إقامة الدليل على إبطال التحليل/25
الطريق الثاني: إبطال التحليل في النكاح
فصل
وأما الطريق الثاني في إبطال التحليل في النكاح الدلالة على عين المسألة وذلك من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس الواجب عند تساوي الدلالة الابتداء بالكتاب ولكن لكون دلالة السنة أبين ابتداء أنابها وفي هذا الطريق مسالك:
المسلك الأول
ما رواه سفيان الثوري عن ابن قيس الأزدي عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [ لعن رسول الله ﷺ الواشمة والموشومة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله ] رواه أحمد والنسائي وروى الترمذي منه: [ لعن المحلل والمحلل له ] وقال: حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم مثل أصحاب النبي ﷺ منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس ورواه أحمد من حديث أبي الواصل عن ابن مسعود عن النبي ﷺ: [ لعن الله المحلل والمحلل له ] وعن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحرث عن اين مسعود قال: [ آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمتعدي فيها والمرتد على عقبيه إعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد ﷺ يوم القيامة ] رواه أحمد والنسائي ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث الشعبى عن الحرث عن علي عن النبي ﷺ: [ أنه لعن المحلل والمحلل له ] وروي عن عثمان بن الأخنس عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: [ لعن الله المحلل والمحلل له ] رواه أحمد وابن أبي شيبة والجوزجاني وإسناده جيد وقال يحيى بن معين وعثمان بن الأخنس ثقة والذي رواه عن عبد الله بن جعفر القرشي وهو ثقة من رجال مسلم وثقة الإمام أحمد ويحيى وعلي وغيرهم وعن ابن عباس عن النبي ﷺ نحو ذلك رواه ابن ماجه وروى ابن ماجه والجوزجاني من حديث عثمان بن صالح قال سمعت الليث بن سعيد يقول قال مشرح بن هاعان قال عقبة بن عامر قال رسول الله ﷺ: [ ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له ] وفي لفظ الجوزجاني: الحال بدل المحلل رواه الجوزجاني عن عثمان وقال كانوا ينكرون على عثمان هذا الحديث إنكارا شديدا
قلت: وإنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد إنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظنهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه كان ذلك شذوذا فيه وعلة فادحة - وهذا لا يتوجه ها هنا لوجهين:
أحدهما: إنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتب الليت عنه رويناه من حديث أبي بكر القطيعي أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي: حدثني العباس المعروف بابن فريق: وحدثنا أبو صالح: حدثني الليث به فذكره ورواه أيضا الدار قطني في سننه وحدثنا أبو بكر الشافعي: حدثنا إبراهيم بن الهيثم: أخبرنا أبو صالح فذكر
الثاني: إن عثمان بن صالح هذا المصري ثقة روى عنه البخاري في صحيحه وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي وقال الشيخ صالح سليم الناحية قيل له: كان يلقن قال: لا ومن كان بهذه المثاية كان ما ينفرد به حجة وإنما الشاذ ما خالف به الثقاة لا ما انفرد به عنهم فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثا عنه وهو ثقة أيضا وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط
ومشرح بن هاعان قال فيه ابن معين ثقة وقال الإمام أحمد هو معروف فثبت أن هذا الحدبث جيد وإسناده حسن
وقال سعيد في سننه حدثنا محمد بن نشيط البصري: سألت بكر بن عبد الله المزني عن رجل طلق امرأته البتة قال: لعن المحلل والمحلل له أولئك كانوا يسمون في الجاهلية بالتيس المستعار وعن الحسن البصري قال كان المسلمون يقولون هو التيس المستعار وقياس العربية أن يقال أو محل كما يجيء في أكثر الروايات وأما ما وقع في بعضها من لفظ الحال ووقع مثله في كلام أحمد فإن كان لغة لم تبلغنا وإلا فيجوز أن يسمى حالا لأنه قصد حل عقدة التحريم فيكون الإسم الأول من التحليل الذي هو ضد التحريم وهذا الإسم من الحل الذي هو ضد العقد ويحتمل أن يسمى حالا على معنى النسب من الحل كما يقال لابن وتامر نسبة إلى التمر واللبن ولم يقصد به اسم الفاعل من التحليل
ويؤيد هذا: أنه إذا قيل والمحلل له ولم يقل المحلول له ويجوز أن يكون سمى بذلك لأنه قصد تحليلها لغيره بواسطة حلها له وحله لها فيكون اسم الفاعل من حل يحل فهو حال ضد حرم يحرم ولأنه توسط أن يكون حلالا لها إلى أن تصير حلالا للغير ثم وجدناه لغة منقولة ذكرها ابن القطاع في أفعاله وغيره يقال حل المرأة لزوجها وأحلها وحلها له إذا تزوجها ليحلها
فهذه سنن رسول الله ﷺ بينة في أنه لعن المحلل والمحلل له وذلك من أبين الأدلة على أن التحليل حرام باطل لأنه لعن المحلل فعلم أن فعله حرام لأن اللعن لا يكون إلا على معصية بل لا يكاد يلعن إلا على فعل كبيرة إذ الصغيرة تقع مكفرة بالحسنات إذ اجتنبت الكبائر - واللعنة هي الإقصاء والإبعاد عن رحمة الله ولن يستوجب ذلك إلا بكبيرة
وكذلك روي عن ابن عباس أنه قال: كل ذنب ختم بغضب أو لعنة أو عذاب أو نار فهو كبيرة رواه عنه أبن أبي طلحة وهذا دليل على بطلان العقد لأن النكاح المحرم باطل باتفاق الفقهاء كيف وقد حملوا نهيه أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها على التحريم والفساد وليس هذا موضع استقصاء ذلك
ثم أنه لعن المحلل له فتبين بذلك أيضا أنها لم تحل له بذلك التحليل إذ لو حلت له لكان نكاحه مباحا فلم يستحق اللعن عليه فعلم أن الذي فعله المحلل حرام باطل وإن تزوج المطلق ثلاثا لأجل هذا التحليل حرام باطل ومع أن مجرد تحريم عقد النكاح كاف في بطلانه ففي خصوص هذا الحديث ما يدل على فساد العقدين لأنه ﷺ لعن المحلل له فلا يخلو إما أن يكون حل للثاني تزوجها وإما أن لايكون حل والأول باطل لأن النبي ﷺ لعنه ولو كانت قد حلت له لكان تزوجه بها جائزا ولم يجز لعنه فتعين الثاني وإذا لم تكن حلالا للثاني فكل امرأة يحرم للتزوج بها فالعقد عليها باطل وهذا ثابت بالإجماع المتيقن بل بالعلم الضروري من الدين
وذلك أن محل العقد كالمبيع والمنكوحة إذا لم يكن مباحا كالميتة والدم والمعتدة والمزوجة كان العقد عليه باطلا بالضرورة والإجماع وإذا ثبت أنها لم تحل للثاني وجب أن يكون العقد الأول عليه باطلا لأنه لو كان صحيحا لحصل به الحل كسائر الأنكحة الصحيحة والكلام المحفوظ لفظا ومعنى في قوله: حتى تنكح زوجا غيره ومن قال أن النكاح صحيح وهي لا تحل به فقد أثبت حكما بلا أصل ولا نظير وهذا لا يجوز
