إقامة الدليل على إبطال التحليل/27



المسلك الثاني

ما روى أبو إسحق الجوزجاني ثنا ابن مريم أنبأنا إبراهيم بن إسمعيل بن أبي حبيبة عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله عن المحلل فقال: [ لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق العسيلة ] ورواه ابن شاهين في غرائب السنن والدلسة من التدليس وهو الكتمان والتغطية للعيوب والمدالسة المخادعة يقال فلان لا يدالسك أي لا يخادعك ولا يخفي عليك الشيء فكأنه يأتيك في الظلام والدلس بالتحريك الظلمة وذلك لا من قصد التحليل فقد دلس مقصوده الذي يبطل العقد وكتم النية الردية بمنزلة المخادع المدالس الذي يكتم الشر ويظهر الخير

وإسناد هذا الحديث جيد إلا إبراهيم بن إسماعيل فإنه قد اختلف فيه فقال يحيى بن معين في رواية الدارمي هو صالح وقال الإمام أحمد في رواية أبي طالب هو ثقة من أهل الذمة وقال محمد بن سعد كان مصليا عابدا صام ستين سنة وقال ابن معين في رواية الدوري ليس بشيء وقال البخاري منكر الحديث وقال النسائي ضعيف وقال أبو أحمد بن عدي هو صالح في باب الرواية ونكتب حديثه على ضعفه وهذا الذي قاله ابن عدي عدل من القول فإن في الرجل ضعفا لا محالة وضعفه إنما هومن جهة الحفظ وعدم الإتقان لا من جهة التهمة وله عدة أحاديث بهذا الإسناد روى منها الترمذي وابن ماجه فمثل هذا يكتب حديثه للاعتبار به وقد جاء حديث مرسل يوافق هذا

قال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا حميد بن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار أنه سئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحللها له فقال: لا ثم ذكر أن النبي سئل عن مثل ذلك فقال: [ لا حتى ينكحها مرتغبا لنفسه حتى يتزوجها مرتغبا لنفسه فإذا فعل ذلك لم تحل له حتى تذوق العسيلة ]

وهذا المرسل حجة لأن الذي أرسله احتج به ولولا ثبوته عنده لما جاز أن يحتج به من غير أن يسنده وإذا كان التابعي قد قال إن هذا الحديث ثبت عندي كفى ذلك لأنه أكثر ما يكون قد سمعه من بعض التابعين عن صحابي أو عن تابعي آخر عن صحابي وفي مثل ذلك يسهل العلم بثقة الراوي وموسى بن أبي الفرات هذا ثقة ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه وروى عن يحيى بن معين أنه قال هو ثقة وذكر عن أبيه أبي حاتم أنه قال هو ثقة وناهيك بمن يوثقه هذان مع صعوبة تزكيتهما ولا أعلم أحد أخرجه وأما ابن أبي شيبة وحميد بن عبد الرحمن الذي روى عنه ويعرف بالراوي من مشاهير العلماء الثقاة وابن أبي شيبة أحد الأئمة فهذا المرسل حجة جيدة في المسألة ثم الحديثان إذا كان فيهما ضعف قليل مثل أن يكون ضعفهما إنما هو من جهة سوء الحفظ ونحو ذلك إذا كانا من طريقين مختلفين عضد أحدهما الآخر فكان في ذلك دليل على أن للحديث أصلا محفوظا عن النبي

يؤيد ذلك هنا: أن عمر أكثر علمه من جهة أصحاب ابن عباس وذلك المسند عن أبن عباس فيوشك أن يكون للحديث أصل عن ابن عباس وأن يكون ابن أبي حبيبة حفظ هذا الحديث عن داود بن الحصين كما رواه عمر مرسلا لا سيما وقول ابن عباس وفتياه توافق هذا وقد روي عن نافع عن ابن عمر أن رجلا قال له امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم قال: لا الإنكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها قال وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله سفاحا لعن الله المحلل والمحلل له ذكره أبو إسحاق التغلبي والإمام أبو محمد المقدسي بمعنى واحد واللفظ فيه اختلاف

وهذا الحديث أيضا نص في المسألة لكن لم أقف على إسناده ثم وقفت على إسناده رواه وكيع بن الجراح عن أبي غسان المدني عن عمر بن نافع عن أبيه أن رجلا سأل ابن عمر عمن طلق أمرأته ثلاثا فتزوجها هذا السائل عن غير مؤامرة منه أتحل لمطلقها قال ابن عمر لا الإنكاح رغبة كنا نعده سفاحا على عهد رسول الله وهذا الإسناد جيد رجاله مشاهير ثقاة وهو نص في أن التحليل المكتوم كانوا يعدونه على عهد رسول الله سفاحا

المسلك الثالث

إن التحليل لو كان جائزا لكان النبي يدل عليه من طلق ثلاثا فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهم لمياسير الأمور وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما وقد جاءته امرأة رفاعة القرظي مرة بعد مرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره وهو يروي من حرصها على العود إلى زوجها ما يرق القلب لحالها ويوجب إعانتها على مراجعة الأول إن كانت ممكنة ومعلوم أن التحليل إذا لم يكن حراما فلا يحصى من يتزوجها فيبيت عندها ليلة لم بفارقها ولو أنه من قد كان يستمتع وقد كان يمكن النبي أن يقول لبعض المسلمين حلل هذه لزوجها فلما لم يأمر هو ولا أحد من خلفائه بشيء من ذلك مع مسيس الحاجة إليه علم أن هذا لا سبيل إليه وأن من أمر به فقد تقدم بين يدي الله ورسوله ولم تسمه السنة حتى تعدها إلى بدعة زينها الشيطان لمن أطاعه وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ومن تأمل هذا المسلك وعلم كثرة وقوع الطلاق على عهد رسول الله وخلفائه وأنهم لم يأذنوا لأحد في تحليل علم قطعا أنه ليس من الدين فإن المقتضى للفعل إذا كان قديما قويا وجب وجوده إلا أن يمنع منه مانع فلما لى يوجد التحليل مع قوة مقتضيه علم أن في الدين ما يمنع منه

