إقامة الدليل على إبطال التحليل/24



الوجه الرابع والعشرون

إن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها

والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء لكن صارت في عرف الفقهاء عباره عما أفضت إلى فعل محرم ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة ولهذا قيل الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا كإفضاء شرب الخمر إلى السكر وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منها فتحرم فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة وإلا سميت سببا ومقتضيا ونحو ذلك من الأسماء المشهورة ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي لكن الطبع متقاض لإقضائها وأما إن كانت إنما تفضي أحيانا فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل وإلا حرمها أيضا ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع

فصارت الأقسام ثلاثة:

الأول: ما هو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ وكقرض بني آدم

الثاتي: ما هو ذريعة لا يحتال بها كسبط الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن

الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة

والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع

وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل لم أقصد به ذلك ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفي من نفسه على نفسه

وللشريعة أسرار في سد الفساد وجسم مادة الشر لعلم الشارع بما جلبت عليه النفوس وبما يخفي على الناس من خفى هداها الذي لايزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه وهو ان نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أوقلة فقه في الدين وعدم بصيرة

أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر فنذكر منها ما حضر:

فالأول: قوله سيحانه وتعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } حرم سب الآلهة مع أنه عبادة لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم

الثاني: ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: [ من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: با رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] متفق عليه - ولفظ البخاري: [ أن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا يا رسول الته كيف بلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ] فقد جعل النبي الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن له يقصده وبين هذا والذي قبله فرق لأن سب أبا الناس هنا حرام لكن قد جعله النبي من أكبر الكبائر لكونه شتما لوالديه لما فيه من العقوق وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره

الثالث: إن النبي كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمدا يقتل أصحابه لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام

الرابع: إن الله سبحانه حرم الخمر لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل وهذا في الأصل ليس من هذا الباب ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم إقتناءها للتخليل وجعلها نجسة لئلا تقضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها ثم أنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها حسما لمادة ذلك وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف - وبين أنه إنما نهى بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة فقال: [ لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه ] يعني أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا

الخامس: أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير

السادس: إنه نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى من تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها ونهى عن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة

السابع: إنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس ففي ذلك تشبيه بهم ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطي بعض أحكامه فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها

الثامن: إنه نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مثل قوله [ إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم - إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم ] وقوله في عاشوراء: [ لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ] وقال في موضع: [ لا تشبهوا بالأعاجم ] وقال فيما رواه الترمذي: [ ليس منا من تشبه بغيرنا ] حتى قال حذيفة ابن اليماني من تشبه بقوم فهو منهم وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدى الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب وذلك يجر إلى فساد عريض

التاسع: إنه نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها وقال: [ إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ] حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم وإن زعم أن به قوة على العدل بينهن مع الكثرة وكذلك عند من زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن وقد بين العين الأولى بقوله تعالى: { ذلك أدنى أن لا تعولوا } وهذا نص في اعتبار الذريعة

العاشر: إن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في أنقضائها ليس هو إلى المرأة فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك

الحادي عشر: إن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين

الثاني عشر: إن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به مثل اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما ومثل اشتراط الولي فيه وضع المرأة أن تليه وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة وكان أصل ذلك في قوله تعالى: { محصنين غير مسافحين } و{ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الإستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الإستمتاع فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى: { نسبا وصهرا } وهذه المقاصد تمنع إشتباهه بالسفاح وتبين أن نكاح المحل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غيرمتيقنة فيه

الثالث عشر: إن النبي نهى أن بجمع الرجل ببن سلف وبيع وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح وإنما ذاك لأن إقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين وهذا هو معنى الربا

ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مدعجوة قال إن من جوزها يجوز أن ببيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا وهذه علة صحيحة في مسألة مدعجوة لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويببعه المنديل بخمسمائة وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله والعلة المتتدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له

الرابع عشر: إذ الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطأ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة

الخامس عشر: إنه تقدم عن النبي وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض إلى أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية

السادس عشر: إن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من الميراث شيء إما القاتل عمدا كما قال مالك والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما أو القاتل قتل مضمونا يقود أو دية أو كفارة أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر

السابع عشر: إن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين

الثامن عشر: إن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك لئلا بكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء

التاسع عشر: أن النبي نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب لئلا ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار

العشرون: إن النبي نهى عن تقدم رمضان يصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه ونهى عن صوم يوم الشك إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو وأما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم تمييزا لوقت العبادة من غيره لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة وكذلك ندب إلا تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها فكرة للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم استقبال القبلة وندب المأموم إلا هذا التمييز ومن جملة فوائد ذلك سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض

الحادي والعشرون: إنه كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه

الثاني والعشرون: إنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي راعنا مع قصدهم الصالح لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه ولئلا يشتبه بهم ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا

الثالث والعشرون: إنه أوجب الشفعة لما فيه من رفع الشركة وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان

الرابع والعشرون: إن الله سبحانه أمر رسوله أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه الباطن وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق وأن لا يقبل شهادة ظنين في قرابة وإن وثق بتقواه حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء لينضبط طريق الحكم فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فية من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة وإن أفضت في أحاد الصور إلى الحكم لغير الحق فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير

الخامس والعشرون: إن الله سبحانه منع رسول الله لما كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشكرون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به

السادس والعشرون: إن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر وإن كانت العقوبات من جنس الشر ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك فإنه اكتفى فيه بالتعزيز ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة وإن تاب العاصي عند ذلك وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له

السابع والعشرون: إنه سن الإجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الإعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال وزجر عن ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا

الثامن والعشرون: إن السنة مضت بكراهة إفراد وجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع

التاسع والعشرون: إن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا أفضى مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم

الثلاثون: أن النبي أمر الذي أرسل معه بهدية إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ويخلي بينه وبين الناس ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته قالوا وسبب ذلك أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها لحصول غرضه بعطبها دون المحل كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء فإذا آيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل وأحسم لمادة هذا الفساد وهذا من ألطف سد الذرائع

والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثوز عن الصدر الأول شائع عنهم إذا الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها ولم يذكر الحيل التي قصد بها الحرام كاحتيال اليهود ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع هذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا

ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخرى غير ما ذكرناه من الذرائع وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به المحرم أو بأن لا يقصد به يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله وأولى بأن لايعان صاحبه عليه وهذا بين لمن تأمله والله الهادي إلى سواء الصراط

واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق والمحتال يريد أن يتوسل إليه ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطا سد ببعضها التذرع إلى الزنا والربا وكمل بها مقصود العقود لم يمكن المحتال الخروج عنها في الظاهر فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه آتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع ذريعته فلا يبقى لتلك الشروط التي تأتي بها فائدة ولا حقيقة بل يبقى بمنزلة العبث واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة

ولهذا تجد الصحيح الفطرة لا يحافظ على تلك الشروط لرؤيته أن مقصود الشروط تحقيق حكم ما شرطت له والمنع من شيء آخر وهو إنما قصده ذاك لا الآخر ولا ما شرطت له ولهذا تجد المحتالين على الربا وعلى حل المطلقة وعلى حل اليمين لا يتمسكون بشروط البيع والنكاح والخلع لعدم فائدة نتعلق لهم بذلك ولتعلق رغبتهم بما منعوا منه من الربا وعود المرأة إلى زوجها وإسقاط الثمن المعقود واعتبر هذا بالشفعة فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه وهو لايخرج الملك عن مالكه بقيمة أو بغير قيمة إلا لمصلحة راجحة وكانت المصلحة هنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرار الشركة والقسمة وليس في هذا التكميل ضرر على الشريك البائع لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري والشريك أو الأجنبي والذي يحتال لإسقاطها بأن يكون البائع غرضه بيعه للأجنبي دون الشريك إما ضرارا للشريك أو نفعا للأجنبي ليس هو مناقضا لمقصود الشارع مضادا له في حكمه فالشارع يقول لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك وهذا يقول لا تلتفت إلى الشريك واعطه لمن شئت ثم إذا كان الثمن مثلا ألف درهم فعاقده على ألفين وقبض منه تسعمائة وصارفه عن الألف ومائه بعشرة دنانير فتعذر على الشريك الأخذ أليس عين مقصود الشارع فوته مع إظهاره أنه إنما فعل ما أذن الشارع فيه وهذا بين لمن تأمله