وقولهم تعجل ما أجل الله فعوقب بنقض قصده قلنا إن كان المتعجل به مما لا يمكن إبطاله كالقتل قطعنا عنه حكمه وكذلك إن كان مما لا يمكن رفعه كالطلاق في المرض فإنا نقطع عنه حكمه والمقصود رفعه وهو الإرث ونحوه وأما النكاح فإنه عقد قابل للإبطال فيبطل ثم إذا عاقبنا المحلل له لأنه تعجل المؤجل فكيف لا نعاقب المحلل الذي هو معجل المؤجل وهو أحق بالعقوبة لعدم الغرض له في هذا الفعل وإذا انتفى الداعي إلى المعصية كانت أقبح كزنا الشيخ وزهو الفقير وكذب الملك
فإن قيل إلا أن التحريم وإن اقتضى فساد العقد فإنما ذاك إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين فإذا كان التحريم من أحدهما لم يوجب الفساد كببع المصراة والمدلس ونحو ذلك وهنا التحليل المكتوم إنما هو حرام على الزوج المحلل فأما المرأة وليها فليس حراما عليهما إذا لم يعلما بقصد الزوج فلا يكون العقد فاسدا كما ذكرنا من النظائر إذ في إفساده إضرار المغرور من المرأة والولي وصار هذا كما لو اشترى سلعة ليستعين بها على معصية والبائع لا يعلم قصده فإن هذا العقد لا يحكم بفساده وإن حرم على المشتري وكذلك المستأجر ونحوه فالموجب للتحريم كتمان أحدهما لنقص المعقود عليه أو كذبه في وصفه وإذا كان هذا العقد غير فاسد أثبت الحل لأنه مقتضى العقد الصحيح
ثم قد يقال تحل به للأول عملا بالعموم اللفظي والمعنوي وطردا للنظام القياسي وقد يقال بل لا تحل له كما قاله محمد بن الحسن وغيره بناء على أن السبب معصية والمعصية لا تكون سببا للإستحقاق والحل وإن حكم بصحة العقد ووقوع السبب إذا كان ممكنا لا يمكن إبطاله كالطلاق والقتل للمورث ولا يلزم من حلها للزوج المحلل حلها للزوج المطلق لأن الحل الأول حصل ضرورة تصحيح العقد لأجل حق العاقد الآخر ومتى صح بالنسبة إلى المرأة فقد استحقت الصداق والنفقة واستحلت الاستمتاع ولا يثبت هذا إلا مع استحقاق الزوج ملك النكاح واستحلاله الاستمتاع بخلاف المطلق لإنه لا ضرورة هناك تدعو إلى تصحيح عقده
ويؤيد هذا القول: أن بعض السلف منهم عمر وعطاء وقد روي عنهم حواز إمساك الثاني لها إذا حدثت له الرغبة ومنعوا عودها للأول
قلنا: إذا انفرد أحد العاقدين بعلمه بسبب التحريم فإما أن يكون التحربم لأجل حق العاقد الآخر وإما أن يكون لحق الله مثلا فأن كان لأجل حق العاقد الآخر كما في بيع المدلس والمصراة ونكاح المعيبة المدلسة ونحو ذلك فهذا العقد صحيح في حق هذا المغرور باطنا وظاهرا بحيث يحل له ما ملكه بالعقد وإن علم فيما بعد أنه كان مغرورا وإما في حق القار فهل يكون باطلا في الباطن بحيث يحرم عليه الانتفاع أو لا يكون باطلا أو يقال ملكه ملكا حسيا؟ هذا مما قد يختلف فيه الفقهاء ومسالتنا ليست من هذا الضرب وإن كان التحريم لغير حق المتعاقدين بل لحق الله سبحانه أو لحق غيرهما مثل أن يبيعه ما لا يملكه والمشتري لا يعلم أو يبيعه لحما يقول هو ذكي وهو ذبيحة مجوسي أو وثني ومثل أن يتزوج أمرأة وهو يعلم أنها أخته من الرضاعة وهي لا تعلم ذلك أو يكون أحد المبايعين محجورا عليه وهو يعلم بالحجر والآخر لا يعلم أو بالعكس أو لا يعلم أن هذا الحجر يبطل التصرف أو يكون العقد مشتملا على شرط أو وقت أو وصف أو أحدهما لا يعلم حكمه والآخر يعلم إلى نحو هذه الصور التي يكون العقد ليس محلا في نفس الأمر أو العاقد ليس أهلا من الطرفين فهنا العقد باطل في حق العالم بالتحريم باطنا وظاهرا
وإن كان الفقهاء قد اختلفوا هل تستحق المرأة في مثل هذا مهرا وفيه عن أحمد روايتان:
إحداهما: تستحقه وأظنه قول الشافعي
والأخرى: لا تستحقه وأظنه قول مالك فإنما ذاك عند من أوجبه لئلا يخلو الوطء الملحق للنسب عن عوض ووجوب المهر والعدة والنسب ليست من خصائص العقد الصحيح فإنما يثبت في وطء الشبهة أفلم يكن في إيجاب من أوجب المهر ما يقتضي صحة العقد بوجه ما كما أنهم يوجبون العدة في مثل هذا ويلحقون بهم النسب مع بطلان العقد بل كل نكاح فاسد يثبت فيه ذلك وإن كان مجمعا على فساده
وأما في حق من يعلم التحريم كالزوج والمشتري المغرورين فالعقد في حقهما باطل وإن لم يعلما بطلانه وما علمت أحدا من العلماء يصفه بالصحة من وجه ما وإن كان مقتضى أصول بعض الكلاميين أن يكون صحيحا في حق المشتري إما ظاهرا وإما باطنا لكن الفقهاء على أنه فاسد فلا يئبت له بهذا العقد ملك ولا إباحة شيء كان حراما عليه في الباطن لكنه لا يعاقب بالوطء ولا بان بالانتفاع بما ابتاعه لأنه لايعلم التحريم وكونه لم يعلم التحريم لا يوجب أن يكون مباحا له كما أن من لم يعلم تحريم الزنا والخمر وتناولهما لا نقول أنه فعل مباحا له فإن الله سبحانه ما أباح هذا لأحد قط لكن نقول فعل ما لم يعلم تحريمه
ويتحرر الكلام في مثل هذا بنظرين:
أحدهما: في الفعل في الباطن هل هو حرام أو ليس بحرام بل مباح؟
والثاني: في الظاهر هل هو مباح أو ليس بحرام بل عفو؟
النظر الأول: هل يقال الفعل حرام عليه في الباطن لكنه لما لم يعلم التحريم عذر لعدم علمه والفقهاء من أصحابنا وغيرهم ومن يخوض معهم من أهل الكلام ونحوهم يتنازعون في مثل هذا فكثير من المتكلمين وبعض الفقهاء يقولون: هذا ليس بحرام عليه في هذه الحال أصلا وإن كان حراما في الأصل وفي غير هذه الحال كالميتة للمضطر لأن التحريم هو المنع من الفعل والمنع لا يثبت حكمه إلا بإعلام الممنوع أو تمكنه من العلم وهذا لم يعلم التحريم ولا أمكنه علمه فلا تحربم في حقه قالوا والتحريم الثابت في الباطن دون الظاهر لا يعقل فإن حد المحرم ما ذم فاعله أو عوقب أو ما كان سببا للذم أو العقاب أو ما استحق به ذما أو عقابا وهذا الفعل لم يثبت فيه شيء من هذه الخصائص نعم وهذا القول يقوى عند من لا يرى التحريم والتحليل يوجب إلا مجرد نسبة وإضافه تثبت للفعل لتعلق الخطاب به وهذا أيضا قول من يقول كل مجتهد نصيب باطنا وظاهرا
ثم إن كان قد استحله بناء على إمارة شرعية قالوا هو حلال باطنا وظاهرا حلا شرعيا وإن استحله لعدم المحرم قالوا ليس بحرام باطنا ولا ظاهرا ولم يقولوا هو حلال وأما أكثر الفقهاء والمتكلمين فيقولون أنه حرام عليه في الباطن لكن عدم التحريم منع من الذم والعقاب لفوات شرط الذم والعقاب الذي هو العلم وتخلف المقتضى عن المقتضى لفوات شرط أو وجوب مانع لا يقدح في كونه مقتضيا وهذا ينبني على حكم العلة إذ تخلف عنها لفوات شرط أو وجود مانع هل يقدح في كونها علة ويؤخذ من الشرط وعدم المانع قيود تضم إلى تلك الأوصاف فيجعل الجميع علة ولكن يضاف التخلف إلى المانع وفوات الشرط
وهذه مسألة تخصيص العلة وفسادها بالنقض مطلقا خير أو لم يخير والناس في هذه المسألة من أصحابنا وغيرهم مختلفون خلافا مشهورا
فمن قال بتخصيصها فرق بين الشرط وجزاء العلة وعدم المانع وقال قد تقدم الحكم مع بقائها إذا صادفها مانع أو تخلى عنها الشرط المعين
ومن لم يخصصها فعنده الجميع شيء واحد ومتى تخلف عنها الحكم لم يكن علة بحال بل يكون بعض علة
