إقامة الدليل على إبطال التحليل/22



وإنما موضع الخلاف هل يجوز له أن يسرق أو أن يخون سرقة أو خيانة مثلما سرقه إياه أو خونه إياه ولم تكن قصة يوسف من هذا الضرب نعم لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا دلالة له في ذلك على هذا التقدير أيضا فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق أن يحبس رجل بريء ويعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم وقد بينا ضعف هذا القول فيما مضى وإن كان حقا فيوشك أن يكون الله سبحانه أمره باعتقاله وكان هذا ابتلاء من الله لهذا المعتقل كأمر إبراهيم بذبح ابنه وتكون حكمته في حق المبتلي امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه ويكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه

وهذا الذي ذكرناه بين يعلم من سياق الكلام ومن حال يوسف وقد دل عليه قوله سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } فإن الكيد عند أهل اللغة نحو من وقد نسبه الله سبحانه إلى نفسه كما نسبه إلى نفسه في قوله: { إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا } وكما دل عليه قوله سبحانه: { أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون } ومثل ذلك قوله سبحانه: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وقوله سبحانه في قصة صالح: { وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله } إلى قوله: { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } الآية

ثم إن بعض الناس يقول إنما سمى الله سبحانه فعله بالماكرين والكائدين والمستهزئين مكرا وكيدا واستهزاء مع أنه حسن وفعلهم قبيح لمشاكلته له في الصورة ووقوعه جزاء له كما في قوله: { وجزاء سيئة سيئة مثلها } سمى الثاني سيئة وهو بحق لمقابلته للسيئة وقال: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } سمي الأول عقوبة وإن لم يكن عن الأولين عقوبة لمقابلته للفعل الثاني وجعلوا هذا نوعا من المجاز - وقال آخرون وهو أصوب بل تسميته مكرا وكيدا واستهزاء وسيئة وعقوبة على بابه فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي وكذلك الكيد فإن كان ذلك الغير يستحق ذلك الشر كان مكرا حسنا والا كان مكرا سيئا بل إن كان ذلك الشر الواصل حقا لمظلوم كان ذلك المكر واجبا في الشرع على الخلق وواجبا من الله بحكم الوعد إن لم يعف المستحق والله سبحانه إنما يمكر ويستهزىء بمن يستوجب ذلك فيأخذه من حيث لا يحتسب كما فعل ذلك الظالم بالمؤمنين والسيئة ما تسوء صاحبها وإن كان مستحقا لها والعقوبة ما عوقب به المرء من شر

وإذا تبين ذلك: فيوسف الصديق عليه السلام كان قد كيد غير مرة

أولها: أن إخوته كادوا له كيدا حيث احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه كما دل عليه قوله: { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا }

ثم أن امرأة العزيز كادت له بأن أظهرت أنه راودها عن نفسها وكانت هي المراودة كما دل عليه قوله: { فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم }

ثم كاد له النسوة حتى استجار بالله في قوله: { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم } حتى أنه عليه السلام قال لما جاءه رسول الملك يستخرجه من السجن: قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم

فكاد الله ليوسف بأن جمع بينه وبين أخيه وأخرجه من أيدي أخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره

وكيد الله سبحانه وتعالى لايخرج عن نوعين:

أحدهما: هو الأغلب أن يفعل سبحانه فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له فيكون الفعل قدرا محضا ليس هو من باب الشرع كما كاد الذين كفروا بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف فإن يوسف أكثر ما قدر أن يفعل أن ألقى الصواع في رحل أخيه وأذن المؤذن بسرقتهم فلما أنكروا قال فما جزاؤه إن كنتم كاذبين أي جزاء السارق قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي جزاؤه نفس نفس السارق يستعبد المسروق أما مطلقا أو إلى مدة وهذه كانت شريعة آل يعقوب وقوله من وجد في رحله فيه وجهان:

أحدهما: أنه هو خبر المبتدأ وقوله بعد ذلك فهو جزاؤه جملة ثانية مؤكدة للأولى والتقدير في جزاء هذا الفعل نفس من وجد في رحله فإن ذلك هو الجزاء في ديننا كذلك يجزي الظالمين

والثاني: أن قوله من وجد في رحله فهو جزاؤه جملة شرطية هي خبر المبتدأ والتقدير جزاء السارق هو أنه من وجد الصاع في رحله كان هو الجزاء كما تقول جزاء السرقة ممن سرق قطع يده - وإنما احتمل الوجهين لأن الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة وقد يراد به نفس العقوبة وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المعاقب فكلما تكلموا بهذا الكلام كان إلهام الله لهم هذا كيدا ليوسف خارجا عن قدرته إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا الأجزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب حكم السارق وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يمكنه أن يأخذهم بغير حجة أو يقولون جزاؤه أن يفعل به ما تفعلون بالسراق في دينكم وقد كان من دين ملك مصر فيما ذكره المفسرون أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرنين ولو قالوا ذلك لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزمه غيرهم ولهذا قال سبحانه: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } أي ما كان يمكنه أخذه في دين ملك مصر لأن دينه لم يكن فيه طريق إلى أخذه - إلا أن يشاء الله - استثناء منقطع أي لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخرأو يكون متصلا بأن يهيىء الله سبحانه سببا آخر بطريق يؤخذ به في دين الملك من الأسباب التي كان الرجل في دين الملك يعتقل بها

