والغرض هنا التنبيه على هذا إذ المقصود في هذا المقام يحصل على التقديرين فنقول واجب الوجود بنفسه سواء قيل بثبوت الصفات له وسمى ذلك تركيبا أو لم يسم أو قيل بنفى الصفات عنه يمتنع أنه يكون مفتقرا إلى شيء مباين له وذلك أنه إذا قدر أنه ليس فيه معان متعددة بوجه من الوجوه كما يظنه من يظنه من نفاة الصفات فهذا يمتنع أن يكون له كمال مغاير له وأن يكون شيئين وحينئذ فلو كان فيه ما هو مفتقر إلى غيره للزم تعدد المعاني فيه وهذا ممتنع على التقديرين

وإن قيل

إن فيه معان متعددة فواجب الوجود هو مجموع تلك الأمور المتلازمة إذ يمتنع وجود شيء منها دون شيء وحينئذ فلو افتقر شيء من ذلك المجموع إلى أمر منفصل لم يكن واجب الوجود فهو سبحانه مستلزم لحياته وعلمه وقدرته وسائر صفات كماله وهذا هو الموجود الواجب بنفسه وهذه الصفات لازمة لذاته وذاته مستلزمة لها وهي داخلة في مسمى اسم نفسه وفي سائر اسمائه تعالى فإذا كان واجبا بنفسه وهي داخلة في مسمى اسم نفسه لم يكن موجودا إلا بها فلا يكون مفتقرا فيها إلى شيء مباين له أصلا

ولو قيل

إنه يفتقر في كونه حيا أو عالما أو قادرا إل عيره فذلك الغير إن كان ممكنا كان مفتقرا إليه وكان هو سبحانه ربه فيمتنع أن يكون ذلك مؤثرا فيه لأنه يلزم أن يكون هذا مؤثرا في هذا وهذا مؤثرا في هذا وتأثير كل منهما في الآخر لا يكون إلا بعد حصول أثره فيه لأن التأثير لا يحصل إلا مع كونه حيا عالما قادرا فلا يكون هذا حيا عالما قادرا

حتى يجعله الآخر كذلك ولا يكون هذا حيا عالما قادرا على حتى يجعله الآخر كذلك فلا يكون أحدهما حيا عالما قادرا إلا بعد أن يجعل الذي جعله حيا عالما قادرا حيا عالما قادرا ولا يكون حيا عالما قادرا إلا بعد كونه حيا علما قادرا بدرجتين

وهذا كله مما يعلم امتناعه بصريح العقل وهو من المعارف الضرورية التي لا ينازع فيها العقلاء وهذا من الدور القبلي دور العلل ودور الفاعلين ودور المؤثرين وهو ممتنع باتفاق العقلاء بخلاف دور المتلازمين وهو أنه لا يكون هذا إلا مع هذا ولا يكون هذا إلا مع هذ فهذا جائز سواء كانا لا فاعل لهما كصفات الله أو كانا مفعولين والمؤثر التام فيهما غيرهما

وهذا جائز فإن الله يخلق الشيئين معا للذين لا يكون أحدهما إلا مع الآخر كالأبوة والبنوة فإن الله إذا خلق الولد فنفس خلقه للولد جعل هذا أبا وهذا ابنا واحدى الصفتين لم تسبق الأخرى ولا تفارقها بخلاف ما إذا كان أحد الأمرين هو من تمام المؤثر في الآخر فإن هذا ممتنع فإن الأثر لا يحصل إلا بالمؤثر التام فلو كان تمام هذا المؤثر من تمام ذاك وتمام ذاك المؤثر من تمام هذا كان كل من التمامين متوقفا على تمام مؤثره وتمام مؤثره موقوفا عليه نفسه فإن الأثر لا يوجد إلا بعد تمام مؤثره فلا يكون كل من الأثرين من تمام نفسه التي تم تأثيرها به فأن لا يكون من تمام المؤثر في تمامه بطريق الأولى فإن الشيء إذا امتنع أن يكون علة أو فاعلا أو مؤثرا في نفسه أو في تمام كونه علة ومؤثرا وفاعلا له أو لشيء من تمامات تأثيره فلأن يمتنع كونه فاعلا لفاعل نفسه أو مؤثرا في المؤثر في نفسه وفي تمامات تأثير ذلك أولى وأحرى

فتبين أنه يمتنع كون شيئين كل منهما معطيا للآخر شيئا من صفات الكمال أو شيئا مما به يصير معاونا له على الفعل سواء أعطاه كمال علم أو قدرة أو حياة أو غير ذلك فإن هذا كله يستلزم الدور في تمام الفاعلين وتمام المؤثرين وهذا ممتنع

وبهذا يعلم أنه يمتنع أن يكون للعالم صانعان متعاونان لا يفعل أحدهما إلا بمعاونة الآخر ويمتنع أيضا أن يكونا مستقلين لأن استقلال أحدهما يناقض استقلال الآخر وسيأتي بسط هذا

والمقصود هنا أنه يمتنع أن يكون أحدهما يعطي الآخر كماله ويمتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في كماله إلى غيره فيمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه فإن الإفتقار إما في تحصيل الكمال وإما في منع سلبه الكمال فإنه إذا كان بنفسه ولا يقدر غيره أن يسلبه كماله لم يكن محتاجا بوجه من الوجوه فإن ما ليس كمالا له فوجوده ليس مما يمكن أن يقال إنه يحتاج إليه إذ حاجة الشيء إلى ما ليس من كماله ممتنعة وقد تبين أنه لا يحتاج إلى غيره في حصول كماله وكذلك لا يحتاج في منع سلب الكمال كإدخال نقص عليه وذلك لأن ذاته إن كانت مستلزمة لذلك الكمال امتنع وجود الملزوم بدون اللازم فيمتنع أن يسلب ذلك الكمال مع كونه واجب الوجود بنفسه وكون لوازمه يمتنع عدمها

فإن قيل

إن ذاته لا تستلزم كماله كان مفتقرا في حصول ذلك الكمال إلى غيره وقد تبين أن ذلك ممتنع

فتبين أنه يمتنع احتياجه إلى غيره في تحصيل شيء أو دفع شيء وهذا هو المقصود فإن الحاجة لا تكون إلا لحصول شيء أو دفع شيء إما حاصل يراد إزالته أو ما لم يحصل بعد فيطلب منعه ومن كان لا يحتاج إلى غيره في جلب شيء ولا في دفع شيء امتنعت حاجته مطلقا فتبين أنه غنى عن غيره مطلقا

وأيضا فلو قدر أنه محتاج إلى الغير لم يخل إما أن يقال إنه يحتاج إليه في شيء من لوازم وجوده أو شيء من العوارض له

أما الأول فيمتنع فإنه لو افتقر إلى غيره في شيء من لوازمه لم يكن موجودا إلا بذلك الغير لأن وجود الملزوم بدون الأزم ممتنع فإذا كان لا يوجد إلا بلازمه ولازمه لا يوجد إلا بذلك الغير لم يكن هو موجودا إلا بذلك الغير فلا يكون موجودا بنفسه بل يكون إن وجد ذلك الغير وجد وإن لم يوجد لو يوجد ثم ذلك الغير إن لم يكن موجودا بنفسه واجبا بنفسه افتقر إلى فاعل مبدع فإن كان هو الأول لزم الدور في العلل وإن كان غيره لزم التسلسل في العلل وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء كما قد بسط في موضع آخر

وإن كان ذلك الغير واجبا بنفسه موجودا بنفسه والأول كذلك كان كل منهما لا يوجد إلا بوجود الآخر وكون كل من الشيئين لا يوجد إلا مع الآخر جائز إذا كان لهما سبب غيرهما كالمتضايفين مثل الأبوة والبنوة فلو كان لهما سبب غيرهما كانا ممكنين يفتقران إلى واجب بنفسه والقول فيه كالقول فيهما

وإذا كانا واجبين بأنفسهما امتنع أن يكون وجود كل منهما أو وجود شيء من لوازمه بالآخر لأن كلا منهما يكون علة أو جزء علة في الآخر فإن كلا منهما لا يتم إلا بالآخر وكل منهما لا يمكن أن يكون علة ولا جزء علة إلا إذا كان موجودا وإلا فما لم يوجد لا يكون مؤثرا في غيره ولا فاعلا لغيره فلا يكون هذا مؤثرا في ذاك حتى يوجد هذا ولا يكون ذاك مؤثرا في هذا حتى يوجد ذاك فيلزم أن لا يوجد هذا حتى يوجد مفعول هذا فيكون هذا فاعل فاعل هذا وكذلك لا يوجد ذاك حتى يوجد فاعل ذاك فيكون ذاك فاعل فاعل ذاك

ومن المعلوم أن كون الشيء علة لنفسه أو جزء علة لنفسه أو شرط علة نفسه ممتنع بأي عبارة عبر عن هذا المعنى فلا يكون فاعل نفسه ولا جزءا من الفاعل ولا شرطا في الفاعل لنفسه ولا تمام الفاعل لنفسه ولا يكون مؤثرا في نفسه ولا تمام المؤثر في نفسه فالمخلوق لا يكون رب نفسه ولا يحتاج الرب نفسه بوجه من الوجوه إليه في خلقه إذ لو احتاج إليه في خلقه لم يخلقه حتى يكون ولا يكون حتى يخلقه فيلزم الدور القبلي لا المعي

