الوجه السادس أن يقال مثل هذا الكلام إما أن يقوله من يريد الطاعة ويعلم أنها تنفعه أو من لا يريدها ولا يعلم أنها تنفعه وكلاهما يمتنع منه أن يقول مثل هذا الكلام أما الأول فمن أراد الطاعة وعلم أنها تنفعه أطاع قطعا إذا لم يكن عاجزا فإن نفس الإرادة الجازمة للطاعة مع القدرة توجب الطاعة فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور فإذا كانت الطاعة بالتكلم بالشهادتين فمن أراد ذلك إرادة جازمة فعله قطعا لوجود القدرة والداعي التام ومن لم يفعله علم أنه لم يرده وإن كان لا يريد الطاعة فيمتنع أن يطلب من الرسول أن يخلقها الله فيه فإنه إذا طلب من الرسول أن يخلقها الله فيه كان مريدا لها فلا يتصور أن يقول مثل ذلك إلا مريد ولا يكون مريدا للطاعة المقدورة إلا ويفعلها

وهذا يظهر بالوجه السابع وهو ان يقال أنت متمكن من الإيمان قادر عليه فلو أردته فعلته وإنما لم تؤمن لعدم إرادتك له لا لعجزك وعدم قدرتك عليه وقد بينا أن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل في المطيع والعاصي وتكون موجودة مع الأمر في المطيع بخلاف المختصة بالمطيع فإنها لا توجد إلا مع الفعل

وقد بيينا أن من جعل القدرة نوعا واحدا إما مقارنا للفعل وإما سابقا عليه فقد أخطأ هذا إذا عني بأحد النوعين مجموع ما يستلزم الفعل كما هو إصطلاح كثير من النظار وأما إذا لم يرده بالقدرة إلا المصحح فهي نوع واحد

فإن للناس في القدرة هل هي مع الفعل أو قبله عدة أقوال أحدها أنها لا تكون إلا مع الفعل وهذا بناء على أنها المستلزمة للفعل وتلك لا تكون إلا معه وقد يبنونه على أن القدرة عرض والعرض لا يبقى زمانين

والثاني أنها لا تكون إلا قبله بناء على أنها المصححة فقط وأنها لا تكون مقارنة

الثالث أنها تكون قبله ومعه وهذا أصح الأقوال ثم من هؤلاء من يقول القدرة نوعان مصححة ومستلزمة فالمصححة قبله والمستلزمة معه

ومنهم من يقول بل القدرة هي المصححة فقط وهي تكون معه وقبله وأما الاستلزام فإنما يحصل بوجود الإرادة مع القدرة لا بنفس ما يسمى قدرة والإرادة ليست جزءا من مسمى القدرة وهذا القول هو الموافق للغة القرآن بل ولغات سائر الأمم هو أصح الأقوال

وحينئذ فنقول أنت قادر متمكن خلق فيك القدرة على الإيمان ولكن أنت لا تريد الإيمان فإن قال له قل له يجعلني مريدا للإيمان قال له إن كنت تطلب منه ذلك فأنت مريد للإيمان وإن لم تطلب ذلك فأنت كاذب في قولك قل له يجعلني مريدا للإيمان فإن قال فكيف تأمرني بما لم يجعلني مريدا له لم يكن هذا طلبا للإرادة بل كان هذا مخاصمة وهذا ليس على الرسول جوابه بل ولا في ترك جوابه انقطاع فإن القدر ليس لأحد أن يحتج به

الوجه الثامن أن يقال كل من دعاه غيره إلى فعل وأمره به فلا يخلو أن يكون مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وإرادتهم وأنهم لا يفعلون إلا ما شاءه أو لا يكون مقرا بذلك بل يقول إنهم يفعلون ما لا يشاؤه وهم يحدثون إرادات أنفسهم بلا إرادته

فإن كان من القسم الأول فهو يقر بأن كل ظالم له أو لغيره قد خلقت إرادته للظلم فظلمه وهو لا يعذر الظالم في ذلك فيقال له أنت مقر بأن مثل هذا ليس بحجة لمن خالف ما أمر به كائنا ما كان فلا يسوغ لك الاحتجاج به وإن كان منكرا للقدر امتنع أن يحتج بهذا فثبت أن الاحتجاج بالقدر لإفحام الرسل لا يسوغ لا على قول هؤلاء ولا على قول هؤلاء

فإن قال قائل المدعي ليس له مذهب يعتقده بل هو ساذج

قيل له هب ان الأمر كذلك ففي نفس الأمر إما أن يكون الحق قول هؤلاء وإما أن يكون قول هؤلاء وعلى التقديرين فالاحتجاج بالقدر باطل فثبت بطلان الاحتجاج به باتفاق الطائفتين المثبتة والنفاة

الوجه التاسع أن يقال مقصود الرسالة هوالإخبار بالعذاب لمن كذب وعصى كما قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى سورة طه 4وحينئذ فإذا قال هو خلق في الكفر ولم يخلق في إرادة الإيمان

قيل له هذا لا يناقض وقوع العذاب بمن كذب وتولى فإن كان لم يخلق فيك الإيمان فأنت ممن يعاقبه وإن جعلك مؤمنا فأنت ممن يسعده ونحن رسل مبلغون لك منذرون لك فقد حصل مقصود الرسول وبلغ البلاغ المبين وإنما المكلف يخاصم ربه حيث أمره بما لم يعنه عليه وهذا لا يتعلق بالرسول ولا يضره والله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون

الوجه العاشر أن يقال هذا السؤال وارد على هذا المصنف وعلى غيره من محققي المعتزلة والرافضة الذين اتبعوا أبا الحسين البصري حيث قال إنه مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور وذلك أن الله خلق الداعي في العبد وقول أبي الحسين ومتبعيه في القدر وهو قول محققي أهل السنة الذين يقولون إن الله خلق قدرة العبد وإرادته وذلك مستلزم لخلقه فعل العبد ويقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلا له محدثا له وهذا قول جماهير أهل السنة من جميع الطوائف وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي والجويني الملقب بإمام الحرمين وغيرهما

وإذا كان هذا قول محققي المعتزلة والشيعة وهو قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بقي الخلاف بين القدرية الذين يقولون إن الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيئة من الله ولا قدرة وبين الجهمية المجبرة الذين يقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه وأن العبد ليس فاعلا لفعله كما يقول ذلك الجهم بن صفوان إمام المجبرة ومن اتبعه وإن أثبت أحدهم كسبا لا يعقل كما أثبته الأشعري ومن وافقه وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدرية النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة ويجعل فيهم داعيا إليها ويختصهم بذلك دون الكافرين وبين المجبرة الغلاة الذين يقولون إن العباد لا يفعلون شيئا ولا قدرة لهم على شيء أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئا ولا تأثير لها في شيء فكلا القولين باطل مع أن كثيرا من الشيعة يقولون بقول المجبرة

وأما السلف والأئمة القائلون بإمامة الخلفاء الثلاثة فلا يقولون لا بهذا ولا بهذا فتبين ان قول أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة هو الصواب وأن من أخطأ من أتباعهم في شيء فخطأ الشيعة أعظم من خطئهم

وهذا السؤال إنما يتوجه على من يسوغ الاحتجاج بالقدر ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصى بكون هذا مقدرا علي ويرى أن شهود هذا هو شهود الحقيقة أي الحقيقة الكونية وهؤلاء كثيرون في الناس وفيهم من يدعى أنه من الخاصة العارفين أهل التوحيد الذين فنوا في توحيد الربوبية ويقول إن العارف إذا فنى في شهود توحيد الربوبية لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة ويقول بعضهم من شهد الإرادة سقط عنه الأمر ويقول بعضهم الخضر إنما سقط عنه التكليف لأنه شهد الإرادة وهذا الضرب كثير في متأخري الشيوخ والنساك والصوفية والفقراء بل وفي الفقهاء والامراء والعامة

ولا ريب أن هؤلاء شر من المعتزلة والشيعة الذين يقرون بالأمر والنهي وينكرون القدر وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنة فإن من أقر بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرمات ولم يقل إن الله خلق أفعال العباد ولا يقدر على ذلك ولا شاء المعاصي هو قد قصد تعظيم الامر وتنزيه الله عن الظلم وإقامة حجة الله على نفسه لكن ضاق عطنه فلم يحسن الجمع بين قدرة الله التامة ومشيئته العامة وخلقه الشامل وبين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده فجعل لله الحمد ولم يجعل له تمام الملك

والذين أثبتوا قدرته ومشيئته وخلقه وعارضو بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شر من اليهود والنصارى كما قال هذا المصنف فإن قولهم يقتضي إفحام الرسل ونحن إنما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلا وأما الحق فعلينا أن نقبله من كل قائل وليس لأحد أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلا بباطل والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة فالمحتجون به على الأمر أعظم بدعة وإن كان أولئك يشبهون المجوس فهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين للرسل الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء

وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين جماعة من هؤلاء القدرية وأما المحتجون بالقدر على الأمر فلا تعرف لهم طائفة

من طوائف المسلمين معروفة وإنما كثروا في المتأخرين وسموا هذا حقيقة وجعلوا الحقيقة تعارض الشريعة ولم يميزوا بين الحقيقة الدينية الشرعية التي تتضمن تحقيق أحوال القلوب كالإخلاص والصبر والشكر والتوكل والمحبة لله وبين الحقيقة الكونية القدرية التي يؤمن بها ولا يحتج بها على المعاصي لكن يسلم إليها عند المصائب

فالعارف يشهد القدر في المصائب فيرضى ويسلم ويستغفر ويتوب من الذنوب والمعايب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك سورة غافر 55 فالعبد مأمور بأن يصبر على المصائب ويستغفر من المعايب

ومن هذا الباب حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام قد أخرجاه في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه وروي بإسناد جبر عن عمر رضي الله عنه عن النبي قال احتج آدم وموسى وفي لفظ أن موسى قال يا رب أرني آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته فقال موسى يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده فبكم تجد فيها مكتوبا وعصى آدم ربه فغوى قبل أن أخلق قال بأربعين سنة قال فحج آدم موسى فحج آدم موسى

