تفسير المراغي/الجزء الأول
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
المحمود الله، جلت آلاؤه، والمصلى عليه محمد وآله.
وبعد: فإنا لنشاهد في عصرنا الحاضر ميل الناس إلى التزيد في الثقافة الدينية، ولا سيما تفسير الكتاب الكريم والسنة النبوية، وكثيرا ما سئلت أي التفاسير أسهل منالا، وأجدى فائدة للقارئ في الزمن القليل؟ فكنت أقف واجما حائرا لا أجد جوابا عن سؤال السائل، علما مني بأن كتب التفسير على ما فيها من فوائد جمة، وأسرار دينية عظيمة وإيضاح لمغازي الكتاب الكريم، قد حشيت بالكثير من مصطلحات الفنون: من بلاغة ونحو وصرف وفقه وأصول وتوحيد إلى نحو أولئك مما كان عقبة كأداء أمام قارئيها، إلى ما فيها من أقاصيص مجانفة، لوجه الصواب متنكّبة عن حظيرة العقل ووجوه المعارف التي يصح تصديقها، إلى تفسير للقضايا العلمية التي أشار إليها القرآن العزيز بحسب ما أيده العلم في تلك العصور، وقد أثبت العلم في هذا العصر وأيد الدليل والبرهان أنه لا ينبغي التعويل على مثل ما كان معروفا حينئذ، إلى أن هذه المؤلفات وضعت - في عصور قد خلت - بأساليب تناسب أهلها، وكان مؤلفوها يتباهون بإيجازها ويرون ذلك مفخرة لهم، ولكن الزمان وهو الحوّل القلّب غيّر آراء الناس في الموسوعات العلمية، فرأوا أن الكتاب الذي لا يناجيك معناه لدى قراءة لفظه، أولى لك ألا تضيع وقتك في قراءته وكدّ الفكر في الوصول إلى المعمّى من معناه.
ومن ثم نهج الناس في التأليف منهج السهولة والسلاسة مع تحقيق المسائل العلمية حتى تعتز بمظاهرة الدليل والبرهان لها، ونفى الزائف الذي لا يقوم على ساقين، أو يستند إلى عضوين، من تجربة واختبار، وحجة وبرهان.
من جراء هذا رأينا مسيس الحاجة إلى وضع تفسير للكتاب العزيز يشاكل حاجة الناس في عصرنا في أسلوبه وطريق رصفه ووضعه، ويكون داني القطوف، سهل المأخذ يحوى ما تطمئن إليه النفس من تحقيق علمي تدعمه الحجة والبرهان، وتؤيده التجربة والاختبار، ويضم إلى آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين في مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن على نحو ما أثبته العلم في عصرنا، وتركنا الروايات التي أثبتت في كتب التفسير، وهي بعيدة عن وجه الحق مجانفة للصواب، والله أسأل أن يوفقنا للرشاد، ويهدينا إلى سواء السبيل؟
أول المحرم عام 1365 هـ أحمد مصطفى المراغي
عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم
كتاب الله هو دستور التشريع، ومنبع الأحكام التي طلب إلى المسلمين أن يعملوا بها، ففيه بيان الحلال والحرام والأمر والنهي، هو معين الآداب والأخلاق التي أمروا أن يستمسكوا بها، لتكون مصدر سعادتهم، ومنبع هدايتهم، ونيلهم الزّلفى عند ربهم في جنات النعيم فهي الوسيلة لإصلاح حال المجتمع الإسلامي إذا أخذوا بها ولم يحيدوا عن طريقها، وينحرفوا عن سننها.
ومما ساعد على العمل بها أنه نزل منجّما بحسب الحوادث والوقائع في نيف وعشرين سنة، وقد كانت تنزل على الرسول ﷺ الآية أو الآيات في واقعة بعينها فيتدارسها مع صحبه، ويفصل لهم مجملها، ويوضح لهم مبهمها، ويفسر لهم مشكلها، حتى لا تبقى في النفس بقية من لبس، وكان عليه الصلاة السلام الهادي لهم إلى سواء السبيل، والفاتح لهم ما استغلق من أمر دينهم، والمفسر لكتاب الله بسنته القولية وسنته الفعلية كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وظلّ دائبا هكذا حتى لحق بالرفيق الأعلى.
فلا غرو أن كان تفسيره وإيضاح ما أشكل عليهم فهمه منه - هجيراهم من بدء التنزيل في حياة الرسول ﷺ وبعد وفاته، وما زال الأمر كذلك في كل العصور حتى عصرنا، وما طفقت التفاسير تترى وهي مختلفة المناجى والمناهج، فما من عصر إلا جدّت فيه تفاسير تشاكل حاجة ذلك العصر ما بين مطوّل ومختصر كما نشاهد ذلك رأي العين، وإن كتاب الله لفيه من الأسرار ما لم يقف على كنهه جهابذة المفسرين وسيفسره الزمن وتقدم العلوم والفنون، ورقي الفكر الإنساني كما قال سبحانه وتعالى: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
طبقات المفسرين
1 - التفسير في عصر الصحابة:
طفق المسلمون بعد وفاة الرسول ﷺ يتدارسون القرآن، ويتفهمون معناه بطريق الرواية عن صحبه الذين كانوا يجلسون في حضرته كثيرا.
وقد اشتهر بالتفسير عشرة من الصحابة: الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير وأكثر من روى عنه التفسير من الخلفاء علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة الباقين نادرة، وروي عن ابن مسعود المتوفى بالمدينة سنة 32 هـ أكثر مما روى عن علي رضي الله عنه.
أما عبد الله بن عباس المتوفى بالطائف سنة 68 هـ فهو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وشيخ المفسرين، فقد روى عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة، دعا له النبي ﷺ فقال: اللهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل.
قال صاحب كشف الظنون ما نصه:
وأصح الطرق في الرواية عنه:
(1) طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة 143 هـ، وعليها اعتمد البخاري في صحيحه.
(2) طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة 120 هـ عن عطاء بن السائب.
(3) طريق ابن إسحاق صاحب السيرة.
(4) طريق أبى النصر محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 146 هـ وهي أوهى الطرق، ولا سيما إذا وافقتها طريق محمد بن مروان السدي الصغير المتوفى سنة 186 هـ.
وقد طبع تفسير ينسب إلى ابن عباس برواية الفيروزبادي صاحب القاموس، سماه (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس).
وروي عن أبيّ بن كعب المتوفى سنة 20 هـ تفسير كبير رواه عنه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي ﷺ، وكان أقرأ الصحابة وسيد القراء.
وزيد بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة 45 هـ أحد كتاب الوحي، وهو الذي جمع المصحف أولا في عهد أبي بكر، ثم كان رئيس الجماعة الذين كتبوا المصحف في عهد عثمان.
وأبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس الأشعري المتوفي سنة 44 هـ.
2 - التفسير في عهد التابعين
أعلم الناس بالتفسير في هذا العصر:
(ا) علماء مكة أصحاب عبد الله بن عباس، وأشهرهم:
(1) مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 هـ وقد قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري.
(2) سعيد بن جبير المتوفى سنة 94 هـ.
(3) عكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة 105 هـ.
(4) طاوس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة 106 هـ.
(5) عطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة 114 هـ.
قال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. وقال قتادة: كان أعلم التابعين أربعة، كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن 1 أعلمهم بالحلال والحرام.
(ب) علماء الكوفة أصحاب ابن مسعود، وأشهرهم:
(1) علقمة بن قيس المتوفى سنة 102 هـ.
(2) الأسود بن يزيد المتوفى سنة 75 هـ.
(3) إبراهيم النخعي المتوفى سنة 95 هـ.
(4) الشعبي المتوفى سنة 105 هـ.
(ح) علماء المدينة أصحاب زيد بن أسلم العدوي المدني المتوفى سنة 136 هـ، وله تفسير يعدّ من أمهات التفاسير، ومن أشهرهم:
(1) ابنه عبد الرحمن بن زيد المتوفى سنة 182 هـ.
(2) مالك بن أنس المتوفى سنة 179 هـ.
(3) الحسن البصري المتوفى سنة 121 هـ.
(4) عطاء بن أبي مسلم الخراساني المتوفى سنة 135 هـ.
(5) محمد بن كعب القرظي المتوفى سنة 117 هـ.
(6) أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة 90 هـ.
(7) الضحاك بن مزاحم المتوفى سنة 105 هـ.
(8) عطية بن سعيد العوفي المتوفى سنة 111 هـ.
(9) قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117 هـ.
(10) الربيع بن أنس المتوفي سنة 139 هـ.
(11) إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير المتوفى سنة 127 هـ.
3 - طبقة ثالثة جمعت أقوال الصحابة والتابعين:
وأشهر هؤلاء:
(1) سفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هـ.
(2) وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى سنة 197 هـ.
(3) شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هـ.
(4) يزيد بن هرون السلمي.
(5) عبد الرزاق المتوفى سنة 211 هـ.
(6) آدم بن أبي إياس المتوفى سنة 221 هـ.
(7) إسحاق بن راهويه الإمام الحافظ النيسابوري المتوفى سنة 238 هـ.
(8) روح بن عبادة المتوفى سنة 205 هـ.
(9) عبد الله بن حميد الجهني.
(10) أبو بكر بن أبي شيبة الإمام الحافظ الكوفي المتوفى سنة 335 هـ.
4 - الطبقة الرابعة طبقة ابن جرير:
تلت هؤلاء طبقة أخرى، منها:
(1) علي بن أبي طلحة المتوفى سنة 343 هـ.
(2) ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي المتوفى سنة 327 هـ.
(3) ابن ماجه الحافظ أبو عبد الله محمد القزويني المتوفى سنة 273 هـ.
(4) ابن مردويه أبو بكر أحمد بن موسى الأصفهاني المتوفى سنة 410 هـ.
(5) أبو الشيخ بن حبان البستي المتوفى سنة 354 هـ.
(6) إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 236 هـ.
(7) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ وهو من أشهر مفسرى هذا العصر. قال السيوطي في الإتقان: وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وللإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين ا هـ. وقال النووي النيسابوري الشافعي في تهذيبه: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله، وقال أبو إسحاق الاسفرائيني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا، وروى أن ابن جرير قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ قال: ثلاثين ألف ورقة. قالوا هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ذكر ذلك السبكي في طبقاته.
5 - الطبقة الخامسة طبقة المفسرين بحذف الأسانيد:
ألف بعد هؤلاء جماعة من المفسرين لهم تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد، من أشهرهم:
(1) أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن السري النحوي المتوفي سنة 310 هـ وقد سمى تفسيره (معاني القرآن).
(2) أبو على الفارسي الحجة الثبت في اللغة والبلاغة، وصاحب المؤلفات الكثيرة في مختلف الفنون، توفى سنة 377 هـ.
(3) أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي المتوفى سنة 351 هـ.
(4) أبو جعفر النحاس النحوي المصري المتوفى سنة 338 هـ.
(5) مكي بن أبي طالب القيسي النحوي المغربي المتوفى سنة 437 هـ.
(6) أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي المتوفى سنة 430 هـ وله تفسير يسمى (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل).
وقد دخل في التفسير في هذه الفترة الدخيل، إذ نقلت الأقوال بترا محذوفة الأسانيد، فالتبس الصحيح بالعليل، وصار كل من سنح له قول يورده، ومن خطر بباله شيء يعتمده، غير ملتفت إلى ما روى عن السلف الصالح في ذلك، ومن هم القدوة في هذا الباب.
6 - عصر المعرفة الإسلامية:
التقت في البلاد الإسلامية تيارات العقل البشرى حاملة تراث المدنيات والحضارات اليونانية والفارسية والهندية، ومرت بأهلها أعاصير من جدل أهل الكتاب يهودهم ونصاراهم، فكان كل أولئك حافزا للعلماء على أن يؤلفوا موسوعات في التفسير تجمع بين دفتيها فنونا من المعرفة لم يكن لهم بها سابقة عهد، وسار الفكر الإسلامي حرّا طليقا في معرفتها حينا، ومقيدا حينا آخر، يحكّم العقل مرة، ويسلس قياده للنص أخرى، ويميل إلى التقليد حين الضعف والانحلال والركود الفكري.
ولما كان القرآن كتابا سماويا تنزل على قلب أكمل الأنبياء، مشتملا على معارف عالية ومطالب سامية، يجد المنقّب عنها من الهيبة والجلال ما يكاد يحول بينه وبين الوصول إليها - سهل سبحانه الأمر علينا، فلم يطلب منا إلا الفهم والتدبر في كلامه، لأنه نزّله نورا وهدى للناس، وجعله حاويا للشرائع والأحكام التي لا يمكن العمل بها إلا إذا فهمت حق الفهم، واستوضحت مغازيها، وكشفت أسرارها ومراميها، من حيث هي دين إلهي، وهدى سماوي، ترشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتيهم الدنيوية والأخروية، وما سوى ذلك من وجوه النظر والبحث، فتابع لذلك، ووسيلة إليه في التحصيل، ولا يعنينا العناية التي نهتم لها اهتمامنا بالمطلب الأول، لكنّ كثيرا من المفسرين، جعلوا عنايتهم تكاد تكون وقفا على الوسائل دون المقاصد:
(1) فمنهم من وجه النظر إلى البحث في أساليب الكتاب ومعانيه، وبيان ما احتوى عليه من بلاغة وفصاحة، وأطنب في ذلك وجعل مقصده بيان ميزته عن غيره من الكلام وإظهار إعجازه للناس، ليتبين لهم كيف أعجز مقاويل العرب وفصحاءهم، وكيف استخذوا أمامه ووقفوا وأجمعين؟ وكيف لجئوا إلى السيف والسنان، دون مقابلة البرهان بالبرهان؟ وكيف عمّى عليهم الأمر؟ فلم يجدوا لرد التحدي سبيلا.
وقد سلك هذا المسلك الزمخشري في كشافه، فألمّ بالكثير من مقاصد البلاغة، وأبدع فيها أيّما إبداع، ونحا نحوه خلق كثير.
(2) ومنهم من وجه النظر إلى إعرابه وتوسع في بيان وجوهه، حتى كأن القرآن لهذا أنزل، وممن سلك هذا المسلك الزجاج في تفسيره معاني القرآن، والواحدي النيسابوري في تفسيره (البسيط) وأبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي في البحر المحيط
(3) ومنهم من وجه النظر إلى القصص والأخبار عمن سلف، وقد نحا هذا النحو أقوام زادوا في قصص القرآن ما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات. وليتهم اقتصروا على النقل من التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة لدى أهل الكتاب، لكنهم أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غث وسمين، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل، ومن أشهر هؤلاء الثعلبي، وصاحب الخازن علاء الدين بن محمد البغدادي المتوفى سنة 741 هـ.
(4) ومنهم من وجّه همه إلى الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وكيفية استنباطها من الآيات، وربما استطردوا إلى إقامة الأدلة عليها، والرد على المخالفين مما لا تعلق له بالتفسير كما فعل القرطبي في تفسيره.
(5) ومنهم من عنى بالكلام في أصول العقائد ومقارعة الزائغين، ومحاجة المخالفين وللإمام الرازي المتوفى سنة 610 هـ في ذلك القدح المعلّى في تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب، فقد خرج فيه من باب إلى باب، حتى ليقضى الناظر العجب من صنيعه. ومن ثمّ قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: جمع الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة إليها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: تفسيره فيه كل شيء إلا التفسير ا هـ.
(6) ومنهم من اتجه إلى الوعظ والرقائق ممزوجة بحكايات المتصوفة والعبّاد، وفى بعضها خروج عن حدود الفضائل والآداب التي جرى عليها القرآن.
(7) ومنهم من سلك طريق التفسير بالإشارة إلى دقائق لا تنكشف إلا لأرباب السلوك، ويمكن إرادتها مع إرادة ظاهر المعنى، وقال إن ذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان.
ولقد نعلم أن الإكثار في مقصد من هذه المقاصد يدخل النقص على الغرض الأصلي من تفسير الكتاب الكريم، وهو فهم الكتاب من حيث هو دين وهداية للناس في دنياهم وآخرتهم.
7 - طريق كتابة القرآن الكريم:
من المعروف أن لكتابة القرآن طريقا خاصة تخالف الطريق التي اتبعها العلماء فيما بعد ودرجوا عليها، ودوّنوا فيها كتبا تعرف بعلم رسم الحروف، أو علم الإملاء، وبه كتبت جميع المؤلفات من القرن الثالث فما بعده إلى اليوم.
أما كتابة المصحف فهي تابعة للطريق التي كتب بها المصحف في عهد عثمان ابن عفان الخليفة الثالث على يد جماعة من كبار الصحابة وتسمى (الرسم العثماني) وقد اتبع فيها نهج خاص يخالف ما اتبع فيما بعد في كثير من المواضع، ومن ثم قيل: خطان لا يقاس عليهما: خط العروض، وخط المصحف العثماني.
آراء العلماء في التزام الرسم العثماني في كتابة المصاحف
الرأي الأول - عبر عنه الإمام أحمد بقوله: تحرم مخالفة خط عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك. وقال أبو عمرو الداني: لا مخالف لما حكى عن مالك من وجوب الكتابة على الكتبة الأولى من علماء الأمة.
الرأي الثاني: أن رسم المصاحف اصطلاحي لا توقيفي، وعليه فتجوز مخالفته، ومن جنح إلى هذا الرأي ابن خلدون في مقدمته، وممن تحمس له القاضي أبو بكر في الانتصار، إذ قال: وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن وخطاطي المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله ﷺ كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى عن كتابته بغيره.
ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه أن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوّج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط المصاحف، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حدّ محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذان.
والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجرى مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دالّ على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكتابة به على أي صورة كانت.
وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وإني له ذنك؟ ا هـ.
الرأي الثالث: يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان إلى ما يفهم من كلام العز بن عبد السلام، من أنه يجوز بل يجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم، ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن يجب في الوقت نفسه المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار النفيسة الموروثة عن سلفنا الصالح، فلا يهمل مراعاته لجهل الجاهلين، بل يبقى في أيدي العارفين الذين لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان قال:
واما كتابته (المصحف) على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل الشرق بناء على كونها أبعد من اللبس، وثحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك، وقد سئل هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال: لا. إلا على الكتبة الأولى.
قال في البرهان: قلت وهذا كان في الصدر الأول والعلم حي غض، وأما الآن فقد يخشى الالتباس، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدى إلى دروس العلم، وشىء قد أحكمه القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بهجته ا هـ.
وقد جرينا على الرأي الذي أوجبه العز بن عبد السلام في كتابة الآيات أثناء التفسير العلة التي ذكرها، وهي في عصرنا أشد حاجة إليها من تلك العصور، على أن الخلاف بينهم في المصحف لا في القرآن ولو أثناء التفسير كما فعلنا.
خدمتي للغة العربية والكتاب الكريم
لقد سعدت بخدمتي للغة العربية نحو نصف قرن درسا وتدريسا، وتأليفا وتصنيفا، أتتبع أساليبها في آي القرآن الحكيم، وحديث رسول الله ﷺ، والشعر والنثر، حتى وجدتني كلفا، بأن أتوج خدمتي لهذه اللغة بتفسير آي الذكر الحكيم مع تسميته « تفسير المراغي ».
وقصاراي أن أسير في قافلة الحاملين لمشعل المعرفة الإسلامية، مؤديا بعض ما يجب علي نحو الكتاب الكريم من الكشف عن بعض أسراره ومغازيه.
نهجنا الذي سلكناه في هذا التفسير
رأينا أن ندلى إليك أيها القارئ الكريم، بالنهج الذي اتبعناه في التأليف، لتكون على بينة من أمره:
(1) ذكر الآيات في صدر البحث:
صدّرنا كل بحث بآية أو آيتين أو آيات من الكتاب الكريم، سيقت لتؤدى غرضا واحدا.
(2) شرح المفردات:
أردفنا ذلك تفسير مفرداتها اللغوية، إن كان فيها بعض الخفاء على كثير من القارئين.
(3) المعنى الجملي للآيات:
أتبعنا ذلك بذكر المعنى الجملي لهذه الآية أو الآيات ليتجلّى للقارئ منها صورة مجملة حتى إذا جاء التفسير وضح ذاك المجمل.
(4) أسباب النزول:
أعقبنا ذلك بما ورد من أسباب النزول لهذه الآيات، إن صح شيء من ذلك لدى المفسرين بالمأثور.
(5) الإعراض عن ذكر مصطلحات العلوم:
ضربنا صفحا عن ذكر مصطلحات العلوم: من نحو وصرف وبلاغة إلى أشباه ذلك، مما أدخله المفسرون في تفاسيرهم، فكان من العوائق التي حالت بين جمهرة الناس وقراءة كتب التفسير، فقد وجدوا طلّسمات وألغازا يصعب عليهم فهمها والسير قدما في استيعاب قراءة التفسير، لأنها من ألوان الصناعات التي يخصّ بها قوم من الناس، وتكون عونا لهم على فهم الأساليب العربية فهم دراسة وتعمق، كما يخصّ قوم من الأمة بالحياكة والنجارة والحدادة إلى أشباه ذلك.
(6) أسلوب المفسرين:
رأينا أن الأساليب التي كتبت بها كتب التفسير وضعت في عهود سحيقة بأساليب تناسب أهل العصور التي ألفت فيها ويسهل عليهم فهمها، وأن جمهرتهم أوجزوا في القول وعدّوا ذلك مفخرة لهم.
ولما كان لكل عصر طابع خاص يمتاز به عن غيره في آداب أهله وأخلاقهم وعاداتهم وطرائق تفكيرهم - وجب على الباحثين في هذا العصر مجاراة أهله في كل ما نقدّم، فكان لزاما علينا أن نتلمس لونا من التفسير لكتاب الله بأسلوب عصرنا موافقا لأمزجة أهله، فأساس التخاطب أن لكل مقام مقالا، وأن الناس يخاطبون على قدر عقولهم، وقد رأينا أن نشيد فيه بجهود السابقين معترفين بفضلهم، مستندين إلى آرائهم.
وقد سلكنا في الوصول إلى فهم الآيات التي أشارت إلى بعض نظريات في مختلف الفنون استطلاع آراء العارفين بها، فاستطلعنا آراء الطبيب النطاسي، والفلكي العارف والمؤرخ الثّبت، والحكيم البصير ليدلى كل برأيه فيما تمهّر فيه، لنعلم ما أثبته العلم وأنتجه الفكر، فيكون كلامنا معتزا بكرامة المعرفة التي تشرف بتفهم كتاب الله، فرجل الدين حامل لوائها، عليه أن يسأل العلم دائما ليستبصر بما ثبت لديه، ويساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلا، فإن قعدت به همته إلى الموروث من قضاياه لدى الماضين ركب شططا وازداد بعدا عن الحقيقة، وتضاءل أمام نفسه وأمام قارئي بحوثه ومؤلفاته.
(7) ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم:
يمتاز هذا العصر بميل أهله لسهولة الكلام ليفهم الغرض المراد منه حين التخاطب، دون احتياج إلى النقاش وصنوف التأويل، ومن ثم كان أهم ما عنيت به أن أقرأ في الموضوع الواحد ما كتبه أعلام المفسرين على اختلاف نزعاتهم وتباين أزمنتهم حتى إذا اطمأننت إلى فهم ما قرأت وتمثلته وهضمته، كتبته بأسلوب العصر الحاضر، وهذا هو نهجي في تأليف هذا التفسير.
وما حملني على ركوب هذا المركب الخشن، واقتحام هذه العقبات إلا انصراف القارئين عن قراءة كتب التفسير التي بين أيدينا، بدعوى أنها صعبة المدخل مفعمة بكثير من المصطلحات التي لا يعلمها إلا من أتقن هذه الفنون، واستبدلت بأساليب المؤلفين أسلوبا سهل المأخذ قليل الكلفة في الفهم، حتى يستطيع القارئ أن يلمّ بأسرار كتاب الله دون كدّ ولا نصب.
(8) تمحيص روايات كتب التفسير:
أشار الكتاب الكريم إلى كثير من تاريخ الأمم الغابرة التي حلّ بها العذاب على ما اجترحت من الآثام، وإلى بدء الخلق وتكوين الأرض والسموات، ولم يكن لدى العرب من المعرفة ما يستطيعون به شرح هذه المجملات التي أشار إليها الكتاب، إذ كانوا أمة أمية في صحراء نائية عن مناهل العلم والمعرفة، والإنسان بطبعه حريص على استكناه المجهول، واستيضاح ما عزّت عليه معرفته، فألجأتهم الحاجة إلى الاستفسار من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا سيما مسلمتهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، ووهب بن منبّه، فقصّوا عليهم من القصص ما ظنوه تفسيرا لما خفي عليهم فهمه من كتابهم، ولكنهم كانوا في ذلك كحاطب ليل، يجمع بين الشذرة والبعرة، والذهب والشبه، إذ لم تكن علوم القصّاص ممحّصة ولا مهذبة، بل كان ينقصها الميزان العلمي الذي به يتعرّف جيّد الرأي من بهرجه، وصحيحه من سقيمه، فساقوا إلى المسلمين من الآراء في تفسير كتابهم ما ينبذه العقل، وينافيه الدين، وتكذبه المشاهدة، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم في العصور اللاحقة.
وما كان مثلهم ومثل العرب الذين استوضحوهم بعض ما استعصى عليهم فهمه، إلا مثل السائح الأوربي إذا جاء إلى سفح الأهرام بمصر، وسأل العرب الضاربين خيامهم حولها. لم بنيت الأهرام؟ ومن بناها؟ ومتى بنيت؟ وكيف بنيت؟ فيجيبونه إجابات بعيدة عن الحقيقة ومجانفة وجه الصواب.
ومن ثم رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول، ولم نر فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة، وأشرف لتفسير كتاب الله، وأجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية، لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة.
(9) عدد أجزاء هذا التفسير:
جعلت تفسيري ثلاثين جزءا، لكل جزء من القرآن الكريم جزء خاص من التفسير، ليسهل على القارئ حمل هذا الجزء واستصحابه معه في حله وترحاله، في قطر السكك الحديدية، وفى الترام، وفى كل مكان ينتقل إليه.
وكان من فأل الطالع أن بدئ بطبع هذا التفسير في أول العام الهجري الجديد عام 1365 هـ.
والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يوفقنا لخدمة دينه ولغة كتابه الكريم؟
أحمد مصطفى المراغي
مراجع التفسير
(1) تفسير أبى جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ.
(2) تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل لأبي القاسم جار الله الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ.
(3) حاشية شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة 713 هـ على الكشاف.
(4) أنوار التنزيل للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة 692 هـ.
(5) تفسير أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفي في رأس المائة الخامسة.
(6) تفسير البسيط للإمام أبى الحسن الواحدي النيسابوري المتوفى سنة 468 هـ.
(7) التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي، المتوفي سنة 610 هـ.
(8) تفسير الحسين بن مسعود البغوي المتوفى سنة 516 هـ.
(9) غرائب القرآن لنظام الدين الحسن بن محمد القمي.
(10) تفسير الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 هـ.
(11) البحر المحيط لأثير الدين أبى حيان محمد بن يوسف الأندلسي المتوفى سنة 745 هـ.
(12) نظم الدرر في تناسب الآي والسور لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة 885 هـ.
(13) تفسير أبي مسلم الأصفهاني المتوفى سنة 459 هـ.
(14) تفسير القاضي أبي بكر الباقلاني.
(15) تفسير الخطيب الشربيني المسمى بالسراج المنير.
(16) روح المعاني للعلامة الآلوسي.
(17) تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا وهو تفسير مقتبس من دروس الأستاذ الإمام محمد عبده، وقد كان له فضل كبير فيما اقتبسناه أثناء تفسير الأجزاء التي فسرها.
(18) تفسير الجواهر للأستاذ طنطاوي جوهري.
(19) سيرة ابن هشام.
(20) شرح العلامة ابن حجر للبخاري
(21) شرح العلامة العيني للبخاري.
(22) لسان العرب لابن منظور الإفريقي المتوفى سنة 711 هـ.
(23) شرح القاموس للفيروزبادي المتوفى سنة 816 هـ.
(24) أساس البلاغة للزمخشري المتوفى سنة 548 هـ.
(25) الأحاديث المختارة للضياء المقدسي.
(26) طبقات الشافعية لابن السبكي.
(27) الزواجر لابن حجر.
(28) أعلام الموقعين لابن تيمية.
(29) الإتقان في علوم القرآن للعلامة السيوطي.
(30) مقدمة ابن خلدون.
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة (1): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
السورة طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر لها اسم يعرف بطريق الرواية، وقد روى لهذه السورة عدة أسماء اشتهر منها: أم الكتاب، أم القرآن. (لاشتمالها على مقاصد القرآن من الثناء على الله والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده)، والسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة)، والأساس (لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه)، والفاتحة (لأنها أول القرآن في هذا الترتيب أو أول سورة نزلت)
فقد أخرج البيهقي في كتابه الدلائل عن أبي ميسرة « أن رسول الله ﷺ قال لخديجة: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا. فقالت معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرّحم وتصدق. ثم إنه ﷺ أخبر ورقة بذلك، وإن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء، وإنه ﷺ لما خلا ناداه الملك يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين - حتى بلغ ولا الضالين ».
وقد رجح هذا بأنها مشتملة على مقاصد القرآن على سبيل الإجمال، ثم فصل ما أجملته بعد.
بيان هذا أن القرآن الكريم اشتمل على التوحيد، وعلى وعد من أخذ به بحسن المثوبة ووعيد من تجافى عنه وتركه بسىء العقوبة، وعلى العبادة التي تحيى التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس، وعلى بيان سبيل السعادة الموصل إلى نعيم الدنيا والآخرة، وعلى القصص الحاوي أخبار المهتدين الذين وقفوا عند الحدود التي سنها الله لعباده، وفيها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، والضالين الذين تعدّوا الحدود، ونبذوا أحكام الشرائع وراءهم ظهريا.
وقد حوت الفاتحة هذه المعاني جملة، فالتوحيد يرشد إليه قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لأنه يدل على أن كل ثناء وحمد يصدر عن نعمة فهو له، ولن يكون هذا إلا إذا كان عز اسمه مصدر النعم التي تستوجب الحمد، وأهمها نعمة الإيجاد والتربية وذلك صريح قوله: (رَبِّ الْعالَمِينَ) وقد استكمله بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وبذلك اجتثّ جذور الشرك التي كانت فاشية في جميع الأمم، وهي اتخاذ أولياء من دون الله يستعان بهم على قضاء الحاجات ويتقرب بهم إلى الله زلفى.
والوعد والوعيد يتضمنهما قوله: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إذ الدين هو الجزاء وهو إما ثواب للمحسن وإما عقاب للمسيء.
والعبادة تؤخذ من قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
وطريق السعادة يدل عليه قوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ معناه أنه لا تتم السعادة إلا بالسير على ذلك الصراط القويم، فمن خالفه وانحرف عنه كان في شقاء مقيم.
والقصص والأخبار يهدى إليها قوله: (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فهو يرشد إلى أن هناك أمما قد مضت وشرع الله شرائع لهديها فاتبعتها وسارت على نهجها، فعلينا أن نحذو حذوها ونسير على سننها.
وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يدل على أن غير المنعم عليهم صنفان:
صنف خرج عن الحق بعد علمه به، وأعرض عنه بعد أن استبان له، ورضى بما ورثه عن الآباء والأجداد وهؤلاء هم المغضوب عليهم، وصنف لم يعرف الحق أبدا أو عرفه على وجه مضطرب مهوش، فهو في عماية تلبس الحق بالباطل وتبعد عن الجادة الموصلة إلى الصراط السوي، وهؤلاء هم الضالون.
وهذه السورة إحدى السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي ﷺ إلى المدينة، وعدة آيها سبع.
وقد نزل القرآن الكريم منجّما أي مفرقا في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث
التي دعت إلى نزوله، وقد نزل بعضه بمكة قبل الهجرة وبعضه بالمدينة بعدها، ولكل من المكي والمدني ميزات يعرف بها.
ميزات المكي:
فمن ميزات المكي أنه نزل لبيان أسس الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين، وفعل الخيرات وترك المنكرات، مع إيجاز في التعبير، واختصار في الأسلوب، ويتضح ذلك جليا في قصار المفصّل كالحاقة والواقعة والمرسلات.
ميزات المدني:
ومن ميزات المدني أنه جاء بأحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية في السلم والحرب، وأصول التشريع للحكومات الإسلامية، إلى إسهاب في الأسلوب وبسطة في القول، ولا سيما عند محاجة أهل الكتاب، والنعي عليهم بتحريف ما أنزل إليهم ودعوتهم إلى التوحيد الخالص، وبيان أن الإسلام الذي جاء به القرآن هو دين الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
يرى بعض الصحابة كأبي هريرة وعلي وابن عباس وابن عمر، وبعض التابعين كسعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك وبعض فقهاء مكة وقرائها ومنهم ابن كثير، وبعض قراء الكوفة وفقهائها ومنهم عاصم والكسائي والشافعي وأحمد، أن البسملة آية من كل سورة من سورة القرآن الكريم.
ومن أدلتهم على ذلك:
(1) إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة عدا سورة براءة، مع الأمر بتجريد القرآن من كل ما ليس منه، ومن ثم لم يكتبوا (آمين) في آخر الفاتحة.
(2) ما ورد في ذلك من الأحاديث، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ: « أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم »، وروى أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان لا يعرف انقضاء السورة، حتى ينزل عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
وروى الدارقطني عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال « إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرّحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرّحمن الرحيم إحدى آياتها ».
(3) أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، والبسملة بينهما فوجب جعلها منه.
ويرى مالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعي وجماعة من علماء الشام، وأبو عمرو يعقوب من قراء البصرة وهو الصحيح من مذهب أبى حنيفة - أنها آية مفردة من القرآن أنزلت لبيان رءوس السور والفصل بينها.
ويرى عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا وهو رأي بعض الحنفية.
ومن أدلتهم على ذلك حديث أنس قال: صليت خلف النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها.
الإيضاح
(بسم) الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات كمحمد وإنسان، أو معنى كعلم وأدب.
وقد أمرنا الله بذكره وتسبيحه في آيات فقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) وقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) وقال: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِكُمْ).
وأمرنا بذكر اسمه وتسبيحه في آيات أخرى فقال: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) وقال: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وقال: (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).
ومن ذلك يعلم أن ذكر المسمى مطلوب بتذكر القلب إياه ونطق اللسان به لتذكر عظمته وجلاله ونعمه المتظاهرة على عباده، وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر إليه وطلب المعونة منه على إيجاد الأفعال وإحداثها.
وذكر الاسم مشروع ومطلوب كذلك، فيعظم الاسم مقرونا بالحمد والشكر وطلب المعونة في كون الفعل معتدا به شرعا، فإنه ما لم يصدّر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم.
(اللَّهِ) علم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره تعالى، وكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلق السموات والأرض؟ يقول الله: وإذا سئل هل خلقت اللات والعزّى شيئا من ذلك؟ يجيب (لا).
والإله اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق.
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كلاهما مشتق من الرحمة وهي معنى يقوم بالقلب يبعث صاحبه على الإحسان إلى سواه، ويراد منها في جانب المولى عزّ اسمه أثرها وهو الإحسان.
إلا أن لفظ (الرَّحْمنِ) يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة وهي إسباغ النعم والإحسان، ولفظ (الرَّحِيمِ) يدل على منشأ هذه الرحمة، وأنها من الصفات الثابتة اللازمة له، فإذا وصف الله جل ثناؤه بالرحمن استفيد منه لغة أنه المفيض للنعم، ولكن لا يفهم منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما. وإذا وصف بعد ذلك بالرحيم علم أن لله صفة ثابتة دائمة هي الرحمة التي يكون أثرها الإحسان الدائم وتلك الصفة على غير صفات المخلوقين، وإذا يكون ذكر الرحيم بعد الرحمن كالبرهان على أنه يفيض الرحمة على عباده دائما لثبوت تلك الصفة له على طريق الدوام والاستمرار.
افتتح عزّ اسمه كتابه الكريم بالبسملة إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها، وقد ورد في الحديث « كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر » (أي مقطوع الذنب ناقص).
وقد كان العرب قبل الإسلام يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات أو باسم العزى، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا مرضاة لملك أو أمير يقول أعمله باسم فلان، أي إن ذلك العمل لا وجود له لولا ذلك الملك أو الأمير.
وإذا فمعنى أبتدئ عملي باسم الله الرحمن الرحيم أننى أعمله بأمر الله ولله لا لحظ نفسي وشهواتها.
ويمكن أن يكون المراد - أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله ولو لا ما أعطاني من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي، بل هو باسمه تعالى، لأننى أستمد القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله، وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم، أن جميع ما جاء في القرآن من الأحكام والشرائع والأخلاق والآداب والمواعظ - هو لله ومن الله ليس لأحد غيره فيه شيء، وكأنه قال اقرأ يا محمد هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم، أي اقرأها على أنها من الله لا منك، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وكذلك كان النبي ﷺ يقصد من تلاوتها على أمته أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه أي أنها من الله لا منه، فإنما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى كما جاء في قوله:
(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ).
[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 7]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الحمد لغة هو المدح على فعل حسن صدر عن فاعله باختياره سواء أسداه إلى الحامد أو إلى غيره.
والمدح يعم هذا وغيره فيقال مدح المال، ومدح الجمال، ومدح الرياض.
والثناء يستعمل في المدح والذم على السواء، فيقال أثنى عليه شرا، كما يقال أثنى عليه خيرا.
والشكر هو الاعتراف بالفضل إزاء نعمة صدرت من المشكور بالقلب أو باللسان أو باليد أو غيرها من الأعضاء كما قال شاعرهم:
أفادتكم النعماء منّى ثلاثة يدي ولساني والضّمير المحجّبا
يريد أن يدي ولساني وقلبي لكم، فليس في القلب إلا نصحكم ومحبتكم، ولا في اللسان لا الثناء عليكم ومدحكم، ولا في اليد وسائر الجوارح والأعضاء إلا مكافأتكم وخدمتكم.
وورد في الأثر - الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده.
وقد جعله رأس الشكر، لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على من أسداها، يشهرها بين الناس ويجعل صاحبها القدوة المؤتسى به، أما الشكر بالقلب فهو خفي قل من يعرفه، وكذلك الشكر بالجوارح منهم لا يستبين لكثير من الناس.
(الله) هو المعبود بحق لم يطلق على غيره تعالى.
(رب) هو السيد المربّي الذي يسوس من يربّيه ويدبّر شئونه.
وتربية الله للناس نوعان، تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشد وتنمية قواهم النفسية والعقلية - وتربية دينية تهذيبية تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم وتصفو نفوسهم - وليس لغيره أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحلّ شيئا ويحرم آخر إلا بإذن منه.
ويطلق الرب على الناس فيقال رب الدار، ورب هذه الأنعام كما قال تعالى حكاية عن يوسف صلوات الله عليه في مولاه عزيز مصر (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) وقال عبد المطلب يوم الفيل لأبرهة قائد النجاشي: أما الإبل فأنا ربّها، وأما البيت فإن له ربّا يحميه.
(العالمين) واحدهم عالم (بفتح اللام) ويراد به جميع الموجودات، وقد جرت عادتهم ألا يطلقوا هذا اللفظ إلا على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء إن لم تكن منهم، فيقولون عالم الإنسان، وعالم الحيوان وعالم النبات، ولا يقولون عالم الحجر، ولا عالم التراب، ذاك أن هذه العوالم هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يفيده لفظ (رب) إذ يظهر فيها الحياة والتغذية والتوالد.
والخلاصة - إن كل ثناء جميل فهو لله تعالى إذ هو مصدر جميع الكائنات.
وهو الذي يسوس العالمين ويربيهم من مبدئهم إلى نهايتهم ويلهمهم ما فيه خيرهم وصلاحهم، فله الحمد على ما أسدى، والشكر على ما أولى:
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قد سبق أن قلنا: إن معنى الرّحمن المفيض للنعم المحسن على عباده بلا حصر ولا نهاية، وهذا اللفظ خاص بالله تعالى ولم يسمع عن العرب إطلاقه على غيره تعالى إلا في شعر لبعض من فتن بمسيلمة الكذاب:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا وأنت غيث الورى لازلت رحمانا
والرّحيم هو الثابت له صفة الرحمة التي عنها يكون الإحسان.
وقد ذكر سبحانه هذين الوصفين ليبين لعباده أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان، ليقبلوا على عمل ما يرضيه وهم مطمئنو النفوس منشر حو الصدور، لا ربوبية جبروت وقهر لهم.
والعقوبات التي شرعها الله لعباده في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة لمن تعدّى حدوده وانتهك حرماته - هي قهر في الظاهر ورحمة في الحقيقة، لأنها تربية للناس وزجر لهم حتى لا ينحرفوا عن الجادة التي شرعها لهم إذ في اتباعها سعادتهم ونعيمهم، وفى تجاوزها شقاؤهم وبلاؤهم، ألا ترى إلى الوالد الرءوف كيف يربّى أولاده بالترغيب في عمل ما ينفع والإحسان إليهم إذا لزموا الجادّة، فإذا هم حادوا عن الصراط السوي لجأ إلى الترهيب بالعقوبة حين لا يجد منها محيصا، قال أبو تمام:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قرأ بعض القرّاء مالك، وبعض آخر ملك، والفارق بينهما أن المالك هو ذو الملك (بكسر الميم) والملك هو ذو الملك (بضم الميم) وقد جاء في الكتاب الكريم ما يعاضد كلّا من القراءتين، فيعاضد الأولى قوله: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) ويعاضد الثانية قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ).
قال الراغب: والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة، فالثانية يكنفها من الجلال والرّوعة وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله في القراءة الأولى، فهي تدلّ على أنه سبحانه هو المتصرف في شئون العقلاء بالأمر والنهي والجزاء، ومن ثمّ يقال ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء:
والدين يطلق لغة على الحساب، وعلى المكافأة، وعلى الجزاء، وهو المناسب هنا، وإنما قال مالك يوم الدين، ولم يقل مالك الدين ليعلم أن للدين يوما معينا يلقى فيه كل عامل جزاء عمله.
والناس وإن كانوا يلاقون جزاء أعمالهم في الدنيا باعتبارهم أفرادا من بؤس وشقاء جزاء تفريطهم في أداء الحقوق والواجبات التي عليهم - فربما يظهر ذلك في بعض دون بعض، فإنا نرى كثيرا من المنغمسين في شهواتهم يقضون أعمارهم وهم متمتعون بلذاتهم، نعم إنهم لا يسلمون من المنغّصات، وربما أتتهم الجوائح في أموالهم، واعتلّت أجسامهم، وضعفت عقولهم، ولكن هذا لا يكون جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات، وكبير المنكرات، كذلك نرى كثيرا من المحسنين يبتلون بهضم حقوقهم ولا ينالون ما يستحقون من حسن الجزاء، نعم إنهم ينالون بعض الجزاء بإراحة ضمائرهم وسلامة أجسامهم وصفاء ملكاتهم وتهذيب أخلاقهم، ولكن ليس هذا كلّ ما يستحقون من الجزاء، فإذا جاء ذلك اليوم استوفى كل عامل جزاء عمله كاملا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، جزاء وفاقا لما عمل (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
أما الناس باعتبارهم أمما وجماعات فيظهر جزاؤهم في الدنيا ظهورا تاما، فما من أمّة انحرفت عن الصراط السوي، ولم تراع سنة الله في الخليقة إلا حلّ بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى، وذلّ بعد عزة، ومهانة بعد جلال وهيبة.
وقد جاء قوله: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إثر قوله: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليكون كترهيب بعد ترغيب، وليعلمنا أنه تعالى ربّى عباده بكلا النوعين من التربية، فهو رحيم بهم، ومجاز لهم على أعمالهم كما قال: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ).
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) العبادة خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأن له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته لأنه أعلى من أن يحيط به فكره، أو يرقى إليه إدراكه.
فمن يتذلل لملك لا يقال إنه عبده، لأن سبب التذلل معروف، وهو إما الخوف من جوره وظلمه، وإما رجاء كرمه وجوده.
وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان، وكلها شرعت لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى، والملكوت الأسمى، ولتقويم المعوجّ من الأخلاق وتهذيب النفوس، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هي العبادة التي شرعها الدين.
هاك الصلاة تجد أن الله أمرنا بإقامتها والإتيان بها كاملة وجعل من آثارها أنها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما قال: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فإن لم يكن لها هذا الأثر في النفوس كانت صورا من الحركات والعبارات خالية من روح العبادة وسرها، فاقدة جلالها وكمالها، وقد توعد الله فاعلها بالويل والثبور ذفقال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) فهم وإن سماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبّها، وهو توجه القلب إلى الله والإخبات إليه وهو المشعر بعظمته، وقد جاء في الحديث: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا. وأنها تلفّ كما يلفّ الثوب البالي ويضرب بها وجهه.
والاستعانة طلب المعونة والمساعدة على إتمام عمل لا يستطيع المستعين الاستقلال بعمله وحده.
وقد أمرنا الله في هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه، لأنه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا ألا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة إلا منه، فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها.
بيان هذا أن الأعمال يتوقف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبباتها، وجعلتها موصلة إليها، وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها، وقد أوتى الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة كسب بعض الأسباب، ودفع بعض الموانع بقدر استعداده الذي أوتيه، وفى هذا القدر أمرنا أن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا كما قال تعالى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فنحن نحضر الدواء مثلا لشفاء المرضى، ونجلب السلاح والكراع ونكثر الجند لغلب العدو، ونضع في الأرض السّماد ونرويها ونقتلع منها الحشائش الضارة للخصب وتكثير الغلة.
وفيما وراء ذلك مما حجب عنا من الأسباب يجب أن نفوض أمره إلى الله تعالى.
فنستعين به وحده، ونفزع إليه في شفاء مريضنا، ونصرنا على عدونا، ورفع الجوائح السماوية والأرضية عن مزارعنا، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه، وهو قد وعدنا إذا نحن لجأنا إليه بإجابة سؤلنا كما قال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وأرشد إلى أنه قريب منا يسمع دعاءنا كما قال: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).
فمن يستعين بقبر ناسك، أو ضريح عابد لقضاء حاجة له، أو تيسير أمر تعسّر عليه، أو شفاء مريض أو هلاك عدو فقد ضل سواء السبيل، وأعرض عما شرعه الله، وارتكب ضربا من ضروب الوثنية التي كانت فاشية قبل الإسلام وبعده ولا تزال إلى الآن كذلك، وقد نهى عن مثلها الشارع الحكيم، إذ حصر طلب المعونة فيه دون سواه، وجعلها مقصد كل مخبت أوّاه.
وفي ذكر الاستعانة بالله إرشاد للإنسان إلى أنه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب، فمن ترك الكسب فقد جانب الفطرة، ونبذ هدى الشريعة، وأصبح مذموما مدحورا، لا متوكّلا محمودا، وكذلك فيها إيماء إلى أن الإنسان مهما أوتى من حصافة الرأي، وحسن التدبير، وتقليب الأمور على وجوهها - لا يستغنى عن العون الإلهي، واللطف الخفي.
والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله، وهي من كمال التوحيد والعبادة الخالصة له تعالى، وبها يكون المرء مع الله عبدا خاضعا مخبتا، ومع الناس حرا كريما لا سلطان لأحد عليه، لا حي ولا ميت، وفى هذا فكّ للإرادة من أسر الرؤساء والدجالين، وإطلاق العزائم من قيود الأفّاكين الكاذبين.
(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والصراط هو الطريق، والمستقيم ضد المعوجّ، وهو ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب على سالكها أن ينتهى إليها.
وهداية الله للإنسان على ضروب:
(1) هداية الإلهام، وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء ويصرخ طالبا له.
(2) هداية الحواس، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم، بل هما في الحيوان أتمّ منهما في الإنسان، إذ إلهامه وحواسه يكملان بعد ولادته بقليل، ويحصلان في الإنسان تدريجا.
(3) هداية العقل، وهي هداية أعلى من هداية الحس والإلهام، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره، وحواسّه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة، فلا بد له من العقل الذي يصحح له أغلاط الحواس، ألا ترى الصفراوي يذوق الحلو مرّا، والرائي يبصر العود المستقيم في الماء معوجّا.
(4) هداية الأديان والشرائع، وهي هداية لا بد منها لمن استرقّت الأهواء عقله، وسخّر نفسه للذاته وشهواته، وسلك مسالك الشرور والآثام، وعدا على بنى جنسه، وحدث بينه وبينهم التجاذب والتدافع - فبها يحصل الرشاد إذا غلبت الأهواء العقول، وتتبين للناس الحدود والشرائع، ليقفوا عندها ويكفّوا أيديهم عما وراءها - إلى أن في غرائز الإنسان الشعور - بسلطان غيبى متسلّط على الأكوان، إليه ينسب كل ما لا يعرف له سببا، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته في هذه الحياة فاحتاج إلى هداية الدين التي تفضل الله بها عليه ووهبه إياها.
وإلى تلك الهدايات أشار الكتاب الكريم في آيات كثيرات كقوله: (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي طريقى الخير والشر والسعادة والشقاء. وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أيأرشدناهم إلى طريق الخير والشر فاختاروا الثاني الذي عبر عنه بالعمى.
وهناك نوع آخر من الهداية وهو المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير، وهي التي أمرنا الله بطلبها في قوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ المراد - دلّنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبية تحفظنا بها من الوقوع في الخطأ والضلال.
وهذه الهداية خاصة به سبحانه لم يمنحها أحدا من خلقه، ومن ثمّ نفاها عن النبي ﷺ في قوله: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وأثبتها لنفسه في قوله:
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).
أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح، فهي مما تفضل الله بها على خلقه ومنحهموها، ومن ثم أثبتها للنبي ﷺ في قوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
هذا - والصراط المستقيم هو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة من عقائد وأحكام وآداب وتشريع ديني كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الكون وأحوال الاجتماع - وقد سمّى هذا صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الحسي، إذ كل منهما موصل إلى غاية، فهذا سير معنوى يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان، وذاك سير حسي يصل به إلى غاية أخرى.
وقد أرشدنا الله إلى طلب الهداية منه، ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد في معرفة أحكام الشريعة، ونكلف أنفسنا الجري على سننها، لنحصل على خيري الدنيا والآخرة.
(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصدّيقون والصالحون من الأمم السالفة، وقد أجملهم هنا وفصلهم في مواضع عدة من الكتاب الكريم بذكر قصصهم للاعتبار بالنظر في أحوالهم، فيحملنا ذلك على حسن الأسوة فيما تكون به السعادة، واجتناب ما يكون طريقا إلى الشقاء والدمار.
وقد أمرنا باتباع صراط من تقدّمنا، لأن دين الله واحد في جميع الأزمان: فهو إيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وتخلّق بفاضل الأخلاق وعمل الخير وترك الشر، وما عدا ذلك فهو فروع وأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى:
(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى آخر الآية.
والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريّا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة تقليدا لما ورثوه عن الآباء والأجداد - وهؤلاء عاقبتهم النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.
والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة، أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق، فهم تائهون في عماية لا يهتدون معها إلى مطلوب، تعترضهم الشبهات التي تلبس الحق بالباطل، والصواب بالخطأ إن لم يضلّوا في شئون الدنيا ضلوا في شئون الحياة الأخرى، فمن حرم هدى الدين ظهر أثر الاضطراب في أحواله المعيشية وحلت به الرزايا، والذين جاءوا على فترة من الرسل لا يكلّفون بشريعة، ولا يعذبون في الآخرة لقوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وهذا رأى جمهرة العلماء، وترى فئة منهم أن العقل وحده كاف في التكليف، فمتى أوتيه الإنسان وجب عليه النظر في ملكوت السموات والأرض والتدبر والتفكر في خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال، بقدر ما يهديه عقله ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من عذاب النار يوم القيامة، فإن لم يفعل ذلك كان من الهالكين.
(آمين) اسم بمعنى استجب، وفيه لغتان: المد كما قال شاعرهم:
يا رب لا تسلبني حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آمينا
والقصر كما قال الآخر: أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وروي في الأثر أن النبي ﷺ قال: لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة، وقال إنه كالختم على الكتاب، وأوضح ذلك علي كرم الله وجهه فقال: آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده - يريد أنّه كما يمنع الخاتم الاطلاع على المختوم والتصرف فيه، يمنع آمين الخيبة عن دعاء العبد.
وهذا اللفظ ليس من القرآن إذ لم يثبت في المصاحف، ولا يقوله الإمام في الصلاة، لأنه الداعي كما قال الحسن البصري، والمشهور عن أبي حنيفة أنه يقوله ويخفيه وفاقا لرواية أنس عن النبي ﷺ، وعند الشافعية يجهر به، كما رواه وائل بن حجر عن النبي ﷺ قال: كان إذا قرأ ولا الضالين، قال: آمين ورفع صوته.
ويرى بعض علماء الآثار المصرية في العصر الحاضر أن كلمة (آمين) معناها الله، فكأنها ذكرت في آخر الفاتحة للختم باسمه تعالى إشارة إلى أن المرجع كله إليه، ويعقدون موازنة بين (مينو) و(آمون) و(آمين).
ويرى الثقات من علماء اللغات السامية رأيهم، ويقولون: إنها ذكرت آخر الفاتحة للترنم بها بعد قراءة السورة التي تضمنت الإشارة إلى أغراض الكتاب الكريم.
ويؤيدون رأيهم بأن المزامير ختمت بكلمة (سلاه) للترنم بها على هذا النحو - ويكون المعنى العام - إنا نتوجه إليك يا إلهنا فإليك المرجع والمصير.
سورة البقرة
مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين، فقد نزلت بمعنى في حجة الوداع، وهي آخر القرآن نزولا على ما قيل: وغالب السورة نزل أول الهجرة، وهي أطول سور القرآن، كما أن أقصرها سورة الكوثر، وأطول آية في القرآن هي آية الدّين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) إلخ، وأقصرها قوله والضحى، وقوله والفجر.
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
الإيضاح
(الم) هي وأمثالها من الحروف المقطعة نحو (المص والمر) حروف للتنبيه كألا ويا ونحوهما مما وضع لإيقاظ السامع إلى ما يلقى بعدها، فهنا جاءت للفت نظر المخاطب إلى وصف القرآن الكريم والإشارة إلى إعجازه وإقامة الحجة على أهل الكتاب إلى نحو ذلك مما جاء في أثناء السورة.
وتقرأ مقطّعة بذكر أسمائها ساكنة الأواخر فيقال: ألف. لام. ميم، كما يقال في أسماء الأعداد. واحد. اثنان. ثلاثة.
(ذلِكَ الْكِتابُ) الكتاب اسم بمعنى المكتوب وهو النقوش والرقوم الدالة على المعاني، والمراد به الكتاب المعروف المعهود للنبي ﷺ الذي وعده الله به لتأييد رسالته وكفل به هداية طلاب الحق وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
وفي التعبير به إيماء إلى أن النبي ﷺ لم يؤمز بكتابة شيء سواه.
وعدم كتابة القرآن كله بالفعل حين الإشارة إليه لا يمنع الإشارة، ألا ترى أن من المستفيض الشائع في التخاطب أن يقول إنسان لآخر: هلمّ أملل عليك كتابا، والكتاب لم يوجد بعد.
(لا رَيْبَ فِيهِ) الرّيب والريبة: الشك، وحقيقته قلق النفس واضطرابها، سمى به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل منها الطمأنينة، وقد جاء في الحديث: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ».
والمعنى - إن هذا الكتاب لا يعتريه ريب في كونه من عند الله، ولا في هدايته وإرشاده، ولا في أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتي بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة - وإلى هذا أشار بقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).
وارتياب كثير من الناس فيه، إنما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنت عنادا واستكبارا واتباعا للهوى أو تقليدا لسواهم.
(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الهدى بالنظر إلى المتقين: هو الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة والتوفيق للعمل بأحكامه، إذ هم قد اقتبسوا من أنواره وجنوا من ثماره، وهو لغيرهم هدى ودلالة على الخير وإن لم يأخذوا بهديه وينتفعوا بإرشاده.
وكون بعض الناس لم يهتدوا بهديه لا يخرجه عن كونه هدى، فالشمس شمس وإن لم يرها الأعمى، والعسل عسل وإن لم يجد طعمه ذو المرّة.
والمتقين: واحدهم متق، من الاتقاء وهو الحجز بين الشيئين، ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزا بين نفسه ومن يقصده، فكأن المتقى يجعل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه - حاجزا بينه وبين العقاب الإلهي.
والعقاب الذي يتّقى ضربان: دنيوي وأخروي وكل منهما يتّقى باتقاء أسبابه.
فعقاب الدنيا يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله في الخليقة، وعدم مخالفة النظم التي وضعها في الكون، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال مثلا يتوقف على معرفة نظم الحرب وفنونها وآلاتها كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) كما يتوقف على القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة، والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده.
وعقاب الآخرة يتّقى بالإيمان الخالص والتوحيد والعمل الصالح واجتناب ما يضاد ذلك من الشرك واجتناب المعاصي والآثام التي تضر المرء أو تضر المجتمع.
والمتقون في هذه الآية هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضربا من الهداية واستعدادا لتلقى نور الحق، والسعي في مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم ويبلغ إليه اجتهادهم.
وقد كان من هؤلاء ناس في الجاهلية، كرهوا عبادة الأصنام، وأدركوا أن خالق الكون لا يرضى بعبادتها، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.
[سورة البقرة (2): آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
الإيضاح
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الإيمان تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها.
وأمارته العمل بما يقتضيه الإيمان، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين في اليقين.
والغيب ما غاب عنهم علمه كذات الله وملائكته والدار الآخرة وما فيها من البعث والنشور والحساب.
والإيمان بالغيب هو اعتقاد بموجود وراء المحسّات متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم، ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسموات والأرض منزه عن المادة وتوابعها، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله بعلمها كعالم الملائكة، أو وصف له اليوم الآخر لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستيقن صدق النبي الذي جاء به.
أما من لا يعرف إلا ما يدركه الحس فإنه يصعب إقناعه، وقلما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا.
(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الصلاة في اللغة الدعاء كما قال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) ودعاء المعبود بالقول أو بالفعل أو بكليهما يشعر العابد بالحاجة إليه استدرارا للنعمة أو دفعا للنقمة.
والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام من أفضل ما يعبّر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه لو أقيمت على وجهها. أما إذا خلت من الخشوع والخضوع فإنها تكون صلاة لا روح فيها، وإن كانت قد وجدت صورتها وهي الكيفيات المخصوصة ولا يقال للمصلي حينئذ إنه امتثل أمر ربه فأقام الصلاة، لأن الإقامة مأخوذة من أقام العود إذا سواه وأزال اعوجاجه، فلا بد فيها من حضور القلب في جميع أجزائها واستشعار الخشية ومراقبة الخالق كأنك تنظر إليه كما ورد في الحديث « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
ولما للصلاة من خطر في تهذيب النفوس والسموّ بها إلى الملكوت الأعلى أبان الله تعالى عظيم آثارها بقوله: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وجعلها النبي ﷺ عماد الدين فقال: « الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام ».
وقد أمر الله بإقامتها بقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وبالمحافظة عليها وإدامتها بقوله:
(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وبأدائها في أوقاتها بقوله: (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا) وبأدائها في جماعة بقوله: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وبالخشوع فيها بقوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ).
(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الرزق في اللغة العطاء، ثم شاع استعماله فيما ينتفع به الحيوان وجمهرة المسلمين على أن كل ما ينتفع به حلالا كان أو حراما فهو رزق، وخصه جماعة بالحلال فقط.
والإنفاق والإنفاد أخوان، خلا أن في الثاني معنى الإذهاب التام دون الأول، والمراد بالإنفاق هنا ما يشمل النقمة الواجبة على الأهل والولد وذوي القربى، وصدقة التطوع.
وفي قوله: مما رزقناهم إيماء إلى أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان، لا كل ما يملك، وإلى تعليم الإنسان مبادئ الاقتصاد وحبّ ادّخار المال.
وإن من يجد في نفسه ميلا إلى بذل أحب الأشياء إليه، وهو ماله ابتغاء رضوان الله، وقياما بشكره على أنعمه، رحمة لأهل البؤس والعوز - كان من المتقين المستعدين لهدى القرآن، وكثير من الناس يصلون ويصومون، ولكن إذا عرض لهم ما يدعو إلى إنفاق شيء من المال في سبيل الله، كأن تدعو الحاجة إلى إنفاقه في مصلحة من مصالح المسلمين أو منفعة عامة لا تقوم إلا بالبذل - أعرضوا ونأوا ولم تطاوعهم أنفسهم على بذل شيء منه.
وإنما كان القرآن هدى للمتقين الذين هذه أوصافهم، لأن الإيمان بالله والإيمان بحياة أخرى بعد هذه الحياة يوفّى فيها كل عامل جزاء عمله - يهيّئ النفوس لقبول هديه والاقتباس من أنواره.
وبين ذلك بعضهم بقوله: لأن في الإيمان النجاة، وفى الصلاة المناجاة، وفى لإنفاق زيادة الدرجات، وبعضهم بقوله: لأن في الإيمان البشارة، وفى الصلاة الكفارة، وفى الإنفاق الطهارة.
[سورة البقرة (2): آية 4]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) روى ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمنون بالنبي والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمنون من مشركي العرب.
(بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هو القرآن الذي يتلى، والوحي الذي لا يتلى، وهو ما بينه النبي ﷺ من أعداد الركعات في الصلاة، ومقادير الزكاة، وحدود الجنايات، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وقال: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).
ولا بد من معرفة ذلك تفصيلا، فلا يسع المؤمن جهل ما علم من الدين بالضرورة.
والإنزال هنا بمعنى الوحي، وسمى إنزالا لما في جانب الألوهية من علو الخالق على المخلوق، أو لإنزال جبريل له على النبي ﷺ لتبليغه للخلق كما قال:
(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).
(وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) هو التوراة والإنجيل وسائر الكتب السالفة، فيؤمنون بها إيمانا إجماليا لا تفصيليا.
