منهاج السنة النبوية/48
فصل
قال الرافضي قالت الامامية إذا رأينا المخالف لنا يورد مثل هذه الأحاديث ونقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات وجب علينا المصير إليها وحرم العدول عنها
والجواب إن يقال لا ريب أن رجالكم الذين وثقتموهم غايتهم أن يكونوا من جنس من يروي هذه الأحاديث من الجمهور فإذا كان أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن هؤلاء كذابون وأنتم اكذب منهم وأجهل حرم عليكم العمل بها والقضاء بموجبها والاعتراض على هذا الكلام من وجوه
أحدها إن يقال لهؤلاء الشيعة من أين لكم أن الذين نقلوا هذه الأحاديث في الزمان القديم ثقات وأنتم لم تدركوهم ولم تعلموا أحوالهم ولا لكم كتب مصنفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يميز بها بين الثقة وغيره ولا لكم أسانيد تعرفون رجالها بل علمكم بكثير مما في أيديكم شر من علم كثير من اليهود والنصارى بما في أيديهم بل أولئك معهم كتب وضعها لهم هلال وشماس وليس عند جمهورهم ما يعارضها
وأما انتم فجمهور المسلمين دائما يقدحون في روايتكم ويبينون كذبكم وأنتم ليس لكم علم بحالهم ثم قد علم بالتواتر الذي لا يمكن حجبه كثرة الكذب وظهوره في الشيعة من زمن علي وإلى اليوم وأنتم تعلمون أن أهل الحديث يبغضون الخوارج ويروون فيهم عن النبي ﷺ أحاديث كثيرة صحيحة وقد روى البخاري بعضها ومسلم عشرة منها وأهل الحديث متدينون بما صح عندهم عن النبي ﷺ ومع هذا فلم يحملهم بغضهم للخوارج على الكذب عليهم بل جربوهم فوجدوهم صادقين وأنتم يشهد عليكم أهل الحديث والفقهاء والمسلمون والتجار والعامة والجند وكل من عاشركم وجربكم قديما وحديثا إن طائفتكم اكذب الطوائف وإذا وجد فيها صادق فالصادق في غيرها اكثر وإذا وجد في غيرها كاذب فالكاذب فيها اكثر
ولا يخفى هذا على عاقل منصف وأما من اتبع هواه فقد اعمى الله قلبه ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا
وهذا الذي ذكرناه معروف عند أهل العلم قديما وحديثا كما قد ذكرنا بعض أقوالهم حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك الدين لأهل الحديث والكذب للرافضة والكلام للمعتزلة والحيل لأهل الرأي أصحاب فلان وسوء التدبير لآل أبي فلان وهو كما قال فإن الدين هو ما بعث الله به محمدا ﷺ وأعلم الناس به أعلمهم بحديثه وسنته وأما الكلام فأشهر الطوائف به هم المعتزلة ولهذا كانوا اشهر الطوائف بالبدع عند الخاصة
وأما الرافضة فهم المعروفون بالبدعة عند الخاصة والعامة حتى أن اكثر العامة لا تعرف في مقابلة الشيء إلا الرافضي لظهور مناقضتهم لما جاء به الرسول عليه السلام عند الخاصة والعامة فهم عين على ما جاء به حتى الطوائف الذين ليس لهم من الخبرة بدين الرسول ما لغيرهم إذا قالت لهم الرافضة نحن مسلمون يقولون انتم جنس آخر
ولهذا الرافضة يوالون أعداء الدين الذين يعرف كل أحد معاداتهم من اليهود والنصارى والمشركين مشركي الترك ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين وسادات المتقين وهم الذين أقاموه وبلغوه ونصروه
ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام
وأما قصة الوزير ابن العلقمي وغيره كالنصير الطوسي مع الكفار وممالأتهم على المسلمين فقد عرفها الخاصة والعامة
وكذلك من كان منهم بالشام ظاهروا المشركين على المسلمين وعاونوهم معاونة عرفها الناس
وكذلك لما انكسر عسكر المسلمين لما قدم غازان ظاهروا الكفار النصارى وغيرهم من أعداء المسلمين وباعوهم أولاد المسلمين بيع العبيد وأموالهم وحاربوا المسلمين محاربة ظاهرة وحمل بعضهم راية الصليب
وهم كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديما على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم
وقد دخل فيهم أعظم الناس نفاقا من النصيرية والإسماعيلية ونحوهم ممن هو أعظم كفرا في الباطن ومعاداة لله ورسوله من اليهود والنصارى
فهذه الأمور وأمثالها مما هي ظاهرة مشهورة يعرفها الخاصة والعامة توجب ظهور مباينتهم للمسلمين ومفارقتهم للدين ودخولهم في زمرة الكفار والمنافقين حتى يعدهم من رأى أحوالهم جنسا آخر غير جنس المسلمين فإن المسلمين الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق والغرب قديما وحديثا هم الجمهور والرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام ونقض عراه وإفساد قواعده والقدر الذي عندهم من الإسلام إنما قام بسبب قيام الجمهور به
ولهذا قراءة القرآن فيهم قليلة ومن يحفظه حفظا جيدا فإنما تعلمه من أهل السنة وكذلك الحديث إنما يعرفه ويصدق فيه ويؤخذ عن أهل السنة وكذلك الفقه والعبادة والزهد والجهاد والقتال إنما هو لعساكر أهل السنة وهم الذين حفظ الله بهم الدين علما وعملا بعلمائهم وعبادهم ومقاتليهم
والرافضة من اجهل الناس بدين الإسلام وليس للإنسان منهم شيء يختص به إلا ما يسر عدو الإسلام ويسوء وليه فأيامهم في الإسلام
كلها سود وأعرف الناس بعيوبهم وممادحهم أهل السنة لا تزال تطلع منهم على أمور غيرها عرفتها كما قال تعالى في اليهود ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم
ولو ذكرت بعض ما عرفته منهم بالمباشرة ونقل الثقات وما رايته في كتبهم لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير
وهم الغاية في الجهل وقلة العقل يبغضون من الأمور ما لا فائدة لهم في بغضه ويفعلون من الأمور ما لا منفعة لهم فيه إذا قدر انهم على حق مثل نتف النعجة حتى كأن لهم عليها ثأرا كأنهم ينتفون عائشة وشق جوف الكبش كأنهم يشقون جوف عمر فهل فعل هذا أحد من طوائف المسلمين بعدوه غيرهم
ولو كان مثل هذا مشروعا لكان بأبي جهل وأمثاله أولى
ومثل كراهتهم للفظ العشرة لبغضهم للرجال العشرة
وقد ذكر الله لفظ العشرة في غير موضع من القرآن كقوله والفجر وليال عشر وقوله وأتممناها بعشر تلك عشرة كاملة
وأما التسعة فذكرها في معرض الذم كقوله وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون فهل كره المسلمون التكلم بلفظ التسعة لأجل أولئك التسعة وهم يختارون التكلم بلفظ التسعة على لفظ العشرة
وكذلك كراهيتهم لأسام سمي بها من يبغضونه وقد كان من الصحابة من تسمي بأسماء تسمى بها عدو الإسلام مثل الوليد الذي هو الوحيد وكان ابنه من خيار المسلمين واسمه الوليد وكان النبي ﷺ يقنت له في الصلاة ويقول: اللهم نج الوليد بن الوليد. كما رواه أهل الصحيحين
ومثل آبي بن خلف الذي قتله النبي ﷺ وفي المسلمين آبي بن كعب وغيره ومثل عمرو بن ود العامري وفي الصحابة عمرو بن أمية وعمرو بن العاص ومثل هذا كثير
ولم يغير النبي ﷺ اسم رجل من الصحابة لكون كافر سمي به
فلو قدر كفر من يبغضونه لكان كراهتهم لمثل أسمائهم في غاية الجهل مع إن النبي ﷺ كان يدعوهم بها
ويقال لهم كل من جرب من أهل العلم والدين الجمهور علم انهم لا يرضون بالكذب ولو وافق أغراضهم فكم يروون لهم في فضائل الخلفاء الثلاثة وغيرها أحاديث بأسانيد خير من أسانيد الشيعة ويرويها مثل ابي نعيم والثعلبي وآبي بكر النقاش والاهوازي وابن عساكر وأمثال هؤلاء ولا يقبل علماء الحديث منها شيئا بل إذا كان الراوي عندهم مجهولا توقفوا في روايته وأما انتم معاشر الرافضة فقد رأيناكم تقبلون كل ما يوافق رأيكم وأهواءكم لا تردون غثا ولا سمينا
ويقال لكم إذا كان عند الجمهور من الأحاديث الصحيحة المعروفة عند من يعلم المسلمون كلهم صدقة وعلمه وأنتم ممن يعلم ذلك أحاديث متلقاة بالقبول بل متواترة توجب العلم الضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب تناقض هذه الأدلة التي رواها طائفة مجهولة أو معروفة بالكذب منكم ومن الجمهور فهل يمكن أن يدفع الناس ما علموه بالضرورة وما علموه مستفيضا بنقل الثقات الإثبات الذين يعرف صدقهم وضبطهم هل يمكن دفع هذا بمثل هذه الروايات المسيبة التي لا زمام لها ولا خطام
ولو روى رجل إن الصلوات كانت اكثر من خمس وإن الصوم الواجب شهران وإن على المسلمين حج بيت آخر هل كان الطريق إلى تكذيب هذا إلا من جنس الطريق إلى تكذيبهم
وقد نبهنا في هذا الرد على طرق مما به يعلم كذب ما يعتمدون عليه غير طرق أهل الحديث وبينا كذبهم تارة بالعقل وتارة بما علم بالقران وتارة بما علم بالتواتر وتارة بما اجمع الناس كلهم عليه