المسلك الرابع

إجماع الصحابة فروى قبيصة بن جابر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحق الجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم وهو مشهور محفوظ عن عمر وعن زيد بن عياض بن جعد أنه سمع نافعا يقول أن رجلا سأل ابن عمر عن المحلل فقال له ابن عمر: عرفت ابن الخطاب رضي الله عنه لو رأى شيئا من ذلك لرجم فيه رواه ابن وهب عنه لكن زيدا هذا يضعف جدا وحديثه هذا محفوظ من غير طريقة كما سنذكر إن شاء الله تعالى وعن سليمان بن يسار قال رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وقال لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة رواه الجوزجاني وعن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان فقال إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول فقال له عثمان لا تنكحها إلا نكاح رغبة ة ذكره أبو إسحق الشيرازي في المهذب رواه ابن وهب عن الليث بن سعد عن محمد بن عبد الرحمن المرادي أنه سمع أبا مروان التجيبي يقول: إن رجلا طلق امرأته ثلاثا ندما وكان له جار فأراد أن يحلل بينهما بغير علمهما فسأل عن ذلك عثمان فقال له عثمان الإ نكاح رغبة غير مدالسة وعن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ذكره بعض المالكية وذكر عبد الرزاق عن هيثم عن خالد الحذاء عن مروان الأصفر عن أبي رافع قال سئل عثمان وعلي وزيد بن ثابت عن الأمة هل يحلها سيدها لزوجها إذا كان لا يريد التحليل يعني إذا بت طلاقها فقال عثمان وزيد نعم فقام علي غضبان وكره قولهما وعن علي: لعن الله المحلل والمحلل له وعن أشعث عن ابن عباس قال لعن الله المحلل والمحلل له وعن أبي معشر عن رجل عن ابن عمر قال: لعن الله المحلل والمحلل له والمحللة وعن الزهري عن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل أن ابن عمر سئل عن تحليل المرأة لزوجها قال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم رواه الإمام أبو بكر بن أبي شيبة وعن الثوري عن عبد الله بن شريك قال سمعت ابن عمر رضي الله عنه

وسئل عن المحلل قال لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله سبحانه أنهما أراد أن يحلها له هكذا رواه عنه حسين بن حفص ورواه الجوزجاني عن ابن نمير عنه لكن قال عن سفيان عن رجل سماه عن ابن عمر في المحلل إذا علم الله سبحانه منه أنه محلل لا يزالان زانيين ولو مكثا عشرين سنة ورواه عبد الرزاق عن عبد الله بن شريك قال سمعت عمر يسأل عمن طلق أمرأته ثم ندم فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له فقال له ابن عمر كلاهما زان ولو مكثا عشرين سنة ورواه الشالنجي بإسناده عن عبد الله بن شريك الغاضري قال سمعت ابن عمر سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها فقال لعن الله المحلل والمحل له هما زانيان وقال سعيد في سننه ثنا هشيم ثنا الأعمش عن عمران بن الحرث السلمي قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن عمه طلق امرأته ثلاثا فندم فقال عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا قال: أرأيت إن أنا تزوجتا من غير علم منه أترجع إليه؟ قال: من يخادع الله يخدعه الله رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر كلاهما عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس أن رجلا سأله عمن طلق امرأته كيف ترى في رجل يحلها له فقال ابن عباس: من يخادع الله يخدعه وهذه الآثار مشهورة عن الصحابة وفيها بيان أن المحلل عندهم اسم لمن قصد التحليل سواء يظهر ذلك أو لم يظهره وأن عمر كان ينكل من يفعل ذلك وأنه يفرق بين المحلل والمرأة وإن حصلت له رغبة بعد العقد إذا كان في الابتداء قصد التحليل وأن المطلق طلق ثلاثا وإن تأذى وندم ولقي شدة من الطلاق فإنه لا يحل التحليل له وإن لم يشعر هو بذلك وهذه الآثار مع ما فيها من تغليظ النحليل فهي من أبلغ الدليل على أن تحريم ذلك واستحقاق صاحبه العقوبة كان مشهورا على عهد عمر ومن بعده من الخلفاء الراشدين ولم يخالف فيه من خالف في المتعة مثل ابن عباس بل اتفقوا كلهم على تحريم هذا التحليل وقد ذكرنا في أول الكتاب عن الحسن البصري أنه قال له رجل إن رجلا من قومي طلق امرأته ثلاثا فندم وندمت فأردت أن أنطلق فأتزوجها وأصدقها صداقا ثم أدخل بها كما يدخل الرجل بامرأته ثم أطلقها فقال له الحسن إتق الله يا فتى ولا تكون مسمار نار لحدود الله وروي عن الحسن أنه قال كان المسلمون يقولون هو التيس المستعار وهذا يقتضي شهرة ذلك بين المسلمين زمن الصحابة