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الدار الآخرة هي دار الجزاء على الأعمال - والإيمان بها يتضمن الإيمان بكل ما ورد فبها بالنصوص المتواترة كالحساب والميزان والصراط، والجنة والنار.
واليقين: هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال، فمن يشهد الزور أو يشرب الخمر أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح في الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم تظهر آثاره في الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرفا لها في أعمالها.
والإيمان على الوجه الصحيح يحصل من أحد طريقين:
(1) البحث والتأمل فيما يحتاج إلى ذلك كالعلم بوجود الله ورسالة الرسل.
(2) خبر الرسول بعد أن تقوم الدلائل على صدقه فيما يبلغ عن ربه، أو خبر من سمع منه بطريق لا تحتمل ريبا ولا شكا وهي طريق التواتر، كالعلم بأخبار الآخرة وأحوالها، والعالم العلوي وأوصافه، وعلينا أن نقف عند ذلك فلا نزيد فيه شيئا ولا نخلطه بغيره مما جاء عن طريق أهل الكتاب، أو عن بعض السلف بدون تمحيص ولا تثبت من صحته، وقد دوّنه المفسرون في كتبهم وجعلوه من صلب الدين، وهو ليس منه في شيء.
[سورة البقرة (2): آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الإيضاح
الفلح: الشق والقطع، ومنه سمى الزارع فلّاحا لأنه يشق الأرض، والمفلح: الفائز بالبغية بعد سعي في الحصول عليها، واجتهاد في إدراكها، كأنه انفتحت له وجوه النظر ولم تستغلق عليه.
والمشار إليه بأولئك في الموضعين واحد وهم المؤمنون من غير أهل الكتاب والمؤمنون منهم، وكرر الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضى نيل كل واحدة من هاتين الفضيلتين الهدى والفلاح، وأن كلا منهما كاف في تميزهم به عن سواهم، فكيف بهما إذا اجتمعتا.
والتعبير بقوله (على هدى) يفيد التمكن من الهدى وكمال الرسوخ فيه، كما يتمكن الراكب على الدابة ويستقر عليها، وقد جاء في كلامهم: ركب هواه، وجعل الغواية مركبا.
[سورة البقرة (2): الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
تفسير المفردات
الكفر: ستر الشيء وتغطيته، وقد وصف به الليل كقوله « في ليلة كفر النجوم غمامها » والزراع كقوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) من قبل أنهم يغطون الحب بالتراب، ثم استعمل في كفر النعم بعدم شكرها، وفى الكفر بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله.
الختم والطبع والرّين بمعنى واحد: وهو تغطية الشيء، مع إبعاد ما من شأنه أن يدخله ويمسه، والمراد بالقلوب العقول، وبالسمع الأسماع، وبالأبصار العيون التي تدرك المبصرات من أشكال وألوان، والغشاوة: الغطاء.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول ﷺ وما أنزل إلى من قبله، وبين ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنه قد بلغ من أمرهم في الغواية والضلال ألا يجدى فيهم الإنذار والتبشير، وألا تؤثّر فيهم العظة والتذكير، فهم عن الصراط السوي ناكبون، وعن الحق معرضون، فالإنذار وعدمه سيان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع، مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له، وعداوة لمن دعا إليه، لأن الجهل أفسد وجدانه، فأصبح لا يميز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضارّ.
وقد جرت سنة الله في مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم فلا يبقى فيها استعدادا لغير الكفر، ويختم على سمعهم فلا يسمعون إلا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شيء ينتفع به، ويجعل على أبصارهم غشاوة، إذ هم لما لم ينظروا إلى ما في الكون من آيات وعبر، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر، فكأنهم لا يبصرون شيئا، وكأنه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة.
وقد حكم الله عليهم بالعذاب الأليم في العقبى، وفقد العز والسلطان والخزي في الدنيا كما قال: (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).
الإيضاح
المراد بالذين كفروا هنا: من علم الله أن الكفر قد رسخ في قلوبهم حتى أصبحوا غير مستعدين للإيمان، بجحودهم بالنبي ﷺ وبما جاء به بعد أن بلغتهم رسالته بلاغا صحيحا وعرضت عليهم الدلائل على صحتها للنظر والبحث، فأعرضوا عنها عنادا واستهزاء.
وسبب كفرهم:
(1) إما عناد للحق بعد معرفته وقد كان من هذا الصنف جماعة من المشركين واليهود في زمن النبي ﷺ كأبى لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود.
(2) وإما إعراض عن معرفته واستكبار عن النظر فيه.
والمعرضون عن الحق يوجدون في كل زمان ومكان، وهؤلاء إذا طاف بهم طائفه الحق لوّوا رءوسهم واستكبروا وهم معرضون، وفيهم يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ؟) سواء اسم بمعنى مستو كما قال تعالى: (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) والإنذار إخبار بشىء مع التخويف بما يترتب على فعله إن كان مذموما أو تركه إن كان محمودا، ويراد به هنا التخويف من عذاب الله وعقابه على فعل المعاصي.
(لا يؤمنون) جملة موضحة لتساوى الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه ﷺ، ولا في حق الدعاة إلى دينه، إذ هم يدعون كل كافر إلى الدين الحق، لا فرق بين المستعد للإيمان وغير المستعد.
(خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ضرب الله مثلا لحال قلوب أولئك القوم، وقد تمكن الكفر فيها حتى امتنع أن يصل إليها شيء من الأمور الدينية النافعة لها في معاشها ومعادها، وحيل بينها وبينه - بحال بيوت معدة لحلول ما يأتي إليها مما فيه مصالح مهمة للناس، لكنه منع ذلك بالختم عليها، وحيل بينها وبين ما أعدّت لأجله - فقد حدث في كل منهما امتناع دخول شيء بسبب مانع قوى وكذلك حدث مثل هذا في الأسماع فلا تسمع آيات الله المنزلة سماع تأمل وتدبر، وجعل على الأبصار غشاوة، فلا تدرك آيات الله المبصرة في الآفاق والأنفس الدالة على الإيمان ومن ثم لا يرجى تغيير حالهم ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم.
[سورة البقرة (2): الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أوّلا من أخلص دينه لله ووافق سرّه علنه وفعله قوله، ثم ثنى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرا وباطنا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعا وتمويها وتدليسا وفيهم نزل قوله: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وقوله: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ).
وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم صما بكما عميا، وضرب لهم شنيع الأمثال.
فنعى عليهم خبثهم في قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر، ونفى عليهم مكرهم في قوله: يخادعون الله والذين آمنوا: وفضجهم في قوله: وما هم بمؤمنين، وفي قوله. وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي قوله: في قلوبهم مرض، واستجهلهم في قوله: وما يشعرون، وفي قوله: ولكن لا يشعرون، وفي قوله: ولكن لا يعلمون، وتهكّم بفعلهم في قوله: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، ودعاهم صما بكما عميا في قوله: صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلخ وفي قوله: أو كصيب من السماء إلخ.
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أصل ناس أناس ويشهد له إنسان وإنسي، وسموا بذلك لظهورهم وتعلق الإيناس بهم، كما سمى الجن جنّا لاجتنانهم واختفائهم.
من يقول إلخ هم أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل كعبد الله ابن أبيّ بن سلول وأصحابه وأكثرهم من اليهود، ولهم نظراء في كل عصر ومصر.
واليوم الآخر - هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وخصّوا بالذكر الإيمان بهما، إشارة إلى أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهم لم يكونوا كذلك، إذا كانوا مشركين بالله لأنهم يقولون عزير ابن الله، وجاحدين باليوم الآخر، إذ قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، وقد حكى الله عبارتهم ليبين كمال خبثهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق مع ما هم عليه لم يكن ذلك إيمانا لاتخاذهم الولد واعتقادهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم، فما بالك بهم وهم قالوه تمويها على المؤمنين واستهزاء بهم.
(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما هم بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين الذين يشعرون تعظيم سلطان الله، ويعلمون أنه مطّلع على سرهم ونجواهم، إذ هم كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات، ظنا منهم أن ذلك يرضى ربهم، ثم هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب وغشّ، وخيانة وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم ونقله الرواة أجمعون.
(يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه لتحول بينه وبين ما يريد، وأصله من قولهم: خدع الضبّ إذا توارى في جحره، وضب خادع إذا أوهم حارسه الإقبال عليه ثم خرج من باب آخر.
والخدع هنا من جانب المنافقين لله وللمؤمنين، والتعبير بصيغة المخادعة للدلالة على المبالغة في حصول الفعل وهو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى، كما يقال مارست الشيء وزاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدقها بواطنهم، وهذا لا يكون إلا من مخادع، لا من تائب خاشع.
وخداعهم للمؤمنين بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، للاطلاع على أسرارهم وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود، ودفع الأذى عن أنفسهم.
(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ ضرر عملهم لا حقّ بهم، فهم يغرّون أنفسهم بالأكاذيب ويلقونها في مهاوى الهلاك والردى.
(وَما يَشْعُرُونَ) يقال شعر به يشعر شعورا: علم به وفطن، والفطنة إنما تتعلق بخفايا الأمور، فالشعور لا يكون إلا في إدراك ما دقّ وخفى من شيء حسي أو عقلي.
وقد نفى الشعور عنهم في مخادعتهم لله، لأنهم لم يحاسبوا أنفسهم على أقوالهم ولم يراقبوه في أفعالهم، ولم يفكروا فيما يرضيه، بل جروا في ريائهم على ما ألفوا وتعوّدوا فهم يعملون عمل المخادعين وما يشعرون، فإذا عرض لهم زاجر من الدين يحول بينهم وبين ما يشتهون - وجدوا لهم من المعاذير ما يسهل أمره، إما بأمل في المغفرة، أو تحريف في أوامر الكتاب، لما رسخ في نفوسهم من عقائد الزيغ التي يسمونها إيمانا، وهم في الحقيقة مخدوعون، وعن الصراط السوي ناكبون.
والمشاهد أن الإنسان إذا همّ بعمل وناجى نفسه، وجد كأن في قلبه خصمين مختصمين، أحدهما يميل به إلى اللذة ويسير به في طريق الضلال والغواية، وثانيهما يأمره بالسير في الطريق القويم وينهاه عن اتباع النفس والهوى، ولقد جاء في كلامهم عن المتردد « فلان يشاور نفسيه ».
ولا يترجح عنده جانب الشر إلا إذا خدع نفسه وصرفها عن الحق، وزين لها اتباع الباطل، وإنما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة تجول في الخاطر وتهجس في النفس، ربما لا يلتفت إليها الإنسان ولا يشعر بما يجول بين جنبيه.
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) القلوب هنا العقول، وهو تعبير معروف عند العرب، كأنهم لاحظوا أن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال كاضطرابه حين الخوف أو اشتداد الفرح.
ومرضها ما يطرأ عليها مما يضعف إدراكها وتعقلها لفهم الدين ومعرفة أسراره وحكمه، وفقدان هذا الإدراك هو الذي عبّر عنه القرآن بقوله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها).
ومن أسباب ذلك الجهل والنفاق والشك والارتياب والحسد والضغينة إلى غير ذلك مما يفسد الاعتقاد والأخلاق ويجعل أحكام العقل في اضطراب.
وقد وجد هذا المرض عند هؤلاء المنافقين حين كانوا في فترة من الرسل فلم يكن لهم حظ من قراءة كتب الدين إلا تلاوتها، ولا من أعماله إلا إقامة صورها دون أن تنفذ أسرارها إلى القلوب، فتهذب النفوس وتسمو بها إلى فضائل الأخلاق والتفقه في الدين.
(فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) بعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع، وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم، ومرضا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلوّ شأنه يوما بعد يوم.
(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أليم، من ألم يألم فهو أليم بمعنى مؤلم (بفتح اللام) إذ يصل ألمه إلى القلوب، وصف به العذاب نفسه لبيان أن الألم بلغ الغاية حتى سرى من المعذّب (بفتح اللام) إلى العذاب المتعلق به.
(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم لم يصدّقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم، وقد جعل العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى كالكفر وغيره من أعمال السوء، للتحذير منه وبيان فظاعته وعظم جرمه، وللإشعار بأن الكفر من محتوياته، وإليه ينتهى في حدوده وغاياته، ومن ثمّ حذّر منه القرآن أتمّ التحذير، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، فهو مصدر كل رذيلة، ومنشأ كل كبيرة، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: « إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان ».
[سورة البقرة (2): الآيات 11 الى 13]
وإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
تفسير المفردات
الفساد: خروج الشيء عن حد الاعتدال، والصلاح ضده، والفساد في الأرض: هيج الحروب والفتن التي تؤدى إلى اختلال أمر المعاش والمعاد، والسفه: خفة في العقل وفساد في الرأي، ومنه قيل ثوب سفيه: أي ردىء النسج.
المعنى الجملي
عدد الله في هذه الآيات الثلاث بعض شناعاتهم المترتبة على كفرهم ونفاقهم، ففصل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر بعض هفواتهم، ثم أظهر فسادها وأبان بطلانها، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدى إلى الفتنة والفساد، والتمسك بأهداب الفضائل واتباع ذوي الأحلام الراجحة، والعقول الناضجة، ثم ما أجابوا به مما دل على عظيم جهلهم وتماديهم في سفههم وغفلتهم.
الإيضاح
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) المنهي عنه هنا الأسباب المؤدية إلى الفساد من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم بالمؤمنين، وتنفيرهم من اتباع محمد ﷺ والأخذ بما جاء به من الإصلاح، إلى نحو أولئك من فنون الشر وصنوف الفتن، كما يقول إنسان لآخر: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق بيديك إلى التهلكة، إذا أقدم على ما هذه عاقبته.
(قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي لا شأن لنا إلا الإصلاح، فنحن بعيدون عن شوائب الإفساد باتباعنا رؤساءنا الذين استنبطوا تعاليمهم من الأنبياء، فكيف ندع ما تلقيناه منهم ونعتنق دينا جديدا لا عهد لنا به من قبل؟
وهكذا شأن المفسدين في كل زمان يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه، فإن كانوا على بينة من إفسادهم وضلالهم، فهم يدّعون ذلك ليبرئوا أنفسهم من وصمة الإفساد بالتمويه والخداع، وإن كانوا مسوقين إليه تقليدا للرؤساء، فهم يدّعونه عن اعتقاد، وإن كان السير على منهاجه مفسدا للأمة في الحقيقة والواقع، إذ هم عطّلوا وسائل البحث التي تميز الإصلاح من الإفساد، فهم بصدهم عن سبيل الإسلام الداعي إلى الوحدة والالتئام، يدعون إلى الفرقة والانفصام، وأي إفساد في الأرض أعظم من التنفير من اتباع الحق، والسير على منهاج الباطل ومؤازرة أهله (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) أي هم وحدهم هم المفسدون دون من أو مأوا إليهم، لأن لهم سلفا صالحا تركوا الاقتداء بهم، وفي هذا الأسلوب مبالغة في الرد عليهم. ودلالة على السخط العظيم.
(وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بهذا الإفساد لأنه أصبح غريزة في طباعهم بما تمكن فيها من الشبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم والثقة بآرائهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) الذين اتبعوا قضية العقل وسلكوا سبيل الرشاد، وكان للإيمان سلطان على نفوسهم، وعليه بنوا تصاريف أعمالهم كعبد الله ابن سلام وأشباهه من أحبارهم.
(قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟) أرادوا بالسفهاء أتباع النبي ﷺ.
أما المهاجرون منهم فلأنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا أوطانهم وتركوا ديارهم، ليتّبعوا النبي ﷺ ويسيروا على هديه. وأما الأنصار فلأنهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم.
ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة وتمادى في الغواية، وممن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا وظن الضلال هدى أن يسمى الهدى سفها وضلالا.
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وحدهم دون من عرّضوا بهم ونسبوهم إلى السفه، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الاقتداء بهم واكتفوا بانتظار شفاعتهم، وإن لم يجروا على هديهم وسنتهم، بخلاف أولئك الذين لا سلف لهم إلا عابدو أصنام، وقد هداهم الله وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان.
(وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) ما الإيمان وما حقيقته؟ حتى يعلموا أن المؤمنين سفهاء أو عقلاء.
وقد ختمت هذه الآية بلا يعلمون، وسابقتها بلا يشعرون، لأن الإيمان لا يتم إلا بالعلم اليقيني، والفائدة المرجوّة منه وهي السعادة في المعاش والمعاد لا يدركها إلا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه، فهم قد أخطأوا في إدراك مصلحتهم ومصلحة غيرهم.
أما نفاقهم وإفسادهم في الأرض فقد بلغ من الوضوح مبلغ الأمور المحسوسة، التي تصل إلى الحواس والمشاعر، ولكن لا حس لهم حتى يدركوه.
[سورة البقرة (2): الآيات 14 الى 16]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
تفسير المفردات
اللقاء المصادفة تقول: لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته، خلوا إما من خلوت بفلان وإلى فلان إذا انفردت به، وإما من خلا بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، واطلب الأمر وخلاك ذم: أي جاوزك ومضى عنك. والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن كما قال: (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) والاستهزاء: السخرية، تقول هزأت به واستهزأت كأجبت واستجبت وأصل المادة تفيد الخفة يقال ناقة تهزأ به: أي تسرع. يمدهم: أي يزيدهم من مدّ الجيش وأمده إذا زاد عدده وقواه. والطغيان: (بضم الطاء وكسرها) مجاوزة الحدّ في كل شيء.
والعمه: ظلمة البصيرة كالعمى في البصر وأثره الحيرة والاضطراب بحيث لا يدرى الإنسان أين يتوجه، يقال عمه فهو عمه وعامه وجماعة عمّه.
المعنى الجملي
وصف الله في هذه الآيات حال جماعة من المنافقين كانوا في عصر التنزيل قد بلغ من دعارتهم وتمرّدهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدون عن سبيل الحق قالوا لهم إنما نقول ذلك لهم استهزاء بهم، وقد فضح الله بهتانهم وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم وزادهم حيرة في أمورهم ثم ذكر أنهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها، لأنهم باعوا ما وهبهم الله من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء.
الإيضاح
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) أي وإذا رأى المنافقون. المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا كذبا وبهتانا: آمنا كإيمانكم وصدقنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم، لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالنا وأولادنا ونساءنا من أيديهم ونطلع على أسرارهم.
(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم (وسمى هذا الجزاء استهزاء للمشاكلة في اللفظ كما سمى جزاء السيئة سيئة) ويزيدهم في عتوهم وكفرهم، ويجعلهم حائرين مترددين في الضلال عقوبة لهم على استهزائهم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة، إذ هم أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح.
وإن من كانت هذه حالهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإن التاجر إن فاته الربح في صفقة فربما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال.
[سورة البقرة (2): الآيات 17 الى 18]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
تفسير المفردات
المثل والمثل والمثيل كالشّبه والشّبه والشبيه وزنا ومعنى، ثم استعمل في بيان حال الشيء وصفته التي توضحه وتبين حاله كقوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) إلخ.
وقوله: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) واستوقد النار: طلب وقودها، أي سطوعها وارتفاع لهبها بفعله أو فعل غيره، ويقال ضاءت النار وأضاءت وأضاءته النار، أي أظهرته بضوئها.
وترك: أي صير. والصمم آفة تمنع السماع. والبكم: الخرس. والعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يبصر.
المعنى الجملي
نهج القرآن الكريم نهج العرب في أساليبها، فضرب الأمثال التي تجلى المعاني أتم جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره، لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجليّة، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر، وعلى هذا السنن ضرب الله مثل المنافقين، فصوّر حالهم حينما أسلموا أوّلا ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثم داخلهم الشكّ فيه فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين - بحال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها في جلب خير أو دفع ضر، فلما أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن، جاءها عارض خفي أو أمر سماوي كمطر شديد، أو ريح عاصف جرفها وبدّدها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنى لهم الإبصار بحال.
ثم جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمى الذين فقدوا هذه المشاعر والحواس، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنهم فقدوها، فما فائدة السمع إلا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ، وما منفعة اللسان إلا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان، لتتجلى المعقولات، وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلا النظر والاعتبار، لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة، أو يرجع إلى هدى؟
الإيضاح
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي مثل المنافقين وحالهم كحال الذين استوقدوا نارا، فلما أضاءت ما حولهم من الأمكنة والأشياء، أطفأ الله نارهم التي منها استمدوا نورهم بنحو مطر شديد أو ريح عاصف فصيرهم لا يبصرون شيئا، لأن النور قد زال ولم يبق منه أثر ولا عين.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وصفهم الله بهذه الصفات مع سلامة مشاعرهم، من قبل أنهم فقدوا منفعة السمع، فلا يصغون لعظة واعظ ولا إرشاد مرشد، بل هم لا يفقهون إن سمعوا فكأنهم صمّ لا يسمعون، كما فقدوا منفعة الاسترشاد وطلب الحكمة، فلا يطلبون برهانا على قضية، ولا بيانا عن مسألة تخفى عليهم، فكأنهم بكم لا يتكلمون وفقدوا منافع الإبصار من النظر والاعتبار، فلا يرون ما يحلّ بهم من الفتن فينزجروا، ولا يبصرون ما تتقلّب به أحوال الأمم فيعتبروا.
(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي فهم لا يعودون من الضلالة إلى الهدى الذي تركوه وأضاعوه، إذ من فقد حواسه لا يسمع صوتا يهتدى به، ولا يصيح لينقذ نفسه، ولا يرى بارقا من النور يتجه إليه ويقصده، ولا تزال هذه حاله، ظلمات بعضها فوق بعض حتى يتردّى في مهاوى الهلاك.
[سورة البقرة (2): الآيات 19 الى 20]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
تفسير المفردات
الصيّب: المطر يصوب وينزل، من الصوب وهو النزول. والرعد: هو الصوت الذي يسمع في السحاب أحيانا عند تجمعه. والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالبا، وربما لمع في الأفق حيث لاسحاب، وأسباب هذه الظواهر اتحاد كهربيّة السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات. والصاعقة: نار عظيمة تنزل أحيانا أثناء المطر والبرق، وسببها تفريغ الكهربيّة التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض والإحاطة بالشيء: الإحداق به من جميع جهاته، والخطف: الأخذ بسرعة. قاموا: أي وقفوا في أماكنهم منتظرين تغير الحال ليصلوا إلى المقصد، أو يلجأوا إلى ملجأ يعصمهم من الخطر.
المعنى الجملي
ضرب الله مثلا آخر يشرح به حال المنافقين ويبين فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم، زيادة في التنكيل بهم، وهتكا لأستارهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثم استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البينة، والحجج القيمة، فيعزمون على اتباع الحق، وتسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد، وظلمة الشّبهات، فتقيّد الفكر وإن لم تقف سيره، بل تعود به إلى الحيرة - كحال قوم في إحدى الفلوات نزل بهم بعد ظلام الليل صيّب من السماء، فيه رعود قاصفة، وبروق لامعة، وصواعق متساقطة، فتولاهم الدهش والرّعب، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلما قصف هزيم الرعد ليسدّوا منافذ السمع، لما يحذرونه من الموت الزوام، ويخافونه من نزول الحمام، ولكن هل ينجى حذر من قدر؟ « تعددت الأسباب والموت واحد » بلى إن الله قدير أن يذهب الأسماع والأبصار التي كانت وسيلة الدهش والخوف، ولكن لحكمة غاب عنا سرها، ومصلحة لا نعرف كنهها، لم يشأ ذلك وهو الحكيم الخبير.
الإيضاح
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) أي كقوم نزل بهم صيب من السماء، وفي قوله من السماء إيماء إلى أنه شيء لا يمكن دفعه.
(فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) أي فيه ظلمة الليل، وظلمة السحب، وظلمة الصيب نفسه، وفيه رعد وبرق.
(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) أي يجعلون أنامل أصابعهم في آذانهم كلما حدث قاصف من الرعد ليدفعوا شدة وقعه بسد منافذ السمع، خوفا على أنفسهم من الموت، مع أن سد الآذان ليس من أسباب الوقاية من الصاعقة حتى يدفع عنهم الموت.
(وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أي والله مطلع على أسرارهم، عالم بما في ضمائرهم، قادر على أخذهم أينما كانوا، فما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم من الله شيئا إذ لا يغني حذر من قدر، فمن لم يمت بالصاعقة مات بغيرها.
(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي يكاد البرق يختلس أبصارهم، ويستلبها بسرعة من شدة الضوء المفاجئ.
(كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي كلما أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة، مشوا في مطّرح نوره خطوات يسيرة.
(وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي وإذا خفي البرق واستتر وأظلم الطريق، وقفوا في أماكنهم متحيّرين منتظرين فرصة أخرى عسى أن يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم من الهلاك.
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) أي ولو شاء أن يذهب الأسماع والأبصار بصوت الرعد ونور البرق لفعل، لكنه لم يشأ لحكم ومصالح هو بها عليم.
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنه ما شاء كان، إذ لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
[سورة البقرة (2): الآيات 21 الى 22]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
تفسير المفردات
العبادة: خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود، والرب: هو الذي يسوس من يربيه ويدبر شئونه، والفراش: واحد الفرش، وفرش الشيء يفرشه بالضم فراشا: بسطه، والبناء: وضع شيء على شيء آخر بحيث يتكوّن من ذلك شيء بصورة خاصة. والندّ: الشريك والكفء، يقال فلان ند فلان إذا كان مماثلا له في بعض الشئون
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أصناف الخلق وبيّن أن منهم المهتدين، والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك - دعا الناس إلى دين التوحيد الحق وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فإن فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى، وبلغو الغاية القصوى.
ثم عدد بعض نعمه المتظهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثم خلق الأرض مستقرا ومهادا لينتفعوا بخيراتها ويستخرجوا معادنها ونباتها، ثم بنى لهم السماء التي زينها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدى بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها.
أفليس في كل هذا ما يطوّح بالنظر، ويهدى الفكر إلى أن خالق هذا الكون البديع المثال لا ندّ له ولا نظير، وأن ما جعلوه أندادا له لا يقدرون على إيجاد شيء مما خلق وأنهم يعلمون ذلك حق العلم، فكيف يستغيثون بغير الله، ويدعون غير الله، ويستشفعون به، ويتوسلون إليه، مع أنه لا خالق ولا رازق إلا الله؟
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) بدأ النبي ﷺ دعوته بعبادة الله وحده، وقد كان هذا صنيع كل نبي كما قال: (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
والمخاطبون بهذه الدعوة أوّلا هم العرب واليهود في المدينة وما حولها، وكانوا يؤمنون بالله ويعبدون غيره إما بدعائه مع الله » أو من دون الله.
(الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي إن هذا الرب العظيم المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها - هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، ورباكم وربّى أسلافكم، ودبّر شئونكم، ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة مثل ما وهبهم، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه.
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي فاعبدوه على تلك الشاكلة، فإن العبادة على هذا السنن هي التي تعدّكم للتقوى، ويرجى بها بلوغ درجة الكمال القصوى.
ثم ذكر بعض خصائص الربوبية التي تقتضى الاختصاص به تعالى فقال:
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشًا) أي هو الذي مهدّ لكم الأرض وجعلها صالحة للافتراش والإقامة فيها.
(وَالسَّماءَ بِناءً) أي وهو الذي كوّن السماء بنظام متماسك كنظام البناء، وسوّى أجرامها على ما نشاهد وأمسكها لسنة الجاذبية، حتى لا تقع على الأرض ولا يصطدم بعضها ببعض، حتى يأتي اليوم الموعود.
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ) أي وهو الذي أنزل من السماء مطرا يسقى به الزرع، ويغذّى به النبات، فأخرج به ثمرا نأكل منه وننتفع به.
(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا) الأنداد هم الذين خضع الناس لهم وقصدوهم في قضاء حاجاتهم، وكان مشركو العرب يسمون ذلك الخضوع عبادة، إذ لم يكن عندهم شرع ينهاهم عن عبادة غير الله، وأهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا كانوا يتحاشون هذا اللفظ، فلا يسمون ذلك الاتخاذ عبادة ولا أولئك المعظمين آلهة وأندادا، بل يسمون دعاءهم غير الله والتقرب إليه توسلا واستشفاعا، ويسمون تشريعهم لهم بعض العبادات، وتحليل المنكرات، وتحريم بعض الطيبات، فقها واستنباطا من التوراة، والكل متفقون على أنه لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وإنكم لتعلمون بطلان ذلك، وإنكم إذا سئلتم من رزقكم من السموات والأرض ومن يدبر الأمر؟ تقولون: الله، فلم إذا تدعون غيره، وتستشفعون به؟
ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع؟ ومن أين جاءكم أن التقرب إلى الله يكون بغير ما شرعه الله حتى قلتم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى)
[سورة البقرة (2): الآيات 23 الى 24]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك - طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد ﷺ، وفي أن القرآن معجزته - أن يتعرفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعى، أو هو من عند نفسه كما يدّعون، فيروزوا أنفسهم ويحاكوه، لعلهم يأتون بمثل سورة من أقصر سوره، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه تفاخرهم، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار، ولم يكن محمد من بينهم فهو لم يمرن عليه، ولم ببار أهله ولم ينافسهم فيه.
فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك، وهم لا يستطيعون وإن تظاهر أنصارهم، وكثر أشياعهم، بل لو اجتمعت الإنس والجن جميعا، فليعلموا أن ما جاءهم به فأعجزهم لم يكن إلا بوحي سماوي وإمداد إلهي لا يسمو إليه محمد بعقله، ولا يصل بيانه إلى مثل أسلوبه ونظمه، وإذا استبان عجزهم ولزمتهم الحجة، فقد صدق النبي ﷺ فيما ادّعى وكان من ارتاب في صدقه معاندا مكابرا، واستحق العقاب وكان جزاؤه النار التي وقودها العصاة الجاحدون وما عبدوه من أحجار وأصنام، أعدت لكل من جحد الرسل أو استحدث في الدين ما هو منه براء.
الإيضاح
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي وإن ارتبتم في أمر هذا القرآن، وزعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بمثله، لأنكم تقدرون على ما يقدر عليه سائر البشر.
(وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي وادعوا الحاضرين في مشاهدكم من رؤسائكم وأشرافكم، الذين تفزعون إليهم في الملمات، وتعوّلون عليهم في المهمات.
وقد يكون المراد بالشهداء الأصنام أي وادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، وابتعدوا عن الله ناصر محمد ﷺ.
(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن فيه مجالا للريب والشك، وأن محمدا تقوّله من تلقاء نفسه، فلديكم ما يهدى إلى الحق ويجلّى الأمر، فها هو القرآن أمامكم فأتوا بسورة من مثله.
وقد نزل في هذا المعنى آيات كثيرة بمكة، أولها ما في سورة الإسراء: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) ثم ما في سورة هود: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم ما في سورة يونس: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) وما جاء في هذه السورة المدنية (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) النار موطن العذاب، ونحن نؤمن بها كما أخبر القرآن، ولا نبحث عن حقيقتها، والوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار، والمراد بالناس العصاة، والمراد بالحجارة هنا الأصنام كما قال: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقوله: أعدّت للكافرين أي هيئت للذين لا يستجيبون دعوة الرسل أو ينحرفون عنها لمخالفتهم هدى الدين، وعمل ما تنكره شرائع الأنبياء والمرسلين.