ومن المعلوم إن الأخبار المخالفة للقران والتواتر والإجماع والمخالفة للعقل يعلم بطلانها وهذا من جملة الطرق التي يعلم بها طرق ما يناقضون به مذهب أهل السنة من الأخبار وهم لا يعتمدون في أدلتهم إلا على أحد ثلاثة أشياء أما نقل كاذب وأما دلالة مجملة مشبهة وأما قياس فاسد وهذا حال كل من احتج بحجة فاسدة نسبها إلى الشريعة فان عمدته أما نص وأما قياس والنص يحتاج إلى صحة الإسناد ودلالة المتن فلا بد إن يكون النص ثابتا عن الرسول ولا بد إن يكون دالا على المطلوب
والحجج الباطلة السمعية أما نقل كاذب وأما نقل صحيح لا يدل وأما قياس فاسد وليس للرافضة وغيرهم من أهل الباطل حجة سمعية إلا من هذا الجنس وقولنا نقل يدخل فيه كلام الله ورسوله وكلام أهل الإجماع عند من يحتج به فان الرافضة لا تحتج بالإجماع والأفعال والإقرار والإمساك يجري مجرى ذلك
فصل
واعلم انه ليس كل أحد من أهل النظر والاستدلال خبيرا بالمنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها وصوابها وخطئها فضلا عن العامة وقد علم من حيث الجملة إن المنقول منه صدق ومنه كذب وليس لهم خبرة أهل المعرفة علماء الحديث فهؤلاء يحتاجون في الاستدلال على الصدق والكذب إلى طرق أخرى
والله سبحانه الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى الذي اخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة يهدي من يشاء من عباده بما تيسر له من الأدلة التي تبين له الحق من الباطل والصدق من الكذب
كما في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم
ولهذا تنوعت الطرق التي بها يعلم الصدق من الكذب حتى في أخبار المخبر عن نفسه بأنه رسول الله وهو دعوى النبوة فالطرق التي يعلم بها صدق الصادق وكذب المتنبئ الكذاب كثيرة متنوعة كما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع وكذلك بما يعلم به صدق المنقول عن الرسول وكذبه يتعدد ويتنوع وكذلك ما به يعلم صدق الذين حملوا العلم فان أهل العلم يعلمون صدق مثل مالك والثوري وشعبة ويحيى ابن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي واحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبي داود وأمثال هؤلاء علما يقينا يجزمون بانهم لا يتعمدون الكذب في الحديث ويعلمون كذب محمد بن سعيد المصلوب وأبي البختري القاضي واحمد بن عبد الله الجويباري وعتاب بن إبراهيم بن عتاب وأبي داود النخعي ونحوهم ممن يعلمون انهم يتعمدون الكذب
وأما الخطأ فلا يعصم من الإقرار عليه إلا نبي لكن أهل الحديث يعلمون إن مثل الزهري والثوري ومالك ونحوهم من اقل الناس غطا في أشياء خفيفة لا تقدح في مقصود الحديث ويعرفون رجالا دون هؤلاء يغلطون أحيانا والغالب عليهم الحفظ والضبط ولهم دلائل يستدلون بها على غلط الغالط
ودون هؤلاء قوم كثير غلطهم فهؤلاء لا يحتجون بهم إذا انفردوا لكن يعتبرون بحديثهم ويستشهدون به بمعنى انهم ينظرون فيما رووه هل رواه غيرهم فإذا تعددت الطرق واللفظ واحد مع العلم بانهم لم يتواطأ ولا يمكن في العادة اتفاق الخطأ في مثل ذلك كان هذا مما يدلهم على صدق الحديث
ولهذا قال احمد اكتب حديث الرجل لاعتبر به مثل ابن لهيعة ونحوه فانه كان عالما دينا قاضيا لكن احترقت كتبه فصار يحدث بعد ذلك بأشياء دخل فيها غلط لكن اكثر ذلك صحيح يوافقه عليها الثقات كالليث وامثاله
واهل الحديث يعلمون صدق متون الصحيحين ويعلمون كذب الأحاديث الموضوعة التي يجزمون بأنها كذب بأسباب عرفوا بها ذلك من شركهم فيها علم ما علموه ومن لم يشركهم لم يعلم ذلك كما إن الشهود الذين يتحملون الشهادة ويؤدونها يعرف من جربهم وخبرهم وصدق صادقهم وكذب كاذبهم
وكذلك أهل المعاملات في البيع والإجارة يعلم من جربهم وخبرهم صادقهم وكاذبهم وامينهم وخائنهم وكذلك الأخبار قد يعلم الناس صدق بعضها وكذب بعضها ويشكون في بعضها
وباب المعرفة بأخبار النبي ﷺ وأقواله وأفعاله وما ذكره من توحيد وأمر ونهي ووعد ووعيد وفضائل لأعمال أو لأقوام أو أمكنة أو أزمنة ومثالب لمثل ذلك اعلم الناس به أهل العلم بحديثه الذين اجتهدوا في معرفة ذلك وطلبه من وجوهه وعلموا أحوال نقلة ذلك وأحوال الرسول ﷺ من وجوه متعددة وجمعوا بين رواية هذا وهذا وهذا فعلموا صدق الصادق وغلط الغالط وكذب الكاذب
وهذا علم أقام الله له من حفظ به على الأمة ما حفظ من دينها وغير هؤلاء لهم تبع فيه أما مستدل بهم وأما مقلد لهم كما إن الاجتهاد في الأحكام أقام الله له رجالا اجتهدوا فيه حتى حفظ الله بهم على الأمة ما حفظ من الدين وغيرهم لهم تبع فيه أما استدل بهم وأما مقلد لهم
مثال ذلك إن خواص أصحاب محمد ﷺ اعلم به ممن هو دونهم في الاختصاص مثل آبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وآبي بن كعب ومعاذ بن جبل وابن مسعود وبلال وعمار بن ياسر وآبي ذر الغفاري وسلمان وآبي الدرداء وآبي أيوب الأنصاري وعبادة بن الصامت وحذيفة وأبي طلحة وأمثال هؤلاء من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم اكثر اختصاصا به ممن ليس مثلهم لكن قد يكون بعض الصحابة أحفظ وأفقه من غيره وان كان غيره أطول صحبة وقد يكون اكثر مما اخذ عن غيره أيظا أخذ عن بعضهم من العلم لطول عمره وان كان غيره اعلم منه كما اخذ عن آبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعائشة وجابر وأبي سعيد من الحديث اكثر مما اخذ عمن هو افضل منهم كطلحة والزبير ونحوهم
واما الخلفاء الأربعة فلهم في تبليغ كليات الدين ونشر أصوله واخذ الناس ذلك عنهم ما ليس لغيرهم وان كان يروى عن صغار الصحابة من الأحاديث المفردة اكثر مما يروى عن بعض الخلفاء فالخلفاء لهم عموم التبليغ وقوته التي لم يشركهم فيها غيرهم ثم لما قاموا بتبليغ ذلك شاركهم فيه غيرهم فصار متواترا كجمع آبي بكر وعمر القران في الصحف ثم جمع عثمان له في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار فكان الاهتمام بجمع القران وتبليغه أهم مما سواه
وكذلك تبليغ شرائع الإسلام إلى أهل الأمصار ومقاتلتهم على ذلك واستنابتهم في ذلك الأمراء والعلماء وتصديقهم لهم فيما بلغوه عن الرسول فبلغ من أقاموه من أهل العلم حتى صار الدين منقولا نقلا عاما متواترا ظاهرا معلوما قامت به الحجة ووضحت به المحجة وتبين به إن هؤلاء كانوا خلفاءه المهديين الراشدين الذين خلفوه في أمته علما وعملا
وهو ﷺ كما قال تعالى في حقه والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فهو ما ضل وما غوى وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين قال فيهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ فانهم خلفوه في ذلك فانتفى عنهم بالهدى الضلال وبالرشد الغي
وهذا هو الكمال في العلم والعمل فان الضلال عدم العلم والغي اتباع الهوى ولهذا امرنا الله تعالى إن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقال النبي ﷺ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون فالمهتدي الراشد الذي هداه الله الصراط المستقيم فلم يكن من أهل الضلال الجهال ولا من أهل الغي المغضوب عليهم
والمقصود هنا إن بعض الصحابة اعلم بالرسول من بعض وبعضهم اكثر تبليغا لما علمه من بعض ثم قد يكون عند المفضول علم قضية معينة لم يعلمها الأفضل فيستفيدها منه ولا يوجب هذا ذلك إن يكون هذا اعلم منه مطلقا ولا إن هذا الأعلم يتعلم من ذلك المفضول ما امتاز به
ولهذا كان الخلفاء يستفيدون من بعض الصحابة علما لم يكن عندهم كما استفاد أبو بكر رضي الله عنه علم ميراث الجدة من محمد ابن مسلمة والمغيرة بن شعبة واستفاد عمر رضي الله عنه علم دية الجنين والاستأذان وتوريث المرأة من دية زوجها وغير ذلك من غيره واستفاد عثمان رضي الله عنه حديث مقام المتوفى عنها في بيتها حتى يبلغ الكتاب اجله من غيره واستفاد علي رضي الله عنه حديث صلاة التوبة من غيره
وقد يخفى ذلك العلم عن الفاضل حتى يموت ولم يعلمه ويبلغه من هو دونه وهذا كثير ليس هذا موضعه لكن المقصود إن نبين طرق العلم فالصحابة الذين اخذ الناس عنهم العلم بعد الخلفاء الأربعة مثل آبي بن كعب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وحذيفة وعمران بن حصين وأبي موسى وسلمان وعبد الله بن سلام وأمثالهم
وبعد هؤلاء مثل عائشة وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد وجابر وغيرهم
