وإن جمع بين حق وباطل أثبت الحق وأبطل الباطل

وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا عبر عنه بعبارة يتفقان على المراد بها وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة كتنازعهم في لفظ المركب هل يدخل فيه الموصوف بصفات تقوم به وفي لفظ الجسم هل مدلوله في اللغة المركب أو الجسد أو نحو ذلك

وأما لفظ المتحيز فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة سورة الأنفال 16 وهذا لابد أن يحيط به حيز وجودي ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي

وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا فيجعلون كل جسم متحيزا والجسم عندهم ما يشار إليه فتكون السماوات والأرض وما بينهما متحيزا على اصطلاحهم وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة

والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان فيقولون المكان أمر وجودي والحيز تقدير مكان عندهم فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود فلا تكون في مكان وهي عندهم متحيزة ومنهم من يتناقض فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما كالرازي وغيره كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

فمن تكلم باصطلاحهم وقال إن الله متحيز بمعنى أنه أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطئ فهو سبحانه بائن من خلقه وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار

وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزا وقال يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما قد بسط في غير هذا الموضوع

وهما مما احتج به سلف الأمة وأئمتها على الجهمية كما احتج به الإمام أحمد في رده على الجهمية وعبد العزيز الكناني وعبدالله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهم وبينوا أنه سبحانه كان موجودا قبل أن يخلق السماوات والأرض فلما خلقهما فإما أن يكون قد دخل فيهما أو دخلت فيه وكلاهما ممتنع فتعين أنه بائن عنهما وقرروا ذلك بأنه يجب أن يكون مباينا لخلقه أو مداخلا له

والنفاة يدعون وجود موجود لا يكون مباينا لغيره ولا مداخلا له وهذا ممتنع في بداية العقول لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل ثم إنهم تناقضوا فقالوا لو كان فوق العرش لكان جسما لأنه لا بد أن يتميز ما يلي هذا الجانب عما يلي هذا الجانب

فقال لهم أهل الإثبات معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى

وإذا قلتم نفى هذا الثاني من حكم الوهم الباطل

قيل لكم فنفى الأول أولى أن يكون من حكم الوهم الباطل وإن قلتم إن نفى الأول من حكم العقل المقبول فنفى الثاني أولى أن يكون من حكم العقل المقبول

وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه

وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى ويراد به أمر عدمى كما وراء العالم

فإذا أريد الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر

فمن قال الباري في جهة وأراد بالجهة أمرا موجودا فكل ما سواه مخلوق له ومن قال إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ

وإن أراد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات

وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي فالعدم لا شيء

وهذا ونحوه من الإستفسار وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه

فإذا قال نافي الرؤية: لو رؤى لكان في جهة وهذا ممتنع فالرؤية ممتنعة

قيل له إن أردت بالجهة أمرا وجوديا فالمقدمة الأولى ممنوعة وإن أردت بها أمرا عدميا فالثانية ممنوعة فيلزم بطلان إحدى المقدمتين على كل تقدير فتكون الحجة باطلة

وذلك أنه إن أراد بالجهة أمرا وجوديا لم يلزم أن يكون كل مرئى في جهة وجودية فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية ومع هذا تجوز رؤيته فإنه جسم من الأجسام فبطل قولهم كل مرئى لا بد أن يكون في جهة وجودية إن أراد بالجهة أمرا وجوديا

وإن أراد بالجهة أمرا عدميا منع المقدمة الثانية فإنه إذا قال الباري ليس في جهة عدمية وقد علم ان العدم ليس بشيء كان حقيقة قوله إن الباري لا يكون موجودا قائما بنفسه حيث لا موجودا إلا هو وهذا باطل

وإن قال

هذا يستلزم أن يكون جسما أو متحيزا عاد الكلام معه في مسمى الجسم والمتحيز

فإن قال

هذا يستلزم أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وغيره ذلك من المعاني الممتنعة على الرب لم يسلم له هذا التلازم

وإن قال

يستلزم أن يكون الرب مشارا إليه ترفع الأيدي إليه في الدعاء وتعرج الملائكة والروح إليه وعرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه وتنزل الملائكة من عنده وينزل منه القرآن ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها

قيل له

لا نسلم انتفاء هذه اللوازم

فإن قال

ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم

قيل

إن أردت أنه يسمى جسما في اللغة أو في الشرع فهذا باطل

وإن أردت أنه يكون جسما مركبا من المادة والصورة أو من الجواهر المفردة فهذا أيضا ممنوع في العقل فإن ما هو جسم باتفاق العقلاء كالأحجار لا نسلم أنه مركب بهذا الاعتبار كما قد بسط في موضعه فما الظن بغير ذلك

وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الإصطلاحي من هذا وهذا وقد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية ولكن هذا الإمامي لم يذكر هنا من الأدلة ما يصل به إلى آخر البحث وقد ذكر في كلامه ما يناسب

هذا الموضع ومن شرع في تقرير ما ذكره بالمقدمات الممنوعة شرع معه في نقضها وإبطالها بمثل ذلك ولكل مقام مقال

وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع وبين أن ما تنفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة في علو الله سبحانه وتعالى على خلقه وغير ذلك كما أنه لم ينطق بما ذكروه كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين ولم يدل عليه أيضا دليل عقلي بل الأدلة العقلية الصريحة موافقة للأدلة السمعية الصحيحة ولكن هؤلاء ضلوا بألفاظ متشابهة ابتدعوها ومعان عقلية لم يميزوا بين حقها وباطلها

وجميع البدع كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبه في نصوص الأنبياء بخلاف بدع الجهمية النفاة فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا ولهذا كانت آخر البدع حدوثا في الإسلام ولما حدثت أطلق السلف والأئمة القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق ولهذا يصير محققوهم إالى مثل قول فرعون مقدم المعطلة بل وينتصرون له ويعظمونه وهؤلاء المعطلة ينفون نفيا مفصلا ويثبتون شيئا مجملا يجمعون في بين النقيضين وأما الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيثبتون إثباتا مفصلا وينفون نفيا مجملا يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل وينفون عنه التمثيل

وقد علم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسميها النفاة تجسيما ومع هذا فلم ينكر رسول الله وأصحابه على اليهود شيئا من ذلك ولا قالوا أنتم مجسمون

بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي شيئا من الصفات أقرهم الرسول على ذلك وذكر ما يصدقه كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالى للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره الآية سورة الزمر 6وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبي من غير وجه من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما

ولو قدر بأن النفى حق فالرسل لم تخبر به ولم توجب على الناس اعتقاده فمن اعتقده وأوجبه فقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن دينه مخالف لدين النبي

فصل

ومما يبين الأمر في ذلك أن المسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى عن العيوب والنقائص وأنه متصف بصفات الكمال لكن قد ينازعون في بعض الأمور هل النقص إثباتها أو نفيها وفي طريق العلم بذلك

فهذا المصنف الإمامي اعتمد على طريق المعتزلة ومن تابعهم من أن الإعتماد في تنزيه الرب عن النقائص على نفى كونه جسما ومعلوم أن هذه الطريقة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا هي مأثورة عن أحد من السلف فقد علم أنه لا أصل لها في الشرع وجمهور أصحابها يسلمون ذلك لكن يدعون أنها معلومة من جهة العقل

فقال لهم القادحون في طريقهم هذا أيضا باطل فإنه لا يمكن تنزيه الله تعالى عن شيء من النقائص والعيوب لاستلزام ذلك كونه جسما فإنه ما من صفة يقول القائل إنها تستلزم التجسيم إلا والقول فيما أثبته كالقول فيما نفاه

وهو لا بد أن يثبت شيئا وإلا لزم أن ينفى الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فأي صفة قال فيها إنها لا تكون إلا لجسم أمكن أن يقال له مثل ذلك فيما أثبته وإن كانت تلك صفة نقص فلو أراد أن ينزه الله تعالى عن الجهل والعجز والنوم وغير ذلك فإن هذه الصفات لا تكون إلا للأجسام قيل هل له وما تثبته أنت من الأسماء أو الأحكام أو الصفات لا تكون إلا للأجسام