والخلاصة - فإن لم تفعلوا ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد أن بذلتم المجهود، (ولن تفعلوه فليس في استطاعتكم) فاحذروا من العناد واعترفوا بكونه منزلا من عند الله، لئلا تكونوا أنتم وأصنامكم وقودا للنار التي أعدت لأمثالكم من الكافرين.
[سورة البقرة (2): آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الكافرين وما أعدّ لهم من العقاب. قفّى على ذلك ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أعدّ لهم من نعيم مقيم في الدار الآخرة، وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الترهيب بالترغيب تنشيطا لاكتساب ما يوجب الزلفى عند الله، وتثبيطا عن اقتراف ما يوجب البعد من رضوانه تعالى.
والمأمور بهذا التبشير كل من يسمع الأمر من أهله، وقد وعد الله الذين آمنوا بهذه الجنات، وما فيها من لذات وإنا لنفوض علم ذلك إلى الله تعالى ونكتفى بما ورد من أن لذات الآخرة أعلى من لذات الدنيا، فقد روى عن ابن عباس: أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي، وجاء في الصحيحين مرفوعا عن الله عز وجل « أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر »
وهو في المعنى مفسر لقوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).
الإيضاح
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) البشارة الإخبار بما يسرّ، وآمنوا: أي بالله وصفاته التي جاء بها النقل وأيدها العقل، وبالنبي وبما جاء به، وبالبعث والجزاء، ولا يتحقق الإيمان إلا باطمئنان القلب وقيام البرهان الذي لا يقبل الشك والارتياب، وأفضل البراهين ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله في الآفاق والأنفس، فقد يبلغ الإنسان علم اليقين بنظرة صادقة في هذا الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلت له بغرائب خلقها وبدائع صنعها.
(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) العمل الصالح معروف عند الناس، فقد أودع في فطرتهم ما يميزون به بين الخير والشر، ولكن بعضهم يضلّ بما يطرأ على نفسه من زيغ يحيد به عن الهدى، ويتبعه آخرون في ضلاله فتتولد التقاليد الضارة، وتكون هي ميزان الخير والصلاح لدى الضالين، وإن كانت مخالفة لأصل الفطرة كما ورد في الحديث: « كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ».
وقد بين الكتاب الأعمال الصالحة في آي كثيرة كقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
(أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قال الفرّاء: الجنة البستان فيه النخيل، والفردوس البستان فيه الكرم، والمراد بها هنا دار الخلود في الحياة الآخرة أعدها الله للمتقين كما أعدّ النار للكافرين، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما. والأنهار واحدها نهر (بفتح الهاء وسكونها) وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كنيل مصر، وجرى الأنهار من تحتها هو كما نشاهد في الأشجار التي على شواطئ الأنهار الجارية.
(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أي كلما رزقوا من الجنة رزقا من بعض ثمارها قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان وصالح العمل، فهو من وادي قوله تعالى: (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ).
(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا) أي إن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته ويختلف في طعمه ولذته.
(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي ولهم في الجنات أزواج تطهرن غاية التطهر، فليس فيهنّ ما يعبن عليه من خبث جسدى مما عليه النساء في الدنيا كالحيض والنفاس، أو نفسي كالكيد والمكر وسائر مساوى الأخلاق.
وصحبة الأزواج في الآخرة من الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله، ولا نبحث فيما وراء ذلك، فأطوار الآخرة أعلى مما في حياتنا الدنيا، فهي سالمة من المنغّصات في الطعام والشراب والمباشرة الزوجية، روى مسلم أن النبي ﷺ قال: « إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون، قالوا فما بال الطعام، قال جشاء ورشح كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النّفس ».
(وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) الخلود لغة: المكث الطويل، قال في الأساس: ومن كلامهم خلد فلان في السجن، أي أقام طويلا، ويراد به في لسان الشرع الدوام الأبدى أي وهم لا يخرجون منها ولا هي تفنى وتزول، بل هي حياة أبدية لا تنتهى.
[سورة البقرة (2): الآيات 26 الى 27]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
تفسير المفردات
الحياء تغيّر وانكسار يعترى الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ، يقال فلان يستحى أن يفعل كذا، أي إن نفسه تنقبض عن فعله، وكأن الحياء ضعف في الحياة، لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، وفعله استحى واستحيا، ويقال استحييته واستحييت منه، والمثل في اللغة: الشبيه والنظير، وضرب المثل في الكلام أن بذكر لحال ما يناسبها فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو إحداث أثر خاصّ فيها، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلا بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. والمراد بما فوق البعوضة ما زاد عليها وفاقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلا بالمنظار المكبر، وكانوا قديما يضربون المثل في الصّغر بمخّ النملة والبعوضة، فقد قالوا: أعز من مخ البعوضة، وجاء في الحديث: « لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء ».
والحق: هو الشيء الذي يحقّ ويجب ثبوته، ولا يجد العقل سبيلا إلى إنكاره، والفسق لغة: الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت، والنقض: فكّ الحبل والغزل ونحوهما، والميثاق ما يوثق به الشيء ويكون محكما يعسر نقضه، وعهد الله ما أخذه على عباده من فهم السنن الكونية بالنظر والاعتبار بما أوتوه من نعمة العقل والحواس المرشدة إلى الفهم، ونقضه عدم استعمال تلك المواهب فيما خلقت له حتى كأنهم فقدوها.
المعنى الجملي
روي عن ابن عباس أن هذه الآيات جاءت لتنزيه القرآن الكريم من ريب خاص اعترى اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقّرات كالذباب والعنكبوت لما نزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) إثر تنزيهه من مطلق الريب بما تحداهم به في الآيات السابقة، إذ طلب إليهم أن يأتوا بسورة مثله، وبه أبان لهم أن ذلك ليس بمطعن في القرآن، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثّل له، فالعظيم يمثّل له بالعظيم، والحقير يمثل له بالحقير، ألا ترى إلى الإنجيل، وقد مثّل غلّ الصدر بالنّخالة، ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير، وجاء في عباراتهم (أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأضعف من بعوضة).
وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء المحسوسة لتأنس بها النفس وتستنزل الوهم عن معارضة العقل، والحكيم علام الغيوب يعلم حكمة هذا، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك.
والناس إزاء هذا فريقان: مؤمنون يقولون إن الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها فالكل لديه سواء، وكافرون يستهزئون بالأمثال احتقارا لها، فحقت عليهم كلمة ربهم فأصبحوا من الخاسرين.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أي إن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنه هو الخالق لكل شيء جليلا كان أو حقيرا.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي فالمؤمنون يقولون ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهي تقرير الحق والأخذ به، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) الذين كفروا هم اليهود والمشركون وكانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحجة وحصحص الحق، ويقولون ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا وانصرفوا (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا).
ثم أجاب عن سؤالهم بقوله:
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) أي إن من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها.
ومن المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجلّه في ذلك الأمثال كما قال: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق.
وقد جعل الله المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر كما قال:
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) إشارة إلى أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أكثر نفعا وأجلّ فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين.
إن الكرام كثير في البلاد وإن قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا
ثم أكمل الجواب وزاد في البيان فقال:
(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي وما يضلّ بضرب المثل إلا الذين خرجوا عن سنة الله في خلقه وعما هداهم إليه بالعقل والمشاعر والكتب المنزلة على من أوتوها.
وفي هذا إيماء إلى أن علّة إضلالهم ما كانوا عليه من الخروج عن السنن الكونية التي جعلها عبرة لمن تذكر، فقد انصرفت أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه.
ثم زاد في ذم الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم فقال:
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي الذين يستعملون المواهب التي خلقها الله لعباده من عقل ومشاعر وحواسّ ترشدهم إلى النظر والاعتبار في غير ما خلقت له حتى كأنهم فقدوها كما قال: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).
وهذا العهد الذي نقضوه هو العهد الفطري، وهناك عهد آخر جاءت به الشرائع وهو العهد الديني، وقد وثق الله الأول بجعل العقول قابلة لإدراك السنن الإلهية التي في الكون، كما وثق الثاني بما أيّد به الأنبياء من الحجج والبراهين الدالة على صدقهم، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله، فاسق عن سننه في إبلاغ القوى البشرية والنفسية حد الكمال الإنساني الممكن لها.
(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أمر الله ضربان، أمر تكوين وهو ما عليه الكون من بديع الصنع ودقيق النظام كإفضاء الأسباب إلى مسبباتها والمقدمات إلى نتائجها، ومعرفة المنافع والمضار بغاياتها، وأمر تشريع وهو ما جاء به الأنبياء من الشرائع لتبليغه للناس ليعملوا به.
فمن أنكر الإله وصفاته بعد أن شهدت بوجوده الآثار المنبثّة في الكون، أو أنكر نبوة نبي بعد أن أقام الدليل على صدقه فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى العهد الفطري، لأنه قطع الصلة بين الدليل والمدلول.
ومن أنكر شيئا مما علم أن الرسول قد جاء به من الأوامر والنواهي، فقد قطع ما أمر الله به في كتبه أمر تشريع وتكليف، وهو لا يأمر إلا بما أثبتت التجربة منفعته، ولا ينهى إلا عما ثبتت مضرته.
ومشركو العرب بتكذيبهم النبي ﷺ نقضوا عهد الفطرة، وأهل الكتاب نقضوا العهدين معا، فإن الله بشرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبي ﷺ بذكر صفاته، فحرّفوا وأوّلوا متعمدين كما قال تعالى: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بصدهم عن سبيل الله يبغونها عوجا، وبالاستهزاء بالحق بعد ما تبين، وبإهمالهم هداية العقل وهداية الدين، فوجودهم في الأرض مفسدة لأنفسهم ومفسدة لأهلها.
(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأن إفسادهم لما عمّ العقائد والأخلاق بفقد هداية الفطرة وهداية الدين، استحقوا الخزي في الدنيا بحرمان السعادة الجسمية والعقلية والخلقية، والعذاب الأليم في الآخرة، ومن خسر السعادتين كان في خسران مبين.
[سورة البقرة (2): الآيات 28 الى 29]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
المعنى الجملي
وجه سبحانه الخطاب في هاتين الآيتين إلى أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمثل بعد أن وصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وجاء به على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر، وهي النعم المتظاهرة الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة، وخلق لهم ما في الأرض جميعا ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتى وطرق مختلفة، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.
أفبعد هذا كله يكفرون به وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويضرب لهم الأمثال ليهتدوا بها في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم في دينهم ودنياهم؟
الإيضاح
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) أي على أي حال تكفرون بالله، وعلى أي شبهة تعتمدون وحالكم في موتتيكم وحياتيكم لا تدع لكم عذرا في الكفران به، والاستهزاء بما ضربه من المثل وإنكار نبوة نبيه.
(وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ) أي والحال أنكم كنتم قبل هذه النشأة في الحياة الدنيا أمواتا، أجزاؤكم متفرقة في الأرض، بعض منها في الطبقات الجامدة، وأخرى في الطبقات السائلة، وقسم في الطبقات الغازية، تشركون سائر أجزاء الحيوان والنبات في ذلك، ثم خلقكم في أحسن تقويم وفضلكم على غيركم بنعمة العقل والإدراك والفهم، وتسخير جميع الكائنات الأرضية لكم.
(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) حين انقضاء آجالكم بقبض الأرواح التي بها نظام حياتكم، وحينئذ تنحل أبدانكم وتعود سيرتها الأولى، وتنبثّ في طبقات الأرض وينعدم هذا الوجود الخاص الذي لها.
(ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) حياة أخرى أرقى من هذه الحياة، وأكمل لمن زكي نفسه وعمل صالحا، ودونها لمن أفسد فطرته، وأهمل التدبر في سنن الكون، وأنكر الإله والرسل وفسق عن أمر ربه.
(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء على ما قدمتم من عمل، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر.
وبعد أن عدد سبحانه آياته في الأنفس بذكر المبدأ والمنتهى - ذكر آياته في الآفاق الدالة على قدرته المحيطة بكل شيء، وعلى نعمه المتظاهرة على عباده بجعل ما في الأرض مهيأ لهم ومعدّا لمنافعهم فقال:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وهذا الانتفاع يكون بإحدى وسيلتين:
(1) إما بالانتفاع بأعيانه في الحياة الجسدية ليكون غذاء للأجسام أو متعة لها في الحياة المعيشية.
(2) وإما بالنظر والاعتبار فيما لا تصل إليه الأيدي فيستدل به على قدرة مبدعه ويكون غذاء للأرواح.
وبهذا نعلم أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق في الأرض، فليس لمخلوق حق في تحريم شيء أباحه الله إلا بإذنه كما قال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرامًا وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ).
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) السماء كل ما في الجهة العليا فوق رءوسنا، واستوى إليها أي قصدها قصدا مستويا بلا عاطف يثنيه من إرادة خلق شيء آخر في أثناء خلقها.
(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي أتمّ خلقهنّ فجعلهنّ سبع سموات تامات الخلق والتكوين.
وفي الآية إيماء إلى أن خلق الأرض وما فيها كان سابقا على تسوية السموات سبعا، وهذا لا يخالف قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّماءُ؟ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) لأن كلمة (بعد) فيها بعدية في الذكر لا في الزمان، فمن استعمالاتهم أن يقولوا: أحسنت إلى فلان بكذا، وقدمت إليه المعونة وبعد ذلك ساعدته في عمله، على معنى وزيادة على ذلك ساعدته، أو أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض: أي تمهيدها للسكنى والاستعمار، لا مجرد خلقها وتقدير الأقوات فيها.
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا يوحى إليه بكتاب لهداية من يشاء من عباده يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته، جل أو حقر، عظم أو صغر.
[سورة البقرة (2): آية 30]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)
تفسير المفردات
خليفة: أي عن نوع آخر، أو خليفة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس، السفك والسفح والسكب: الصبّ، والتسبيح: تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس: إثبات ما يليق من صفات الكمال.
المعنى الجملي
هذه الآية كالتي قبلها تعداد للنعم الصارفة عن العصيان والكفر، الداعية إلى الإيمان والطاعة، فإن خلق آدم على تلك الصورة، وما أوتيه من نعمة العلم وحسن التصرف في الكون، وجعله خليفة الله في أرضه - لمن أجل النعم التي يجب على ذريته أن يشكروه عليها بحسن طاعته، والبعد عن كفرانه ومعصيته.
وفيها وفيما بعدها قصص لأخبار النشأة الإنسانية أبرز فيه حكما وأسرارا جاءت في صورة مناظرة وحوار - وهو من المتشابه الذي لا يمكن حمله على المعنى الظاهر منه، لأنه إما استشارة من الله لعباده، وذلك محال، وإما إخبار منه للملائكة فاعتراض منهم ومحاجّة، وذلك لا يليق بالله ولا بملائكته بحسب ما جاء في وصفهم في قوله: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ومن ثم كان للعلماء في هذا وأمثاله رأيان:
(ا) رأي المتقدمين منهم، وهو تفويض الأمر إلى الله في بيان المراد من كلامه، مع العلم بأنه لا يخبرنا بشىء إلا لنستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا، بذكر ما يقرّب المعاني إلى عقولنا.
فهذا الحوار المصوّر بصورة القول والمراجعة والسؤال والجواب لا ندرك حقيقة المراد منه، وان كنا نجزم بأن هناك مقاصد أريد إفادتها بهذه العبارات، وأن الله كان يعدّ لآدم هذا الكون، وأن لذلك المحلوق كرامة لديه بما أودعه فيه من فضائل ومزايا، وفائدة ذكر ذلك لنا من نواح عدة:
(1) بيان أن لا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، فالملائكة وهم أولى منا بعلمها عجزوا عن معرفتها.
(2) أن الله قد هدى الملائكة بعد حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم، بأن أرشدهم إلى الخضوع والتسليم أوّلا بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ثم بالدليل ثانيا بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة.
(3) أن الله جلّت قدرته رضى لخلقه أن يسألوه عما خفي عليهم من أسراره في الخليقة، والسؤال كما يكون بالمقال يكون بالحال بالتوجه إلى الله أن يفيض عليهم العلم بمعرفة ما أشكل عليهم.
(4) تسلية النبي ﷺ عن تكذيب المشركين له ومحاجتهم بلا برهان يستندون إليه - بأنه لا بدع في ذلك، فالملائكة طلبوا الدليل والبرهان من ربهم فيما لا يعلمون، فالأنبياء يجدر بهم أن يصبروا على المكذبين ويعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، ويأتوهم بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة.
(ب) رأي المتأخرين منهم - وهو تأويل ما اشتبه علينا من قواعد الدين، لأنها إنما وضعت على أساس العقل، فإذا ورد في النقل شيء يخالف حكم العقل، حمل النقل على غير الظاهر منه بتأويله حتى يتفق مع حكم العقل.
وعلى هذا - فالقصة وردت مورد التمثيل ليقرّبها سبحانه من أذهان خلقه بإفهامهم حال النشأة الآدمية وما لها من ميزة خاصة - بأن أخبر ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة - فعجبوا وسألوه بلسان المقال إن كانوا ينطقون، أو بلسان الحال بالتوجه إليه تعالى أن يفيض عليهم المعرفة - كيف تخلق هذا النوع ذا الإرادة المطلقة والاختيار الذي لا حد له، وربما اتجه بإرادته إلى خلاف المصلحة والحكمة، وذلك هو الفساد، فألقى عليهم بطريق الإلهام وجوب الخضوع والتسليم لمن هو بكل شيء عليم، فما يضيق عنه علم أحد يتسع له علم من هو أعلم منه، وهذا جواب ربما لا يذهب بالحيرة، ومن ثمّ تفضل على الملائكة وأبان لهم الحكمة في خلق هذا النوع، فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فعلموا أن في فطرة هذا النوع استعدادا لعلم ما لم يعلموا، وأنه أهل للخلافة في الأرض، وأن سفك الدماء لا يذهب بحكمة الاستخلاف وفائدته.
وخلاصة هذا - إن الملائكة تشوّفوا لمعرفة الحكمة في استخلاف ذلك المخلوق الذي من شأنه ما قالوا، ومعرفة السر في تركهم وهم المجبولون على تسبيحه وتقديسه - فأعلمهم أنه أودع فيه من السر ما لم يودعه فيهم، هذا مجمل ما جلى به الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله هذا البحث حين تفسيره للآية ونقله عنه صاحب المنار في تفسيره.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي واذكر لقومك مقال ربك للملائكة: إني جاعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض، وانقرض بعد أن أفسد في الأرض وسفك الدماء وسيحل هو محله، يرشد إلى ذلك قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) ومن ثمّ استنبط الملائكة سؤالهم بالقياس عليه، وعلى هذا فليس آدم أوّل أصناف العقلاء من الحيوان في الأرض.
ويرى جمع من المفسرين أن المراد بالخلافة الخلافة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس، ومن ثم اشتهر « الإنسان خليفة الله في الأرض » ويشهد له قوله تعالى: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ).
وهذا الاستخلاف يشمل استخلاف بعض أفراد الإنسان على بعض، بأن يوحى بشرائعه على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه، واستخلاف هذا النوع على غيره من المخلوقات بما ميزه به من قوة العقل، وإن كنا لا نعرف سرها ولا ندرك كنهها، وهو بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود العلم، يتصرف في الكون تصرفا لا حدّ له، فهو يبتدع ويفتنّ في المعدن والنبات، وفي البرّ والبحر والهواء، ويغيّر شكل الأرض فيجعل الماحل خصبا، والحزن سهلا، ويولّد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن، ويتصرّف في أنواع الحيوان كما شاء بضروب التوليد، ويسخر كل ذلك لخدمته.
ولا أدلّ على حكمة الله من جعل الإنسان الذي اختصّ بهذه المواهب خليفة في الأرض يظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته.
(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي أتجعل من يقتل النفوس المحرمة بغير حق خليفة في الأرض؟
(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي أتستخلف من هذه صفته ونحن المعصومون؟
(قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي قال لهم ربهم: إني أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفي عليكم، وفي هذا إرشاد للملائكة أن يعلموا أن أفعاله تعالى كلها بالغة غاية الحكمة والكمال وإن عمّى ذلك عليهم.
[سورة البقرة (2): الآيات 31 الى 33]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
تفسير المفردات
الأسماء: واحدها اسم، وهو في اللغة ما به يعلم الشيء، والإنباء: الإخبار، وقد يستعمل في الإخبار بما فيه فائدة عظيمة وهو المراد هنا، إيذانا برفعة شأن الأسماء وعظيم خطرها، سبحانك: أي تقديسا وتنزيها لك، والعليم: هو الذي لا تخفى عليه خافية، والحكيم: هو المحكم لمبتدعاته، الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة.
المعنى الجملي
قد علمت مما سبق أن هذه المراجعات والمناظرات إما أن نفوّض أمر معرفتها إلى الله كما هو رأى السلف، وإما أن نلجأ فيها إلى التأويل، وأحسن طرقه أن يكون الكلام ضربا من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة تقريبا للأفهام.
وبهذا القصص نعرف ما امتاز به النوع الإنساني عن غيره من المخلوقات، وأنه مستعدّ لبلوغ الكمال العلمي إلى أقصى الغايات، دون الملائكة، ومن ثمّ كان أجدر بالخلافة منهم.
الإيضاح
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) اسم الله هو ما به عرفناه في أذهاننا بحيث يقال إنا نؤمن بوجوده، وهو بهذا الإطلاق هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى كما جاء في قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) - (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).
أو يقال المراد من الأسماء المسميات، وعبر بها عنها للصلة الوثيقة بين الدالّ والمدلول وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، وأيّا كان فإن العلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات، أما الألفاظ الدالة عليها فهي تختلف باختلاف اللغات التي تجرى بالمواضعة والاصطلاح.
والله تعالى علم آدم الأجناس التي خلقها، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها، ولا فارق بين أن يكون هذا العلم في آن واحد أو آنات متعددة، فالله قادر على كل شيء، وإن كان لفظ (علّم) يشعر بالتدريج كما يشهد له نظائره من نحو: (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) - (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إلى نحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ التعليم، لكن المتبادر هنا أنه كان دفعة واحدة.
(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) أي ثم أطلعهم على مجموعة تلك الأشياء إطلاعا إجماليا بالإلهام أو غيره مما يليق بحالهم، وربما كان بعرض نماذج من كل نوع يتعرف منها أحوال البقية وأحكامها.
والحكمة في التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه، كى لا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده.
(فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أمر الملائكة بهذا الإنباء إظهارا لعجزهم عن معرفتها، وإشارة إلى أن الخلافة في الكون والتصرف فيه وتدبير شؤونه وإقامة العدل فيه تكون بعد الوقوف على مراتب الاستعداد ومعرفة من يكون أهلا للخلافة.
(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان هناك مجال للدهشة في كون الخليفة من البشر، وفي أن ما اختلج في خواطركم من الشبهة أصاب الصواب، وحلّ محله من القبول، فأنبئونى بأسماء ما عرضته عليكم.
وإنا لنسترشد بهذه الآية إلى أن المدّعى لشيء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادّعى، فالملائكة قد بحثوا عن سرّ الغيب فقرعوا بالعيان، فكأنه قيل لهم: أنتم لا تعلمون أسرار ما تعاينون، فكيف تتكلمون في أسرار ما لا تعاينون؟.
وفي قوله (هؤلاء) إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها حسه كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه.
(قالُوا سُبْحانَكَ) أي نقدسك عما لا يليق بك من قصور العلم فتخلق الخليفة عبثا خاليا من الحكمة والفائدة، أو تسألنا عن شيء نفيده، وأنت تعلم أن علمنا لا يحيط به ولا نقدر على الإنباء به.
وكلمة (سبحانك) تقدّم في معرض التوبة كما قال موسى عليه السلام: (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) وقال يونس: (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
(لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) وهو علم محدود لا يتناول جميع الأشياء، ولا يحيط بكل المسميات، وهذا منهم اعتراف بالعجز عما كلّفوه، وإشعار بأن سؤالهم كان سؤال مستفسر لا سؤال معترض، وفيه ثناء على الله بما أفاض عليهم من العلم مع تواضع وأدب، فكأنهم قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا بحسب استعدادنا، ولو كنا مستعدين لأكثر من ذلك لأفضت علينا.
ثم أكدوا ما تقدم بقولهم:
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وفي هذا الجواب منهم إيذان بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب عليهم ألا يغفلوا عن مثله، من التفويض لواسع علم الله وعظيم حكمته، بعد أن تبين لهم ما تبين، وإيماء إلى أن الإنسان ينبغي له ألا يغفل عن نقصانه، وعن فضل الله عليه وإحسانه، ولا يأنف أن يقول لا أعلم إذا لم يكن يعلم، ولا يكتم الشيء الذي يعلم.
(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أي أعلمهم بأسمائهم التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها.
وقال « أنبئهم » دون أنبئني، للإشارة إلى أن علمه عليه السلام بها ظاهر لا يحتاج إلى ما يجرى مجرى الامتحان، وإلى أنه جدير أن يعلّم غيره، فتكون له منّة المعلم المفيد، ولهم مقام المتعلم المستفيد، ولئلا تستولى عليه الهيبة، فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.
(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي فلما أنبأهم بأسمائهم وبين لهم أحوال كل منهم وخواصه وأحكامه، قال تعالى للملائكة: قد قلت لكم إني أعلم ما غاب في السموات والأرض فلا أخلق شيئا سدى، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا وأعلم ما تظهرون من نحو قولكم: (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وما كنتم تكتمون من نحو قولكم: لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، فنحن أحقاء بالخلافة في الأرض.
وفي هذه الآيات دلالة على شرف الإنسان على غيره من المخلوقات، وعلى فضل العلم على العبادة، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم ولم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة، وعلى أن شرط الخلافة العلم بل هو العمدة فيها، وعلى أن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم، والأفضل هو الأعلم بدليل قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).
وفي استخلاف آدم في الأرض معنى سام من الحكمة الإلهية خفي على الملائكة، فإنه لو استخلفهم فيها لما عرفوا أسرار هذا الكون وما أودع فيه من الخواص، فإنهم ليسوا بحاجة إلى شيء مما في الأرض، إذ هم على حال يخالف حال الإنسان، فما كانت الأرض لتزرع بمختلف الزروع، ولا تستخرج المعادن من باطنها، ولا تعرف خواصها الكيمائية والطبيعية، ولا تعرف الأجرام الفلكية ولا المستحدثات الطبية، ولا شيء من العلوم التي تفنى السنون ولا يدرك الإنسان لها غاية.
[سورة البقرة (2): آية 34]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
المعنى الجملي
بعد أن أعلم الله تعالى الملائكة مكانة آدم وأنه جعله خليفة في الأرض، أمرهم بالسجود له سجود خضوع لا سجود عبادة اعترافا بفضله، واعتذارا عما قالوه في شأنه، من قولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها ».
الإيضاح
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) السجود لغة الخضوع والانقياد، ومن أعظم مظاهره وضع الجبهة على التراب، وكان تحية للملوك عند بعض القدماء كما ورد من سجود يعقوب وأولاده ليوسف.
والسجود لله قسمان: سجود العقلاء تعبدا على الوجه المعروف شرعا، وسجود المخلوقات كلها بانقيادها وخضوعها لمقتضى إرادته كما قال: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) وقال: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا).
والملائكة من عالم الغيب لا نعرف حقيقتهم، والكتاب الكريم يرشد إلى أنهم أصناف، لكل صنف عمل، وقد جاء في لسان الشرع إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين وهو مشهور في الكتاب والسنة، فقد روى الترمذي « إن للشيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) »
واللمة: الإلمام والإصابة.
فالملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس لا نعرف حقيقته، بل نؤمن بما ورد فيه ولا نزيد عليه شيئا آخر.
ويرى بعض المفسرين أن ما ورد من أن الملائكة موكلون بالأعمال من إنماء نبات وخلق حيوان وحفظ إنسان، فمعناه أن هذا النموّ في النبات إنما هو بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان.
فكل شيء قائم بنظام خاص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهي سمى في لسان الشرع ملكا، ومن لا يعترف بالغيب يسميه قوة طبيعية أو ناموسا طبيعيا فالمؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن به يقول أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، وإذا فلا خلاف بين الناس في وجود شيء غير ما يرى ويحسّ، لا يفهم حق الفهم ولا يصل العقل إلى إدراك كنهه.
وكلنا نشعر إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفوسنا تنازعا وكأنّ الأمر قد عرض على مجلس للشّورى، فواحد يقول افعل وآخر يقول لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر، فهذا الذي أودع في نفوسنا ونسميه قوة وفكرا هو في الحقيقة معنى لا ندرك كنهه، ولا يبعد أن نسميه أو نسمى سببه ملكا، انتهى كلامه ملخصا.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده: فإذا جرينا على هذا التفسير فليس ببعيد أن تكون في الآية إشارة إلى أن الله لما خلق الأرض ودبّرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من المخلوقات لا يتعداه، خلق الإنسان وأعطاه قوة بها يتصرف في جميع القوى ويسخّرها في عمارة الأرض، وهذا التسخير هو المعبر عنه بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع، وبهذه القوة التي لاحد لها جعله الله خليفة في أرضه، لأنه أكمل الموجودات، واستثنى من هذه القوى قوّة واحدة تميل بالكامل إلى النقص، وتصده عن عمل الخير، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته، تلك القوة ضلّلت آثارها قوما فزعموا أن في العالم إلها يسمى إله الشر، وما هي بإله ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو، تلك القوة هي المعبر عنها بإبليس.
ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق، انتهى كلامه رحمه الله (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) أي سجد الملائكة جميعا إلا إبليس.
وللعلماء في حقيقة إبليس رأيان:
أحدهما أنه كان جنيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم متصفا بصفاتهم، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ولأن الملائكة لا يستكبرون، وهو قد استكبر، وهو قد خلق مما خلق منه الجن، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
ثانيهما: أنه كان من الملائكة، لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، ولأن الظاهر من هذه الآية وأمثالها أنه منهم، قال البغوي وهو الأصح، وقال في التيسير: إن وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم دليل على تصور العصيان منهم، ولولا ذلك ما مدحوا به، لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف، وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع، ولا يستنكر من الملائكة تصور العصيان، فقد ذكر عن هاروت وماروت ما ذكر، وليس هناك دليل على أن بين الملائكة والجن فروقا جوهرية بها يمتاز أحدهما من الآخر، بل هي فروق في الأوصاف فقط، والجميع من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نضيف إليها شيئا إلا إذا ورد به نص عن المعصوم.
(أَبى وَاسْتَكْبَرَ) أي امتنع عما أمر به من السجود، وأظهر كبره وترفع عن الحق زعما منه أنه خير من الخليفة عنصرا، وأزكى جوهرا كما قص ذلك عنه (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فهو الأحق بالرياسة.
(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وصار من الكافرين برفض الإذعان لأمر الله لزعمه أنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يخضع لمن دونه.