فإذا كان المراد بالكيد فعلا من الله سبحانه بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورا يحصل بها مقصوده بالإنتقام من الظالم وغير ذلك فإن هذا خارج عن الحيل الفقهية فإنا إنما تكلمنا في حيل يفعلها العيد لا فيما يفعله الله سبحانه بل في قصة يوسف تنبيه على أن من كاد كيدا محرما فإن الله يكيده وهذه سنة الله في مرتكب الحيل المحرمة فإنه لا يبارك له في هذه الحيل كما هو الواقع وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة وعلى هذا فقوله بعد ذلك: { نرفع درجات من نشاء } قالوا بالعلم وفيه تنبيه على أن الخفي الذي يتوصل به المقاصد الحسنة مما يرفع الله به الدرجات وفيه دليل على أن يوسف كان منه فعل فيكون بهذا العلم هو ما اهتدى به يوسف إلى أمر توكل في إتمامه على الله فإن اهتداءه لإلقاء الصاع واسترجاعهم نوع فعل منه لكن ليس هذا وحده هو الحيلة والحيل الفقهية بها وحدها يتم عرض المحتال لو كانت حلالا

النوع الثاني: من كيده لعبده هو أن يلهمه سبحانه أمرا مباحا أو مستحبا أو واجبا يوصله به إلى المقصود الحسن فيكون هذا على إلهامه ليوسف أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا وقد دل على ذلك قوله: { نرفع درجات من نشاء } فإن فيه تنببها على أن العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح كما أن العلم الذي يخصم به المبطل صفة مدح حيث قال في قصة إبراهيم: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء }

وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع لكن لا يجوز أن يراد به الكيد الذي تستحل به المحرمات أو تسقط به الواجبات فإن هذا كيد لله والله هو المكيد في مثل هذا فمحال أن يشرع الله أن يكاد دينه وأيضا فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعي ومحال أن يشرع أنه لعبد أن يقصد بفعله مالم يشرع الله ذلك الفعل له وأيضا فإن الأمر المشروع هو عام لا يخص به شخص دون شخص فإن الشيء إذا كان مباحا لشخص كان مباحا لكل من كان على مثل حاله - فإذن من احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة لا يفهمها ولايعلمها لأن الفقهاء كلهم يشركونه في فهمها والناس كلهم يساوونه في عملها وإنما فضيلة الفقيه إذا حدثت حادثة أن يتفطن لاندراج هذه الحادثة تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره أو يمكنهم معرفته بأدلته العامة نصا أيضا واستنباطا فأما الحكم فمتقرر قبل تلك الحادثة فإذن احتياج الناس إلى الحيل لايجدد أحكاما شرعية لم تكن مشروعه قبل ذلك بل الأحكام مستقرة وجدت تلك الحاجة أو لم توجد فإن كان الشارع قد جعل الحكم يتغير بتغير تلك الحاجة كان حكما عاما وجدت حاجة ذلك الشخص المعين أو لم توجد وإن لم يكن جعل لتلك الحاجة تأثيرا في الحكم فالحكم واحد سواء وجدت تلك الحاجة مطلقا أو لم توجد والله سبحانه إنما كاد ليوسف كيدا جزاء منه على صبره وإحسانه وذكر في معرض المنة عليه فلو لم يكن ليوسف عليه السلام اختصاص بذلك الكيد لم يكن في مجرد عمل الإنسان أمر مباح له ولغيره منة عليه في مثل هذا المقام فعلم أن المنة كانت عليه في أن ألهم العمل بما كان مباحا قبل ذلك فإنه قد يلهم العبد ما لا يلهمه غيره ولهذا قال بعض المفسرين في قوله تعالى { كدنا } صنعنا وبعضهم قال ألهمنا يوسف

ومن احتال بعمل هو مباح في نفسه على الوجه الذي أباحه الشارع فهذا جائز بالاتفاق وإنما الكلام في أنه هل يباح له ما كان محرما على الإطلاق مثل الخيانة والغلول أو يباح له فعل المباح على غير الوجه المشروع مثل الحيل الربوية؟

يوضح ذلك: أن نفس الأحكام مثل إباحة الفعل لا يجوز أن تسمى كيدا وإنما الكيد فعل من الله ابتداء أو فعل من العبد يكون العبد به فاعلا وعلى التقديرين فليس هذا من الحيل الشرعية وهذا الذي ذكرناه في معنى الكيد إنما انضم إليه معرفة الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التي فعلها الله له تيقن اللبيب أن الكيد لم يكن خارجا عن إلهام فعل كان مباحا أوفعل من الله تم به ذلك الفعل وإن حاجة يوسف لم تبح له فعل شيء كان حراما على الإطلاق في الجملة قيل ذلك وهذا هو المقصود والله أعلم

النوع الثاني: مما ظن المحتالون أنه من الحيل سائر العقود الصحيحة فقالوا: البيع احتيال على حصول الملك والنكاح احتيال على حصول حل البضع وكذلك سائر ما يتصرف فيه الخلق وهو احتيال على طلب مصالحهم التي أباحها الله لهم وقال قائلهم: الحيلة هي الطريق التي يتوصل بها الإنسان إلى إسقاط المأثم عن نفسه وقال آخر هي ما يمنع الإنسان من ترك أو فعل لولاها كان يلزمه من غير إثم ثم قالوا: وهذا شأن سائر التصرفات المباحة وقالوا: قد قال رسول الله لعامله على خيبر [ بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ] فلما كان مقصوده إبتياع الجيب بجمع أمره أن يبيع الجمع ثم يبتاع بثمنه جنيبا فعقد العقد الأول ليتوسل به للعقد الثاني قالوا: وهذه حيلة تضمنت حصول المقصود بعد عقدين فهي أوكد مما تضمنت حصوله بعد عقد واحد وأشبهت العينة فإنه قصد أن يعطيه دراهم فلم يمكن بعقد واحد فعقد عقدين بأن باع السلعة ثم ابتاعها والحيل المعروفة لا تتم غالبا إلا بأن ينضم إلى العقد الآخر شيء آخر من عقد آخر أو فسخ أو نحو ذلك