ولهذا كان من رد بهذه الطريق على الواصفين لله بالعيوب والنقائص كلامهم متناقض ولهذا لم يعتمد الله ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة فيما ينكرونه على اليهود وغيرهم ممن وصف الله تعالى بشيء من النقائص كالبخل والفقر واللغوب والصاحبة والولد والشريك على هذه الطريق

ثم إن كثيرا ممن يسلك هذه الطريق حتى من الصفاتية يقولون إن كون الرب منزها عن النقص متصفا بالكمال مما لا نعرفه بالعقل بل بالسمع وهو الإجماع الذي استند إليه

وهؤلاء لا يبقى عندهم طريق عقلي ينزهون الله تعالى به عن شيء من النقائص والإجماع الذي اعتمدوا عليه إنما ينفع في الجمل دون التفاصيل التي هي محل نزاع بين المسلمين فإنه يمتنع أن يحتج بالإجماع في موارد النزاع ثم الإجماع يستندون فيه إلى بعض النصوص ودلالة النصوص على صفات الكمال أظهر وأكثر وأقطع من دلالة النصوص على كون الإجماع حجة

وإذا عرف ضعف أصول النفاة للصفات فيما ينزهون عنه الرب فهؤلاء الرافضة طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فعمدتهم في العقليات على عقليات باطلة وفي السمعيات على سمعيات باطلة ولهذا كانوا من أضعف الناس حجة وأضيقهم محجة وكان الأكابر من أئمتهم متهمين بالزندقة والإنحلال كما يتهم غير واحد من أكابرهم

والمقصود هنا أن هذا الباب تكلم الناس فيه بألفاظ مجملة مثل التركيب والإنقسام والتجزئة والتبعيض ونحو ذلك والقائل إذا قال إن الرب تعالى ليس بمنقسم ولا متجزئ ولا متبعض ولا مركب ونحو ذلك فهذا إذا أريد به ما هو المعروف من معنى ذلك في اللغة فلا نزاع بين المسلمين أن الله منزه عن ذلك فلا يجوز أن يقال إنه مركب من أجزاء متفرقة سواء قيل إنه مركب بنفسه أو ركبه غيره ولا أنه مركب يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض وإن لم يكن كان متفرقا فاجتمع كما يقال ذلك في الأجسام فإنه سبحانه وإن كان خلق الحيوان والنبات فأنشأه شيئا بعد شيء لم تكن يد الإنسان ورجله ورأسه متفرقة فجمع بينها بل خلق هذه الأعضاء جملة لكن يمكن تفريق بعضها عن بعض فيمتنع أن يقال إن الله سبحانه وتعالى يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بهذا الاعتبار فهذان معنيان متفق عليهما لا أعلم مسلما له قول في الإسلام قال بخلاف ذلك

وإن قال إن المراد بالتركيب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وبالإنقسام والتجزئة أنه مشتمل على هذه الأجزاء فجمهور العقلاء يقولون إن هذه المخلوقات المشار إليها كالشمس والقمر والأفلاك والهواء والنار والتراب ليست مركبة لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وكيف برب العالمين

فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المخلوق المشار إليه الذي هو عال على غيره كعلو السماء على الأرض إذا كان جمهور العقلاء يقولون إنه ليس مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة عند القائلين بها ولا من المادة والصورة كان منعهم أن يكون رب العالمين مركبا من هذا وهذا أولى

وأما من قال إن هذه الأعيان المشار إليها مركبة من هذا وهذا فكثير منهم كالمعتزلة والأشعرية ينفون عن الرب تعالى هذا التركيب ولكن كثير من شيوخ الكلام يقولون إن الله تعالى جسم فإذا كان من هؤلاء من يقول إن الجسم مركب من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة فقد يقول إنه مركب بهذا الاعتبار وبهذا

وهذا القول باطل عند جماهير المسلمين لكن جمهور العقلاء ينكرون هذاالتركيب في المخلوقات فهم في الخالق أشد إنكارا ومن قال إن المشار إليه المخلوق مركب هذا التركيب فهؤلاء يحتاجون في نفى ذلك عن الرب إلى برهان عقلي يبين امتناع مثل ذلك فإن منازعيهم الذين يقولون بثبوت مثل هذا المعنى الذي جعلوه تركيبا يقولون إنه لا برهان لهم على نفيه بل المقدمات التي وافقونا عليها من إثبات مثل هذا التركيب في الشاهد يدل على ثبوته في الغائب كما في نظائر ذلك مما يستدل به على الغائب بالشاهد

وبين الطائفتين في هذا منازعات عقلية ولفظية ولغوية قد بسطت في غير هذا الموضع

وأما جمهور العقلاء مع السلف والأئمة فعندهم أن الطائفتين مخطئتان وتنزيه الرب عن ذلك تبين بالعقل مع الشرع كما بين من غير سلوك الشبهات الفاسدة

وأما إذا قيل المراد بالإنقسام أو التركيب أن يتميز منه شيء عن شيء مثل تميز علمه عن قدرته أو تميز ذاته عن صفاته أو تميز ما يرى منه عما لا يرى كما قاله السلف في قوله تعالى لا تدركه الأبصار سورة الأنعام 103 قالوا لا تحيط به وقيل لابن عباس رضي الله عنه أليس الله تعالى يقول لا تدركه الأبصار قال ألست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا فذكر أن الله يرى ولا يدرك أي لا يحاط به ونحو ذلك

فهذا الإمتياز على قسمين أحدهما امتياز في علم العالم منا بأن نعلم شيئا ولا نعلم الآخر فهذا أيضا لا يمكن العاقل أن ينازع فيه بعد فهمه وإن قدر أن فيه نزاعا فإن الإنسان قد يعلم أنه موجود قبل أن يعلم أنه عالم ويعلم أنه قادر قبل أن يعلم أنه مريد ونحو ذلك

فما من أحد من الناس إلا وهو يعلم شيئا ولا يعلم الآخر فالإمتياز في علم الناس بين ما يعلم وما لا يعلم مما لا يمكن عاقلا المنازعة فيه إلا أن يكون النزاع لفظيا أو يتكلم الإنسان بما لا يتصور حقيقة قوله

فهذا الوجه من الإمتياز متفق على إثباته كما أن الأول متفق على نفيه وأما الإمتياز في نفس الأمر من غير قبول تفرق وانفصال كتميز العلم عن القدرة وتميز الذات عن الصفة وتميز السمع عن البصر وتميز ما يرى منه عما لا يرى ونحو ذلك وثبوت صفات له وتنوعها فهذا مما تنفيه الجهمية نفاة الصفات وهو مما أنكر السلف والأئمة نفيهم له كما ذكر ذلك أئمة المسلمين المصنفين في الرد على الجهمية كالإمام أحمد رضي الله عنه في رده على الجهمية وغيره من أئمة المسلمين ولكن ليس في أئمة المسلمين من قال إن الرب مركب من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة

وقد تنازع النظار في الأجسام المشهودة هل هي مركبة من جواهر أو من أجزاء أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال

فمن قال إن المخلوق ليس مركبا لا من هذا ولا هذا فالخالق أولى أن لا يكون مركبا

ومن قال إن المخلوق مركب فهو بين أمرين إما أن ينفى التركيب عن الرب سبحانه ويحتاج إلى دليل وأدلتهم على ذلك ضعيفة وإما أن يثبت تركيبه من هذا وهذا وهو قول سخيف فكلا القولين النفى والإثبات ضعيف لضعف الأصل الذي اشتركوا فيه

وهذا الموضع من محارات كثير من العقلاء في صفات المخلوق والخالق مثال ذلك الثمرة كالتفاحة والأترجة لها لون وطعم وريح وهذه صفات قائمة بها ولها أيضا حركة فمن النظار من قال صفاتها ليست أمورا زائدة على ذاتها ويجعل لفظ التفاحة يتناول هذا كله ومنهم من يقول بل صفاتها زائدة على ذاتها