وإذا لم يكن مؤثرا في نفسه فلا يكون مؤثرا في المؤثر في نفسه بطريق الأولى فإذا قدر واجبان كل واحد منهما له تأثير ما في الآخر لزم أن يكون كل منهما مؤثرا في المؤثر في نفسه وهذا ممتنع كما تبين فيمتنع تقدير واجبين كل منهما مؤثر في الآخر بوجه من الوجوه فامتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في شيء من لوازمه إلى غيره سواء قدر أنه واجب أو ممكن

وهذا مما يعلم به امتناع أن يكون للعالم صانعان فإن الصانعين إن كانا مستقلين كل منهما فعل الجميع كان هذا متناقضا ممتنعا لذاته فإن فعل أحدهما للبعض يمنع استقلال الآخر به فكيف باستقلاله به

ولهذا اتفق العقلاء على امتناع اجتماع مؤثرين تامين في أثر واحد لأن ذلك جمع بين النقيضين إذ كونه وجد بهذا وحده يناقض كونه وجد بالآخر وحده وإن كانا متشاركين متعاونين فإن كان فعل كل واحد منهما مستغنيا عن فعل الآخر وجب أن يذهب كل إله بما خلق فتميز مفعول هذا عن مفعول هذا ولا يحتاج إلى الإرتباط به وليس الأمر كذلك بل العالم كله متعلق بعضه ببعض هذا مخلوق من هذا وهذا مخلوق من هذا وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا لا يتم شيء من أمور العالم إلا بشيء آخر منه

وهذا يدل على أن العالم كله فقير إلى غيره لما فيه من الحاجة ويدل على أنه ليس فيه فعل لاثنين بل كله مفتقر إلى واحد

فالفلك الأطلس الذي هو أعلى الأفلاك في جوفه سائر الأفلاك والعناصر والمولدات والأفلاك متحركات بحركات مختلفة مخالفة لحركة التاسع فلا يجوز أن تكون حركته هي سبب تلك الحركات المخالفة لحركته إلى جهة أخرى أكثر مما يقال إن الحركة الشرقية هو سببها وأما الحركات الغربية فهي مضادة لجهة حركته فلا يكون هو سببها وهذا مما يسلمه هؤلاء وأيضا فالأفلاك في جوفه بغير اختياره ومن جعل غيره فيه بغير اختياره كان مقهورا مدبرا كالإنسان الذي جعل في باطنه أحشاؤه فلا يكون واجبا بنفسه فأقل درجات الواجب بنفسه أن لا يكون مقهورا مدبرا فإنه إذا كان مقهورا مدبرا كان مربوبا أثر فيه غيره ومن أثر فيه غيره كان وجوده متوقفا على وجود ذلك الغير سواء كان الأثر كمالا أو نقصا فإنه إذا كان زيادة كان كماله موقوفا على الغير وكماله منه فلا يكون موجودا بنفسه وإن كان نقصا كان غيره قد نقصه ومن نقصه غيره لم يكن ما نقصه هو واجب الوجود بنفسه فإن ما كان واجب الوجود بنفسه يمتنع عدمه فذاك الجزء المنقوص ليس واجب الوجود ولا من لوازم واجب الوجود وما لم يكن كذلك لم يكن عدمه نقصا إذ النقص عدم كمال والكمال الممكن هو من لوازم واجب الوجود كما تقدم والتقدير أنه نقص فتبين أن من نقصه غيره شيئا من لوازم وجوده أو أعطاه شيئا من لوازم وجوده لم يكن واجب الوجود بنفسه

فالفلك الذي قد حشى بأجسام كثيرة بغير اختياره محتاج إلى ذلك الذي حشاه بتلك الأجسام فإنه إذا كان حشوه كمالا له لم يوجد كماله إلا بذلك الغير فلا يكون واجبا بنفسه وإن كان نقصا فيه كان غيره قد سلبه الكمال الزائل بذلك النقص فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال إذا لو استلزمته لعدمت بعدمه وكماله من تمام نفسه فإذا كان جزء نفسه غير واجب لم تكن نفسه واجبة كما تقدم بيانه

وأيضا فالفلك الأطلس إن قيل إنه لا تأثير له في شيء من العالم وجب أن لا يكون هو المحرك للأفلاك التي فيه وهي متحركة بحركته ولها حركة تخالف حركته فيكون في الفلك الواحد قوة تقتضى حركتين متضادتين وهذا ممتنع فإن الضدين لا يجتمعان ولأن المقتضى للشيء لو كان مقتضيا لضده الذي لا يجامعه لكان فاعلا له غير فاعل له فإن كان مريدا له كان مريدا غير مريد وهو جمع بين النقيضين وإن كان له تأثير في تحريك الأفلاك أو غير ذلك فمعلوم أنه غير مستقل بالتأثير لأن تلك الأفلاك لها حركات تخصها من غير تحريكه ولأن ما يوجد في الأرض من الآثار لا بد فيه من الأجسام العنصرية وتلك الأجسام إن لم يكن فاعلا لها فهو محتاج إلى مالم يفعله وإن قدر أنه المؤثر فيها فليس مؤثرا مستقلا فيها لأن الآثار الحاصلة فيها لا تكون إلا باجتماع اتصالات وحركات تحصل بغيره

فتبين أن تأثيره مشروط بتأثير غيره وحينئذ فتأثيره من كماله فإن المؤثر أكمل من غير المؤثر وهو مفتقر في هذا الكمال إلى غيره فلا يكون واجبا بنفسه فتبين أنه ليس واجبا بنفسه من هذين الوجهين وتبين أيضا أن فاعله ليس مستغينا عن فاعل تلك الأمور التي يحتاج إليها الفلك لكون الفلك ليس متميزا مستغنيا من كل وجه عن كل ما سواه بل هو محتاج إلى ما سواه من المصنوعات فلا يكون واجبا بنفسه ولا مفعولا لفاعل مستغن عن فاعل ما سواه

وإذا كان الأمر في الفلك الأطلس هكذا فالأمر في غيره أظهر فأي شيىء اعتبرته من العالم وحدته مفتقرا إلى شيء آخر من العالم فيدلك ذلك مع كونه ممكنا مفتقرا ليس بواجب بنفسه على أنه مفتقر إلى فاعل ذلك الآخر فلا يكون في العالم فاعلان فعل كل منهما ومفعوله مستغن عن فعل الأخر ومفعوله وهذا كالإنسان مثلا فإنه يمتنع أن يكون

الذي خلقه غير الذي خلق ما يحتاج إليه فالذي خلق مادته كمنى الأبوين ودم الأم هو الذي خلقه والذي خلق الهواء الذي يستنشقه والماء الذي يشربه هو الذي خلقه لأن خالق ذلك لو كان خالقا غير خالقه فإن كانا خالقين كل منهما مستغن عن الآخر في فعله ومفعوله كان ذلك ممتنعا لأن الإنسان محتاج إلى المادة والرزق فلو كان خالق مادته ورزقه غير خالقه لم يكن مفعول أحدهما مستغنيا عن مفعول الآخر

فتبين بذلك أنه يمتنع أن يكون للعالم فاعلان مفعول كل منهما مستغن عن مفعول الآخر كما قال تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق سورة المؤمنون 9ويمتنع أن يكونا مستقلين لأنه جمع بين النقيضين ويمتنع أن يكونا متعاونين متشاركين كما يوجد ذلك في المخلوقين يتعاونون على المفعولات لأنه حينئذ لا يكون أحدهما فاعلا إلا بإعانة الآخر له وإعانته فعل منه لا يحصل إلا بقدرته بل وبعلمه وإرادته فلا يكون هذا معينا لذاك حتى يكون ذاك معينا لهذا ولا يكون ذاك معينا لهذا حتى يكون هذا معينا لذاك وحينئذ لا يكون هذا معينا لذاك ولا ذاك معينا لهذا كما لا يكون الشيء معينا لنفسه بطريق الأولى فالقدرة التي بها يفعل الفاعل لا تكون حاصلة بالقدرة التي يفعل بها الفاعل الآخر بل إما أن تكون من لوازم ذاته وهي قدرة الله تعالى أو تكون حاصلة بقدرة غيره كقدرة العبد فإذا قدر ربان متعاونان لا يفعل أحدهما حتى يعينه الآخر لم يكن أحدهما قادرا على الفعل بقدرة لازمة لذاته ولا يمكن أن تكون قدرته حاصلة من الآخر لأن الآخر لا يجعله قادرا حتى يكون هو قادرا فإذا لم تكن قدرة واحد منهما من نفسه لم يكن لأحدهما قدرة بحال