ومن التابعين مثل الفقهاء وغيرهم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعلي بن الحسين وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن اليسار ومثل علقمة والاسود وشريح القاضي وعبيدة السلماني والحسن البصري ومحمد بن سيرين وأمثالهم
ثم من بعد هؤلاء مثل الزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير ومكحول الشامي وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري ويزيد بن أبي حبيب المصري وأمثالهم
ثم من بعد هؤلاء مثل مالك والثوري وحماد بن زبد وحماد ابن سلمة والليث والاوزاعي وشعبة وزائدة وسفيان بن عيينة وأمثالهم
ثم من بعد هؤلاء مثل يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن المبارك وعبد الله بن وهب ووكيع بن الجراح وإسماعيل بن علية وهشيم بن بشير وآبي يوسف القاضي والشافعي واحمد والحميدي وإسحاق بن راهويه والقاسم بن سلام وأبي ثور وابن معين وابن المديني وآبي بكر بن آبي شيبة وآبي خيثمة زهير بن حرب
وبعد هؤلاء البخاري ومسلم وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد الدارمي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ومحمد بن مسلم بن واره وأبو بكر الاثرم وإبراهيم الحربي وبقي بن مخلد الأندلسي ومحمد بن وضاح، ومثل أبي عبد الرحمن النسائي والترمذي وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وعبد الله بن احمد ابن حنبل وعبد الرحمن بن أبي حاتم
ثم من بعد هؤلاء مثل أبي حاتم ألبستي وأبي بكر النجاد وأبي بكر النيسابوري وأبي قاسم الطبراني وأبي الشيخ الاصبهاني وأبي احمد العسال الاصبهاني وأمثالهم
ثم من بعد هؤلاء مثل أبي الحسن الدارقطني وابن منده والحاكم أبي عبد الله وعبد الغني بن سعيد وأمثال هؤلاء ممن لا يمكن إحصاؤهم
فهؤلاء وأمثالهم أعلم بأحوال رسول الله ﷺ من غيرهم وإن كان في هؤلاء من هو اكثر رواية وفيهم من هو اكثر منهم معرفة بصحيحه من وسقيمه ومنهم من هو افقه فيه من غيره
قال احمد بن حنبل معرفة الحديث والفقه فيه احب إلي من حفظه وقال علي بن المديني أشرف العلم الفقه في متون الأحاديث ومعرفة أحوال الرواة فان يحيى بن معين وعلي بن المديني ونحوهما اعرف بصحيحيه وسقيمه من مثل أبي عبيد وأبي ثور وأبو عبيد وأبو ثور ونحوهما افقه من أولئك واحمد كان يشارك هؤلاء وهؤلاء
وكان أئمة هؤلاء وهؤلاء ممن يحبهم ويحبونه كما كان مع الشافعي وأبي عبيد ونحوهما من أهل الفقه في الحديث ومع يحيى بن معين وعلي بن المديني ونحوهما من أهل المعرفة في الحديث
ومسلم بن الحجاج له عناية بصحيحه اكثر من أبي داود وأبو داود له عناية بالفقه أكثر والبخاري له عناية بهذا وهذا
وليس المقصود هنا توسعة الكلام في هذا بل المقصود أن علماء أهل العلم بالحديث لهم من المعرفة بأحوال الرسول ما ليس لغيرهم فهم أئمة هذا الشان وقد يكون الرجل صادقا كثير الحديث كثير الرواية فيه لكن ليس من أهل العناية بصحيحه وسقيمه فهذا يستفاد منه نقله فانه صادق ضابط وأما المعرفة بصحيحه وسقيمه فهذا علم آخر وقد يكون مع ذلك فقيها مجتهدا وقد يكون صالحا من خيار المسلمين وليس له كثير معرفة
لكن هؤلاء وان تفاضلوا في العلم فلا يروج عليهم من الكذب ما يروج على من لم يكن له علمهم فكل من كان بالرسول اعرف كان تمييزه بين الصدق والكذب أتم فقد يروج على أهل التفسير والفقه والزهد والنظر أحاديث كثيرة إما يصدقون بها وإما يجوزون بصدقها وتكون معلومة الكذب عند علماء الحديث
وقد يصدق بعض هؤلاء بما يكون كذبا عند أهل المعرفة مثل ما يروي طائفة من الفقهاء حديث لا تفعلي يا حميراء فانه يورث البرص وحديث زكاة الأرض نبتها وحديث نهى عن بيع وشرط ونهى عن بيع المكاتب والمدبر وأم الولد وحديث نهى عن قفيز الطحان وحديث لا يجتمع العشر والخراج على مسلم وحديث ثلاث هن على فريضة وهن لكم تطوع الوتر والنحر وركعتا الفجر وحديث كان رسول الله ﷺ في السفر يتم ويقصر وحديث ثلاث هن علي فريضة وهن لكم تطوع الوتر والنحر وركعتا الفجر وحديث لا تقطع اليد إلا في عشر دراهم وحديث لا مهر دون عشرة دراهم وحديث الفرق بين الطلاق والعتاق في الاستثناء وحديث اقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة وحديث نهى عن البتراء وحديث يغسل الثوب من المنى والدم وحديث الوضوء مما خرج لامما دخل وحديث نهى عن البتراء وحديث كان يرفع يديه في ابتداء الصلاة ثم لا يعود
إلى أمثال ذلك من الأحاديث التي يصدق بعضها طائفة من الفقهاء ويبنون عليها الحلال والحرام وأهل العلم بالحديث متفقون على إنها كذب على رسول الله ﷺ موضوعة عليه وكذلك أهل العلم من الفقهاء يعلمون ذلك
وكذلك أحاديث يرويها كثير من النساك ويظنها صدقا مثل قولهم أن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا ومثل قولهم أن قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه نزل في أهل الصفة ومثل حديث غلام المغيرة بن شعبة أحد الإبدال الأربعين وكذلك حديث فيه ذكر الإبدال والأقطاب والاغواث وعدد الأولياء وأمثال ذلك مما يعلم أهل العلم بالحديث انه كذب
وكذلك أمثال هذه الأحاديث قد تعلم من غير طريق أهل الحديث مثل أن نعلم أن قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي في سورة الأنعام وفي سورة الكهف وهما سورتان مكيتان باتفاق الناس والصفة إنما كانت بالمدينة
ومثل ما يروون في أحاديث المعراج انه رأي ربه في صورة كذا
وأحاديث المعراج التي في الصحاح ليس فيها شيء من أحاديث ذكر الرؤية وإنما الرؤية في أحاديث مدنية كانت في المنام كحديث معاذ ابن جبل: أتاني البارحة ربي في احسن صورة... إلى آخره فهذا منام رآه في المدينة وكذلك ما شابههه كلها كانت في المدينة في المنام والمعراج كان بمكة بنص القرآن واتفاق المسلمين
وقد يروج على طائفة من الناس من الحديث ما هو اظهر كذبا من هذا مثل تواجد النبي ﷺ حتى سقطت البردة عنه فهذا من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة وطافة يظنون هذا صدقا لما رواه محمد بن طاهر المقدسي فانه رواه في مسالة السماع ورواه أبو حفص السهرودي لكن قال يخالج سري أن هذا الحديث ليس دون اجتماع النبي ﷺ بأصحابه وهذا الذي ظنه وخالج سره هو يقين عند غيره قد خالط قلبه فإن أهل العلم بالديث متفقون على أن هذا كذب على رسول الله ﷺ
وأعظم من هذا ظن طائفة أن أهل الصفة قاتلوا النبي ﷺ وانه يجوز للأولياء قتال الأنبياء إذا كان الغدر عليهم وهذا مع انه من أعظم الكفر والكذب فقد راج على كثير ممن ينتسب إلى الأحوال والمعارف والحقائق وهم في الحقيقة لهم أحوال شيطانية والشياطين التي تقترن بهم قد تخبرهم ببعض الغائبات وتفعل بعض أغراضهم وتقضي بعض حوائجهم ويظن كثير من الناس انهم بذلك أولياء الله وإنما هم من أولياء الشياطين
وكذلك قد يروج على كثير ممن ينتسب إلى السنة أحاديث يظنونها من السنة وهي كذب كالأحاديث المروية في فضائل عاشوراء غير الصوم وفضل الكحل فيه والاغتسال والحديث والخضاب والمصافحة وتوسعة النفقة على العيال فيه ونحو ذلك وليس في عاشوراء حديث صحيح غير الصوم
وكذلك ما يروى في فضل صلوات معينة فيه فهذا كله كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة ولم ينقل هذه الأحاديث أحد من أئمة أهل العلم في كتبهم
ولهذا لما سئل الإمام احمد عن الحديث الذي يروى من وسع على أهله يوم عاشوراء فقال لا اصل له
وكذلك الأحاديث المروية في فضل رجب بخصوصه أو فضل صيامه أو صيام شيء منه أو فضل صلاة مخصوصة فيه كالرغائب كلها كذب مختلق
وكذلك ما يروى في صلاة الأسبوع كصلاة يوم الأحد والاثنين
وغيرهما كذب وكذلك ما يروى من الصلاة المقدرة ليلة النصف وأول ليلة جمعة من رجب أو ليلة سبع وعشرين منه ونحو ذلك كلها كذب
وكذلك كل صلاة فيها الأمر بتقدير عدد الآيات أو السور أو التسبيح فهي كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث إلا صلاة التسبيح فان فيها قولين لهم واظهر القولين إنها كذب وإن كان قد اعتقد صدقها طائفة من أهل العلم ولهذا لم يأخذها أحد من أئمة المسلمين بل احمد بن حنبل وأئمة الصحابة كرهوها وطعنوا في حديثها وإما مالك وأبو حنيفة والشافعي وغيرهم فلم يسمعوها بالكلية ومن يستحبها من أصحاب الشافعي واحمد وغيرهما فإنما هو اختيار منهم لا نقل عن الأئمة