وهذا في التحقيق نزاع لفظي فإن عنى بذاتها ما يتصوره الذهن من الذات المجردة فلا ريب أن صفاتها زائدة على هذه الذات وإن عنى بذاتها الذات الموجودة في الخارج فتلك متصفة بالصفات لا تكون داتا موجودة في الخارج إلا إذا كانت متصفة بصفاتها اللازمة لها فتقديرها في الخارج منفكة عن الصفات حتى يقال هل الصفات زائدة عليها أو ليست زائدة تقدير ممتنع والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع

وقد حكى عن طائفة من النظار كعبدالرحمن بن كيسان الأصم وغيره أنهم أنكروا وجود الأعراض في الخارج حتى أنكروا وجود الحركة والأشبه والله أعلم أنه لم ينقل قولهم على وجهه فإن هؤلاء أعقل من أن يقولوا ذلك وعبدالرحمن الأصم وإن كان معتزليا فإنه من فضلاء الناس وعلمائهم وله تفسير ومن تلاميذه إبراهيم بن إسماعيل بن علية ولإبراهيم مناظرات في الفقه وأصوله مع الشافعي وغيره

وفي الجملة فهؤلاء من أذكياء الناس وأحدهم أذهانا وإذا ضلوا في مسألة لم يلزم أن يضلوا في الأمورالظاهرة التي لا تخفى على الصبيان

وهذا كما أن الأطباء وأهل الهندسة من أذكياء الناس ولهم علوم صحيحة طبية وحسابية وإن كان ضل منهم طوائف في الأمور الإلهية فذلك لا يستلزم أن يضلوا في الأمور الواضحة في الطب والحساب فمن حكى عن مثل أرسطو أو جالينوس أو غيرهما قولا في الطبيعيات ظاهر البطلان علم أنه غلط في النقل عليه وإن لم يكن تعمد الكذب عليه

بل محمد بن زكريا الرازي مع إلحاده في الإلهيات والنبوات ونصرته لقول ديمقراطيس والحرنانيين القائلين بالقدماء الخمسة مع أنه من أضعف أقوال العالم وفيه من التناقض والفساد ما هو مذكور في موضع آخر كشرح الأصبهانية والكلام على معجزات الأنبياء والرد على من قال إنها قوى نفسانية المسماة بالصفدية وغير ذلك فالرجل من أعلم الناس بالطب حتى قيل له جالينوس الإسلام فمن ذكر عنه في الطب قولا يظهر فساده لمبتدئ الأطباء كان غالطا عليه وكذلك عبدالرحمن بن كيسان وأمثاله لا ينكر أن يكون للثمرة طعما ولونا وريحا وهذا من المراد بالأعراض في اصطلاح النظار فكيف يقال إنهم أنكروا الأعراض

بل إذا قالوا إن الأعراض ليست صفات زائدة على الجسم بمعنى أن الجسم اسم للذات التي قامت بها الأعراض فالعرض داخل في مسمى الجسم وهذا مما يمكن أن يقوله هؤلاء وأمثالهم

ثم رأيت أبا الحسين البصري وهو أحذق متأخري المعتزلة قد ذكر في تصفيح الأدلة والأجوبة هذا المعنى وذكر أن مرادهم هو هذا المعنى وذكر من كلامهم ما يبين ذلك فاختار هو هذا وأثبت الأحوال التي يسميها غيره أعراضا زائدة وعاد جمهور النزاع إلى أمور لفظية

وإذا كان كذلك فمن المعلوم أنا نحن نميز بين الطعم واللون والريح بحواسنا فنجد الطعم بالفم ونرى اللون بالعين ونشم الرائحة بالأنف كما نسمع الصوت بالأذن فهنا الآلات التي تحس بها هذه الأعراض مختلفة فينا يظهر اختلافها في أنفسها لاختلاف الآلات التي تدركها بخلاف ما يقوم بأنفسنا من علم وإرادة وحب فإنا لا نميز بين هذا وهذا بحواس مختلفة وإن كان أدلة العلم بذلك مختلفة فالأدلة قد تكون أمورا منفصلة عن المستدل

فهذا مما يقع به الفرق بين الصفات المدركة بالحس والصفات المعلومة بالعقل وإلا فمعلوم أن اتصاف الأترجة والتفاحة بصفاتها المتنوعة هو أمر ثابت في نفسه سواء وجدنا ذلك أو لم نجده ومعلوم أن طعمها نفسه ليس هو لونها ولونها ليس هو ريحها وهذا كلها صفات قائمة بها متنوعة بحقائقها وإن كان محلها الموصوف بها واحدا

ثم الصفات نوعان نوع لا يشترط فيه الحياة كالطعم واللون والريح ونوع يشترط فيه الحياة كالعلم والإرادة والسمع والبصر

فأما الأول فحكمه لا يتعدى محله فلا يتصف باللون والريح والطعم إلا ما قام به ذلك وأما هذا الثاني فقد تنازع فيه النظار لما رأوا أن الإنسان يوصف بأنه عالم قادر مريد والعلم والإرادة لم تقم بعقبه ولا بظهره وإنما هو قائم بقلبه

فمنهم من قال الأعراض المشروطة بالحياة يتعدى حكمها محلها فإذا قامت بجزء من الجملة وصف بها سائر الجملة كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم

ومنهم من يقول بل الموصوف بذلك جزء منفرد في القلب

ومنهم من يقول بل حكمها لا يتعدى محلها وإنه بكل جزء من أجزاء البدن حياة وعلم وقدرة

ومن هؤلاء من يقول لا يشترط في قيام هذه الأعراض بالجوهر الفرد البنية المخصوصة كما يقوله الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي أحمد وغيرهم وهؤلاء بنوا هذا على ثبوت الجوهر الفرد وهو أساس ضعيف فإن القول به باطل كما قد بسط في موضعه

ثم من المتفلسفة المشائين من ادعى أن محل العلم من الإنسان ما لا ينقسم ومعنى ذلك عندهم أن النفس الناطقة لا يتميز منها شيء عن شيء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يصعد ولا ينزل ولا يدخل في البدن ولا غيره من العالم ولا يخرج منه ولا يقرب من شيء ولا يبعد منه

ثم منهم من يدعى أنها لا تعلم الجزئيات وإنما تعلم الكليات كما يذكر ذلك عن ابن سينا وغيره وكان أعظم ما اعتمدوا عليه من المعلومات ما لا ينقسم فالعلم به لا ينقسم لأن العلم مطابق للمعلوم فمحل العلم لا ينقسم لأن ما ينقسم لا يحل في منقسم

وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين بعض ما في هذا الكلام من الغلط مع أن هذا عندهم هو البرهان القاطع الذي لا يمكن نقضه وقواهم على ذلك أن بعض من عارضهم كأبي حامد والرازي لم يجيبوا عنه بجواب شاف بل أبو حامد قد يوافقهم على ذلك

ومنشأ النزاع إثبات ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه في الوجود الخارجي

فيقال لهم

لا نسلم أن في الوجود ما لا يتميز منه شيء عن شيء

فإذا قالوا: النقطة

قيل لهم: النقطة والخط والسطح الواحد والإثنان والثلاثة قد يراد بها هذه المقادير مجردة عن موصوفاتها وقد يراد بها ما اتصف بها من المقدرات في الخارج

فإذا أريد الأول فلا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان فليس في الخارج عدد مجرد عن المعدود ولا مقدار مجرد عن المقدر لا نقطة ولا خط ولا سطح ولا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة بل الموجودات المعدودات كالدرهم والحبة والإنسان والمقدرات كالأرض التي لها طول وعرض وعمق فما من سطح إلا وله حقيقة يتميز بها عن غيره من السطوح كما يتميز التراب عن الماء وكا يتميز سطوح كل جسم عن سطوح الآخر

وإن قالوا

ما لا ينقسم هي العقول المجردة التي تثبتها الفلاسفة كان دون إثبات هذه خرط القتادة فلا يتحقق منها إلا ما يقدر في الأذهان لا ما يوجد في الأعيان

والملائكة التي وصفتها الرسل وأمروا بالإيمان بها بينها وبين هذه المجردات من أنواع الفرقان ما لا يخفى إلا على العميان كما قد بسط في غير هذا المكان