[سورة البقرة (2): الآيات 35 الى 37]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
تفسير المفردات
الرغد: الهنيء الذي لاعناء فيه، أو الواسع يقال رغد عيش القوم إذا كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش، والزلل: السقوط يقال زلّ في طين أو منطق يزل بالكسر زليلا، وقال الفراء: زلّ يزلّ بالفتح زللا، والهبوط كما قال الراغب الانحدار على سبيل القهر، ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة فسمى الخروج منها هبوطا أو سمى بذلك لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه، أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد كقوله لبني إسرائيل (اهْبِطُوا مِصْرًا) والعدو: هو المجاوز حده في مكروه صاحبه وهو يصلح للواحد والجمع، ومن ثم لم يقل أعداء، والمستقر: الاستقرار والبقاء، والمتاع: الانتفاع الذي يمتد وقته، والحين: مقدار من الزمن قصيرا كان أو طويلا، وتلقى الكلمات: هو أخذها بالقبول والعمل بها حين علمها.
المعنى الجملي
علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء، فأعلمهم المولى بأن علمهم لا يرقى إلى الإحاطة بمعرفة حكمته، وأن الله أوجد آدم وفضله بتعليم الأسماء كلها، وأنه تعالى أخضع له الملائكة إلا إبليس فقد أبي واستكبر عن السجود، لما في طبيعته من الاستعداد للعصيان، وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها ونهاهما أن يأكلا من شجرة معينة، وأعلمهما أن القرب منها ظلم لأنفسهما وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبي ﷺ عما يلاقى من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، فالضعف غريزة فيهم ينتهى إلى أول سلف منهم وهو أبوهم آدم عليه السلام، فقد تغلبت عليه الوساوس، فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
الإيضاح
(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي وقلنا له: اتخذ الجنة مسكنا لك ولزوجك. واختلفت آراء العلماء في الجنة المرادة هنا، فمن قائل إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في هذه السورة، وفي ظواهر السنة ما يدلّ عليه، فهي إذا في السماء حيث شاء الله منها.
ومن قائل إنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل بفلسطين وليست هي الجنة المعروفة، وعلى هذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى بالتأويلات، فقال: نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين، أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم ا هـ.
قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني: ومما يؤيد هذا الرأي:
(1) أن الله خلق آدم في الأرض ليكون خليفة فيها هو وذريته، فالخلافة منهم مقصودة بالذات، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة.
(2) أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم (3) أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة.
(4) أنها دار للنعيم والراحة، لا دار للتكليف، وقد كلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.
(5) أنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها.
(6) أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر، لا دار رجس.
وعلى الجملة فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها، ومنها أن عطاءها غير مجذوذ ولا مقطوع لا تنطبق على جنة آدم ا هـ.
(وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما) أي كلا منها أكلا هنيئا من أي مكان شئتما.
وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا حصر لها.
(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة، فلا نستطيع أن نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع، ولأن المقصود يحصل بدون التعيين، ولكنا نقول إن النهى كان لحكمة كأن يكون في أكلها ضرر أو يكون ذلك ابتلاء من الله لآدم واختبارا له، ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى معرفة الأشياء واختبارها، ولو كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر وقوله: من الظالمين، أي لأنفسكما بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها من المعصية، أو بنقصان حظوظكما بفعل ما يمنع الكرامة والنعيم، أو بتعدي حدود الله.
وقد علق النهى بالقرب منها وهو مقدمة الأكل، تنبيها إلى أن القرب من الشيء يورث ميلا إليه يلهى القلب عما يوجبه العقل والشرع.
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي حملهما على الزلة بسبب الشجرة، وقد وسوس لهما بقوله: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) وقوله: (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) وقسمه لهما: (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).
(فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي من الجنة أو من النعيم الذي كانا فيه، فاتصلت العقوبة بالذنب اتصال المسبّب بسببه المباشر.
(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) المأمور بالهبوط آدم وزوجه وإبليس، وهو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وكثير من السلف، ويشهد له قوله « بعضكم لبعض عدو » إذ العداوة بين الشيطان والإنسان.
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي اهبطوا متعادين يبغى بعضكم على بعض بتضليله.
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى وقت محدود وليسا بدائمين كما زعم إبليس حين وسوس لآدم، وسمى الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد.
وفي هذا إشارة إلى أن الإخراج من جنة الراحة إلى الأرض للعمل فيها لا للفناء ولا للمعاقبة بالحرمان من التمتع بخيراتها ولا للخلود فيها.
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي إن الله تعالى ألهمه كلمات فعمل بها فأناب إليه - وهي كما روى عن ابن عباس: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وروى عن ابن مسعود أنها: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله إلا أنت، ظلمت نفسي، فاغفرلى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
(فَتابَ عَلَيْهِ) التوب الرجوع، فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية إلى الطاعة، وإذا وصف به الباري تعالى أريد به الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة.
ولا تكون التوبة مقبولة من العبد إلا بالندم على ما كان، وبترك الذنب الآن وبالعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان، وبردّ مظالم العباد، وبإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار له باللسان.
والخلاصة - إنه تعالى قبل توبته وعاد إليه بفضله ورحمته.
(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التواب هو الذي يقبل التوبة عن عباده كثيرا، فمهما اقترف العبد من الذنوب وندم على ما فرط منه وتاب تاب الله عليه، والرّحيم هو الذي يحفّ عباده برحمته إذا هم أساءوا ورجعوا إليه تائبين.
وقد جمع بين الوصفين (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) للإشارة إلى عدة الله تعالى للعبد التائب بالإحسان إليه مع العفو عنه والمغفرة له.
وهاهنا مسائل ثلاث أطال المفسرون الكلام فيها، ونحن نوجز القول فيها.
(ا) ما أوردوه في هبوط آدم وحواء من الجنة ووصف ذلك، وقد نقلوا أكثره من الإسرائيليات التي لا يصح شيء منها عند النقدة من أهل العلم ورجال الدين.
(ب) خلق حوّاء من ضلع آدم أخذا بظاهر قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها)
ومن حديث أبي هريرة في الصحيحين من قوله. ﷺ: « واستوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج »
ومما ورد في سفر التكوين في التوراة مبينا خلق آدم وحوّاء.
وجوابنا عن ذلك:
(1) أن كثيرا من المفسرين قالوا إن المراد في الآيتين بقوله « منها » أي من جنسها ليوافق قوله في سورة الروم: (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) إذ المراد دون شك أنه خلق أزواجا من جنسكم، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها.
(2) أن الحديث قد جاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، ويؤيد هذا قوله آخر الحديث: « وإن أعوج شيء في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا » فهو على حدّ قوله تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ).
(ح) عصيان آدم ثم توبته، مع أن الأنبياء معصومون من ارتكاب الذنوب، ولنا في الجواب عن هذه المسألة ثلاث طرق:
(1) أن المخالفة التي صدرت منه كانت قبل النبوة، والعصمة إنما تكون عن مخالفة الأوامر بعدها.
(2) أن الذي وقع منه كان نسيانا، فسمى عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة.
(3) أن ذلك من المتشابه كسائر ما جاء في القصة، مما لا يمكن حمله على ظاهره، ويجب تفويض أمره إلى الله كما هو رأى سلف الأمة، أو هو من باب التمثيل كما هو رأي الخلف.
وقد أجاد الأستاذ الإمام محمد عبده بيانه قال:
إن إخبار الله تعالى الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حدّ لهما، تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك، وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في الأرض وانتفاعه به في استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبّرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك، وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون أفراده فيه كالملائكة، بل أعظم أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشرى، ويراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ما يلذ له من مأكول ومشروب، ومشموم ومسموع في ظل ظليل، وهواء عليل. وماء سلسبيل ويراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة فيقال: كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، ويراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة وفسرت بكلمة الكفر.
والمعنى على هذا - إن الله تعالى كوّن النوع البشرى في أطوار ثلاثة:
(1) طور الطفولة وهو طور لا همّ فيه ولا كدر، بل هو لهو ولعب كأنه في جنة ملتفة الأشجار يانعة الثمار.
(2) طور التمييز الناقص، وفيه يكون الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان.
(3) طور الرشد، وهو الذي يعتبر فيه المرء بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه حين الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شيء وإليها يرجع الأمر كله.
والإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه، فقد كان الإنسان في ابتداء حياته الاجتماعية ابتداء ساذجا سليم الفطرة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالعصر الذهبي.
ولكن لم يكفه هذا النعيم العظيم، فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم، فثار النزاع وعظم الخلاف، وهذا هو الطور الثاني المعروف في تاريخ الأمم.
ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر، وتحديد حدود للأعمال تنتهى إليها نزعات الشهوات، ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.
وبقي طور آخر أعلى من هذه الأطوار، وهو منتهى الكمال، وهو طور الدين الإلهي والوحي السماوي الذي به كمال الهداية الإنسانية. انتهي كلامه ملخصا.
[سورة البقرة (2): الآيات 38 الى 39]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
تفسير المفردات
الهدى: الرشد بإرسال رسول بشريعة يأتي بها، وكتاب ينزله ويبلغه لكم، الخوف: ألم الإنسان مما قد يصيبه من مكروه، أو حرمانه من محبوب يتمتع به أو يطلبه، والحزن: ألم يلمّ به إذا فقد ما يحب، والآيات: واحدتها آية وهي العلامة الظاهرة، والمراد بها كل ما يدل على وجود الخالق ووحدانيته مما أودعه في الكون ونشاهده في الأنفس، وتطلق على كل قسم من أقسام القرآن التي تتألف منها سور القرآن، ويقف القارئ عندها في تلاوته، والعمدة في معرفة ذلك على التوقيف المأثور عن النبي ﷺ، وسميت بذلك لأنها دلائل لفظية على الأحكام والآداب التي شرعها الله لعباده، وأصحاب النار: ملازموها فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها، والخلود: الدوام.
المعنى الجملي
أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرتين، الأولى للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، وتعاد واستقرار في الأرض إلى حين للتمتع بخيراتها، والثانية لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين:
فريق يهتدى بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسله، وأولئك هم الفائزون ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وفريق سار في طريق الضلال وكذّب بالآيات، وأولئك جزاؤهم جهنم خالدين فيها أبدا.
الإيضاح
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا) هذا الأمر لبيان أن طور النعيم والراحة قد انتهى وجاء طور العمل، وفيه طريقان: هدى وإيمان، وكفر وخسران.
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الخطاب لآدم وزوجه وإبليس، والمراد ذريته.
(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) أي فمن استمسكوا بالشرائع التي أتى بها الرسل، وراعوا ما يحكم العقل بصحته بعد النظر في الأدلة التي في الآفاق والأنفس.
(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن المهتدين بهدى الله لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، فإن من سلك سبيل الهدى سهل عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضى ربه، ويوجب مثوبته، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأحسن عزاء عما فقده، فمثله مثل التاجر الذي يكدّ ويسعى وتنسيه لذة الربح آلام التعب.
والأديان قد حرّمت بعض اللذات التي كان في استطاعة الإنسان أن يتمتع بها، لضررها إما بالشخص أو بالمجتمع، فمن تمثلت له المضارّ التي تعقب اللذة المحرّمة وتصور ما لها من تأثير في نفسه أو في الأمة فرّ منها فرار السليم من الأجرب، إلى أن المؤمن بالله واليوم الآخر، يرى في انتهاك حرمات الدين ما يدنّس النفس ويبعدها عن الكرامة، يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه.
والخلاصة - إن من جاءه الهدى على لسان رسول بلغه إياه واتبعه، فقد فاز بالنجاة وبعد عنه الحزن والخوف يوم الحساب والجزاء والعرض على الملك الديان، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين لم يتبعوا هداى وهم الذين كفروا بآياتنا اعتقادا وكذّبوا بها لسانا، فجزاؤهم الخلود في النار بسبب جحودهم بها وإنكارهم إياها اتباعا لوسوسة الشيطان، وهذا مقابل قوله قبل « فمن تبع هداى » إلخ.
والتكذيب كفر سواء كان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول، أو مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد، وفي مثلهم يقول الله تعالى لنبيه: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) وقد يوجد الكفر بالقلب مع تصديق اللسان كما هي حال المنافقين.
[سورة البقرة (2): الآيات 40 الى 43]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
تفسير المفردات
إسرائيل: لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعناه صفي الله، وقيل الأمير المجاهد، وبنوه: ذريته وهم الأسباط الاثنا عشر، والذكر (بالضم) بمعنى الحفظ الذي هو ضد النسيان ويكون القلب خاصة، و(بالكسر) يقع على الذكر باللسان وبالقلب.
وعهد الله نوعان: عهد نظري، وهو الذي أخذه على جميع البشر، وهو وزن الأمور بميزان العقل والتدبر، والنظر المؤدى إلى جلاء الحقائق توصلا إلى معرفة الخالق، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى). وعهد ديني وهو أن يعبدوا الله وحده لا شريك له وأن يعملوا بشرائعه وأحكامه، وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم، والرهبة: خوف مع التحرز من الفعل، والآيات: هي الأدلة التي أيد الله بها نبيه ﷺ، وأعظمها القرآن الكريم، واللبس بالفتح: الخلط، والزكاة لغة: الطهارة، إذ فيها تطهير المال من الخبث والنفس من الشح والبخل.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة بذكر الكتاب وأنه لا ريب فيه، ثم ثنى بذكر اختلاف الناس فيه: من مؤمن به، وكافر بهديه، ومنافق مذبذب بين ذلك، ثم طالب الناس بعبادته، ثم أقام الدليل على أن الكتاب منزل من عند الله على عبده محمد ﷺ، وتحدّى المرتابين بما أعجزهم وحذرهم وأنذرهم، ثم حاجّ الكافرين وجاءهم بأوضح البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، ثم ذكر خلق السموات والأرض لمنافعهم وخلق الإنسان في أطواره المختلفة، وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذكر اليهود لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس ضغنا للمؤمنين، ولأن دخولهم في الإسلام حجة قوية على النصارى وغيرهم، لأنهم أقدم منهم عهدا.
الإيضاح
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي احفظوا بقلوبكم نعمى بالتفكر في شكرها باللسان.
وفي هذا إشارة إلى أنهم نسوها ولم يخطروها ببالهم، ولم تعين الآية هذه النعمة أراد بها نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمانا طويلا، حتى كانوا يسمّون شعب الله.
وهذه المكرمة التي أوتوها، والنعمة التي اختصّوا بها وكانوا مفضلين على الأمم والشعوب تقتضى ذكرها وشكرها، ومن شكرها الإيمان بكل نبي يرسله الله لهداية البشر، لكنهم جعلوا هذه النعمة حجة للإعراض عن النبي ﷺ والازدراء به، زعما منهم أن فضل الله محصور فيهم، فلا يبعث الله نبيا إلا منهم.
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) لو نظر بنو إسرائيل إلى العهد العام أو إلى العهود الخاصة المعروفة في كتابهم الذي أنزل إليهم، ومنها أنه سيرسل إليهم نبيا من بنى إخوتهم « إسماعيل » يقيم شعبا جديدا لآمنوا بالنبي ﷺ، واتبعوا النور الذي أنزل معه وكانوا من الفائزين.
أما عهد الله لهم فأن يمكّن لهم في الأرض المقدسة، ويرفع من شأنهم، ويخفض لهم العيش فيها، وينصرهم على أعدائهم الكفرة، ويكتب لهم السعادة في الآخرة.
ولما كان من موانع الوفاء بالعهد خوف بعضهم من بعض، ذكر هنا أن الخوف يجب أن يكون من الله وحده فقال:
(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي لا ترهبوا ولا تخافوا إلا من بيده مقاليد الأمور كلها وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى، وهو القادر على سلبها منكم، وعلى عقوبتكم على ترك الشكر عليها، ولا يرهب بعضكم بعضا خوف فوت بعض المنافع ونزول بعض الأضرار إذا أنتم اتبعتم الحق، وخالفتم غيركم من الرؤساء.
وبعد أن ذكر الوفاء بالعهد العام انتقل إلى العهد الخاص المقصود من السياق فقال:
(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ) أمرهم بالإيمان بالقرآن مع دخوله في قوله:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) إشارة إلى أن الوفاء به أهمّ إذ هو العمدة القصوى والمقصد الأول، وهو قد نزل مصدقا لما جاء في التوراة وما قبلها من كتب الأنبياء فالأوامر التي جاء بها: من الدعوة إلى التوحيد وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى نحو ذلك مما يوصّل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، هي مثل ما دعاكم إليه موسى والأنبياء قبله، إذ مقصد الجميع واحد، وهو تقرير الحق، وهداية الخلق، وإزالة ما طرأ على العقائد من الضلال.
(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي ولا تسارعوا إلى الكفر به، مع أن الأجدر بكم أن تكونوا أوّل من يؤمن به، إذ أنتم تعرفون حقيقته مما معكم من الكتب الإلهية وقد كنتم تبشرون بزمانه، وقد جاء في كتب السيرة أن النبي ﷺ قدم المدينة فكذبه يهودها، ثم بنو قريظة، وبنو النّضير، ثم خيبر، ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود.
(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) أي ولا تعرضوا عن التصديق بالنبي ﷺ وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل الذي يستفيده الرؤساء من مرءوسيهم من مال وجاه، ويرجوه المرءوسون من الحظوة باتباع الرؤساء ويخشونه من سطوتهم إذا هم خالفوهم.
وسمى هذا البدل قليلا لأن صاحبه يخسر رضوان الله وتحل به عقوبته في الدنيا والآخرة، ويخسر عزّ الحق، ويخسر عقله لإعراضه عن واضح البراهين وبيّن الآيات.
(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة.
وليس في هذا تكرار مع قوله: وإياي فارهبون، لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان لاتقاء الرئيس خوف منفعة تفوته من المرءوس، واتقاء المرءوس خوف غضب الرئيس، فطلب إليهم أن يتقوا الله وحده، إذ بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، وإليه المصير.
(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ولا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يتميزا، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه، فالنهى الأوّل عن التغيير، والنهى الثاني عن الكتمان وقد أبانت الآية طريقهم في الغواية والإغواء، فقد جاء في كتبهم:
(1) التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم، وتكون لهم عجائب وأفاعيل تدهش الألباب.
(2) أن الله يبعث فيهم نبيا من ولد إسماعيل يقيم به أمة، وأنه يكون من ولد الجارية (هاجر) وبين علامات واضحة له لا لبس فيها ولا اشتباه.
فأخذ الأحبار والرهبان يلبسون على العامة الحق بالباطل، ويوهمونهم أن النبي ﷺ من أولئك الأنبياء الذين وصفوا في التوراة بالكذب، ويكتمون ما يعرفونه من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، وما يعرفونه من نعوت الأنبياء الصادقين وسبيل دعوتهم إلى الله، إلى أنهم كانوا يصدونهم عن السبيل القويم بعدم الإيمان بالنبي ﷺ بزيادات يستحدثونها، وتقاليد يبتدعونها بضروب من التأويل والاستنباط من كلام بعض سلفهم وأفعالهم ويحكّمونها في الدين ويحتجون بأن الأقدمين كانوا أعلم بكلام الأنبياء وأشد اتباعا لهم، فعلى من بعدهم أن يأخذ بكلامهم دون كلام الأنبياء الذي يصعب علينا فهمه بزعمهم.
لكن هذه المعذرة لم يتقبلها الله منهم، ونسب إليهم اللبس والكتمان للحق الذي في التوراة إلى يومنا هذا، كما لم يتقبل ممن بعدهم من العلماء في أي شريعة ودين أن يتركوا كتابه ويتبعوا كلام العلماء بتلك الحجة عينها، فكل ما يعلم من كتاب الله يجب علينا أن نعمل به، وما لا يعلم يسأل عنه أهل الذكر، ومتى فهمناه وعلمناه عملنا به.
قال في التيسير: ويجوز صرف الخطاب إلى المسلمين وإلى كل صنف منهم، وبيانه أن يقال: أيها السلاطين لا تخلطوا العدل بالجوز، ويا أيها القضاة لا تخلطوا الحكم بالرشوة، وهكذا كل فريق. فهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حق وإبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعين عليه أداؤه حتى يأخذ عليه أجرا، فقد دخل في حكم الآية ا هـ.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) تقدم أن قلنا إن في الصلاة إظهار الحاجة إلى المعبود، والافتقار إليه بالقول أو بالفعل أو بكليهما، وإقامتها هي التوجه إلى الله بقلب خاشع والإخلاص له في الدعاء، وهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله، أما الصورة فليست مقصودة لذاتها، ومن ثم اختلفت في الشرائع بحسب الأديان والأزمان، ولكن الروح لا تغيير فيه ولا تبديل باختلاف الأنبياء.
والخلاصة - إنه بعد أن دعا بني إسرائيل إلى الإيمان أمرهم بصالح العمل على الوجه المقبول عند الله، فطلب إليهم إقامة الصلاة لتطهر نفوسهم كما طلب إليهم إيتاء الزكاة التي هي مظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس، لما فيها من بذل المال لمواساة عيال الله وهم الفقراء، ولما بين الناس من تكافل عام في هذه الحياة، فالغنى في حاجة إلى الفقير، والفقير في حاجة إلى الغنى كما ورد في الحديث: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا ».
وبعدئذ أمرهم بالركوع مع الراكعين، أي أن يكونوا في جماعة المسلمين ويصلوا صلاتهم، وقد حثّ على صلاة الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله، وإيجاد الألفة بين المؤمنين، ولأنه عند اجتماعهم يتشاورون في دفع ما ينزل بهم من البأساء أو يجلب لهم السراء، ومن ثم جاء في الخبر: « صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة ».
وعبر عن الصلاة بالركوع ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا، إذ لا ركوع فيها.
[سورة البقرة (2): الآيات 44 الى 46]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
تفسير المفردات
البرّ: سعة الخير، ومنه البرّ والبرّيّة للفضاء الواسع، والصبر: حبس النفس على ما تكره، أو هو احتمال المكروه بنوع من الرضى والاختيار والتسليم، كبيرة: أي ثقيلة شديدة الوقع، والخاشعين: هم المخبتون الخائفون المتطامنة جوارحهم وقلوبهم لله تعالى، يظنون: أي يستيقنون، ولقاء الله: هو الحشر إليه، والرجوع إليه: هو المجازاة ثوابا أو عقابا.
المعنى الجملي
الخطاب هنا لبني إسرائيل كما كان فيما قبله، وقد وبّخهم على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم، وهداهم إلى المخرج من هذه الضلالات، ذاك أن اليهود كانوا يدّعون الإيمان بكتابهم والعمل به والمحافظة عليه وتلاوته، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، إذ حق تلاوته هو الإيمان به على الوجه الذي يرضاه الله تعالى، ولكن الأحبار والرهبان وكانوا الآمرين الناهين لا يذكرون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إذا عارض شهواتهم.
فقد جاء في التوراة في صفة النبي ﷺ: « أنه يقيم من إخوتهم نبيّا يقيم الحق » وجاء في سفر تثنية الاشتراع (17) قال لي الرب: أحسنوا فيما تكلموا. (18) سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به (19) ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أكون المنتقم منه.
فحرفوا هذه البشارة به وأولوها بما يوافق أهواءهم.
وكانت لهم مواسم دينية تذكرهم بنعم الله عليهم، وتكون باعثا على إقامة الدين والعمل به، لكن طول العهد جعل القلوب قاسية فخرجت عن تعاليم الدين، واتباع الخير وسلوك طريق الرشاد، واستمسك الأحبار بالظواهر وقلدهم في ذلك العامة، فما كانوا يعرفون من الدين إلا العبادات العامة، والمراسم الدينية، وما عدا ذلك مما لا فائدة لهم فيه ولا هوى، يلجئون فيه إلى التأويل والتحريف حتى لا يصادم أهواءهم وشهواتهم.
الإيضاح
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) الخطاب موجه إلى حملة الكتاب من الأحبار والرهبان، فقد روى عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار المدينة، كانوا يأمرون من نصحوه سرّا بالإيمان بمحمد ﷺ ولا يؤمنون به، وقال السدي: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم يفعلون ما ينهون عنه.
والمراد من النسيان هنا الترك، لأن من شأن الإنسان ألا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، وعبر به عنه للمبالغة في عدم المبالاة والغفلة عما ينبغي أن يفعله، أي إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البرّ ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم؟ ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التوبيخ والتأنيب الذي ليس بعده زيادة لمستزيد، فإن الآمر بما لا يأتمر به تكون الحجة عليه قائمة بلسانه.
(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فتعرفون منه ما لا يعرفه من تأمرونهم باتباعه، والفرق عظيم بين من يفعل وينقصه العلم بفوائد ما يفعل، ومن يترك وهو عليم بمزايا ما يترك.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه، ويحذركم وخامة عاقبته، فإن من عنده أدنى مسكة من العقل لا يدّعى كمال العلم بالكتاب، ويقوم بالإرشاد إلى هديه، ويبين للناس سبيل السعادة باتباعه، ثم هو بعد لا يعمل به ولا يستمسك بأوامره ونواهيه.
وهذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود فهو عبرة لغيرهم، فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم فيكون حكمها عند الله حكمهم، فالجزاء إنما هو على أعمال القلوب والجوارح لا على صنف خاص من الشعوب والأفراد.
وبعد أن بين سبحانه سوء حالهم وذكر أن العقل لم ينفعهم والكتاب لم يذكّرهم، أرشدهم إلى الطريق المثلى، وهي الاستعانة بالصبر والصلاة فقال:
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الصبر الحقيقي إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس، وعمل أنواع الطاعات التي تشقّ عليها، والتفكر في أن المصايب بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع له والتسليم لأمره، والاستعانة به تكون باتباع الأوامر واجتناب النواهي بقمع النفس عن شهواتها وحرمانها لذاتها، وتكون بالصلاة لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، ولما فيها من مراقبة الله في السر والنجوى، وناهيك بعبادة يناجى فيها العبد ربه في اليوم خمس مرات، وقد روى أحمد رضي الله عنه أنه ﷺ كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وروى أن ابن عباس نعيت له بنت وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق وصلّى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: « واستعينوا بالصبر والصلاة ».
(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي وإن الصلاة لشاقة صعبة الاحتمال إلا على المخبتين لله الخائفين من شديد عقابه، وإنما لم تثقل على هؤلاء، لأنهم مستغرقون في مناجاة ربهم فلا يشعرون بشىء من المتاعب والمشاق، ومن ثم قال ﷺ: « وقرّة عيني في الصلاة » لأن اشتغاله بها كان راحة له، وكان غيرها من أعمال الدنيا تعبا له ولأنهم مترقبون ما ادّخروا من الثواب فتهون عليهم المشاقّ، ومن ثم قيل للربيع ابن خيثم وقد أطال صلاته: أتعبت نفسك، قال راحتها أطلب وقيل: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية.
ثم وصف الخاشعين بأوصاف تقربهم إلى ربهم وتدعوهم للإخبات إليه. فقال:
(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي لا تثقل الصلاة على الخاشعين الذين يتوقعون لقاء ربهم يوم الحساب والجزاء، وأنهم راجعون إليه بعد البعث فيجازيهم بما قدموا من صالح العمل.
وعبر بالظن للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا تشق عليه الصلاة، فما ظنك بمن يتيقنه، ومن ثم كان الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ، فكأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم لم يصل إيمانهم بكتابهم إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالأحوط في أعماله.
[سورة البقرة (2): الآيات 47 الى 48]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
تفسير المفردات
الشفاعة: من الشفع ضد الوتر، لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا، والعدل الفدية، وأصل العدل (بالفتح) ما يساوي الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، (وبالكسر) المساوى في الجنس والحجم، والنصرة: أخصّ من المعونة لأنها مختصة بدفع الضرر.
المعنى الجملي
كرر تذكيرهم بالنعم لكمال غفلتهم عما يجب عليهم من شكرها، وقد ذكرت فيما سبق مقترنة بوعد الله لهم بالنصر على الأعداء وسكنى الأرض المقدسة، واقترنت هنا بالوعيد، واتقاء عقاب الله في ذلك اليوم الشديد الهول الذي لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا، فكأنه قد قيل لهم إن لم تطيعوا الله لنعمه السالفة فأطيعوه للخوف من عقابه اللاحق.
وفي هذا التقريع والتوبيخ ما يدل على قساوة قلوبهم، فإن من شعر بقدر نفسه إذا خلا ونفسه وتذكر أنه ألمّ بنقيصة يتألم، ولم ير من اللائق به أن يدنسها مرّة أخرى برذيلة.
الإيضاح
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) هذا تأكيد لما تقدم وتمهيد لما عطفه عليه من التذكير بالتفضيل الذي هو من أجلّ النعم.
(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي وأعطيتكم الفضل والزيادة على غيركم من الشعوب حتى الأمم ذات الحضارة والمدنية كالمصريين وسكان الأراضي المقدسة.
وقد ناداهم باسم أبيهم لأنه منشأ فخارهم وأصل عزهم، وأسند النعمة والفضل إليهم جميعا لشمولهما إياهم، والتفضيل إنما أتاهم لتمسكهم بالفضائل وتركهم للرذائل، إذ من يرى نفسه مفضلا شريفا يترفع عن الدنايا.
وذكّرهم بهذا الفضل لينبههم إلى أن الذي فضلهم على غيرهم له أن يفضل غيرهم كمحمد ﷺ وأمته، وإلى أنهم أجدر من جميع الشعوب بالتأمل فيما
أوتيه النبي ﷺ من الآيات، فإن المفضّل أولى بالسبق إلى الفضائل ممن فضّل عليه وهذا الفضل إن كان بكثرة الأنبياء فلا مزاحم لهم فيه، ولا تقتضى هذه الفضيلة أن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، ولا تمنع أن يفضلهم أخسّ الشعوب إذا انحرفوا عن جادّة الحق وتركوا سنة أنبيائهم واهتدى بهديها غيرهم، وإن كان بالقرب من الله باتباع شرائعه، فذلك إنما يتحقق في أولئك الأنبياء والمهتدين من أهل زمانهم ومن تبعهم بإحسان ماداموا على الاستقامة وسلكوا الطريق الذي استحقوا به التفضيل.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي واخشوا يوما يقع فيه من الأهوال ما لا قدرة لكم على دفعه، ولا منجاة لكم منه إلا بتقوى الله في السر والعلن، يوم لا تحمل نفس أوزار نفس أخرى كما قال تعالى: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وقال: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) وقال: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) وقال: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) أي إنها إذا جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها.
(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي ولا يؤخذ منها فداء إن هي استطاعت أن تأتى بذلك.
(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي يمنعون من العذاب.
والخلاصة - إن ذلك يوم تتقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا من دفع المكروه عن النفس بالفداء أو بشفاعة الشافعين، عند الأمراء والسلاطين، أو بأنصار ينصرونها بالحق والباطل على سواها، وتضمحلّ فيه جميع الوسائل إلا ما كان من إخلاص في العمل قبل حلول الأجل، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله.
وقد كان اليهود كغيرهم من الأمم الوثنية يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا، فيتوهمون أنه يمكن تخليص المجرمين من العذاب بفداء يدفع، أو بشفاعة بعض المقربين إلى الحاكم فيغير رأيه وينقض ما عزم عليه.