فتبين امتناع كون العالم له ربان وتبين امتناع كون واجب الوجود له كمال يستفيده من غيره وتبين امتناع أن يؤثر في واجب الوجود غيره وهو سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه وذلك الكمال لازم له لأن الكمال الذي يكون كمالا للموجود إما أن يكون واجبا له أو ممتنعا عليه أو جائزا عليه فإن كان واجبا له فهو المطلوب وإن كان ممتنعا لزم أن يكون الكمال الذي للموجود ممكنا للممكن ممتنعا على الواجب فيكون الممكن أكمل من الواجب

وأيضا فالممكنات فيها كمالات موجودة وهي من الواجب بنفسه والمبدع للكمال المعطى له الخالق له أحق بالكمال إذ الكمال إما وجود وإما كمال وجود ومن أبدع الموجود كان أحق بأن يكون موجودا إذ المعدوم لا يكون مؤثرا في الموجود وهذا كله معلوم فتبين أن الكمال ليس ممتنعا عليه وإذا كان جائزا أن يحصل وجائزا أن لا يحصل لم يكن حاصلا إلا بسبب آخر فيكون واجب الوجود مفتقرا في كماله إلى غيره وقد تبين بطلان هذا أيضا

فتبين أن الكمال لازم لواجب الوجود واجب له يمتنع سلب الكمال عنه والكمال أمور وجودية فالأمور العدمية لا تكون كمالا إلا إذا تضمنت أمورا وجودية إذ العدم المحض ليس بشيء فضلا عن أن يكون كمالا فإن الله سبحانه إذا ذكر ما يذكره من تنزيهه ونفى النقائص عنه ذكر ذلك في سياق إثبات صفات الكمال له كقوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم سورة البقرة 255 فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيومية وهذه من صفات الكمال

وكذلك قوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سورة سبأ 3 فإن نفى عزوب ذلك عنه يتضمن علمه به وعلمه به من صفات الكمال

وكذلك قوله ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب سورة ق 38 فتنزيهه لنفسه عن مس اللغوب يقتضى كمال قدرته والقدرة من صفات الكمال فتنزيهه يتضمن كمال حياته وقيامه وعلمه وقدرته وهكذا نظائر ذلك

فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها إذ كل غاية تفرض كمالا إما أن تكون واجبة له أو ممكنة أو ممتنعة والقسمان الأخيران باطلان فوجب الأول فهو منزه عن النقص وعن مساواة شيء من الأشياء له في صفات الكمال بل هذه المساواة هي من النقص أيضا وذلك لأن المتماثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه فلو قدر أنه ماثل شيئا في شيء من الأشياء للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع على ذلك الشيء وكل ما سواه ممكن قابل للعدم بل معدوم مفتقر إلى فاعل وهو مصنوع مربوب محدث فلو ماثل غيره في شيء من الأشياء للزم أن يكون هو والشيء الذي ماثله فيه ممكنا قابلا للعدم بل معدوما مفتقرا إلى فاعل مصنوعا مربوبا محدثا وقد تبين أن كماله لازم لذاته لا يمكن أن يكون مفتقرا فيه إلى غيره فضلا عن أن يكون ممكنا أو مصنوعا أو محدثا فلو قدر مماثلة غيره له في شيء من الأشياء للزم كون الشيء الواحد موجودا معدوما ممكنا واجبا قديما محدثا وهذا جمع بين النقيضين

فالرب تعالى مستحق للكمال على وجه التفصيل كما أخبرت به الرسل فإن الله تعالى أخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير وأنه عليم قدير عزيز حكيم غفور رحيم ودود مجيد وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وناداه وناجاه إلى غير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة

وقال في التنزيه ليس كمثله شيء سورة الشورى 11 هل تعلم له سميا سورة مريم 65 فلا تضربوا لله الأمثال سورة النحل 74 ولم يكن له كفوا أحد فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون سورة البقرة 22 فنزه نفسه عن النظير باسم الكفء والمثل والند والسمى

وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وكتبنا رسالة مفردة في قوله ليس كمثله شيء وما فيها من الأسرار والمعاني الشريفة

فهذه طريقة الرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها إثبات مفصل ونفي مجمل إثبات صفات الكمال على وجه التفصيل ونفي النقص والتمثيل كما دل على ذلك سورة قل هو الله أحد الله الصمد وهي تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وقد كتبنا تصنيفا مفردا في تفسيرها وآخر في كونها تعدل ثلث القرآن

فاسمه الصمد يتضمن صفات الكمال كما روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هو العليم الذي كمل في علمه والقدير الذي كمل في قدرته والسيد الذي الذي كمل في سؤدده والشريف الذي كمل في شرفه والعظيم الذي كمل في عظمته والحليم الذي كمل في حلمه والحكيم الذي كمل في حكمته وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد هو الله سبحانه وتعالى هذه صفته لا تنبغي إلا له

والأحد يتضمن نفي المثل عنه والتنزيه الذي يستحقه الرب يجمعه نوعان أحدهما نفي النقص عنه والثاني نفى مماثلة شيء من الأشياء فيما يستحقه من صفات الكمال فإثبات صفات الكمال له مع نفى مماثلة غيره له يجمع ذلك كما دلت عليه هذه السورة

وأما المخالفون لهم من المشركين والصابئة ومن اتبعهم من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم فطريقتهم نفى مفصل وإثبات مجمل ينفون صفات الكمال ويثبتون ما لا يوجد إلا في الخيال فيقولون ليس بكذا ولا كذا فمنهم من يقول ليس له صفة ثبوتية بل إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما كما يقوله من يقوله من الصابئة والفلاسفة كابن سينا وأمثاله ويقول هو وجود مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية عنه ومنهم من يقول وجود مطلق بشرط الإطلاق

وقد قرروا في منطقهم ما هو معلوم بالعقل الصريح أن المطلق بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فلا يتصور في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق ولا جسم مطلق بشرط الإطلاق فيبقى واجب الوجود ممتنع الوجود في الخارج وهذا مع أنه تعطيل وجهل وكفر فهو جمع بين النقيضين

ومن قال مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية فهذا أبعد من المطلق بشرط الإطلاق فإن هذا قيده بسلب الأمور الوجودية دون العدمية وهذا أولى بالعدم مما قيد بسلب الأمور الوجودية والعدمية وهو أيضا أبلغ في الإمتناع فإن الموجود المشارك لغيره في الوجود لا يمتاز عنه بوصف عدمي بل بأمر وجودي فإذا قدر وجود لا يتمير عن غيره إلا بعدم كان أبلغ في الإمتناع من وجود يتميز بسلب الوجود والعدم

وأيضا فإن هذا يشارك سائر الموجودات في مسمى الوجود ويمتاز عنها بالعدم وهي تمتاز عنه بالوجود فيكون على قول هؤلاء أي موجود من الممكنات قدر فهو أكمل من الواجب وهذا في غاية الفساد والكفر

وإن قالوا هو مطلق لا بشرط كما يقوله الصدر القونوي وأمثاله من القائلين بوحدة الوجود فالمطلق لا بشرط هو موضوع العلم الإلهي عندهم الذي هو الحكمة العليا والفلسفة الأولى عندهم فإن الوجود المطلق لا بشرط ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وجوهر وعرض وهذا موضوع العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه

ومن المعلوم أن الوجود المنقسم إلى واجب وممكن لا يكون هو الوجود الواجب المطلق بشرط الإطلاق وهو الذي يسمونه الكلى الطبيعي ويتنازعون في وجوده في الخارج والتحقيق أنه يوجد في الخارج معينا لا كليا فما هو كلى في الأذهان يوجد في الأعيان لكن لا يوجد كليا

فمن قال الكلي الطبيعي موجود في الخارج وأراد هذا المعنى فقد أصاب

وأما إن قال إن في الخارج ما هو كلي في الخارج كما يقتضيه كلام كثير من هؤلاء الذين تكلموا في المنطق والإلهيات وادعى أن في الخارج إنسانا مطلقا كليا وفرسا مطلقا كليا وحيوانا مطلقا كليا فهو مخطئ حطأ ظاهرا سواء ادعى أن هذه الكليات مجردة عن الأعيان أزلية كما يذكرونه عن أفلاطون ويسمون ذلك المثل الأفلاطونية أو أدعى أنها لا تكون إلا مقارنة للمعينات أو ادعى أن المطلق جزء من المعين كما يذكرونه عن أرسطو وشيعته كابن سينا وأمثاله ويقولون إن النوع مركب من الجنس والفصل وإن الإنسان مركب من الحيوان والناطق والفرس مركب من الحيوان والصاهل فإن هذا إن أريد به أن الإنسان متصف بهذا وهذا فهذا حق ولكن الصفة لا تكون سبب وجود الموصوف ولا متقدمة عليه لا في الحس ولا في العقل ولا يكون الجوهر القائم بنفسه مركبا من عرضين

وإن أراد به أن الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران قائمان بأنفسهما أحدهما الحيوان والآخر الناطق فهذا مكابرة للعقل والحس