فإن قيل: فقد روى ابن سيرين أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فندم وكان بالمدينة رجل من الأعراب عليه رقعتان رقعة يواري بها عورته ورقعة يواري بها سوأته فقال له هل لك تتزوج امرأة فتبيت عندها ليلة وتجعل لك جعلا قال نعم فزوجوها منه فلما دخل فبات عندها قالت لى هل عندك من خير قال هو حيث تحبين جعله الله فداها فقالت لا تطلقني فإن عمر لن يجبرك على طلاقي فلما أصبحوا لم يفتح لهم الباب حتى كادوا يكسرون الباب فلما دخلوا قالوا له طلقها قال الأمر إليها فقالوا لها فقالت إني أكره أن لا يزال يدخل علي الرجل بعد الرجل فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب أخبروه القصة فرفع يده وقال اللهم أنت رزقت ذا الرقعتين إذ بخل عليه عمر فقال له لئن طلقها فأوعده رواه سعيد بن منصور وحرب عنه بهذا اللفظ ولفظه في سنن سعيد أن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا وندم وبلغ ذلك منه ما شاء الله فقيل له أنظر رجلا يحللها لك وكان رجلا من أهل البادية له حسب أقحم إلى المدينة وكان محتاجا ليس له شيء يتوارى به إلا رقعتين رقعة يواري بها فرجه ورقعة يواري بها دبره فأرسلوه إلبه فقالوا له هل لك أن نزوجك أمرأة فتدخل عليها فتكشف عنها خمارها ثم تطلقها ونجعل لك على ذلك جعلا قال نعم فزوجوه فدخل عليها وهو شاب صحيح الحسب فلما دخل على المرأة فأصابها فأعجبها فقالت له أعندك خير قال نعم هو حيث تحبين جعله الله فداها وذكر الحديث ورواه أبو حفص العكبري في كتابه عن ابن سيرين قال قدم رجل مكة ومعه أخوة له صغار وعليه أزار من بين يديه رقعة ومن خلفه رقعة فسأل عمر فلم يعطه شيئا فبينما هو كذلك إذ نزع الشيطان بين رجل من قريش وبين امرأته فطلقها فقال لها هل لك أن تعطين ذا الرقعتين شيئا ويحلك لي قالت نعم إن شئت فأخبروه ذلك قال نعم فتزوجها فدخل بها فلما أصبحت أدخلت إخوته الدار فجاء القرشي يحوم حول الدار ويقول يا ويله غلب علي إمرأتي فأتى عمر فقال يا أمير المؤمنين غلبت علي امرأتي قال من غلبك قال ذو الرقعتين قال أرسلوا إليه فلما جاء الرسول قالت له المرأة كيف موضعك من قومك قال ليس بموضعي بأس قالت إن أمير المؤمنين يقول لك أتطلق أمرأتك فقل والله لا أطلقها فإنه لا يكرهك وألبسته حلة فلما رآه عمر من بعيد قال الحمد لله الذي شرف ذا الرقعتين فدخل عليه فقال له أتطلق أمرأتك قال لا والله لا أطلقها فقال له عمر لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط فهذا عن عمر رضي الله عنه وهو شرط تقدم العقد وقد حكم عمر بصحته وإذا كان كذلك صارت المسألة خلافا في الصحابة وربما حملنا ما روي عن عمر من النهي عن نكاح المحلل على الشرط المقرون بالعقد لتتفق روايتاه ورواه عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن عمر وابن سيرين قال جاءت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها فأمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقيم عليها ولا يطلقها وأوعده أن يعاقبه إن طلقها

قلنا: الجواب عن هذا من ستة أوجه:

أحدها: إنه منقطع ليس له إسناد فروى أبو حفص عن أبي النضر قال سمعت أبا عبد الله يقول في المحلل والمحلل له أنه يفسخ نكاحه في الحال قلت أو ليس يروى عن عمر حديث ذي الرقعتين حيث أمره عمر أن لا يفارقها فال ليس له إسناد وقال أبو عبيد هذا حدبث مرسل لابن سيرين وإن كان مأمونا لم ير عمر ولم يدركه فأين هذا من الذين سمعوه يخطب على المنبر لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما قلت وقد رويناه عن ابن عمر أنه سئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم وأحاديث ابن عمر كلها تبين أن نفس التحليل المكتوم زنا وسفاح وقد أخبر عن أبيه بأنه لو أدرك ذلك لنكل عليه وسائر الآثار عن عثمان وعلي وغيرهما تبين أن التحليل عندهم كل نكاح أراد به أن يحلها وقد ثبت عن عمر أنه خطب هؤلاء فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما فعلم أن عمر أراد التحليل مطلقا وإن كان مكتوما فالمنقطع إذا عارض المسند لم يلتفت إليه

الوجه الثاني: إن هذا إن كان له أصل فلعله لم تكن الإرادة فيه من الزوج الثاني وإنما كانت من الزوج المطلق وقد أجاب أبو عبيد وأبو حفص بهذا الجواب أيضا ثم قال بعض أصحابنا وبعض المالكية لعله وقت العقد لم ينو التحليل وإن كانوا قد شرطوه بل قصد نكاح الرغبة ويشبه والله أعلم أنهم لم يذكروا للزوج سببا من ذلك بل زوجوه بها وتواطأوا فيما بينهم على أن يعطوه شيئا ليطلقها ولم يشعروه بذلك ولكن ظاهر المروي في القصة أنهم شارطوه على الخلع قبل النكاح ولم يشترطوا عليه الطلاق بمال وهذا أمر لا ينفرد به بل هو موقوف على بذل المال له فهو مواطأة على فرقة من الزوج ومن أجنبي وهو بمنزلة المواطأة على الطلاق المجرد كالمواطأة من الزوجة والمطلق ثلاثا على أن يبيعها الزوج أو يهبها إباه إذا كان عبده ومع هذا فيمكن أنهم ذكروا له بعد العقد فإن ابن سيرين لم يشهد القصة وإنما سمعها من غيره ومثل هذه القصة إذا حدث بها قد لا يخبر المخبر بأعيان الألفاظ وترتيبها لا سيما إذا كان المقصود منها غير ذلك بل يذكر على سبيل الإجمال ونحن نعلم أنه لا بد أن يعقد النكاح على صداق يلتزمه الزوج