وفصل الخطاب أن العلة الموجبه وهي العلة التامة التي يجب وجود معلولها عند وجودها - فهذه لا تخصص ويقال على العلة المقتضية وإن كانت ناقصة - وهي ما من شأنها أن تقتضي ولكن بشرط أن تصادف محلا لا يعوق - فهذه تخصص فالنزاع عاد إلى عبارة كما تراه ويعود أيضا إلى ملاحظة عقلية وهو أنه عند تخلف المعلول لأجل المعارض هل يلاحظ في العلة وصف الإقتضاء ممنوعا بمنزلة الحجر الهابط إذا صادف سقفا وبمنزلة ذي الشهوة الغالبة بحضرة من يهابه؟ أو يلاحظ معدوما بمنزلة العينين وبمنزلة العشرة إذا نقص منها واحد فإنها لم تبق عشيرة فإذا كان النزاع يعود إلى اعتبار عقلي أو إلى إطلاق لفظي لا إلى حكم عملي أو استدلالي فالأمر قريب وإن كان هذا الخلاف يترتب عليه إصلاح جدلي وهو أنه هل يقبل من المستدل خبر النقض بالفرق بين صورة النزاع وصورة النقض أو لا يقبل منه ذلك بل عليه أن يأتي بوصف يطرد لا ينتقض البتة ومتى انتقض إنقطع فيه أيضا إصطلاحان للمتجادلين
وكان الغالب على أهل العراق في حدود المائة الرابعة قبلها وبعدها إلى قريب من المائة الخامسة إلزام المستدل بطرد علته في مناظراتهم ومصنفاتهم وأما أهل خراسان فلا يلزمونه بذلك بل يلزمونه تبيان تأثير العلة ويجيزون النقض بالفرق وهذا هو الذي غلب على العراقيين بعد المائة الخامسة وتجد الكتب المصنفة لأصحابنا وغيرهم في الخلاف بحسب إصطلاح زمانهم ومكانهم فلما كان العراقيون في زمن القاضي أبي يعلى والقاضي عبد الوهاب من مصر وأبي إسحق الشيرازي ونحوهم يوجبون الإطراد غلب على أقيستهم تحرير العبارات وضبط القياسات المطردات ويستفاد منها القواعد الكليات لكن تبدد الذهن عن نكتة المسألة يحوج المكلم أو المستمع إلى أن يشتغل بما لا يعينه في تلك المسألة عما يعنيه ولهذا كانوا يكلفون بأن يأتي بقياس مطرد ولا يظهر خروج وصفه عن جنس العلل الشرعية وإن لم يقم دليلا على أن ذلك الوصف علة للحكم وربما غلا بعضهم في الطرديات ولما كان العراقيون المتأخرون لا يلزمون هذا فتحوا على نفوسهم سؤال المطالبة بتأثير الوصف وطوائف من متقدمي الخراسانيين فيستفاد من طريقهم الكلام في المناسبات والتأثيرات بحسب ما أحاطوا به من العلم أثرا ورأيا وهذا أشد على المستدل من حيث احتياجه إلى إقامة الدليل على تأثير الوصف والأول أشد عليه من حيث احتياجه إلى الإحتراز عن النقض ولهذا سمى بعضهم الأولين أصحاب الطرد وسمى الآخرين أصحاب التأثير وليس المراد بكونهم أصحاب الطرد أنهم يكتفون بمجرد الوصف المطرد الذي لا يظهر فيه إقتضاء للحكم ولا دلالة عليه ولا إشعار به فإن هذا يبطله جماهيرهم ولم يكن يقول به ويستعمله إلا شر ذمة من الطاردين وفي كل واحدة من الطريقتين ما يقبل ويرد
ولا يمكن هنا تفصيل القول في ذلك لكن الراجح في الجملة قول من يخصص العلة لفوات شرط أو لوجود مانع فإن ملاحظته أقرب إلى المعقول وأشبه بالمنقول وعلى ذلك تصرفات الصحابة والسلف من أئمة الفقهاء وغيرهم ولهذا رجع القاضي أبو يعلى فى آخر عمره إلى ذلك وذكر أن أكثر كلام أحمد يدل عليه وهو كما قال وغيره يقول إنه مذهب الأئمة الأربعة
ولا شك أن من تأمل مناظرتهم علم أنهم كانوا يخصون التعليل بوجود المانع
وأنهم كانوا يجيزون النقض بالفرق بين الفرع وبين صورة النقض إذا كان الفرق مغلوسا في الأصل المقيس عليه أي أن يكون الوصف القائم بصورة النقض مانعا غير موجود في الأصل كما أنه ليس بموجود في الفرع إذ لوكان موجودا في الأصل لم يكن مانعا ولوكان موجودا في الفرع لم يجز النقض وهذا عين الفقه بل هو عين كل علم بل هوعين كل نظر صحيح وكلام سديد
نعم في المسألة قولان متطرفان من الجانبين: قول من يجوز من أصحابنا وغيرهم تخصيص العلة لا لمانع ولا لفوات شرط بل بمجرد دليل كما يخص العموم اللفظي وقول من يقول من أصحابنا وغيرهم أن العلة المنصوصة إذا تخصصت بطل كونها علة وعلم أنها جزء العلة
فهذان قولان ضعيفان وإن كان الثاني لأن المذهب المخصص مستلزم لمانع وإن لم يعلمه فإن هذا إنما يكون له وجه أن لو كانت العلة علمت بنص والمخصص لها نص فهناك لا يضرنا أن لا نعلم المانع المعنوي على نظر فيه إذ قد يقال إن كان التمسك بالعموم اللفظي فلا كلام وان كان التمسك بالعموم المعنوي فقد علمنا انتفاءه مع مانع مجهول فيكون بمنزلة العام إذا استثنى منه شيء مجهول فما من صورة معينة إلا ويمكن أن تكون داخلة في المستثنى منه ويمكن أن تكون داخلة في المستثنى فلا يجوز إدخالها في أحدهما بلا دلبل كذلك كل صورة تفرض وجود العلة فيها إذا كانت مخصصة بنص فلا بد أن يشتمل على مانع معنوي فإن تلك الصورة جاز أن تكون مشتملة على ذلك المانع وجاز أن تكون لم تشتمل عليه ولا يقال اشتمالها على المقتضى معلوم واشتمالها على المانع مشكوك فيه لأن المقتضى الذي يجب العمل به هوما لم يغلب على الظن مصادمة المانع له وهذه العلة منتفية هنا
وهذا المقام أيضا مما اختلف فيه العلماء من أصحابنا وغيرهم وهو جواز التمسك بالظواهر قبل البحث عما يعارضها والمختار عندنا - وعليه يدل كلام أحمد وكلام غيره من الأئمة - أنه ما لم يغلب على الظن عدم المعارض المقاوم وإلا فلا يجوز الجزم بمقتضى يكون جواز تخلفه عن مقتضيه وعدم جوازه في القلب سواء
وتمام الكلام في هذه القواعد ليس هذا موضعه وإنما نبهنا عليه ليظهر المأخذ في قولهم أنه يكون الشيء حراما في الباطن وإن لم يثبت مقتضى التحريم في حق من لم يبلغه للعذر فإن التخلف هنا لفوات شرط ولا يقدح في كونه الفعل مقتضيا للعقاب في الجملة ولهذا لما كان أكثر عقول الفقهاء بل أكثر عقول الناس بل عامة العقول التي لم يكدر صفاها رهج الجدل ويرى صحة كون الشيء بصفة الاقتضاء وإن كان معوقا عن عمله صاروا في عامة ما يفعلونه ويقولونه ينتهجون مناهج القائلين بتخصيص العلة لمانع إذ هذا ثابت في كل ما يتكلم فيه الآدميون وإن كانوا قد يكونون ممن خالف في ذلك إذا جردوا الأصول فلهذا كان الغالب على الناس من الفقهاء وغيرهم من يقبل عقله كون الشيء حراما في الباطن لكن إنتفاء حكم التحريم في حق هذا المعين لفوات شرط العقاب أو لوجود مانع فيه وهذا قوي إذ قيل أن الحل والحرمة قد تكون لمعان في الأفعال تناسب الحكم ويقتضيه وأن العلل الشرعية ليست مجرد علامات وإمارات كما قد يجيب به في المضايق من أصحابنا وغيرهم من يزعم أنه بنصر السنة أنه يرد الأحكام إلى محض المشيئة