وإن أريد بهذا التركيب تركيب الإنسان العقلي المتصور في الأذهان لا الموجود في الأعيان فهذا صحيح لكن ذلك الإنسان هو بحسب ما يركبه الذهن فإن ركبه من الحيوان والناطق تركب منهما وإن ركبه من الحيوان والصاهل تركب منهما فدعوى المدعي أن إحدى

الصفتين ذاتية مقومة للموصوف لا يتحقق بدونها لا في الخارج ولا في الذهن والأخرى عرضية يتقوم الموصوف بدونها مع كونها مساوية لتلك في اللزوم تفريق بين المتماثلين

والفروق التي يذكرونها بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية هي ثلاثة وهي فروق منتقضة وهم معترفون بانتقاضها كما يعترف بذلك ابن سينا ومتبعوه شارحو الإشارات وكما ذكره صاحب المعتبر وغيرهم والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع

وكذلك الكلام على قولهم وقول من وافقهم من القائلين بوحدة الوجود في وجود واجب الوجود مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا كلام جملي على ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا كله مبسوط في مواضعه لكن هذا الإمامي لما أخذ يذكر عن طائفته أنهم المصيبون في التوحيد دون غيرهم احتجنا إلى التنبيه على ذلك فنقول

أما ما ذكره من لفظ الجسم وما يتبع ذلك فإن هذا اللفظ لم ينطق به في صفات الله تعالى لا كتاب ولا سنة لا نفيا ولا إثباتا ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم لا أهل البيت ولا غيرهم

ولكن لما ابتدعت الجهمية القول بنفى الصفات في آخر الدولة الأموية ويقال إن أول من ابتدع ذلك هو الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وكان هذا الجعد من حران وكان فيها أئمة الصابئة والفلاسفة والفارابي كان قد أخذ الفلسفة عن متى ثم دخل إلى حران فأخذ ما أخذه منها عن أولئك الصابئة الذين كانوا بحران وكانوا يعبدون الهياكل العلوية ويبنون هيكل العلة الأولى هيكل العقل الأول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس هيكل الزهرة هيكل عطارد هيكل القمر ويتقربون بما هو معروف عندهم من أنواع العبادات والقرابين والبخورات وغير ذلك وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده وكان مولده عند أكثر الناس إما بالعراق أو بحران كما في التوراة ولهذا ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام وحكى الله عنه أنه لما رأى كوكبا قال هذا ربي إلى قوله لاأحب الآفلين إلى قوله فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين سورة الأنعام 76 79 الآيات

وقد ظن طائفة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن مراده بقوله هذا ربي أن هذا خالق العالم وأنه استدل بالأفول وهو الحركة والإنتقال على عدم ربوبيته وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام وحدوث العالم وهذا غلط من وجوه

أحدها أن هذا القول لم يقله أحد من العقلاء لا قوم إبراهيم ولا غيرهم ولا توهم أحدهم أن كوكبا أو القمر أو الشمس خلق هذا العالم وإنما كان قوم إبراهيم مشتركين يعبدون هذه الكواكب زاعمين أن في ذلك جلب منفعة أو دفع مضرة على طريقة الكلدانيين والكشدانيين وغيرهم من المشركين أهل الهند وغيرهم وعلى طريقة هؤلاء صنف الكتاب الذي صنفه أبو عبدالله بن الخطيب الرازي في السحر والطلسمات ودعوة الكواكب وهذا دين المشركين من الهند والخطأ والنبط والكلدانيين والكشدانيين وغير هؤلاء

ولهذا قال الخليل يا قوم إني برئ مما تشركون سورة الأنعام 77 وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين سورة الشعراء 75 77 وأمثال ذلك

وأيضا فالأفول في لغة العرب هو المغيب والإحتجاب ليس هو الحركة والإنتقال وأيضا فلو كان احتجاجه بالحركة والإنتقال لم ينتظر إلى أن يغيب بل كان نفس الحركة التي يشاهدها من حين تطلع إلى أن تغيب هي الأفول

وأيضا فحركتها بعد المغيب والإحتجاب غير مشهودة ولا معلومة

وأيضا فلو كان قوله هذا ربي أي هذا رب العالمين لكانت قصة إبراهيم عليه السلام حجة عليهم لأنه حينئذ لم تكن الحركة عنده مانعة من كونه رب العالمين وإنما المانع هو الأفول

ولما حرف هؤلاء لفظ الأفول سلك ابن سينا هذا المسلك في إشاراته فجعل الأفول هو الإمكان وجعل كل ممكن آفلا وأن الأفول هوى في حظيرة الإمكان وهذا يستلزم أن يكون ما سوى الله آفلا

ومعلوم أن هذا من أعظم الإفتراء على اللغة والقرآن ومن أعظم القرمطة ولو كان كل ممكن آفلا لم يصح قوله فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فإن قوله فلما أفل يقتضى حدوث الأفول له وعلى قول هؤلاء المفترين على اللغة والقرآن الأفول لازم له لم يزل ولا يزال آفلا ولو كان مراد إبراهيم بالأفول الإمكان والإمكان حاصل في الشمس والقمر والكوكب في كل وقت لم يكن به حاجة إلى أن ينتظر أفولها

وأيضا فجعل القديم الأزلي الواجب بغيره أزلا وأبدا ممكنا قول انفرد به ابن سينا ومن تابعه وهو قول مخالف لجمهور العقلاء من سلفهم وخلفهم والمقصود هنا أنه لما ظهرت الجهمية نفاة الصفات تكلم الناس في الجسم وفي إدخال لفظ الجسم في أصول الدين وفي التوحيد وكان هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة فصار الناس في لفظ الجسم على ثلاثة أقوال

طائفة تقول إنه جسم وطائفة تقول ليس بجسم وطائفة تمتنع عن إطلاق القول بهذا وهذا لكونه بدعة في الشرع أو لكونه في العقل يتناول حقا وباطلا فمنهم من يكف عن التكلم في ذلك ومنهم من يستفصل المتكلم فإن ذكر في النفي أو الإثبات معنى صحيحا قبله وعبر عنه بعبارة شرعية لا يعبر عنها بعبارة مكروهة في الشرع وإن ذكر معنى باطلا رده

وذلك أن لفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعانيه المصطلح عليها وفي المعنى منازعات عقلية فيطلقه كل قوم بحسب اصطلاحهم وحسب اعتقادهم فإن الجسم عند أهل اللغة هو البدن أو البدن ونحوه مما هو غليظ كثيف هكذا نقله غير واحد من أهل اللغة

ومنه قوله تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم سورة المنافقون 4 وقوله تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم سورة البقرة 24ثم قد يعنى به نفس الشيء الغليظ الكثيف وقد يعنى به نفس غلظه وكثافته وعلى هذا فالزيادة في الجسم الذي هو الطول والعرض وهو القدر وعلى الأول فالزيادة في نفس المقدر الموصوف

وقد يقال هذا الثوب له جسم أي غلظ وثخن ولا يسمى الهواء جسما ولا النفس الخارج من فم الإنسان ونحو ذلك عندهم جسما

وأما أهل الكلام والفلسفة فالجسم عندهم أعم من ذلك كما أن لفظ الجوهر في اللغة أخص من معناه في اصطلاحهم فإنهم يعنون بالجوهر ما قام بنفسه أو المتحيز أو ما إذا وجد كان وجوده لا في موضع أي لا في محل يستغنى عنه والجوهر في اللغة الجوهر المعروف

ثم قد يعبرون عن الجسم بأنه ما يشار إليه أو ما يقبل الإشارة الحسية بأنه هنا أو هناك وقد يعبرون عنه بما قبل الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق أو بما كان فيه الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق

ولفظ البعد الطول والعرض والعمق في اصطلاحهم أعم من معناه في اللغة فإن أهل اللغة يقسمون الأعيان إلى طويل وقصير والمسافة والزمان إلى قريب وبعيد والمنخفض من الأرض إلى عميق وغير عميق

وهؤلاء عندهم كل ما يراه الإنسان من الأعيان فهو طويل عريض عميق حتى الحبة بل الذرة وما هو أصغر من ذرة هو في اصطلاحهم طويل عريض عميق

وقد يعبرون عن الجسم بالمركب أو المؤلف ومعنى ذلك عندهم أعم من معناه في اللغة فإن المركب والمؤلف في اللغة ما ركبه مركب أو ألفه مؤلف كالأدوية المركبة من المعاجين والأشربة ونحو ذلك وبالمركب ماركب على غيره أو فيه كالباب المركب في موضعه ونحوه

ومنه قوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك سورة الإنفطار 8 وبالتأليف التوفيق بين القلوب ونحو ذلك ومنه قوله تعالى والمؤلفة قلوبهم سورة التوبة 60 وقوله وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم سورة الأنفال 63 وقوله إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا سورة آل عمران 103

وللناس اصطلاحات في المؤلف والمركب كما للنحاة اصطلاح فقد يعنون بذلك الجملة التامة وقد يعنون به ما ركب تركيب مزج كبعلبك وقد يعنون به المضاف وما يشبهه وهو ما ينصب في النداء