وإن أرادوا بما لا ينقسم واجب الوجود وقالوا إنه واحد لا ينقسم ولا يتجزأ

قيل

إن أردتم بذلك نفى صفاته وأنه ليس لله حياة وعلم وقدرة تقوم به فقد علم أن جمهور المسلمين وسائر أهل الملل بل وسائر عقلاء بني آدم من جميع الطوائف يخالفونكم في هذا

وهذا أول المسألة وأنتم وكل عاقل قد يعلم بعض صفاته دون بعض والمعلوم هو غير ما ليس بمعلوم فكيف ينكر أن يكون له معان متعددة

وأدلة إثبات الصانع كثيرة ليس هذا موضعها فلم قلتم بإمكان وحود مثل هذا في الخارج فضلا عن تحقيق وجوده وقد عرف فساد حجتكم على نفى الصفات وإن سميتم ذلك توحيدا فحينئذ الواحد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء لم يعلم ثبوته في الخارج حتى يحتج على أن العلم به كذلك والعالم به كذلك

وقد احتج بعضهم على وجود ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه بأن قالوا الوجود في الخارج إما بسيط وإما مركب والمركب لا بد له من بسيط

وهذا ممنوع فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب من هذا البسيط الذي أثبتموه وإنما الموجود الأجسام البسيطة وهو ما يشبه بعضه بعضا كالماء والنار والهواء ونحو ذلك

وأما ما لا يتميز منه شيء عن شيء فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب منه بل لا موجود إلا ما يتميز منه شيء عن شيء

وإذا قالوا

فذلك الشيء هو البسيط

قيل لهم

وذلك إنما يكون بعضا من غيره لا يعلم مفردا ألبتة كما لا يوجد مفردا ألبتة

ثم يقال

من المعلوم أن بدن الإنسان ينقسم بالمعنى الذي يذكرونه ويتميز منه شيء عن شيء والحياة والحس سار في بدنه فما المانع أن تقوم الحياة والعلم بالروح كما قامت الحياة والحس بالبدن وإن كان البدن منقسما عندكم

وإن قلتم: الحياة والحس منقسم عندكم

قيل: إن أردتم بذلك أنه يمكن كون البعض حيا حساسا مع مفارقة البعض قيل هذا لا يطرد بل قد يذهب بعضه وتبقى الحياة والحس في بعضه وقد تذهب الحياة والحس عن بعضه بذهاب ذلك عن البعض كما في القلب

وعلى التقديرين فالحياة والحس يتسع باتساع محله والأرواح متنوعة وما يقوم بها من العلم والإرادة وغير ذلك يتنوع بتنوعها فما عظم من الموصوفات عظمت صفاتها وما كان دونها كانت صفاته دونه

وأيضا فالوهم عندهم قوة جسمانية قائمة بالجسم مع أنها تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس كالصداقة والعداوة وذلك المعنى مما لا ينقسم بانقسام محله عندهم

وأيضا فقوة الإبصار التي في العين قائمة بجسم ينقسم عندهم مع أنها لا تنقسم بانقسام محلها بل الاتصال شرط فيها فلو فسد بعض محلها فسدت ولا يبقى بعضها مع فساد أي بعض كان فما كان المانع أن يكون قيام الحياة والعلم والقدرة والإرادة ببعض الروح إذا قيل يتميز بعضها عن بعض مشروطا بقيامه بالبعض الآخر بحيث يكون الاتصال شرطا في هذا الإتصاف كما يوجد ذلك في الحياة والحس في بعض البدن لا تقوم به الحياة والحس إلا إذا كان متصلا نوعا من الاتصال

وبسط الكلام في كثير من هذه الأمور يتعلق بالكلام على روح الإنسان التي تسمى النفس الناطقة وعلى اتصافها بصفاتها فبهذا يستعين الإنسان على الكلام في الصفات الإلهية وبذلك يستعين على ما يرد عليه من الشبهات وقد تكلمنا على ذلك في مواضع

والناس قد تنازعوا في روح الإنسان هل هي جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة أو جوهر لا يقبل الصعود والنزول والقرب والبعد ونحو ذلك وكلا القولين خطأ كما ذكر في غير هذا الموضع

وأضعف من ذلك قول من يجعلها عرضا من أعراض البدن كالحياة والعلم

وقد دخل في الأول قول من قال إن الإنسان ليس هو إلا هذه الجمل المشاهدة وهي البدن ومن قال إنها الريح التي تتردد في مخاريق البدن ومن قال إنها الدم ومن قال إنها البخار اللطيف الذي يجري في مجاري الدم وهو المسمى بالروح عند الأطباء ومن قال غير ذلك

والثاني قول من يقول بذلك من المتفلسفة ومن وافقهم من النظار

وقد ينظر الإنسان في كتب كثيرة من المصنفة في هذه الأمور ويجد في المصنف أقوالا متعددة والقول الصواب لا يجده فيها

ومن تبحر في المعارف تبين له خلاصة الأمور وتحقيقها هو ما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى في جميع هذه الأمور لكن إطالة القول في هذا الباب لا يناسب هذا الكتاب وإنما المقصود التنبيه على أن ما تشنع به الرافضة على أهل السنة من ضعيف الأقوال هم به أخلق والضلال بهم أعلق ولكن لا بد من جمل يهتدى بها إلى الصواب

وباب التوحيد والأسماء والصفات مما عظم فيه ضلال من عدل عما جاء به الرسول إلى ما يظنه من المعقول وليست المعقولات الصريحة إلا بعض ما أخبر به الرسول يعرف ذلك من خبر هذا وهذا

فصل

وهذا الموضع أشكل على كثير من الناس لفظا ومعنى أما اللفظ فتنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها وتسمى بها عباده كالموجود والحي والعليم والقدير فقال بعضهم هي مقولة بالاشتراك اللفظي حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا وهذا قول بعض المتأخرين كالشهرستاني والرازي في أحد قوليهما وكالآمدي مع توقفه أحيانا وقد ذكر الرازي والآمدي ومن اتبعهما هذا القول عن الأشعري وأبي الحسين البصري وهو غلط عليهما وإنما ذكروا ذلك لأنهما لا يقولان بالأحوال ويقولان وجود كل شيء عين حقيقته فظنوا أن من قال وجود كل شيء عين حقيقته يلزمه أن يقول إن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي عليهما لأنه لو كان متواطئا لكان بينهما قدر مشترك فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته والمشترك ليس هو المميز فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة والرازي والآمدي ونحوهما ظنوا أنه ليس في المسألة إلا هذا القول وقول من يقول بأن اللفظ متواطئ ويقول وجوده زائد على حقيقته كما هو قول أبي هاشم وأتباعه من المعتزلة والشيعة أو قول ابن سينا بأنه متواطئ أو مشكك مع أنه الوجود المقيد بسلب كل أمر ثبوتي عنه

وذهب من ذهب من القرامطة الباطنية وغلاة الجهمية إلى أن هذه الأسماء حقيقة في العبد مجاز في الرب قالوا هذا في اسم الحي ونحوه حتى في اسم الشيء كان الجهم وأتباعه لا يسمونه شيئا وقيل عنه إنه لم يسمه إلا بالقادر الفاعل لأن العبد عنده ليس بقادر ولا فاعل فلا يسميه باسم يسمى به العبد وذهب أبو العباس الناشئ إلى ضد ذلك فقال إنها حقيقة للرب مجاز للعبد

وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني فلا يدل عليم على علم ولا قدير على قدرة بل هي أعلام محضة وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالاشتراك اللفظي

وأصل غلط هؤلاء شيئان إنا نفى الصفات والغلو في نفى التشبيه وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج

فالأول هو مأخذ الجهمية ومن وافقهم على نفى الصفات قالوا إذا قلنا عليم يدل على علم وقدير يدل على قدرة لزم من إثبات الأسماء إثبات الصفات وهذا مأخذ ابن حزم فإنه من نفاة الصفات مع تعظيمه للحديث والسنة والإمام أحمد ودعواه أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وغيره

وغلطه في ذلك بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ولم يتفق له من يبين له خطأهم ونقل المنطق بالإسناد عن متى الترجمان وكذلك قالوا إذا قلنا موجود وموجود وحي وحي لزم التشبيه فهذا أصل غلط هؤلاء