والجواب عن هذا: إن تحصيل المقاصد بالطرق المشروعة إليها ليس من جنس الحيل سواء سمى حيلة أولم يسم فليس النزع في مجرد اللفظ بل الفرق بينهما ثابت من جهة الوسيلة والمقصود الذين هما المحتال به والمحتال عليه وذلك أن البيع مقصوده الذي شرع البيع له أن يحصل ملك الثمن للبائع ويحصل ملك المبيع للمشتري فيكون كل منهما ملكا لمن انتقل إليه كسائر أملاكه وذلك في الأمر العام إنما يكون إذا قصد المشتري نفس السلعة للانتفاع بعينها وانفاقها أو التجارة فيها فإن قصد ثمنها الذي هو الدراهم أو الدنانير ولم يكن مقصوده إلا أنه قد احتاج إلى دراهم فابتاع سلعة نسيئة ليبيعها ويستنفق ثمنها فهو التورق وإنما يكون إذا قصد البائع نفس الثمن لينتفع به بما جعلت الأثمان له من إنفاق وئجارة ونحوهما فإذا كان مقصود الرجل نفع الملك المباح بالبيع وما هو من توابعه وحصله بالبيع فقد قصد بالسبب ما شرعه الله سبحانه له وأتى بالسبب حقيقة وسواء كان مقصوده يحصل بعقد أو عقود مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لاتباع بسلعته لمانع شرعي أو عرفي أو غير ذلك فيبيع سلعته ليملك ثمنها والبيع لملك الثمن مقصود مشروع ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى وابتياع السلع بالأثمان مقصود مشروع

وهذه قصة بلال رضي الله عنه بخيبر سواء فإنه إذا باع الجمع بالدراهم فقد أراد بالبيع ملك الثمن وهذا مشروع مقصود ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبا فقد أراد بالابتياع ملك سلعة وهذا مقصود مشروع فلما كان بايعا قصد ملك الثمن حقيقة ولما كان مبتاعا قصد ملك السلعة حقيقة فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه فهذا لا محذور فيه إذ كل واحد من العقدين مقصود مشروع ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض ونحو ذلك وأما إن ابتاع بالثمن ممن ابتاعه من جنس ما باعه فيخاف أن يكون العقد الأول مقصودا منهما بل قصدهما بيع السلعة الأولى بالثانية فيكون ربا ويظهر هذا القصد بأن يكون إذا باعه التمر مثلا بدراهم لم يحرر وزنها ولا نقدها ولا قبضها فيعلم أنه لم يقصد بالعقد الأول ملك المثمن بذلك التمر ولا قصد المشتري تملك التمر بتلك الدراهم التي هي الثمن بل عقد العقد الأول على أن يعيد إليه الثمن ويأخذ التمر الآخر وهذا تواطؤ منهما حين عقده على فسخه والعقد إذا قصد به فسخه لم يكن مقصودا وإذا لم يكن الأول مقصودا كان وجوده كعدمه فيكونان قد اتفقا على أن يبتاعا بالتمر تمرا

يحقق أن هذا هو العقد المقصود أنه إذا جاء بدراهم أو دنانير أو حنطة أو تمر أو زبيب ليبتاع به من جنسه أكثر منه أو أقل فإنهما غالبا يتشارطان ويتراضيان على سعر أحدهما من الآخر ثم بعد ذلك يقول بعتك هذه الدراهم بكذا وكذا دينارا ثم يقول اصرف لي بها كذا وكذا درهما لما اتفقا عليه أولا ويقول بعتك هذا التمر بكذا وكذا درهما ثم يقول بعني به كذا وكذا تمرا فيكونان قد اتفقا على الثمن المذكور صورة لا حقيقة ليس للبائع غرض في أن يملكه ولا للمشتري غرض أن يملكه وقد تعاقدا على أن يملكه البائع ثم يعيده إلى المشتري والعقد لا يعقد ليفسخ من غير غرض يتعلق بنفس وجوده فإن هذا باطل كما تقدم بيانه فأين من يبيعه بثمن ليشتري به منه إلى من يبيعه بثمن ليأخذ منه

يوضح هذا أشياء:

منها أن الرجل إذا أراد أن يشتري من رجل سلعة بثمن آخر من غير جنسها فإنهما في العرف لا يحتاجان أن يعاقداه على الأول بثمن يميزه ثم يبتاعا به وإنما يقومان السلعتين ليعرفا مقدارهما ولو قال له بعتها بكذا وكذا أو ابتعت منك هذه بهذا الثمن لعد هذا لاعبا عابثا قائلا ما لا حقيقة له ولا فائدة فيه بخلاف ما لو كان الشراء من غيره فإنه يبيعه بثمن يملكه حقيقة ثم يبتاع به من الأخر فكذلك إذا أراد أن يبتاع منه بالثمن من جنسها كيف يأمره الشارع بشيء ليس فيه فائدة؟

ومنها أنه لو كان هذا مشروعا لم يكن في نحريم الربا حكمة إلا تضييع الزمان وإتعاب النفس بلا فائده فإنه لا يشاء أن يبتاع ربويا بأكثر منه من جنسه إلا قال بعتك هذا بكذا وابتعت منك هذا بهذا الثمن فلا يعجز أحد عن استحلال ربا حرمه الله سبحانه قط فإن الربا في البيع نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة فأما ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوي أن يقول بعتك هذا المال بكذا ويسمي ما شاء ثم يقول ابتعت به هذا المال الذي هو من جنسه وأما ربا النسيئة فيمكنه أن يقول بعتك هذه الحريرة بألف درهم أو عشرين صاعا إلى سنة وابتعتها منك بتسعمائة حالة أو خمسة عشر صاعا أو نحو ذلك