وبالجملة فهذه حكاية حال لم يشهدها الحاكي فيحتمل أنها وقعت على هذا الوجه وهو الأقرب لأن الرجل لما جاء إلى عمر رضي الله عنه إنما قال غلبت أمراتي ولم يقل غدر ولا مكر بي ولا خدعت ولو كان المتزوج قد واطأه على أن يخلعها أويطلقها لكانت شكايته ذلك إلى عمر رضي الله عنه واحتجاجه به أولى من قوله غلبت على امرألي فإن أقل ما في ذلك أن ذا الرقعتين يكون قد حدثه فكذبه ووعده فأخلفه وما ذكره بعض أصحابنا ضعيف فإن عمر لم يستفصله هل نويت التحليل وقت العقد أم لم تنوه ولو كان مناط الحكم ذلك لوجب الإستفصال وصاحب هذا القول من أصحابنا ومن المالكية يقول إذا وطىء الزوج على التحليل وقصد هو وقت العقد الرغبة ولم يعلمهم بذلك فهو نكاح صحجح لعدم النية والشرط المقارن وذكر أصحابنا أن كل واحد من المواطأة المتقدمة على العقد واعتقاد التحليل مبطل للعقد وهذا هو الذي دل علبه كلام الإمام أحمد وهو قياس قول أصحابنا وقول المالكية فإن الشروط المتقدمة على العقد بمنزلة المقارنة إن كانت صحيحة وحب الوفاء يها وإن كانت باطلة أثرت في العقد في المذهبين جميعا بل هذه الصورة أبلغ في البطلان من الاعتقاد المجرد فلهذا لم يرخص أحد من التابعين في المواطأة قبل العقد وحكي عن بعضهم الرخصة في الاعتقاد المجرد فإن هذا تلبيس مدلس على القوم والنكاح الذي قصده لم يرضوا به ولم يعاقدوه عليه والنكاح الذي رضوا به لم يرضى الله به ورسوله وإنما يصح العقد برضى المتعاقدين التابع لرضى الله ورسوله فإذا تخلف أحدهما فهو باطل

الوجه الثالث: إئه ليس في القصة أنهم واطأوه على أن يحلها للأول ولا أشعروه أنها مطلقة وإنما فيهم أنهم واطأوه على أن يبيت عندها ليلة ثم يطلقها وهذا من جنس نكاح المتعة الذي يكون للزوج فيه رغبة في النكاح إلى وقت ونكاح المتعة قد كانوا يستحلونه صدرا من خلافة عمر حتى أظهر عمر السنة بتحريمه ولعل هذا كان قبل أن يظهر تحريم نكاح المتعة ثم الئكاح المشروط فيه الطلاق في الوقت الذي كان يصح فيه مثل هذا الشرط إنما يجب الوفاء به إذا طلبت المرأة ذلك لأن الشرط حق لها كالصداق مثلا ولهذا لما طلب من الرجل الطلاق رد الأمر إليها فلم تطلبه وإذا كانت المرأة لم تطلبه لم يكن عليه أن يطلق بخلاف النكاح الموقت فإنه ينقضي بمضي الوقت وقولها له فإن عمر لا يجبرك على طلاقي لأن الطلاق حق لها وعمر لا بجبر على توفية حق لم يطلبه صاحبه بل عفا عنه ثم إن عمر رضي الله عنه أظهر بعد هذا تحريم المتعة وتوعد عليه

الوجه الرابع: إن هذه القصة قضية عين وحكاية حال والحاكي لها يشهدها لبستوفي صفتها فيمكن أن تكون المرأة لما رغبت في الرجل وهو قد رغب فيها وهي امرأة ثيب هي أولى بنفسها مرت وليها كان بمنزلة خاطب قد رغبت المرأة فيه فأمره عمر بإمساكها بنكاح جديد وإن كان قد قال له لا تطلقها فإن الفرقة النكاح وإن كان فاسدا يسمى طلاقا وإن كانت فسخا حتى قد قال بعض العلماء إنه طلاق واقع وهذا كما روي عن فيروز الديلمي أنه قال أسلمت وعندي أختان فأمرني النبي أن أطلق إحداهما ومعلوم أن هذا ليس هو الطلاق الذي ينقص به العدد ويقوي ذلك أن الإمساك كان بنكاح جديد لا بذلك النكاح أشياء

أحدها: إن في الحديث أنه لما جاء الرسول من عند عمر قالت له المرأة كيف موضعك من قومك قال ليس بموضعي بأس قالت إن أمير المؤمنين يقول لك أتطلق امرأتك فقل لا والله لا أطلقها فاعتبرت المرأة كفاءته بعلمها بأنه قد يكون للأولياء بها تعلق فلو كان النكاح الأول صحيحا لازما لم يكن للأولياء الاعتراض بعد ذلك وإنما يكون اعتراض لهم إذا أرادت المرأة أن تتزوج من غير كفء ووقع النكاح بلا رضاهم فهذا دليل على أن النكاح لم يكن قد انعقد لازما إلا أن يقال كان مقصودهم أنه إذا كان غير كفء يبطل عمر رضي الله عنه النكاح لأنه هو القائل لأمنعن خروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه فيقال لم يكن الأولياء يمكنهم الطعن في كفاءته لأن عمر رضي الله عنه قد كان ينكر عليهم تزويجها بغير كفء إن كان يرى ذلك وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره لأن النكاح يكون فاسدا فلا يحصل التحليل وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره فعلى التقريرين لا حاجة لهم بذكره إلا إدا كان العقد الأول غير لازم

وثانيها: إن عمر رضي الله عنه قال لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط ولو كان هذا النكاح صحيحا يحلها للأول لم ينهه عمر عن طلاقها إذا أرضوه وهو يرى شغف الأول بها وصفو الأولياء إليه فلما نهاه عن مفازقتها كان كالدليل على أنها لم تحل للأول إذا فارقها وهم يريدون الاستحلال وإنما درأ عمر رضي الله عنه العقوبة مع أنه قال لا أوتى بمحلل إلا رجمته لأنه أعرابي جدير بأنه لا يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله

وثالثها: إنهم لما قالوا له طلقها قال الأمر إليها فدل على أن مقامه مشروط وهذا إنما يكون قبل لزوم النكاح وصحته

ورابعها: إنه قد روى بعض المالكية أن عمر رضي الله عنه بعث المرأة لواسطة بينهما التي تسمى الدلالة ونكل بها وهذا دليل على أنها فعلت ما لا يحل