وأما الأصل الثاني فمنه غلط الرازي ونحوه فإنه ظن أنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا والوجود شامل لهما كان بينهما وجود مشترك كلى في الخارج فلا بد من مميز يميز هذا عن هذا والمميز إنما هو الحقيقة فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة

ثم إن هؤلاء يتناقضون فيجعلون الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ سهيل القول على سهيل الكوكب وعلى سهيل بن عمرو فإن تلك لا يقال فيها إن هذا ينقسم إلى كذا وكذا ولكن يقال إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى وعلى هذا المعنى وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي

وهناك تقسيم عقلي تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام مورد التقسيم مشترك بين الأقسام وقد ظن بعض الناس أنه يخلص من هذا بأن يجعل لفظ الوجود مشككا لكون الوجود الواجب أكمل كما يقال في لفظ السواد والبياض المقول على سواد القار وسواد الحدقة وبياض الثلج وبياض العاج

ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها بل أكثرها كذلك وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي ولهذا كان من الناس من قال هو نوع من المتواطئ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما بل بإزاء القدر المشترك

وبالجملة فالنزاع في هذا لفظي فالمتواطئة العامة تتناول المشككة وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة وإذ جعلت المتواطئة نوعين متواطئا عاما وخاصا كما جعل الإمكان نوعين عاما وخاصا زال اللبس

والمقصود هنا أن يعرف أن قول جمهور الطوائف من الأولين والآخرين أن هذه الأسماء عامة كلية سواء سميت متواطئة أو مشككة ليست ألفاظا مشتركة اشتراكا لفظيا فقط وهذا مذهب المعتزلة والشيعة والأشعرية والكرامية وهو مذهب سائر المسلمين أهل السنة والجماعة والحديث وغيرهم إلا من شذ

وأما الشبه التي أوقعت هؤلاء فجوابها من وجهين تمثيل وتخييل أما التمثيل فأن يقال القول في لفظ الوجود كالقول في لفظ الحقيقة والماهية والنفس والذات وسائر الألفاظ التي تقال على الواجب والممكن بل تقال على كل موجود

فهم إذا قالوا يشتركان في الوجود ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته

قيل لهم القول في لفظ الحقيقة كالقول في لفظ الوجود فإن هذا له حقيقة وهذا له حقيقة كما أن لهذا وجودا ولهذا وجودا وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما هو ممتاز عنه بحقيقته التي تختص به فقول القائل إنهما يشتركان في مسمى الوجود ويمتاز كل واحد منهما بحقيقته التي تخصه كما لو قيل هما مشتركان في مسمى الحقيقة ويمتاز كل منهما بوجوده الذي يخصه

وإنما وقع الغلط لأنه اخذ الوجود مطلقا لا مختصا وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة ومن المعلوم أن كلا منهما يمكن أن يوجد مطلقا ويمكن أن يوجد مختصا فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص وأما أخذ أحدهما عاما والآخر مختصا فليس هذا بأولى من العكس

وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا أنه إذا قيل إنهما مشتركان في مسمى الوجود يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا وهو نفسه في هذا فيكون نفس المشترك فيهما والمشترك لا يميز فلا بد له من مميز

وهذا غلط فإن قول القائل يشتركان في مسمى الوجود أي يشتبهان في ذلك ويتفقان فيه فهذا موجود وهذا موجود ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده ألبتة وإذا قيل يشتركان في الوجود المطلق الكلي فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقا كليا إلا في الذهن فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه بل هذا له حصة منه وهذا له حصة منه وكل من الحصتين ممتازة عن الأخرى

ومن قال المطلق جزء من المعين والموجود جزء من هذا الموجود والإنسان جزء من هذا الإنسان إن أراد به أن المعين يوصف به فيكون صفة له ومع كونه صفة له فما هو صفة له لا توجد عينه لآخر فهذا معنى صحيح ولكن تسمية الصفة جزء الموصوف ليس هو المفهوم منها عند الإطلاق

وإن أريد أن نفس ما في المعين من وجود أو إنسان هو في ذلك بعينه فهذا مكابرة

وإن قال إنما أردت أن النوع في الآخر عاد الكلام في النوع فإن النوع أيضا كلى

والكليات الخمسة كليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام والقول فيها واحد فليس فيها ما يوجد في الخارج كليا مطلقا ولا تكون كلية مطلقة إلا في الأذهان لا في الأعيان وما يدعى فيها من عموم وكلية أو من تركيب كتركيب النوع من الجنس والفصل هي أمور عقلية ذهنية لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج شيء يعم هذا وهذا ولا في الخارج إنسان مركب من هذا وهذا بل الإنسان موصوف بهذا وهذا وهذا بصفة يوجد نظيرها في كل إنسان وبصفة يوجد نظيرها في كل حيوان وبصفة يوجد نظيرها في كل نام

وأما نفس الصفة التي قامت به ونفس الموصوف الذي قامت به الصفة فلا اشتراك فيه أصلا ولا عموم ولا هو مركب من عام وخاص

وهذا الموضع منشأ زلل كثير من المنطقيين في الكليات وكثير من المتكلمين في مسألة الحل وبسبب ذلك غلط من غلط من هؤلاء وهؤلاء في الإلهيات فيما يتعلق بهذا فإن المتكلمين أيضا رأوا أن الأشياء تتفق بصفات وتختلف بصفات والمشترك عين المميز فصاروا حزبين حزبا أثبت هذه الأمور في الخارج لكنه قال لا موجودة ولا معدومة لأنها لو كانت موجودة لكانت أعيانا موجودة أو

صفات للأعيان ولو كانت كذلك لم يكن فيها اشتراك وعموم فإن صفة الموصوف الموجودة لا يشركه فيها غيره

وآخرون علموا أن كل موجود مختص بصفة فقالوا لا عموم ولا اشتراك إلا في الألفاظ دون المعاني

والتحقيق أن هذه الأمور العامة المشترك فيها هي ثابتة في الأذهان وهي معاني الألفاظ العامة فعمومها بمنزلة عموم الألفاظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والمعنى عام وعموم اللفظ يطابق عموم المعنى وعموم الخط يطابق عموم اللفظ

وقد اتفق الناس على أن العموم يكون من عوارض الألفاظ وتنازعوا هل يكون من عوارض المعاني فقيل يكون أيضا من عوارض المعاني كقولهم مطر عام وعدم عام وخصب عام

وقيل بل ذلك مجاز لأن المطر الذي حل بهذه البقعة ليس هو المطر الذي حل بهذه البقعة وكذلك الخصب والعدل

والتحقيق أن معنى المطر القائم بقلب المتكلم عام كعموم اللفظ سواء بل اللفظ دليل على ذلك المعنى فكيف يكون اللفظ عاما دون معناه الذي هو المقصود بالبيان فأما المعاني الخارجية فليس فيها شيء بعينه عام وإنما العموم للنوع كعموم الحيوانية للحيوان والإنسانية للإنسان

فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ من جنس واحد ومن فهم الأمر على ما هو عليه تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا

وإذا قال نوعه موجود أو الكلى الطبيعي موجود أو الحقيقة موجودة أو الإنسانية من حيث هي موجودة ونحو هذه العبارات فالمراد به أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا أو شبهه ومثله ونحو ذلك

والمتماثلان يجمعهما نوع واحد وذلك النوع هو الذي بعينه يعم هذا ويعم هذا لا يكون عاما مطلقا كليا إلا في الذهن وأنت إذا قلت الإنسانية موجودة في الخارج والكلى الطبيعي موجود في الخارج كان صحيحا بمعنى أن ما تصوره الذهن كليا يكون في الخارج لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليا كما أنك إذا قلت زيد في الخارج فليس المراد هذا اللفظ ولا المعنى القائم في الذهن بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارج ومن هنا تنازع الناس في مسألة الاسم والمسمى ونزاعهم شبيه بهذا النزاع وأنت إذا نظرت في الماء أو المرآة فقلت هذه الشمس أو هذا القمر فهو صحيح وليس مرادك أن نفس ما في السماء حصل في الماء أو المرآة ولكن ذلك شوهد في المرآة وظهر في المرآة وتجلى في المرآة

