فصل

قال الرافضي الثاني ما رووه عن النبي أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر والجواب المنع من الرواية ومن دلالتها على الإمامة فإن الإقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة وأيضا فإن أبا بكر وعمر قد اختلفا في كثير من الأحكام فلا يمكن الإقتداء بهما وأيضا فإنه معارض لما رووه من قوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم

والجواب من وجوه

أحدها أن يقال هذا الحديث بإجماع أهل العلم بالحديث أقوى من النص الذي يروونه في إمامة علي فإن هذا أمر معروف في كتب أهل الحديث المعتمدة ورواه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده والترمذي في جامعه

وأما النص على علي فليس في شيء من كتب أهل الحديث المعتمدة وأجمع أهل الحديث على بطلانه حتى قال أبو محمد بن حزم وما وجدنا قط رواية عن أحد في هذا النص المدعى إلا رواية واهية عن مجهول إلى مجهول يكنى أبا الحمراء لا نعرف من هو في الخلق فيمتنع أن يقدح في هذا الحديث مع تصحيح النص على علي

وأما الدلالة فالحجة في قوله باللذين من بعدي أخبر أنهما من بعده وأمر بالإقتداء بهما فلو كانا ظالمين أو كافرين في كونهما بعده لم يأمر بالإقتداء بهما فإنه لا يأمر بالإقتداء بالظالم فإن الظالم لا يكون قدوة يؤتم به بدليل قوله لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة فدل على أن الظالم لا يؤتم به والائتمام هو الإقتداء فلما أمر بالإقتداء بمن بعده والاقتداء هو الائتمام مع إخباره أنهما يكونان بعده دل على أنهما إمامان قد أمر بالائتمام بهما بعدت وهذا هو المطلوب

وأما قوله اختلفا في كثير من الأحكام فليس الأمر كذلك بل لا يكاد يعرف اختلاف أبي بكر وعمر إلا في الشيء اليسير والغالب أن يكون عن أحدهما فيه روايتان كالجد مع الإخوة فإن عمر عنه فيه روايتان إحداهما كقول أبي بكر

وأما اختلافهما في قسمة الفيء هل يسوى فيه بين الناس أو يفضل فالتسوية جائزة بلا ريب كما كان النبي يقسم الفيء والغنائم فيسوى بين الغانمين ومستحقي الفيء

والنزاع في جواز التفضيل وفيه للفقهاء قولان هما روايتان عن أحمد والصحيح جوازه للمصلحة فإن النبي كان يفضل أحيانا في قسمة الغنائم والفيء وكان يفضل السرية في البدأة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس فما فعله الخليفتان فهو جائز مع أنه قد روى عن عمر أنه أختار في آخر عمره التسوية وقال لئن عشت إلى قابل لأجعل الناس بابا واحدا

وروى عن عثمان التفضيل وعن علي التسوية ومثل هذا لا يسوغ فيه إنكار إلا أن يقال فضل من لا يستحق التفضيل كما أنكر على عثمان في بعض قسمه وأما تفضيل عمر فما بلغنا أن أحدا ذمه فيه

وأما تنازعهما في تولية خالد وعزله فكل منهما فعل ما كان أصلح فكان الأصلح لأبي بكر تولية خالد لأن أبا بكر ألين من عمر فينبغي لنائبه أن يكون أقوى من نائب عمر فكانت استنابة عمر لأبي عبيدة أصلح له واستنابة أبي بكر لخالد أصلح له ونظائر هذا متعددة وأما الأحكام التي هي شرائع كلية فاختلافهما فيها إما نادر وإم معدوم وإما لأحدهما فيه قولان

وأيضا فيقال النص يوجب الإقتداء بهما فيما اتفقا عليه وفيما اختلفا فيه فتسويغ كل منهما المصير إلى قول الآخر متفق عليه بينهما فإنهما اتفقا على ذلك

وأيضا فإذا كان الإقتداء بهما يوجب الإئتمام بهما فطاعة كل منهما إذا كان إماما وهذا هو المقصود وأما بعد زوال إمامته فالإقتداء بهما أنهما إذا تنازعا رد ما تنازعا فيه إلى الله والرسول

وأما قوله أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا الحديث ضعيف ضعفه أهل الحديث قال البزار هذا حديث لا يصح عن رسول الله وليس هو في كتب الحديث المعتمدة

وأيضا فليس فيه لفظ بعدي والحجة هناك قوله بعدي

وأيضا فليس فيه الأمر بالإقتداء بهم وهذا فيه الأمر بالإقتداء بهم

فصل

قال الرافضي الثالث ما ورد فيه من الفضائل كآية الغار وقوله تعالى وسيجنبها الأتقى سورة الليل 17 وقوله قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد سورة الفتح 16 والداعي هو أبو بكر وكان أنيس رسول الله في العريش يوم بدر وأنفق على النبي وتقدم في الصلاة

قال والجواب أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره

وأيضا فإن الآية تدل على نقيضه لقوله لا تحزن فإنه يدل على خوره وقله صبره وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضا بمساواته النبي وبقضاء الله وقدره ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة

وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع ولا نقص أعظم منه

وأما وسيجنبها الأتقى فإن المراد أبو الدحداح حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره وقد عرض النبي على صاحب النخلة نخلة في الجنة فأبى فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار فجعل النبي عوضها له بستانا في الجنة

وأما قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد سورة الفتح 16 يريد سندعوكم إلى قوم فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله قل لن تتبعونا سورة الفتح 15 لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ثم قال قل للمخلفين من الأعراب ستدعون سورة الفتح 16 يريد سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولى بأس شديد وقد دعاهم رسول الله إلى غزوات كثيرة كمؤتة وحنين وتبوك وغيرهما فكان الداعي رسول الله

وأيضا جاز أن يكون علي هو الداعي حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما لقوله عليه الصلاة والسلام يا علي حربك حربي وحرب رسول الله كفر

وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه لأن النبي كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس لكن لما عرف النبي أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرات في غزواته وإنما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل الله