فهذا الحديث ظن فيه طوائف أن آدم احتج بالقدر على الذنب وأنه حج موسى بذلك فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان يحتجون بالقدر على الذنوب مستدلين بهذا الحديث وطائفة يقولون الاحتجاج بهذا سائغ في الآخرة لا في الدنيا وطائفة يقولون هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة وطائفة كذبت هذا الحديث كالجبائي وغيره وطائفة تأولته تأويلات فاسدة مثل قول بعضهم إنما حجة لأنه كان

قد تاب وقول آخر كان أباه والابن لا يلوم أباه وقول بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى

وهذا كله تعريج عن مقصود الحديث فإن الحديث إنما تضمن التسليم للقدر عند المصائب فإن موسى لم يلم آدم لحق الله الذي في الذنب وإنم لامه لأجل ما لحق الذرية من المصيبة ولهذا قال أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة وقال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة وهذا روي في بعض طرق الحديث وإن لم يكن في جميعها

وهو حق فإن آدم كان قد تاب من الذنب وموسى أعلم بالله من أن يلوم تائبا وهو أيضا قد تاب حيث قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي سورة القصص 16 وقال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف وقال فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك سورة الأعراف 155 156 وأيضا فإن المذنبين من الآدميين كثير فتخصيص آدم باللون دون الناس لا وجه له

وأيضا فآدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما على الذنب بالقدر ويقبله الآخر فإن هذا لو كان مقبولا لكان لإبليس الحجة بذلك أيضا ولقوم نوح وعاد وثمود وفرعون

وإن كان من احتج على موسى بالقدر لركوب الذنب قد حجه ففرعون أيضا يحجه بذلك وإن كان آدم إنما حج موسى لأنه رفع اللوم عن المذنب لأجل القدر فيحتج بذلك عليه إبليس من امتناعه من السجود لآدم وفي الحقيقة هذا إنما هو احتجاج على الله وهؤلاء هم خصماء الله القدرية الذين يحشرون يوم القيامة إلى النار حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد

والآثار المروية في ذم القدرية تتناول هؤلاء أعظم من تناولها المنكرين للقدر تعظيما وتنزيها عن الظلم ولهذا يقرنون القدرية بالمرجئة لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد وكذلك هؤلاء القدرية تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده ومن فعل هذا كان ملعونا في كل شريعة كما روي لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا

والخائضون في القدر بالباطل ثلاثة أصناف المكذبون به والدافعون للأمر والنهي به والطاعنون على الرب عز وجل بجمعه بين الأمر والقدر وهؤلاء شر الطوائف ويحكى في ذلك مناظرة عن إبليس والدافعون به للأمر بعدهم في الشر والمكذبون به بعد هؤلاء وأنت إذا رأيت تغليظ السلف على المكذبين بالقدر فإنما ذاك لأن الدافعين للأمر لم يكونوا يتظاهرون بذلك ولم يكونوا موجودين كثيرين وإلا فهم شر منهم كما أن الروافض شر من الخوارج في الاعتقاد ولكن الخوارج أجرأ على السيف والقتال منهم فلإظهار القول ومقاتلة المسلمين عليه جاء فيهم ما لا يجيء فيمن هم من جنس المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم

فتبين أن آدم احتج على موسى بالقدر من جهة المصيبة التي لحقته ولحقت الذرية والمصيبة تورث نوعا من الجزع يقتضي لوم من كان سببها فتبين له أن هذه المصيبة وسببها كان مقدورا مكتوبا والعبد مأمور أن يصبر على قدر الله ويسلم لأمر الله فإن هذا من جملة ما أمره الله به كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه سورة التغابن قالت طائفة من السلف كابن مسعود هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم

فهذا الكلام الذي قاله هذا المصنف وأمثال هذا الكلام يقال لمن احتج بالقدر على المعاصي ثم يعلم أن هذه الحجة باطلة بصريح العقل عند كل أحد مع الإيمان بالقدر

وبطلان هذه الحجة لا يقتضي التكذيب بالقدر وذلك أن بني آدم مفطورون على احتياجهم إلى جلب المنفعة ودفع المضرة لا يعيشون ولا يصلح لهم دين ولا دنيا إلا بذلك فلا بد أن يأتمروا وإنما فيه تحصيل منافعهم ودفع مضارهم سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم والرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك والمكذبون للرسل انعكس الأمر في حقهم فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح فهم شر الناس ولا بد لهم مع ذلك من أمور يجتلبونها وأمور يجتنبونها وأن يتدافعوا جميعا ما يضرهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك فلو ظلم بعضهم بعضا في دمه وماله وعرضه وحرمته فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوبة لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاجه بالقدر ولو قال اعذروني فإن هذا كان مقدرا علي لقالوا له وأنت لو فعل بك هذا فاحتج عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه

وقبول هذه الحجة يوجب الفساد الذي لا صلاح معه وإذا كان الاحتجاج بالقدر مردودا في فطر جميع الناس وعقولهم مع أن جماهير الناس مقرون بالقدر علم أن الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الاحتجاج به بل لا بد من الإيمان به ولا بد من رد الاحتجاج به

ولما كان الجدل ينقسم إلى حق وباطل والكلام ينقسم إلى حق وباطل وكان من لغة العرب أن الجنس إذا انقسم إلى نوعين أحدهما أشرف من الآخر خصوا الأشرف باسمه الخاص وعبروا عن الآخر

بالاسم العام كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام والخاص وذوي الأرحام العام والخاص ولفظ الحيوان العام والخاص فيطلقون لفظ الحيوان على غير الناطق لاختصاص الناطق باسم الإنسان

وعملوا في لفظ الكلام والجدل كذلك فيقولون فلان صاحب كلام ومتكلم إذا كان قد يتكلم بلا علم ولهذا ذم السلف أهل الكلام وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضا

والاحتجاج بالقدر من هذا الباب كما في الصحيح عن علي رضي الله عنه قال طرقني رسول الله وفاطمة فقال ألا تقومان تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء يبعثنا بعثنا قال فولى وهو يقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا سورة الكهف 54 فإنه لما أمرهم بقيام الليل فاعتل علي رضي الله عنه بالقدر وأنه لو شاء الله لأيقظنا علم النبي أن هذا ليس فيه إلا مجرد الجدل الذي ليس بحق فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا

فصل

قال الرافضي ومنها تجويز أن يعذب الله سيد المرسلين على طاعته ويثيب إبليس على معصيته لأنه يفعل لا لغرض فيكون فاعل الطاعة سفيها لأنه يتعجل بالتعب في الاجتهاد في العبادة وإخراج ماله في عمارة المساجد والربط والصدقات من غير نفع يحصل له لأنه قد يعاقبه على ذلك ولو فعل عوض ذلك ما يلتذ به ويشتهيه من أنواع المعاصي قد يثيبه فاختيار الأول يكون سفها عند كل عاقل والمصير إلى المذهب يؤدي إلى خراب العالم واضطراب أمور الشريعة المحمدية وغيرها

والجواب من وجوه أحدها

أن هذا الذي قاله باطل باتفاق المسلمين فلم يقل أحد منهم أن الله قد يعذب أنبياءه ولا أنه قد يقع منه عذاب أنبيائه بل هم متفقون على أنه يثيبهم لا محالة لا يقع منه غير ذلك لأنه وعد بذلك وأخبر به وهو صادق الميعاد وعلم ذلك بالضرورة

ثم من متكلمة أهل السنة المثبتين للقدر من يقول إنما علم ذلك بمجرد خبره الصادق وهي الدلالة السمعية المجردة

ومنهم من يقول بل قد يعلم ذلك بغير الخبر ويعلم بأدلة عقلية وإن كان الشارع قد نبه عليها وأرشد إليها كما إذا علمت حكمته ورحمته وعدله علم أن ذلك يستلزم إكرام من هو متصف بالصفات المناسبة لذلك كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تعلم أنه نبي والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق

وقد قال الله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون سورة الجاثية 21 وهذا إستفهام إنكار يقتضي الإنكار على من يحسب ذلك ويظنه وإنما ينكر على من ظن أو حسب ما هو خطأ باطل يعلم بطلانه لا من ظن ظنا ما ليس بخطأ ولا باطل

فعلم أن التسوية بين أهل الطاعة وبين أهل المعصية مما يعلم بطلانه وأن ذلك من الحكم السييء الذي ينزه الله عنه

ومثله قوله تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص 28 وقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون سورة القلم 35 36 وفي الجملة التسوية بين الأبرار والفجار والمحسنين والظالمين وأهل الطاعة وأهل المعصية حكم باطل يجب تنزيه الله عنه فإنه ينافي عدله وحكمته وهو سبحانه كما ينكر التسوية بين المختلفات فهو يسوي بين المتماثلات كقوله سبحانه وتعالى أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر وقوله كدأب آل فرعون والذين من قبلهم الآية وقوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وقوله فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وقوله وتلك الأمثال نضربها للناس

الوجه الثاني أن قوله ومنها تجويز تعذيب الأنبياء وإثابة الشياطين إن أراد به أنهم يقولون إن الله قادر على ذلك فهو لا ينازع في القدرة وإن أراد أنا هل نشك هل يفعله أو لا يفعله فمعلوم أنا لا نشك في ذلك بل نعلم انتفاءه وعلمنا بانتفائه مستلزم لانتفائه

وإن أراد أن من قال إنه يفعل لا لحكمة يلزمه تجويز وقوع ذلك منه وإمكان وقوعه منه وإنه لو فعل ذلك لم يكن ظالما فلا ريب أن هذا قول هؤلاء وهم يصرحون بذلك لكن أكثر أهل السنة لا يقولون بذلك بل عندهم أن الله منزه عن ذلك ومقدس عنه ولكن على هذا لا يلزم أن تكون الطاعة سفها فإنها إنما تكون سفها إذا كان وجودها كعدمها والمسلمون متفقون على أن وجودها نافع وعدمها مضر وإن كانوا متنازعين هل يجوز أن يفعل الرب خلاف ذلك فإن نزاعهم في الجواز لا في الوقوع

الوجه الثالث أن يقال لو قدر أن ذلك جائز الوقوع لم تكن الطاعة سفها فإن هؤلاء الإمامية مع أهل السنة والجماعة يجوزون الغفران لأهل الكبائر والمعتزلة مع أهل السنة يجوزون تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ومع هذا فلم يكن اجتناب الكبائر والصغائر سفها بل هذا الاجتناب واجب بالاتفاق