فإذا قلت الكليات في الخارج فصحيح أو الإنسان من حيث هو في الخارج فصحيح لكن لا يكون في الخارج إلا مقيدا مخصوصا لا يشركه في نفس الأمر شيء من الموجودات الخارجية

وبهذا ينحل كثير من المواضع التي اشتبهت على كثير من المنطقيين وغلطوا فيها مثل زعمهم أن الماهية الموجودة في الخارج غير الوجود فإنك تتصور المثلث قبل أن تعلم وجوده وبنوا على ذلك الفرق بين الصفات الذاتية واللازمة العرضية وغير ذلك من مسائلهم

ولا ريب أن الفرق ثابت بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج فإذا جعلت الماهية اسما لما في الذهن والوجود اسما لما في الخارج فالفرق ثابت كما لو جعل الوجود اسما لما في الذهن والماهية اسما لما في الخارج

لكن لما كان لفظ الماهية مأخوذا من قول السائل ماهو وجواب هذا هو المقول في جواب ما هو وذلك كلام يتصور معناه المجيب عبر بالماهية عن الصور الذهنية وأما الوجود فهو تحقق الشيء في الخارج

لكن هؤلاء لم يقتصروا على هذا بل زعموا أن ما هيات الأشياء ثابتة في الخارج وأنها غير الأعيان الموجودة وهذا غلط بالضرورة فإن المثلث الذي تعرفه قبل أن تعرف وجوده في الخارج هو المثلث المتصور في الذهن الذي لا وجود له في الخارج وإلا فمن الممتنع أن تعلم حقيقة المثلث الموجود في الخارج قبل أن تعلم وجوده في الخارج فما في الخارج لا تعلم حقيقته حتى تعلم وجوده وما علمت حقيقته قبل وجوده لم يكن له حقيقة بعد إلا في الذهن ومن هذا الباب ظن من ظن من هؤلاء أن لنا عددا مجردا في الخارج أو مقدارا مجردا في الخارج وكل هذا غلط وهذا مبسوط في موضع آخر وإنما نبهنا هنا على هذا لأن كثيرا من أكابر أهل النظر والتصوف والفلسفة والكلام ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية ضلوا في مسألة وجود الخالق التي هي رأس كل معرفة والتبس الأمر في ذلك على من نظر في كلامهم لأجل هذه الشبهة وقد كتبنا في مسألة الكليات كلاما مبسوطا مختصا بذلك لعموم الحاجة وقوة المنفعة وإزالة الشبهة بذلك

وبهذا يتبين غلط النفاة في لفظ التشبيه فإنه يقال الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق أو أن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب وأما إذا قيل حي وحي وعالم وعالم وقادر وقادر أو قيل لهذا قدرة ولهذا قدرة ولهذا علم ولهذا علم كان نفس علم الرب لم يشركه فيه العبد ونفس علم العبد لا يتصف به الرب تعالى عن ذلك وكذلك في سائر الصفات بل ولا يماثل هذ هذا وإذا اتفق العلماء في مسمى العلم والعالمان في مسمى العالم فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفى لا بشرع ولا بعقل ولا يمكن نفى ذلك إلا بنفى وجود الصانع

ثم الموجود والمعدوم قد يشتركان في أن هذا معلوم مذكور وهذا معلوم مذكور وليس في إثبات هذا محذور فإن المحذور إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر وقولنا إثبات الخصائص إنما يراد إثبات مثل تلك الخاصة وإلا فإثبات عينها ممتنع مطلقا

فالأسماء والصفات نوعان نوع يختص به الرب مثل الإله ورب العالمين ونحو ذلك فهذا لايثبت للعبد بحال ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادا

والثاني ما يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم والقادر فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه وذلك يستلزم اجتماع النقيضين كما تقدم بيانه

وإذا قيل

فهذا يلزم فيما اتفقا فيه كالوجود والعلم والحياة

قيل

هذه الأمور لها ثلاثة اعتبارات

أحدها ما يختص به الرب فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه ليس للعبد فيه نصيب

والثاني

ما يختص بالعبد كعلم العبد وقدرته وحياته فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته وحياته فإنه لا اشتراك فيه

والثالث

المطلق الكلى وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة فهذا المطلق ما كان واجبا له كان واجبا فيهما وما كان جائزا عليه كان جائزا عليهما وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما

فالواجب أن يقال هذه صفة كمال حيث كانت فالحياة والعلم والقدرة صفة كمال لكل موصوف والجائز عليهما اقترانهما بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام فهذه الصفات يجوز أن تقارن هذه في كل محل اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة وأما الممتنع عليهما فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف قائم بنفسه وهذا ممتنع عليها في كل موضع فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها بل بموصوف وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها بل بموصوف

وإذا تبين هذا فقول هذا المصنف وأشباهه قول المشبهة

إن أراد بالمشبهة من أثبت من الأسماء ما يسمى به الرب والعبد فطائفته وجميع الناس مشبهة

وإن أراد به من جعل صفات الرب مثل صفات العبد فهؤلاء مبطلون ضالون وهم في الشيعة أكثر منهم في غيرهم وليس هؤلاء طائفة معينة من أهل السنة والجماعة

وإن قال

أردت به من يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والاستواء ونحو ذلك

قيل له أولا

ليس هي هؤلاء من التشبيه ما امتازوا به عن غيرهم فإن هؤلاء يصرحون بأن صفات الله ليست كصفات الخلق وأنه منزه عما يختص بالمخلوقين من الحدوث والنقص وغير ذلك فإن كان هذا تشبيها لكون العباد لهم ما يسمى بهذه الأسماء كان جميع الصفاتية مشبهة بل والمعتزلة والفلاسفة أيضا مشبهة لأنهم يقولون حي عليم قدير ويقولون موجود وحقيقة وذات ونفس والفلاسفة تقول عاقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق وغير ذلك من الأسماء الموجودة في المخلوقات

وإن قال

سموا مشبهة لأنهم يقولون إنه جسم والأجسام متماثلة بخلاف من أثبت الصفات ولم يقل هو جسم

قيل أولا

هذا باطل لأنك ذكرت الكرامية قسما غيرهم والكرامية تقول إنه جسم

وقيل لك ثانيا

لا يطلق لفظ الجسم إلا أئمتك الإمامية ومن وافقهم

وقيل لك ثالثا

فهذا مبنى على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يقولون إنها ليست متماثلة والقائلون بتماثلها من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وطائفة من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ليست لهم حجة على تماثلها أصلا كما قد بسط ذلك في موضعه وقد اعترف بذلك فضلاؤهم حتى الآمدي في كتاب أبكار الأفكار اعترف بأنه لا دليل لهم على تماثل الأجسام إلا تماثل الجواهر ولا دليل لهم على تماثل الجواهر والأشعري في الإبانة جعل هذا القول من أقوال المعتزلة التي أبطلها

وسواء كان تماثلها حقا أو باطلا فمن قال إنه جسم كهشام بن الحكم وابن كرام لا يقول بتماثل الأجسام فإنهم يقولون إن حقيقة الله تعالى ليست مثل شيء من الحقائق فهم أيضا ينكرون التشبيه فإذا وصفوا به لاعتقاد الواصف أنه لازم لهم أمكن كل طائفة أن يصفوا الأخرى بالتشبيه لاعتقادها أنه لزم لها فالمعتزلة والشيعة توافقهم على أن أخص وصف الرب هو القدم وأن ما شاركه في القدم فهو مثله فإذا أثبتنا صفة قديمة لزم التشبيه وكل من أثبت صفة قديمة فهو مشبه وهم يسمون جميع من أثبت الصفات مشبها بناء على هذا

فإن قال هذا الإمامي فأنا ألتزم هذا

قيل له تناقضت لأنك أخرجت الأشعرية والكرامية عن المشبهة في اصطلاحك فأنت تتكلم بألفاظ لا تفهم معناها ولا موارد استعمالها وإنما تقوم بنفسك صورة تبني عليها