ويمكنه ربا القرض فلا يشاء مرب إلا أقرضه ثم حاباه في بيع أو إجارة أو مساقاة أو أهدى له أو نفعه ويحصل مقصودهما من الزيادة في القرض فيا سبحان الله العظيم أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن أهل الكتاب بأخذه ولعن آكله وموكله وشاهديه وكاتبه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجىء في غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزىء بها؟ أم يستحسن مؤمن أن ينسب نبيا من الأنبياء فضلا عن سيد المرسلين بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم العظيمة ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد ولم يكن له حقيقة وليس فيه مقصود المتعاقدين قط

ولقد بلغني أن بعض المربين من الصيارف قد جعل عنده خرزة ذهب فكل من جاء يريد أن يبيعه فضة بأقل منها لكونها مكسورة أو من نقد غير نافق ونحو ذلك قال له الصيرفي بعني هذه الفضة بهذه الخرزة ثم يقول ابتعت هذه الخرزة بهذه الفضة

أفيستجيز رشيد أن يقول إن الذي حرم بيع الفضة بالفضة متفاضلا أحل تحصيل الفضة بالفضة متفاضلا على هذا الوجه وهو الذي يقول في محلل القمار ما يقول ويقول في محلل النكاح ما يقول؟

وكذلك بلغي أن من الباعة من قد أعد بزا لتحليل الربا فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألفا بألف ومائتين ذهبا إلى ذلك المحلل فاشترى ذلك المعطي منه ذلك البز ثم يعيده للآخر ثم يبيعه الآخذ إلى صاحبه وقد عرف الرجل بذلك بحيث أن البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه الببع البتة

واعلم أن أكثر حيل الربا أغلظ في بابها من التحليل في بابه ولهذا حرمها أو بعضها من لم يحرم التحليل لأن القصد في البيع معتبرعند العامة فلا يصح بيع الهازل بخلاف نكاحه ولأن الاحتيال في الربا غالبا إنما يتم في المواطأة اللفظية أو العرفية ولا يفتقر عقد الربا إلى شهادة ولكن يتعاقدان ثم يشهدان له في ذمته دينا ولهذا إنما لعن شاهداه إذا علما به والتحليل لا يمكن إظهاره وقت العقد لكون الشهادة شرطا فيه والشروط المتقدمة مؤثرة عند عامة السلف وإن نقل عن بعضهم أن مجرد النية لا يؤثر

وجماع هذا أنه إذا اشترى منه ربويا وهو يريد أن يشتري بثمنه منه من جنسه فأما أن يواطئه على الشراء منه لفظا أو يكون العرف قد جرى بذلك واما أن لا يكون كذلك فإن كان كذلك فهو عقد باطل لأن ملك الثمن غير مقصود فلا قوله أولا بعتك هذا بألف مثلا صحيحا ولا قوله ثانيا إبتعت هذا بألف فإنه لم يقصد أولا ملك الألف ولم يقصد ثانيا التمليك بها ولم يقصد الآخر تمليك الألف أولا ولاملكها ثانيا بل القصد تمليك التمر بالتمر مثلا وإن لم تجر بينهما مواطأة لكن قدعلم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه فهو كذلك لأن علمه بذلك يمنع كلا منهما أن يقصد الثمن في العقدين بل علمه به ضرب من المواطأة العرفية

وإن كان قصد البائع الشراء منه ولم يعلم المشتري فهنا قال الإمام أحمد لو باع من رجل دنانير بدنانير لم يجز أن يشتري بالدراهم فه ذهبا إلا أن يمضي لييتاع بالورق من غيره ذهبا فلا يستقيم فيجوز أن يرجع إلى الذي إبتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبا وكذلك كره منك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير ثم تبتاع فه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك وغير عيونها في الوقت أو بعد يوم أو يومين قال ابن القاسم فإن طال الزمان وصح أمرها فلا بأس به فالذي ذكره الإمام أحمد لأنه متى قصد الشراء منه بتلك الدنانير لم يقصد تمليك الثمن ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن فمتى بدا له بعد القبض والمفارقة أن يشتري منه بأن يطلب من غيره فلا يجد لم يكن في العقد الأول خلل ثم إن المتقطمين من أصحابه حملوا هذا المنع على التحريم وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إذا لم يكن عن حيلة ومواطأة لم يحرم وقد أومأ إليه أحمد فيما رواه عنه الكرماني قال قلت لأحمد رجل اشترى من رجل ذهبا ثم باعه منه؟ قال يبعه من غيره أعجب إلي وذكر ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى وقد نقل عن ابن سيرين أنه كان يكره للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير وفي رواية عنه قال إن بعضهم ليفعل ما هو أقبح من الصرف وهذا إخبار عما كانت الصحابة عليه فإن ابن سيرين من أكابر التابعين فلا ينقل الكراهة المطلقة إلا عن الصحابة

وهذه المسألة عكس مسائل العينة وهي في ربا الفضل كمسائل العينة في ربا النسأ لأن هذا يبيع بالثمن ثم يعيده إليه وبأخذ به ومثلها في ربا النسأ أن يبيع ربويا بنسيئة ثم يشتري بثمنه ما لا يباع به نسيئة - وهذه المسألة مما عدها من الربا الفقهاء السبعة وأكثر العلماء مثل مالك وأحمد وغيرها وأظنه مأثور عن ابن عمر وغيره ففي هذين الموضعين قد عاد الثمن إلى المشتري وأفضى إلى ربا الفضل أو ربا النسأ وفي مسائل العينة قد عاد المبيع إلى البائع وأفضى إلى ربا الفضل والنسأ جميعا