الوجه الرابع أن يقال فعل النوافل ليس سفها بالاتفاق وإن جاز أن يثيب الله العبد بدون ذلك لأسباب أخر فالشيء الذي علم نفعه

يكون فعله حكمة محمودة وإن جوز المجوز أن يحصل النفع بدون ذلك كاكتساب الأموال وغيرها من المطالب بالأسباب المقتضية لذلك في العادة فإنه ليس سفها وإن جاز أن يحصل المال بغير سعي كالميراث

الوجه الخامس قوله لأنه يفعل لا لغرض قد تقدم جوابه وبينا أن أكثر أهل السنة يقولون إنه يفعل لحكمة وهو مراد هذا بالغرض وبعض أهل السنة يصرح بأنه يفعل لغرض ومن قال من المثبتين للقدر إنه يفعل لا لحكمة فإنه يقول وإن كان يفعل ما يشاء فقد يعلم ما يشاؤه مما لا يشاؤه إما بإضطراد العادة وإما بإخبار الصادق وإما بعلم ضروري يجعله في قلوبنا وإما بغير ذلك فصل

قال الرافضي ومنها أنه لا يتمكن أحد من تصديق أحد من الأنبياء لأن التوصل إلى ذلك والدليل عليه إنما يتم بمقدمتين إحداهما أن الله تعالى فعل المعجز على يد النبي لأجل التصديق والثانية أن كل من صدقه الله فهو صادق وكلتا المقدمتين لا تتم على قولهم لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق وإذا كان فاعلا للقبيح ولأنواع الإضلال والمعاصي والكذب وغير ذلك جاز أن يصدق الكذاب فلا يصح الاستدلال على صدق أحد من الأنبياء ولا المنذرين بشيء من الشرائع والأديان

الجواب من وجوه

أحدها أن يقال إنه قد تقدم أن أكثر القائلين بخلافة الخلفاء الثلاثة يقولون إن الله يفعل لحكمة بل أكثر أهل السنة المثبتين للقدر يقولون بذلك أيضا

وحينئذ فإن كان هذا القول هو الصواب فهو من أقوال أهل السنة وإن كان نفيه هو الصواب فهو من أقوال أهل السنة أيضا فعلى التقديرين لا يخرج الحق عن قولهم بل قد يوجد في كل مذهب من المذاهب الأربعة النزاع بين أصحابه في هذا الأصل مع اتفاقهم على إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة وعلى إثبات القدر وأن الله خالق أفعال العباد ونزاع أصحاب أحمد في هذا الأصل معروف وغير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم كابن عقيل والقاضي أبي خازم وغيرهما يثبتون المعجزات بأن الرب حكيم لا يجوز في حكمته إظهار المعجزات على يد الكذاب وكذلك قال أبو الخطاب وغيره وكذلك أصحاب مالك والشافعي ولعل أكثر أصحاب أبي حنيفة يقولون بإثبات الحكمة في أفعاله أيضا

الوجه الثاني أن يقال لا نسلم أن تصديق الرسول لا يمكن إلا بطريق الاستدلال بالمعجزات بل الطرق الدالة على صدقه طرق متعددة غير طريق المعجزات كما قد بسط في غير هذا الموضع ومن

قال إنه لا طريق إلا ذلك كان عليه الدليل فإن النافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل وهو لم يذكر دليلا على النفي

الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أن دلالة المعجزة على الصدق موقوفة على أنه لا يجوز أن يفعل ما ذكر بل دلالة المعجزة عل الصدق دلالة ضرورية لا تحتاج إلى نظر فإن اقتران المعجزة بدعوى النبوة يوجب علما ضروريا بأن الله أظهرها لصدقه كما أن من قال لملك من الملوك إن كنت أرسلتني إلى هؤلاء فانقض عادتك وقم واقعد ثلاث مرات ففعل ذلك الملك علم بالضرورة أنه فعل ذلك لأجل تصديقه

الوجه الرابع قول من يقول لو لم تدل المعجزة على الصدق للزم عجز البارىء عن تصديق رسوله والعجز ممتنع عليه لأنه لا طريق إلى التصديق إلا بالمعجزة وهذه طريقة كثير من أصحاب الأشعري ومن وافقهم وهي طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلي وغيرهما والأولى طريقة كثير منهم أيضا وهي طريقة أبي المعالي ومن اتبعه وكلاهما طريقة للأشعري وعلى هذا فإظهار المعجزة على يد الكذاب المدعي للنبوة هل هو ممكن مقدور أم لا على القولين

الوجه الخامس أن يقال قوله إنها موقوفة على أن كل من صدقه

الله فهو صادق إنما يصح أن لو كان المعجز بمنزلة التصديق بالقول وهذا فيه نزاع فمن الناس من يقول بل هي بمنزلة إنشاء الرسالة والإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب فقول القائل لغيره أرسلتك أو وكلتك أو نحو ذلك إنشاء وإذا كانت دلالة المعجزة على إنشاء الرسالة لم يكن ذلك موقوفا على أنه لا يفعل إلا لغرض ولا على أنه لا يفعل القبائح فإن الإنشاء كالأمر والنهي ونحو ذلك

الوجه السادس أن يقال قوله لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق يجيب عنه من يقول إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء بأنه قد يفعل المتلازمين كما يفعل سائر الأدلة المستلزمة لمدلولاتها فيفعل المخلوقات الدالة على وجوده وقدرته وعلمه ومشيئته وهو قد أراد خلقها واراد أن تكون مستلزمة لمدلولها دالة عليه لمن نظر فيها كذلك خلق المعجزة هنا فأراد خلقها وأراد أن تكون مستلزمة لمدلوها الذي هو صدق الرسول دالة على ذلك لمن نظر فيها وإذا أراد خلقها وأراد هذا التلازم حصل المقصود من دلالتها على الصدق وإن لم يجعل أحد المرادين لأجل الآخر إذ المقصود يحصل بإرادتهما جميعا

فإن قيل المعجز لا يدل بنفسه وإنما يدل للعلم بأن فاعله اراد به التصديق

قيل هذا موضع النزاع ونحن ليس مقصودنا نصر قول من يقول إنه يفعل لا لحكمة بل هذا القول مرجوح عندنا وإنما المقصود أن نبين حجة القائلين بالقول الآخر وأرباب هذا القول خير من المعتزلة والشيعة

وأما قوله إذا كان فاعلا للقبيح جاز أن يصدق الكذاب هذه حجة ثانية وجواب ذلك أن يقال ليس في المسلمين من يقول إن الله يفعل ما هو قبيح منه ومن قال إنه خالق أفعال العباد يقول إن ذلك الفعل قبيح منهم لا منه كما أنه ضار لهم لا له

ثم منهم من يقول إنه فاعل ذلك الفعل والأكثرون يقولون إن ذلك الفعل مفعول له وهو فعل للعبد وأما نفس خرق العادة فليست فعلا للعباد حتى يقال إنها قبيحة منهم فلو قدر فعل ذلك لكان قبيحا منه لا من العبد والرب منزه عن فعل القبيح

فمن قال إذا خلق الله ما هو ضار للعابد جاز أن يفعل ما هو ضار كان قوله باطلا كذلك إذا جاز أن يخلق فعل العبد الذي هو قبيح من العبد وليس خلقه قبيحا منه لم يستلزم أن يخلق ما هو قبيح منه لا فعل للعبد فيه

وتصديق الكذاب إنما يكون بإخبار أنه صادق سواء كان ذلك بقول أو فعل يجري مجرى القول وذلك ممتنع منه لأنه صفة نقص والله سبحانه منزه عن النقائص بالعقل وباتفاق العقلاء

ومن قال إنه لا يتصور منه فعل قبيح بل كل ما يمكن فعله فهو حسن إذا فعله يقول إن ما يستلزم سلب صفات الكمال وإثبات النقص له فهو ممتنع عليه كالعجز والجهل ونحو ذلك والكذب صفة نقص

بالضرورة والصدق صفة كمال وتصديق الكذاب نوع من الكذب كما أن تكذيب الصادق نوع من الكذب وإذا كان الكذب صفة نقص امتنع من الله ما هو نقص

وهذا المقام له بسط مذكور في غير هذا الموضع ونحن لا نقصد تصويب قول كل من انتسب إلى السنة بل نبين الحق والحق أن أهل السنة لم يتفقوا قط على خطأ ولم تنفرد الشيعة عنهم قط بصواب بل كل ما خالفت فيه الشيعة جميع أهل السنة فالشيعة فيه مخطئون كما أن ما خالفت فيه اليهود والنصاري لجميع المسلمين فهم فيه ضالون وإن كان كثير من المسلمين قد يخطىء ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أن الله لا يفعل شيئا لحكمة ولا لسبب وأنه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور ولا يحب بعض الأفعال ويبغض بعضها فقوله فاسد مخالف للكتاب والسنة واتفاق السلف وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه لا سيما إذا قال من قال منهم إن تنزيهه عن النقص لا يعلم بالعقل بل بالسمع

فإذا قيل لهم لم قلتم إن الكذب ممتنع عليه

قالوا لأنه نقص والنقص عليه محال

فيقال لهم إن تنزيهه عندكم عن النقص لم يعلم إلا بالإجماع ومعلوم أن الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب فإن صح الاحتجاج على هذا بالإجماع فلا حاجة إلى هذا التطويل

وأيضا فالكلام إنما هو في العبارة الدالة على المعنى وهذا كما قاله بعضهم إن الله لا يجوز أن يتكلم بكلام ولا يعني به شيئا

وقال خلافا للحشوية

ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من المسلمين وإنما النزاع هل يجوز أن ينزل كلاما لا يعلم العباد معناه لا أنه هو في نفسه لا يعني به شيئا ثم بتقدير أن يكون في هذا نزاع فإنه احتج على ذلك بأن هذا عبث والعبث على الله تعالى ممتنع وهذا المحتج يجوز على الله فعل كل شيء لا ينزهه عن فعل فهذا وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهمية الجبرية في القدر كثير لكن ليس هذا قول أئمة السنة ولا جمهورهم والله أعلم