وللمنطقيين ونحوهم من أهل الكلام اصطلاحات أخر يعنون به ما دل جزؤه على جزء معناه فيدخل في ذلك المضاف إذا قصد به الإضافة دون العلمية فلا يدخل فيه بعلبك ونحوه

ومنهم من يسوى بين المؤلف والمركب ومنهم من يفرق بينهما وهذا كله تأليف في الأقوال

وأما التأليف في الأعيان فأولئك إذا قالوا إن الجسم هو المؤلف والمركب لم يعنوا به ما كان مفترقا فاجتمع ولا ما يقبل التفريق بل يعنون به ما تميز منه جانب عن جانب كالشمس والقمر وغيرهما من الأجسام

وأما المتفلسفة فالمؤلف والمركب عندهم أعم من هذا يدخلون وفي ذلك تأليفا عقليا لا يوجد في الأعيان ويدعون أن النوع مؤلف من الجنس والفصل فإذا قلت الإنسان حيوان ناطق قالوا الإنسان مؤلف من هذين وإنما هو موصوف بهما

ثم تنازع هؤلاء في الجسم هل هو مركب من أجزاء لا تقبل القسمة وهي الجوهر الفرد عندهم وهو شيء لم يدركه أحد بحسه وما من شيء نفرضه إلا وهو أصغر منه عند القائلين به أو مركب من المادة والصورة تركيبا عقليا

وإذا حقق الأمر عليهم في المادة لم يوجد إلا نفس الجسم وأعراضه تارة يعنى بالمادة الجسم الذي هو جوهر والصورة شكله واتصاله القائم به وتارة يعنى بالصورة نفس الجسم الذي هو الجوهر وبالمادة القدر المطلق الذي يعم الأجسام كلها أو يعنى بها ما منه خلق الجسم

وقد يعنى بالصورة العرضية التي هي الاتصال والشكل القائم به فالجسم هو المتصل والصورة هي الاتصال فالصورة هنا عرض والمادة الجسم كالصورة الصناعية كشكل السرير فإنه صورته والخشب مادته ولفظ المادة والهيولي يعنى به عندهم هذه الصورة الصناعية وهي عرض يحدث بفعل الآدميين ويعنى به الصورة الطبيعية وهي نفس الأجسام وهي جواهر ومادة وما منها خلقت

وقد يعنى بالمادة المادة الكلية وهي ما تشترك فيه الأجسام من القدر ونحوه

وهذه كليات حاصلة في الأذهان وهي في الخارج معينة إما أعراض وإما جواهر

وقد يعنى بالمادة المادة الأزلية وهي المجردة عن الصورة وهذه يثبتها أفلاطن وسائر العقلاء أنكروها وفي الحقيقة هي ثابتة في الذهن لا في الخارج والأجسام مشتركة في كون كل واحد منها له قدر يخصه فهي مشتركة في نوع المقدار لا في عينه فصارت الأجسام مشتركة في المقدار فقالوا بينها مادة مشتركة وهيولي مشتركة ولم يهتدوا إلى الفرق بين الاشتراك في الكلي المطلق والاشتراك في الشيء المعين فاشتراك الأجسام في الجسمية والإمتداد والمقدار الذي يظن أنه المادة ونحو ذلك كاشتراك الناس في الإنسانية واشتراك الحيوانات في الحيوانية وهؤلاء ظنوا أن هذه الكليات موجودة في الخارج مشتركة وذلك غلط فإن ما في الخارج ليس فيه اشتراك بل لكل موجود شيء يخصه لا يشركه فيه غيره والاشتراك يقع في الأمور العامة الكلية المطلقة وتلك لا تكون عامة مطلقة كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان فما فيه الاشتراك ليس فيه إلا العلم والعقل وما به الإختصاص والإمتياز وهو الموجود في الخارج لا اشتراك فيه وإنما فيه اشتباه وتماثل يسمى اشتراكا كالاشتراك في المعنى العام والإنقسام بحسب الاشتراك فمن لم يفرق بين قسمة الكلى إلى جزئياته والكل إلى أجزاء كقسمة الكلمة إلى اسم وفعل وحرف وإلا غلط كما غلط كثير من الناس في هذا الموضع

ولما قالت طائفة من النحاة كالزجاجي وابن جنى الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف أو الكلام كله ثلاثة اسم وفعل وحرف اعترض على ذلك من لم يعرف مقصودهم ولم يجعل القسمة نوعين كالجزولي حيث قال كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاصه أو نوع قسم إلى أشخاصه فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له

وكلام أبي البقاء في تفسير ابن جنى أقرب حيث قال معناه أجزاء الكلام ونحو ذلك ومن المعلوم أن قسمة كل الشيء الموجود في الخارج إلى أبعاضه وأجزائه أشهر من قسمة المعنى العام الذي في الذهن إلى أنواعه وأشخاصه كقوله تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر سورة القمر 28 وقوله وإذا حضر القسمة أولو القربى سورة النساء 8 وقوله عليه الصلاة والسلام والله إنى ما أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أقسم بينكم وقوله لا تعضية في الميراث إلا ما حمل القسم وقول الصحابة رضوان الله عليهم قسم رسول الله أرض خيبر بين من حضر الحديبية وقسم غنائم حنين بالجعرانة مرجعه من الطائف وقسم ميراث سعد بن الربيع

وقول الفقهاء باب قسم الغنائم والفئ والصدقات وقسمة الميراث وباب القسمة وذكر المشاع والمقسوم وقسمه الإجبار والتراضي ونحو ذلك

وقول الحاسب الضرب والقسمة إنما يراد به قسمة الأعيان الموجودة في الخارج فيأخذ أحد الشريكين قسما والآخر قسما وليس كل اسم من أسماء المقسوم يجب أن يصدق على كل منهما منفردا فإذا قسم بينهم جزور فأخذ هذا فخذا وهذا رأسا وهذا ظهرا لم يكن اسم الجزور صادقا على هذه الأبعاض وكذلك لو قسم بينهم شجرة فأخذ هذا نصف ساقها وهذا نصفا وهذا أغصانها لم يكن اسم المقسوم صادقا على الأبعاض ولو قسم بينهم سهم كما كان الصحابة يقسمون فيأخذ هذا القدح وهذا النصل لم يكن هذا سهما ولا هذا سهما

فإذا كان اسم المقسوم لا يقع إلا حال الإجتماع زال بالإنقسام وإن كان يقال حال الإجتماع والإفتراق كانقسام الماء والتمر ونحو ذلك صدق فيهما وعلى التقديرين فالمقسوم هنا موجودات في الخارج

وإذا قلنا الحيوان ينقسم إلى ناطق وبهيم لم نشر إلى حيوان معين موجود في الخارج فنقسمه قسمين بل هذا اللفظ والمعنى يدخل فيه ما كان وما لم يكن بعد ويتناول جزئيات لم تخطر بالذهن فهذه المعاني الكلية لا توجد في الخارج كلية

فإذا قيل الأجسام تشترك في مسمى الجسم أو في المقدار المعين أو غير ذلك كان هذا المشترك معنى كليا والمقدار المعين لهذا الجسم ليس هو المقدار المعين لهذا الجسم المعين وإن كان مساويا له وأما إن كان أكبر منه فهنا اشتركا في نوع القدر لا في هذا القدر فالاشتراك الذي بين الأجسام هو في هذه الأمور

وأما ثبوت شيء موجود في الخارج هو في هذا الإنسان وهو بعينه في هذا الإنسان فهو مكابرة سواء في ذلك المادة والحقائق الكلية ولكن هؤلاء ظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن هذا الباب التأليف والتركيب في اصطلاح هؤلاء المتفلسفة من المتكلمين والمنطقيين ومن وافقهم هو نوع آخر غير تلك الأنواع والمركب لا بد له من مفرد وإذا حقق الأمر على هؤلاء لم يوجد عندهم معنى مفرد يتركب منه هذه المؤلفات وإنما يوجد ذلك في الأذهان لا في الأعيان فالبسيط المفرد الذي يقدرونه كالحيوانية المطلقة والجسمية المطلقة وأمثال ذلك لا يوجد في الخارج إلا صفات معينة لموصوفات معينة فهذه الأمور مما تدخل في لفظ المؤلف والمركب بحسب الإصطلاحات الوضعية مع ما فيها من الاعتبارات العقلية وهم متنازعون في الجسم هل هو مؤلف من الجواهر المفردة التي لا تقبل الإنقسام كما يقوله كثير من أهل الكلام أو مؤلف من المادة والصورة كما يقوله كثير من المتفلسفة أولا مؤلف لا من هذا ولا من هذا كما يقوله كثير من الطوائف على ثلاثة أقوال أصحها الثالث