ثم إن كان في الموضعين لم يقصد الثمن ولا المبيع وإنما جعل وصلة إلى الربا فهذا لا ريب في تحريمه والعقد الأول هنا باطل فلا يوقف فيه عند من يبطل الحيل وكلام أحمد وغيره من العلماء في ذلك كثير وقد صرح به القاضي في مسألة العينة في غير موضع وغيره من العلماء وإن كان أبو الخطاب وغيره قد جعل في صحته وجهين فإن الأول هو الصواب وإنما تردد من تردد من أصحابنا في العقد الأول في مسالة العينة لأن هذه المسالة إنما ينصب الخلاف فيها في العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح

وعلى هذا التقرير فليست من مسائل الحيل وإنما هي من مسائل الذرائع ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم غد أبي حنيفة وأصحابه وهو كون الثمن إذا لم يستوف لم يتم العقد الأول فيصير الثاني مبنيا عليه وهذا تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع أيضا فصار لها ثلاثة مآخذ فلما لم يمتحض تحريمها على قاعدة الحيل توقف في العقد الأول من توقف

والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطبت حكم الحيل وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران هذا إذا لم يقصد العقد الأول وإن كان العقد الأول مقصودا حقيقة فهو صحيح لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم بجز أن يشتري منه البيع بأقل منه من جنسه ولا يجوز أن يبتاع منه الثمن ربويا لا يباع بالأول نسأ لأن أحكام العقد الأول لا تستوفى إلا بالتقابض فمتى لم يحصل التقابض كان ذريعة إلى الربا وان تقابضا وكان العقد مقصودا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره

وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خداع فيها ولاتحريم لم يصح أن يلحق فيها صورة عقد لم يقصد حقيقته من ملك الثمن والمثمن وإنما قصد به استحلال ما حرمه الله من الربا وأما قول النبي لبلال: [ بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ] فليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه:

أحدها: إن النبي أمره أن يبيع سلعته الأولى ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب ونحن نقول كل بيع صحيح فإنه يفيد الملك ولا يكون ربا لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة والتابعين على أن ظاهرها وإن كان بيعا فإنها ربا وهي بيع فاسد ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث ولو اختلف رجلان في بيع هل هو صحيح أو فاسد وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح فمتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث فتبين أنه لا حجة فيه على صحة صورة النزاع البتة

والنكتة أن يقال الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ونحن لا نسلم أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على الاشتراء بالثمن من المشتري شيئا من جنس الثمن الربوي بيع صحيح وإنما البيع الصحيح الاشتراء من غيره أوالاشتراء منه بعد بيعه بيعا مقصودا ثابتا لم يقصد به الشراء منه

الوجه الثاني: إن الحديث ليس فيه عموم لأنه قال: [ وابتع بالدراهم جنيبا ] والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد ومقدر المشترك ليس هو ما بتميز به كل واحد من الأفراد عن الآخر ولا هو ملتزما له فلا يكون الأمر بالمشترك أمرا بالمميز بحال نعم مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاما لها على سبيل البدل لكن ذلك لا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع وهو المطلوب فقوله مع هذا الثبوت لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمر ولا بكذا أو كذا ولا بهذا السوق أو هذه فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممثلا من جهة وجدد تلك الحقيقة لا من جهة وجود تلك القيود وهذا الأمر لا خلاف فيه لكن بعض الناس يعتقد أن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة وهذا خطأ

إذا تبين ذلك: فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشتري ولا أمره أن يبتاع من غيره فالحديث لا يدل لفظه على شيء من ذلك بعينه ولا على جميع ذلك مطابقة ولا تضامنا ولا إلتزاما كما لا يدل على بيعه وقبض الثمن أو ترك قبضه وبيعه بثمن المثل أو دون ثمن المثل وبنقد البلد أو غير نقد البلد وبثمن حال أو مؤجل فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها وإنما أستفيد عدم الإمتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بغير نقد البلد أو بثمن مؤجل والأمر بقبض الثمن من العرف الذي يثبت البيع المطلق وكذلك أيضا ليس فيه أنه يبيعه من المشتري على أن يشتري بالثمن منه ولا غير ذلك وإنما يستفاد ذلك من دلالة أخرى منفصلة فيما أباحته الشريعة جاز فعله ومالا فلا

وبهذا يظهر الجواب عن قول من يقول لو كان الإبتياع من المشتري حراما لنهى عنه فإن مقصوده إنما كان بيان الطريق التي بها يحصل شراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو أن بيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة أو لأن المخاطب يفهم البيع الصحيح فلا يحتاج إلى بيان فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص كما لا يحتج به على نفي سائر الشروط وما هذا إلا بمثابة قوله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } فإن المقصود بيان حل الأكل في هذا الوقت فمن احتج به على حد نوع المأكولات أو صفة من صفات الأكل كان مبطلا إذ لا عموم في اللفظ لذلك كما ذكرناه سوء وليس الغالب أن بايع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال هذه الصورة غالبة فكان ينبغي التحذير منها كما حذر السلف مثل ذلك في الصرف لأن سعر الدراهم والدنانير في الغالب معروف والغالب أن من يريد أن يبيع نقدا ليشتري نقدا آخر إذا باعه للصيرفي بذهب ابتاع بالذهب منه النقد الآخر ولهذا حذروا منه وأما التمر والبر ونحوهما من الروض فإن من يقصد بيعه لا يقصد به مشتريا مخصوصا بل يعرضه على أهل السوق عامة أو يضعه حيث يقصدونه أو ينادي عليه فإذا باعه الواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التى يريدها وقد لا تكون