فجاء الإسلام ومحا هذه العقيدة ليعلم المؤمنون أنه لا ينفع في ذلك اليوم إلا مرضاة الله بالعمل الصالح والإيمان الذي يبلغ قرارة النفس ويتجلى في أعمال الجوارح.
[تنبيه ]: هناك مسألة كثر خوض الناس فيها وأطالوا الجدل والأخذ والرد، وهي مسألة الشفاعة العظمى، شفاعة النبي ﷺ لأمته يوم القيامة وهاك بيانها:
جاء في القرآن الكريم آيات تفيد نفيها مطلقا، ومن ذلك قوله تعالى في وصف يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) وآيات تفيد ثبوتها متى أذن الله، ومن ذلك قوله: (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقوله: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى).
من أجل هذا افترق العلماء فرقتين: أولاهما تثبت الشفاعة وتحمل ما جاء من الآيات في نفيها مطلقا على ما جاء منها مقيدا فلا تكون شفاعة إلا إذا أذن الله. وثانيتهما تنفيها مطلقا وتقول إن معنى (إلا بإذنه) هنا النفي، وهذا أسلوب معروف لدى العرب في النفي القطعي كقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) وقوله: (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ).
وإذا فليس في القرآن الكريم نصّ قاطع في ثبوتها، ولكن جاء في السنة الصحيحة ما يؤيد وقوعها كقوله ﷺ: « شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فمن كذب بها لم ينلها ».
فيجب علينا أن نحدد معناها والمراد منها، وهل تكون في الآخرة كما هي في الدنيا.
الشفاعة المعروفة في دنيانا أن يحمل الشفيع من يشفع عنده على فعل أو ترك كان يريد غيره، فلا تتحقق فائدة الشفاعة إلا بترك ما أراده المشفوع لديه، وفسخ ما عزم عليه لأجل الشفيع، والحاكم العادل لا يقبل الشفاعة بهذا المعنى، ولكن يقبلها الحاكم الظالم المستبد فيقضى بما يعلم أنه ظلم وأن العدل خلافه، ويفضل ارتباطه بأواصر القربى أو الصداقة للشافع على العدالة، ومثل هذا محال في الآخرة على المولى جلّ وعلا، لأن إرادته بحسب علمه الأزلى الذي لا تغيير فيه ولا تبديل، وإذا فما ورد من الأحاديث يكون من المتشابه الذي يرى السلف تفويض الأمر فيه إلى الله دون أن نحيط بحقيقته ونكشف المراد منه وننزه الله عن الشفاعة التي نشاهد مثالها في الحياة الدنيا، وغاية ما نستطيع أن نقول: إنها مزية يختص الله بها من يشاء من عباده عبر عنها بلفظ (الشفاعة) ولا ندرك حقيقتها.
ويرى المتأخرون ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، أنها دعاء يدعوه النبي ﷺ فيستجيبه المولى جل وعلا كما يفهم من رواية الصحيحين وغيرهما أن النبي ﷺ يسجد يوم القيامة ويثنى على الله بثناء يلهمه يومئذ، فيقال له ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفّع، وليس في الشفاعة بهذا المعنى رجوع المولى عن إرادته لأجل الشافع، وإنما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ ما أراده الله أزلا عقب دعائه، فليس فيها ما يسدّ نهم المغرورين الذين يتهاونون في أوامر الدين ونواهيه اعتمادا منهم على الشفاعة كما قال: (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ).
[سورة البقرة (2): آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
تفسير المفردات
النجو: المكان العالي من الأرض، لأن من صار إليه يخلص وينجو، ثم سمى كل فائز ناجيا لخروجه من الضيق إلى السعة، والآل: من آل يئول بمعنى رجع، لأنه يرجع إليك في قرابة أو رأى أو مذهب، ولا يضاف إلا لذوي القدر والخطر، وفرعون: لقب لمن ملك مصر قبل البطالسة ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة، وسامه: كلفه، والسوء: السيء القبيح، وسوء العذاب: أشده وأفظعه، والبلاء: الاختبار والامتحان وهو تارة يكون بما يسّر ليشكر العبد ربه، وتارة بما يضر ليصبر، وتارة بهما ليرغب ويرهب.
المعنى الجملي
فصل في هذه الآية نعمة مما أنعم به على هذا الشعب العظيم، ذكر فيها ما حلّ بهم من العذاب والبلاء جزاء ما صنعوا من جرائم وارتكبوا من آثام. ثم ما كان من لطف الله بهم، إذ رفع عنهم البلاء ليتوبوا ويعرفوا قدر نعمته عليهم كما قال: (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وقد امتنّ على اليهود الذين كانوا عصر التنزيل بنعمة كانت لآبائهم، لأن الإنعام على أمة إنعام شامل لأفرادها سواء منهم من أصابه ذلك ومن لم يصبه، لما يكون له من الأثر في مجموع الأفراد يرثه الخلف عن السلف، فصنوف البلاء التي ذكّر بها اليهود في القرآن كانت للشعب من جراء جرائم وقعت من مجموعه.
وقد روى المؤرخون أن أول من دخل مصر من بني إسرائيل يوسف عليه السلام وانضم إليه إخوته بعد، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة نحو ستمائة ألف حين خرجوا من مصر باضطهاد فرعون وقومه لهم، إذ قد رأى تبسط اليهود في البلاد ومزاحمتهم للمصريين، فراح يستذلهم ويكلفهم شاقّ الأعمال في مختلف المهن والصناعات، وهم مع ذلك يزدادون نسلا، ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم لا يشركون المصريين في شيء ولا يندمجون في غمارهم، إلى مالهم من أنانية وإباء وترفع على سواهم، اعتقادا منهم بأنهم شعب الله وأفضل خلقه، فهال المصريين ما رأوا وخافوا إذا هم كثروا أن يغلبوهم على بلادهم، ويستأثروا بخيراتها وينتزعوها من بين أيديهم، وهمّ ذلك الشعب النشيط المجدّ العامل المفكر، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء بناتهم، فأمر فرعون القوابل أن يقتلن كل ذكر إسرائيلي حين ولادته.
والعبرة من هذا القصص أنه كما أنعم على اليهود، ثم اجترحوا الآثام فعاقبهم بصنوف البلاء، ثم تاب عليهم وأنجاهم، أنعم على الأمة الإسلامية بضروب من النعم، فقد كانوا أعداء فألّف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا، وكانوا مستضعفين في الأرض، فمكّن لهم وأورثهم أرض الشعوب القوية، وجعل لهم فيها السلطان والقوة، وجعلهم أمة وسطا لا تفريط لديها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على من أفرطوا أو قصروا.
ثم لما كفروا بهذه النعم أذاقهم الله ألوانا من العذاب على يد التتار في بغداد، وفي الحروب الصليبية إذ جاس الغربيون خلال الديار الإسلامية، ولا يزالون يتنقصون بلادهم من أطرافها ويصبّون عليهم العذاب وهم لاهون ساهون، وكلما حلّت بهم كارثة أو أصابتهم جائحة أحالوا الأمر فيها على القضاء والقدر دون أن يتعرفوا أسبابها ويبادروا إلى علاجها، ويكونوا يدا واحدة على رفع ما يحلّ بهم من النكبات وبدهمهم من الويلات.
الإيضاح
(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي واذكروا وقت تنجيتنا إياكم أي تنجية آبائكم، وتنجيتهم تنجية لأعقابهم، وهو استعمال تعهده العرب في كلامها، يقولون قتلناكم يوم عكاظ أي قتل آباؤنا آباءكم.
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يكلفونكم ما يسوءكم ويذلكم من العذاب.
ثم فصل هذا العذاب بقوله:
(يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يقتلون الذكور ويستبقون البنات إذلالا لكم حتى ينقرض شعبكم من البلاد.
(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفي ذلكم العذاب والتنجية منه امتحان عظيم من ربكم كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) وقوله: من ربكم: أي من جهته تعالى بتسليطهم عليكم، وبعث موسى وتوفيقه لخلاصكم.
[سورة البقرة (2): الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
تفسير المفردات
الفرق: الفصل بين الشيئين، والبحر: هو بحر القلزم فرقه الله اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباط بني إسرائيل، والسبط: ولد الولد، وهو من بني إسرائيل كالقبائل
من العرب، والعفو: محو الجريمة بالتوبة، والكتاب: التوراة، والفرقان: الآيات التي أيّد الله بها موسى ودلت على صدق نبوته، وبها يفرق بين الحق والباطل، والشكر يكون لمن فوقك بطاعته، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان إليه.
المعنى الجملي
في الآية الأولى تفصيل لمجمل ما ذكر في الآية السالفة من الإنجاء، وتصوير لحصوله وعظيم هوله، وكونه من خوارق العادات، وفي تضاعيف ذلك ذكر لهم نعمة أخرى وهي هلاك عدوهم فرعون وقومه وهم ينظرون، ثم ذكر النعمة التي تلتها وهي العدة بإعطاء التوراة وكفرهم بها باتخاذهم عجلا من ذهب وعبادتهم إياه، ثم عفوه عنهم بعد ذلك، ثم قفّى على ذلك بذكر إيتائهم الكتاب وهي المنة الكبرى مع الآيات التي أيّد بها موسى لتصديق نبوّته.
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي، وترك تعذيبه والعسف به، زاد فرعون في تعذيبهم وسامهم الخسف، وشدّد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد هذا ما جاء في سفر الخروج من التوراة: إن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل، ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته.
فبعد أن دعاه موسى إلى الإيمان زاد ظلما وعتوّا، فأمر الذين كانوا يسخّرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن (الطوب) ويكلفوهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شيء.
فأعطى الله موسى وأخاه هارون الآيات، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة، فلما آمن السحرة بربّ العالمين ربّ موسى وهارون، ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها ومدبرها، بل هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
وزعم بعض الناس أن عبور بني إسرائيل البحر كان وقت الجزر، وفي بحر القلزم (البحر الأحمر) رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، وكانوا لاستعحالهم واتصال بعضهم ببعض، قد جعلوا الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطود العظيم، يرشد إلى ذلك قوله: (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) ولم يقل فرقنا لكم البحر.
وقوله: (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) تشبيه معروف معهود مثله في مقام المبالغة كقوله: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) وقوله: (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) ألا ترى أن الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان، وإرادة التأثير في نفس السامع.
ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم قد عبروا البحر مشى إثرهم، وكان المد قد بدأ، ولم يتم خروج بني إسرائيل إلا وقد علا المدّ، وطغى حتى أغرق المصريين جميعا، وتحققت نعمة الله على بني إسرائيل، وتمّ لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان، ونعم الله بغير طريق المعجزات أتمّ وأكثر، فليس بلازم أن نجعل الامتنان في كونه معجزة لموسى عليه السلام ا هـ.
ومثل هذا التأويل ليسبضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم، إذ لا بد أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته، ثم نثبت لهم إمكان الوحي وإرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات.
الإيضاح
(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي واذكروا من نعمتنا عليكم نعمة فرق البحر بكم وجعلنا لكم فيه طرقا تسلكونها حين هربكم من فرعون.
(فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فأنجيناكم من الغرق وأخرجناكم إلى الشاطئ الآخر، وأغرقنا فرعون ومن معه حين عبروا وراءكم، وأنتم تشاهدون ذلك بأبصاركم ولا تشكّون في حصوله، ولو لا ذلك لكان لكم وجه للريبة والشك في وقوعه، والفائدة من قوله: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) بيان تمام النعمة، فإن هلاك العدوّ نعمة، ومشاهدة هلاكه نعمة أخرى فيها سرور لا يقدر قدره.
(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي واذكروا نعمة أخرى كفرتم بها وظلمتم أنفسكم، ذاك أنهم بعد أن اجتازوا البحر سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم، فواعده ربه أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتا لذلك، يقولون إنه ذو القعدة وعشر ذي الحجة، فاستبطئوه واتخذوا عجلا من ذهب، له خوار فعبدوه وظلموا أنفسهم بإشراكهم ووضعهم للشىء في غير موضعه بعبادة العجل بدل عبادة خالقهم وخالقه.
وفي ذكر هذا تعجيب من حالهم، فإن مواعدة الله موسى بإنزال التوراة إليه نعمة وفضيلة لبني إسرائيل قابلوها بأقبح أنواع الكفر والجهل.
(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ثم محونا تلك الجريمة بقبول التوبة ولم نعاجلكم بالإهلاك، بل أمهلناكم حتى جاءكم موسى وأخبركم بكفارة ذنوبكم، ليعدّكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر، فإن الإنعام يوجب الشكر على النعم.
(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع ليعدّكم للاسترشاد بها حتى لا تقعوا في وثنية أخرى.
وإن من كمال الاستعداد لفهم الكتاب أن تعرفوا أن ما جاء به محمد ﷺ دليل على صحة نبوته، فتؤمنوا به وتهتدوا بهديه وتتبعوا سبيل الرشاد الذي سلكه.
[سورة البقرة (2): الآيات 54 الى 57]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
تفسير المفردات
برأه: ذرأه وأوجده، والصاعقة نار محرقة تنزل من السماء، وسببها اتحاد كهربية السحاب المختلفة النوع سالبها بموجبها، أو اتحادها مع كهربية الأرض السالبة، بعثناكم: أي أكثرنا نسلكم، والمنّ: مادة حلوة لزجة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر وتنزل سائلة كالندى، ثم تجمد وتجفّ فيجمعها الناس، والسلوى: السّماني (السمان) الطائر المعروف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبيّن في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختمها بذكر العفو عنهم، ثم قفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرا وطغيانا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به، فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين، ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المنّ والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
وفي ذكر النعمة يتخللها سوق ما يفرط من أصحابها من السيئات ما يجعل النفوس قلقة مضطربة يتجاذبها عاملان: عامل الاعتراف لها بالشرف، وعامل رميها بالظلم والسّرف، وهذا مما يورث في النفوس المخاوف، وتتملكها منه الوساوس.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي واذكر أيها الرسول الكريم فيما تلقيه على بني إسرائيل وغيرهم من العظات قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجى ربه: يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أضررتم بأنفسكم وأنقصتم مالها من الأجر والثواب عند ربكم لو أنكم أقمتم على عهدى واتبعتم شريعتى، وقد فصّلت هذه القصة في سورتي الأعراف وطه.
(فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم وميّز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة، وفي قوله إلى بارئكم إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل، إذ تركوا عبادة البارئ وعبدوا أغبى الحيوان وهو البقر، وليقتل البريء منكم المجرم، وإنما جعلهم أنفسهم للإشارة إلى أن المؤمنين إخوة، فأخو الرجل كأنه نفسه كما قال تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تغتابوا إخوانكم من المسلمين.
وقصة القتل مذكورة في التوراة التي يتدارسونها إلى اليوم، ففيها دعا موسى: من للربّ فإلي، فأجابه بنو لاوي، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوا، فقتل في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل، والعبرة من القصة لا تتوقف على عدد معين فلنمسك عنه ما دام القرآن لم يتعرض له.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) أي ما ذكر من التوبة والقتل أنفع لكم عند الله من العصيان والإصرار على الذنوب لما فيه من العذاب، إذ أن القتل يطهركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا للثواب.
(فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم.
(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه هو الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويقبلها منهم، وهو الرّحيم بمن ينيب إليه ويرجع، ولو لا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام.
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) أي واذكروا قول السبعين من أسلافكم الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور، للاعتذار عن عبادة
العجل: لن نصدّقك في قولك إن هذا كتاب الله، وإنك سمعت كلامه، وإن الله أمر بقبوله والعمل به حتى نرى الله عيانا لا ساتر بيننا وبينه، فيكون كالجهر في الوضوح « والجهر في المسموعات كالمعاينة في المبصرات ».
(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فأخذت الصاعقة من قال ذلك، والباقون ينظرون بأعينهم، وقد فصل ذلك في سورة الأعراف وفي التوراة: إن طائفة منهم قالوا لما ذا اختص موسى وهارون بكلام الله من دوننا، وشاع ذلك في بني إسرائيل وقالوا لموسى بعد موت هارون: إن نعمة الله على شعب إسرائيل لأجل إبراهيم وإسحاق فتعمّ الشعب جميعه، وأنت لست أفضل منه، فلا يحق لك أن تسودنا بلا مزية، وإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذهم إلى خيمة العهد فانشقت الأرض وابتلعت طائفة منهم وجاءت نار من الجانب الآخر فأخذت الباقين.
وهكذا كان حال بني إسرائيل مع موسى يتمردون ويعاندون، وسوط العذاب يصبّ عليهم صبّا، فأصيبوا بالأوبئة وأنواع الأمراض وسلطت عليهم هوامّ الأرض وحشراتها حتى فتكت بالعدد العديد والخلق الكثير، فليس ببدع منهم أن يجحدوا دعوة النبي ﷺ ويعاندوها.
(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يرى بعض المفسرين أن الله أحياهم بعد أن وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة القلبية لغيرهم. ويرى آخرون أن المراد بالبعث كثرة النسل، أي إنه بعد أن وقع فيهم الموت بشتى الأسباب وظنّ أنهم سينقرضون، بارك الله في نسلهم ليعدّ الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها.
وإنما قص الله علينا هذا القصص ووجهه إلى من كان من اليهود في عصر التنزيل لبيان وحدة الأمة، وأن ما يبلوها به من الحسنات والسيئات وما يجازيها به من النعم والنقم إنما هو لمعنى فيها يسوغ أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق كأنه وقع منه، ليعلم الناس أن الأمم متكافلة، سعادة الفرد منها مرتبطة بسعادة سائر الأفراد، وشقاؤه بشقائهم، ويتوقع نزول العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يفعلها هو كما قال:
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
وفي هذا التكافل رقي الأمة وتقدمها في المدنية والحضارة، إذ يحملها على التعاون البأساء والضراء فتحوز قصب السبق بين الأمم.
(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) ذاك أنهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر، وقعوا في صحراء فأصابهم حر شديد، فشكوا إلى موسى فأرسل الله إليهم الغمام يظللهم حتى دخلوا أرض الميعاد.
(وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) ما منحه الله لعباده يسمى إيجاده إنزالا كما جاء في قوله: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) وقد قالوا إن المنّ كان ينزل عليهم نزول الضباب من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتأتيهم السّماني فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه إلى الغد.
(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي وقلنا لهم كلوا من ذلك الرزق الطيب، وفي سفر الخروج - أنهم أكلوا المنّ أربعين سنة وأن طعمه كالرّقاق بالعسل، وكان لهم بدل الخبز إذ كانوا محرومين من البقول والخضر.
(وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي فكفروا تلك النعم الجزيلة، وما عاد ضرر ذلك إلا عليهم باستيجابهم عذابى وانقطاع ذلك الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة ولا مشقة.
وفي هذا إيماء إلى أن كل ما يطلبه الله من عباده فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع عليهم، وقد جاء في الحديث القدسي: « فكل عمل ابن آدم له أو عليه »
وهو بمعنى قوله: « لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » وقوله: « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ».
[سورة البقرة (2): الآيات 58 الى 59]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
تفسير المفردات
القرية لغة: مجتمع الناس ومسكن النمل، ثم غلب استعمالها في البلاد الصغيرة، وليس ذلك بالمراد هنا بل المراد المدينة الكبيرة، لأن الرغد لا يتسنى إلا فيها، والرغد: الهنيء ذو السعة، والباب هو أحد أبواب بيت المقدس ويدعى الآن (باب حطّة)، وسجدا: أي ناكسى الرءوس، والمحسن: من فعل ما يجمل في نظر العقل ويحمد في لسان الشرع، وتقول بدّلت قولا غير الذي قيل: أي جئت بذلك القول مكان القول الأول، والرجز: العذاب.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض ما اجترحوه من السيئات، فقد أمرهم أن يدخلوا قرية من القرى خاشعين لله، فعصى بعضهم وخالف أمر ربه، فأنزل عليهم عذابا من السماء جزاء ما ارتكبوه من المعاصي واقترفوه من الآثام.
الإيضاح
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) لم يعين الكتاب الكريم هذه القرية فلا حاجة إلى تعيينها، وهم قد دخلوا بلادا كثيرة، وإن كان المروي عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم أنها بيت المقدس.
(فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) أي فكلوا منها أكلا هنيئا ذا سعة في أي مكان شئتم.
(وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي وادخلوا باب حطة خشّعا ناكسى الرءوس تواضعا لله، وقد يكون المعنى: إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله شكرا على ما أنعم عليكم، إذ أخرجكم من التيه، ونصركم على عدوكم، وأعادكم إلى ما تحبون، وقولوا نسألك ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وخطايانا التي من أهمها كفران النعم.
(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) أي إذا فعلتم ما ذكر استجبنا دعاءكم وكفّرنا خطاياكم.
(وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا، وقد أمرهم بشيئين: عمل يسير، وقول صغير، ووعدهم بغفران السيئات، وزيادة الحسنات.
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي فخالفوا الأمر ولم يتبعوه، وجعل المخالفة تبديلا إشارة إلى أن الذي يؤمر بالشيء فيخالفه كأنه أنكر أنه أمر به وادعى أنه أمر بغيره، وليس المراد أنهم أمروا بحركة يأتونها وكلمة يقولونها على سبيل التعبد، وجعل ذلك سببا لغفران الذنوب عنهم، فقالوا غيرها وخالفوا الأمر وكانوا من الفاسقين، فما أسهل الكلام على الناس يحركون به ألسنتهم، وإنما يعصى العاصي ربه إذا كلّف ما يثقل عليه، وحمّل غير ما اعتاد، لما في ذلك من ترك النفس ما ألفت، واستيحاشها من غير ما عرفت.
(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) لم يعين الكتاب
هذا الرجز فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون، وقد ابتلى الله بني إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم، فأصيبوا بالطاعون كثيرا، وسلّط عليهم أعداؤهم، وقوله بما كانوا يفسقون: أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينهم.
[سورة البقرة (2): آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
تفسير المفردات
استسقى: طلب السّقيا عند عدم الماء أو قلّته، قال أبو طالب يمدح النبي ﷺ.
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
والانفجار، والانبجاس، والسكب بمعنى، والمشرب مكان الشرب، والعثى:
مجاوزة الحد في كل شيء ثم غلب استعماله في الفساد.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها، ذاك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم ظمأ من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم فأجاب دعوته.
وقد كان من دأب بني إسرائيل أن يعودوا باللوم على موسى إذا أصابهم الضيق، ويمنّون عليه بالخروج معه من مصر، ويصارحونه بالندم على ما فعلوا، فقد روى أنهم قالوا من لنا بحرّ الشمس؟ فظلّل عليهم الغمام، وقالوا من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسّلوى، وقالوا من لنا بالماء؟ فأمر موسى بضرب الحجر.
الإيضاح
(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) أي طلب لهم السّقيا من الله تعالى بأن يسعفهم بماء يكفيهم حاجاتهم في هذه الصحراء المحرقة.
(فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) أي فأجبناه إلى ما طلب، وأوحينا إليه أن اضرب الحجر بعصاك، وقد أمره أن يضرب بعصاه التي ضرب بها البحر حجرا من أحجار الصحراء، قال الحسن لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أظهر في حجة موسى عليه السلام، وأدلّ على قدرة الله تعالى وقد سماه في سفر الخروج الصخرة.
(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا) أي فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بقدر عدد الأسباط، فاختصّ كل منهم بعين حتى لا تقع بينهم الشحناء، كما يرشد إلى ذلك قوله.
(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي قد صار لكل سبط منهم مشرب يعرفه، لا يتعداه إلى مشرب غيره.
قال النّطاسي البارع المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه: (الإسلام والطب الحديث) ما خلاصته:
إن الله تعالى كان قادرا على تفجير الماء وفلق البحر بلا ضرب عصا، ولكنه جلت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها ليسعوا في الحصول على تلك الأسباب بقدر الطاقة.
إلا أنه تعالى خلق الإنسان محدود الإدراك والحواس، لا يفهم إلا ما كان في متناول يده ويقع تحت إدراكه وحسه، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في رده إلى ما يعرف، فإذا لم يستقم له ذلك وقف حائرا مدهوشا، ولا سيما إذا تكرر ذلك أمامه، فكان من لطف الله بعباده أن تظهر المعجزات على يد الأنبياء على طريق التدرّج حتى لا تصطدم بها عقول معاصريها دفعة واحدة.
حكى القرآن في معجزات عيسى عليه السلام قوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ).
كان الله قديرا على أن يخلق الطير من الطين ومن غير الطين سواء كان في شكل الطير أم لم يكن، وكذلك لم يكن هناك من داع للنفخ، لأن طريق القدرة (كُنْ فَيَكُونُ).
ولكن شاء الله أن تظهر قدرته بطريق التدرج، لأن الطين إذا كان على شكل الطير يشتبه بالطير الحقيقي ولا يكون بينهما فارق إلا بالحياة، وعملية النفخ تجعل الرائي ينتظر تغييرا في الجسم كما يحدث ذلك في الكرة ونحوها إذا نفخ فيها، فإذا وجدت الروح في هذا الهيكل الطيني تكون حدّة الصدمة قد خفّت، لأن النفس كانت ترقب ما حدث، وجميع المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.
وكذلك خلق عيسى من نطفة الأم فقط، مع أن الحيوان في عالمنا لا يخلق إلا من نطفتى الأب والأم، ونظام الكائنات يجرى على سنن واحد إلا حيث يريد الله.
وقد لطف الله بمريم فأراها ملكا في صورة بشر، وقال لها سأهب لك غلاما زكيا، فأجابته: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فرؤية الملك والأحوال التي أحاطت به أوجدت عندها بعض الشك في أنها ربما حملت بطريق غير عادى، وبهذا تهيأ احتمالها صدمة الحمل عند ما حصل.
وكان الله تعالى جعل النفخ يأخذ مكان نطفة الرجل، وكان تمثل الملك بصورة البشر كتمثل الطين بصورة الطير، والنفخ في مريم كالنفخ في الطين، وكل ذلك تقريب لفهم المعجزة، وإلا فعيسى خلق من نطفة مريم، والجزء الآخر بإذن الله وقدرته (كُنْ فَيَكُونُ) وسنن الله التي أوجدها في الكون وكفل لها الاستمرار وعدم التبدل والتي قام عليها نظام العالم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) قد بدّلت في المعجزات بالقدرة الإلهية التي تضع جميع السنن، وكأنّ المعجزة سنة جديدة.
والخلاصة - إن المعجزات كلها من صنع الله، وهي سنة جديدة غير ما نشاهد كل يوم، فحركة الشمس وطلوعها من المشرق مع عظمها لا تحدث دهشة لتعوّدنا إياها، ولكن إن طلعت من المغرب دون المشرق كان معجزة وأحدث غرابة ودهشة مع أن الحركتين من صنع الله لا فارق بينهما، ولكى لا تحدث الصدمة حين حصول المعجزة يهيئ الله الظروف لتحمّلها، ويهيئ النبي لقبولها، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها وقبولها، فأمر الله موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها بيضاء تهيئة لمعجزاته الأخرى، وليس للعقل أن يحكم أن أي المعجزات أعظم من الأخرى، لأنه يتكلم عن مجهول هو من صنع الله لا يعرفه، فلا يمكن الإنسان مهما ارتقى عقله أن يصل إلى صنعها، بل هي فوق قدرته.
أما المخترعات العلمية فهي مبنية على السنن العلمية، مهما ظهرت مدهشة كالكهرباء والمسرّة (التليفون) وغاية ما هناك أن العلماء سخروها لأغراضهم، فالذي يتكلم في أوربا ويسمع صوته في مصر بوساطة (الراديو) إنما استطاع ذلك، لأنه قد استخدم الهواء الذي يحمل أمواج الصوت إلى العالم كله، وهكذا حال سائر المخترعات، إنما هي كشف لناموس إلهي يتكرر دائما على يد كل إنسان، لكن المعجزات تجرى على طراز آخر، فهي خلق سنة جديدة في الكون، ولا تتكرر إلا بإذن الله، ولا يعرف الإنسان لها قاعدة ولا يدرك طريقا لصنعها. ا هـ كلامه رحمه الله.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) أي وقلنا لهم كلوا مما رزقناكم من المنّ والسلوى واشربوا مما فجرنا لكم من الماء من الحجر الصّلد، وقد عبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر السامع صورة أولئك القوم في ذهنه مرة أخرى حتى كأنهم حاضرون الآن والخطاب موجه إليهم.
(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه، وقد جاء هذا النهى عقب الإنعام عليهم بطيّب المأكل والمشرب خيفة أن ينشأ الفساد بزيادة التبسط فيهما، ولئلا يقابلوا النعم بالكفران.
وقد أراد موسى أن يجتثّ أصول الشرك التي تغلغلت جذورها في نفوس قومه، ويربأبهم عن الذل الذي ألفته نفوسهم بتقادم العهد واستعباد المصريين إياهم، ويعوّدهم العزة والشمم والإباء بعبادة الله وحده.
وكانوا لا يخطون خطوة إلا اجترحوا خطيئة، وكلما عرض لهم شيء من مشاقّ السفر برموا بموسى وتحسروا على فراق مصر وتمنّوا الرجوع إليها، واستبطئوا وعد الله فطلبوا منه أن يجعل لهم إلها غير الله، وصنعوا عجلا وعبدوه.
وحينما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي وعدوا بها، اعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين، كما قصه الله علينا: (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَدًا ما دامُوا فِيها) فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة حتى ينقرض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية، ويخرج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق، فتاهوا هذه المدة، وقضى الله أمرا كان مفعولا.
[سورة البقرة (2): آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
تفسير المفردات
الصبر: حبس النفس وكفها عن الشيء، والطعام: هو المنّ والسلوى وجعلوهما طعاما واحدا، لأنهما طعام كل يوم، والعرب تقول لمن يجعل على مائدته كل يوم ألوانا من الطعام لا تتغير: إنه يأكل من طعام واحد، والبقل: النبات الرّطب مما يأكله الناس والأنعام، والمراد به هنا ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر كالكرفس والنّعناع ونحوهما، والقثّاء: ما تسميه العامة (القتّة) والفوم: الحنطة، وقال جماعة منهم الكسائي إنه الثّوم ويرجّح هذا ذكر العدس والبصل. والاستبدال: طلب شيء بدلا من آخر، وأصل الأدنى الأقرب ثم استعمل للأخس الدّون، والهبوط: الانحدار والنزول، والمصر: البلد العظيم، وضربت: أي أحاطت بهم كما تحيط القبّة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم كما تطبع الطّغرى على السّكّة، والذلة: الذل والهوان، والمسكنة: الفقر، وسمى الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، والمراد بها هنا فقر النفس وشحها، وباءوا بغضب: أي استحقوا الغضب، يعتدون: أي يتعدّون حدود الله.
المعنى الجملي
ذكر هنا جرما آخر من جرائم أسلافهم التي تدل على كفرانهم بأنعم الله، وترشد إلى أنهم دأبوا على إعنات موسى، وأنهم أكثروا من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم ويرتدّ بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة، ومع صادق وعده لهم بأن يمكّن لهم الدخول في الأرض الموعودة، ويرفع عنهم الخسف الذي كانوا فيه، ومع كثرة ما شاهدوا من الآيات الدالة على صدقه، كانوا في ريب من تحقيق ما قال لهم، ويظنون أنه خدعهم حين أخرجهم من مصر وجاء بهم إلى البريّة.