واعلم أن المقصود هنا بيان تحريم الحيل وأن صاحبها متعرض لسخط الله سبحانه وأليم عقابه ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان وذلك في كل حيلة بحسبها فلا يحلو الاحتيال أن يكون من واحد أو من أثنين فأكثر

فإن كان الاحتيال من اثنين فأكثر فإن كانا عقدا بيعين تواطأ عليهما تحيلا إلى الربا كما في العينة حكم بفساد ذينك العقدين ويرد إلى الأول رأس ماله كما ذكرت عائشة لأم زيد بن أرقم وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا لا يحل الانتفاع به بل يجب رده إن كان باقيا وبدله إن كان فائتا وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض أو إجارة وقرض أو مضاربة أو شركة أو مساقاة أو مزارعة مع قرض حكم بفسادهما فيجب أن يرد عليه بدل ماله فيما جعلاه قرضا والعقد الآخر فاسدا له حكم الأنكحة الفاسدة وكذلك إن كان نكاحا تواطأ عليه كان نكاحا فاسدا له حكم الأنكحة الفاسدة وكذلك إذا تواطأ على بيع أو هبة لإسقاط الزكاة أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد أو وقف فساد مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتواطىء رجلا على أن تهبه العبد فيزوجها به ثم يهبها إياه لينفسخ النكاح فإن هذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام فإن كان الاحتيال من واحد فإن كانت حيلة يستقل بها لم يحصل غرضه فإن كانت عقدا كان عقدا فاسدا مثل أن يهب لإبنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا تجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة في شيء من الأحكام لكن إن ظهر المقصود ترتب علبه الحكم ظاهرا وباطنا وإلا بقيت فاسدة في الباظن فقط وإن كانت حيلة لا يستقل بها مثل أن ينوي التحليل ولايظهر للزوجة أو يرتجع المرأة ضرارا بها أو يهب ماله ضرارا لورثته ونحو ذلك كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت وإذا علم الموهوب له أو الموصى له غرضه لم يحصل له الملك في الباطن فلا يحل الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه لولا العقد المحتال به وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة

ولهذا نظائر في الشريعة كثيرة وإن كانت الحيلة له وعليه كطلاق المريض صحح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصحح من حيث أنه بمنع الإرث فإنه إنما منع من قطع الإرث لا من ! زالة ملك البضع

وأما إذا كانت الحيلة فعلا يفضي إلى غرض له مثل أن يسافر في الصيف ليتأخر عنه للصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هدا السفر فإن كان يفضي إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه لينفسخ نكاحه أو مثل أن يباشر المرأة ابن زوجها أو أبوه عند من يرى ذلك محرما فهده الحيلة بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق لله يترتب عليها فسخ النكاح ضمنا

والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد وصار هذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة ذهنه أو خله أو دبسه لأن يلقي فيه نجاسة فإن نجاسة المائعات بالمخالطة وتحريم المصاهرة بالمباشرة أحكام تنبت بأمور حسية لا ترفع الأحكام مع وجوب تلك الأسباب

وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى التحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلا ليتزوج امرأته أو ليزوجها صديقا له فهنا تحل المرأة بغير من قصد تزوجها به فإنها بالئسبة إليه كما لو قتل الزوج لمعنى فيه وأما الذي قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأتها أوغير مواطأتها فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لوخلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يلقي فيها شيئا فإن التخليل لما حصل بفعل محرم اختلف فيه والصحيح أنها لا تظهر وإن كانت لو تخللت بفعل الله حلت وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت فإذا قتله لهدا القصد أمكن أن تحرم عليه مع حلها لغيره ويشبه هذا الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحلل للحلال

ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنعه الإرث ولم يمنع غيره من الورثة لكن لما كان مال الرجل تتطلع عليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال بخلاف الزوجة فإن ذلك لايكاد يقصد إذ التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الوارث إلى مال الموروث قليل فكونه يقتله ليتزوجها أقل فلذلك لم يشرع أن كل من قتل رجلا حرمت عليه امرأته كما يمنع ميراثه فإذا قصد التزوج فقد وجدت حقيقة لحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده

فأكثر ما يقال في رد هذا أن الأفعال المحرمة لحق الله سبحانه وتعالى لا تفيد الحل كذبح الصيد وتحليل الخمر والتذكية في غير المحلل أما المحرم لحق آدمي كذبح المغصوب فإنه يفيد الحل أو يقال أن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل فحصل الحل ضمنا وتبعا

ويمكن أن يقال في جواب هذا أن قتل الآدمي حرام لحق الله سبحانه وحق الآدمي ألا ترى أنه لا يستباح بالإباحة بخلاف ذبح المغصوب فإنه إنما حرم لمحض حق الآدمي فإنه لو أباحه حل وفي الحقيقة فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إرهاق الروح

ثم يقال قد اختلف في الذبح بآلة مغصوبة وقد ذكر فيه عن الإمام أحمد روايتان وكذلك اختلف العلماء في ذبح المغصوب وإن كان المعروف عندنا أنه ذكي كما قد نص عليه الإمام أحمد وفيه حديث رافع بن خديج المشهور في ذبح الغنم المنهوبة والحديث الآخر أن المرأة التي أضافت النبي لما ذبحت له الشاة التي أخذتها بدون إذن أهلها فقصت عليه القصة فقال أطعموها للأسارى وهذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع منه المذبوح له دون غيره كما أن الصيد إذا ذبحه الحلال لحرام حرم على الحرام دون الحلال وقد نقل صالح عن أبيه قال لو أن رجلا سرق شاة فذبحها قال لا يحل أكلها يعني له قلت لأبي فإن ردها على صاحبها قال تؤكل فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقا لأنه لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن في الأكل لم يخص الذابح بالتحريم

فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى

فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال وأفعال

والأقوال يشترط لثبوت أحكامها العقل ويعتبر فيها القصد وتكون صحيحة تارة وهو ما ترتب أثره عليه فأفاد حكمه وفاسدة أخرى وهو ما لم يكن كذلك ثم ما ثبت حكمه منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه كالبيع والنكاح ومنه ما لا يمكن رفعه بعد وقوعه كالعتق والطلاق فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله إما من جميع الوجوه وإما من الوجه الذي يبطل مقصود المحتال بحيث لا يترتب علبه حكمه للمحتال عليه كما حكم به أصحاب رسول الله في طلاق العار وكما يحكم به في الإقرار الذي يتضمن حقا للمقر وعليه وكما يحكم به فيمن اشترى عبدا يعترف بأنه حر

وأما الأفعال فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم يحصل كالسفر للقصر والفطر وإن اقتضت تحريما على الغير فإنه قد يقع ويكون بمنزلة إتلاف النفس والمال وإن أقتضت حلا عاما إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال وذبح المغصوب للغاصب

وبالجملة إذا قصد بالفعل إستباحة محرم لم يحل له وإن قصد إزالة ملك الغير لتحل فالأقيس أن لا يحل له أيضا وإن حل لغيره