الوجه الخامس: إن هذا الأثر ليس فيه عودها إلى المطلق بل فيه النهى عن ذلك وليس فيه دوام نية التحليل بل فيه أنه صار نكاح رغبة بعد أن كان تحليلا فإن كان بنكاح مستأنف فلا كلام وإن كان باستدامة النكاح الأول فهذا مما قد يسوغ فيه الخلاف كما في النكاح بدون إذن المرأة أو نكاح العبد بدون إذن سيده أو بيع الفضولي وشرائه فإنه قد اختلف فيه هل هو مردود أو موقوف وبعض الفقهاء يقول ان الشرط الفاسد إذا حذف بعد العقد صح فيمكن أن يكون قول عمر رضي الله عنه مخرجا على هذا فإن الصحابة قد أختلفت فيه ونية التحليل كاشتراطه فيكون هذا الشرط الفاسد إن حذف صح العقد وإلا فسد وإذا حمل الحديث على هذا فهو محل اختلاف في مسألة أخرى ولا يلزم من ذلك الخلاف في مسألة المحلل ولهذا لما أفتى أحمد في نكاح المحلل بأن يفرق بينهما وإن حدث له رغبة بعد ذلك كما دلت عليه السنة وكما فعل عثمان وقاله ابن عمر إعترض عليه بحديث عمر هذا فأجاب بأنه غير مسند فلا يعارض الآثار المسندة وإنما اعترض عليه بذلك بناء على الآثار قد اختلفت في نكاح المحلل هل له أن يمسكها به ولم يقل أحد أنها اختلفت في صحة أصل النكاح ولا في جواز عودها إلا الأول بالتحليل وإذا كانت هذه الحكاية بهذه المثابة من الإسناد والإحتمال لم تعارض ما عرف من كلام عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه ابنه ومن سمعه يخطب على منبر المدينة

ومما يبين أن مثل ذلك قد يقع فيه إلتباس ما رواه سعيد في سننه ثنا جرير عن مغيرة قال قلت لإبراهيم هل كان عمر بن الخطاب حلل بين رجل وأمرأته فقال لا إنما كانت لرجل امرأة ذات حسب ومال فطلقها زوجها تطليقة أو أثنتين فبانت منه ثم إن عمر تزوجها فهنى بها وقالوا لولا أنها أمرأة ليس بها ولد فقال عمر وما بركتهن إلا أولادهن فطلقها قبل أن يتزوجها فتزوجها زوجها الأول قال مغيرة عن أبي معشر كان زوجها الأول الحرث بن أبي ربيعة فهذا مغيرة قد بلغه أما عن أبي معشر أو غيره أن عمر حلل امرأة حتى أخبره إبراهيم أنه إنما كان نكاح رغبة لا أنه تزوجها للتحلل لكن لأنه طلقها عقب الدخول بها أوعقب العقد توهم لم يعلم حقيقة الأمر أنه كان تحليلا فكذلك دون الرقعتين لما بلغهم أنهم طلبوا منه أن يطلق وبذلوا له المال على ذلك فامتنع ظنوا أنه كان محللا فإن وقوع الطلاق أشد إيهاما للتحليل من مسألته فإن كان توهمه مع وقوع الطلاق باطلا كان توهمه مع مسألة الطلاق أولى بذلك

الوجه السادس: إنه لو ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه صحح نكاح المحلل فيجب أن يحمل هذا منه على أنه رجع عن ذلك لأنه ثبت عنه من غير وجه التغليظ في التحليل والنهي عنه وأنه خطب الناس على المنبر فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وكذلك ذكر ابنه أن التحليل سفاح وأن عمر لو رأى أصحابه لنكلهم وبين أن التحليل يكون باعتقاد التحليل وقصده كما يكون بشرطه وقد كانوا في صدر خلافته يستحلون المتعة بناء على ما تقدم من رسول الله فيها من الرخصة يفعل ذلك من يبلغه تحريمها بعد ذلك فلعله في ذلك الوقت كان يقصد من يقصد التحليل ثم بعد هذا بلغ عمر رضي الله عنه النهي عن التحليل فخطب به وأعلن حكمه كما خطب عن المتعة وأعلن حكمها ولا يمكن أن يكون رخص في التحليل بعد النهي لأن النهي إنما يكون عن علم بسنة رسول الله بخلاف ترك الإنكار فإنه يكون عن الإستصحاب وما نهى عنه رسول الله ولعن فاعله فإنه لا يمكن تغيير ذلك بعد موته فثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يختلفوا في ذلك

المسلك الخامس

إن الله سبحانه قال بعد قوله الطلاق مرتان وبعد ذكر الخلع: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ونكاح المحلل والمتعة ليس بنكاح عند الإطلاق وليس المحلل والمتمتع بزوج وذلك لأن النكاح في اللغة الجمع والضم على أتم الوجوه فإن كان إجتماعا بالأبدان فهو الأيلاج الذي ليس بعده غاية في إجتماع البدنين وإن كان إجتماعا بالعقود فهو الجمع بينهما على وجه الدوام واللزوم ولهذا يقولون استنكحه المذي إذا لازمه وداومه يدل على ذلك أن ابن عباس سئل عن المتعة وكان يبيحها أنكاح هي أم سفاح فقال ليست بنكاح ولا سفاح ولكنها متعة وأخبر عمر رضي الله عنه أنها ليست بنكاح لما لم يكن مقصودها الدوام واللزوم

ولهذا لم يكن يثبت فيها أحكام النكاح المختصة بالعقد من الطلاق والعدة والميراث وإنما كان يثبت فيها أحكام الوطء وكذلك قال غير ابن عباس مثل ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين نسخ المتعة والنكاح والطلاق والعدة والميراث فإذا كان المستمتع الذي له قصد في الإستمتاع بها إلى أجل ليس بناكح حيث لم يقصد دوام الإستمتاع ولزومه فالمحلل الذي لم يقصد شيئا من ذلك أولى أن لا يكون ناكحا وقوله بعد هذا نكحت أو تزوجت وهو يقصد أن يطلقها بعد ساعة أو ساعتين وليس له فيها غرض أن تدوم معه ولا تبقى كذب منه وخداع وكذلك قول الولي له زوجتك أو أنكحتك وقد شارطه أنه يطلقها إذا وطئها وهذا هو المعنى الذي ذكره ابن عمر رضي الله عنه حين سئل عن تحلبل المرأة لزوجها فقال ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكل بكم وقال لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله أنهما أرادا أن يحلها له وهو معنى قول عمر لو أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتها

وبين هذا أن الزوج المطلق في الخطاب إنما يعقل منه الرجل الذي يقصد مقامه ودوامه مع المرأة بحيث نرضى مصاهرته وتعتبر كفاءته وتطيق المرأة ووليها أن يملكها وهذا المحلل الذي جيء به للتحليل ليس بزوج وإنما هو تيس أستعير لضرابه والله عز وجل قد علم من المرأة ووليها أنهم لا يرضونه زوجا فإذا أظهروا في العقد قولهم زوجناك وأنكحناك وهم غير راضين بكونه زوجا كان هذا خداعا واستهزاء بآيات الله سبحانه

يؤيد هذا: إن الله سبحانه حرم هذه المطلقة حتى تنكح زوجا غيره والنكاح المفهوم في عرف أهل الخطاب إنما هو نكاح الرغبة لا يعقلون عند الإطلاق إلا هذا ولو أن الرجل قال لابنه إذهب فانكح فصار محللا لعده أهل العرف غير ممتثل لأمر أبيه وإنما يسمى ما دون هذا نكاحا بالتقييد مثل أن يقال نكاح المتعة نكاح المحلل كما يقال بيع الخمر وبيع الخنزير وفرق بين ما يقتضيه مطلق اللفظ وما يقتضيه مع التقييد والله سبحانه قد قال حتى تنكح زوجا غيره ولم يرد به كل ما يسمى نكاحا مع الإطلاق أو التقييد بإجماع الأمة فإن ذلك يدخل فيه نكاح ذوات المحارم فلا بد أن يراد به ما يفهم من لفظ النكاح عند الإطلاق في عرف المسلمين

يقوي هذا: أن التحريم قبل هذا النكاح ثابت بلا ريب ونكاح الرغبة رافع لهذا التحريم بالاتفاق وأما نكاح المحلل فلم نعلمه مرادا من هذا الخطاب ولا هو مفهوم منه عند الإطلاق فيبقى التحريم ثابتا حتى يقول الدليل على أنه نكاح مباح ومعلوم أنه لا يمكن أحد أن يذكر نصا يحل هذا النكاح ولم يثبت دخوله في اسم النكاح المطلق ولا يمكن حله بالقياس فإنه لا يلزم من حل نكاح الرغبة حل نكاح المحلل كما لا يخفى فإن الراغب مريد للنكاح فناسب أن يباح له ذلك وأما المحلل فليس له غرض في النكاح ولا إرادة فلا يلزم أن يباح له ما لا رغبة له فيه إذ الإرادة مظنة الحاجة فلا يلزم من إباحة الشيء للمحتاج إليه أو لمن هو في مظنة الحاجة إليه إباحته لم يعلم من نفسه أنه لا إرادة له ولا قصد في ذلك بل هوراغب عنه زاهد فيه لولا تطليق ذلك المطلق الأول وإعادتها إليه لم يكن له غرض في أن ينكح وحل المرأة للمطلق الأول ليس هو المقصود بالنكاح حتى يقول هذه حاجة للناكح وإنما الحاجة هنا للمطلق وذلك قد حرم عليه هذا ثم إن تلك الحاجة لا تحصل بالنكاح وإنما تحصل برفعه بعد وقوعه فلم يكن له غرض في النكاح ولا فيما هو من توابع زائل وإنما غرضه نكاح زائل والنكاح ليس مما يقصد بعقده الانتفاع بإزالة الملك كعقد البيع وإنما منفعته منوطة بوجوده فإذا لم يقصد به إلا أن يزيله لمنفعة الأول فليس عاقدا لشيء من مقاصد النكاح فلا يصح إلحاقه بمن يعقد النكاح لمقاصده أو بعضها

يوضح ذلك: أن ما هو محظور في الأصل لا يباح منه إلا ما فيه منفعة كذبح الحيوان فإنه قبل القتل محرم وإنما أبيح قتله لمنفعة الأكل ونحوها فإذا قتل لا للانتفاع به كان ذلك القتل محرما وكذلك الإبضاع حرام قبل العقد وإنما أبيحت بعد العقد وأبيح العقد عليها للانتفاع بمقاصد النكاح والنفع بها فإذا عقد لغير شيء من مقاصد النكاح كان ذلك حراما عبثا وإن كان قد قصد بهذا تحليلها لمن حرمت عليه فإن التحليل فرع لزوال النكاح وزوال النكاح فرع لحصول النكاح والنكاح فرع لإرادة مقاصده فإذا جعل مقصوده التحليل الذي هو فرع فرعه صار فرع فرع الفرعي أصلا وصار هذا كرجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي حتى تذبح هذه الشاة أو آلى من امرأته حتى تذبح هذه الشاة فقام هو أو غيره فذبحها لغيرالأكل ولم يقصد بها التذكية المبيحة للحم وإنما قصد مجرد حل اليمين فإن هذا الذبح لا يبيح اللحم لأن الذبح إنما أباحه الشارع لمقصود حل اللحم ثم قد يحصل في ضمن ذلك حل يمين وغيرها فإن فات ذلك المقصود لم يثبت الحل بحال وإن قصد شيء آخر كذلك هذا النكاح له مقصود فإذا لم يقصد كان الفرج حراما وإن قصد باستحلال الفرج شيء آخر وقد سوى الله سبحانه بين الفروج والذبائح في قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب }

وكذلك سوت السنة والإجماع القديم بينهما في تحريمهما من المجوس ونحوهم وفي الإحتياط فيهما إذا اشتبه مباح أحدهما بمحطور أو اشتبه السبب المبيح بغيره أو اختلط كما دل عليه حديث عدي بن حاتم وغيره بل مسألة التحليل أقبح من هذا فإن الذبائح هنا يمكنه أن يقصد الذبح المشروع ويحصل في ضمنه حل اليمين وحيث لم تقصد التذكية المبيحة فلم يقصد بالذبح أن يزيل الثذكية بعد هذا والمحلل لم يقصد شيئا من مقاصد النكاح بل قصد رفع النكاح وإزالته

