثر مما ترك قريب الدار ومع هذا فلا يقال: إن عقوبة هذا أعظم من عقوبة قريب الدار.
والواجب: ما يكون تركه سببا للذم والعقاب فلو كان هذا الذي لزمه فعله بطريق التبع مقصودا بالوجوب لكان الذم والعقاب لتاركه أعظم فيكون من ترك الحج من أهل الهند والأندلس أعظم عقابا ممن تركه من أهل مكة والطائف ومن ترك الجمعة من أقصى المدينة أعظم عقابا ممن تركها من جيران المسجد الجامع فلما كان من المعلوم أن ثواب البعيد أعظم وعقابه إذا ترك ليس أعظم من عقاب القريب: نشأت من ههنا الشبهة: هل هو واجب أو ليس بواجب؟
والتحقيق: أن وجوبه بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الأمر، بل الأمر بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالما بأنه لا بد من وجودها، وإن كان ممن تجوز عليه الغفلة فقد لا تخطر بقلبه اللوازم. ومن فهم هذا انحلت عنه شبه الكعبي: هل في الشريعة مباح أم لا؟ فإن الكعبي زعم أنه لا مباح في الشريعة... إلخ، فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه.
ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد أن يلبس فيه حقا بباطل بحسب ما يقول من الألفاظ المجملة المتشابهة، ولهذا قال الإمام أحمد في أول ما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله مما كتبه في حبسه - وقد ذكره الخلال في كتاب السنة والقاضي أبو يعلى، وأبو الفضل التميمي، وأبو الوفاء ابن عقيل، وغير واحد من أصحاب أحمد ولم ينفه أحد منهم عنه والحمد لله.
والمقصود قوله: - يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم. فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم والتزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب على أحد أن يجيب داعيا إلا إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه ولا له دعوة الناس إلى ذلك ولو قدر أن ذلك المعنى حق، وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم على ولاة الأمور وأدخلوه في بدعهم. كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك فكان من أحسن مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلى ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة. وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل.
ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا أو اعتقادا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به مع العلم بأن الرسول لم يذكره وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة قال الشافعي - رحمه الله -: البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتابا وسنة وإجماعا وأثرا عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ فهذه بدعة ضلالة. وبدعة لم تخالف شيئا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل ويروى عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفا وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء.
ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبي ﷺ وسلف الأمة ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها. وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يدعى إليها ويوالي ويعادي عليها وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله إلخ.. » فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول. وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي ﷺ ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. والخوارج إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا، لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج.
ويجب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه، بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين.
وقد أوجب الله على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته.
ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر، أو تفصيل لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة، وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة. وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأ تحقيقا لقوله: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } 1.
وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى، كما نطق به القرآن وإنما توقفوا في شخص معين، لعدم العلم بدخوله في المتقين. وحال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر القرآن على ما يخالف السنة إذا خفي الأمر عليهم مع أنه لم يوجد في ظاهر القرآن ما يخالف السنة كمن قال: من الخوارج: لا يصلي في السفر إلا أربعا. ومن قال إن الأربع أفضل. ومن قال: لا نحكم بشاهد ويمين. وما دل عليه ظاهر القرآن حق وأنه ليس بعام مخصوص فإنه ليس هناك عموم لفظي وإنما هو مطلق كقوله: { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } 2 ؛ فإنه عام في الأعيان مطلق في الأحوال وقوله: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } 3، عام في الأولاد مطلق في الأحوال. ولفظ الظاهر يراد به ما يظهر للإنسان وقد يراد به ما يدل عليه اللفظ. فالأول يكون بحسب مفهوم الناس وفي القرآن مما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير.
هامش