وهنا مسائل كثيرة لا يمكن ذكرها هنا

وقد دخل في القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة فهي لا تمشي غالبا إلا عند من يقول أن الفرقة تتنجز بنفس الردة أو يقول بأنها لا تقتل فالواجب في مثل هذه الحيلة أن لا ينفسخ بها النكاح وأذا ثبت عند القاضي أنها إنما ارتدت لذلك لم يفرق بينهما وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل غير مرتدة من جهة فساد النكاح حتى لو فرض أنها توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق الميراث لكن لا يجوز له وطؤها في حال الردة فإن الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو مكنت من وطئها أو أحرمت لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم أقرت أنها إنما ارتدت لفسخ النكاح لم يقبل هذا لا سيما إذا كان قد يجعل هذا ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة بأن تلقن إني إنما ارتددت للفسخ ولأنها متهمة في ذلك ولأن الأصل أنها مرتدة في جميع الأحكام نبهنا على هذا القدر من أبطال الحيل والكلام في التفاصيل ليس هدا موضعه وربما جاء شيء منه على خلاف قياس التصرفات المباحة كما قيل لشريح أنك قد أحدثت في القضاء قال: أحدثوا فأحدثنا وهذا القدر أنموذج منه يستدل به على غيره

والكلام في إبطال الحيل باب واسع يحتمل كتابا كبيرا يبين فيه أنواعها وأدلة كل نوع ويستوفي ما في ذلك من الأدلة والأحكام ولم يكن قصدنا الأول هنا إلا التنبيه على إبطالها بإشارة تمهد القاعدة لمسألة التحليل وقد استدل عليه البخاري وغيره بقوله : [ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ] فإن هذا النهي يعم ما قبل الحلول وبعده وبقوله في الطاعون: [ وإذا وقع يأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ] فإذا كان قد نهى عن الفرار من قدر الله سبحانه إذا نزل بالعبد رضاء بقضاء الله سبحانه وتسليما لحكمه فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد؟ وبأنه نهى عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ

فعلم أن الشيء الذي هو نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرما وقد تقدم أن من جملة ما استدل به أحمد على إبطال الحيل لعنه المحلل والمحلل له وهو من أقوى الأدلة على بطلان الحيل عموما كما أن إبطال الحيل يدل عليه لكن لم نذكره ها هنا في أدلة الحيل لأن القصد أن يستدل ببطلان الحيل على بطلان التحليل بغير أدلة التحليل الخاصة فلو استدللنا هنا على بطلان الحيل بما دل على بطلان التحليل ثم استدللنا ببطلان الحيل على بطلان التحليل لكان تطويلا وتكريرا وحشوا - والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم

فإن قيل: فهذا الذي ذكرتموه من الأدلة على بطلان الحيل معارض بما يدل على جوازها وهو قوله سبحانه: { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد } فقد أذن الله سبحانه لنبيه أيوب عليه السلام أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضغت وقد كان في ظاهر الأمر عليه أن يضرب ضربات متفرقة وهذا نوع من الحيلة فنحن نقيس سائر الباب على هذا

قلنا:

أولا: ليس هذا مما نحن فيه فإن الفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا عند الإطلاق على قولين:

أحدهما: قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا ثم منهم من يشترط مع الجميع الوصول إلى المضروب فعلى هذا ئكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق وليس هذا بحيلة إنما الحيلة أن يصرف اللفظ عن موجبه عند الإطلاق

والثاني: إن موجبه الضرب المفرق فإذا كان هذا موجب شرعنا لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا بخلافه

وقلنا ثانيا: من تأمل الآية علم أن هذه الفتيا خاصة الحكم فإنها لو كانت عامة في حق كل أحد لم يخفف على نبي كريم موجب يمينه ولم يكن في إقتصاصها علينا كبير عبرة فإنما يقص ما خرج عن نظائره ليعتبر به أما ما كان مقتضي العبارة والقياس فلا يقص ولأته قد قال عقيب هذه الفتيا ( إنا وجدناه صابرا ) وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل كما في نظائره فعلم أن الله إنما أفتاه بهذا جزاء له على صبره تخفيفا عنه ورحمة به لأن هذا هو موجب هذه اليمين