وكأنك والله أعلم عنيت بالحشوية المشبهة من ببغداد والعراق من الحنبلية ونحوهم أو الحنبلية دون غيرهم وهذا من جهلك فإنه ليس للحنبلية قول انفردوا به عن غيرهم من طوائف أهل السنة والجماعة بل كل ما يقولونه قد قاله غيرهم من طوائف أهل السنة بل يوجد في غيرهم من زيادة الإثبات ما لا يوجد فيهم

ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة ومتنازعون في إجماع من بعدهم

وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في المحنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخروا الرافضة وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى تهددوا بعضهم بالقتل وقيدوا بعضهم وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة وثبت الإمام أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ولم يأتوا بما يوجب موافقته لهم بل بين خطأهم فيما ذكروه من الأدلة وكانوا قد طلبوا له أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا لكن جهم أشد تعطيلا لأنه ينفى الأسماء والصفات والمعتزلة تنفى الصفات دون الأسماء

وبشر المريسى كان من المرجئة لم يكن من المعتزلة بل كان من كبار الجهمية وظهر للخليفة المعتصم أمرهم وعزم على رفع المحنة حتى ألح عليه ابن أبي دؤاد يشير عليه إنك إن لم تضر به وإلا انكسر ناموس الخلافة فضربه فعظمت الشناعة من العامة والخاصة فأطلقوه

ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة للصفات وصنف الناس في ذلك مصنفات

وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث مازالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة ولكن بسبب المحنة كثر الكلام ورفع الله قدر هذا الإمام فصار إماما من أئمة السنة وعلما من أعلامها لقيامه بإعلامها وإظهارها واطلاعه على نصوصها وآثارها وبيانه لخفى أسرارها لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا

ولهذا قال بعض شيوخ المغرب المذهب لمالك والشافعي والظهور لأحمد يعنى أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد وهو كما قال فتخصيص الكلام من أحمد وأصحابه في مسائل الإمامة والاعتزال كتخصيصه بالكلام معه في مسائل الخوارج الحرورية بل في نبوة نبينا والرد على اليهود والنصارى

والخطاب بتصديق الرسول فيما أخبر به وطاعته فيما أمر به قد شمل جميع العباد ووجب على كل أحد فأسعدهم أطوعهم لله وأتبعهم لرسول الله وإذا قدر أن في الحنبلية أو غيرهم من طوائف أهل السنة من قال أقوالا باطلة لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يرد على من قال ذلك الباطل وتنصر السنة بالدلائل

ولكن الرافضي أخذ ينكت على كل طائفة بما يظن أنه يجرحها به في الأصول والفروع ظانا أن طائفته هي السليمة من الجرح

وقد اتفق عقلاء المسلمين على أنه ليس في طائفة من طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا وأقرب إلى كل شر وأبعد عن كل خير من طائفته ولهذا لما صنف الأشعري كتابه في المقالات ذكر أولا مقالتهم وختم بمقالة أهل السنة والحديث وذكر أنه بكل ما ذكر من أقوال أهل السنة والحديث يقول وإليه يذهب

وتسمية هذا الرافضي وأمثاله من الجهمية معطلة الصفات لأهل الإثبات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة ناصبيا بناء على اعتقادهم فإنهم لما اعتقدوا أنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة من هؤلاء جعلوا كل من لم يتبرأ من هؤلاء ناصبيا كما أنهم لما اعتقدوا أن القدمين متماثلان أو أن الجسمين متماثلان ونحو ذلك قالوا إن مثبتة الصفات مشبهة

فيقال لمن قال هذا إن كان مرادك بالنصب والتشبيه بغض علي وأهل البيت وجعل صفات الرب مثل صفات العبد فأهل السنة ليسوا ناصبية ولا مشبهة

وإن كنت تريد بذلك أنهم يوالون الخلفاء ويثبتون صفات الله تعالى فسم هذا بما شئت إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان

والمدح والذم إنما يتعلق بالأسماء إذا كان لها أصل في الشرع كلفظ المؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل ثم من أراد أن يمدح أو يذم فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في تلك الأسماء التي علق الله ورسوله بها المدح والذم فأما إذا كان الاسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل بطلت كل من المقدمتين وكان هذا الكلام مما لا يعتمد عليه إلا من لا يدري ما يقول

والكتاب والسنة ليس فيه لفظ ناصبية ولا مشبهة ولا حشوية ولا فيه أيضا لفظ رافضة ونحن إذا قلنا رافضة نذكره للتعريف لأن مسمى هذا الاسم يدخل فيه أنواع مذمومة بالكتاب والسنة من الكذب على الله ورسوله وتكذيب الحق الذي جاء به رسوله ومعاداة أولياء الله بل خيار أوليائه وموالاة اليهود والنصارى والمشركين كما تبين وجوه الذم

وأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعمهم معنى مذموم في الكتاب والسنة بحال كما يعم الرافضة نعم يوجد في بعضهم ما هو مذموم ولكن هذا لا يلزم منه ذمهم كما أن المسلمين إذا كان فيهم من هو مذموم لذنب ركبه لم يستلزم ذلك ذم الإسلام وأهله القائمين بواجباته

الوجه الرابع

أن يقال أما القول بأنه جسم أو ليس بجسم فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر وهي مسألة عقلية وقد تقدم أن الناس فها على ثلاثة أقوال نفي وإثبات ووقف وتفصيل وهذا هو الصواب الذي عليه السلف والأئمة

ولهذا لما ذكر أبو عيسى برغوث لأحمد هذا في مناظرته إياه وأشار إلى أنه إذا قلت إن القرآن غير مخلوق لزم أن يكون الله جسما لأن القرآن صفة وعرض ولا يكون إلا بفعل والصفات والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأجسام أجابة الإمام أحمد بأنا نقول إن الله أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأن هذا الكلام لا يدرى مقصود صاحبه به فلا نطلقه لا نفيا ولا أثباتا أما من جهة الشرع فلأن الله ورسوله وسلف الأمة لم يتكلموا بذلك لا نفيا ولا إثباتا فلا قالوا هو جسم ولا قالوا هو ليس بجسم

ولما سلك من سلك في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام ودخلوا في هذا الكلام ذم السلف الكلام وأهله حتى قال أبو يوسف من طلب الدين بالكلام تزندق وقال الشافعي حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقال لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خيرا له من أن يبتلى بالكلام وقد صنفت في ذمهم مصنفات مثل كتاب أبي عبد الرحمن السلمي وكتاب شيخ الإسلام الأنصاري وغير ذلك

وأما من جهة العقل فلأن هذا اللفظ مجمل يدخل فيه نافيه معاني يجب أثباتها لله ويدخل فيه مثبته ما ينزه الله تعالى عنه فإذا لم يدر مراد المتكلم به لم ينف ولم يثبت وإذا فسر مراده قبل الحق وعبر عنه بالعبارات الشرعية ورد الباطل وإن تكلم بلفظ لم يرد عن الشارع للحاجة إلى إفهام المخاطب بلغته مع ظهور المعنى الصحيح لم يكن بذلك بأس فإنه يجوز ترجمة القرآن والحديث للحاجة إلى الإفهام وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول

وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك وأذعنوا له كالتركي والبربري والرومي والفارسي الذي يخاطبه بالقرآن العربي ويفسره فلا يفهمه حتى يترجم له شيئا بلغته فيعظم سروره وفرحه ويقبل الحق ويرجع عن باطله لأن المعاني التي جاء بها الرسول أكمل المعاني وأحسنها وأصحها لكن هذا يحتاج إلى كمال المعرفة لهذا ولهذا كالترجمان الذي يريد أن يكون حاذقا في فهم اللغتين

وهذا الإمامي يناظر في ذلك أئمته كهشام بن الحكم وأمثاله ولا يمكنه أن يقطعهم بوجه من الوجوه كما لا يمكنه أن يقطع الخوارج بوجه من الوجوه وإن كان في قول الخوارج والمجسمة من الفساد ما فيه فلا يقدر أن يدفعه إلا أهل السنة