وأما ابن المبارك فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة التي فيها التسبيح قبل القيام بل استحب صفة أخرى توافق المشروع لئلا تثبت سنة بحديث لا اصل له
وكذلك أيضا في كتب التفسير أشياء منقولة عن النبي ﷺ يعلم أهل العلم بالحديث إنها كذب مثل حديث فضائل سور القرآن الذي يذكره الثعلبي والواحدي في أول كل سورة ويذكره الزمخشري في آخر كل سورة
ويعلمون أن اصح ما روي عن النبي ﷺ في فضائل السور أحاديث قل هو الله أحد ولهذا رواها أهل الصحيح فأفرد الحفاظ لها مصنفات كالحافظ أبي محمد الخلال وغيره ويعلمون أن الأحاديث المأثورة في فضل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وخواتيم البقرة والمعوذتين أحاديث صحيحة فلهم فرقان يفرقون به بين الصدق والكذب
وأما أحاديث سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند ولهذا قال الإمام احمد بن حنبل ثلاث علوم لا إسناد لها وفي لفظ ليس لها اصل التفسير والمغازي والملاحم ويعني أن أحاديثها مرسلة
والمراسيل قد تنازع الناس في قبولها وردها وحسب الأقوال أن منها المقبول ومنها المردود الموقوف فمن علم من حاله انه لا يرسل إلا عن ثقة قبل مرسله ومن عرف انه يرسل عن ثقة وغير الثقة كان إرساله رواية عمن لا يعرف حاله فهذا موقوف وما كان من المراسيل مخالفا لما رواه الثقات كان مردودا
وإذا جاء المرسل من وجهين كل من الراويين اخذ العلم عن شيوخ الآخر فهذا مما يدل على صدقه فان مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب كان هذا مما يعلم انه صدق فان المخبر إنما يؤتي من جهة تعمد الكذب ومن جهة الخطأ فإذا كانت القصة مما يعلم انه لم يتواطأ فيه المخبران والعادة تمنع تماثلهما في الكذب عمدا والخطأ مثل أن تكون القصة طويلة فيها أقوال كثيرة رواها هذا مثل ما رواها هذا فهذا يعلم انه صدق
وهذا ما يعلم به صدق محمد ﷺ وموسى عليه السلام فان كلا منهما اخبر عن الله وملائكته وخلقه للعالم وقصة آدم ويوسف وغيرهما من قصص الأنبياء عليهم السلام بمثل ما اخبر به الآخر مع العلم بانه واحدا منهما لم يستفد ذلك من الآخر وانه يمتنع في العادة تماثل الخبرين الباطلين في مثل ذلك فان من اخبر بأخبار كثيرة مفصلة دقيقه عن مخبر معين لو كان مبطلا في خبره لاختلف خبره لامتناع أن مبطلا يختلق ذلك من غير تفاوت لا سيما في أمور لا تهتدي العقول إليها بل ذلك بين كلا إن كلا منهما اخبر بعلم وصدق
وهذا مما يعلمه الناس من أحوالهم فلو جاء رجل من بلد إلى آخر واخبر عن حوادث مفصلة حدثت فيه تنتطم أقوالا وأفعالا مختلفة وجاء من علمنا انه لم يوطئه على الكذب فحكي مثل ذلك علم قطعا أن الأمر كان كذلك فان الكذب قد يقع في مثل ذلك لكن على سبيل المواطأة وتلقي بعضهم عن بعض كما يتوارث أهل الباطل المقالات الباطلة مثل مقالة النصارى والجهمية والرافضة ونحوهم فإنها وان كان يعلم بضرورة العقل إنها باطلة لكنها تلقاها بعضهم عن بعض، فلما تواطأوا عليها جاز اتفاقهم فيها على الباطل
والجماعة الكثيرون يجوز اتفاقهم على جحد الضروريات على سبيل التواطؤ إما عمدا للكذب وإما خطأ في الاعتقاد وإما اتفاقهم على جحد الضروريات من دون هذا وهذا فممتنع
فصل
في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول
منها أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين لايمانهم بهذا المتنبئ الكذاب وان أبا لؤلؤة قاتل ععر كان مجوسيا كافرا وان أبا الهرمزان كان مجوسيا اسلم وان أبا بكر كان يصلي بالناس مدة مرض الرسول ﷺ ويخلفه بالإمامة بالناس لمرضه وان أبا بكر وعمر دفن في حجرة عائشة مع النبي ﷺ ومثل ما يعلم من غزوات النبي ﷺ التي كان فيها القتال كبدر واحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها وما نزل من القرآن في الغزوات كنزول الأنفال بسبب بدر ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ونزول أولها بسبب نصارى نجران ونزول سورة الحشر بسبب بني النضير ونزول الأحزاب بسبب الخندق ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ونزول براءة بسبب غزوة تبوك وغيرها وأمثال ذلك
فإذا روى في الغزوات وما يتعلق بها ما يعلم انه خلاف الواقع علم انه كذب مثل ما يروي هذا الرافضي وأمثاله من الرافضة وغيرهم من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات كما تقدم التنبيه عليه ومثل أن يعلم نزول القران في أي وقت كان كما يعلم أن سورة البقرة وال عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة وان الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة وان المعراج كان بمكة وان الصفة كانت بالمدينة وان أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي ﷺ ولم يكونوا ناسا معينين بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين وممن دخل فيهم سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين وكالعرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي ﷺ في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون وأمثال ذلك من الأمور المعلومة
فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم انه كذب ومن الطرق التي يعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم انه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعي على نقله فانه من المعلوم انه لو اخبر الواحد ببلد عظيم بقدر بغداد والشام وبغداد والعراق لعلمنا كذبه في ذلك لانه لو كان موجودا لأخبر به الناس
وكذلك لو اخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان أو تولى بين عثمان وعلي أو اخبرنا بان النبي ﷺ كان يؤذن له في العيد أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء أو انه كان يقام بمدينته يوم الجمةاكثر من جمعة واحدة أو يصلى يوم العيد اكثر من عيد واحد أو انه كان يصلي العيد بمنى يوم العيد أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه أو انه كان يجمع الصلاتين بمنى كما كان يقصر أو انه فرض صوم شهر آخر غير رمضان أو انه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل أو انه فرض حج بيت آخر غير الكعبة أو أن القران عارضه طائفة من العرب وعيرهم بكلام يشابهه ونحو هذه الأمور لكنا نعلم كذب هذا الكاذب فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها فان هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعي على نقلها عامة لبني آدم وخاصة لامتنا شرعا فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم فضلا عن أن تتواتر علم إنها كذب
ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علي فإنا نعلم انه كذب من طرق كثيرة فان هذا النص لم ينقله أحد من أهل العلم بإسناد صحيح فضلا عن أن يكون متواترا ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد الخلفاء مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة وحين موت عمر وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على علي فمن المعلوم أن مثل هذا النص ولو كان كما تقوله الرافضة من انه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون لكان من المعلوم بالضرورة انه لا بد أن ينقله الناس نقل مثله وانه لابد أن يذكره لكثير من الناس بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر فانتفاء ما يعلم انه لازم يقتضي انتفاء ما يعلم انه ملزوم ونظائر ذلك كثيرة
ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق واحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه
والكلام مع الشيعة أكثره مبني على النقل فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقيني علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إمامتهما وكذب ما تدعيه الرافضة ثم كل من كان اعلم بالرسول وأحواله كان اعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ممن يدعي نصا خفيا وان عليا كان افضل من الثلاثة أو يتوقف في التفضيل فان هؤلاء إنما وقعوا بالجهل المركب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار
فصل