وقلنا ثالثا: معلوم أن الله سبحانه إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث كما أخبر الله سبحانه وكما قد نقل أهل التفسير أنه كان قد حلف لئن شفاه الله سبحانه ليضربنها مائة سوط لما تمثل لها الشيطان وأمرها بنوع من الشرك لم تفطن له لتأمر به أيوب

وهذا يدل على أن كفارة الأيمان لم تكن مشروعة في تلك الشريعة بل ليس في اليمين إلا البر أو الحنث كما هو في النذر نذر التبرر في شريعتنا وكما قالت عائشة رضي الله عنها كان أبو بكر لا يحنث في يمينه حتى أنزل الله كفارة اليمين فعلم أنها لم تكن مشروعة في أول الإسلام وإذا كان كذلك فصار كأنه قد نذر ضربها وهو نذر لا يجب الوفاء به لما فيه من الضرر عليها ولا يغبن عنه كفارة يمين لأن تكفير النذر فرع تكفير اليمين فإذا لم يكن هذا مشروعا فذاك أولى والواجب بالنذر يحتذي به حذو الواجب بالشرع فإذا كان الضرر الواجب بالشرع في الحد يجب تفريقه إذا كان المضروب صحيحا ويضرب بعثكول النخل ونحوه إذا كان مريضا مأيوسا منه عند الجماعة أومريضا على الإطلاق عند بعضهم كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله جاز أن يقام الواجب بالنذز مقام ذلك

وقد كانت امرأة أيوب امرأة ضعيفة وكريمة على ربها فخفف عنها الواجب بالنذر بجمع الضربات كما يخفف عن المريض ونحوه

ألا ترى أن السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يجزيه الثلث أقام في النذر الثلث مقام الجميع كما أقيم مقامه في الوصية وغيرها لما في إخراج الجمبع من الضرر وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشية أن تركب وتهدي إقامة لترك بعض الواجب بالنذر مقام ترك بعض الواجب بالشرع من المناسك وأفتى ابن عباس وغيره فيمن نذر ذبح ابنه بشاة إقامة لذبح الشاة مقام ذبح الابن كما شرع ذلك للخليل عليه السلام وأفتى أيضا فيمن نذر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعين إقامة لأحد الأسبوعين مقام طواف اليدين وهذا كثير فكانت قصة أيوب - والله أعلم - من هذا الباب

وغير مستكثر في واجبات الشريعة أن يخفف الله الشيء عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الإبدال وغيرها لكن مثل هذا لا يحتاج إليه في شريعتنا لأن رجلا لو حلف أن يضرب أمرأته أمكنه أن يكفر يمينه من غير احتياج إلى تخفيف الضرب ولو نذر ذلك فأقصى ما عليه كفارة يمين عند الإمام أحمد وغبره ممن يقول بكفارة اليمين في نذر المعصية والمباح أو يقال لا شيء عليه بالكلية وهذا معنى حسن لمن تأمله ومما يوضح ذلك أن المطلق من كلام الآدميين محمول على ما فسر به المطلق من كلام الشارع خصوصا في الإيمان فإن الرجوع فيها إلى عرف الخطاب شرعا أو عادة أولى من الرجوع فيها إلى موجب اللفظ في أصل اللغة ثم إن الله سبحانه لما قال: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } فهم المسلمون من ذلك إن الزاني والقاذف إذا كان صحيحا لم يجز ضربه إلا مفرقا وإن كان مريضا مأيوسا من برئه ضرب بعثكول التخل ونحوه وإن كان مرجو البرء فهل يؤخر إقامة الحد عليه أو يقام على الخلاف المشهور

فكيف يقال أن الحالف ليضربن يكون موجب يمينه الضرب المجموع مع صحة المضروب وجلده؟ هذا خلاف الفاعدة فعلم أن قصة أيوب كان فيها معنى يوجب جواز الجمع وإن كان ذلك ليس موجب الإطلاق وهو المقصود وإنما ذكرنا هذا المختصر لأن عمدة المحتالين ما تأولوا عليه هذه الآية ولا يخفى فساد تأويلهم لمن تأمل