فإن من تامل دلالة الكتاب والسنة وإجماع السابقين على توجيه الأحكام بالأوصاف المناسبة والنعوت الملاثمة بل دخل مع الأئمة فيما يشهده بنضائرها من الحكم الباهرة المنظومة في الأحكام الظاهرة والمصالح الدينية والدنيوية التي جاءت بها هذه الشريعة الحنيفية التي قد أربى نورها على الشمس إضاءة وإشراقا وعلى إحكامها على الفلك إنتظاما وإتساقا ثم نازع بعد هذا في أن الأسباب والعلل فيها إقتضاء وملاءمة ورأى ما في الدليل الصرف فهو أحد رجلين: إما معاند يقول بلسانه ما ليس في قلبه وما أكثرالسفسطة من بني آدم عموما ومن المناظرين في العلم خصوصا في جزئيات المقدمات وإن كانوا مجمعين أوكالمجمعين على فسادها في الأنواع الكليات وإما ذاهل جاهل بحقيقة ما يقوله من أن العلل مجرد إمارات مصرفات لم يجمع بين معنى هذا القول وبين ما هو دائما يراه ويقوله في الأحكام الشرعية
وإنما قلنا أن هذا القول قوي إذا رأينا ما في الأفعال المحرمة من المفاسد لأن المفسدة ثابتة في أكثر الأفعال وإن لم يدر الفاعل ألا ترى من شرب الخمر قبل أن يعلم التحريم فإن فسادها من زوال العقل وتوابعه ثابت في حقه وإن لم يعلم نعم العقوبة الحدية وتوابعها في الدنيا والعقوبة الأخروية مشروطة بقيام الحجة عليه وهذا الوصف وإن كان إقتضاء التحريم مثلا مشروط بجعل الشارع أو بالحال التي جعله الشارع فيها مقتضيا فقد وجد هذا الجعل والحال التي حصل فيها هذا الجعل وهنا أمور أربعة:
أحدها: الوصف الثابت المقتضي للحرمة في الحال التي اقتضاها
والثاني: علم الله سبحانه بهذا الوصف المقتضى
والثالث: حكم الله الذي هوالتحريم مثلا فإنه سبحانه لما علم ما في الفعل من المصلحة والمفسدة حكم بمقتضى علمه وهذه الإضافة ترتيب ذاتي عقلي لا ترتيب وجودي زماني كترتيب الصفة على الذات وترتيب العلم على الحياة والترتيب الحاصل في الكلام الموجود في آن واحد ونحو ذلك مما يشهد العقل ملازمته ترتيبا اقتضته الحقيقة وكنه ذلك مغيب عن علم الخلق
والرابع: المحكوم به الذي هو الحرمة القائمة بالفعل سواء جعلت صفة عينية أو جعلت إضافة محضة أو جعلت عينية مضافة فالموجبة للعقوبة هو التحريم وسبب التحريم هو علم الله بما فيه من المفسدة لا نفس المفسدة حتى لا تعلل صفات الله القديمة بالأمور المحدثة كما اعتقده بعض من نازع في هذا المقام بل يضاف حكمة التحريم إلى علة سبب التحريم فإنه سبحانه عليم حكيم فهذا الموجب للعقوبة من العلم والحكم ثابت بكل حال لكن بشرط حصول موجبة قيام الحجة على العباد كما نبه عليه قوله عز وجل: { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }
وإذا كان كذلك فالتحريم الذي هو حكم الله والحرمة التي هي صفة الفعل سواء جعلت إضافة أو عينية والمقتضى للتحريم الذي هو علم الله والمقتضى للحرمة التي هي الوصف الذي هو معلوم الله حتى يضيف الحكم الذي هو وصف الله إلى علمه ويضيف المحكوم به الذي يسمى حكما أيضا وهو صفة الفعل إلى معلومه فهذه الأمور الأربعة ثابتة وإن لم يعلم المكلف بالتحريم فظهر معنى قول جمهور الفقهاء وذوي الفطر السليمة أن هذا محرم باطنا لا ظاهرا والمثل هذا الكلام بعينه إلى مسألة إختلاط أخته بأجنبية والميتة بالمذكي وكل موضع اشتبه فيه الحلال بالحرام على وجه يجب اجتنابهما جميعا وكذلك مسألة إشتباه الواجب بغيره كمن نسي إحدى صلاتين لايعلم عينها
فإن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يطلقون أنه يحرم عليه العينان وتجب عليه الصلاتان ومنهم من يقول المحرم أحدهما وإن واجب الكف عنهما والواجب أحدهما وإن كان عليه فعلهما ثم من الأولين من أصحابنا وغيرهم من ينكر هذا القول ويقول إنتفاء التحريم ملزوم إنتفاء الحرج والحرج هنا حاصل في كل منهما فكيف يكون الوجوب والتحريم منتفيان؟ وهذا الإنكار مستقيم ممن ينكر الوجوب والتحريم في الباطن دون الظاهر كما ذهبت إليه النافية للحكم الباطن الجاعلة حكم الله تعالى في حق كل مجتهد ما اقتضاه اجتهاده وأنه يتبع الاعتقاد ويكون من موجباته ومقتضياته وهذا أصل فاسد مخالف لما كان عليه القرون الماضية الفاضلة وتابعوهم وأما من أقر بالإيجاب والتحريم الباطنين فمعنى قول من قال الحرام أحدهما والواجب أحدهما يعني به الحرام في نفس الأمر أحدهما والواجب في نفس الأمر أحدهما كما إذا اشتبه الظاهر بالنجس فإن النجس في نفس الأمر أحدهما وكما أن الميت في نفس الأمر أحدهما والأخت في نفس الأمر أحدهما والآخر إنما حرم ظاهرا فقط
نعم يبالغ هذا القائل فيقول لا أصف المشتبهة بتحريم البتة وإن أوجبت الإمساك عنها كما لا أصفها بنجاسة ولا بنوة ولاموت
فهنا ثلاث منازل طرفان ووسط إما أن يقال هما جميعا حرامان مطلقا واجبان مطلقا أو يقال ليس الواجب والمحرم إلا أحدهما أو يقال الواجب والمحرم باطنا وظاهرا أحدهما والآخر محرم أو واجب ظاهرا لا باطنا على أنه والله أعلم من وصف بالتحريم إحداهما فقط مطلقا مع إيجابه الكف عنهما أقرب ممن أنكر عليه وأنكر على من خص بالتحريم إحداهما وذلك أنه لو تناولهما معا لم يعاقب عقوبة من فعل محرمين بل من فعل محرما واحدا وكذلك من لم يفعل الصلاة المشتبهة إنما يعاقب على ترك صلاة واحدة
والمسألة وإن كان قد يظن أنها مستمدة من مسألة ما لا يتم الواجب إلا به هل يوصف بالوجوب فنفى الوجوب عن إحداهما هنا ليس كنفي الوجوب عن الزيادة لأن سبب الوجوب هنا عدم علمه وسببه هناك عجزه وعدم العلم إنما يؤثر في الأحكام ظاهرا لا باطنا عند عامة الناس بخلاف العجز فإنه يؤثر فيها باطنا وظاهرا ومن استقرأ أحكام الشريعة استبان له هذا
وحقيقة الأمر أن المتناول لأحدهما يعاقب على المخاطرة والعمل بالجهل بالمقتضى للعقوبة به معنى فيه لا معنى في المحل بخلاف المتناول للميتة فإنه يعاقب لمعنى في الميتة وليست العقوبة والأحكام على ذلك الجنس مثل هذا فإنه لو خاطر ووطىء من لا يظنها زوجته وكانت إياها لم يحدوان إثم وكذلك من شرب ما يعتقده خمرا فلم يكنه لم يحد وإن كان اثما وكذلك من حكم بجهل فصادف الحق هل يبتدىء الحكم في تلك القضية أو ينفذ حكمه؟ للأصحاب فيه وجهان مع الاتفاق على تأثيمه ومن باع واشترى قابضا مقبضا لا يعلم أنه مالك ولا وكيل ثم ثبين أنه وارث أو وكيل هل يصح تصرفه؟ على وجهين مع كونه كان آثما ولو فعله الوكيل بعد العزل قبل أن يعلم به لم يأثم وفي صحة التصرف روايتان وقولان مشهوران للناس وكذا على قياس هذا لوعقد على المشتبهة ثم تبين أنها الأجنبية أو المذكي هل يصح العقد على الوجهين إذا لجهل بالمحلية كالجهل بالأهلية
فإن قلت: أنتم تختارون فيما كان محرما ولم يعلم المكلف تحربمه أنه عفو في حقه لا مباح ظاهرا ولا باطنا فكيف تقولون فيمن إعتقد تحريمه ولم يكن حراما إنه حرام ظاهرا أو حرام مطلقا؟