واعلم انه ثم أحاديث آخر لم يذكرها هذا الرافضي لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره لكنها كلها كذب والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم لكن المكذوب في فضل علي اكثر لان الشيعة أجرا على الكذب من النواصب
قال أبو الفرج بن الجوزي فضائل علي الصحيحة كثيرة غير أن الرافضة لم تقنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل
قال فاعلم أن الرافضة ثلاث أصناف صنف منهم سمعوا أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ويقولون قال جعفر وقال فلان وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ
فمن أمثال الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص علي من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الاسدي قال قال علي رضي الله عنه أنا عبد الله وأخو رسول الله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب صليت قبل الناس سبع سنين ورواه احمد في الفضائل وفي رواية له ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين
ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال بن عباد
قال أبو الفرج هذا حديث موضوع والمتهم به عابد بن عبد الله قال علي بن المديني كان ضعيف الحديث وقال أبو الفرج حماد الازدي روى أحاديث لا يتابع عليها وإما المنهال فتركه شعبة قال أبو بكر الاثرم سألت أبا عبد الله عن حديث علي أنا عبد الله وأخو رسول الله فقال اضرب عليه فانه حديث منكر
قلت وعباد يروي من طريقه عن علي ما يعلم انه كذب عليه قطعا مثل هذا الحديث فإننا نعلم أن عليا كان ابر واصدق واتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضرورة انه كذب وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه فقد علمنا أن عليا لم يقله لعلمنا بأنه اتقى الله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح وانه ليس مما يشتبه حتى يخطئ فيه فالناقل عنه إما متعمد الكذب وإما مخطئ غالط وليس قدح المبغض لعلي من الخوارج والمتعصبين لبني مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه كما انه ليس قدح الرافضة في أبي بكر وعمر بل وقدح الشيعة في عثمان لا يشككنا في العلم بعرقهم وبرهم وتقواهم بل نحن نجزم بان واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله ﷺ ولا هو فيما دون ذلك
فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله وقد علمنا انه كذب جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا
مثل ما رواه عبد الله في المناقب حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن علي وحدثنا أبو خيثمة حدثنا الأسود بن عامر حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الاسدي عن علي قال لما نزلت وانذر عشيرتك الاقربين دعا رسول الله ﷺ رجالا من أهل بيته إن كان الرجل منهم لأكلا جذعة وان كان شاربا فرقا إلى آخر الحديث
وهذا كذب على علي رضي الله عنه لم يروه قط وكذبه ظاهر من وجوه
وهذا الحديث رواه احمد في الفضائل حدثنا عثمان حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجز عن علي وهؤلاء يعلم انهم يروون الباطل
وروى أبو الفرج من طريق اجلح عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين قال سمعت عليا يقول أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله ﷺ قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين قال أبو الفرج حبة لا يساوي حبة فانه كذاب قال يحيى ليس بشيء وقال السعدي غير ثقة وقال ابن حبان كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث وإما الاجلح فقال احمد قد روى غير حديث منكر قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به وقال بن حبان كان لا يدري ما يقول
قال أبو الفرج ومما يبطل هذه الأحاديث انه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبي بكر وزيد وان عمر اسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا فكيف يصح هذا
وذكر حديثا عن النبي ﷺ أنا الصديق الأكبر وهو مما عملته يد احمد بن نصر الذراع فانه كان كذابا يضع الحديث
وحديثا فيه أنا أولهم إيمانا وأوفاهم بعهد الله وأقومهم بأمر الله وأقسمهم بالسوية وأعدلهم في الرعية وأبصرهم بالقضية قال وهو موضوع والمتهم به بشر بن إبراهيم قال بن عدي وابن حبان كان يضع الحديث على الثقات ورواه الابرازي الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن مأمون عن الرشيد قال وهذا الابرازي كان كذابا
وذكر حديثا أنت أول من آمن بي وأنت أول من يصافحني يوم القيامة وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل وأنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكافرين أو يعسوب الظلمة
قال وهذا حديث موضوع وفي طريقه الأول عباد بن يعقوب
قال ابن حبان يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك وفيه علي ابن هاشم قال ابن حبان كان يروي المناكير عن المشاهير وكان غاليا في التشيع وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى ليس بشيء وإما الطريق الثاني ففيه أبو الصلت الهروي كان كذابا رافضيا خبيثا فقد اجتمع عباده وأبو الصلت في روايته والله اعلم بهما وأيهما سرقه من صاحبه
قلت لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله
وروي عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر قال بن معين ليس بشيء لا يكتب عنه إنسان في خير قال أبو الفرج بن الجوزي كان غاليا في الرفض
فصل
وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة فان كثيرا من الخاصة فضلا عن العامة يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في اكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره وإنما يعرف ذلك علماء الحديث ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها وسلكوا طريقا آخر
ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث العالمين بما بعث الله به رسوله ولكن نحن نذكر طريقا آخر فنقول نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد أو لم يعلم أيها الصحيح ونترك الاستدلال بها في الطرفين ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر وما يعلم من العقول والعادات وما دلت عليه النصوص المتفق عليها
فنقول من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة لا برغبة ولا برهبة لا بذل فيها ما يرغب الناس به ولا شهر عليهم سيفا يرهبهم به ولا كانت له قبيلة ولا موال تنصره وتقيمه في ذلك كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ولا طلبها أيضا بلسانه ولا قال بايعوني بل أمر بمبايعة عمر وأبي عبيدة ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه ولا اكرهه على المبايعة ولا منعه حقا له ولا حرك عليهم ساكنا وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله ﷺ تحت الشجرة وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة
وإما علي وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس انهم بايعوه لكن تخلف فانه كان يريد الإمرة لنفسه رضي الله عنهم أجمعين ثم انه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين لم يقاتل مسلمين بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة واخذ يزيد الإسلام فتوحا وشرع في قتال فارس والروم ومات والمسلمون محاصرو دمشق وخرج منها ازهد مما دخل فيها لم يستأثر عنهم بشيء ولا أمر له قرابة
ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ففتح الأمصار وقهر الكفار واعز أهل الإيمان وأذل أهل النفاق والعدوان ونشر الإسلام والدين وبسط العدل في العالمين ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ومصر الأمصار للمسلمين وخرج منها ازهد مما دخل فيها لم يتلوث لهم بمال ولا ولى أحدا من أقاربه ولاية فهذا أمر يعرفه كل أحد
وأما عثمان فانه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم وهدى ورحمة وكرم ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته ولا فيه كمال عدله وزهده فطمع فيه بعض الطمع وتوسعوا في الدنيا وادخل من أقاربه في الولاية والمال ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا وضعف خوفهم من الله ومنه ومن ضعفه هو وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا
وتولى علي على اثر ذلك والفتنة قائمة وهو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه المبغضون لغيره من الصحابة فان عليا لم يعن على قتل عثمان ولا رضي به كما ثبت عنه وهو الصادق انه قال ذلك فلم تصف له قلوب كثير منهم ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر بل اقتضى رأيه القتال وظن انه به تحصل الطاعة والجماعة فما زاد الأمر إلا شدة وجانبه إلا ضعفا وجانب من حاربه إلا قوة والأمة إلا افتراقا حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف
وضعفت خلافة النبوة ضعفا أوجب أن تصير ملكا فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم كما في الحديث المأثور: تكون نبوة ورحمة ثم تكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم يكون ملك
ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية فهو خير ملوك الإسلام وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده وعلى آخر الخلفاء الراشدين الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة وةكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من افضل أولياء الله المتقين بل هؤلاء الأربعة افضل خلق الله بعد النبيين لكن إذا جاء القادح فقال في أبي بكر وعمر انهما كانا ظالمين متعدين طمالبين للرئاسه مانعين للحقوق وإنهما كانا من احرص الناس على الرئاسة وانهما ومن أعانهما ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول وانهم منعوا أهل البيت ميراثهم وانهما كانا من احرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة مع ما قد عرف من سيرتهما كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غلب وسفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ولا قوتل في خلافته كافر ولا فرح مسلم فان عليا لا يفرح بالفتنة بين المسلمين وشيعته لم تفرح بها لأنها لم تغلب والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة
وإذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج مع ظهور هذه الشبهة فلان ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى
وإن جاز أن يظن بابي بكر انه كان قاصدا للرئاسة بالباطل مع انه لم يعرف منه إلا ضد ذلك فالظن بمن قاتل على الولاية ولم يحصل له مقصوده أولى وأحرى
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامي مسجد وشيخي مكان أو مدرسي مدرسة كانت العقول كلها تقول أن هذا ابعد عن طلب الرئاسة واقرب إلى قصد الدين والخير
فإذا كنا نظن بعلي انه كان قاصدا للحق والدين وغير مريد علوا في الأرض ولا فسادا فظن ذلك بابي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى وأحرى
وان ظن ظان بابي بكر انه كان يريد العلو في الأرض والفساد فهذا الظن بعلي اجدر وأولى
أما أن يقال أن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد وعلي لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا مع ظهور السيرتين فهذا مكابرة وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبي بكر افضل
ولهذا كان الذين ادعوا هذا لعلي احالوا على ما لم يعرف وقالوا ثم نص على خلافته كتم وثم عداوة باطنة لم تظهر بسببها منع حقه
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما علم وتيقن وتواتر عند العامة والخاصة وإما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس وهو من جنس الكفار وأهل الباطل وهي مقابلة بالأحاديث من الطرق الآخر
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رويت من الطرفين فكيف بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا
فالمعلوم المتيقن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان ابعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعلي فضلا عن علي وحده وانه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده فضلا عن علي وانه كان اكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة وان ولايته الأمة خير من ولاية علي وان منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة علي رضي الله عنهم أجمعين
وإذا كنا نعتقد انه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل وان ما تركه من المصلحة كان عاجزا عنه وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه وانه لم يكن مريدا للعلو في الأرض ولا الفساد كان هذا الاعتقاد بابي بكر وعمر أولى واخلق وأحرى
فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن انه نقل خاص كالنقل لفضائل علي ولما يقتضي انه أولى بالإمامة أو أن إمامته منصوص عليها وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة الذين هم اصدق واكثر لفضائل الصديق التي تقتضي انه أولى بالإمامة وان النصوص إنما دلت عليه
فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبازائها للسني حجة من جنسها أولى منها فان السنة في الإسلام كالإسلام في الملل فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها
قال تعالى ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق واحسن تفسيرا
لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه
قال تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن
وهنا طريق آخر وهو أن يقال دواعي المسلمين بعد موت النبي ﷺ كانت متوجهة إلى اتباع الحق وليس لهم ما يصرفهم عنه وهم قادرون على ذلك فإذا حصل الداعي إلى الحق وانتفى الصارف مع القدرة وجب الفعل
فعلم أن المسلمين اتبعوا فيما فعلوه الحق وذلك انهم خير الأمم وقد اكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة ولم يكن عند الصديق غرض دنيوي يقدمونه لأجله ولا عند علي غرض دنيوي يأخرونه لأجله بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتبع رجلا من بني هاشم احب إليها من أن تتبع رجلا من بني تيم وكذلك عامة قبائل قريش لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم فان طاعتهم لمنافي كانت احب إليهم من طاعه تيمي لو اتبعوا الهوى وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقديم علي
وقد روي أن أبا سفيان طلب من علي أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما وقد قال أبو قحافة لما قيل له أن ابنك تولى قال أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم قالوا نعم فعجب من ذلك لعلمه بأن بني تيم كانوا من اضعف القبائل وان إشراف قريش كانت من تينك القبيلتين
وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم انهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله لانه كان خيرهم وسيدهم واحبهم إلى الله ورسوله فان الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب وأبو بكر كان اتقاهم
وهنا طريق آخر وهو انه تواتر عن النبي ﷺ أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة هي خير الأمم كما دل عليها الكتاب والسنة
وأيضا فانه من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين علم أن أهل ذلك الزمان كان خيرا وافضل من أهل هذا الزمان وان الإسلام كان في زمنهم أقوى واظهر فان كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم وولوا فاسقا وظالما ومنعوا عادلا عالما مع علمهم بالحق فهؤلاء من شر الخلق وهذه الأمة شر الأمم لان هذا فعل خيارها فكيف بفعل شرارها
وهنا طريق آخر وهو انه قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم وكانوا من أعظم الناس اختصاصا به وصحبة له وقربا إليه واتصالا به وقد صاهرهم كلهم وما عرف عنه انه كان يذمهم ولا يلعنهم بل المعروف عنه انه كان يحبهم ويثني عليهم
وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا في حياته وبعد موته وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته فان كانوا على غير الاستقامة مع هذا التقرب فأحد الأمرين لازم إما عدم علمه بأحوالهم أو مداهنته لهم وأيهما كان فهو أعظم القدح في الرسول ﷺ كما قيل ... فان كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وان كنت تدري فالمصيبة أعظم ... وان كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه ومن قد اخبر بما سيكون بعد ذلك أين كان عن علم ذلك وأين الاحتياط للامة حتى لا يولي مثل هذا أمرها ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين
فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول كما قال مالك وغيره إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين
ولهذا قال أهل العلم أن الرافضة دسيسة الزندقة وانه وضع عليها وطريق آخر أن يقال الأسباب الموجبة لعلي أن كان هو المستحق قوية والصوارف منتفية والقدرة حاصلة ومع وجود الداعي والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل وذلك أن عليا هو ابن عم نبيهم ومن أفضلهم نسبا ولم يكن بينه وبين أحد عداوة لا عداوة نسب ولا إسلام بأن يقول القائل قتل أقاربهم في الجاهلية
وهذا المعنى منتف في الأنصار فانهم لم يقتل أحدا من أقاربهم ولهم الشوكة ولم يقتل من بني تيم ولا عدي ولا كثير من القبائل أحدا والقبائل التي قتل منها كبني عبد مناف كانت تواليه وتختار ولايته لانه إليها اقرب فإذا كان النبي ﷺ نص على ولايته أو كان هو الأفضل المستحق لها لم يكن هذا مما يخفى عليهم وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته إذا لم يكن هناك صارف يمنع والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعي ولا معارض لها ولا صارف أصلا
ولو قدر أن الصارف كان في نفر قليل فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه بل هم قادرون على ولايته ولو قالت الأنصار علي أحق بها من سعد ومن أبي بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم وقام اكثر الناس مع علي لا سيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلي بما لا نسبة بينهما بل لم يعرف أن عليا كان يبغضه الكفار والمنافقون إلا كما يبغضون أمثاله بخلاف عمر فانه كان شديدا عليهم وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر
ولهذا لما استخلفه أبو بكر كره خلافته طائفة حتى قال طلحة ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا فقال أبالله تخوفني أقول وليت عليهم خير اهلك
فإذا كان أهل الحق مع علي وأهل الباطل مع علي فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه وهب انهم إذا قاموا لم يغلبوا إما كانت الدواعي المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجري في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد فإذا كانت الأنصار بشبهة لا اصل لها طمعوا أن يتآمر سعد فمكن يكون فيهم المحق
ونص الرسول الجلي كيف لا يكون أعوانه اطمع في الحق فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك ولم يدع داع إلى علي لا هو ولا غيره واستمر الأمر على ذلك إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا حتى كادوا يغلبوا علم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى لا لوجود المانع وأن القوم لم يكن عندهم علم بان عليا هو الأحق فضلا عن نص جلي وانه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه مع وجود المانع
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير لو كان لعلي حق فان أبا بكر لم يدع إلى نفسه ولا ارغب ولا ارهب ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه ولا كان في أول الأمر يمكن أحدا القدح في علي كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان فانه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى انه أعان على قتله وبعضهم يقول خذله وكان قتلة عثمان في عسكره وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته
وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر فكان جنده أعظم وحقه إذا ذاك لو كان مستحقا اظهر ومنازعوه اضعف داعيا واضعف قوة وليس هناك داع قوي يدعوا إلى منعه كما كان بعد مقتل عثمان ولا جند يجمع علي مقاتلته كما كان بعد مقتل عثمان وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذا ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه فلو تبين أن الحق لعلي وطلبه علي لكان أبو بكر إما أن يسلم إليه وإما أن يجامله وإما أن يعتذر إليه ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع علي المحق المعصوم على أبي بكر المعتدي الظلوم لو كان الأمر كذلك لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية أعظم من نفرتها عن مبايعته أهل بيت المطاع فالدواعي لعلي من كل وجه كانت أعظم واكثر لو كان أحق وهي عن أبي بكر من كل وجه كانت ابعد لو كان ظالما
لكن لما كان المقتضي مع أبي بكر وهو دين الله قويا والإسلام في جدته وطراوته وإقباله كان اتقى لله إلا يصرفوا الحق عمن يعلمون انه الأحق إلى غيره ولو كان لبعضهم هوى مع الغير
وأما أبو بكر فلم يكن لأحد معه هوى إلا هوى الدين الذي يحبه الله ويرضاه
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه وأن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا وكلاهما ممتنع عادة ودينا والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقيني لا يندفع بأخبار لا يعلم صحتها فكيف إذا علم كذبها وألفاظ لا تعلم دلالتها ومقاييس فكيف إذا علم انتفاء دلالتها ومقاييس لا نظام لها يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى
وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علما لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء الذين يدعون النصوص الصحيحة التي توجب العلم ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك لو تعرض لم تثبت وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبه تعارض ذلك فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب بالشبه فقد سلك مسلك السفسطة فان السفسطة أنواع:
أحدها النفي والجحد والتكذيب إما بالوجود وإما بالعلم به
والثاني الشك والريب وهذه طريقة اللاأدرية الذين يقولون لا ندري فلا يثبتون ولا ينفون لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم وهو نوع من النفي فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به
الثالث قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد فيقول من اعتقد العالم قديما فهو قديم ومن اعتقده محدثا فهو محدث وإذا أريد بذلك انه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح فان هذا هو اعتقاده
لكن السفسطة أن يراد انه كذلك في الخارج
وإذا كان كذلك فالقدح فيما علم من أحوال الرسول ﷺ مع الخلفاء الثلاثة وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علي وأصحابه كان كاذبا مبطلا مسفسطا
ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علي أعظم من كذب من يروي ما يفضل به معاوية على علي وسفسطتهم اكثر فان ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل على علي معاوية من وجوه كثيرة وإثبات عصمة علي ابعد عن الحق من إثبات فضل معاوية
ثم خلافة أبي بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد ﷺ ورسالته ومما يظهر انه رسول حق ليس ملكا من الملوك فان عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه أحدها محبتهم لأقاربهم اكثر من الجانب لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته والثاني لان أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي لان في عز قريب الإنسان عز لنفسه ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار
ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات اكثر من غيرهم وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم
وكذلك ملوك الطوائف كبني بويه وبني سلجق وسائر الملوك بالشرق والغرب والشام واليمن وغير ذلك
وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم وكما يوجد في آل جنكشخان بان الملوك تبقى في أقارب الملك ويقولون هذا من العظم وهذا ليس من العظم أي من أقارب الملك