وأما إنفاقه على رسول الله فكذب لأنه لم يكن ذا مال فإن أباه كان فقيرا في الغاية وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمد كل يوم يقتات به فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه وكان أبو بكر في الجاهلية معلما للصبيان وفي الإسلام كان خياطا ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال والنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الهجرة غنيا بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر ألبتة شيء ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن كما نزل في علي هل أتى سورة الإنسان ومن المعلوم أن النبي أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمين والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر فحيث لم ينزل فيه قرآن دل على كذب النقل

وأما تقديمه في الصلاة فخطأ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر ولما أفاق النبي سمع التكبير فقال من يصلي بالناس فقالوا أبو بكر. فقال أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة

قال الرافضي فهذه حال أدلة القوم فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتباع الحق دون اتباع الهوى ويترك تقليد الآباء والأجداد فقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذلك ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق إلى مستحقه ولا يمنح المستحق عن حقه فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة

والجواب أن يقال في هذا الكلام من الأكاذيب والبهت والفرية ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوى من اليهود فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

وظهور فضائل شيخي الإسلام أبي بكر وعمر أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل وغيرهما فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق ولهم نصيب من قوله تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه فمن أظلم ممن افترى الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون سورة يونس 17 ونحو هذه الآيات

فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديق بالكذب وليس في الإمة من يماثلهم في ذلك

أما قوله لا فضيلة في الغار

فالجواب أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه كما قال لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى سورة طه 4وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال نظرت إلى إقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما

وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه يقول إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 4

والمعية في كتاب الله على وجهين عامة وخاصة فالعامة كقوله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض في سنة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم الآية سورة الحديد 4 وقوله ألم تر أن الله يعلم ما في السموات والأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما علموا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم سورة المجادلة فهذه المعية عامة لكل متناجين وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق

ولما أخبر سبحانه في المعية أنه رابع الثلاثة وسادس الخمسة قال النبي : ما ظنك باثنين الله ثالثهما فإنه لما كان معهما كان ثالثهما كما دل القرآن على معنى الحديث الصحيح وإن كان هذه معية خاصة وتلك عامة

وأما المعية الخاصة فكقوله تعالى لما قال لموسى وهارون لا تخافا انني معكما اسمع وأرى سورة طه 46 فهذا تخصيص لهما دون فرعون وقومه فهو مع موسى وهارون دون فرعون

وكذلك لما قال النبي لأبي بكر: لا تحزن إن الله معنا كان معناه إن الله معنا دون المشركين الذين يعادونهما ويطلبونهما كالذين كانوا فوق الغار ولو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصر ما تحت قدميه

وكذلك قوله تعالى إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل 128 فهذا تخصيص لهم دون الفجار والظالمين وكذلك قوله تعالى إن الله مع الصابرين سورة البقرة 153 تخصيص لهم دون الجازعين

وكذلك قوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي الآية سورة المائدة 12

وقال إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سورة الأنفال 1وفي ذكره سبحانه للمعية عامة تارة وخاصة أخرى ما يدل على أنه ليس المراد بذلك أنه بذاته في كل مكان أو أن وجوده عين وجود المخلوقات ونحو ذلك من مقالات الجهمية الذين يقولون بالحلول العام والاتحاد العام أو الوحدة العامة لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان بل هو في الحشوش على هذا القول وأجواف البهائم كما هو فوق العرش فإذا أخبر أنه مع قوم دون قوم كان هذا مناقضا لهذا المعنى لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان بل هو في الحشوش على هذا القول كما هو فوق العرش

والقرآن يدل على اختصاص المعية تارة وعمومها أخرى فعلم أنه ليس المراد بلفظ المعية اختلاطه

وفي هذا أيضا رد على من يدعى أن ظاهر القرآن هو الحلول لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص

فيقال له قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ وذلك لوجوه

أحدها أن لفظ مع في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال، كقوله تعالى محمد رسول الله والذين معه سورة الفتح 29 لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته

وقوله اتقوا الله وكونوا مع الصادقين سورة التوبة 11وكذلك قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الانفال 7وكذلك قوله عن نوح وما آمن معه إلا قليل سورة هود 043وقوله عن نوح أيضا فأنجيناه والذين معه في الفلك الآية سورة الأعراف 6وقوله عن هود فأنجيناه والذين معه برحمة منا سورة الأعراف 7وقول قوم شعيب لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا سورة الأعراف 8وقوله إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين الآية سورة النساء 14وقوله وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين سورة الأنعام 6وقوله ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم سورة المائدة 53

وقوله ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم سورة الحشر 1وقوله عن نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم سورة هود 4وقوله وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين سورة الأعراف 43وقوله فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين سورة التوبة 83

وقوله رضوا بأن يكونوا مع الخوالف سورة التوبة 8وقال لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة 8ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي

وإذا كان لفظ مع إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى

فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين أحدهما أن هذا ليس معناها في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور فكان الظهور منتفيا من كل وجه

الثاني أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى

الثاني أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص

الثالث أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية كما قال تعالى في آية المجادلة ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله كل شيء عليم سورة المجادلة 7 فافتتحها بالعلم وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية

وهكذا فسرها السلف الإمام أحمد ومن قبله من العلماء كابن عباس والضحاك وسفيان الثوري

وفي آية الحديد قال ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ننزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير سورة الحديد 4 فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله

كما قال النبي في حديث الأوعال، والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وهو من العباد أينما كانوا يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير

وأما قوله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل 128 فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون

وكذلك قوله لموسى وهارون إننس معكما أسمع وأرى سورة طه 46 فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره نحن معك اي معاونوك وناصروك على عدوك

وكذلك قول النبي لصديقه: إن الله معنا يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر

وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق

والمقصود هنا أن قول النبي لأبي بكر: إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم فيكون النبي قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدونا ويعيننا عليهم

ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة كما قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا سورة غافر 51 وهذا غاية المدح لأبي بكر إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضى نصر الله له مع رسوله وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضى نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة 4ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر

وكذلك قوله: ما ظنك باثنين الله ثالثهما بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي محمد رسول الله فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون وخليفة رسول الله فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا لقوله إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون أمير المؤمنين فانقطع الاختصاص الذي امتازه به أبو بكر عن سائر الصحابة

ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص فيقال صحبة ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبة عمره كله

وقد قال تعالى والصاحب بالجنب سورة النساء 36 قيل هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته وتكثر وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة سورة الأنعام 10ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عبدوس بن مالك عنه من صحب النبي سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه

وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت وفي ذلك خلاف ضعيف

والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى من صحب النبي فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم وهذا لفظ مسلم وله في رواية أخرى

يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاني فيقولون هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثالث فيقال انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله فيقولون نعم ثم يكون البعث الرابع فيقال هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أصحاب رسول الله فيوجد الرجل فيفتح لهم به ولفظ البخاري ثلاث مرات كالرواية الأولى لكن لفظه: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس وكذلك قال في الثانية والثالثة وقال فيها كلها صحب واتفقت الروايات على ذكر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الثلاثة وأما القرن الرابع فهو في بعضها وذكر القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه

كما في الصحيحين عن أبن مسعود قال قال رسول الله : خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته

وفي الصحيحين عن عمران أن النبي قال: إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أقال رسول الله بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون وفي رواية ويحلفون ولا يستحلفون فقد شك عمران في القرن الرابع

وقوله يشهدون ولا يستشهدون حمله ظائفة من العلماء على مطلق الشهادة حتى كرهوا أن يشهد الرجل بحق قبل أن يطلب منه المشهود له إذا علم الشهادة وجمعوا بذلك بين هذا وبين قوله: ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها

وقال طائفة أخرى إنما المراد ذمهم على الكذب أي يشهدون بالكذب كما ذمهم على الخيانة وترك الوفاء فإن هذه من آيات النفاق التي ذكرناها في قوله

آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان أخرجاه في الصحيحين

وأما الشهادة بالحق إذا أداها الشاهد لمن علم أنه محتاج إليها ولم يسأله ذلك فقد قام بالقسط وأدى الواجب قبل أن يسأله وهو أفضل ممن لا يؤديه إلا بالسؤال كمن له عند غيره أمانة فأدها قبل أن يسأله أداءها حيث يحتاج إليها صاحبها وهذا أفضل من أن يحوج صاحبها إلى ذل السؤال وهذا أظهر القولين

وهذا يشبه اختلاف الفقهاء في الخصم إذا ادعى ولم يسأل الحاكم سؤال المدعي عليه هل يسأله الجواب والصحيح أنه يسأله الجواب ولا يحتاج ذلك إلى سؤال المدعي لأن دلالة الحال تغني عن السؤال ففي الحديث الأول هل فيكم من رأى رسول الله ثم قال هل فيكم من رأى من صحب رسول الله فدل على أن الرائي هو الصاحب وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله ثم يكون المراد بالصاحب الرائي

وفي الرواية الثانية هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله ثم يقال في الثالثة هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله

ومعلوم إن كان الحكم لصاحب الصاحب معلقا بالرؤية ففي الذي صحب رسول الله بطريق الأولى والأخرى

ولفظ البخاري قال فيها كلها صحب وهذه الألفاظ إن كانت كلها من ألفاظ رسول الله فهي نص في المسألة وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل أبي سعيد يروي اللفظ بالمعنى فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله

وأيضا فإن كان لفظ النبي رأى فقد حصل المقصود وإن كان لفظه صحب في طبقة أو طبقات فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة والعرف فيها مختلف

والنبي لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر بل علق الحكم بمطلقها ولا مطلق لها إلا الرؤية

وأيضا فإنه يقال صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال

ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال قد صحبه ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي من الكفار والمنافقين فإنهم لم يروه من قصده أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له فيما أخبر المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء

وامتاز أبو بكر عن سائر المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحبا له بهذا الاعتبار

ودليل ثان ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: وددت أني رأيت إخواني قالوا يا رسول الله أولسنا إخوانك قال: بل أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني

ومعلوم أن قوله إخواني أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي وأما أنتم فلكم مزية الصحبة ثم قال: قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني فجعل هذا حدا فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه فدل على أن من آمن به ورآه فهو من أصحابه لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه

فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها وأدناها أن يصحبه زمنا قليلا فمعلوم أن الصديق في ذروة سنام الصحبة وأعلى مراتبها فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات وقد أجمع الناس على أنه أول من آمن به من الرجال الأحرار كما أجمعوا على أن أول من آمن به من النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد خديجة فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي فقد ثبت أنه أسبق صحبة كما كان أسبق إيمانا وإن كان علي أسلم قبله فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه فإنه شاركه في الدعوة فأسلم على يديه أكابر أ 6 هل الشورى كعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وكان يدفع عنه من يؤذيه ويخرج معه إلى القبائل ويعينه في الدعوة وكان يشتري المعذبين في الله كبلال وعمار وغيرهما فإنه اشترى سبعة من المعذبين في الله فكان أنفع الناس له في صحبته مطلقا

ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة من وجوه أحدها أنه كان أدوم اجتماعا به ليلا ونهارا وسفرا وحضرا كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمض علينا يوم إلا ورسول الله يأتينا فيه طرفي النهار

فكان النبي في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار والإسلام إذا ذاك ضعيف والأعداء كثيرة وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة

وأيضا فكان أبو بكر يسمر عند النبي بعد العشاء يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه

وأيضا فكان النبي إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى وربما تكلم غيره وربما لم يتكلم غيره فيعمل برأيه وحده فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه

فالأول كما في الصحيحين أنه شاور أصحابه في أسارى بدرفتكلم أبو بكر فروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال لما أسر الأسارى يوم بدر قال رسول الله لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر هم بنو العم والعشيرة فأرى أن تقبل منهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فقال عمر لا والله يا رسول الله ما أرى ما رأى أبو بكر ولكن أن تمكننا فنضرب أعناقهم تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه وتمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وأشار ابن رواحة بتحريقهم فاختلف أصحابه فمنهم من يقول الرأي ما رأى أبو بكر ومنهم من يقول الرأي ما رأى عمر ومنهم من يقول الرأي ما رأى ابن رواحة قال فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وذكر تمام الحديث

وأما الثاني ففي يوم الحديبية لما شاورهم على أن يغير على ذرية الذين أعانوا قريش أو يذهب إلى البيت فمن صده قاتله والحديث معروف عند أهل العلم أهل التفسير والمغازي والسير والفقه والحديث رواه البخاري ورواه أحمد في مسنده حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال قال الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل منهما صاحبه قالا خرج رسول الله زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله الهدى وأشعره وأحرم بعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريب من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال إني قد تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش قال أحمد وقال يحيى بن سعيد عن ابن المبارك قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي : أشيروا علي أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر الله ورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه قال النبي : فروحوا إذا قال الزهري وكان أبو هريرة يقول ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله قال الزهري حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق

ومن هنا رواه البخاري من طريق ورواه في المغازي والحج

وقال الزهري في حديث المسور الذي اتفق عليه أحمد والبخاري حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي إن خالد ابن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس حل حل فألحت فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء فقال النبي : ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبث الناس أن نزحوه وشكوا إلى رسول الله العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فو الله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ونفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله من أهل تهامة وفي لفظ لأحمد مسلمهم ومشركهم فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحدينية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول الله : إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين فإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره قال بديل سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم لا حاجةلنا أن تخبرنا عنه بشئ وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول قال سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال رسول الله فقام عروة بن مسعود فقال أي قوم ألستم بالوالد قالوا بلى قال أولست بالولد قالوا بلى قال فهل تتهموني قالوا لا قال ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني قالوا بلى قال فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه ودعوني آته قالوا اءته فأتاه فجعل يكلم النبي فقال النبي له نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت أحدا من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ولفظ أحمد خلقاء أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه فقال من ذا قالوا أبو بكر قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبي فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة قائم على رأس رسول الله ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى رسول الله ضرب يده بنعل السيف ويقول أخر يدك عن لحية رسول الله فرفع عروة رأسه فقال من ذا قالوا المغيرة بن شعبة قال أي غدر أو لست أسعى في غدرتك وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي : أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شئ ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا عظيما قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم بنخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من كنانة دعوني آته فقالوا ائته فلما أشرف على النبي وأصحابه قال النبي : هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله ما ينبغي لهذا أن يصد عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصد عن البيت فقام رجل يقال له مرز بن حفص فقال دعوني آته فلما أشرف عليهم قال النبي : هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي فبينما هو يكلمه جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي : قد سهل لكم من أمركم قال معمر عن الزهري في حديثه فجاء سهيل فقال له هات اكتب بيننا وبينك كتابا فدعا النبي الكاتب فقال النبي : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل أما الرحمن فما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كماكنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي : اكتب باسمك اللهم ثم قال: هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله قال الزهري وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها قال النبي على أن تخلوا بيننا وبين المسجد الحرام نطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذاك من العام المقبل فكتب وقال سهيل وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي قال فقال النبي : إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لا أصالحك على شئ أبدا قال النبي : فأجزه لي قال ما أنا مجيزه قال: بلى فافعل قال ما أنا بفاعل قال مكرز بلى قد أجزناه لك قال أبو جندل أي معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت وقد كان عذب عذابا شديدا في الله فقال عمر فأتيت النبي فقلت ألست نبي الله حقا قال: بلى قال قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال: بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال: إني رسول الله ولست آعصيه وهو ناصري قلت أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال: فأخبرتك أنك آتيه العام قلت لا قال: فإنك آتيه ومطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزة فوالله إنه على الحق قلت أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر فعملت لذلك أعمالا قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقىمن الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار إلى قوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر سورة الممتحنة 10 فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية ثم رجع النبي إلى المدينة فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضرب به حتى برد وفر الآخر حتى آتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي حين رآه لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير رضي الله عنه فقال يا نبي الله قد وفى بذمتك فلقد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم فقال النبي : ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل رضي الله عنه فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة قال فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي إليهم وأنزل الله عزا وجل وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة سورة الفتح 24 حتى بلغ حمية الجاهلية سورة الفتح 26 وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت رواه البخاري عن عبد الله بن محمد المسندي عن عبد الرازق ورواه أحمد عن عبد الرازق وهو أجل قدرا من المسندي شيخ البخاري فما فيه من زيادة هي أثبت مما في البخاري

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي وبين المشركين يوم الحديبية فكتب هذا ماكاتب عليه محمد رسول الله فقالوا لا تكتب رسول الله لو نعلم أنك نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك فقال النبي لعلي: امحه فقال ما أنا بالذي أمحوه قال فمحاه النبي بيده قال وكان فيما اشترطوا عليه أن يدخلوا فيقيموا بها ثلاثا ولا يدخلوا بسلاح إلا جلبان السلاح قال شعبة قلت لأبي إسحاق وما جلبان السلاح قال القراب وما فيه

وفي الصحيحين عن أبي وائل قال قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس اتهموا أنفسكم وفي لفظ اتهموا رأيكم على دينكم لقد كنا مع رسول الله يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله وبين المشركين وجاء عمر فأتى رسول الله فقال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال: بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال: بلى قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بننا وبينهم قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا قال فانطلق عمر فلم يصبر متغيضا فأتى أبا بكر فقال يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل قال بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم فقال يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا قال فنزل القرآن على رسول الله بالفتح فأرسل إلى عمر: فأقرأه إياه فقال يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم.