قلت: لأنه ماحرمه الله تحريما مطلقا لايباح إلا إذا وجد سبب حله وجهل المكلف لا يكون سببا للحل بل غايته أنه سبب للعذر وأما ما أحله الله حلا مطلقا فقد تعرض له أسباب تحريمه وجهل المكلف قد يكون سببا للتحريم فإنه مناسب له من جهة أن عدم العلم بانتفاء الضرر الذي إنعقد بسببه أو خيف وجوده مناسب للمنع من الإقدام شرعا وعقلا وعرفا فإن المريض يمنع ما يخاف ضرره ومن جهة أن الجهل وصف نقص فترتب التحريم عليه ملائم أما ترتب الحل عليه فغير ملائم ألا ترى أن المعصية تكون سببا لشرع التحريم كما دل عليه قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ويكون سببا للابتلاء بوجود المحرم والحاجة إليه كما دل عليه قصة أصحاب السبت ولا تكون المعصية سببا للحل مع أني قد بينت أني إذا قلت حرمنا عليك فمعناه حربم عليك المخاطرة والأقدام بلا علم لا أن نفس العين محرمة في الحقيقة كما لو اشتبه على المريض الداء بالدواء فإن أهله يمنعونه منهما لا لأنهما داآن مضران بل لما في المخاطرة من مفسدة مواقعة الضرر وهذا الوصف يشمل العينين جميعا بحيث لو خاطر وتناول إحداهما فكانت هي الحرمة لكان عليه إلا عقوبة المخاطرة وعقوبة آكل الميتة لو خاطر فصادفت مخاطرته المباحة لما كان عليه إلا عقوبة المخاطرة فقط لكن قد يقال إذا صادف الميتة فإن حرمة المخاطرة خشية أن يقع في الميتة فإذا صادف الميتة فهو المحذور فلا يبقى للمخاطرة حكم إذ لا حكم للخوف بعد حصول المخوف
ويمكن أن يقال بل هما ذنبان لهما مفسدتان فإد المخاطرة تفتح جنسان من الشر لا تختص هذه القضية وبالجملة فإنما يحسن إطلاق الإنكار بأن المحرم أحدهما ممن يقول كل مجتهد نصيب بناء على ما قدمته من الشبهة الضعيفة التي تنحل بفهم ما ذكرناه وغيره من جهة أنه ليس يعتقد في الباطن حكما غير الظاهر ولكن من وافقه في هذا الإنكار من الموحدين للصواب من أصحابنا وغيرهم لم يهتدوا لباطن مأخذه الذي يبطل حقيقة قولهم وإنما أنكروا كون المحرمة واحدة باطنا وظاهرا فهذا قريب لأنها محرمه من وجهين ولا يتسع هذا المقام لأكثر من هذا وتلخيص الفرق بين من يقول أن التحريم ليس ثابتا لا باطنا ولا ظاهرا وبين من يثبته باطنا وأن أولئك الأقلين يقولون البلاغ شرط في التحريم الذي هو سبب الذم والعقاب وغيرهما من الأمور فعدمه ينفي نفس التحربم والأكثرين يقولون البلاغ شرط في موجب التحريم ومقتضاه لا في نفسه فعدمه ينفي أثره لا عينه ويسمى نظير الأول مانع السبب ونظير الثاني مانع الحكم بمنزلة السهم المفرق تارة ينكر في نفسه وتارة لا يصادف غرضا يخرقه أو يكون الغرض مصفحا بحديد
وإذا تبين قول الجمهور الذين يثبتون التحليل والتحريم باطنا لا ظاهرا أو ظاهرا لا باطنا وظاهرا أو باطنا فخذ في النظر الثاني وهو أن هذه المنكوحة أو المبيع الذي هو حرام في الباطن أو انعقد بسبب تحريمه في الباطن والمشتري والمستنكح لم يعلما ذلك فإن هذا وطىء المرأة أو أكل هذا الطعام لم يعاقبا على ذلك وهل يقال هو مباح ظاهرا أو يقال ليس بمباح بل هو عفو عفا الله عنه هذا قد تنازع فيه من أثبت التحريم الباطن ومن نفاه وإن كانوا يطلقون تارة عليه أنه حلال في الظاهر ومباح فإنهم يتنازعون هل الحل هنا بمعنى أن الله أذن فيه كما أذن في لحوم الأنعام أو أن الله عفا عنه كما عفا عما لم ينطق بتحريمه ولا تحليله وكما عفا عن فعل الصبي والمجنون وعن فعل من لم تبلغه الرسالة وإنما يقع النزاع في النوع مطلقا وهو أن يقال ما لم يظهر تحريمه أن تعين عمل واحد قد ظهر أنه كان حراما في الباطن فأما ما قام دليل حله ولم يعلم خلافه فلا نقول إلا أنه حلال ثم إن لم يكن كذلك فحكم قولنا حكم فعلنا فمن قال بالأول قال لأن الله نصب دليل الحل وهو العقد وكلام البائع والزوجة الذي سوغ الشارع تصديقهما وخطأ الدليل لا يلزم المستدل إذا كان الشارع قد أذن له في اتباعه
والتحقيق أن يقال هذا مما عفا الله عنه فلم يؤاخذ فيه لأنه من الخطأ الذي عفا الله عنه وهكذا يقال في كل من استحل شيئا لم يعلم الله حرمه وذلك لأن هذا لما لم يعلم السبب الموجب للتحريم كان بمنزلة من لم يبلغه خطاب الشارع كلاهما عادم للعلم بما يدل له على التحريم ومثل هذا قد عفا الله عنه إلا أن الله أباح له إباحة شرعية بمعنى أنه أذن له في ذلك نعم قد يفرق بين ما أستبيح بإمارة شرعية فاختلفت وبين ما فعل لعدم العلم بالتحريم الشرعي كما فرق قوم من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في قتل من لم تبلغه الدعوة من المتمسكين بشريعة منسوخة فأوجبوا ديته وغير المتمسكين فلم يوجبوا ديته وكما قد يفرق بعض أصحابنا وغيرهم بين المستحل بناء على عدم التحريم فيقولون أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه الناسخ ويثبتون حكم التحريم والإيجاب المبتدأ في حقه قبل بلوغ الخطاب ولأصحابنا وغيرهم في هذا الأصل ثلأثة أقوال:
أحدهما: لا يثبت حكم تحريم ولا إيجاب لا مبتدأ ولا ناسخ إلا في حق من قامت عليه الحجة في ذلك الحكم
والثاني: يثبت حكمها قبل العلم والتمكين منه لا بمعنى التأثيم لكن بمعنى الاستدراك أما بإعادة أو نزع ملك
والثالث: يثبت المبتدأ ولا لثبت الناسخ
وليس كلامنا هنا في هذه المسألة وإنما الكلام في أن عدم الإثم في هذه الأقسام الثلاثة نوعا وشخصا في الأحكام المعينة شخصا مثل استحلال هذا الفرج وهذا المال ببيع أو نكاح مع الإنتفاء في الباطن فقط هل لقيام الإباحة الشرعية ظاهرا أو لعدم التحريم الشرعي ظاهرا فإن بين ثبوت التحريم وثبوت التحليل الشرعيين منزلة العفو وهو في كل فعل لا تكليف فيه أصلا قال الله تعالى عفا الله عنها وقال النبي ﷺ: إن من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألة وعنه ﷺ الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه ويفرق بين النوع الذي لم يعلم ناسخه وبين الشخص الذي اعتقد إندراجه في القسم الجائز فإن من علم أن الله أمر باستقبال بيت المقدس فهو على بصيره في نفس هذا الحكم حتى يأتي الناسخ ولم يكن منه خطأ أصلا لا معذور هو فيه ولا غير معذور هو فيه وأما من اعتقد أن هذا البائع صادق أو أن هذه المرأة خلية فهذا اعتقاده في أمر عيني وهو مخطىء في هذا الأعتقاد ولا يمكن أن يقال إن الله أباح هذ ! الاعتقاد المعين والعمل به بل يقال إن الله ما حرم عليه العمل بهذا الاعتقاد المبن
ولهذا فرق الإمام أحمد في رواية ابن الحكم بين من عمل بنص قد جاء فيه نص آخر فمنع أن يسمى مخطئا ومن عمل باجتهاد فقال فيه لا يدري أصاب الحق أم أخطأ إذ كان متبع النص قد علم أن الله أمره باتباع هذا النص المعين ومتبع الاجتهاد لم يعلم أن الله أمره باتباع هذا الاجتهاد المعين ويظهر هذا على دقته بمثال مشهود وهو صلاة من أعتقد أنه على طهارة فإن من الناس المتكلمين وغيرهم من يقول هو مأمور بالصلاة في هذه الحال ومن الفقهاء من يقول هذه الصلاة ليست مأمورا بها ولكن هو اعتقد أنه مأمور بها ولم يعتقد أنه ترك المأمور به ولم يفعله وهذا أصح ولو أدى ما أمر به كما أمره لم يؤمر بالقضاء والله سبحانه لم يقل له إذا اعتقدت أنك على طهارة فصل وإنما قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وقال النبي ﷺ [ لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ ] وقال [ لا يقبل الله صلاة بغير طهور ] ولكن لم يكلفه أن يكون في نفس الأمر على طهارة فإن هذا يشق بل إذا اعتقد أنه على طهارة فإنه لا ينهاه أن يصلي بذلك فإن استمر به هذا الخطأ غفر له لأنه أتى بالمأمور به لكن لأنه لم يتعهد ترك المأمور به بل قصد فعله وفعل ما اعتقده مجزيا فإنه ليس بدون من نسي الصلاة واستمر به النسيان