فصل

قال الرافضي ومنها أنه لا يصح أن يوصف الله أنه غفور حليم عفو لأن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان الله مستحقا للعقاب في حق الفساق بحيث إذا أسقطه عنهم كان غفورا عفوا رحيما وإنما يستحق العقاب لو كان العصيان من العبد لا من الله تعالى

فيقال الجواب من وجوه

أحدها أن كثيرا من أهل السنة يقولون لا نسلم أن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان مستحقا بل الوصف بهذه يثبت إذا كان قادرا على العقاب مع قطع النظر عن الاستحقاق فإن تخصيص الاستحقاق بهذه الامور يقتضي أنه يستحق شيئا دون شيء وهذا ممنوع عند هؤلاء بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فإذا كان قادرا على أن يعذب العصاة وهو يفعل ما يشاء صح منه مغفرته وحلمه وعفوه

الثاني أن يقال أن قول القائل يستحق العقاب يعني به أن عقابه للعصاة عدل منه أو يعني به أنه محتاج إلى ذلك أما الأول فهو متفق عليه فإن عقوبته للعصاة عدل منه باتفاق المسلمين وإذا كان كذلك كان عفوه ومغفرته إحسانا منه وفضلا

وهذا يقول به من يقول إنه خالق أفعالهم والقائلون بأنها أفعال لهم مخلوقة له والقائلون بأنها أفعال له كسب لهم متفقون على أن العقاب عدل منه وإن عني به كونه محتاجا إليه فهذا باطل باتفاق المسلمين

الثالث أن يقال المغفرة والرحمة والعفو إما أن يوصف بها وإن كان العقاب قبيحا على قول القائلين بذلك وإما أن لا يوصف بها إلا إذا كان العقاب سائغا غير قبيح فإن كان الأول لزم أن لا يكون غفارا لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لأن عقاب هؤلاء قبيح والمغفرة لهم واجبة عند أهل هذا القول ويلزم أن لا يكون رحيما بمن يستحق الرحمة من الأنبياء والمؤمنين ويلزم ان لا يكون غفورا رحيما لمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ولما كان قد ثبت بالقرآن أنه غفار للتائبين رحيم بالمؤمنين علم أنه موصوف بالمغفرة والرحمة وإن كان العقاب منه ممتنعا بتقدير أن يكون مستحقا للعقاب فلا يمتنع أن يوصف بالمغفرة والرحمة كما في مغفرته ورحمته لمن لا يحسن عقابه عندهم

الرابع أن العصيان من العبد بمعنى أنه فاعله عند الجمهور وبمعنى أنه كاسبه لا فاعله عند بعضهم وبهذا القدر يستحق الإنسان أن يعاقب الظالم فاستحقاق الله أن يعاقب الظالم أولى بذلك وأما كونه خالقا لذلك فذاك أمر يعود إليه وله في ذلك حكمة عند الجمهور القائلين بالحكمة وذلك لم يصدر إلا لمحض المشيئة عند من لا يعلل بالحكمة والله أعلم

فصل

قال الرافضي ومنها أنه يلزم تكليف ما لا يطاق لأنه تكليف للكافر بالإيمان ولا قدرة له عليه وهو قبيح عقلا والسمع قد منع منه وقال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها سورة البقرة 28والجواب عنه من وجوه

أحدها أن المثبتين للقدر لهم في قدرة العبد قولان أحدهما أن قدرته لا تكون إلا مع الفعل وعلى هذا فالكافر الذي سبق في علم الله أنه لا يؤمن لا يقدر على الإيمان أبدا وما ذكره وارد على هؤلاء

والثاني أن القدرة نوعان فالقدرة المشروطة في التكليف تكون قبل الفعل وبدون الفعل وقد تبقى إلى حين الفعل والقدرة المستلزمة للفعل لا بد أن تكون موجودة عند وجوده

وأصل قولهم إن الله خص المؤمنين بنعمة يهتدون بها لم يعطها الكافر وأن العبد لا بد أن يكون قادرا حين الفعل خلافا لمن زعم أنه لا يكون قادرا إلا قبل الفعل وأن النعمة على الكافر والمؤمن سواء وإذا كان لا بد من قدرته حال الفعل فإذا كان قادرا قبل الفعل وبقيت القدرة إلى حين الفعل لم ينقض هذا أصلهم لكن مجرد القدرة الصالحة للضدين يشترك فيها المؤمن والكافر فلا بد للمؤمن مما يخصه الله به من الأسباب التي بها يكون مؤمنا وهذا يدخل فيه إرادته للإيمان وهذه الإرادة يدخلونها في جملة القدرة المقارنة للفعل وهو نزاع لفظي وقد بين هذا في غير هذا الموضع كما تقدم

وحينئذ فعلى قول الجمهور من أهل السنة الذين يقولون إن الكافر يقدر على الإيمان يبطل هذا الإيراد وعلى قول الآخرين فإنهم يلتزمونه وأي القولين كان هو الصواب فهو غير خارج عن أقوال أهل السنة ولله الحمد

الوجه الثاني أن يقال تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين أحدهما ما لا يطاق للعجز عنه كتكليف الزمن المشي وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك فهذا غير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدر وليس فيما ذكره ما يقتضي لزوم وقوع هذا

والثاني ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر فإنه هو الذي صده عن الإيمان وكالقاعد في حال قعوده فإن اشتغاله بالقعود يمنعه أن يكون قائما والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد الآخر وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب

ومثل هذا ليس بقبيح عقلا عند أحد من العقلاء بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك ذلك الضد ويفعل الضد المأمور به

وإنما النزاع هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق لكونه تكليفا بما انتفت فيه القدرة المقارنة للفعل فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلي وغيرهما ويقولون ما لا يطاق على وجهين منه ما لا يطاق للعجز عنه وما لا يطاق للاشتغال بضده

ومنهم من يقول هذا لا يدخل فيما لا يطاق وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسنة وكلام السلف فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلا أنه كلف ما لا يطيق

وقوله تعالى وكانوا لا يستطيعون سمعا سورة الكهف 101 لم يرد به هذا فإن جميع الناس قبل الفعل ليس معهم القدرة الموجبة للفعل فلا يختص بذلك العصاة بل المراد أنهم يكرهون سماع الحق كراهة شديدة لا تستطيع أنفسهم معها سماعه لبغضهم لذلك لا لعجزهم عنه كما أن الحاسد لا يستطيع الإحسان إلى المحسود لبغضه لا لعجزه عنه

وعدم هذه الاستطاعة لا يمنع الأمر والنهي فإن الله يأمر الإنسان بما يكرهه وينهاه عما يحبه كما قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم سورة البقرة 216 وقال وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى سورة النازعات وهو قادر على فعل ذلك إذا أراده وعلى ترك ما نهى عنه وليس من شرط المأمور به أن يكون العبد مريدا له ولا من شرط المنهي عنه أن يكون العبد كارها له فإن الفعل يتوقف على القدرة والإرادة والمشروط في التكليف أن يكون العبد قادرا على الفعل لا أن يكون مريدا له لكنه لا يوجد إلا إذا كان مريدا له فالإرادة شرط في وجوده لا في وجوبه

الوجه الثالث أن تكليف ما لا يطاق إذا فسر بأنه الفعل الذي ليس له قدرة عليه تقارن مقدورها كان دعوى امتناعه بهذا التفسير مورد النزاع فيحتاج نفيه إلى دليل

الوجه الرابع أن من أهل الإثبات للقدر من يجوز تكليف ما لا يطاق للعجز عنه بل من غاليتهم من يجوز تكليف الممتنع لذاته وبعضهم يدعي أن ذلك واقع في الشريعة كتكليف أبي لهب الإيمان مع تكليف تصديق خبر الله أنه لا يؤمن وهذا القول وإن كان مرجوحا لكن هذا القدري لم يذكر دليلا على إبطال ذلك ولا على جواب معارضته بل اكتفى بمجرد قوله وهو قبيح عقلا

وهؤلاء يقولون لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح فإن لم يكمل البحث في هذه اللوازم لم يكن ما ذكره حجة عليهم فضلا عن أن يكون حجة على غيرهم من أهل الإثبات للقدر أو على المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

فصل

قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن تكون أفعالنا الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا مثل حركتنا يمنة ويسرة وحركة البطش باليد والرجل في الصنائع المطلوبة لنا كالأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما فإن كل عاقل يحكم بأنا قادرون على الحركة الاختيارية وغير قادرين على الحركة إلى السماء من الطيران وغير ذلك

قال أبو الهذيل العلاف حمار بشر أعقل من بشر لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنه يطفره ولو أتيت به إلى جدول كبير لم يطفره لأنه يفرق بين ما يقدر على طفره وما لا يقدر عليه وبشر لا يفرق بين المقدور عليه وغير المقدور عليه والجواب أن هذا إنما يلزم من يقول إن العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من طوائف أهل السنة بل ولا من طوائف المثبتين للقدر إلا ما يحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته وقالوا إن حركته كحركة الأشجار بالرياح إن صح النقل عنهم

وأشد الطوائف قربا من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارا ويقول إن الفعل كسب للعبد لكنه يقول لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور

فلهذا قال من قال إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول وجمهور أهل الإثبات على أن العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب فما ذكره لا يلزم جمهور اهل السنة وقد قلنا غير مرة نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ لكن لا يتفقون على خطأ كما تتفق الإمامية على خطأ بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل السنة فالصواب فيها مع أهل السنة وأما ما تنازع فيه أهل السنة وتنازعت فيه الإمامية فذاك لا اختصاص له بأهل السنة ولا بالإمامية

وبالجملة فجمهور أهل السنة من السلف والخلف يقولون إن العبد له قدرة وإرادة وفعل وهو فاعل حقيقة والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء كما دل على ذلك الكتاب والسنة

قال تعالى عن إبراهيم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك سورة البقرة 128 وقال تعالى عن إبراهيم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة ابراهيم 40 وقالتعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا سورة السجدة 24 وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين سورة الأنبياء 73 وقال إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا سورة المعارج 19 21 فأخبر أن الله يجعل المسلم مسلما والمقيم الصلاة مقيم للصلاة والإمام الهادي إماما هاديا

وقال عن المسيح وجعلني مباركا أينما كنت إلى قوله وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا سورة مريم فبين أن الله هو الذي جعله برا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيا وهذا صريح قول أهل السنة في أن الله عز وجل خالق أفعال العباد