وكل من أصحاب الأقوال الثلاثة متنازعون هل يقبل القسمة إلى غير نهاية والصحيح أنه لا يقبل الإنقسام إلى غير نهاية لكن مثبتة الجوهر الفرد يقولون ينتهي إلى حد لا يقبل القسمة مع وجوده وليس كذلك بل إذا تصغرت الأجزاء استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تستحيل فتصير هواء فما دامت موجودة فإنه يتميز منها جانب عن جانب فلا يوجد شيء لا يتميز بعضه عن بعض كما يقوله مثبتة الجوهر الفرد ولا يمكن انقسامه إلى مالا يتناهى بل إذا صغرلم يقبل القسمة الموجودة في الخارج وإن كان بعضه غير البعض الآخر بل إذا تصرف فيه بقسمة أو نحوها استحال فالأجزاء الصغيرة ولو عظم صغرها يتميز منها شيء عن شيء في نفسه وفي الحس والعقل لكي لا يمكن فصل بعضه عن بعض بالتفريق بل يفسد ويستحيل لضعف قوامه عن احتمال ذلك وبسط هذا له موضع آخر

ثم القائلون بأن الجسم مركب من جواهر منفردة تنازعوا هل هو جوهر واحد بشرط انضمام مثله إليه أو جوهران فصاعدا أو أربعة أو ستة أو ثمانية أو ستة عشر أو أثنان وثلاثون على أقوال معروفة لهم

ففي لفظ الجسم والجوهر والمتحيز من الإصطلاحات والآراء المختلفة ما فيه فلهذا وغيره لم يسغ إطلاق إثباته ولا نفيه

بل إذا قال القائل: إن الباري تعالى جسم

قيل له: أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب أو أنه يقبل التفريق سواء قيل اجتمع بنفسه أو جمعه غيره أو أنه من جنس شيء من المخلوقات أو أنه مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المنفردة

فإن قال هذا

قيل

هذا باطل

وإن قال

أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه كما يذكر عن هشام ومحمد بن كرام وغيرهما ممن أطلق هذا اللفظ أو أنه موصوف

بالصفات أو أنه يرى في الآخرة أو أنه يمكن رؤيته أو أنه مباين للعالم فوقه ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل

قيل له

هذه معان صحيحة ولكن إطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع مخالف للغة فاللفظ إذا احتمل المعنى الحق والباطل لم يطلق بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافيا للباطل

وإذا قال

ليس بجسم

قيل

أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره ولم يكن أجزاء متفرقة فركب أو أنه لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض

أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة ونحو هذه المعاني

أو تريد به شيئا يستلزم نفى اتصافه بالصفات بحيث لا يرى ولا يتكلم بكلام يقوم به ولا يباين خلقه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا تعرج إليه الملائكة ولا الرسول ولا ترفع إليه الأيدي ولا يعلو على شيء ولا يدنو منه شيء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ونحو ذلك من المعاني السلبية التي لا يعقل أن يتصف بها إلا المعدوم

فإن قال

أردت الأول

قيل

المعنى صحيح لكن المطلقون لهذا النفى أدخلوا فيه هذه المعاني السلبية ويجعلون ما يوصف به من صفات الكمال الثبوتية مستلزمة لكونه جسما فكل ما يذكر من الأمور الوجودية يقولون هذا تجسيم ولا ينتفي ما يسمونه تجسيما إلا بالتعطيل المحض

ولهذا كل من نفى شيئا قال لمن أثبته إنه مجسم

فغلاة النفاة من الجهمية والباطنية يقولون لمن أثبت له الأسماء الحسنى إنه مجسم ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم يقولون لمن أثبت الصفات إنه مجسم ومثبتة الصفات دون ما يقوم به من الأفعال الإختيارية يقولون لمن أثبت ذلك إنه مجسم وكذلك سائر النفاة

وكل من نفى ما أثبته الله ورسوله بناء على أن إثباته تجسيم يلزمه فيما أثبته الله ورسوله

ومنتهى هؤلاء النفاة إلى أثبات وجود مطلق وذات مجردة عن الصفات والعقل الصريح يعلم أن الوجود المطلق والذات المجردة عن الصفات إنما يكون في الأذهان لا في الأعيان فالذهن يجرد هذا ويقدر هذا التوحيد الذي يفرضونه كما يقدر إنسانا مطلقا وحيوانا مطلقا ولكن ليس كل ما قدرته الأذهان كان وجوده في الخارج في حيز الإمكان

ومن هنا يظهر غلط من قصد إثبات إمكان هذا بالتقدير العقلي كما ذكره الرازي فقال العقل يعلم أن الشيء إما أن يكون متحيزا وإما أن يكون قائما بالمتحيز وإما أن يكون لا متحيزا ولا حالا بالمتحيز

فيقال له

تقدير العقل لهذه الأقسام لا يقتضي وجودها في الخارج ولا إمكان وجودها في الخارج فإن هذا مثل أن يقال الشيء إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا والشيء إما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا وإما أن يكون لا قديما ولا محدثا والشيء إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون لا قائما بنفسه ولا قائما بغيره والشيء إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما وإما أن يكون لا موجودا ولا معدوما

فإن أمثال هذه التقديرات والتقسيمات لا تثبت إمكان الشيء ووجوده في الخارج بل إمكان الشيء يعلم بوجوده أو بوجود نظيره أو وجود ما يكون الشيء أولى بالوجود من ذلك الذي علم وجوده أو بنحو ذلك من الطرق

والإمكان الخارجي يثبت بمثل هذه الطرق وأما الإمكان الذهني فهو أن لا يعلم امتناع الشيء ولكن عدم العلم بالإمتناع ليس علما بالإمكان

فإن قال النافي

كل ما اتصف بأنه حي عليم قدير أو ما كان له حياة وعلم وقدرة أو ما يجوز أن يرى أو ما يكون فوق العالم أو نحو ذلك

من المعاني التي أثبتها الكتاب والسنة لا يوصف بها إلا ما هو جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وذلك ممتنع

قيل

جمهور العقلاء لا يقولون إن هذه الأجسام المشهودة كالسماء والكواكب مركبة لا من الجواهر الفردة ولا من المادة والصورة فكيف يلزمهم أن يقولوا بلزوم هذا التركيب في رب العالمين

وقد بين في غير هذا الموضع فساد حجج الطائفتين وفساد حجج نفيهم لهذين المعنيين وأن هؤلاء يبطلون حجة هؤلاء الموافقين لهم في الحكم وهؤلاء يبطلون حجة هؤلاء فلم يتفقوا على صحة حجة واحدة بنفى ما جعلوه مركبا بل هؤلاء يحتجون بأن المركب مفتقر إلى أجزائه فيبطل أولئك هذه الحجة وهؤلاء يحتجون بأن ما كان كذلك لم يخل عن الأعراض الحادثة وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث وأولئك يبطلون حجة هؤلاء بل يمنعونهم المقدمتين وهذه الأمور مبسوطة في غير هذه الموضع وإنما نبهنا هنا على هذا الباب

والأصل الذي يجب على المسلمين أن ما ثبت عن الرسول وجب الإيمان به فيصدق خبره ويطاع أمره وما لم يثبت عن الرسول فلا يجب الحكم فيه بنفى ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم ويعلم صحة نفيه أو إثباته

وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفى والإثبات دون الإستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء

وكل من الطائفتين نفاة الجسم ومثبتية موجودون في الشيعة وفي أهل السنة المقابلين للشيعة أعنى الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة

وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم كذا نقل ابن حزم وغيره

قال أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين اختلاف الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق

فالفرقة الأولى الهشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد طويل عريض عميق طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه لا يوفى بعضه على بعض وزعموا أنه نور ساطع له قدر من الأقدار في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسمة وذكر كلاما طويلا

والفرقة الثانية من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون البارئ ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف

والفرقة الثالثة من الرافضة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسما

والفرقة الرابعة من الرافضة الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحما ودما ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضا وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وفم وعين وأنه يسمع بغير ما به يبصر وكذلك سائر حواسه متغايره عندهم

قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود

والفرقة الخامسة يزعمون أن لرب العالمين ضياء خالصا ونورا بحتا وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان

قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج

قال أبو الحسن الأشعري وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكيناه عنهم من التشبيه

قلت وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن قدماء الشيعة من القول بالتجسيم قد اتفق على نقله عنهم أرباب المقالات حتى نفس الشيعة كابن النوبختى وغيره ذكر ذلك عن هؤلاء الشيعة

وقال أبو محمد بن حزم وغيره أول من قال في الإسلام إن الله جسم هشام ابن الحكم وكان الذين يناقضونه في ذلك المتكلمين من المعتزل كأبي الهذيل العلاف

فالجهمية والمعتزلة أول من قال إن الله ليس بجسم

فكل من القولين قاله قوم من الإمامية ومن أهل السنة الذين ليسوا بإمامية

وإثبات الجسم قول محمد بن كرام وأمثاله ممن يقول بخلافة الخلفاء الثلاثة والنفى قول أبي الحسن الأشعري وغيره ممن يقول بخلافة الخلفاء الثلاثة وقول كثير من أتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم

فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول إن القرآن غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة

وهذا الرافضي يعنى المصنف جعل أهل السنة بالإصطلاح الأول وهو اصطلاح العامة كل من ليس برافضي قالوا هو من أهل السنة ثم أخذ ينقل عنهم مقالات لا يقولها إلا بعضهم مع تحريفه لها فكان في نقله من الكذب والإضطراب ما لا يخفى على ذوي الألباب