وإذا كان كذلك فتوليه أبي بكر وعمر بعد النبي ﷺ دون عمه العباس وبني عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم ودون سائر بني عبد مناف كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وإبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بني عبد مناف الذين كانوا اجل قريش قدرا واقرب نسبا إلى النبي ﷺ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله وانه ليس ملكا حيث لم يقدم في خلافته أحدا لا بقرب نسب منه ولا بشرف بيته بل إنما قدم بالإيمان والتقوى
ودل ذلك على أن محمدا ﷺ وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك فان الله خير محمدا بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبدا رسولا
وتولية أبي بكر وعمر بعده من تمام ذلك فانه لو قدم أحدا من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن انه كان ملكا كما انه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن انه جمع المال لورثته فلما لم يستخلف أحدا من أهل بيته ولا خلف لهم مالا كان هذا مما يبين انه كان من ابعد الناس عن طلب الرياسة والمال وأن كان ذلك مباحا وانه لم يكن من الملوك الأنبياء بل كان عبد الله ورسوله كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: إني والله لا أعطي أحدا ولا امنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت
وقال: إن ربي خيرني بين أن أكون عبدا رسولا أو نبيا ملكا فقلت بل عبدا رسولا
وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم ولو تولى بعده علي أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والالطافات العظيمة
وأيضا فانه من المعلوم أن الإسلام في زمن علي كان اظهر واكثر مما كان في خلافة أبي بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علي ابعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر فان أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب مع ما حصل للمسلمين بموت النبي ﷺ من الضعف العظيم وما حصل من الارتداد لأكثر البوادي وضعف قلوب أهل الأمصار وشك كثيرهم في جهاد مانعي الزكاة وغيرهم
ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم فقهرهم وفتح بلادهم وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب ثم فتح بعد ذلك في خلافة بني أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك
فمعلوم انه لو تولى غير أبي بكر وعمر موت النبي ﷺ مثل علي أو عثمان لم يمكنه أن يفعل ما فعلا فان عثمان لم يفعل ما فعلا مع قوة الإسلام في زمانه وعلي كان اعجز من عثمان وكان اعوانه اكثر من أعوانهما وعدوه اقل واقرب إلى الإسلام من عدوهما ومع هذا فلم يقهر عدوه فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم مع قلة الأعوان وقوة العدو
وهذا مما يبين فضل أبي بكر وعمر وتمام نعمة الله بهما على محمد ﷺ وعلى الناس بعده وأن من أعظم نعم الله تولية أبي بكر وعمر بعد النبي ﷺ فانه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا إما لعدم القدرة وإما لعدم الإرادة
فانه إذا قيل لم لم يغلب علي معاوية وأصحابه فلا بد أن يكون سبب ذلك إما عدم كمال القدرة وإما عدم كمال الإرادة وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل ومن تمام القدرة طاعة الاتباع له ومن تمام الإرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله
وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما اكمل وإرادتهما افضل فبهذا نصر الله بهما الإسلام وأذل بهما الكفر والنفاق وعلي رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا
والله تعالى كما فضل بعض النبيين على بعض فضل بعض الخلفاء على بعض فلما لم يؤت ما أوتيا لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي ﷺ اعجز واعجز فانه على أي وجه قدر ذلك فان غاية ما يقول المتشيع أن اتباعه لم يكونوا يطيعونه
فيقال إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه فكيف يطيعه من لم يبايعه وإذا قيل لو بايعوه بعد موت النبي ﷺ لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر
فيقال قد بايعه اكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما وعدوه اضعف واقرب إلى الإسلام من عدو أبي بكر وعمر ولم يفعل ما يشبه فعلهما فضلا عن أن يفعل افضل منه
وإذا قال القائل أن اتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى فنصرهم الله لذلك
قيل هذا يدل على فساد قول الرافضة فانهم يقولون أن اتباع أبي بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم دل ذلك على أن الذين بايعوهما افضل من الشيعة الذين بايعوا عليا
وإذا كان المقرون بإمامتهما افضل من المقرين بإمامة علي دل ذلك على انهما افضل منه
وإن قالوا أن عليا إنما لم ينتصر لان اتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه
قيل هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة أن الذين بايعوا عليا واقروا بإمامته افضل ممن بايع أبا بكر وعمر واقر بإمامتهما فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم كانوا من اشر الناس فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ولا طائفة ينتصر بها على العدو فيمتنع أن يكون علي مع الشيعة قادرا على قهر الكفار
وبالجملة فلا بد من كمال حال أبي بكر وعمر واتباعهما فالنقص الذي حصل في خلافة علي من إضافة ذلك إما إلى الإمام وإما إلى اتباعه وإما إلى المجموع
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبي بكر وعمر واتباعهما افضل من علي وإتباعه فانه أن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه وان كان من اتباعه كان المقرون بإمامتها أفضل من المقرين بإمامته فتكون أهل السنة افضل من الشيعة وذلك يستلزم كونهما افضل منه لان ما امتاز به الأفضل افضل مما امتاز به المفضول
وهذا بين لمن تدبره فان الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم هم افضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فان أولئك فيهم من عاش بعد النبي ﷺ من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي ﷺ إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم
والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان وإما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه كسعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة وأمثال هؤلاء من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان
ومنهم من قاتله كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم افضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه لزم أن يكون كل من الثلاثة افضل لان عليا كان موجودا على عهد الثلاثة فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره كما تقوله الرافضة أو كان افضل وأحق بها كما يقوله من يقوله من الشيعة لكان افضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله به إلى ما لم يؤمروا به بل ما نهوا عنه وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان افضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون اتباع علي افضل وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم افضل من الثلاثة لزم أن يكون ما فعلوه من الخير افضل مما فعله الثلاثة
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار الذي تواترت به الأخبار وعلمته البوادي والحضار فانه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه وقمع المرتدين وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ما لم يجر بعدهم مثله
وعلي رضي الله عنه فضله الله وشرفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث بخلاف أبي بكر وعمر وعثمان فانهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله وإنفاق كنوز كسرى وقيصر وغير ذلك من الحوادث المشكورة والأعمال المبرورة
وكان أبو بكر وعمر افضل سيرة واشرف سريرة من عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين فلهذا كانا ابعد عن الملام وأولى بالثناء العام حتى لم يقع في زمنهما شيء من الفتن فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار وأهل الإيمان في إقبال وأهل الكفر في إدبار
منهاج السنة النبوية | |
---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 |