ومن اعتقد فيما يفعله أنه هو المأمور به ولم يكن كذلك لم نقل أنه مأمور بفعله لكن هذا المعين نقول لم ينه عن إلإتيان به أي لم ينه عنه بمثل الأمر بفعل هذا المعين فإن التعيينات الواقعة في الفعل الممثل به لا يشترط أن يكون مأمورا بها بل يشترط أن لا يكون منهيا عنها والأمر إنما وقع بحقيقة مطلقة بمنزلة من له عند رجل دراهم فوفاه ما يعتقد جيده فظهرت رديئة
فإن المستحق نقد مطلق وكونه هذا النقد أو هذا النقد تعيينات يتأدى بها الواجب لا أن نفس ذلك التعيين واجب فالواجب تأدية ذلك المطلق والتعيينات غير منهى عن شيء منها فإذا قضاه دراهم فعل فيها الواجب الذي هو المطلق واقترن به تعيين لم ينه عنه فلا يضره كذلك المصلي أمر أن يصلي بطهارة فهذه الصلاة المعينة لم يؤمر بعينها بل لم ينه عن عينها وفي عينها المطلق المأمور به فاقترن ما أمر به بما لم ينه عنه وإذا اعتقد أنه على طهارة فالشارع لا ينهاه عن أن يؤدي الفرض بهذا الاعتقاد لا أنه يأمره أن يؤديه بهذا الاعتقاد فإنه لو أداها بطهارة غير هذه جاز فإذا أداه ثم تبين أنه كان محدثا لم يجزه لأن ذلك المعين لم يتضمن المآمور به ولا تضمن أيضا المنهى عنه فتدبر هذا المقام فإنه كثيرا ما يجول في الشريعة وغيرها أصولا وفروعا ومن لم يحكمه بلغت به الشبهات الكلامية التي لم يصحبها نور الهداية إلا أن يلجأ إلى ركن الاتباع الصرف غير جائل في أختيه وهو لعمر الله الركن الشديد والعروة الوثقى لكن يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ومن حققه انجلت عنه الشبهات التي عدها قاطعة من خالف السابقين في تعميم التصويب لكل مجتهد ورد أحكام الله تعالى إلى ظنون المستدلين واعتقادات المخلوقين
وأشكل من هذا إذا أوجب فعل ذلك المعين لإندراجه في قضية نوعية لا لنفس بعينه كالحاكم إذا شهد عنده شاهدان يعتقد عدلهما فيقول الكلامي الظاهري الزاعم التحقيق الحاكم مأمور بأن يقبل شهادة هذين سواء كانا فى نفس الأمر صادقين أو كاذبين وإذا فعل هذا فهو فاعل لحكم الله وإن أسلم المال إلى غير مستحقه في الباطن وهذا غلط فهل رأيت الله يأمر بالخطأ هذا لا يكون من العليم الحكيم لكنه لا بنهي عن الخطأ لأن تكليف العبد إجتناب الخطأ يشق على الخلق وما جعل عليكم في الدين من حرج بل قد يعجز الخلق عن أجتناب الخطأ فعفا عن الخطأ كما نطق به في كتابه في الدعاء الذي دعا به الرسول والمؤمنون
وثبت عن رسول الله ﷺ أنه أخبر عن ربه أنه قال قد فعلت وهو قوله: { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فإنه إنما رفع المؤاخذة بالخطأ وذلك أن الله إنما أمر الحاكم أن يحكم بشهادة العدل المرضى كما جاء به الكتاب والسنة فإذا اعتقد أن هذا المعين عدل لم ينهه أن يحكم بعينه فيجتمع الأمر بالحكم بكل عدل وعدم النهي عن هذا المعين فيحكم به بناء على القدر المشترك المأمور به لا على التعيين الذي لم ينه عنه فإن تبين أنه ليس بعدل تبين أنه ما فعل المأمور به وكان معذورا في أنه ما فعله فهو لا يؤاخذه ويثيبه ثواب من اجتهد في فعل المأمور به لا ثواب من فعل المأمور به ولهذا ينقض حكمه ويوجب عليه الضمان ولو أتى بما أمر به كما أمر به لم يكن نقضا ولا ضمانا
يوضح هذا: أن اعتقاده أن هذا عدل هو طريق يؤدي به المأمور به لا يمكنه غيره بمنزلة من له عليه دين وليس عنده إلا مال في كيس فأداه وقد وجب أداء عينه لا لوجوب عينه لكن لأنه لا يتمكن من أداء الواجب إلا به فإذا تبين زيفا تبين أنه لم يكن طريقا لأداء الواجب كذلك اعتقاد الحاكم والمفتي وغيرهما ليس هو المأمور به ولا داخلا في نوع المأمور به إذا كان خطأ فإن الله ما أمره أن يعمل بعين هذا الاعتقاد بل أمره أن يقبل شهادة العدل ولا طريق له في أداء هذا الأمر إلا باعتقاده فلم ينهه عن العمل بالاعتقاد الذي يؤدي به المأمور به كما لا ينهي القاضي عن أداء ما في الكيس وحقيقة الأمر أن المأمور به مطلق ليس فيه نقص كما في الدين المطلق فإن دين الله يمنزلة دين العبد والديون الثابتة في الذمم لا تثبت إلا مطلقة لكنها إذا أديت فلا تؤدى إلا معينة مشخصة فإن معتق الرقبة لا يعتق إلا رقبة معينه وكذلك المصلي لا يؤدي إلا صلاة معينة وهو ممتثل بذلك المعين ما لم يشتمل على منهى عنه وقد يقال للمعين هذا هو الفرض ويقال للمال الموفى هذا حقك الذي كان علي لما بين الصور المعقولة والحقيقة الموجدة من الاتحاد والمطابقة
وحيث كان الموجود في الخارج هو المقصود من ملك المثل المعقولة المطلقة كما يقال فعلت ما كان في نفسي وحصل الأمر الذي كان في ذهني ونحو ذلك ثم ذلك المعين الذي يؤدي به الواجب قد يقدر المكلف على غيره وقد لا يقدر
فالأول: مثل أن يقدر على عتق عدة رقاب كل واحدة بدلا عن الأخرى وكما يقدر المتوضىء على الصلاة بهذا الوضوء وبوضوء آخر ويقدر المأموم على الصلاة خلف هذا الإمام وخلف إمام آخر فيكون انتقاله من معين إلى معين مفوضا إلى اختياره لا بمعنى أنه لم ينه عن واحد من المعينين وبهذا يظهر الفرق بين الواجب المخير فيه بين أنواع كالكفارة وبين الواجب إذا تعين بالآداء فإن انتقاله في وجوب التخيير من نوع إلى نوع هو بحكم الإذن الشرعي فإن الخطاب الشرعي سمى كل واحد من النوعين وانتقاله في كل واجب من عين إلى عين هو بحكم المشيئة التي لا نهي فيها وفرق بين ما أذن فيه وبين ما لم ينه عنه
والثاني: مثل أن لا يكون عند المكلف ولا يمكنه أن يحصل إلا هذه الرقبة المعينة وبمنزلة مالو حضر وقت الصلاة ولا طهور إلا ماء في محل
فهنا يتعين عليه فعل ذلك المعين لا لأن الشارع أوجب ذلك المعين فإن الشارع لم يوجب إلا رقبة مطلقة وماء مطلقا لكن لأن المكلف لا يقدر على الامتثال إلا بهذا المعين فصار يقينه لعجز العبد عن غيره لا لاقتضاء الشارع له فلو كانت الرقبة كافرة أو الماء نجسا وهو لم يعلم لم يتأذى به الواجب لأن الشارع ما أمره بذلك المعين قط ولا هو متضمن لما أمر به ولكن ما أمره بغيره من الرقاب والمياه في ذلك الوقت لعجزه عن غيره ولا أمره به أيضا لأنه لا يتأدى به المأمور به وإنما كان مأمورا في الباطن بالانتقال إلى البدل الذي هو التراب أو الصيام لكن لم يعلم أنه منهي عنه فلم يؤاخذ به