وقد بلغ من إعناتهم له أن قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) وأن قالوا: (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) وهم يريدون بذلك أنه لا أمل لك في بقائنا معك على هذه الحال من التزام طعام واحد، وربما لم يكن صدر منهم هذا القول عن سأم وكراهية لوحدة الطعام، بل صدر عن بطر وطلب للخلاص مما يخشون.
الإيضاح
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي وإذ قال أسلافكم من قبل إعناتا لموسى وبطرا بما هم فيه، لن نصبر على أن يكون طعامنا الذي لا يتغير أبدا هو المنّ والسلوى.
(فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) أي سل ربك لأجلنا بدعائك إياه أن يخرج لنا كذا وكذا، وإنما سألوه أن يدعولهم، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم، وقالوا ربك ولم يقولوا ربنا لأنه اختصه بما لم يعط مثله لهم، من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا ادع لنا من أحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل، نرجو أن يحسن إليك بإجابة هذا الدعاء.
(قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟) أي قال لهم موسى على سبيل التوبيخ والاستهجان: أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المنّ الذي فيه حلاوة تألفها الطباع، والسلوى الذي هو أطيب لحوم الطير، وهما غذاء كامل لذيذ وليس فيما طلبوا ما يساويهما؟
(اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) أمرهم موسى أن ينزلوا من التيه ويسكنوا مصرا من الأمصار إن كانوا يريدون ما سألوه، لأن هذه الأرض التي كتب الله عليهم أن يقيموا فيها إلى أجل محدود ليس من شأنها أن تنبت هذه البقول، والله تعالى لم يقض عليهم بالبقاء فيها إلا لضعف عزائمهم وخور هممهم عن أن يغالبوا من سواهم من أهل الأمصار، فهم الذين قضوا على أنفسهم بأكل هذا الطعام الواحد، ولا سبيل للخلاص مما كرهوا إلا بالإقدام على محاربة من يليهم من سكان الأرض الموعودة، والله كفيل بنصرهم، فليطلبوا ما فيه الفوز والفلاح لهم.
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي إن الله عاقبهم على كفران تلك النعم بالذل الذي يهوّن على النفس قبول الضيم والاستكانة والخضوع في القول والعمل، وتظهر آثار ذلك في البدن، فالذليل يستخذي ويسكن إذا طاف بخياله يد تمتد إليه، أو قوة قاهرة تريد أن تستذلّه وتقهره، وترى الذل والصغار يبدو في أوضاع أعضائه وعلى ظاهر وجهه.
(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي واستحقوا غضب الله بما حلّ بهم من البلاء والنقم في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي إن ما حلّ بهم من ضروب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب الإلهي، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له، وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون.
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فهم قتلوا أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق: أي بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق لشبهة تعنّ له، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك.
وفي قوله: بغير الحق مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم ولا متأولين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم.
(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي إن كفرهم بآيات الله وجرأتهم على النبيين بالقتل، إنما كانا بسبب عصيانهم وتعديهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدى حدوده مرّة ضعف ذلك السلطان الديني في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد، إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه.
[سورة البقرة (2): آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
المعنى الجملي
بعد أن أنحى باللائمة على اليهود في الآيات السالفة، وبيّن ما حاق بهم من الذل والمسكنة، وما نالهم من غضب الله جزاء ما اجترحوه من السيئات من كفر بآيات الله، وقتل للنبيين، وعصيان لأوامر الدين، وترك لحدوده، ومخالفة لشرائعه، ذكر هنا حال المستمسكين بحبل الدين المتين من كل أمة وكل شعب ممن اهتدى بهدى نبي سابق، وانتسب إلى شريعة من الشرائع الماضية، وصدق في الإيمان بالله واليوم الآخر، وسطع على قلبه نور اليقين، وأرشد إلى أنهم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن المصدقين رسول الله ﷺ فيما أتاهم به من الحق من عند الله.
(وَالَّذِينَ هادُوا) أي والذين دخلوا في اليهودية، يقال هاد القوم يهودون هودا وهادة: صاروا يهودا.
(وَالنَّصارى) واحدهم نصران، وسموا بذلك من أجل أن مريم نزلت بعيسى في قرية يقال لها الناصرة.
(وَالصَّابِئِينَ) هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء.
(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا) أي من تحلى منهم بالإيمان الخالص بالله والبعث والنشور وعمل صالح الأعمال.
(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا وزينتها إذا عاينوا ما أعد الله لهم من نعيم مقيم عنده.
والخلاصة - إن المؤمن إذا ثبت على إيمانه ولم يبدله، واليهودي والنصراني والصابئي إذا آمنوا بمحمد ﷺ وبما جاء به وباليوم الآخر وعملوا صالحا ولم يغيروا حتى ماتوا على ذلك، فلهم ثواب عملهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا يعتريهم حزن، فمدار الفلاح هو الإيمان الصحيح الذي له سلطان على النفوس والعمل الصالح الذي به تتم سعادتها ويكتب لها به الفوز في الدنيا والآخرة. قال الإمام الغزالي:
إن الناس في شأن بعثة النبي ﷺ أصناف ثلاثة:
(1) من لم يعلم بها بالمرة، وهذا ناج حتما.
(2) من بلغته الدعوة على وجهها ولم ينظر في أدلتها إهمالا أو عنادا واستكبارا، وهذا مؤاخذ حتما.
(3) صنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد ﷺ ولم يبلغهم نعته ووصفه، بل سمعوا منذ الصبا أن كذابا مدلّسا اسمه محمد ادعى النبوة كما سمع صبياننا أن كذّابا يقال له المقفّع تحدى بالنبوة كاذبا، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإن أولئك مع أنهم لم يسمعوا اسمه لم يسمعوا ضد أوصافه، وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب ا هـ.
[سورة البقرة (2): الآيات 63 الى 64]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
تفسير المفردات
الطور: هو الجبل المعروف الذي ناجى فيه الله موسى عليه السلام، ورفعه قد فسره في سورة الأعراف فقال: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) والنتق: الهزّ والزعزعة والجذب، فالنتق: في الجبل كان بما يشبه الزلزال فيه، والخسران: ذهاب رأس المال أو نقصه.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هاتين الآيتين جناية أخرى حدثت من أسلاف المخاطبين وقت التنزيل، ذاك أنه بعد أن أخذ الله عليهم المواثيق التي ذكرها بقوله: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا) إلخ فقبلوها وأراهم من الآيات ما فيه مقنع لهم، رفع الجبل فوقهم كالظلة حتي ظنوا أنه واقع بهم، وطلب إليهم التمسك بالكتاب والعمل بما فيه بالجدّ والنشاط، كى يعدّوا أنفسهم لتقوى الله ورضوانه، ثم كان منهم أن أعرضوا عن ذلك وانصرفوا عن طاعته، ولو لا لطف الله بهم لاستحقوا العقاب في الدنيا وخسروا سعادة الآخرة وهي خير ثوابا وخير أملا، لكن وفّقهم الله بعد ذلك فتابوا ورحمهم فقبل توبتهم.
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي واذكروا يا بني إسرائيل رفت أخذنا العهد على أسلافكم بالعمل بما في التوراة وقبولهم ذلك.
(وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) وكانت هذه الآية بعد أخذ الميثاق لكي يأخذوا ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد، لأن رؤية ذلك مما يقوّى الإيمان ويحرّك الشعور والوجدان ثمّ بين الميثاق فقال:
(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي وقلنا لهم خذوا الكتاب وهو التوراة بجدّ وعزيمة، ومواظبة على العمل بما فيه.
(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي وادّارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، كما أثر عن علي أنه قال: يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل.
فحال التارك للشريعة المضيع لأحكامها أشبه بحال الجاحد المعاند لها، وهو جدير بأن يحشره الله يوم القيامة أعمى عن طريق الفلاح والسعادة حتى إذا لقى ربه (قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا؟ قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) فالجاحد للشريعة والناسي لها المضيع لأحكامها، لا يكون لها أثر في نفوسهما لا ظاهرا ولا باطنا.
ومن ذلك تعلم أن الحجة قائمة على من ليس لهم حظ من القرآن إلا التغنّى بألفاظه وأفئدتهم هواء من عظاته، وأعمالهم لا تنطبق على ما جاء به، فما المقصد من الكتب الإلهية إلا العمل بما فيها لا تلاوتها باللسان وترتيلها بالأنغام، فإن ذلك نبذلها، قال الغزالي: وما مثل ذلك إلا مثل ملك أرسل كتابا إلى أحد أمرائه، وأمره أن يبنى له قصرا في ناحبة من مملكته، فلم يكن حظ الكتاب منه إلا أن يقرأه كل يوم دون أن يبنى القصر، أفلا يستحق هذا الأمير بعدئذ العقاب من الملك الذي أرسل به إليه؟.
ثم ذكر لهم فائدة ذكره فقال:
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي ليعدّ نفوسكم لتقوى الله عز وجل: ذاك أن المواظبة على العمل تطبع في النفس سجيّة المراقبة لله، وبها تصير تقية نقية من أدران الرذائل راضية مرضية عند ربها (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى).
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادّكر.
(فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي فلولا لطف الله بكم وإمهاله إياكم إذ لم يعاملكم بما تستحقون، لكنتم من الهالكين بالانهماك في المعاصي.
والخلاصة - إنكم بتوليكم استحققتم العقاب، ولكن فضل الله عليكم ورحمته أبعده عنكم، ولو لا ذلك لخسرتم سعادتى الدنيا والآخرة.
[سورة البقرة (2): الآيات 65 الى 66]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
تفسير المفردات
الاعتداء: تجاوز الحد في كل شيء، وواحد القردة قرد، وواحد الخاسئين خاسى وهو المبعد المطرود من رحمة الله، والنكال ما يفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر غيره، والموعظة: ما يلقى من الكلام لاستشعار الخوف من الله بذكر ثوابه وعقابه.
المعنى الجملي
في هاتين الآيتين وما يتلوهما بعد - تعداد لنكث العهود والمواثيق التي أخذت على بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام، وحلّ بهم جزاء ما عملوا من مسخهم قردة وخنازير، فأجدر بسلائلهم الذين كانوا في عصر التنزيل تتخلل دورهم دور الأنصار ألا يجحدوا نبوة محمد ﷺ وألا يصرّوا على كفرهم وعدم التصديق بما جاء به، خوفا من أن يحلّ بهم ما حلّ بأسلافهم مما لا قبل لهم به من غضب الله.
فمن عهودهم التي نكثوها أنهم اعتدوا يوم السبت، ذاك أن موسى عليه السلام حظر عليهم العمل في هذا اليوم، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم، وإضعافا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادّخاره، وأباح لهم العمل في ستة الأيام الأخرى.
لكنهم عصوا أمره، وتجاوزوا حدود الدين، واعتدوا في السبت، فجازاهم الله بأشد أنواع الجزاء، فخرج بهم من محيط النوع الإنساني وأنزلهم أسفل الدركات، فجعلهم يرتعون في مراتع البهائم، وليتهم كانوا في خيارها، بل جعلهم في أخس أنواعها، فهم كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، مبعدين من الفضائل الإنسانية، يأتون المنكرات جهارا عيانا بلا خجل ولا حياء، حتى احتقرهم كرام الناس، ولم يروهم أهلا لمعاشرة ولا معاملة.
الإيضاح
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أي ولقد عرفتم نبأ الذين تجاوزوا منكم الحدّ الذي رسمه لهم الكتاب، وركبوا ما نهاهم عنه من ترك العمل الدنيوي، والتفرغ للعمل الأخروي يوم السبت، وسيأتي إيضاح هذا في سورة الأعراف.
(فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي فصيرناهم مبعدين عن الخير أذلاء صاغرين، روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظا، ولا تغى زجرا.
وقد مثّل الله حالهم بحال القردة كما مثّلوا بالحمار في قوله: « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها (لم يعملوا بما فيها) كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا ».
وذهب جمهور العلماء إلى أنهم مسخت صورهم فصارت صور القردة، وروى أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
ونظير الآية قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) الطاغوت: الشيطان.
قال الأستاذ الإمام: والآية ليست نصا في رأى الجمهور ولم يبق إلا النقل، ولو صح ما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة، لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سنته في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله في الذين خلوا من قبل - أن من يفسق عن أمره ويتنكّب الصراط الذي شرعه له ينزله عن مرتبة الإنسان ويلحقه بعجماوات الحيوان، وسنة الله واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية ا هـ.
وفي هذا تأييد لرأى مجاهد وتفضيل له على رأى الجمهور.
قال ابن كثير: والصحيح أن المسخ معنوي كما قال مجاهد لا صوري كما قال غيره.
(فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي فجعلنا هذه العقوبة عبرة ينكل من يعلم بها أي يمتنع من الاعتداء على حدود الله، سواء منهم من وقعت في زمانه أو من بعدهم إلى يوم القيامة.
وهي أيضا موعظة للمتقين، لأن المتقى يتّعظ بها ويتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداءها كما قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها) فيتعظ بها غيره أيضا، ولن يتم الاتعاظ بها وتكون عقوبة للمتقدم والمتأخر إلا إذا جرت على سنن الله المطردة في تهذيب النفوس وتربية الشعوب، فرأى مجاهد أحرى بالقبول ولا سيما أنه ليس في الآية نصّ على كون المسخ في الصور والأجساد.
[سورة البقرة (2): الآيات 67 الى 73]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
تفسير المفردات
البقرة: اسم الأنثى، والثور: اسم الذكر، والهزؤ: السخرية، والجهل: هنا فعل ما لا ينبغي أن يفعل، وقد يطلق على اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، والفارض: المسنّة التي انقطعت ولادتها، والبكر: الصغيرة التي لم تحمل بعد، والعوان: النصف في السن من النساء والبهائم، والذلول: الريّض الذي زالت صعوبته، يقال دابة ذلول: بيّنة الذّل (بالكسر) ورجل ذلول بين الذل (بالضم) والإثارة: قلب الأرض للزراعة، والحرث: الأرض المهيأة للزرع، والمسلّمة: التي سلمت من العيوب، والشّية: العلامة أي لا لون فيها يخالف لونها، من وشى الثوب يشيه إذا زيّنه بخطوط مختلفة الألوان، والآيات: هي الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور الغريبة، وادّارأتم: أي تدارأتم من الدرء وهو الدفع، ويقال عقلت نفسي عن كذا: أي منعتها منه.
المعنى الجملي
في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة:
(1) أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضى التشديد في الأحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وبما جاء في صحيح الحديث من قوله ﷺ: « وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ».
(2) أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حبّ عبادته.
(3) استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
(4) أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.
وأول القصة معنى قوله: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا) إلخ إذ هي المخالفة التي صدرت منهم ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) إلخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهي ذبح البقرة.
وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب في ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة في أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها والكتاب الكريم لا يراعى ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللبّ، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحى شغف السامع بما يدور حوله الحديث.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)
روى في سبب الذبح أنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر قتله بنو عمه طمعا في ميراثه، وحملوه إلى قرية أخرى وألقوه بفنائها، ثم جاءوا يطالبون بديته وادعوا على ناس منهم أنهم قتلوه، فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه الأمر، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما خفي من أمر القاتل، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيا ويخبر بقاتله
(قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا؟) أي قالوا: أتجعلنا موضع سخرية وتهزأ بنا؟ نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة وهذا غاية في الغرابة، وبعيد كل البعد عما نريد، وقد كان الواجب عليهم أن يتمثلوا أمره ويقابلوه بالتجلة والاحترام، ثم ينظروا ما يحدث بعد، فهذا القول منهم دليل على السفه وخفّة الأحلام، وجفاء الطبع والجهل بقدرة الله تعالى.
(قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي ألتجئ إلى الله من الهزؤ والسخرية بالناس، إذ هو في مقام تبليغ أحكام الله دليل السفه والجهل.
(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي سله لأجلنا أن يكشف لنا عن الصفات المميزة لها، وقد سألوا عن صفتها لما قرع أسماعهم بما لم يعهدوه، فإن بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا موضع العجب والغرابة والحيرة والدهشة، ومن ثم أكثروا من الأسئلة فأجيبوا بأجوبة فيها تغليظ عليهم.
(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة، بل هي وسط بينهما.
(فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه، ولا يخفى ما في هذا من التحذير والتنبيه على ترك التعنت، وكان يجب عليهم الاكتفاء به والمبادرة إلى الامتثال، لكنهم أبوا إلا تنطّعا واستقصاء فأعادوا الطلب.
(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها، قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) سألوا عن لونها فأجيبوا بما فيه الكفاية في بيان مميزاتها، لكنهم ما قنعوا بهذا، بل زادوا في الإلحاف وإعادة السؤال مرة أخرى.
(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) هذا سؤال لطلب إيضاح زيادة على ما تقدم ككونها عاملة أو سائمة، وإظهار، لأنه لم يحصل لهم تمام البيان.
ثم ذكروا السبب في إعادة السؤال.
(إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي لأن وجوه البقر تتشابه، وفي الحديث إنه ذكر فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر - أي يشبه بعضها بعضا.
(وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى البقرة المأمور بذبحها، أو لما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا، وقد روى أنه ﷺ قال: « لو لم يستثنوا ويقولوا إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد ».
(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) أي إنها بقرة لم تذلّل بالعمل في الحراثة والسقي، وهي سالمة من العيوب، ولا لون فيها غير الصفرة الفاقعة.
(قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي إنك الآن أظهرت حقيقة ما أمرنا به بعد ذكر هذه المميزات التي ذكرتها لنا.
(فَذَبَحُوها) أي فطلبوا البقرة الحاوية لكل الأوصاف السالفة، حتى وجدوها فذبحوها.
(وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وما قاربوا أن يذبحوها إلا بعد أن انتهت أسئلتهم، وانقطع ما كان من تنطعهم وتعنتهم.
والخلاصة - فذبحوها بعد توقف وبطء، روى ابن جرير عن ابن عباس: « لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ».
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا) هذا مؤخر لفظا مقدم معنى، لأنه أول القصة - أي وإذ قتلتم نفسا وأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى، فقال موسى إن الله يأمركم إلى آخر الآيات ولم يقدم لفظا، لأن الغرض إنما هو ذبح البقرة للكشف عن القاتل، وأسند القتل إلى اليهود المعاصرين للنبي ﷺ لأنهم سلائل أولئك، وهم راضون بفعلهم، كما أسنده إلى الأمة والقاتل واحد، لأن الأمة في مجموعها كالشخص الواحد، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد كما قال أبو الطيب:
وجرم جرّه سفهاء قوم فحلّ بغير جارمه العقاب
(فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، وكل واحد يدرأ عن نفسه ويدّعى البراءة ويتهم سواه.
(وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي والله مظهر لا محالة ما كتمتم وسترتم من أمر القتل، فمن كان يعرف أمره يكتمه لهوى في نفسه وأغراض تبعد عنه الضغن والعداوة.
(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) أياضربوا المقتول ببعض البقرة، أي بعض كان، وقيل بلسانها، وقيل بفخذها.
(كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى) أيفضربوه فحيى، وقلنا: كذلك يحيى الله الموتى، أي مثل ذلك الإحياء العجيب يحيى الله الموتى يوم القيامة، وقد روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما، وقال قتلنى فلان وفلان وهما ابنا عمه، ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا.
وإنما أمرهم بالضرب ولم يضرب بنفسه نفيا للتهمة، كيلا ينسب إلى السحر والشعوذة.
(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) وهي الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور البديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبار الميت بقاتله، مما ترتب عليه الفصل في الخصومة وإزالة أسباب الفتن والعداوة.
(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أيلعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها، وتطيعون الله فيما يأمركم به.
[سورة البقرة (2): آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
تفسير المفردات
القسوة: اليبس والصلابة، يتفجر: يتفتح ويتشقق بكثرة وسعة، ويهبط: يتردّى وينزل، والخشية: الخوف.
المعنى الجملي
وصف الله حال بني إسرائيل بعد أن رأوا من آياته التي آتاها موسى عليه السلام ما رأوا، كانفجار الماء ورفع الجبل، ومسخهم قردة وخنازير، وإحياء القتيل إلى نحو ذلك - وصفهم بقساوة القلوب، وضعف الوازع الديني فيها، حتى أصبحت كالصمّ الصلاد، بل أشدّ منها قسوة، فلا أثر فيها لعاطفة عبرة، ولا شعور لها بعظة، فقد فقدت التأثر والانفعال، وكأنّ أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركات الجماد كالحجارة، بل نزلوا إلى ما دونها فإن من الحجارة ما يتأثر فيشقّه الماء العذب الزّلال الذي يسيل أنهارا وجداول وعيونا يستقى منها الإنسان والحيوان، ويحيى الأرض، وينفع النبات ومنها ما ينحطّ من أعلى الجبل، أو من أثنائه بحادث من حوادث الكون الهائلة كالبرا كين والزلازل والصواعق التي تدكّ الصخور وتدمّر الحصون.
أما هذه القلوب فلم تتأثر بالعظات والعبر، ولم تستطع تلك النذر أن تشقها وتنفذ إلى أعماق الوجدان فيها، وصارت لا تهزّها الآيات الكونية الرهيبة التي أظهرها الله على يد نبيه، فقد كانوا مع كل ما يرونه لا يزدادون إلا عنادا، وعتوّا في الأرض وفسادا.
الإيضاح
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أي إن قلوبكم صلبت بعد إذ رأيتم الحق وعرفتموه، واستكبرت عن الخضوع والإذعان لأمر الدين، فهي كالحجارة صلابة ويبسا، بل أشد منها.
والسر في تشبيه القلوب بالحجارة دون غيرها من نحو الحديد والصّفر، أن كلا منهما يسيل بالإحماء بالنار بخلاف الحجر.
(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي إن هذه الحجارة تارة تتأثر تأثرا يعود بمنفعة عظيمة على الناس والحيوان والزرع بخروج الأنهار منها، وأخرى تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعه قليلة فتنبع منه العيون والآبار، وحينا تتأثر بالتردي والسقوط بلا منفعة للناس وقلوب هؤلاء لا تتأثر بحال، فلا تجدى فيها الحكم والمواعظ التي من شأنها أن تنفذ في الوجدان وتصل إلى الجنان.
(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي إن الله لكم بالمرصاد، فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها، وهو يربّيكم بصنوف النقم إذا لم تجد فيكم ضروب النعم، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.
[سورة البقرة (2): الآيات 75 الى 79]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
المعنى الجملي
كان النبي ﷺ وأصحابه شديدى الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدّق لما معهم.
فقصّ الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحلّ بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له: لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته إياك، فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحي، ومصاحبته إلى حيث يناجى ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه - ثم كان منهم أن حرّفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهي كتابهم المقدس.
فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرّفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدي موسي عليه السلام، فأحر بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهي القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجأوا إلى السيف والسّنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان ثم ذكر حالا أخرى لهم هي أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيء الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقلّ أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب نخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين اتجاه ربح السفينة.
أما عامتهم فلا علم لهم بشىء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان.
الإيضاح
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الطمع تعلق النفس بإدراك ما تحب تعلقا قويا، وهو أشد من الرجاء، أن يؤمنوا لكم، أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم إياهم، والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه، من بعد ما عقلوه: أي ضبطوه وفهموه ولم تشتبه عليهم صحته، وفي ذلك إيماء إلى تعمدهم وسوء قصدهم، وإبطال لما عساه أن يعتذر لهم به من سوء الفهم، وقوله: وهم يعلمون، أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين، وفي هذين الوصفين نعى عليهم وتسجيل لتعمق الفسوق والعصيان فيهم.
وخلاصة المعنى - استبعاد الطمع في إيمان هؤلاء، فقد كان لهم سلف من الأحبار والرؤساء على تلك الحال الشنيعة من تحريف لكلام الله بعد سماعه وتأويله بحسب ما يشاءون، وليس هؤلاء بأحسن حالا من أولئك.
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد ﷺ قال المنافقون منهم: إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به.
(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟) قوله: فتح الله عليكم، أي بيّنه لكم خاصة في التوراة من الأحكام والبشارة بالنبي ﷺ، والتعبير عنه بالفتح للإشارة إلى أنه سر مكتوم وباب مغلق لا يقف عليه أحد، وقوله: (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) أي ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم وقوله: (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي في حكمه وكتابه، وقوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وأن ذلك يكون حجة عليكم.
أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين وعاذلين لهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي الذي يجىء مصدقا لما معهم كى يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم، من قبل أن ما حدّثوا به موافق لما في القرآن، ولو لا أن محمدا نبي لما علم بهذا الذي حكاه عنهم.
(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي أيقول اللائمون ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي ﷺ ما كتموا. ويحرّفون من كتابهم ما حرّفوا؟
ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من إظهار إيمان وودّ، فإن كانوا يؤمنون بأن الله محيط بكل شيء علما، فلم لا يخشون بأسه، وهو المطّلع على الظاهر، والعالم بما يجول في الضمائر، والمجازى على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة؟
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الأميون واحدهم أمي، وهو من لا يقرأ ولا يكتب، أي إنه يكون كما ولدته أمه، ومنه الحديث: « إنّا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب »، والأماني: واحدها أمنية وهي التلاوة كما قال كعب ابن زهير:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة وآخره لاقى حمام المقادر
أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرهما في العمل، وهذا على حدّ قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا).
(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظنّ من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبنى على البرهان القاطع الذي لا شكّ فيه.
وقد كانوا أكثر الناس جدلا ومراء في الحق وإن كان بيّنا ظاهرا، وأشدّهم كذبا وغرورا وأكلا لأموال غيرهم بالباطل من ربا فاحش وغشّ وتدليس، وهم مع ذلك يعتقدون أنهم أفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الويل كلمة يقولها من يقع في هلكة، وهي دعاء على النفس بالعذاب كما جاء في قوله تعالى حكاية عن الكافرين (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ).
أي هلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون لعوامّهم: هذا المحرّف من عند الله في التوراة.
(لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي ليأخذوا لأنفسهم في مقابلة هذا المحرّف ثمنا وهي الرّشى التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها.
وقد روى أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي في التوراة فغيّروها.
ثم كرر الوعيد فقال:
(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرّف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي.
وقد جنى اليهود الكاتبون ثلاث جنايات: تغيير صفة النبي ﷺ، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهدّدوا على كل جناية بالويل والثبور.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده: من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه اليهود من قبل فلينظر فيما بين يديه فانه يراها واضحة جلية، يرى كتبا ألّفت في عقائد الدين وأحكامه، حرّفت فيها مقاصده وحوّلت إلى ما يغرّ الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم ويقولون هي من عند الله وما هي من عند الله، وإنما هي صادّة عن النظر في كتاب الله والاهتداء به - ولا يعمل هذا إلا أحد رجلين: رجل مارق من الدين يتعمد إفساده، ويتوخى إضلال أهله، فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح، يخادع الناس بذلك ليقبلوا ما يكتب ويقول، ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل، ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه ا هـ.
[سورة البقرة (2): الآيات 80 الى 82]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
تفسير المفردات
المسّ واللمس بمعنى، والمراد بالنار نار الآخرة، والمعدودة: المحصورة القليلة، والعرب تقول: شيء معدود، أي قليل، وغير معدود: أي كثير، والعهد: الوحي وخبر الله الصادق، بلى: لفظ يجاب به بعد كلام منفى سابق ومعناه إبطاله وإنكاره، والكسب: جلب النفع، فاستعماله في السيئة من باب التهكم، والسيئة: الفاحشة الموجبة للنار، والإحاطة الشمول كأن السيئة تحصر صاحبها وتأخذ جوانب قلبه.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهؤلاء يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم.
الإيضاح
(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام، لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة، فمن لم تدركه النجاة ويلحقه الفوز والسعادة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم، وقيل إنها تمسهم أربعين يوما، وهي المدة التي عبدوا فيها العجل.
(قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) أي أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقّا؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده.
(أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلّغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح.
وخلاصة هذا - إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين: إما اتخاذ عهد من الله، وإما افتراء وتقوّل عليه، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.
(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ليس الأمر كما ذكرتم، بل تمسّكم النار وتمسّ غيركم دهرا طويلا، فكل من أحاطت به خطيئاته وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه واسترسل في شهواته، وأصبح سجين آثامه، فجزاؤه النار خالدا فيها أبدا لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب.
والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله، وصاحبه مخلد في النار، وبعض العلماء حمل السيئة على معناها العام، وقال إن الخلود هنا المكث الطويل بمقدار ما يشاء الله، فالعاصى مرتكب الكبائر يمكث فيها ردحا من الزمان ثم يخرج منها متى أراد الله تعالى، وإذا أحدث المرء لكل سيئة توبة نصوحا، وإقلاعا صحيحا عن الذنب فلا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات، روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن:
(كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ».
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين صدّقوا الله ورسله، وآمنوا باليوم الآخر وعملوا صالح الأعمال فأدّوا الواجبات، وانتهوا عن المعاصي فأولئك جديرون بدخول الجنة جزاء وفاقا على إخباتهم لربهم وإنابتهم إليه وإخلاصهم له في السرّ والعلن.
وفي هذا دليل على أن دخول الجنة منوط بالإيمان الصحيح والعمل الصالح معا، كما روى « أن النبي ﷺ قال لسفيان بن عبد الله الثقفي، وقد قال له يا رسول الله. قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله، ثم استقم » رواه مسلم.
وقد جرت سنة الله في القرآن أن يشفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة، وإرشاد العباد من الترغيب مرة والترهيب أخرى، والتبشير طورا والإنذار طورا آخر، إذ باللطف والقهر يرقى الإنسان إلى درجة الكمال، ويفوز برضوان الله وحسن توفيقه (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ).
[سورة البقرة (2): آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
تفسير المفردات
الميثاق: العهد الشديد المؤكد، وهو قسمان: عهد خلقة وفطرة، وعهد نبوة ورسالة وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم، واليتيم: من الحيوان ما لا أمّ له، ومن الإنسان من لا أب له، وأصل المادة يفيد الانفراد، ومنه الدرّة اليتيمة لانفرادها في العقد، والمسكين: هو العاجز عن الكسب.
المعنى الجملي
ذكّر سبحانه في الآيات السابقة بني إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل بما أنعم الله به على آبائهم من النعم كتفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من الغرق وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ثم ما كان يحصل إثر كل نعمة من مخالفة، فحلول عقوبة، فتوبة من الذنب بعد ذلك.
وفي هذه الآية ذكّرهم بأهمّ ما أمر به أسلافهم من عبادات ومعاملات، ثم ما كان منهم من إهمالها وترك اتباعها، وسيعاد الكلام فيها أيضا بعد، لأن المقام يحتاج إلى الإطناب والبسط، ولأن القلوب مستحجرة لا ينفذ شعاع الحق في أكنافها، وأذهانهم كليلة فهي في حاجة إلى التكرار بين آن وآخر، لعلها ترجع إلى رشدها.