يقرر هذا أن الله سبحانه أطلق النكاح في هذه الآية وفسره رسول الله المبين مراده بأن النكاح التام الذي يحصل فيه مقصود النكاح وهو الجماع المتضمن ذوق العسيلة فعلم أنه لم يكتف بمجرد ما يسمى نكاحا مع التقييد وإنما أرد ما هو النكاح المعروف الذي يفهم عند الإطلاق وذلك إنما هو نكاح الرغبة المتضمن ذوق العسيلة وهذا بين إن شاء الله تعالى وإذا ثبت أنه حرام لأن الفرج إلا بنكاح أو ملك يمين وثبت أنها لا تحل للمطلق إذ الله حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره

المسلك السادس

إنه سبحانه قال: { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } يعني فإن طلقها هذا الزوج الثاني الذي نكحته فلا جناح عليهما وعلى المطلق الأول أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وحرف أن في لسان العرب لما يمكن وقوعه وعدم وقوعه فإما ما يقع لازما أو غالبا فيقولون فيه إذا فاتهم يقولون إذا احمر البسر فآتني ولا يقولون إن أحمر البسر لأن إحمراره واقع فلما قال فإن طلقها علم أن ذلك النكاح المتقدم نكاح يقع فيه الطلاق تارة ولا يقع أخرى ونكاح المحلل يقع فيه الطلاق لازما أو غالبا وإنما يقال في مثله فإذا طلقها ولا يقال فالآية عمت كل نكاح فلهذا قيل فإن طلقها إذ من الناكحين أن يطلق ومنهم من لا يطلق وإن كان غالب المحللين يطلق لأنا نقول أو أراد سبحانه ذلك لقال فإن فارقها لأنه قد يموت عنها وقد تفارقة بانفساخ النكاح بحدوث مهر أو رضاع أو لعان أو بفسخه لعسرة أو غيرها فتحل لكن هذه الأشياء ليست بيد الزوج وإنما بيده الطلاق خاصة فهو الذي إذا قيل فيه إن طلق حلت للأول دل على أن النكاح نكاح رغبة قد يقع فيه الطلاق وقد لا يقع لا نكاح دلسة يستلزم وقوع الطلاق إلا نادرا ولو قيل فإن فارقها دل ذلك على أن النكاح تقع فيه الفرقة تارة ولا تقع أخرى ومعلوم أن نكاح الرغبة والدلسة بهذه المثابة فيشبه والله أعلم أن يكون إنما عدل عن لفظ فارق إلى لفظ طلق للإيذان بأنه نكاح قد يكون فيه الطلاق لا نكاح معقود لوقوع الطلاق

يؤيد هذا: ان لفظة الفراق أعم فائدة وبه جاء القرآن في مثل قوله سبحانه { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } فلو لم يكن في لفظ الطلاق خصيصة لكان ذكره أولى وما ذكرناه فائدة مناسبة يتبين بملاحظتها كمال موضع الخطاب

يبين هذا: أن الغاية المؤقتة بحرف حتى تدخل في حكم المحدود المغيا لا نعلم بين أهل اللغة خلافا فيه وإنما اختلف الناس في الغاية المؤقتة بحرف إلى ولهذا قالوا في قولهم أكلت السمكة حتى رأسها وقدم الحاج حتى الشاة وغير ذلك أن الغايات داخلة في حكم ما قبلها فقوله سبحانه: { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يقتضي أنها لا تحل له حتى توجد الغاية التي هي نكاح زوج غيره وأن هذه الغاية إذا وجدت انتهى ذلك التحريم المحدود إليها وانقضى وهذا القدر وحده كاف في بيان حلها للأول إذا فارقها الثاني بموت أو فسخ أو طلاق لأنه إذا نكحها زوج غيره فقد زال التحريم الذي كان وجد بالطلقات الثلاث وبقيت كسائر المحصنات فيها تحريم آخر من غير جهة الطلاق فإذا زال هذا التحريم بالفرقة لم يبق فيها واحد من التحريمين فتعود كما كانت أو أنه أريد بنكاح زوج غيره مجموع مدة النكاح بناء على أن النكاح اسم لمجموع ذلك كما يقال لا أكلمك حتى تصلى فإن كان المراد هذا كان التقدير أنها لا تحل له إلا بعد انقضاء نكاح زوج غيره

ومعناه كمعنى الأول فلما قيل بعد هذا فإن طلقها فلا بد أن يكون فيه فائدة جديدة غير بيان توقف الحل على الطلاق وهو والله أعلم التنبيه على أن ذلك الزوج موصوف بجواز التطليق وعدم جوازه أعني وقوعه تارة وعدم وقوعه أخرى

اذا أردت وضوح ذلك فتأمل قوله سبحانه: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله لما كان التطهير فعلا مقصودا جيء فيه بحرف التوقيت ولما كان الطلاق هنا غير مقصود جيء فيه بحرف التعليق فلو كان نكاح المحلل مما يدخل في قوله حتى تنكح لكان هو الغالب على نكاح المطلقات وكان الطلاق فيه مقصودا فكان بمنزلة تلك الآية لكن لما يكن كذلك فرق الله بينهما في تلك الآية إلا أنه لما توقف الحل على شرطين قال: { ولا تقربوهن حتى يطهرن }

فبين أن ذلك التحريم الثابت بفعل الله زال بوجود الطهر ثم بقي نوع آخر أخف منه يمكن زواله بفعل الآدمي بين حكمه بقوله: { فإذا تطهرن فاتوهن }

