الروح/المسألة الخامسة عشرة/فصل هل الأرواح على أفنية القبور
و أما قول من قال: الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدا فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب والسنّة من وجود كثيرة قد ذكرنا بعضها، وسنذكر منها ما لم تذكره إن شاء اللّه.
و إن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا، أولها إشراف على قبورها وهي في مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور.
و قد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر، قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور.
قلت: يريد الأحاديث المتواترة مثل: حديث ابن عمر هذا، ومثل: حديث البراء بن عازب الذي تقدم وفيه: «هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه يوم القيامة»، ومثل حديث أنس أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم، وفيه أنه يرى مقعده من الجنة والنار، وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعا ويضيق على الكافر، ومثل حديث جابر: إن هذه الأمة تبلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملك (الحديث) وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: دعوني أبشر أهلي، فيقال له: أسكن فهذا مقعدك أبدا، ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه التي تقدمت، ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم، وقد تقدم ذكر ذلك كله.
و هذا القول تردده السنّة الصحيحة والآثار التي لا مدفع لها، وقد تقدم ذكره، وكل ما ذكر من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى.
و قد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائما من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن للروح شأنا آخر يكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن، بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد اللّه عليه روحه، فيرد عليه السلام، وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعد من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره.
و هذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السماوات في أعلى عليين، وترد إلى القبر، فترد السلام وتعلم بالمسلم، وهي في مكانها هناك، وروح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرفيق الأعلى، ويردها اللّه سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه وتسمع كلامه، وقد رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم موسى قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة، فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن يكون المتصل منها بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء، وقد ثبت أن روح النائم تصعد حتى تخترق السبع الطباق، وتسجد للّه بين يدي العرش، ثم ترد إلى جسده في أيسر زمان، وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السموات السبع وتقف بين يدي اللّه، فتجد له فيها، ويقضي فيها قضاء، ويريها الملك ما أعد اللّه لها في الجنة، ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن النفس يصعد بها حتى توقف بين يدي اللّه فيقول تعالى: «اكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض فيعاد إلى القبر وذلك في مقدار تجهيزه وتكفينه»، فقد صرح به في حديث ابن عباس حيث قال: فيهبطون على قدر فراغه من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسد وأكفانه.
و قد ذكر أبو عبد اللّه بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن، حدثنا ابن شهاب عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد اللّه عن أبيه قال: أردت مالي بالغابة، فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد اللّه بن عمر بن حزم، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ذلك عبد اللّه، أ لم تعلم أن اللّه قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا يزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت به».
ففي هذا الحديث بيان سرعة انتقال أرواحهم من العرش إلى الثرى ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها، ولهذا قال مالك وغيره من الأئمة: إن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وما يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمر يعلمه عامة الناس ولا يشكون فيه واللّه أعلم.
و أما السلام على أهل القبور وخطابهم فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة وأنها على أفنية القبور، فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى صلى اللّه عليه وآله وسلم يسلم عليه عند قبره ويرد سلام المسلم عليه، وقد وافق أبو عمر رحمه اللّه على أن أرواح الشهداء في الجنة ويسلم عليهم عند قبورهم كما يسلم على غيرهم، كما علمنا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسلم عليهم، وكما كان الصحابة يسلمون على شهداء أحد، وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدم، ولا يضيق عقلك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام، وللروح شأن آخر شأن البدن، وهذا جبريل صلوات اللّه وسلامه عليه رآه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب، وكان من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه ويديه على فخذيه، وما أظنك يتسع بطنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو مستقره. وقد دنا من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا الدنو فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته ومن لم يتسع بطاقة لهذا فهو أضيق أن يتسع للإيمان بالنزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق مساواته على عرشه لا يكون فوقه شي ء البتة، بل هو العالي على كل شي ء وعلوه من لوازم ذاته.
و كذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف، وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه، وإشراق الأرض بنوره، وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسواها ومدها وبسطها وهيأها لما يراد منها. وكذلك مجيئه يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى بها أحد كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد، وهذا هو فوق سماواته على عرشه.
هامش