فإذا قال صاحب هذا الاعتقاد المعين: بأن هذا طهور أتى من الشارع مأمورا به أو ليس بمأمور به ولا بد من أحد الأمرين
قلنا: أما في الظاهر فعليك أن تفعله وأنت مأمور به أيضا بناء على أن مالم يتم الواجب إلا به فهو واجب وأما في الباطن فقد لا يكون مأمورا به
فإن قال: أنا مكلف بالباطن
قلنا: إن أردت بالتكليف أنك تذم وتعاقب على مخالفة الباطن فلست بمكلف به وإن أردت أن ما في الباطن هو المطلوب منك وتركه يقتضي ذمك وعقابك ولكن انتفاء مقتضاه لوجود عذرك وهو عدم العلم فنعم أنت مكلف به وعاد الأمر إلى ما ذكرناه من انتفاء اللوم لانتفاء شرطه لا لعدم مقتضيه وإن الخلاف يعود إلى اعتبار عقلي وإطلاق لفظي فيجوز أن ذلك الماء النجس الذي ليس عنده إلا هو وهو لايعلم بنجاسته ليس مأمورا به في الحقيقة لوجهين:
أحدهما: أنه لا يتأدى به الواجب في الباطن فلا يكون واجبا في الباطن
الثاني: أنه وإن تأدى به فوجوب التعين من باب وجوب ما لا يتم الواجب إلا به ولوازم الواجب ومقدماته ليست في الحقيقة واجبة وجوبا شرعيا مقصودا للأمر فإن الأمر لا يطلبها ولا يقصدها بحال وقد لا يشعر بها إذا كان من المخلوقين والمأمور لا يعاقب على تركها فإنما يعاقب على ترك صوم النهار لا على ترك إمساك طرفيه ومن كان بينه وبين مكة مسافة بعيدة فإنه يعاقب على ترك الحج كما يعاقب ذوا المسافة القريبة أو أقل ولا يعاقب أكثر بناء على أنه ترك قطع تلك المسافة البعيدة التي هي أكثر بناء على أن الواجب عليه أكثر
نعم يثاب أكثر وقد يثاب نواب الواجب لكن الوجوب العقلي الضروري فينبغي أن يفرق بين الوجوب الشرعي الآمري القصدي وبين الوجوب العقلي الوجودي القدري فإن المسببات يجب وجودها عند وجود أسبابها بمعنى أن الله يحدثها حينئذ ويشاء وجودها لا بمعنى أنه أمر بها شرعا ودينا ولا ينازع أحد في أن الأمر بالأسباب الموجبة كالقتل ليس أمرا بمسبباتها الذي هو الإزهاق وكذلك الأسباب لا بد منها في وجود المسببات بمعنى أن الله لا يحدث المسببات ويشاءها إلا بوجود الأسباب لا بمعنى أن الله أمر بالأسباب شرعا ودينا فما لا يتم الواجب إلا به مما هو سابق له أو هو لازم لوجوده إذا لم يكن للشارع فيه طلب شرعي فإنه يجب وجوده وجوبا عقليا إذا امتثل العبد الأمر الشرعي
وهنا قد تنازع العلماء في أن هذا السبب الذي لا بد منه هل هو مأمور به أمرا شرعيا ومن أصحابنا وغيرهم من يقول بذلك وقد يقال هذا واجب بالقصد الثاني لا بالقصد الأول وأنت إذا حققت علمت أن هذا من نمط الذي قبله فإن الله يثيب العبد على ما أحدثه الله من فعله الواجب كالداعي إلى الهدى فإن له أجر من استجاب له إلى يوم القيامة وكالولد الصالح فإن دعاءه مضاف إلى أبيه وإن كان فعل أبيه إنما هو الإيلاج الذي قد يكون واجبا
ومع هذا فلو ترك الواجب لم يعاقب على انتفاء الآثار واللوازم كذلك الله يثيبه على فعل أسباب العمل الواجب ومقدماته كالسير إلى المسجد وإلى النيت والعدو ونحو ذلك وإذا تركها لم يعاقبه إلا على ترك الجمعة والجماعة والحج والجهاد فافهم مثل هذا في الواجب إذا لم يقدر على أدائه إلا بهذا المعين فإن ذلك التعيين إذا فعله أثابه عليه ولو تركه لم يعاقبه على ترك ذلك المعين وإنما يعاقبه على ترك الواجب المطلق بحيث تكون عقوبته وعقوبة من ترك الواجب مع قدرته على عدة أعيان ما سواه أو يكون هذا أقل في الأمر الغالب وإذأ أردت عبارة لا ينازعك فيها جمهور الفقهاء فقل هذا النجس ليس مأمورا به في الباطن وهذا المعين ليس عينه مقصودة الأمر ولا هذا النجس مشتملا على مقصود الأمر فتبين بذلك أن هذا الذي لم يجد إلا ماء وكان في الباطن نجسا إذا قيل أنه مأمور باستعماله فمعناه أنه مأمور في الظاهر دون الحقيقة باستعماله كالأمر بما لا يتم الواجب إلا به
فإذا قلت: أنه مأمور به بمجموع هذين الاعتبارين فلا نزاع معك وإذا قلت ليس بمأمور لانتفاء أحد هذين القيدين فقد أصبت الغرض وعلى هذا يخرج الحكم بشهادة من اعتقد الحاكم عدله فإن الله أمره أن يحكم للمدعي إذا جاءه بذوي عدل ثم لا طريق له إلى تأدية هذا ائواجب إلا باعتقاده فيهما العدل فتعين هذا الاعتقاد المخطىء في الباطن كتعين ذلك الماء النجس في الباطن إذ الاعتقاد هو الذي يمكن من الحكم بالعدل كما أن المعين هو الذي يمكن من وجود المطلق وقد تتعدد الاعتقادات كما تتعين الأعيان فإذا لم يكن عنده إلا اعتقاد العدل فيهما فالشارع ما أمره في الحقيقة باستعمال هذا الاعتقاد المخطىء قط ولا أمر باعتقاد عدل هذا الشخص ولا عدل غيره أمرا مقصودا قط ولكن الواجب عليه من الحكم بذوي عدل لا يتأدى إلا باعتقاد فصار وجوب اتباع الاعتقاد كوجوب إعتاق معين ما
ثم إذا لم يكن عنده إلا اعتقاد عدل هذا الشاهد كما لو لم يكن عنده إلا هذا الماء وهذه الرقبة ثم خطأه في هذا الاعتقاد المعين الذين به يؤدي الواجب عيب في هذا المعين كالعيب في الماء والرقبة
فالتحقيق هو أن يقال لبس مأمورا أن يحكم بهذا الاعتقاد في الحقيقة الباطنة ولا هو مأمور بشيء من الاعتقادات المعينة أمرا مقصودا
نعم هو مأمور أمرا لزوميا باعتقاد عدل من ظهر عدله ومأمور ظاهرا أمرا مقصودا بالحكم بمن اعتقد عدله وهذا بعينه يقال في المعين فإن الله لم يأمره بهذا الاعتقاد الخاطىء وإنما أمره أن يتبع ما أنزل إليه من ربه ثم لم يكن له طريق إلى معرفة ما أنزل الله من الكتاب والحكمة إلا بما قد نصبه من الأدلة فصار وجوب اتباع الأدلة على المنزل من الأخبار ولدلالة اللفظية والعقلية لأنه طريق إلى معرفة المنزل من باب مالا يتم الواجب إلا به
فإذا كان هذا المخبر مخطئا أو هذه الدلالة مخلفة في الباطن لم يكن مأمورا بعينها في الباطن قط وإنما هو مأمور بعينها في الظاهر أمرا لزوميا من باب الأمر بما لا يتم الواجب إلا به ولهذا أختلف الأصحاب وغيرهم هل يقال للمخطىء أنه مخطىء في الحكم كما هو مخطىء في الباطن أو يقال هومصيب في الحكم وإن كان قد خرج بعض الأصحاب رواية بأن كل مجتهد مصيب فهذا ضعيف تخريجا ودليلا ومنشأ ترددهم أن وجوب اعتقاده لما اقتضاه اجتهاده هو من باب ما لا يتم الواجب إلا به لأن الواجب هو اتباع حكم الله ولا سبيل إليه إلا باتباع ما أمكنه من الدليل واتباع دليله اعتقاد موجبه فمن قال إنه مصيب في الحكم فهو بمنزلة من يقول أن الحاكم إذا حكم بشهادة من يعئقده عدلا فقد فعل ما أمر به ظاهرا ومن قال: ليس بمصيب في الحكم قال: لأن وجوب أتباع هذا الدليل المعين هو للوجوب اللزومي العقلي دون الوجوب الشرعي المقصود وإلا فالوجوب الشرعي هو أتباع حكم الله