وقال تعالى عن فرعون وقومه وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص 41 وقد قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير 28 29 وقال تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما سورة الإنسان 29 30 وقوله كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره سورة المدثر 54 55 فأثبت مشيئة العبد وقوله كلا إلا بمشيئة الرب تعالى

وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب

وقد أخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويتقون ويفسقون ويصدقون ويكذبون ونحو ذلك في مواضع كثير وأخبر أن لهم استطاعة وقوة في غير موضع

وأئمة أهل السنة وجمهورهم يقولون إن الله خالق هذا كله والخلق عندهم ليس هو المخلوق فيفرقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلا فإنها فعل للعبد بمعنى المصدر وليست فعلا للرب تعالى بهذا الاعتبار بل هي مفعولة له والرب تعالى لا يتصف بمفعولاته

ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرق بين فعل الرب ومفعوله ويقول مع ذلك إن أفعال العباد فعل لله كما يقول ذلك الجهم بن صفوان وموافقوه والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع كما قد بسط في موضعه

وكذلك أيضا لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسبابا وقوى وطبائع ويقول إن الله يفعل عندها لا بها فلزمه أن لا يكون فرق بين القادر

والعاجز وإن أثبت قدرة وقال إنها مقترنة بالكسب قيل له لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها

وكذلك قول من قال إن القدرة مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله كما يقول القاضي أبو بكر ومن وافقه فإنه إن أثبت تأثيرا بدون خلق الرب لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله تعالى وإن جعل ذلك معلقا بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة

وأما أئمة أهل السنة وجمهورهم فيقولون بما دل عليه الشرع والعقل

قال الله تعالى سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الأعراف 57 وقال وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها سورة البقرة 164 وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة 16 وقال يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا سورة البقرة ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب

وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع التي جعلها الله في الحيوان وغيره كما قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن 16 وقال أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة سورة فصلت 15 وقال الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء سورة الروم

وقال النبي لأشج عبدالقيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ومثل هذا كثير ليس هذا موضع بسطه

وهؤلاء يثبتون للعبد قدرة ويقولون إن تأثيرها في مقدورها كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها والسبب ليس مستقلا بالمسبب بل يفتقر إلى ما يعاونه فكذلك قدرة العبد ليست مستقلة بالمقدور وأيضا فالسبب له ما يمنعه ويعوقه وكذلك قدرة العبد والله تعالى خالق السبب وما يعينه وصارف عنه ما يعارضه ويعوقه وكذلك قدرة العبد

وحينئذ فما ذكره هذا الإمامي من الفرق الضروري بين الأفعال الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا وبين الأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره حق يقوله جميع أهل السنة وجماعة أتباعهم لم ينازع في ذلك أحد من أئمة المسلمين الذين لهم في الأمة لسان صدق من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والفقهاء المشهورين كمالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثال هؤلاء الذين هم أهل الاجتهاد في الدين وخلفاء المرسلين

وإذا كان في المثبتين للقدر من يلزمه بطلان الفرق كان قوله باطلا ومع هذا فقول نفاة القدر أبطل منه فهذا القدري رد باطلا بما هو أبطل منه وأهل السنة لا يوافقونه لا على هذا ولا على هذا لكن يقولون الحق ويعلمون أن قوله أبطل

وذلك أن أفعال العباد حادثة كائنة بعد ان لم تكن فحكمها حكم سائر الحوادث وهي ممكنة من الممكنات فحكمها حكم سائر الممكنات فما من دليل يستدل به على أن بعض الحوادث والممكنات مخلوقة لله إلا وهو يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله فإنه قد علم أن المحدث لا بد له من محدث وهذه المقدمة ضرورية عند جماهير العقلاء وكذلك الممكن لا بد له من مرجح تام فإذا كان فعل العبد حادثا بعد أن لم يكن فلا بد له من محدث وإذا قيل المحدث هو العبد فيكون العبد صار محدثا له بعد أن لم يكن هو أيضا أمر حادث فلا بد له من محدث إذ لو كان العبد لم يزل محدثا له لزم دوام ذلك الفعل الحادث وإذا كان إحداثه له حادثا فلا بد له من محدث

وإذا قيل المحدث إرادة العبد قيل فإرادته أيضا حادثة فلا بد لها من محدث وإن قيل حدثت بإرادة من العبد قيل تلك الإرادة أيضا لا بد لها من محدث فأي محدث فرضته في العبد إن كان حادثا فالقول فيه كالقول في الحادث الأول وإن جعلته قديما أزليا كان هذا ممتنعا لأن ما يقوم بالعبد لا يكون قديما أزليا

وإن قلت هو وصف للعبد وهي قدرته المخلوقة فيه مثلا لم ينفعك هذا لوجوه أحدها أن يقال فإذا كانت هذه القدرة المخلوقة فيه موجودة قبل حدوث الفعل وحين حدوثه فلا بد من سبب آخر حادث ينضم إليها وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح وحدوث الحوادث بلا سبب حادث وإلا فإذا كان حال العبد قبل أن يفعل وحاله حين الفعل سواء لا مزية لأحد الحالين على الآخر وكان تخصيص هذه الحال بكونه فاعلا فيها دون الأخرى ترجيحا لأحد المتماثلين بدون مرجح

وهكذا إذا قيل فعله يمكن أن يكون وأن لا يكون والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام والمرجح إذا كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل فلا بد أن يكون المرجح التام من الله تعالى وأن يستلزم وجوده وجود الفعل وإلا لم يكن تاما

ولأجل هذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر على أن الله خص المؤمنين بنعمة دون الكافرين بأن هداهم للإيمان ولو كانت نعمته على المؤمنين مثل نعمته على الكافرين لم يكن المؤمن مؤمنا

كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات 7 وقال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين سورة الحجرات 17 وقال تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة 212 وقال تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه سورة المجادلة 22 وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام 12والقدرية جعلوا نعمته الدينية على الصنفين سواء وقالوا إن العبد أعطي قدرة تصلح للإيمان والكفر ثم إنه يصدر عنه أحدهما بدون سبب حادث يصلح للترجيح وزعموا أن القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره على الآخر بلا مرجح وادعوا هذا في قدرة الرب وقدرة العبد

وقد وافقهم على هذا في قدرة الرب كثير من المثبتين للقدر القائلين بأن الرب لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته بل ووافقهم فيها كثير من المثبتين للقدر وصار الرازي وأمثاله ممن يحتج على القدرية بتلك الحجة يتناقضون فإذا ناظروهم في مسألة خلق الأفعال احتجوا عليهم بتلك وقالوا إن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام سواء صدر عن قادر مختار أو غيره وإذا تكلموا في مسألة حدوث العالم وقيل لهم الحادث لا بد له من سبب حادث أجابوا بجواب القدرية فقالوا القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره بلا مرجح وفرقوا بين القادر وغيره كما قالت القدرية وقد يفرقون بين فعل الرب وفعل العبد بأن الرب يرجح بمشيئته القديمة التي هي من لوازم ذاته بخلاف العبد فإن إرادته حادثة من غيره

ولكن قال أكثر الناس هؤلاء الذين يقولون إن الإرادة القديمة الأزلية هي المرجحة من غير تجدد شيء قولهم من جنس قولهم فإن الإرادة نسبتها إلى جميع ما يقدر وقتا للحوادث نسبة واحدة ونسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة فترجح أحد المتماثلين على الآخر ترجيح بلا مرجح وإذا قدر حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ثم قدر إختصاص أحد الحالين بالفعل لزم الترجيح بلا مرجح وهذا منتهى نظر هؤلاء الطوائف

ولهذا كان من لم يعرف كلامهم كالرازي وأمثاله مترددين بين عله الدهرية وقادر القدرية ومريد الكلابية لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته وقدرته ولما كانت الجهمية والقدرية بهذه الحال لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته جعلت الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله هذا عمدتهم في امتناع حدوث العالم ووجوب قدمه ولكن لا حجة لهم في ذلك على مذهبهم فإن غاية هذا أن يستلزم دوام فاعلية الرب تعالى لا يدل على قدم الفلك ولا غيره من أعيان العالم

ولكن هؤلاء قالوا هذا يستلزم التسلسل والتسلسل محال ومرادهم التسلسل في تمام التأثير كما تقدم وأما التسلسل في الآثار فهو قولهم

وقد ذكرنا أن التسلسل الممتنع هنا هو من جنس الدور الممتنع فإنه إذا قيل لا يفعل هذا الحادث حتى يحدث ما به يصير فاعلا له ويكون ذلك حادثا مع حدوثه وكذلك الثاني صار هذا تسلسلا في تمام التأثير وإذا قيل لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا كان هذا دورا ممتنعا فهو تسلسل إذا أطلق الكلام في الحوادث ودور إذا عين الحادث

وهي حجة إلزامية لأولئك المتكلمين من الجهمية والقدرية ومن تبعهم من الأشعرية والمعتزلة والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم ودوامها عند من جعله لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته وقدرته ثم صار ذلك ممكنا له يستلزم الترجيح بلا مرجح أو التسلسل المتفق على امتناعه والدور الممتنع وكل ذلك ممتنع والتسلسل المتفق على امتناعه هو التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير فأما التسلسل في الآثار فهو مورد النزاع

وأولئك يبطلون القسمين بناء على أن ما لا يتناهى يمتنع فيه التفاوت وجماهير الفلاسفة مع أئمة أهل الملل فإنهم لا ينكرون القسم الثاني

وحينئذ فيقال لهؤلاء المتفلسفة إن كان التسلسل في الآثار ممتنعا بطل قولكم وإذا بطل القول بطلت حجته بالضرورة لأن القول الباطل لا تقوم عليه حجة صحيحة وإن كان ممكنا بطلت حجتكم لإمكان أن تكون كلماته لا نهاية لها وأنه لم يزل متكلما بمشيئته أو فعالا بمشيئته فعلا بعد فعل من غير قدم شيء بعينه من الأفعال والمفعولات فالحجة باطلة على التقديرين فإنه إذا كان تسلسل الآثار ممكنا أمكن حدوث الأفلاك بأسباب قبلها حادثة والرسل صلوات الله عليهم أجمعين أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك وهذا مما علم بالاضطرار والنقل المتواتر من دين الرسل وأدلتكم ليس فيها ما يوجب قدم السموات فقولكم بقدمها ليس فيه حجة عقلية فهو تكذيب للرسل بلا سبب