ومثل هذا إذا قال الرجل لوكيله بع هذه الثياب الكتان واشتري لنا بالثمن ثياب قطن أو بع هذه الحنطة العتيقة واشتري لنا بالثمن جديدة لا يكاد يخطر بباله الإشتراء من ذلك المشتري بل يشتري من حيث وجد غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده فالغرض في بيع العروض أو إبتياعها لا يغلب وجوده عند واحد بخلاف الأثمان

وإذا كانت هذه صورة قليلة لم يجب التحذير منها إذا لم يكن اللفظ متناولا لها كما لو يحذر من سائر العقود الفاسدة ولهذا إنما يتكلم الفقهاء في المنع من الشراء من المشتري في الصرف لأنه في الغالب بخلاف العروض وثبت أن الحديث ليس له إشعار بالابتياع من المشتري البتة

الوجه الثالث: إن قوله : [ بع الجمع بالدراهم ] إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصودا بخلاف البيع الذي لا يقصد والدليل عليه أنه لو قال: بعت هذا الثوب أو بع هذا الثوب لم يفهم منه بيع المكره ولا بيع الهازل

وإنما يفهم منه البيع الذي قصد به نقل الملك فإذا جاء إلى تمار فقال أريد أن أشتري منك بالتمر الردي تمرا جيدا فيشتريه منه بكذا درهما ويعني بالدراهم كذا تمرا جيدا لم يكن قصده ملك الثمن الذي هو الدراهم البتة وإنما القصد بيع تمر بتمر فلا يدخل في الحديث وتقرير هذا الكلام قد مضى

يبين هذا: إن مثل هذين قد يتراضيان أولا عن بيع التمر بالتمر ثم يجعلان الدراهم محللا وتقريره أن الوكيل فى البيع مأمور بالإنتقاد والإتزان والقبض مع القرينة ونحو ذلك من مقاصد العقد وإذا كان المقصود رد الثمن إليه لم يحرر النقد والوزن والقبض ومثل هذا في الإطلاق لا يسمى بيعا ولو قال الناس فلان باع داره لم يفهم منه إلا صورة لا حقيقة لها فلا تدخل هذه الصورة في لفظ البيع لإنتفاء مسمى البيع المطلق

الوجه الرابع: إن النبي نهى عن بيعتين في بيعة ومتى تواطأ على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة فلا يكون داخلا في الحديث

يبين ذلك أنه قال [ بع الجمع بالدراهم ثم بع بالدراهم جنيبا ] وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتديه بعد انقضاء البيع الأول ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقنا على العقدين معا فلا يكون داخلا في حديث الأمر بل في حديث النهي وتأتي إن شاء الله تعالى تقرير أن الشروط المؤثرة في العقود لا فرق بين مقارنها ومتقدمها

الوجه الخامس: إنه لو فرض أن في الحديث عموما لفظيا فهو مخصوص بصور لا تعد ولا تحصى فإن كل بيع فاسد لا يدخلها فيه فيضعف دلالته ويخص منه الصور التي ذكرناها بالأدلة المتقدمة التي هي نصوص في بطلان الحيل وهي من الصور المكثورة فإخراجها من العموم من أسهل الأشياء وانظر قوله [ لعن الله المحلل والمحلل له ] فإنه عام عموما لفظيا ومعنويا لم يثبت أنه خص منه شيء ولم يعارضه نص آخر فأيما أول بالتخصيص هو أو قوله: [ بع الجمع بالدراهم ثم إبتع بالدرهم جنيبا ] مع أنه ليس بعام لفظا ولا معنى بل هو مطلق وقد خرج منه صور كثيرة فتخرج منه هذه الصورة بنصوص وآثار وقياس دل على ذلك أعني صورة الإبتياع من المشترى منه

فهذه الأقسام السبعة التي قسمناها ما تسمى حيلة إليها إذا تأملها اللبيب علم الفرق بين هذين الآخرين وبين الأقسام الخمسة وقد تضمن هذا التقسيبم الدلالة على بطلان الخمسة والفرق بينها وبين الآخرين والله أعلم

الوجه السادس عشر

إن الحيل مع أنها محدثة كما تقدم فإنها أحدثت بالرأي وإنما أحدثها من كان الغالب عليهم اتباع الرأي فما ورد في الحديث والأثر من ذم الرأي وأهله فإنما يتناول الحيل فإنها رأي محض ليس فيه أثر عن الصحابة ولا له نظير من الحيل ثبت بأصل فيقاس عليه بمثله والحكم إذا ثبت بأصل ولا نظير كان رأيا محضا باطلا

يحقق هذا: أنها إنما نشأت ممن كان من المفتين قد غلب بفسق الرأي وتصريفه وكان تلقيهم للأحكام من جهة أغلب من تلقيها من جهة الآثار ثم هذا الرأي لمن تأمله أكثر ما فيه من فساد إنما هو من جهة الحيل التي دققت الدين وجراه على اعتداء الحدود واستحلال المحارم وإن كان في هذا الرأي أيضا تشديد ما سهلته السنة وهذا مثل ما روى عبد الله بن عمرو وقال سمعت رسول الله يقول: [ إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون فيضلون ويضلون ] رواه البخاري بهذا اللفظ والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما لكن اللفظ المشهور: فافتوا بغير علم إلى أحاديث أخر مثل:

حديث يروى عن عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك قال قال رسول الله : [ تفترق أمتي على بعض وسبعين فرقة أعظمها فئة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ] - وهذا الحديث مشهور عن نعيم بن حماد المروزي وهو ثقة إمام إلا أنه قد نقل عن ابن معين أنه قال هذا حديث باطل ليس له أصل شبه فيه على نعيم ونقل هذا عن غير ابن معين ومع هذا فقد نقل عن جماعة آخرين عن عيسى بن يونس وبعض الناس يقول سرقوه من نعيم ولا حجة لس يقول ذلك في بعض الناس وممن رواه عن عيسى أيضا سويد بن سعيد وكان أحمد يثني عليه وكذا يثني لوالديه عليه ورواه عنه مسلم وغيره وقد أنكر عليه ابن معين بتفرده بحديث ثم وجدوا له أصلا عند غيره قال أبو أحمد بن عدي قال جعفر الفريابي وقفت سويدا على هذا الحديث بعد أن حدثني به ودار بيني وبينه كلام كثير وهذا إنما يعرف بنعيم بن حماد رواه عن عيسى بن يونس فتكلم الناس فيه بجرأة ورواه رجل من أهل خراسان يقال له الحكم بن المبارك ويقال أنه لا بأس به ثم سرقه منه قوم ضعفاء فهدا القدر الذي ذكر لا يوجب تركه قدحا في الحديث إذا رواه عدة من الثقاة وروته طائفة عن نعيم عن عيسى وطائفة عنه عن ابن المبارك عن عيسى وهذا القدر قد يحتج به من لا يرى الحديث محفوظا وقد يجيب عنه من يحتج له بأن هذا في اتقان نعيم فإنه كان قد سمعه من ابن المبارك ثم سمعه من عيسى فرغبته في علو الإسناد بتحمله على الرواية عن عيسى ورغبته في التحمل بابن المبارك تحمله على الرواية عنه وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون قد اطلع فيه على علة خفية ومعناه شبيه بالواقع

فإن فتوى من مفت في الحلال والحرام برأي يخالف السنة أضر عليهم من أهل الأهواء وقد ذكر هذا المعنى الإمام أحمد وغيره فإن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة بخلاف الفتيا فإن أدلتها من السنة قد لايعرفها إلا الأفراد ولا يميز ضعيفها في الغالب إلا الخاصة وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير

وقد جاء مثل معناه محفوظا من حديث المجالد في الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: [ ليس عام إلا الذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم ] وهذا الذي في حديث ابن مسعود وهو بعينه الذي في حديث النبي حيث قال: [ ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فبفتون برأيهم فيضلون ويضلون ]

وفي ذم الرأي آثار مشهورة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وغيرهم وكذلك عن التابعين بعدهم بإحسان فيها بيان أن الأخذ بالرأي يحلل الحرام ويحرم الحلال

ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي لم يقصد بها اجتهاد الرأي على الأصول من الكتاب والسنة والإجماع في حادثة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ممن يعرف الأشباه والنظائر وفقه معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتمثيل أو قياس تعليل وتأصيل قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه فإن أدلة جواز هذا المفتي لغيره والعامل لنفسه ووجوبه على الحاكم والإمام أشهر من أن تذكر هنا وليس في هذا القياس تحليل لما حرمه الله سبحانه ولا تحريم لما حلله الله

وإنما القياس والرأي الذي يهدم الإسلام ويحلل الحرام ويحرم الحلال ما عارض الكتاب والسنة أو ما كان عليه سلف الأمة أو معاني ذلك المعتبرة ثم مخالفته لهذه الأصول على قسمين:

أحدهما: أن يخالف أصلا مخالفة ظاهرة بدون أصل آخر فهذا لا يقع من مفت إلا إذا كان الأصل مما لم يبلغه علمه كما هو الواقع من كثير من الأئمة لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ وأما الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافا ظاهرا من غير معارضة بأصل آخر فضلا عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا

الثاني: أن يخالف الأصل بنوع تأويل وهو فيه مخطىء بأن يضع الإسم على غير موضعه أو على بعض موضعه ويراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصود لمعنى أوغير ذلك

والحيل تندرج في هذا النوع على ما لا بخفى

والدليل على أن هذا القسم مراد من هذه الأحاديث أشياء منها أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغير تأويل آو كان التحريم مشهورا فحلله بغير تأويل كان ذلك كفرا وعنادا ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط إلا أن تكون قد كفرت والأمة لا تكفر قط وإذا بعث الله ريحا تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسأل عن حلال وحرام

وإذا كان التحريم أو التحليل غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه فمثل هذا لم يزل موجودا من لدن زمن أصحاب النبي ثم هذا إنما يكون في آحاد المسائل فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام ولا يقال لمثل هذا أنه محدث عند قبض العلماء وذهاب الأخيار والصالحين

فظهر أن المراد استحلال المحرمات الظاهرة بنوع تأويل وهذا بين في الحيل فإن تحريم السفاح والربا والمعلق طلاقها الثلاث بصفة إذا وجدت وتحريم الخمر وغير ذلك هو من الأحكام الظاهرة التي لا يجوز أن يخفى على الأمة تحريمها في الجملة وإنما يضل من يفتي بالرأي ويضل ويحل الحرام ويحرم الحلال ويهدم الإسلام إذا احتال على حلها بحيل وسماها نكاحا وبيعا وخلعا وقاس ذلك على النكاح المقصود والبيع المقصود والخلع المقصود فيبقى مع من يستفتيه صورة الإسلام وأسماء آياته دون معانيه وحقائقه وهذا هو الضال لأن الضال الذي يحسب أنه على حق وهو على باطل كالنصارى وهو هدم للإسلام