ولهذا كان أحمد وغيره يفرق بين أن يكون أتى من جهة عجزه أو من جهة الخلاف دليله فإن من حدث بحديث أفتى به تارة يكون المحدث له عدلا حافظا ظاهرا وباطنا لكنه أخطأ في هذا الحديث أو الحديث منسوخ فهنا لم يؤت من جهة نظره بل دليله أخلف وتارة يعتقد هو أن المحدث ثقة ولا يكون ثقة فهنا اعتقاده خطأ لكونه دليلا غير مطابق وإن كان معذورا فيه لدليل اقتضى ثقته فإن خطأ هذا الدليل كخطأ الأول في الحكم
فالأول: حكم بدليل هو عند الله دليل لكن الله سلب دلالته في هذه القضية المعينة ولم يظهر هذا على العلم السالب وهذا كالتمسك بشريعة قد نسخت لم يعلم بنسخها والثاني حكم بما اعتقد دليلا ولم يكن دليلا بل قام عنده ما ظن كونه دليلا كما لو كان اللفظ معرفا باللام فاعتقدها لتعريف الجنس فجعله عاما وكانت لتعريف العهد أو كان معنى اللفظ في لغته غير معناه في لغة الرسول وهو لا يعرف له معنى إلا ما في لغته فهذا حكم بما لم يكن دليلا أصلا لكنه اعتقد دلالته فالأول حكم بمقتض عارضه مانع لم يعلمه
والثاني: بما ليس بمقتضى لاعتقاده أنه مقتضى والأول في اتباعه للدليل كالمستفتي في اتباعه قول من هو مفت ظاهرا وباطنا إذا كان قد أخطأ ولم يعلم المستفتى بذلك فهذا الثاني أخطا في اجتهاده وفي اعتقاده والأول أصاب في اجتهاده لكنه أخطأ في اعتقاده وكلاهما مصيب في اقتصاده
وإذا عرفت هذه الدرجات الثلاث للمجتهد:
أولاها: اقتصاره بحكم الله
الثانية: اجتهاده وهو استنطاق الأدلة بمنزلة استماع الحاكم بشهادة الشهود فتارة يعتقد المجروح عدلا فيكون قد أخطأ في اجتهاده وتارة يكون العدل قد أخطأ فيكون دليله قد أخطأ لا هو
الثالثة: اعتقاده وهو اعتقاد ما نطقت به الأدلة لحكم الحاكم بما شهدت به الشهود ولهذا إذا تبين كفر الشهود كان الضمان على الحاكم ولو تبين غلطهم برجوعهم مثلا كان الضمان عليهم وإذا كان الدليل صحيحا والشاهد عدلا كان مأمورا في الظاهر أن يحكم بعينه في هذه الحال وأما إذا كان الدليل فاسدا والشاهد فاسقا وهو يعتقده صحيحا عدلا فلم يؤمر به ولكن لما اعتقد أنه مأمور به لم يؤاخذ كمن رأى من عليه علامة الكفر فقتله فكان مسلما
قال الإمام أحمد من رواية محمد بن الحكم وقد سأله عن الرواية عن رسول الله ﷺ إذا اختلفت فأخذ الرجل بأحد الحديثين فقال إذا أخذ الرجل بحديث صحيح عن رسول الله ﷺ وأخذ آخر بحديث ضده صحيح عن رسول الله ﷺ فقال: الحق عند الله واحد وعلى الرجل أن يجتهد ويأخذ أحد الحديثين ولا يقول لمن خالفه أنه مخطىء إذا أخذ عن رسول الله ﷺ وأن الحق فيما أخذت به أنا وهذا باطل ولكن إذا كانت الرواية عن رسول الله ﷺ صحيحة فأخذ بها رجل وأخذ آخر عن رسول الله ﷺ واحتج بالشيء الضعيف كان الحق فيما أخذ به الذي احتج بالحديث الصحيح وقد أخطأ الأخر في التاويل مثل لا يقتل مؤمن بكافر واحتج بحديث السلماني قال فهذا عندي مخطىء والحق مع من ذهب إلى حديث رسول الله ﷺ لا يقتل مؤمن بكافر وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى حاكم آخر رد لأنه لم يذهب إلى حديث رسول الله ﷺ الصحيح وإذا روي عن رسول الله ﷺ حديث واحتج به رجل أو حاكم عن أصحاب رسول الله ﷺ كان قد أخطأ التأويل وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى حاكم آخر رد إلى حكم رسول الله ﷺ
وإذا اختلف أصحاب محمد ﷺ وأخذ آخر عن رجل آخر من أصحاب رسول الله ﷺ فالحق عند الله واحد وعلى الرجل أن يجتهد وهو لا يدري أصاب الحق أم أخطأ وهكذا قال عمر والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ ولو كان حكم بحكم عن رسول الله ﷺ لم يقل ما يدري عمر أخطأ أم أصاب ولكن إنما كان رأيا قال: وإذا اختلف أصحاب رسول الله ﷺ وأخذ رجل يقول أصحاب رسول الله ﷺ وأخذ آخر يقول التابعين كان الحق في قول أصحاب رسوله ﷺ ومن قال بقول التابعين كان تأويله خطأ والحق عند الله واحد
ولو أن حاكما حكم في المفلس أنه أسبق الغرماء إذا وجد رجل عين ماله ثم رفع إلى حاكم آخر فذهب إلى حديث رسول الله ﷺ [ رد لحكم هذا الحاكم ] وإنما يجوز حكم الحاكم إذا حكم أن لا يرد إذا اعتدلت الرواية عن رسول الله ﷺ فهذا لا يرد أو يختلف عن أصحاب رسول الله ﷺ فأخذ رجل ببعض قول أصحاب رسول الله ﷺ فهذا لا يرد أو يختلف عن التابعين فأخذ بقول بعضهم فهذا لا يرد فاما إذا كان عن رسول الله ﷺ وأخذ بقول أصحاب رسول الله ﷺ أو بقول التابعين فهذا يرد حكمه لأنه حكم يجور وتأول وذكر حديث زيد بن أرقم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قال قال رسول الله ﷺ: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] قال أبو عبد الله من عمل خلاف ما روي عن النبي ﷺ أو خلاف السنة رد عليه وهذا حديث حسن
وقد بين أبو عبد الله فنون الاختلاف وقسمه خمسة أقسام:
أحدها: أن يتعارض حديثان صحيحان
الثاني: أن يعارض الحديث الصحيح حديث ضعيف
الثالث: أن يعارض قول صاحب
الرابع: أن لا يكون في المسالة نص بل اختلف فيها الصحابة فأخذ بقول بعضهم
الخامس: أن يأخذ بالقول الثالث أو الثاني الذي أحدث بعد اتفاق الصحابة على قول أو قولين وبين أن من خالف النص الصحيح لقول صاحب أو حديث ضعيف أو ترك أقوال الصحابة التي هي إجماع أو كالإجماع إلى قول من بعدهم فهو مخطىء مخالف للحق لأنه ترك الدليل الذي يجب اتباعه إلى ما ليس بدليل وأما إذا تعارض النصان أو فقدا واختلف الصحابة فهنا يجتهد في الراجح ولا يرد حكم من حكم بأحدهما لأن تراجيح الأدلة أو استنباطها عند خفاها هو محل اجتهاد المجتهدين ثم أنه لم يحكم بخطأ من ذهب إلى أحد النصين مع قوله أن الحق عند الله واحد وعند خفاء الأدلة قال لا أدري أصاب الحق أم أخطأ
وهذا تحقيق عظيم وذلك لأن النص دليل قطعا لكن عند معارضة الآخر له هل سلبت دلالته أم لم تسلب هذا محل تردد فإن اعتقد رجحانه اعتقد بقاء دلالته فقد تمسك بما هو دليل لم يثبت سلب دلالته فصار إن كان الحق في القول الآخر كالتمسك بالنص الذي نسخ ولم يعلم نسخه فلا يحكم على مخالفه بالخطأ كما لا يحكم لنفسه بإصابة الحق الذي عند الله
وأما إذا لم يكن نصا وقد اجتهد فقد يكون ما اعتمده من الإستنباط بالرأي تأويلا وقياسا ليس بدليل فلا ندري أنه أصاب كالمتمسك بدليل أم لم يصب فتحرر من كلامه أنه في الباطن ليس المصيب إلا واحد وأما في الظاهر فلا تحكم بالخطأ لمن تمسك بدليل صحيح ولا نحكم بالصواب لمن لا نعلم أنه تمسك بدليل صحيح وهذا التفضيل خير من إطلاق بعض أصحابنا وغيرهم الخطأ في الحكم مطلقا وإطلاق بعضهم الإصابة في الحكم مطلقا
واعلم أن أحمد لم يقل إنه مصيب في الحكم بل قال لا يقال إنه مخطىء لعدم العلم بأنه مخطىء ولأن ذلك يوهم أنه مخطىء في استدلاله وقد اختلف الناس من أصحابنا وغيرهم في المجتهد المخطىء هل يعطى أجرا واحدا على اجتهاده واستدلاله أو على مجرد قصده الحكم
ابن تيمية: إقامة الدليل على إبطال التحليل | ||||||||||||
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | ||||||||||||