وأيضا فالعقل الصريح يبطل قولكم فإن الأفلاك وغيرها من العالم مستلزم للحوادث فلو كان قديما للزم أن يكون صادرا عن موجب له قديم فحينئذ يكون الموجب مستلزما لموجبه ومقتضاه لا يتأخر عنه إذ لو جاز تأخر موجبه عنه لم تكن علة تامة لاستلزام العلة التامة معلولها وإذا لم تكن علة تامة امتنع أن يقارنه موجبه لامتناع قدم المعلول بدون علة تامة وأيضا فلو جاز تأخر موجبه مع جواز مقارنته له في الأزل لافتقر تخصيصه بأحدهما إلى مرجح غير الموجب بذاته وليس هناك مرجح غيره فامتنع وجود الأفلاك وغيرها وهذا باطل فإنها موجودة مشهودة عيانا وهم يسلمون هذا ويقولون بأنها معلول علة قديمة وهو موجب بالذات لا يتأخر عنه موجبه

وإذا كان هذا معلوما بالعقل الصريح وهم يوافقون عليه بل هو أصل قولهم قيل لهم فما يستلزم الحوادث يمتنع أن يصدر عن موجب بالذات لأن الحوادث تحدث شيئا بعد شيء وما يحدث شيئا فشيئا لا تكون أجزاؤه قديمة أزلية فلا تكون صادرة عن موجب بالذات فامتنع أن تكون الحوادث صادرة عن موجب بالذات وامتنع صدور شيء من العالم بدون الحوادث اللازمة له لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع فتبين أنه يمتنع أن يكون الفلك قديما أزليا ولا يمكن أن يقال كان خاليا عن الحوادث في الأزل ثم حدثت فيه لأنه يقال حينئذ فلا بد لتلك الحوادث من سبب فالقول فيها كالقول في غيرها فإن جاز أن يحدث بدون سبب حادث أمكن ذلك في الفلك وبطلت حجتهم ولزم من ذلك ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وإن كان لا بد لها من سبب لزم التسلسل ودوام الحوادث وأن الفلك وكل ما سوى الله لم يزل مقارنا للحوادث وكل ممكن قارن الحوادث امتنع أن يكون صادرا عن موجب بالذات فامتنع أن يكون قديما والناس قد تنازعوا فيما يستلزم الحوادث وهو ما لا يخلو عن الحوادث وما لا بد أن تقارنه الحوادث هل يجب أن يكون حادثا أو لا يجب حدوثه بل يجوز قدمه سواء كان هو الواجب الفني عما سواه أو كان ممكنا أو يفرق بين الواجب بنفسه الفني عما سواه وبين الممكن الفقير إلى غيره على ثلاثة أقوال

فالأول قول من يقول من طوائف النظار وأهل الكلام بامتناع دوام فاعلية الرب وامتناع فعل الرب وتكلمه بمشيئته وقدرته في الأزل وأن ذلك غير ممكن وهؤلاء متنازعون في إمكان دوام فاعليته في المستقبل على قولين

والقول الثاني قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم ما سوى الله إما الأفلاك وإما العقول وإما غير ذلك ويجعلون الرب سبحانه موجبا بذاته لا يمكنه إحداث شيء ولا تغيير شيء من العالم بل حقيقة قولهم إن الحوادث لم تصدر عنه بل صدرت وحدثت بلا محدث

والقول الثالث قول أئمة أهل الملل الذين يقولون إن الله خالق كل شيء وكل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن مع دوام قادرية الله وأنه لم يزل متكلما إذا شاء بل لم يزل فاعلا أفعالا تقوم بنفسه

وأقوال أئمة الفلاسفة وأساطينهم الذين كانوا قبل أرسطو توافق قول هؤلاء بخلاف أرسطو وأتباعه الذين قالوا بقدم الأفلاك فإن قول هؤلاء معلوم الفساد بصحيح المنقول وصريح المعقول

وأيضا فإن كون المفعول المعين لازما للفعل قديما بقدمه دائما بدوامه ممتنع لذاته وإن قدر أن الفاعل غير مختار فكيف إذا ثبت أنه يفعل بمشيئته وقدرته وما يذكرونه من تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان لا يعقل ولا يوجد إلا فيما يكون شرطا فإن الشرط قد يقارن المشروط أما العلة التي هي فعل فاعل للمعلول فهذه لا يعقل فيها مقارنتها للمعلول في الزمان

وهم يمثلون تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم وتقدم الحركة على الصوت وغير ذلك وجميع ما يمثلون به إما أن يكون شرطا لا فاعلا وإما أن يكون متقدما بالزمان وأما فاعل غير متقدم فلا يعقل قط

وليس هذا موضع بسط هذه الأمور فإنها أضل مقالات أهل الأرض وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على أصل القدرية فإن حقيقة قولهم أن أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل كما أن أصل قول الفلاسفة الدهرية أن حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سبب حادث وكذلك من وافق القدرية من أهل الإثبات على أن الرب تعالى لا تقوم به الأفعال وقالوا إن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق كما تقوله الأشعرية ومن وافقهم فإنه يلزمه في فعل الرب ما لزم القدرية

ولهذا عامة شناعات هذا الرافضي القدري هي على هؤلاء وهؤلاء طائفة من طوائف المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيدية والإمامية وغيرهم وقولهم على كل حال أقل خطأ من قول القدرية بل أصل خطئهم موافقتهم للقدرية في بعض خطئهم وأئمة أهل السنة لا يقولون بشيء من هذا الخطأ وكذلك جماهير أهل السنة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوف لا يقرون بهذه الأقوال المتضمنة للخطأ بل هم متفقون على أن الله خالق أفعال العباد وعلى أن العبد قادر مختار يفعل بمشيئته وقدرته والله خالق ذلك كله وعلى الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطراية وعلى أن الرب يفعل بمشيئته وقدرته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لم يزل قادرا على الأفعال موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء وأنه موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسول الله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل فيثبتون علمه المحيط ومشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه لكل شيء

ومن هداه الله إلى فهم قولهم علم أنهم جمعوا محاسن الأقوال وأنهم وصفوا الله بغاية الكمال وأنهم هم المستمسكون بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن قولهم هو القول السديد السليم من التناقض الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه

فصل

قال الرافضي الإمامي القدري ومنها أنه يلزم أن لا يبقى عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان طول عمره وبين من أساء إلينا غاية الإساءة طول عمره ولم يحسن منا شكر الأول وذم الثاني لأن الفعلين صادران من الله تعالى عندهم

فيقال هذا باطل فإن اشتراك الفعلين في كون الرب خلقهما لا يستلزم إشتراكهما في سائر الأحكام فإنه من المعلوم بصريح العقل أن الأمور المختلفة تشترك في أمور كثيرة لا سيما في مثل هذا المقام فإن جميع ما سوى الله مشترك في أن الله خلقه وأنه ربه ومليكه

ثم من المعلوم أن المخلوقات بينها من الافتراق ما لا يحصيه إلا الخلاق فالله تعالى جعل الظلمات والنور وقال وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور سورة فاطر 19 20 والله خالق الجنة والنار ولا تستوي الجنة ولا النار والله خالق الظل والحرور ولا يستوي الظل ولا الحرور والله خالق الأعمى والبصير ولا يستوي الأعمى والبصير والله خالق الحي والميت والقادر والعاجز والعالم والجاهل ولا يستوي هذا وهذا والله خالق ما ينفع وما يضر وما يوجب اللذة وما يوجب الألم ولا يستوي هذا وهذا فإذا كان الله خالق الأطعمة

الطيبة والخبيثة ثم إن الطيب يحب ويشتهى ويمدح ويبتغى والخبيث يذم ويبغض ويجتنب والله خالق هذا وهذا والله خالق الملائكة والأنبياء وخالق الشياطين والحيات والعقارب وغيرها من الفواسق فهذا محمود معظم وهذا فاسق يقتل في الحل والحرم وهو سبحانه وتعالى خالق في هذا طبيعة كريمة تقتضي الخير والإحسان وفي هذا طبيعة خبيثة توجب الشر والعدوان مع ما بينهما من الفرق في الحب والبغض والمدح والذم ونحو ذلك

وإذا كان الشرع والعقل متطابقين على أن ما جعل الله فيه منفعة للناس ومصلحة لهم يحب ويمدح ويطلب وإن كان جمادا أو حيوانا بهيميا فكيف لا يكون من جعله محسنا للناس يحصل لهم به منافع ومصالح أحق بأن يحب ويمدح ويثنى عليه وكذلك في جانب الشر

والقدري يقول لا يكون العبد محمودا ومشكورا على إحسانه ومذموما على إساءته إلا بشرط أن لا يكون الله جعله محسنا إلينا ولا من به علينا إذا فعل الخير ولا ابتلانا به إذا فعل الشر وهذا حقيقة ما قاله هذا الرافضي القدري

ومعلوم فساد هذا القول شرعا وعقلا فإن حقيقته أنه حيث يشكر العبد لا يشكر الرب وحيث يشكر الرب لا يشكر العبد

وحقيقته أنه لا يكون لله علنيا منة في تعليم الرسول وتبليغه إلينا رسالات ربه وقد قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة سورة آل عمران 164 وعلى قول القدري يكون إرسال الله له من جنس إرسال مخلوق إلى مخلوق فذاك تفضل بنفس الإرسال لا بأن جعل الرسل تتلوا وتعلم وتزكي بل هذه الأفعال منتسبة عندهم فيها للرسول الذي خلقها عندهم دون المرسل الذي لم يحدث شيئا منها

والقدري يقول الرسول نطق بنفسه لم ينطقه الله ولا أنطق الله شيئا بل جعل فيه قدرة على أن ينطق وأن لا ينطق وهو يحدث أحدهما مع استواء الحال قبل الإحداث وبعده بدون معونة الله له على إحداث النطق وتيسيره له

وعلى قول القدري لا يكون لله نعمة على عباده باستغفار الملائكة لهم

وتعليم العلماء لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وعدل ولاة الأمور عليهم ولا يكون الله مبتليا لهم إذا ظلمهم ولاة الأمور