فإن قيل: فقد روى أبو سعيد الخدري قال جاء بلال إلى النبي بتمر برني فقال له النبي : [ من أين هذا؟ فقال بلال: كان عندنا تمر ردي فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي فقال له النبي - عند ذلك - أوه عين الربا لاتفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بيع آخر ثم اشتر به ] متفق عليه وفي رواية البخاري عن أبي سعيد وأبي هريرة: [ إن رسول الله استعمل رجلا على خيبر فأتاه بتمر جنيب فقال له أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا ] وقال في الميزان مثل ذلك وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد: [ بعه بسلعة ثم إبتع بسلعتك أي التمر شئت ] فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم ثم يبتاع بالدراهم تمرا أقل منه ولكنه أطيب وإن كان بيع التمر بالتمر متفاضلا لا يجوز وهذا ضرب من الحيلة

قلنا: ليس هذا من الحيلة المحرمة في شيء وقد استوفينا الكلام على الفرق بين هذا وبين الحيل في الوجه الخامس عشر الذي فيه أفسام الحيل وببان أن قوله [ بع بالدراهم ثم إبتع بالدراهم جنيبا ] لم يأمره أن يبتاع بها من المشترى منه وإنما أمره ببيع مطلق وشراء مطلق والبيع المطلق هو البيع البتات الذي ليس فيه مشارطة ومواطأة عل عود السلعة إلى البائع ولا على إعادة الثمن إلى المشتري بعقد آخر وهذا بيع مقصود وشراء مقصود ولو باع من الرجل بيعا بتاتا ليس فيه مواطأة لفظية ولا عرفية على الشراء منه ولا قصد لذلك ثم إبتاع منه لجاز ذلك بخلاف ما إذا كان القصد أن يشتري منه ابتداء وقد عرف ذلك بلفظ أو عرف فهناك لا يكون الأول بيعا ولا الثاني شراء منه لأنه ليس ببتات فلا يدخل في الحديث وإذا كان قصده الشراء منه من غير مواطأة ففيه خلاف تقدم ذكره

وذكرنا أنهما إذا اتفقا على أن يشتري منه ثم يبيعه فهذا بيعتان في بيعة وقد صح عن النبي النهي عنه وذكرنا أن النبي إنما أمره ببيع مطلق وذلك إنما يفيد البيع الشرعي فحيث وقع فيه ما يفسده لم يدخل في هذا

وبينا أن العقود متى قصد بها ما شرعت له لم تكن حيلة قال الميموني قلت لأبي عبد الله من حلف على يمين ثم احتال لإبطالها هل تجوز تلك الحيلة؟ قال نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز قلت أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا وإذا وجدنا لهم قولا في شيء اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو قلت وليس هذا منا نحن بحيلة؟ قال نعم فبين أحمد أن اتباع الطريق الجائزة المشروعة ليس هو من الحيلة المنهى عنها ولا يسمى حيلة على الإطلاق وإن سمي في اللغة حيلة

وقد تقدم ذكر أقسام الحيل وأحكامها في الوجه الخامس عشر وذكرنا أن كل تصرف يقصد به العاقد مقصوده الشرعي فهو جائز وله أن يتوسل به إلى أمر آخر مباح بخلاف من قصد ما ينافي المقصود الشرعي والله سبحانه أعلم

فإن قيل: الاحتيال أمر باطن في القلب ونحن قد أمرنا أن نقبل من الناس علانيتهم ولم نؤمر أن ننقب عن قلوبهم ولا نشق بطونهم فمتى رأينا عقد بيع أو نكاح أو خلع أوهبة حكمنا بصحته بناء على الظاهر والله يتولى سرائرهم

قلنا: الجواب من وجهين:

أحدهما: إن الخلق أمروا أن يقبل بعضهم من بعض ما يظهره دون الالتفاف إلى باطن لا سبيل إلى معرفته وأما معاملة العبد ربه فإن مبناها على المقاصد والنيات والسرائر وانما الأعمال بالنيات فمن أظهر قولا سديدا ولم يكن قد قصد له حقيقته كان آثما عاصيا لربه وإن قبل الناس منه الظاهر كالمنافق الذي يقبل المسلمون منه علانيته وهو عند الله في الدرك الإسفل من النار فكذلك هؤلاء المخادعون بعقود ظاهرها حسن وباطنها قبيح هم منافقون بذلك فهم آثمون عاصون فيما بينهم وبين الله وإن كانت الأحكام الدنيوية إنما تجري على الظاهر ونحن قصدنا أن نبين أن الحيلة محرمة عند الله وفيما بين العبد وبين ربه وإن كان الئاس لا يعلمون أن صاحبها فعل محرما وهذا بين

الثاتي: إنا إنما نقبل من الرجل ظاهره وعلانيته إذا لم يظهر لنا أن باطنه مخالف لظاهره فأما إذا أظهر ذلك رتبنا الحكم على ذلك فكنا حاكمين أيضا بالظاهر الدال على الباطن لا بمجرد باطن فإنا إذا رأينا تيسا من التيوس معروفا بكثرة التحليل وهو من سقاط الناس دبنا وخلقا ودنيا قد زوج فتاة الحي التي ينتخب لها الأكفاء بصداق أقل من ثلاثة دراهم أو بصداق يبلغ ألوفا مؤلفة لا يصدق مثلها قريبا منه ثم عجل لها بالطلاق أو بالخلع وربما انضم إلى ذلك استعطاف قلبه والإحسان إليه علم قطعا وجود التحليل ومن شك في ذلك فهو مصاب في عقله وكذلك مثل هذا في البيع وغيره وأقل ما يجب على من تبين له ذلك أن لا يعين عليه وأن يعظ فاعله وينهاه عن التحلل ويستفسره عن جلية الحال

فإن قيل: الاحتيال سعي في استحلال الشيء بطريق مباح وهذا جائز فإن البيع احتيال على حل البيع والنكاح احتيال على البضع وهكذا جميع الأسباب فإنها حيل على حل ما كان حراما قبلها وهذا جائز نعم من أحتال عنى تناول الحرام بغير سبب مبيح فهذا هو الحرام بلا ريب ونحن إنما نحتال عليه بسبب مبيح

قيل: قد تقدم الجواب عن هذا مستوفى لما ذكرنا أقسام الحيل في الوجه الخامس عشر وذكرنا أن هذا مثل قياس الذين قالوا إنما البيع متل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا وذلك أن الله سبحانه جعل بعض الأسباب طريقتا إلى ملك الأسبال والإبضاع وغير ذلك كما جعل البيع طريقا إلى ملك المال والنكاح طريقا إلى ملك البضع ومن أراد أن يستبيح الشيء بطريقه الذي شرع له لم يكن محتالا تليس هذا من الحيلة في شيء وإنما الحيلة أن يباشر السبب لا يقصد به ما جعل ذلك السبب له وإنما يقصد به استحلال أمر آخر لم يشرع ذلك السبب له من غير قصد منه للسبب المبيح لذلك الأمر الآخر إما بأن لا يكون إلى حل ذلك المحرم طريق أو لا يكون الطريق مما يمكنه قصده بوجه من الوجوه كمن يريد استحلال معنى الربا بصور القرض والبيع وإعادة المرأة إلى المطلق بالتحلبل وهذا معنى قوله [ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ] فأين من قصد بالعقود استحلال ما جعلت العقود موجبة له إلى من لا يقصد مقصود العقود ولا له رغبة في موجبها ومقتضاها وإنما يريد أن يأتي بصورها ليستحل ما حرمه الله من الأشياء التي لم يأذن الله في قصد استحلالها؟ وقد تقدم إيضاح هذا في ذكر أقسام الحيل



ابن تيمية: إقامة الدليل على إبطال التحليل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29