وإذا عرف أن مراده بأهل السنة السنة العامة فهؤلاء متنازعون في إثبات الجسم ونفيه كما تقدم والإمامية أيضا متنازعون في ذلك

وأئمة النفاة هم الجهمية من المعتزلة ونحوهم يجعلون من أثبت الصفات مجسما بناء عندهم على أن الصفات لا تقوم إلا بجسم ويقولون إن الجسم مركب من الجواهب المفردة أو من المادة والصورة

فقال لهم أهل الإثبات قولكم منقوض بإثبات الأسماء الحسنى فإن الله حي عليم قدير فإن أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم وإن لم يمكن إثبات ذلك فما كان جوابكم عن إثبات الأسماء كان جوابنا عن إثبات الصفات

ثم المثبتون للصفات منهم من يثبت الصفات المعلومة بالسمع كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل وهذا قول أهل السنة الخاصة أهل الحديث ومن وافقهم وهو قول أئمة الفقهاء وقول أئمة الكلام من أهل الإثبات كأبي محمد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي عبدالله بن مجاهد وأبي الحسن الطبري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أئمة أصحابه لكن المتأخرون من أتباعه كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما

ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه فهؤلاء يقولون تأويلها بما يقتضى نفيها تأويل باطل فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة

وقد ذكر الأشعري ذلك في عامة كتبه كالموجز والمقالات الكبير والمقالات الصغير والإبانة وغير ذلك ولم يختلف في ذلك كلامه لكن طائفة ممن توافقه وممن تخالفه يحكون له قولا آخر أو تقول أظهر غير ما أبطن وكتبه تدل على بطلان هذين الظنين

وأما القول الثالث وهو القول الثابت عن أئمة السنة المحضة كالإمام أحمد وذويه فلا يطلقون لفظ الجسم لا نفيا ولا إثباتا لوجهين أحدهما أنه ليس مأثورا لا في كتاب ولا سنة ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين فصار من البدع المذمومة

الثاني أن معناه يدخل فيه حق وباطل فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل

وملخص ذلك أن الذين نفوه أصل قولهم أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام فقالوا الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عنهما فإنه لا يخلو عن حادث لأن الحركة حادثة شيئا بعد شيء والسكون إما عدم الحركة وإما ضد يقابل الحركة وبكل حال فالجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون والسكون يمكن تبديله بالحركة فكل جسم يقبل الحركة فلا يخلو منها أو مما يقابلها فإن كان لا يخلو منها كما تقوله الفلاسفة في الفلك فإنه حادث وإن كان لا يخلو مما يقابلها فإن يقبل الحركة وما قبل الحركة أمكن أن لا يخلو منها فأمكن أن لايخلو من الحوادث وما أمكن لزوم دليل الحدوث له كان حادثا فإن الرب تعالى لا يجوز أن يلزمه دليل الحدوث

ثم منهم من اكتفى بقوله ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فإن ما لا يخلو عنها لا يسبقها فلا يكون قبلها وما لا يكون إلا مقارنا للحادث لا قبله ولا يكون إلا حادثا

وكثير من الكتب المصنفة لا يوجد فيها إلا هذا وأما حذاق هؤلاء فتفطنوا للفرق بين عين الحادث ونوع الحادث فإن المعلوم أن ما لا يسبق الحادث المعين فهو حادث وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهذا لا يعلم حدوثه وإن لم يعلم امتناع دوام الحوادث وأن لها ابتداء وأنه يمتنع تسلسل الحوادث ووجود حوادث لا أول لها فصار الدليل موقوفا على امتناع حوادث لا أول لها

وهذا الموضع هو المهم الأعظم في هذا الدليل وفيه كثر الإضطراب والتبس الخطأ بالصواب وآخرون سلكوا أعم من هذا فقالوا الجسم لا يخلو عن الأعراض والأعرض حادثة لا تبقى زمانين

ومنهم من يقول الجسم لا يخلو عن نوع من أنواع الأعراض لأنه قابل له والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده

ومنهم من قال الجسم لا يخلو عن الإجتماع والإفتراق والحركة والسكون وهذه الأنواع الأربعة هي الأكوان فالجسم لا يخلو عن الأكوان

والكلام في هذه الطرق ولوازمها كثير قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه

وهذا الكلام وإن كان أصله من المعتزلة فقد دخل في كلام المثبتين للصفات حتى في كلام المنتسبين إلى السنة الخاصة المنتسبين إلى الحديث والسنة وهو موجود في كلام كثير من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم

وهذا من الكلام الذي بقى على الأشعري من بقايا كلام المعتزلة فإنه خالف المعتزلة لما رجع عن مذهبهم في أصولهم التي اشتهروا فيها بمخالفة أهل السنة كإثبات الصفات والرؤية وأن القرآن غير مخلوق وإثبات القدر وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث وذكر في كتاب المقالات أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث

وذكر في الإبانةأنه يأتم بقول الإمام أحمد قال فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين

وقال فإن قال قائل قد أنكرتم قول الجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة واحتج في ضمن ذلك بمقدمات سلمها للمعتزلة مثل هذا الكلام فصارت المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام يقولون إنه متناقض في ذلك

وكذلك سائر أهل السنة والحديث يقولون إن هذا تناقض وإن هذه بقية بقيت عليه من كلام المعتزلة

وأصل ذلك هو هذا الكلام وهو موجود في كلام كثير من أصحاب أحمد والشافعي ومالك وكثير من هؤلاء يخالف الأشعري في مسائل وقد وافقه على الأصل الذي ترجع إليه تلك المسائل فيقول الناس في تناقضه كما قالوه في تناقض الأشعري وكما قالوه في تناقض المعتزلة وتناقض الفلاسفة فما من طائفة فيها نوع يسير من مخالفة السنة المحضة والحديث إلا ويوجد في كلامها من التناقض بحسب ذلك وأعظمهم تناقضا أبعدهم عن السنة كالفلاسفة ثم المعتزلة والرافضة

فلما أعتقد هؤلاء أنهم أثبتوا بهذا الدليل حدوث الجسم لزم انتفاء ذلك عن الله لأن الله قديم ليس بمحدث فقالت المعتزلة ما قامت به الصفات فهو جسم لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم فنفت الصفات ونفت أيضا قيام الأفعال الإختيارية به لأنها أعراض ولأنها حوادث فقالت القرآن مخلوق لأن القرآن كلام وهو عرض ولأنه يفتقر إلى الحركة وهي حادثة فلا يقوم إلا بجسم

وقالت أيضا إنه لا يرى في الآخرة لأن العين لا ترى إلا جسما أو قائما بجسم

وقالت ليس هو فوق العالم لأن ذلك مقام مكان والمكان لا يكون به إلا جسم أو ما يقوم بجسم

وهذا هو المذهب الذي ذكره هذا الإمامي وهو لم يبسط الكلام فيه فلذا اقتصرنا على هذا القدر إذا الكلام على ذلك مبسوط في موضع آخر

فقالت مثبتة الصفات للمعتزلة أنتم تقولون إن الله حي عليم قدير وهذا لا يكون إلا جسما فإن طردتم قولكم لزم أن يكون الله جسما وإن قلتم بل يسمى بهذه الأسماء من ليس بجسم قيل لكم وتثبت هذه الصفات لمن ليس بجسم

وقالوا لهم أيضا إثبات حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر بلا قدرة مثل إثبات أسود بلا سواد وأبيض بلا بياض وقائم بلا قيام ومصل بلا صلاة ومتكلم بلا كلام وفاعل بلا فعل وهذا مما يعلم فساده لغة وعقلا

وقالوا لهم أيضا أنتم تعلمون أنه حي عالم قادر وليس كونه حيا هو كونه عالما ولا كونه عالما هو كونه قادرا

فهذه المعاني التي تعقلونها وتثبتونها هي الصفات سواء سميتموها أحكاما أو أحوالا أو معاني أو غير ذلك فليس الاعتبار بالألفاظ بل بالمعاني المعقولة

ومن تدبر كلام أئمة المعتزلة والشيعة والفلاسفة نفاة الصفات وجدهم في غاية التناقض كما تقول الفلاسفة إنه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق

ثم يقولون هذا المعنى هو هذا المعنى وإن العالم هو العلم فيجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ويجعلون الموصوف هو الصفة

وأيضا فما يشنع به هؤلاء على أهل السنة هم يقولون به بغير اختيارهم ومن تدبر كلام أبي الحسين البصري وأمثاله من أئمة المعتزلة وجد المعاني التي يثبتها هي قول الصفاتية لكن ليس هذا موضع بسط ذلك إذ الكلام هنا مختصر بحسب هذا المقام وقد نبهنا

على أن أهل السنة يقولون بالحق مطلقا وأنه ما من قول يثبت بشرع وعقل إلا وقد قال به أئمة أهل السنة وهذا هو المقصود في هذا المقام