وهنا لم يرد بقوله فإن طلقها بيان توقف الحل على طلاقها لأن ذلك معلوم قد بينه بقوله في الحرمات والمحصنات من النساء ولأن الطلاق ليس هو الشرط وإنما الشرط أي فرقة حصلت ولأن الطلاق وحده لا يكفي في الحل حتى تنقضي عدة المطلق وعلم الأئمة بأن المتزوجة لا تحل أظهر من علمهم بأن المعتدة لا تحل فلو أريد هذا المعنى لكان ذكره العدة أوكد فظهر أنه لا بد من فائده في ذكر هذا الشرط ثم في تخصيص الطلاق ثم ذكره بحرف إن وما ذاك والله أعلم إلا لبيان أن النكاح المتقدم المشروط هو الذي يصح أن يقال فيه فإن طلقها ونكاح المحلل ليس كذلك والله أعلم

المسلك السابع

قوله سبحانه تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } قال هذا بعد أن قال سبحانه: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } فأذن الله سبحانه في فديتها إن خيف أن لا يقيما حدود الله لأن النكاح له حدود وهو ما أوجب الله لكل من الزوجين على الآخر

فإذا خيف أن يكون في اجتماعهما تعد لحدود الله كان افتداؤها منه جائزا ثم ذكر الطلقة الثالثة ثم ذكر أنها إذا نكحت زوجا غيره ثم طلقها فلها أن تراجع زوجها الأول إن ظنا أن يقيما حدود الله فإنما أباح معاودتها له إذا ظنا ! قامة حدود الله كما أنه إنما أباح افتداؤها منه إذا خافا أن لا يقيما حدود الله لأن المشروط هنا الفداء ويكفي في إباحة الفرقة خوف الذنب في المقام والمشروط هنا النكاح ولا بد في المجامعة من ظن الطاعة وإنما شرط هذا الشرط لأنه قد أخبر عنهما أنهما كانا يخافان أن لا يقيما حدود الله فلا بد مع ذلك من النظر إلى تلك الحال هل تبدلت أو هي باقية بخلاف الزوج المبتدأ فإن ظن إقامة حدود الله موجودة لأنه لم يكن هناك حال تخالف هذا ونظير هذا قول سبحانه: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا }

لأن الطلاق غالبا إنما يكون عن شر فإذا ارتجعا مريدا للشر بها لم يجز ذلك بل يكون تسريحها هو الواجب لكن قال هناك أحق بردهن فجعل الرد إلى الزوج خاصة لأن الكلام في الرجعية وقال هنا أن يتراجعا فجعل التراجع إلى الزوجين جميعا لأن الكلام في المطلقة ثلاثا وهي لا تحل بعد الزوج الثاني إلا بعقد جديد موقوف على رضاها وكان في هذا دليل على أن هذه المرأة الواحدة إجتمع فيها طلقتان وفدية وطلقة ثالثة كما قال ابن عباس وغيره فإذا تبين أن الله سبحانه إنما أباح النكاح الذي قد يخاف فيه من ضرر لمن ظن أنه يقيم حدود الله فيه علم أن النكاح المباح هو النكاح الذي يحتاج فيه إلى إقامة حدود الله في المعاشرة ونكاح المحلل ليس هو من هذا فإنه إذا كان من نيته أن يطلقها عقيب وطئها فليس هناك عشرة يحتاج معها إلى إقامة حدود الله فلا يكون هذا الظن شرطا فيه وهو خلاف القرآن

ويظهر ذلك بما لو أراد المطلق الأول أن يحلها للمطلق الثاني فإن الله سبحانه إنما آباح لهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ونكاح المحلل لا يحتاج صاحبه أن يظن ذلك

فإن قال قائل بل اشنرط ذلك في نكاح المحلل قيل له إذا قال لك المحلل أنا من نيتي أن أطأها الساعة وأطلقها عقيب ذلك وكذلك هي من نيتها ذلك فهل يباح لنا ذلك مع إن أقمنا لم نظن أنا نقيم حدود الله فإن قال نعم خالف كتاب الله وإن قال لا بطل مذهبه وترك أصله يبين ذلك أن غالب المحللين أعني الرجل المحلل والمرأة لا يظنان أنهما يقيمان حدود الله لأن كل واحد منهما لا رغبة له في صاحبه وإنما تزوجه ليفارقه ومن كانت هذه نيته كيف يظن أن يقيم حدود الله معه لا سيما إذا تشارطا على ذلك ولا يجوز أن يقال المعتبر في نكاح المحلل يظن إقامة حدود الله في الساعة التي يعاشرها فيها فقط لأنه من المعلوم أن حسن المعاشرة ساعة ويوما لا يعدمه أحد من الناس في الأمر العام فإن كان هذا هو المشروط فهذا حاصل لكل أحد فلا حاحة إلى اشتراطه وهذا بين إن شاء الله تعالى وقد روي عن مجاهد في قولة إن ظنا أن يقيما حدود الله قال إن علما أن نكاحهما على دلسة وأراد بالدلسة التحليل ومعنى كلامه والله أعلم أن علم المطلق الأول والزوجة أن النكاح الثاني كان على غير دلسة فحينئذ إذا تزوجها يكون بحيث يظن أن يقيم حدود الله من الطلاق الأول والنكاح الذي بعده ثم الطلاق والنكاح أيضا أما إذا تزوجها نكاح دلسة وطلقها ثم تراجعا لم يكونا قد ظنا أن يقيما حدود الله التي هي تحريمها أولا ثم حلها للثاني ثم حلها للأول فعلى هذا تكون الأية عامة في ظن صحة النكاح وظن حسن العشرة وأحد الظنيين لأجل الماضي والحاضر والآخر متعلق بالمستقبل ولهذا والله أعلم لم يجعل الظن علما هنا فلم يرفع الفعل حتى تكون أن الحقيقة من الثقيلة الدالة على أن الظن يقين بل نصب بأن الحقيقة لنعلم أنه على بابه ولأن كون الزوج الثاني لم يكن محللا قد لا يتيقن وإنما يعلم بغالب الظن وعلى هذا ففي الآية حجة ثابتة من هذا الوجه



ابن تيمية: إقامة الدليل على إبطال التحليل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29