وفي لفظ مسلم فطابت نفسه ورجع

وفي لفظ لمسلم أيضا أيها الناس اتهموا رأيكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته

وفي رواية والله ورسوله أعلم والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا ما نسد منه خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له يعني يوم صفين

وقال ذلك سهل يوم صفين لما خرجت الخوارج على علي حين أمر بمصالحة معاوية وأصحابه

وهذه الأخبار الصحيحة هي باتفاق أهل العلم بالحديث في عمرة الحديبية تبين اختصاص أبي بكر بمنزلة من الله ورسوله لم يشركه فيها أحد من الصحابه لا عمر ولا علي ولا غيرهما وأنه لم يكن فيهم أعظم إيمانا وموافقة وطاعة لله ورسوله منه ولا كان فيهم من يتكلم بالشورى قبله

فإن النبي كان يصدر عن رأيه وحده في الأمور العظيمة وإنه كان يبدأ بالكلام بحضرة النبي معاونة لرسول الله كما كان يفتي بحضرته وهو يقره على ذلك ولم يكن هذا لغيره

فإنه لما جاء النبي جاسوسه الخزاعي وأخبره أن قريشا قد جمعوا له الأحابيش وهي الجماعات المستجمعة من قبائل والتحبش التجمع وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت استشار أصحابه أهل المشورة مطلقا هل يميل إلى ذراري الأحابيش أو ينطلق إلى مكة فلما أشار عليه أبو بكر أن لا يبدأ أحدا بالقتال فإنا لم نخرج إلا للعمرة لا للقتال فإن منعنا أحد من البيت قاتلناه لصده لنا عما قصدنا لا مبتدئين له بقتال قال النبي : روحوا إذا ثم إنه لما تكلم عروة بن مسعود الثقفي وهو من سادات ثقيف وحلفاء قريش مع النبي كما تقدم وأخذ يقول له عن أصحابه إنهم أشواب أي أخلاط وفي المسند أوباش يفرون عنك ويدعوك قال له الصديق رضي الله عنه امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه فقال له عروة ولما يجاوبه عن هذه الكلمة لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة

ولهذا قال من قال من العلماء إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة وليس من الفحش المنهى عنه

كما في حديث أبي بن كعب عن النبي قال من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضموه هن أبيه ولا تكنوا رواه أحمد فسمع أبي بن كعب رجلا يقول يا فلان فقال اعضض أير أبيك فقيل له في ذلك فقال بهذا أمرنا رسول الله

ثم إنه لما صالح النبي قريشا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين وفعله النبي طاعة لله وثقة بوعده له وأن الله سينصره عليهم واغتاظ من ذلك جمهور الناس وعز عليهم حتى على مثل عمر وعلي وسهل بن حنيف ولهذا كبر عليه علي رضي الله عنه لما مات تبيينا لفضله على غيره يعني سهل بن حنيف فعلي أمره النبي أن يمحو اسمه من الكتاب فلم يفعل حتى أخذ النبي الكتاب ومحاه بيده

وفي صحيح البخاري أنه قال لعلي: امح رسول الله قال لا والله لا أمحوك أبدا فأخذ رسول الله الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله

وسهل بن حنيف يقول لو استطعت أن أرد أمر رسول الله لرددته وعمر يناظر النبي ويقول إذا كنا على الحق وعدونا على الباطل وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار وأنت رسول الله حقا فعلام نعطي الدنية في ديننا ثم إنه عن ذلك وعمل له أعمالا

وأبو بكر أطوعهم لله ورسوله لم يصدر عنه مخالفة في شئ قط بل لما ناظره عمر بعد مناظرته للنبي أجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي من غير أن يسمع جواب رسول الله

وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك فأين مقامه من مقام غيره هذا يناظره ليرده عن أمره وهذا يأمره ليمحو اسمه وهذا يقول لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته وهو يأمر الناس بالحلق والنحر فيتوقفون

ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها

لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي والشرع على الهوى فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله وشرعه وليس له معارضته برأيه وهواه

كما قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري فبين أنه رسول الله يفعل ما أمره به مرسله لا يفعل من تلقاء نفسه وأخبر أنه يطيعه لا يعصيه كما يفعل المتبع لرأيه وهواه وأخبر أنه ناصره فهو على ثقة من نصر الله فلا يضره ما حصل فإن في ضمن ذلك من المصلحة وعلو الدين ماظهر بعد ذلك وكان هذا فتحا مبينا في الحقيقة وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس بل رأى ذلك ذلا وعجزا وغضاضة وضيما

ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك رضي الله عنهم كما في الحديث رجوع عمر وكذلك في الحديث أن سهل بن حنيف اعترف بخطئه حيث قال والله ورسوله أعلم وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم فأمرهم أن يتهموا رأيهم على دينهم فإن الرأي يكون خطأ كما كان رأيهم يو الحديبية خطأ وكذلك علي الذي لم يفعل ما أمره به والذين لم يفعلوا ما أمروا به من الحلق والنحر حتى فعل هو ذلك قد تابوا من ذلك والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات

والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس وإلا فهم خير الخلق وأفضل الناس وأعظمهم علما وإيمانا وهم الذين بايعوا تحت الشجرة وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار

ولاعتبار في الفضائل بكمال النهاية لا بنقص البداية وقد قص الله علينا من توبة أنبيائه وحسن عاقبتهم وما آل إليه أمرهم من علي الدرجات وكرامة الله لهم بعد أن جرت لهم أمور ولا يجوز أن يظن بغضهم لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية

وهكذا السابقون الأولون من ظن بغضهم لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية كما ذكر فهو جاهل لكن المطلوب أن الصديق أكمل القوم وأفضلهم وأسبقهم إلى الخيرات وأنه لم يكن فيهم من يساويه

وهذا أمر بين لا يشك فيه إلا من كان جاهلا بحالهم مع الرسول أو كان صاحب هوى صده اتباع هواه عن معرفة الحق وإلا فمن كان له علم وعدل لم يكن عنده في ذلك شك كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك بل كانوا مطبقين على تقديم الصذيق وتفضيله على من سواه كما اتفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهو مذهب مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وداود وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والليث وأصحابه وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدق

ومن ظن أن مخالفة من خالف أمر الرسول يوم الحديبية أو غيره لم تكن من الذنوب التي تجب التوبة منها فهو غالط كما قال من أخذ يعتذر لمن خالف أمره عذرا يقصد به رفع الملام بأنهم إنما تأخروا عن النحر والحلق لأنهم كانوا ينتظرون النسخ ونزول الوحي بخلاف ذلك

وقول من يقول إنما تخلف من تخلف عن طاعته إما تعظيما لمرتبته أن يمحو اسمه أو يقول مراجعة من راجعه في مصالحة المشركين إنما كانت قصدا لظهور أ الإيمان على الكفر ونحو ذلك

فيقال الأمر الجازم من الرسول الذي أراد به الإيجاب موجب لطاعته باتفاق أهل الإيمان وإنما نازع في الأمر المطلق بعض الناس لاحتمال أنه ليس بجازم أراد به الإيجاب وأما مع ظهور الجزم والإيجاب فلم يسترب أحد في ذلك

ومعلوم أن أمره بالنحر والحلق كان جازما وكان مقتضاه الفعل على الفور بدليل أنه ردده ثلاثا فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس وروى أنه غضب وقال: مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يتبع

وروي أنه قال ذلك لما أمرهم بالتحلل في حجة الوداع

ومعلوم أن الأمر بالتحلل بهذه العمرة التي أحصروا فيها كان أوكد من الأمر بالتحلل في حج الوداع

وأيضا فإنه كان متحاجا إلى محو اسمه من الكتاب ليتم الصلح ولهذا محاه بيده والأمر بذلك كان جازما والمخالف لأمره إن كان متأولا فهو ظان أن هذا لا يجب لما فيه من قلة احترام الرسول أو لما فيه من انتظار العمرة وعدم إتمام ذلك الصلح فحسب المتأول أن يكون مجتهدا مخطئا فإنه مع جزم النبي وتشكيه ممن لم يمتثل أمره وقوله

مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر ولا أتبع لا يمكن تسويغ المخالفة لكن هذا مما تابوا منه كما تابوا من غيره

فليس لأحد أن يثبت عصمة من ليس بمعصوم فيقدح بذلك في أمر المعصوم كما فعل ذلك في توبة من تاب وحصل له بالذنب نوع من العقاب فأخذ ينفى على الفعل ما يوجب الملام والله قد لامه لوم المذنبين فيزيد تعظيم البشر فيقدح في رب العالمين

ومن علم أن الاعتبار بكمال النهاية وأن التوبة تنقل العبد إلى مرتبة أكمل مما كان عليه علم أن ما فعله الله بعباده المؤمنين كان من أعظم نعمه الله عليهم

وأيضا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي من أكابر الصحابة إلا واحد كان يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبو بكر ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر

وهذا الاختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي وأما من كان جاهلا أحوال النبي أو كذابا فذلك يخاطب خطاب مثله

فقوله تعالى في القرآن إذ يقول لصاحبه لا تحزن سورة التوبة 40 لا يختص بمصاحبته في الغار بل هو صاحبه المطلق الذي كمل في الصحبة كمالا لم يشركه فيه غيره فصار مختصا بالأكملية من الصحبة

كما في الحديث رواه البخاري عن أبي الدرداء عن النبي أنه قال: أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه فإنه لم يسؤني قط أيها الناس إني راض عن عمر وعثمان وعلي وفلان وفلان

فقد تبين أن النبي خصه دون غيره مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضا لكن خصه بكمال الصحبة

ولهذا قال من قال من العلماء إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره

ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي فليتدبر الأحاديث الصحيحة التى صححها أهل العلم بالحديث الذين كملت خبرتهم بحال النبي ومحبتهم له وصدقهم في التبليغ عنه وصار هواهم تبعا لما جاء به فليس لهم غرض إلا معرفة ما قاله وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين

كأصحاب الصحيح مثل البخاري ومسلم والإسماعيلي والبرقاني وأبي نعيم والدارقطني ومثل صحيح ابن خزيمة وابن منده وأبي حاتم البستي والحاكم

وما صححه أئمة أهل الحديث الذين هم أجل من هؤلاء أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين مثل مالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وابن المبارك وأحمد وابن معين وابن المديني وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وخلائق لا يحصى عددهم إلا الله تعالى

فإذا تدبر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم عرف الصدق من الكذب فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك وأشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب وأعظمهم ذبا عن رسول الله فهم المهاجرون إلى سنته وحديثه والأنصار له في الدين يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس وينفون عنه ما كذبه الكذابون وغلط فيه الغالطون ومن شركهم في علمهم علم ما قالوه وعلم بعض قدرهم وإلا فليسلم القوس إلى باريها كما يسلم إلى الأطباء طبهم وإلى النحاة نحوهم وإلى الفقهاء فقههم وإلى أهل الحساب حسابهم مع أن جميع هؤلاء قد يتفقون على خطأ في صناعتهم إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل فلا يجوز أن يتفقوا على التصديق بكذب ولا على التكذيب بصدق بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نهيه أو تحليله أو تحريمه

ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة وهي خصائص مثل حديث المخالة وحديث إن الله معنا وحديث إنه أحب الرجال إلى النبي وحديث الإتيان إليه بعده وحديث كتابة العهد إليه بعده وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة وتركه له وهو قوله

فهل أنتم تاركولي صاحبي وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج وصبره وثباته بعد موت النبي وانقياد الأمة له وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة وأمثال ذلك

ثم له مناقب يشركه فيها عمر كشهادته بالإيمان له ولعمر وحديث علي حيث يقول كثيرا ما كنت أسمع النبي يقول خرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وحديث استقائه من القليب وحديث البقرة التي يقول فيها النبي : أومن بها أنا وأبو بكر وعمر وأمثال ذلك

وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحها قوله يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله في غزوة تبوك: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ومنها دخوله في المباهلة وفي الكساء ومنها قوله: أنت مني وأنا منك وليس في شيء من ذلك خصائص وحديث: لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ومنها ما تقدم من حديث الشورى وإخبار عمر أن النبي توفي وهو راض عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن

فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث ليس فيها ما يختص به ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثا أكثرها خصائص

وقول من قال صح لعلي من الفضائل مالم يصح لغيره كذب لا يقول أحمد ولا غيره من أئمة الحديث لكن قد يقال روي له ما لم يرو لغيره لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه ودليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة خير من عشرين دليلا مقدماتها ضعيفة بل باطلة وهي معارضة بأصح منها يدل على نقيضها

والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها فإنه لو أحصى الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة لوجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم لا أقول ضعفه

وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد

وأما كمال معرفته ومحبته للنبي وتصديقه له فهو مبرز في ذلك على سائرهم تبريزا باينهم فيه مباينه لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته

وأما نفعه للنبي ومعاونته له على الدين فكذلك

فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يفضلوا بها على غيرهم لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد

ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي إذا أقبل أبو بكر آخذا بطرق ثوبه حتى أبدي عن ركبتيه فقال النبي : أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته ان يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر قالوا لا فأتى النبي فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه وقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال رسول الله : إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها

وفي رواية كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى النبي الحديث قال وغضب النبي وفيه: إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت

فهذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله: فهل أنتم تاركو لي صاحبي وبين فيه من أسباب ذلك أن الله لما بعثه إلى الناس قال: إني رسول الله إليكم جميعا قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت فهذا يبين فيه أنه لم يكذبه قط وأنه صدقه حين كذبه الناس طرا

وهذا ظاهر في أنه صدقه قبل أن يصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة وهذا حق فإنه أول ما بلغ الرسالة فآمن

وهذا موافق لما رواه مسلم عن عمرو بن عبسة قلت يا رسول الله من معك على هذا الأمر قال: حر وعبد ومعه يومئذ أبو بكر وبلال وأما خديجة وعلي وزيد فهؤلاء كانوا من عيال النبي وفي بيته وخديجة عرض عليها أمره لما فجأه الوحي وصدقته ابتداء قبل أن يؤمر بالتبليغ وذلك قبل أن يجب الإيمان به فإنه إنما يجب إذا بلغ الرسالة فأول من صدق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليا إلى الإيمان لأن عليا كان صبيا والقلم عنه مرفوع

ولم ينقل أن النبي أمره بالإيمان وبلغه الرسالة قبل يأمر أبا بكر ويبلغه ولكنه كان في بيت النبي فيمكن أنه آمن به لما سمعه يخبر خديجة وإن كان لم يبلغه فإن ظاهر قوله: يا أيها الناس إني أتيت اليكم فقلت إني رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت كما في الصحيحين يدل على أن كل من بلغه الرسالة كذبه أولا إلا أبا بكر

ومعلوم أن خديجة وعليا وزيدا كانوا في داره وخديجة لم تكذبه فلم تكن داخله فيمن بلغ

وقوله في حديث عمرو بن عبسة قلت يا رسول الله من معك على هذا الأمر قال: حر وعبد

والذي في صحيح مسلم موافق لهذا أي اتبعه من المبلغين المدعوين ثم ذكر قوله: وواساني بنفسه وماله وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد

وقد ذكر هذا النبي في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي جلس على المنبر فقال: إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال فكان رسول الله هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال رسول الله : إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أنا بكر خليلا ولكن غخوة الإسلام لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر وفي رواية للبخاري لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته وفي رواية إلا خلة الاسلام وفيه قد فعجبنا له وقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا وفي رواية: وبين ما عنده فاختار ما عنده وفيه فقال: لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر

وروى البخارى من حديث ابن عباس قال خرج النبي في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنه ليس أحد من الناس أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلالاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر

وفي رواية: لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته ولكن أخوة الإسلام أفضل

وفي رواية: ولكن أخي وصاحبي

ورواه البخاري عن ابن الزبير قال قال رسول الله : لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته يعني أبا بكر

ورواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي أنه قال: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا

وفي رواية لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لأتخذت ابن أبي قحافة ولكن صاحبكم خليل الله

وفي أخرى: ألا إني إبرأ كل خل من خله ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله

فهذه النصوص كلها مما تبين اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام بها وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق لو كانت المخالة ممكنة

وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه وأفضلهم عنده كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص أن النبي بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك قال: عائشة قلت فمن الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر وعد رجالا وفي رواية للبخاري

قال فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم

فصل

ومما يبين من القرآن فضيلة أبو بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة 40 أي أخرجوه في هذه القلة من العدد لم يصحبه إلا الواحد فإن الواحد أقل ما يوجد فإذا لم يصحبه إلا واحد دل على أنه في غاية القلة

ثم قال إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة 40 وهذا يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبا له ناصرا له حيث حزن وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه

فلو كان أبو بكر مبغضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن بل كان يضمر الفرح والسرور ولا كان الرسول يقول له لا تحزن إن الله معنا

فإن قال المفتري إنه خفي على الرسول حاله لما أظهر له الحزن وكان في الباطن مبغضا

قيل له فقد قال: إن الله معنا فهذا إخبار بأن الله معهما جميعا بنصره ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم ويجعل ذلك في الباطن منافقا فإنه معصوم في خبره عن الله لا يقول عليه إلا الحق وإن جاز أن يخفى عليه حال بعض الناس فلا يعلم أنه منافق كما قال وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سورة التوبة 101 فلا يجوز أن يخبر عنهم بما يدل على إيمانهم

ولهذا لما جاءه المخلفون عام تبوك فجعلوا يحلفون ويعتذرون وكان يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لا يصدق أحدا منهم فلما جاء كعب وأخبره بحقيقة أمره قال: أما هذا فقد صدق أو قال صدقكم

وأيضا فإن سعد بن أبي وقاص لما قال للنبي أعطيت فلانا وفلانا وتركت فلانا وهو مؤمن قال أو مسلم مرتين أو ثلاثا فأنكر عليه إخباره بالإيمان ولم يعلم منه إلا ظاهر الإسلام، فكيف يشهد لأبي بكر بأن الله معهما وهو لا يعلم ذلك والكلام بلا علم لا يجوز

وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له لا إخبار منكر له فعلم أن قوله إن الله معنا من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما أنكره وعابه

وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم ويطلبون قتله وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره وقد أظهر له هذا حزنه وهو مع ذلك عدو له في الباطن والمصحوب يعتقد أنه وليه وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم

فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة

ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي وكان عدوه ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث وقد برأ الله رسوله منها لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال كان قليل العقل

ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول

فصل

ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله : لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري فالنبي يقول لخالد ونحوه لا تسبوا اصحابي يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم

وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيرا كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله

والمقصود هنا أنه نهى لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولا لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه

فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه

وقوله لا تسبوا أصحابي قد ثبت في الصحيحين من غير وجه منها ما تقدم ومنها ما أخرجوه في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله : لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه

فصل

وأما قول الرافضي يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه

والجواب أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها

أحدها أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته فبطل هذا

الثاني أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي مؤمنا به من أعظم الخلق اختصاصا به أعظم مما تواتر من شجاعة عنترة ومن سخاء حاتم ومن موالاة علي ومحبته له ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد

والشك في محبة أبي بكر كالشك في غير وأشد ومن الرافضة من ينكر كون أبي عمر مدفونين في الحجرة النبوية وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار وليس هذا من بهتانهم ببعيد فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات

ولهذا قال من قال لو قيل من أجهل الناس لقيل الرافضة حتى فرضها بعض الفقهاء مسألة فقهية فيما إذا أوصى لأجهل الناس قال هم الرافضة لكن هذه الوصية باطلة فإن الوصية باطلة فإن الوصية والوقف لا يكونان معصية بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق فهو كما لو أوصى لأكفر الناس أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق فإن هذا لا يصح

وكون أبي بكر كان مواليا للنبي أعظم من غيره أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وثالثهما عمر لكن لم يكن عمر مطلعا على سرهما كله كما وقعت دعوة الإسماعيلية الباطنية والقرامطة فكان كل من كان أقرب إلى إمامهم كان أعلم بباطن الدعوة وأكتم لباطنها من غيره

ولهذا جعلوهم مراتب فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن أبا بكر أعظم موالاة واختصاصا بالنبي من غيره جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره

فمن قال إنه كان في الباطن عدوه كان من أعظم أهل الأرض فرية ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي وقيل له إنه كان في الباطن معاديا للنبي وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا وكان مراده إهلاك الباقين لكن عجز وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر

فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة والحجة على معاداته باطلة فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة والحجة على معاداته أولى بالبطلان

الوجه الثالث أن قوله استصحبه حذرا من أن يظهر أمره، كلام من هو من أجهل الناس بما وقع فأن أمر النبي في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة وأرسلوا الطلب فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتى بأبي بكر فأي شيء كان يخاف وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتى بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك

الرابع أنه إذا كان خرج ليلا كان وقت الخروج لم يعلم به أحد فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه

فإن قيل فلعله علم خروجه دون غيره

قيل أولا قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به كما خرج في وقت لم يشعر به المشركون وكان يمكنه أن لا يعينه

فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة فلم يأذن له حتى هاجر معه والنبي أعلمه بالهجرة في خلوة

ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا فقال لعازب أبعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه فقال أبي يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي قال نعم سرينا ليلتنا كلها ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي في ظلها ثم بسطت عليه فروة ثم قلت نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام رسول الله في ظلها وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فلقيته فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل المدينة يريد مكة لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت له أفي غنمك لبن فقال نعم قلت أفتحلب لي قال نعم فأخذ شاة فقلت له انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن قال ومعي إداوة أرتوى فيها لرسول الله ليشرب منها ويتوضأ قال فأتيت النبي وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب حتى رضيت ثم قال: ألم يأن للرحيل قلت بلى فارتحلنا بعد ما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض فقلت: يا رسول الله أتينا فقال لا تحزن إن الله معنا فدعا عليه رسول الله فارتطمت فرسه إلى بطنها فقال إني قد علمت أنكما دعوتما علي فادعوا لله لي فالله لكما أن أرد عنكما اطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ماهنا ولا يلقى أحدا إلا رده وقال خذ سهما من كنانتي فإنك قمر بإبلي وغلماني فخذ منها حاجتك فقال: لا حاجة لي في أبلك قال فقدمنا المدينة فتنازعوا أيهم ينزل عليه فقال رسول الله : أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله

وروى البخاري عن عائشة قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر قال أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي قال ابن الدغنة إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فاعبد ربك ببلدك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجل يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره ثم بدا لأبي بكر فأبتني بفناء داره مسجدا وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فتنقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا قد أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإلا فإن أبي إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك جوارك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسول الله يومئذ بمكة فقال رسول الله : قد أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر إلى المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال النبي : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو لخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداه أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي لأبي بكر: أخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال: فإني قد أذن لي في الخروج قال أبو بكر الصحابة يا رسول الله قال نعم قال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله بالثمن قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر هو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت ولا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من الليل فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة ابن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي ثم خرجت به من ظهر البيت فحططت بزحة الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أرده فآخذ المائة ناقة أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله

الوجه الخامس أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك فكان يمكنه أن يعلمهم بخبره

السادس أنه إذا كان كذلك والعدو قد جاء إلى الغار ومشوا فوقه كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار وينذر العدو به وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا عند الغار وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما والقدرة تامة وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي أو انتفاء القدرة والقدرة موجودة فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه

ومن هؤلاء المفترين من يقول إن أبا بكر كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم على النبي فلدغته حيه فردها حتى كفت عنه الألم وأن النبي قال له إن نكثت نكث يدك وإنه نكث بعد ذلك فمات منها وهذا يظهر كذبه من وجوده نبهنا على بعضها ومنهم من قال أظهر كعبه ليشعروا به فلدغته الحية وهذا من نمط الذي قبله

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57