وفي الأثر المعروف يقول الله عز وجل أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم وعند القدري لا يقدر الله أن يجعل الملوك لا عادلين ولا جائرين ولا محسنين ولا مسيئين ولا يقدر أن يجعل أحدا محسنا إلى أحد ولا مسيئا إلى أحد ولا يقدر أن ينعم على أحد بمن يحسن إليه ويكرمه ولا يقدر على أن يبتليه بمن يعذبه ويهينه

وعلى قول القدري لم يبعث الله عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار فإنه لم يأمرهم بذلك ولا جعلهم فاعلين بل أعطاهم قدرة وكذلك عندهم لم يرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا

وقد قال بعضهم إنه على قول القدري لايستحق الله أن يشكر بحال فإن الشكر إنما يكون على النعم والنعم إما دينية وأما دنيوية وإما أخروية فالنعم الدنيوية هي عنده واجبة على الله وكذلك ما يقدر عليه من الدينية كالإرسال وخلق القدرة وأما نفس الإيمان والعمل الصالح فهو عنده لا يقدر أن يجعل أحدا مؤمنا ولا مهتديا ولا صالحا ولا برا ولا تقيا فلا يستحق أن يشكر على شيء من هذه الامور التي لم يفعلها ولا يقدر عليها عنده وأما النعم الأخروية فالجزاء واجب عليه عنده كما يجب على المستأجر أن يوفي الأجير أجره ومعلوم أن هذا عنده من باب العدل المستحق لا من باب الفضل والإحسان بمنزلة من قضى دينا كان عليه فلا يستحق الشكر على فضل ولا إحسان

ومن هذا حقيقة قوله كيف يعيب أهل الإيمان الذين يشكرون الله على كل حال ونعمة ويشكرون من أجرى الله الخير على يديه فإنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله ومن أساء إليهم يعتقدون جواز مقابلته بالعدل وأن العفو عنه أفضل إذا لم يكن في عقوبته حق لله ويرى أحدهم أن الله أنعم عليه بإحسان الأول ليشكره عليه وأنه ابتلاه بإساءة هذا إليه كما يبتليه بأنواع البلاء ليصبر ويستغفر من ذنوبه ويرضى بقضائه

كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء فشكر كان خير له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن

وقد قال تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا سورة مريم 83 وقال تعالى فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا سورة الإسراء فإرساله الشياطين وبعثه لهؤلاء المعتدين على بني اسرائيل أهو أمر شرعي أمرهم به كما أرسل رسله بالبينات والهدى وكما بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم أم هو تقدير وتسليط وإن كان المسلط ظالما معتديا عاصيا لدين الله وشرعه

ثم من المعلوم أن عامة أهل الأرض مقرون بالقدر وهم مع هذا يمدحون المحسن ويذمون المسيء فطروا على هذا وعلى هذا فيقرون أن الله تعالى خالق كل شيء وربه وأنه قدر ذلك كله وسلط هذا ويسر هذا ويمدحون هذا ويذمون هذا وأهل الإثبات المقرون بالقدر يمدحون المحسن ويذمون المسيء مع اتفاقهم على أن الله خالق الفعلين

فقولهم إنه يلزمهم أن لا يفرقوا بين هذا وهذا لزوم ما لا يلزم

وغاية الأمر أن يكون الله جعل هذا مستحقا للمدح والثواب وهذا مستحقا للذم والعقاب فإذا كان قد جعل هذا مستحقا وهذا مستحقا لم يمتنع أن يمدح هذا ويذم هذا لكن خلقه لهذين الزوجين كخلقه لغير ذلك يتعلق بالحكمة الكلية في خلق المخلوقات كما قد ذكر في غير هذا الموضع

وعلى رأي القدري لا يستحق المدح والثناء والشكر إلا من لم يجعله الله محسنا ولا يستحق الذم إلا من لم يجعله الله مسيئا بل من لا يقدر الله أن يجعله محسنا ولا مسيئا فعنده لا مدح ولا ذم إلا بشرط عجز الله تعالى وقصور مشيئته وخلقه وحدوث الحوادث بدون محدث

فصل

قال الرافضي ومنها التقسيم الذي ذكره سيدنا ومولانا الإمام موسى بن جعفر الكاظم وقد سأله أبو حنيفة وهو صبي فقال المعصية ممن فقال الكاظم المعصية إما من العبد أو من الله أو منهما فإن كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف وإن كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجه المدح والذم وهو أحق بالثواب والعقاب ووجب له الجنة أو النار فقال أبو حنيفة ذرية بعضها من بعض

فيقال أولا هذه الحكاية لم يذكر لها إسنادا فلا تعرف صحتها فإن المنقولات إنما تعرف صحتها بالأسانيد الثابتة لا سيما مع كثرة الكذب في هذا الباب كيف والكذب عليها ظاهر فإن أبا حنيفة من المقرين بالقدر باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه وكلامه في الرد على القدرية معروف في الفقه الأكبر وقد بسط الحجج في الرد عليهم بما لم يبسطه على غيرهم في هذا الكتاب وأتباعه متفقون على أن هذا هو مذهبه وهو مذهب الحنفية المتبعين له ومن انتسب إليه في الفروع وخرج عن هذا من المعتزلة ونحوهم فلا يمكنه أن يحكى هذا القول عنه بل هم عند أئمة الحنفية الذين يفتى بقولهم مذمومون معيبون من أهل البدع والضلالة فكيف يحكى عن أبي حنيفة أنه استصوب قول من يقول إن الله لم يخلق أفعال العباد

وأيضا فموسى بن جعفر وسائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر والنقل بذلك عنهم ظاهر معروف وقدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر والصفات وإنما شاع فيهم رد القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة في دولة بني بويه

وأيضا فهذا الكلام المحكي عن موسى بن جعفر يقوله أصاغر القدرية وصبيانهم وهو معروف من حين حدثت القدرية قبل أن يولد موسى بن جعفر فإن موسى بن جعفر ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة قبل الدولة العباسية بنحو ثلاث سنين وتوفي ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة قال أبو حاتم ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين والقدرية حدثوا قبل هذا التاريخ بل حدثوا في أثناء المائة الأولى من زمن الزبير وعبد الملك

وهذا مما يبين أن هذه الحكاية كذب فإن أبا حنيفة إنما اجتمع بجعفر بن محمد وأما موسى بن جعفر فلم يكن ممن سأله أبو حنيفة ولا اجتمع به وجعفر بن محمد هو من أقران أبي حنيفة ولم يكن أبو حنيفة ممن يأخذ عنه مع شهرته بالعلم فكيف يتعلم من موسى بن جعفر

وما ذكره في هذه الحكاية من قول القائل هو أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله هو أصل كلام القدرية الذي يعرفه عامتهم وخاصتهم وهو أساس مذهبهم وشعاره ولهذا سموا أنفسهم العدلية فإضافة هذا إلى موسى بن جعفر لو كان حقا ليس فيه فضيلة له ولا مدح إذا كان صبيان القدرية يعرفونه فكيف إذا كان كذبا مختلقا عليه

ويقال ثانيا الجواب عن هذا التقسيم أن يقال هذا التقسيم ليس بمنحصر وذلك أن قول القائل المعصية ممن لفظ مجمل فإن المعصية والطاعة عمل وعرض قائم بغيره فلا بد له من محل يقوم به وهي قائمة بالعبد لا محالة وليست قائمة بالله تبارك وتعالى بلا ريب

ومعلوم أن كل مخلوق يقال هو من الله بمعنى أنه خلقه بائنا عنه لا بمعنى أنه قام به واتصف به كما في قوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه سورة الجاثية 13 وقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله سورة النحل 53

والله تعالى وإن كان خالقا لكل شيء فإنه خلق الخير والشر لما له في ذلك من الحكمة التي باعتبارها كان فعله حسنا متقنا كما قال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين سورة السجدة وقال اتقن كل شيء سورة النمل 88 فلهذا لا يضاف إليه الشر مفردا بل إما أن يدخل في العموم وإما أن يضاف إلى السبب وإما أن يحذف فاعله

فالأول كقول الله تعالى الله خالق كل شيء سورة الزمر 62 والثاني كقوله قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق سورة الفلق 1 2 والثالث كقوله فيما حكاه عن الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا سورة الجن وقد قال في أم القرآن اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة 6 7 فذكر أنه فاعل النعمة وحذف فاعل الغضب وأضاف الضلال إليهم وقال الخليل عليه السلام وإذا مرضت فهو يشفين سورة الشعراء ولهذا كان لله الأسماء الحسنى فسمى نفسه بالأسماء الحسنى المقتضية للخير

وإنما يذكر الشر في المفعولات كقوله اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم سورة المائدة 98 وقوله في آخر سورة الأنعام إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم سورة الأعراف 167 وقوله في الأعراف إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم سورة الحجرات 49 50 وقوله حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو

وهذا لأن ما يخلقه من الأمور التي فيها شر بالنسبة إلى بعض الناس فله فيها حكمة هو بخلقه لها حميد مجيد له الملك وله الحمد فليست بالإضافة إليه شرا ولا مذمومة فلا يضاف إليه ما يشعر بنقيض ذلك كما أنه سبحانه خالق الأمراض والأوجاع والروائح الكريهة والصور المستقبحة والأجسام الخبيثة كالحيات والعذرات لما له في ذلك من الحكمة البالغة

فإذا قيل هذه العذرة وهذه الروائح الخبيثة من الله أوهم ذلك أنها خرجت منه والله منزه عن ذلك وكذلك إذا قيل القبائح من الله أو المعاصي من الله قد يوهم ذلك أنها خارجة من ذاته كما تخرج من ذات العبد وكما يخرج الكلام من المتكلم والله منزه عن ذلك أو يوهم ذلك أنها منه قبيحة وسيئة والله منزه عن ذلك

بل جميع خلقه خلقه له حسن على قولي التفويض والتعليل وكذلك إذا قيل للطعوم والألوان والروائح ونحوها من الأعراض هذا الطعم الحلو والمر من الله أو من هذا النبات وهذه الروائح الطيبة أو الخبيثة من الله أو من هذه العين وأمثال ذلك وقد يوهم إذا قيل إنها من الله أنه أمر بها والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر

وهذا مثل قول ابن مسعود لما سئل عن المفوضة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه وكذلك قال أبو بكر في الكلالة وقال عمر نحو ذلك ومرادهم أن الصواب قد أمر الله به وشرعه وأحبه ورضيه والخطأ لم يأمر به ولم يحبه ولم يشرعه بل هو مما زينه الشيطان لنفسي ففعلته بأمر الشيطان فهو مني ومن الشيطان

وحينئذ فالجواب من وجوه

أحدها أن يقال الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته وقدرته وهو المتصف بها المتحرك بها الذي يعود حكمها عليه فإنه قد يقال لما اتصف به المحل وخرج منه هذا منه وإن لم يكن له اختيار كما يقال هذه الريح من هذا الموضع وهذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من هذه الأرض فلأن يقال ما صدر من الحي باختياره هذا منه بطريق الأولى وهي من الله بمعنى أنه خلقها قائمة بغيره وجعلها عملا له وكسبا وصفة وهو خلقها بمشيئة نفسه وقدرة نفسه بواسطة خلقه لمشيئة العبد وقدرته كما يخلق المسببات بأسبابها فيخلق السحاب بالريح والمطر بالسحاب والنبات بالمطر

والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار فهي من الله مخلوقة له في غيره كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه وهي من العبد صفة قائمة به كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جمادا فكيف إذا كان حيوانا

وحينئذ فلا شركة بين الرب وبين العبد لاختلاف جهة الإضافة كما أنا إذا قلنا هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته ومن الله بمعنى أنه خلقه لم يكن بينهما تناقض وإذا قلنا هذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث فيها ومن الله بمعنى أنه خلقه منها لم يكن بينهما تناقض وقد قال تعالى أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون سورة الطور 35 فالمشهور أم خلقوا من غير رب وقيل أم خلقوا من غير عنصر

وكذلك قال موسى لما قتل القبطي هذا من عمل الشيطان سورة القصص 1وقال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 مع قوله فيما تقدم قل كل من عند الله سورة النساء 78 فالحسنات والسيئات المراد بها هنا النعم والمصائب ولهذا قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت

كما في قوله إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وقوله إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا ما أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون سورة التوبة 50 فبين أن النعم والمصائب من عند الله فالنعمة من الله ابتداء والمصيبة بسبب من نفس الإنسان وهي معاصيه

كما قال في الآية الأخرى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير سورة الشورى 30 وقال في الآية الأخرى أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم سورة آل عمران وهذا لأن الله محسن عدل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل فهو محسن إلى العبد بلا سبب منه تفضلا وإحسانا ولا يعاقبه إلا بذنبه وإن كان قد خلق الأفعال كلها لحكمة له في ذلك فإنه حكيم عادل يضع الأشياء مواضعها ولا يظلم ربك أحدا

وإذا كان غير الله يعاقب عبده على ظلمه وإن كان مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وليس ذلك ظلما منه فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه وإذا كان الإنسان قد يفعل مصلحة اقتضتها حكمته لا تحصل إلا بتعذيب حيوان ولا يكون ذلك ظلما منه فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه

الوجه الثاني أن يقال هي من الله خلقا لها في غيره وجعلا لها عملا لغيره وهي من العبد فعلا له قائما به وكسبا يجر به منفعة إليه أو يدفع به مضرة وكون العبد هو الذي قام به الفعل وإليه يعود حكمه الخاص انتفاعا به أو تضررا جهة لا تصلح لله فإن الله لا تقوم به أفعال العباد ولا يتصف بها ولا تعود إليه أحكامها التي تعود إلى موصوفاتها وكون الرب هو الذي خلقها وجعلها عملا لغيره بخلق قدرة العبد ومشيئته وفعله جهة لا تصلح للعبد ولا يقدر على ذلك إلا الله ولهذا قال أكثر المثبتين للقدر إن أفعال العباد مخلوقة لله وهي فعل العبد وإذا قيل هي فعل الله فالمراد أنها مفعولة له لا أنها هي الفعل الذي هو مسمى المصدر

وهؤلاء هم الذين يفرقون بين الخلق والمخلوق وهم أكثر الأئمة وهو آخر قولي القاضي ابي يعلي وقول اكثر أصحاب الإمام أحمد وهو قول ابنيه يعني أبني القاضي أبي يعلي القاضي أبي حازم والقاضي أبي الحسين وغيرهما

الوجه الثالث أن قول القائل الله أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعل فنحن نقول بموجبه فإن الله لم يظلم عبده ولم يؤاخذه إلا بما فعله العبد باختياره وقوته لا بفعل غيره من المخلوقين وأما كون الرب خالق كل شيء فذلك لا يمنع كون العبد هو الملوم على ذلك كما أن غيره من المخلوقين يلومه على ظلمه وعدوانه مع إقراره بأن الله خالق أفعال العباد

وجماهير الأمم مقرة بالقدر وأن الله خالق كل شيء وهم مع هذا يذمون الظالمين ويعاقبونهم لدفع ظلمهم وعدوانهم كما أنهم يعتقدون أن الله خالق الحيوانات المضرة والنباتات المضرة وهم مع هذا يسعون في دفع ضررها وشرها وهم أيضا متفقون على أن الكاذب والظالم مذموم بكذبه وظلمه وأن ذلك وصف سيء فيه وأن نفسه المتصفة بذلك خبيثة ظالمة لا تستحق الإكرام الذي يناسب أهل الصدق والعدل وإن كانوا مقرين بأن كل ذلك مخلوق

وليس في فطر الناس أن يجعلوا مقابلة الظالم على ظلمه ظلما له وإن كانوا مقرين بالقدر فالله أولى أن لا ينسب إلى الظلم لذلك وهذا على طريقة أهل الحكمة والتعليل من أهل السنة وأما على طريقة أهل المشيئة والتفويض فالظلم ممتنع منه لذاته لأنه تصرف في ملك الغير أو تعدى ما حد له وكلاهما ممتنع في حق الله تعالى وبكل حال فالرب تعالى لا يمثل بالخلق لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل له المثل الأعلى فما ثبت لغيره من الكمال فهو أحق به وما تنزه عنه من النقص فهو أحق بتنزيهه وما كان سائغا للقادر الغني فهو أولى أن يكون سائغا له وليس كل ما قبح ممن يتضرر منه يكون قبيحا منه فإن العباد لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه

الوجه الرابع أن يقال لا نزاع بين المسلمين أن الله عادل ليس ظالما لكن ليس كل ما كان ظلما من العبد يكون ظلما من الرب ولا ما كان قبيحا من العبد يكون قبيحا من الرب فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله

تحقيق ذلك أنه لو كان الأمر كذلك كما يقوله من يقوله من القدرية للزم أن يقبح منه أمور فعلها فإن الواحد من العباد إذا أمر غيره بأمر لا ينتفع به الآمر وتوعده عليه بالعقاب وهو يعلم أن المأمور لا يفعله بل يعصيه فيستحق العقاب كان ذلك منه عبثا وقبيحا لعدم الفائدة في ذلك للآمر والمأمور وكذلك لو قال مرادي مصلحة المأمور وهو يعلم أنه لا يترتب عليه مصلحة بل مفسدة لكان ذلك قبيحا منه وكذلك إذا فعل فعلا لمراد وهو يعلم أن ذلك المراد لا يحصل لكان ذلك قبيحا منه

والقدرية يقولون إن الله خلق الكفار لينفعهم ويكرمهم وأراد ذلك بخلقهم وأمرهم مع علمه بأنهم يتضررون لا ينتفعون وكذلك الواحد من العباد لو رأى عبيده أو إماءه يزنون ويظلمون وهو قادر على منعهم ولم يمنعهم لكان مذموما مسيئا والله منزه عن أن يكون مذموما مسيئا

والقدري يقول هو أراد بخلقه لهم أن يطيعوه ويثيبهم فخلقهم للنفع مع علمه أنهم لا ينتفعون ومعلوم أن مثل هذا قبيح من الخلق ولا يقبح من الخالق ومن المعلوم أن المخلوق إذا كان قادرا على منع عبيده من القبائح فمنعه لهم خير من أن يعرضهم للثواب مع علمه أنه لا يحصل لهم إلا العقاب كالرجل الذي يعطي ولده أو غلامه مالا ليربح فيه وهو يعلم أنه يشتري به سما يأكله فمنعه له من المال خير من أن يعطيه إياه مع علمه أنه يتضرر به وكذلك إذا أعطى غيره سيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه لا يقاتل به إلا الأنبياء والمؤمنين لكان ذلك قبيحا منه وإن قال قصدت تعريض هذا للثواب والله لا يقبح ذلك منه وهذا حال قدرة العبد عند القدرية والقدرية مشبهة الأفعال قاسوا أفعال الله على أفعال خلقه وعدله على عدلهم وهو من أفسد القياس

الوجه الخامس أن يقال المعصية من العبد كما أن الطاعة من العبد ومعلوم أنه إذا كانت الطاعة منه بمعنى أنه فعلها بقدرته ومشيئته لم يمتنع أن يكون الله هو الذي جعله فاعلا لها بقدرته ومشيئته بل هذا هو الذي يدل عليه الشرع والعقل كما قال الخليل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك سورة البقرة 128 وقال رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة ابراهيم 40 وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا سورة السجدة 2ولأن كونه فاعلا بعد أن لم يكن أمر حادث فلا بد له من محدث والعبد يمتنع أن يكون هو الفاعل لكونه فاعلا لأن كونه فاعلا إن كان حدث بنفس كونه فاعلا لزم أن يكون الشيء حدث بنفسه من غير إحداث وهو ممتنع وإن كان بفاعليه أخرى فإن كانت هذه حدثت بالأولى لزم الدور القبلي وإن كانت حدثت بغيرها لزم التسلسل في الأمور المتناهية وكلاهما باطل فعلم أن كون الطاعة والمعصية من العبد يستحق عليها المدح والذم والثواب والعقاب لا يمنع أن يكون العبد فقيرا إلى الله في كل شيء لا يستغني عن الله في شيء قط وأن يكون الله خالق جميع أموره وأن يكون نفس فعله من الحوادث والممكنات المستندة إلى قدرة الله ومشيئته

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57