ونحن نذكر مثالا فنقول أهل السنة متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة لم يتنازع أهل السنة إلا في رؤية النبي مع أن أئمة السنة على أنه لم يره أحد بعينه في الدنيا مطلقا وقد ذكر عن طائفة أنهم يقولون إن الله يرى في الدنيا وأهل السنة يردون على هذا بالكتاب والسنة مثل استدلالهم بأن موسى عليه السلام منع منها فمن هو دونه أولى وبقول النبي واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت رواه مسلم في صحيحه وروى هذا عن النبي من وجوه متعددة وبطرق عقلية كبيانهم عجز الأبصار في الدنيا عن الرؤية ونحو ذلك

وأما هذا وأمثاله فليست لهم على هؤلاء حجة لا عقلية ولا شرعية فإن عمدتهم في نفى الرؤية أنه لو رئى لكان في جهة ولكان جسما وهؤلاء يقولون إنه يرى في الدنيا بل يقولون إنه في جهة وهو جسم

فإن أخذوا في الاستدلال على نفى الجهة ونفى الجسم كان منتهاهم معهم إلى أنه لا تقوم به الصفات وهؤلاء يقولون تقوم به الصفات فإن استدلوا على ذلك كان منتهاهم معهم إلى أن الصفات أعراض وما قامت به الأعراض محدث وهؤلاء يقولون تقوم به الأعراض وهو قديم والأعراض عند هؤلاء تقوم بالقديم

فإن قالوا: الجسم لا يخلو عن الحركة أو السكون وما لا يخلو عنهما فهو محدث لامتناع حوادث لا أول لها فهذا منتهى ما عند المعتزلة وأتباعهم من الشيعة

قال لهم أولئك: لا نسلم أن الجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون الوجوديي بل يجوز خلوه عن الحركة لأن السكون عدم الحركة مطلقا وعدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها فيجوز ثبوت جسم قديم ساكن لا يتحرك

وقالوا لهم: لا نسلم امتناع حوادث لا أول لها وطعنوا في أدلة نفى ذلك بالمطاعن المعروفة حتى حذاق المتأخرين كالرازي وأبي الحسن الآمدي وأبي الثناء الأرموي وغيرهم طعنوا في ذلك كله وطعن الرازي في ذلك في مواضع وإن كان اعتمد عليه في

مواضع والآمدي طعن في طرق الناس إلا طريقة ارتضاها وهي أضعف من غيرها طعن فيها غيره

فهذان مقامان من المقامات العقلية لا يقدر هؤلاء أن يغلبوا فيها شيوخهم المتقدمين فإذا كانوا لا ينفون رؤيته في الدنيا إلا بهذه الطريق لم يكن لهم حجة إلا على من يقول إنه يرى ويصافح وأمثال ذلك من المقالات مع أن هذا من أشنع المقالات عند أهل السنة والجماعة ولا يعرف له قائل معدود من أهل السنة والحديث

وبيان هذا بالوجه الخامس وهو أن يقال هذه الأقوال حكاها الناس عن شرذمة قليلة أكثرهم من الشيعة وبعضهم من غلاة النساك وداود الجواربي قال الأشعري في المقالات وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وأنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن داود الجواربي أنه كان يقول إنه أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك

وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحما ودما وإنه نور ساطع يتلألأ بياضا وإنه ذوا حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وإن له وفرة سوداء

قلت أما داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان فلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلو عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد وقد قال الشافعي من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفههمه وعلمه وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه وهي كذب عليه قطعا مثل مسألة الخنزير البري ونحوها وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب

وهذا الإمامي نقل النقل المذكور عن داود الطائي وهذا جهل منه أو من نقله هو عنه فإن داود الطائي كان رجلا صالحا زاهدا عابدا فقيها من أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة والثوري وشريك وابن أبي ليلى وكان قد تفقه ثم انقطع للعبادة وأخباره وسيرته مشهورة عند العلماء ولم يقل الرجل شيئا من هذا الباطل وإنما القائل لذلك داود الجواربي فكأنه اشتبه عليه أو على شيوخه الجواربي بالطائي إن لم يكن الغلط في النسخة التي أحضرت إلى وداود الجواربي أظنه كان من أهل البصرة متأخرا عن هذا وقصته معروفة

قال الأشعري

وفي الأمة قوم ينتحلون النسك يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعلع ربما هو

ومنهم من يقول إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن

ومنهم من يجوز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح

وكان من الصوفية رجل يعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه ويغتم ويحزن إذا عصوه وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم

وفيهم من يزعم أن العبادة بتلغ بهم إلى أن يروا الله ويأكلوا من ثمار الجنة ويعانقوا الحور العين في الدنيا ويحاربوا الشياطين

ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين

قلت هذه المقالات التي حكاها الأشعري وذكروا أعظم منها موجودة في الناس قبل هذا الزمان وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله ومن هؤلاء من يسجد للأمرد ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام لكنه يتعبد بمظاهر الجمال لما في ذلك من اللذة له فيتخذ إلهه هواه وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقا ولا يعين الصورة الجميلة بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة ومنهم من يقول إن المواضع المخضرة خطا عليها وإنما اخضرت من وطئه عليها وفي ذلك حكايات متعددة يطول وصفها وأما القول بالإباحة وحل المحرمات أو بعضها للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة ولهذا يضرب بهم المثل فيقال فلان يستحل دمى كاستحال الفلاسفة محظورات الشرائع وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم وبسط الكلام على هذا له موضع آخر

ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة وهي وأشنع منها موجودة في الشيعة

وكثير من النساك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر حتى يظن أن ذلك هو شيء يراه بعينه الظاهرة وإنما هو موجود في قلبه

ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية ويخاطبها أيضا بذلك ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه وإنما هو موجود في نفسه كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله فهذه الأمور تقع كثيرا في زماننا وقبله ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج

وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان ويرى نورا أو عرشا أو نورا على العرش ويقول أنا ربك ومنهم من يقول أنا نبيك وهذا قد وقع لغير واحد ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك ويكون المخاطب له جنيا كما قد وقع لغير واحد لكن بسط الكلام على ما يرى ويسمع وما هو في النفس والخارج وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع

وكثير من الجهال أهل الحال وغيرهم يقولون إنهم يرون الله عيانا في الدنيا وأنه يخطوا خطوات

وقد يقولون مع ذلك من المقالات ما هو أعظم من الكفر كقول بعضهم كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان لا أريده وقول بعضهم إن شيخهم هو شيخ الله ورسوله وأمثال ذلك من مقالات الغلاة في الشيوخ لكن يوجد في جنس المنتسبين إلى الشيعة من الإسماعيلية والغلاة من النصيرية وغيرهم ما هو أعظم غلوا وكفرا من هذه المقالاات فلا يكاد يوجد من المنتسبين إلى السنة مقالة خبيثة إلا وفي جنس الشيعة ما هو أخبث منها

وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض يدعون أنهم يشاهدون الله دائما فإن عندهم مشاهدته في الدنيا والآخرة على وجه واحد إذ كانت ذاته الوجود المطلق الساري في الكائنات

فهذه المقالات وأمثالها موجودة في الناس ولكن المقالات الموجودة في الشيعة أشنع وأقبح كما هو موجود في الغالية من النصيرية وأمثالهم ولهذا كان النصيرية يعظمون القائلين بوحدة الوجود وكان التلمساني شيخ القائلين بالوحدة الذي شرح مواقف النفرى وصنف غير ذلك قد ذهب إلى النصيرية وصنف لهم كتابا وهم يعظمونه جدا وحدثني نقيب الأشراف عنه أنه قال قلت له أنت نصيري قال نصير جزء مني والنصيرية يعظمونه غاية التعظيم

وأما ما ذكره هذا الإمامي من رمده وعيادة الملائكة له وبكائه على طوفان نوح عليه السلام فهذا قد رأيناهم ينقلونه عن بعض اليهود ولم أجد هذا منقولا عمن أعرفه من المسلمين فإن كان هذا قد قاله بعض أهل القبلة فلا ينكر وقوع مثل ذلك فإن النبي قد قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقدة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه لكن مشابهة الرافضة لليهود ووجود مثل هذا فيهم أظهر من وجوده في المنتسبين إلى السنة والجماعة

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57