الوجه السادس

أن يقال لهذا الإمامي أنت قلت مذهب الإمامية أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل لأنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وليس بجسم ولا مكان وإلا لكان محدثا

وقد تبين أن أكثر متقدمي الإمامية كانوا بضد هذا كهشام بن الحكم وهشام بن سالم ويونس بن عبدالرحمن القمى مولى آل يقطين وزراة بن أعين وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وطوائف كثيرين هم أئمة الإمامية قبل المفيد والطوسي والموسوي والكراجكي

وقد تقدم أن هذا قول قدماء الإمامية فإن قول المعتزلة إنما حدث فيهم متأخرا وحينئذ فليست الإمامية كلها على ما ذكرته ثم إن كان ما ذكرته هو الصواب فشيوخ الإمامية المتقدمون على غير الصواب وإن كان خطأ فشيوخهم المتأخرون على هذا الخطأ فقد لزم بالضرورة أن شيوخ الإمامية ضلوا في التوحيد إما متقدموهم وإما متأخروهم

الوجه السابع

أن يقال أنت ذكرت اعتقادا ولم تذكر عليه دليلا لا شرعيا ولا عقليا ولا ريب أن الرافضة أجهل وأضل وأقل من أن يناضروا علماء السنة لكن يناظر بعضهم بعضا كما يتناظرون دائما في المعدوم هل هو شيء أو ليس بشيء

فيقال لهذا الإمامي النافي أنت لم تقم حجة على شيوخك الإمامية القائلين بأن الله في مكان دون مكان وأنه يتحرك وأنه تقوم به الحوادث

قال الأشعري

واختلفت الروافض في حملة العرش أيحملون العرش أم يحملون البارئ عز وجل وهم فرقتان فرقة يقال لها اليونسية أصحاب يونس بن عبدالرحمن القمى مولى آل يقطين يزعمون أن الحملة يحملون البارى واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكركي وأن رجليه تحملانه وهما دقيقتان

وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والبارئ يستحيل أن يكون محمولا

قال الأشعري

واختلف الروافض في القول بأن الله عالم حي قادر سميع بصير إله وهم تسع فرق

فالفرقة الأولى منهم الزرارية أصحاب زرارة بن أعين الرافضي يزعمون أن الله لم يزل غير سميع ولا عليم ولا بصير حتى خلق ذلك لنفسه وهم يسمون التيمية ورئيسهم زرارة بن أعين

والفرقة الثانية منهم السيابية أصحاب عبدالرحمن بن سيابة يقفون في هذه المعاني ويزعمون أن القول فيها ما يقول جعفر كائنا قوله ما كان ولا يعرفون في هذه الأشياء قولا

والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن الله تعالى لا يوصف بأنه لم يزل إلها قادرا ولا سميعا بصيرا حتى يحدث الأشياء لأن الأشياء التي كانت قبل أن تكون ليست بشيء ولن يجوز أن يوصف بالقدرة لا على شيء وبالعلم لا بشيء وكل الروافض إلا شرذمة قليلة يزعمون أن الله يريد الشيء ثم يبدو له فيه

قال والفرقة الرابعة من الروافض يزعمون أن الله لم يزل لا حيا ثم صار حيا

والفرقة الخامسة من الروافض وهم أصحاب شيطان الطاق يزعمون أن الله عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها فأما قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها لا لأنه ليس بعالم وكلن الشيء لا يكون شيئا حتى يقدره ويشيئه بالتقدير والتقدير عندهم الإرادة

قال والفرقة السادسة من الرافضة

أصحاب هشام بن الحكم يزعمون أنه محال أن يكون الله لم يزل عالما بالأشياء بنفسه وأنه إنما يعلم الأشياء بعد أن لم يكن بها عالما وأنه يعلمها بعلم وأن العلم صفة له ليست هي هو ولا هي غيره ولا بعضه فلا يجوز أن يقال العلم محدث أو قديم لأن العلم صفة والصفة لا توصف قال ولو كان لم يزل عالما لكانت المعلومات لم تزل لأنه لا يصح عالم إلا بمعلوم موجود قال ولو كان عالما بما يفعله عباده لم تصح المحنة والاختبار

قال

وقال هشام في سائر صفات الله كقدرته وحياته وسمعه وبصره وإرادته إنها صفات الله لا هي الله ولا غير الله وقد اختلف عنه في القدرة والحياة فمنهم من يحكى عنه أنه كان يقول إن البارئ لم يزل قادرا حيا ومنهم من ينكر أن يكون قال ذلك

قال

والفرقة السابعة من الرافضة لا يزعمون أن البارئ عالم في نفسه كما قال شيطان الطاق ولكنهم يزعمون أن الله لا يعلم الشيء حتى يؤثر أثره والتأثير عندهم الإرادة فإذا أراد الشيء علمه وإذا لم يرده لم يعلمه ومعنى أراد عندهم أنه تحرك حركة هي إرادة فإذا تحرك علم الشيء وإلا لم يجز الوصف له بأنه عالم به

قال والفرقة الثامنة من الرافضة يزعمون أن معنى أن الله يعلم أنه يفعل فإن قيل لهم أتقولون إن الله سبحانه لم يزل عالما بنفسه اختلفوا فمنهم من يقول لم يزل لا يعلم بنفسه حتى فعل العلم لأنه قد كان ولما يفعل ومنهم من يقول لم يزل يعلم بنفسه فإن قيل لهم فلم يزل يفعل قالوا نعم ولا نقول بقدم الفعل

قال

ومن الرافضة من يزعم أن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون إلا أعمال العباد فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها

قال والفرقة التاسعة من الرافضة يزعمون أن الله تعالى لم يزل عالما حيا قادرا ويميلون إلى نفى التشبيه ولا يقرون بحدوث العلم ولا بما حكيناه من التجسيم وسائر ما أخبرنا به من التشبيه عنهم

قال

واختلف الروافض في إرادة الله سبحانه وهم أربع فرق

فالفرقة الأولى منهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراد

والفرقة الثانية منهم أبو مالك الحضرمي وعلى بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله غيره وهي حركة الله كما قال هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك

والفرقة الثالثة منهم القائلون بالاعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله لتكوين الشيء هو الشيء وإرادته لأفعال العباد هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم يأبون أن يكون الله أراد المعاصي فكانت

والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن الله أراد فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها

قلت القول الثالت هو قول متأخري الشيعة كالمفيد وأتباعه الذين اتبعوا المعتزلة وهم طائفة صاحب هذا الكتاب والقول الأول قول البصريين من المعتزلة والثاني قول البغداديين فصار هؤلاء الشيعة على قول المعتزلة

فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن قدماء الرافضة ثم الرافضة حرموا الصواب في هذا الباب كما حرموه في غيره فقدماؤهم يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا

وأئمة المسلمين من أهل بيت رسول الله وغيرهم متفقون على القول الوسط المغاير لقول أهل التمثيل وقول أهل التعطيل وهذا مما يبين مخالفة الرافضة لأئمة أهل بيت رسول الله في أصول دينهم كما هم مخالفون لأصحابه بل ولكتاب الله وسنة رسوله

وهذا لأن مبنى مذهب القوم على الجهل والكذب والهوى وهم وإن كانوا يدعون اتباع الأئمة الإثنى عشر في الشرائع فلو قدر من يجوز له التقليد إماما من أئمة أهل البيت كعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وأمثالهم لكان ذلك سائغا جائزا عند أهل السنة لم تقل أهل السنة إنه لا يجوز لمن يجوز له التقليد تقليد هؤلاء وأمثالهم بل أهل السنة متفقون على أن تقليد الواحد من هؤلاء وأمثالهم كتقليد أمثالهم يسوغ هذا لمن يسوغ له ذلك

وأكثر علماء السنة على أن التقليد في الشرائع لا يجوز إلا لمن عجز عن الاستدلال هذا منصوص الشافعي وأحمد وعليه أصحابهما وما حكى عن أحمد من تجويز تقليد العالم للعالم غلط عليه ولكن هذا القول حكى عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قيل عنه يجوز تقليد الأعلم وقيل العالم

وهذا النزاع إذا لم يكن تبين له القول الموافق للكتاب والسنة فإن تبين له ما جاء به الرسول لم يجز له التقليد في خلافه باتفاق المسلمين وأما تقليد العاجز عن الاستدلال فيجوزه الجمهور ومنع منه طائفة من أهل الظاهر

وجمهور علماء المسلمين على أن القدرة على الاجتهاد والاستدلال مما ينقسم ويتبعض فقد يكون الرجل قادرا على الاجتهاد والاستدلال في مسألة أو نوع من العلم دون الآخر وهذا حال أكثر علماء المسلمين لكن يتفاوتون في القوة والكثرة فالأئمة المشهورون أقدر على الاجتهاد والاستدلال في أكثر مسائل الشرع من غيرهم وأما أن يدعى أن واحدا منهم قادر على أن يعرف حكم الله في كل مسألة من الدين بدليلها فمن ادعى هذا فقد ادعى ما لا علم له به بل ادعى ما يعرف أنه باطل

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57