ومما يبين ذلك أن من أكثر أهل الأمصار قياسا وفقها أهل الكوفة حتى كان يقال فقه كوفي وعبادة بصرية وكان عظم علمهم مأخوذا عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وكان أصحاب عبد الله وأصحاب عمر وأصحاب علي من العلم والفقه بمكان الذي لا يخفى ثم قد كان أفقههم في زمانه إبراهيم النخعي كان فيهم بمنزلة سعيد بن المسيب في أهل المدينة وكان يقول: إني لأسمع الحديث الواحد فأقيس به مائة حديث ولم يكن يخرج عن قول عبد الله وأصحابه وكان الشعبي أعلم بالآثار منه وأهل المدينة أعلم بالسنة منهم

وقد يوجد لقدماء الكوفيين أقاويل متعددة فيها مخالفة لسنة لم تبلغهم ولم يكونوا مع ذلك مطعونا فيهم ولا كانوا مذمومين بل لهم من الإسلام مكان لا يخفى على من علم سيرة السلف وذلك لأن مثل هذا قد وجد لأصحاب رسول الله لأن الإحاطة بالسنة كالمتعذر على الواحد أو النفر من العلماء ومن خالف ما لم يبلغه فهو معذور ولم يكونوا مع هذا يقولون بالحيل ولا يفتون بها بل المشهور عنهم ردها والإنكار لها واعتبر ذلك بمسألة التحليل فإن السنة المشهورة في لعن المحلل والمحلل له وإن كانت قد خرجت من الحرمين ومصر والعراق فإن أشهر حديث فيها مخرجه من أهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود وأصحابه وفقيه القوم إبراهيم قد قدمنا عنه أنه كان يقول: إذا نوى أحد الثلاثة التحليل فهو نكاح فاسد الأول والثاني وهذا القول أشد من قول المدنيين فمن يكون هذا قوله هل يمكن أن يعتقد صحة الحيل وجوازها وكذلك أقواهم في الحيل الربوبية تدل على قوة رد القوم للحيل فإن حديث عائشة في مسألة العينة مخرجه من عندهم وقولهم فيها معروف وقال إبراهيم في الرجل يقرض الرجل دراهم فيرد عليه أجود من دراهمه: لابأس بذلك ما لم يكن شرط أو نية وكان الأسود بن يزيد إذا خرج عطاؤه دفعه إلى رجل فقال: اذهب فبعه بدنانير ثم بع الدنانير من رجل آخر ولا تبعها من الذي اشتريت منه وقال حماد بن أبي سليم إذا بعت الدنانير بالدراهم غير مخادعة ولا مدالسة فإن شئت اشتريتها منه

فهؤلاء سرج أهل الكوفة وأئمتهم وهذه أقوالهم ولقد تتبعنا هذا الباب فلم نظفر لأحد من أهل الكوفة المتقدمين بل ولا لأحد من أئمة سائر أهك الأمصار من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة من الصحابة والتابعين في مسائل الحيل إلا النهي عنها والتغليظ فيها فلما حدث من بعض مفتيهم القول بالحيل والدلالة عليها انطلقت الألسنة بالذم لمن أحدث ذلك وظهر تأويل الآثار في هذا الضرب

ومما يدل على هذا: ما ذكره الإمام إسحق بن راهويه ذكر حديث عبد الله بن مسعود: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويجري الناس عليها فيتخذونها سنة قال إسحق قال ابن مهدي ونظراؤه من أهل العلم إن هذه الفتنة لفتنة يعني أهل هذا الرأي لا شك في ذلك لأنه لم يكن فيما مضى فتنة جرى الناس عليها فاتخذوها سنة حتى ربا الصغير وهرم الكبير إلا فتنة هؤلاء وهي علامتهم إذا كثر القراء وقل العلماء وتفقه لغير الدين وقوله: أحلوا الحرام وحرموا الحلال مطابق للواقع فإن الاحتيال على إسقاط الحقوق مثل حق الشفيع وحق الرجل في امرأته وغير ذلك إذا أحتيل عليها حرمت على الرجل ما أحل الله له وكثير من الرأي ضيق ما وسعته السنة فاحتاج صاحبه إلى أن يحتال للتوسعة مثل انتفاع المرتهن بالظهر والدار إذا أنفق بقدر ما انتفع ومثل باب المساقاة والمزارعة فإن من اعتقد تحريم هذا خالف السنة الثابتة وما كان عليه الخلفاء الراشدون وغيرهم وما عليه عمل المسلمين من عهد نبيهم إلى يومهم اضطره الحال إلى نوع من الحيل يستحل بها ذلك ثم إنه لو لم يكن بها سنة لكان إلحاقها بالمضاربة لأنها بها أشبه وأولى من إلحاقها بالإجارة لأنها منها أبعد

ومما يبين ذلك: أن الرأي كان واقعا عندهم على ما يتضمن الحيل أن بشر بن السري وهو من العلماء الثقاة المتقدمين أدرك العصر الذي اشتهر فيه الرأي وهو ممن أخذ عنه الإمام أحمد وطبقته قال: نظرت في العلم فإذا هو الحديث والرأي فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين وذكر الموت وذكر ربوبية الرب وجلاله وعظمته وذكر الجنة والنار والحلال والحرام والحث على صلة الأرحام وجماع الخير ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والخديعة والتشاح واستقصاء الحق والمماكسة في الدين واستعمال الحيل والبعث على قطع الأرحام والتجرؤ على الحرام

وروي مثل هذا الكلام عن يونس بن أسلم وقال أبو داود سمعت أحمد وذكر الحيل من أصحاب الرأي فقالوا: يحتالون لنقض سنة رسول الله مثل هذا كثير في كلام أهل ذلك العصر فعلم أن إلرأي المذموم يندرج فيه الحيل وهو المطلوب



ابن تيمية: إقامة الدليل على إبطال التحليل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29