وقد خوطب النبي ﷺ والمؤمنون بهذا ليؤديهم التأمل في أحوالهم، إلى قطع الطمع في إيمانهم، لأن قبائح أسلافهم تمنعهم من الهدى والرشاد كما قال: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي واذكر أيها الرسول حين أخذنا عليهم الميثاق.
ثم بين هذا الميثاق فقال:
(لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) يقال أخذت عليك عهدا تفعل كذا، وأن تفعل كذا، ويرد مثل هذا الخبر في كلامهم متضمنا معنى النهى أو الأمر كما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، على معنى اذهب وقل له، وفيه مبالغة وتوكيد كأن المخاطب سيمتثل النهى حتما ويسارع إلى الترك فيخبر به الناهي، أي لا تعبدوا إلا الله.
وقد نهوا عن عبادتهم غير الله مع أنهم كانوا يعبدون الله خوفا من أن يشركوا به سواه من ملك أو بشر أو صنم بدعاء أو غيره من أنواع العبادات.
ودين الله على ألسنة الرسل جميعا فيه الحث على عبادة الله وعدم الشرك بعبادة أحد سواه (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) فالتوحيد عماده الأمران معا.
(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا) أي أحسنوا إليهما، بأن تعطفوا عليهما وترعوهما حق الرعاية، وتنزلوا عند أمرهما فيما لا يخالف أوامر الله، وقد جاء في التوراة أن من يسبّ والديه يقتل.
والحكمة في البرّ بهما أنهما قد بذلا للولد وهو صغير كل عناية وعطف بتربيته والقيام بشئونه، حين كان عاجزا ضعيفا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا، مع الشفقة التي لا مزيد عليها، أفلا يجب عليه بعدئذ مكافأتهما جزاء وفاقا لما صنعا؟ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).
ولحب الوالدين لولدهما أسباب:
(1) الحنان الفطري الذي أودعه الله فيهما إتماما لحكمته في بقاء الأنواع إلى الأمد الذي قدره في سابق علمه.
(2) التفاخر بالأبناء كما قال ابن الرومي:
وكم أب قد علا بابن ذرا شرف كما علت برسول الله عدنان
(3) الأمل في الاستفادة منهما مالا وعونا على المعيشة.
وهذا الحب لا يحتاج إلى ما يقوّيه ويوثّق صلته، ومن ثم ترك القرآن النص عليه.
(وَذِي الْقُرْبى) لأن الإحسان إليهم مما يقوّى الروابط بينهم.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
فما الأمة إلا مجموعة الأسر والبيوت، فصلاحها بصلاحها وفسادها بفسادها، ومن لا بيت له لا أمّة له، ومن قطع لحمة النسب فكيف يصل ما دونها، وكيف يكون جزاء من الأمة، يسره ما يسرها ويؤلمه ما يؤلمها، ويرى في منفعتها منفعته، وفي مضرتها مضرته.
ونظام الفطرة قاض بأن صلة القرابة أمتن الصلات، وجاء الدين حاثا عليها مؤكدا لأواصرها، مقويا لأركانها، مقدما لحقوقها على سائر الحقوق بحسب درجات القرابة.
(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) فالإحسان إلى اليتيم بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع، والكتاب والسنة مليئان بالوصية به، وحسبك من ذلك قوله ﷺ: « أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين »
وأشار بالسبّابة الوسطى.
والسر في هذا أن اليتيم لا يجد في الغالب من تبعثه العاطفة على تربيته والقيام بشئونه وحفظ أمواله، والأم وإن وجدت تكون في الغالب عاجزة عن تنشئته وتربيته التربية المثلى، إلى أن الأيتام أعضاء في جسم الأمة، فإذا فسددت أخلاقهم وساءت أحوالهم، تسرّب الفساد إلى الأمة جمعاء، إذ يصبحون قدوة سيئة بين نشئها، فيدبّ فيها الفساد ويتطرّق إليها الانحلال، وتأخذ في الفناء.
والإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم ومواساتهم حين البأساء والضراء، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله (وأحسبه قال) وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر ».
وقدم اليتيم على المسكين، لأن هذا يمكنه أن يسعي بنفسه للحصول على قوته، بخلاف الأول فإن الصغر مانع له من ذلك.
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) أمر الله أولا بالإحسان بالمال لأقوام مخصوصين، وهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين، إذ لا يمكن الشخص أن يحسن به إلى الناس جميعا، لأنه لا يسع كل الأمة، ومن ثم اكتفى في حقوق سائر أفرادها بحسن العشرة والقول الجميل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع لهم في الدين والدنيا.
وفي القيام بهذه الفرائض إصلاح لحال المجتمع وسعى في رقيه وتقدمه حتى يبلغ ذروة المجد والشرف.
وبعد أن أمرهم سبحانه بعبادته وحده على سبيل الإجمال، فصّل بعضا من ذلك مما لا يهتدى إليه إلا بهدى إلهي ووحي سماوي فقال:
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) لأن الصلاة هي التي تصلح النفوس وتنقيها من أدران الرذائل، وتحليها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله والخشوع لعظمته وسلطانه، فإن فقدته كانت صورا ورسوما لا تغنى فتيلا، وهم ما تولّوا ولا أعرضوا عن تلك الصور والرسوم إلى عصر التنزيل، بل إلى يومنا هذا.
ثم الزكاة لما فيها من إصلاح شئون المجتمع، وقد كان لهم ضروب من الزكاة منها مال خاص يؤدى لآل هارون، وهو إلى الآن في اللاويين (سبط من أسباطهم) ومنها مال للمساكين، ومنها ما يؤخذ من ثمرات الأرض، ومنها سبت الأرض وهو تركها في كل سبع سنين مرة بلا حرث ولا زرع، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقة.
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) أي ثم كان من أمركم أن توليتم عن العمل بالميثاق ورفضتموه وأنتم في حال الإعراض عنه وعدم الاهتمام بشأنه.
وفي قوله: (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) مبالغة في الترك المستفاد من التولي، لأن الإنسان قد يتولى عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويؤدى ما يجب له، فليس كل من تولّى عن شيء يكون معرضا عنه.
وقد كان من توليهم وإعراضهم أن اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا مشرّعين يحلّون ويحرّمون، ويبيحون ويحظرون، ويزيدون ما شاءوا من الشعائر والمناسك الدينية، فكأنهم شركاء لله يشرّعون لهم ما لم يأذن به الله، كما كان من توليهم أن بخلوا بالمال في الواجبات الدينية كالنفقة على ذوي القربي وأداء الزكاة، وتركوا النهي عن المنكر إلى نحو ذلك مما يدل على الاستهتار بأمور الدين، وقوله: (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ) أخرج بعض من كانوا في عهد موسى عليه السلام ممن أقام اليهودية على وجهها، ومن كان في عصر التنزيل أو بعده وأسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه من المخلصين المحافظين على الحق بقدر الطاقة، وفائدة ذكره عدم بخس العاملين حقهم، والإشادة بذكرهم، والإشارة إلى أن وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعمّ البلاء، وقد جرت سنة الله بأن بقاء الأمة عزيزة مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأس، إنما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة والدأب على العمل الذي به تستحق العزّ والشرف.
بعد هذا لا عجب فيما ترى من حلول الكرب والبلاء بالمسلمين الذين فتنوا في دينهم ودنياهم وهم غافلون لا هون، لا يعتبرون ولا يذّكرون.
[سورة البقرة (2): الآيات 84 الى 86]
وإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
تفسير المفردات
السفك: الصبّ والإراقة، والتظاهر: التعاون، والإثم: هو الفعل الذي يستحق فاعله الذمّ واللوم، والعدوان: تجاوز الحد في الظلم.
المعنى الجملي
ذكّر الله بني إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك.
وفي هذه الآيات ذكّرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، إرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم، كما أن ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثر في قواه العقلية وأخلاقه النفسية حين الكبر، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك.
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي وإذ أخذنا عليكم العهد: لا يريق بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم وأوطانهم، وقد جعل غير الرجل كأنه نفسه، ودمه كأنه دمه إذا اتصل به دينا أو نسبا، إشارة إلى وحدة الأمة وتضامنها، وأن ما يصيب واحدا منها فكأنما يصيب الأمة جمعاء، فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم، فالروح الذي يحيا به والدم الذي ينبض في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم، لا فرق بينهم في الشريعة التي وحّدت بينهما في المصالح العامة، وهذا ما يومئ إليه الحديث: « إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ».
وقد يجوز أن يكون المعنى لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل قصاصا، أو بالإخراج من الديار فتكونون كأنكم قد قتلتم أنفسكم، لأنكم فعلتم ما تستحقون به القتل، كما يقول الرجل لآخر قد فعل ما يستحق به العقوبة: أنت الذي جنى على نفسه.
(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي ثم أقررتم بهذا الميثاق أيها الحاضرون المخاطبون واعترفتم به ولم تنكروه بألسنتكم، بل شهدتم به وأعلنتموه، فالحجة عليكم قائمة - وقد يراد - وأنتم أيها الحاضرون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق وقبوله، وشهودهم الوحي الذي نزل به على موسى عليه السلام.
(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد فتقتلون أنفسكم: أي يقتل بعضكم بعضا كما كان يفعل من قبلكم، مع أنكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم.
ومن حديث ذلك أن بنى قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس وأعداء لإخوانهم في الدين بنى قريظة، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء يقتتلون، ومع كل حلفاؤه، وهذا مانعاه الله على اليهود بقوله: (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ).
(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) كان كل من اليهود يظاهر حلفاءه من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب، والعدوان كالإخراج من الديار.
(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) أي وكانوا إذا أسر بعض العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم واتفقوا على فداء الأسرى، يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه، ثم يعتذرون عن هذا بأن الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب المقدس، فإن كانوا مؤمنين حقّا بما يقولون، فلم قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك؟ أفليس هذا إلا لعبا واستهزاء بالدين؟
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟) أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون إلخ وذلك أن الله أخذ على بني إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وقال: أيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه - لكنهم قتلوا وأخرجوا من الديار مخالفين العهد، وافتدوا الأسرى على مقتضى العهد، أفليس هذا إلا إيمانا ببعض الكتاب، وكفرا ببعضه الآخر؟ وذلك منتهى ما يكون من الجماقة، فإن الإيمان لا يتجزأ، فالكفر ببعضه كالكفر بكله.
قال الأستاذ الإمام: في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب لا يتألم ولا يندم بعد وقوعه، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله عنه وتحريمه له فهو كافر به، وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة، نحو: « لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن » ا هـ.
ثم توعدهم على نقضهم الميثاق الذي جعلهم أمة واحدة، ذات شريعة هي رباط وحدتهم بخزي عاجل في هذه الحياة، وعذاب آجل في الآخرة فقال:
(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) فقد دلت المشاهدة على أن كل أمة تفسق عن أمر ربها وتطرح أوامر دينها وراءها ظهريّا يتفرق شملها، وينزل بها عذاب الهون جزاء فساد أخلاقها وكثرة شرورها.
أما من استقاموا على الطريقة، وزكت نفوسهم وصلحت أحوالهم فلهم عند ربهم نعيم مقيم، يرشد إلى ذلك قوله: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ».
ثم زاد في الوعيد والتهديد والزجر الشديد فقال:
(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهو مجازيكم على ما اجترحتم من السيئات.
ثم أكد عظيم حماقتهم وسيىء إجرامهم، ثم شديد نكالهم على ما اجترحوا فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة، فقدّموا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الأخرى، بما أهملوا من الشرائع، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم كالانتصار للحليف المشرك، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإياه رابطة الدين والنسب، وإخراج أهله من دياره ابتغاء مرضاته.
(فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يوم القيامة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لأن أعمالهم قد سجلت عليهم الشقاء، وأحاطت بهم الخطايا من كل جانب، فسدّت عليهم باب الرحمة، وقطعت عنهم الفيض الإلهي، فلا يجدون شافعا ينصرهم، ولا وليّا يدفع عنهم ما حلّ بهم من النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.
[سورة البقرة (2): الآيات 87 الى 88]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (88)
تفسير المفردات
قفاه به: إذا أتبعه إياه، وعيسى بالسريانية: يسوع ومعناه السيد أو المبارك، ومريم بالعبرية: الخادم لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، والبينات: الحجج الواضحة التي أوتيها عليه السلام من المعجزات، وأيدناه: أي قويناه، وروح القدس: أي الروح المقدس المطهر، وهو جبريل عليه السلام الذي ينزل على الأنبياء ويقدّس نفوسهم ويزكّيها، ويطلق عليه الروح الأمين كما قال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) والغلف: واحدها أغلف وهو الذي لا يفقه ما يقال له.
المعنى الجملي
جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن تأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن أمر ربهم، ويحرفون ما جاءهم من الشرائع بضروب من التأويل، وينسون ما أنذروا به من قبل، يرشد إلى هذا قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).
من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسو القلوب، وقد كان الشعب الإسرائيلي أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر ما يسوّغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها، ولكن كانوا يطيعون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم، ويعصون رسلهم، فمنهم من كذّبوه، ومنهم من قتلوه.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي ولقد أعطينا موسى الكتاب المقدس وهي التوراة، ثم أتبعنا من بعده رسولا بعد رسول مقتفين أثره، فلم يمض زمن إلا كان فيه نبي أو أنبياء يأمرون وينهون، فلا عذر لهم في نسيان الشرائع أو تحريفها وتغيير أوضاعها.
ثم خصّ من أولئك الرسل عيسى عليه السلام فقال:
(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي وأعطينا عيسى المعجزات الباهرة التي تدل على صدق نبوته وأنه موحى إليه من ربه، وأيدناه بروح الوحي الذي يؤيد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم كما قال: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) الآية، وأرسلناه بعد ظهور كثير من الرسل ولم يكن حظه بينهم أحسن من حظ سابقيه.
ثم بيّن ماذا كان حظ الرسل من بني إسرائيل فقال:
(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ؟) أي أبلغ الأمر بكم أنكم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهوى نفوسكم استكبرتم عليه تجبرا وبغيا في الأرض؟
(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) أي فبعضا منهم تكذبون كعيسى ومحمد عليهما السلام، وبعضا تقتلون كزكريا ويحيى عليهما السلام، فلا عجب بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمد ﷺ، فإن العناد والجحود من طبعكم، وسجية عرفت عنكم، ولا غرابة في صدور ما صدر منكم.
(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي وقالوا قلوبنا مغطاة بأغشية خلقية مانعة من تفهم ما جئت به، ونحو هذا قولهم: (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) القائلون هم الذين كانوا منهم عصر التنزيل.
ثم رد عليهم وكذبهم فيما زعموا فقال:
(بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ليس الأمر كما يدّعون، بل قلوبهم خلقت مستعدة بحسب الفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق، لكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم.
وقد ذكر اللعن وعلته جريا على سنة الله في ربط المسببات بأسبابها، وبيان أن الله لم يظلمهم بهذا، بل هم ظلموا أنفسهم بالتمادى في الكفر والعصيان.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سبق فقال:
(فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ) أي فهم يؤمنون إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وتحريف بعضه الآخر أو ترك العمل به، والذي آمنوا به كان قولا باللسان تكذبه الأعمال إذ لم يكن للإيمان سلطان على قلوبهم، فيكون هو المحرّك لإرادتهم، وإنما يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة.
وقد يكون المعنى كما قال ابن جرير: إنه لا يؤمن بالنبي ﷺ وما جاء به إلا القليل منهم، فالمخالفة لم تغمر كل الشعب، بل غمرت الأكثر منهم ونجا نفر قليل.
[سورة البقرة (2): الآيات 89 الى 91]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
تفسير المفردات
يستفتحون: أي يستنصرون، وشرى واشترى يستعملان حينا بمعنى باع، وأخرى مني ابتاع وأخذ، والمراد هنا المعنى الأول، والبغي في الأصل: الفساد من قولهم بغى الجرح إذا فسد، ثم أطلق على مجاوزة الحد في كل شيء، وباء: رجع، ومهين: أي فيه إهانة وإذلال، ووراء بمعنى سوى كما يقول الرجل لمن يتكلم بجيد الكلام: ما وراء هذا الكلام شيء.
الإيضاح
(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ) هذا مرتبط معنى بقوله: (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي وقالوا قلوبنا غلف وكذبوا لما جاءهم كتاب إلخ وقوله: (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي موافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده، وقوله:
(وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وكانوا يستنصرون به على مشركي العرب وكفار مكة ويقولون إن كتابه سينصر التوحيد الذي جاء به موسى، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها.
روى ابن جرير عن قتادة الأنصاري عن شيوخ منهم أنهم قالوا فينا وفيهم (فى الأنصار واليهود) نزلت هذه القصة، كنا علوناهم دهرا في الجاهلية ونحن أهل الشرك وهم أهل الكتاب، وكانوا يقولون إن نبيّا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث رسول الله اتبعناه وكفروا به.
وسبب هذا أنهم حسدوا العرب على أن بعث الله محمدا ﷺ من بينهم فحملهم ذلك على الكفر به جحودا وعنادا، فسجّل الله عليهم الطرد والإبعاد من رحمته، لجحودهم بالحق بعد أن تبين لهم.
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) أي بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم وبذلوها - الكفر بما أنزل الله، وهو الكتاب المصدّق لما معهم، أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه، وكأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع.
ثم بين علة ذلك فقال:
(بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي إنهم كفروا لمحض العناد الذي هو نتيجة الحسد، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يختاره من عباده، ولا بغى أقبح من بغى من يريد الحجر على الله، فلا يرضى أن يجعل الوحي في آل إسماعيل كما جعله من قبل في آل إسحاق.
ثم ذكر مقدار ما نالهم من غضبه فقال:
(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أي فرجعوا وهم مستوجبون لغضبين: غضب الكفر بالنبي ﷺ، فوق الغضب الذي استحقوه من قبل بإعنات موسى عليه السلام والكفر به.
ثم بين عاقبة أمرهم فقال:
(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فما يصيبهم من الخزي والنكال وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأما في الآخرة فبخلودهم في جهنم وبئس المصير.
ثم ذكر ما يكون منهم لدى الحوار مع رسول الله ﷺ فقال:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي وإذا قال النبي ﷺ وأصحابه ليهود المدينة وما حولها: آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله قالوا نحن دائبون على الإيمان بما أنزل على أنبياء بني إسرائيل كالتوراة وغيرها.
(وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ) أي وهم يكفرون بما سوى التوراة وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها، وهو الحق الذي لا شكّ فيه، وكيف يكفرون به وهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل؟
(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟) أي قل لهم إلزاما للحجة بعد ما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه: إن كنتم صادقين حقا في اتباعكم ما أنزل الله على أنبيائكم، فلم قتلتموهم؟ وليس في دينكم الأمر بالقتل، بل فيه شديد العقاب على القتل مطلقا، فضلا عن قتل الأنبياء، فما هذا منكم إلا تناقض بين الأقوال والأفعال.
وقد نسب القتل إليهم والقاتل أسلافهم لما تقدم غير مرة من أن مثل هذا يقصد به بيان وحدة الأمة وتكافلها، وأنها في الطبائع والأخلاق المشتركة كالشخص الواحد، فما يصيبها من حسنة أو سيئة، فإنما مصدره الأخلاق الغالبة عليها، فما حدث منهم كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع فيها الآخرون الأولين: إما بالعمل بها، وإما بترك الإنكار لها فالحجة تقوم على الحاضرين بأن أسلافهم الغائرين قتلوا الأنبياء فأقروهم على ذلك ولم يعدوه خروجا من الدين، ولا رفضا للشريعة، وفاعل الكفر ومجيزه سواء.
[سورة البقرة (2): الآيات 92 الى 96]
ولَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
تفسير المفردات
البينات: هي الآيات والدلائل التي تدل على صدق النبي والمعجزات التي تؤيد نبوّته كالعصا واليد، العجل: هو الذي صنعه لهم السامري من حليّهم وجعلوه إلها وعبدوه، وأشرب قلبه كذا: أي حلّ محل الشراب كأن الشيء المحبوب شراب يساغ فهو يسرى في قلب المحبّ ويمازجه كما يسرى الشراب العذب البارد في اللهات، وحقيقة أشربه كذا: جعله شاربا له، والمراد من الدار الآخرة ثوابها ونعيمها، خالصة: أي خاصة بكم، تمنوا الموت: أي تشوفوا له واجعلوا نفوسكم ترتاح إليه وتود المصير إليه، بمزحزحه أي بمنجيه من العذاب، والبصير العالم بكنه الشيء الخبير به.
المعنى الجملي
عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بني إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى
ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم؟.
وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختلّ الوجدان، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان في أرض الميعاد.
الإيضاح
(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك، فهذا ظلم ووضع للشىء في غير موضعه اللائق به، وأي ظلم أعظم من الإشراك بالله بعبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا؟.
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) قد سبق شرح مثل هذا من قبل سوى أنه قال هناك: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) وهنا قال: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) فأمرهم هناك بالحفظ، وأمرهم هنا بالفهم والطاعة، والعبارتان متقاربتان في المراد.
(قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه، لكنهم لم يعملوا به وخالفوه، وليس المراد أنهم نطقوا بقولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) بل كانوا بمثابة من قال ذلك، والعرب تعبّر عن حال الإنسان وغيره من الحيوان والجماد بقول تحكيه عنه يومئ إلى ما يجول في قرارة نفسه ويدور يخلده فيكون هذا القول ترجمانا عنه.
(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) أي صار حبّ العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه، وقوله: بكفرهم أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف.
(قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قل توبيخا لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين الذين يقتدون بهم، ويحتذون حذوهم في كل ما يأتون وما يذرون: إن كنتم مؤمنين بالتوراة حقا، فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، فهذه دعوى لا تقبل منكم، بل يجب القطع بعدم وجودها، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان.
وقد سيقت هاتان الآيتان ردّا على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي ﷺ، وزعموا أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها، فهي حجة عليهم تشرح طبيعة الإيمان وأثره في المؤمن.
ثم أمر رسوله أن يتحداهم في ادعائهم صادق الإيمان وكامل اليقين فقال:
(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن صدق قولكم، وصحت دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وفي أنكم شعب الله المختار، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. وقد روى عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تمنى الموت عند القتال معبّرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الاخرة، فقد جاء في الأخبار أن عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم:
يا حبّذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
وأن عمّار بن ياسر في حرب صفّين قال:
غدا نلقى الأحبّه محمدا وصحبه
فإن لم تتمنوه، بل كنتم شديدي الحرص على هذه الحياة، فما أنتم بصادقى الإيمان.
وهذه حجة تنطبق على الناس عامة، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين بالإيمان والقيام بحقوق الله، فإن ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم في سبيل الله والذّود عن الدين كانوا مؤمنين حقا، وإن ضنّوا بها وكانوا شديدى الحرص على الحياة إذا جدّ الحدّ ودعا الداعي كانوا بعكس ما يدّعون.
(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولن يقع منهم هذا التمني بحال، لأنهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي والذنوب التي يستحقون بها العقوبة كتحريف التوراة، والكفر بالنبي ﷺ مع البشارة به في كتابهم.
والعرب تسند الفعل إلى الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، ويجعلون المراد بها الشخص.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد.
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) أي إنهم يحبون الإخلاد إلى الأرض، ويعملون كل ما يوصلهم إلى البقاء فيها. فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، وتلك سيرتهم في كل زمان وإن كان الكلام مع من كان في عصر التنزيل.
وهكذا القرآن يرسل عليهم سيلا من الحجاج، فيشاغبون ويعاندون، اعتزازا بشعبهم، واغترارا بكتابهم.
(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي إنهم أحرص من جميع الناس حتى من الذين أشركوا، وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم، إذ أن المشركين لا يؤمنون ببعث ولا يعرفون إلا هذه الحياة، فحرصهم عليها ليس بالغريب، أما من يؤمن بكتاب ويقرّ بالجزاء فمن حقه ألا يكون شديد الحرص عليها.
(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أي يتمنى كل منهم أن يبقى على قيد الحياة ألف سنة أو أكثر، لأنه يتوقع سخط الله وعقابه، فيرى أن الدنيا على ما فيها من الآلام والأكدار خير له مما يستيقن وقوعه في الآخرة، والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة.
(وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) أي وما بقاؤه فيها بمنجيه ولا بمبعده من العذاب المعدّ له، فإن العمر مهما طال فهو منته لا محالة.
(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي والله عليم بخفيات أعمالهم، وبجميع ما يصدر منهم وهو مجازيهم به، فطول العمر لا يخرجهم من قبضته، ولا ينجيهم من عقابه، فالمرجع إليه، والأمر كله بيديه.
[سورة البقرة (2): الآيات 97 الى 100]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
تفسير المفردات
العدوّ: صد الصديق يستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع، والنبذ: طرح الشيء وإلقاؤه، والفريق: العدد القليل.
المعنى الجملي
ذكر قبل هذه الآيات معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد ﷺ وبما جاء به من الآيات البينات، كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فنقض دعواهم وألزمهم الحجة، وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل مزاعمهم ودحض حججهم.
وهنا ذكر تعلّة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم وفنّدها كما فنّد ما قبلها، تلك هي قولهم: إن جبريل الذي ينزل على محمد بالوحي عدوهم، فلا يؤمنون بما يجىء به منه، وقد أثر عنهم عدة روايات تشرح هذه المقالة.
منها أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي ﷺ عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي، فقال: هو جبريل، فقال ابن صوريا: هو عدو اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت المقدس فكان ما أنذر به.
ومنها أن عمر بن الخطاب دخل مدراسهم فذكر جبريل فقالوا ذاك عدوّنا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء.
ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأي وعدم التدبر، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مرائهم وسخفهم في جدلهم وأنهم ضعاف الأحلام قليلو التبصر في عواقب ما يقولون.
الإيضاح
(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي قل لهم أيها النبي حاكيا لهم عن الله: من كان عدوّا لجبريل، فإن من أحوال جبريل أنه نزّل القرآن على قلبك، أي فهو عدو لوحى الله الذي يشمل التوراة وغيرها، ولهدى الله لخلقه، ولبشراه للمؤمنين، وقوله: بإذن الله يرشد إلى أن مناجاته لروحك ومخاطبته قلبك، إنما كان بأمر الله لا افتياتا منه، فعداوته لا تمنع من الإيمان بك، ولا تصلح أن تكون عذرا لهم، إذ القرآن من عند الله لا من عنده.
(مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي هو موافق للكتب التي تقدمته فيما يدعو إليه من توحيد الله والسير على السنن القويم.
(وَهُدىً) أي أنزله الله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان.
(وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إنه بشرى لمن آمن به، فليس لكم أن تتركوها لأجل أن جبريل جاء منذرا بخراب بيت المقدس، لأنه إنما أنذر المفسدين.
وكل هذه حجج أقامها لبيان سخفهم وكمال حمقهم، وللإرشاد إلى أنها لا تصلح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله جامع لكل هذه الصفات الشريفة.
(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) عداوة لله مخالفة أوامره وعدم القيام بطاعته، والكفر بما ينزله لهداية الناس على لسان رسله (وَمَلائِكَتِهِ) بكراهة العمل بما يعهد به إليهم ربهم من رسالات يبلغونها للناس.
(وَرُسُلِهِ) بتكذيبهم في دعوى الرسالة مع قيام الأدلة على صدقها، أو بقتل بعضهم كما فعلوا مع زكريا ويحيى.
(وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) بادّعاء أن الأول يأتي بالآيات والنذر، ومن عاداه فقد عادى ميكائيل، لأن الداعي إلى محبتهم وعداوتهم واحد.
(فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أي من عادى الله وعادى هؤلاء المقربين عنده، فالله عدوّ له، لأنه كافر به ومعاد له، وهو الظالم لنفسه حين دعاه فلم يجب.
وفي هذا من شديد الوعيد ما لا يخفى، إذ فيه تصريح بأنهم أعداء الحق وأعداء كل من يدعو إليه، ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب السماوية، لأن المقصد من الجميع واحد وهو هداية الناس وإرشادهم إلى سبل الخير، ومعاداة محمد ﷺ كمعاداة سائر الأنبياء، لأن رسالتهم واحدة والمقصد منها متحد.
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) لاقتران نظرياتها الاعتقادية بأدلتها، وأحكامها العملية بوجوه منافعها، فلا تحتاج إلى دليل آخر يوضحها، فهي كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى ما يظهره.
(وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه، وعنادا ومكابرة منهم.
(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟) العهود هنا هي عهودهم للنبي ﷺ، ولما كان لفظ الفريق يوهم قلة العدد مع أن الناقضين للعهدهم الأكثر أضرب عنه وقال:
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لأنهم لا عهود لهم، وهذا من أخبار الغيب، إذ أن أكثر اليهود ما آمنوا بالنبي ﷺ ولن يؤمنوا به، فمثل هذا الحكم لا يصدر إلا ممن يعلم خفيّات الأمور.
والخلاصة - إن الله سبحانه بين في هذه الآية حالين لأهل الكتاب: أولاهما أنه لا يوثق بهم في شيء، لما عرف عن كثير منهم من نقض العهود في كل زمان، ثانيتهما أنه لا يرجى إيمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم وجعلهم في طغيانهم يعمهون.
[سورة البقرة (2): الآيات 101 الى 103]
ولَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
تفسير المفردات
كفر: أي سحر، والسحر: لغة كل ما لطف مأخذه وخفى سببه، وسحره: خدعه، وجاء في كلامهم: عين ساحرة وعيون سواحر، وفي الحديث: « إن من البيان لسحرا »
والإنزال: الإلهام، وسمى بذلك لأنهما ألهماه واهتديا إليه من غير معلم، والملكان: رجلان صاحبا هيبة ووقار يجلهما الناس ويحترمونهما، وبابل: بلد بالعراق لها شهرة تاريخية قديمة، والخلاق: النصيب والحظ، وشروا: أي باعوا.
المعنى الجملي
بين سبحانه في هذه الآيات حالا من أحوالهم هي علة ما يصدر عنهم من جحود وعناد ومعاداة للنبي ﷺ، هي أن فريقا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يفخرون، حين جاء الرسول بكتاب مصدق لما بين أيديهم، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجىء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم.
وليس المراد أنهم نبذوا الكتاب جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي ﷺ ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به واتباعه، ولا شك أن ترك بعضه كترك كله، إذ أنه يذهب باحترام الوحي ويفتح الباب لترك الباقي.
وهذا الجحود لم يكن بضائر للنبي ﷺ ولا لدعوته فقد قبلها واهتدى بها كثير من اليهود ومن غيرهم.
وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات وأعمال صادّة عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجن، فاشتغلوا بالسحر والشعوذة والطّلّسمات التي نسبوها إلى سليمان وزعموا أن ملكه كان قائما عليها.
وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين فصدقوهم فيما زعموا منها، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم ويخطون خطوطا ويعملون طلسمات يسمونها خاتم سليمان، وعهودا يزعمون أنها تحفظ من يحملها من اعتداء الجن ومسّ العفاريت.
وإنما قصّ القرآن علينا هذا القصص للذكرى، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر فكان صادا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود، ومن ثم لم يهتدوا بالنبي الذي بشر به كتابهم.
الإيضاح
(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إنه حين جاء النبي ﷺ بكتاب مصدّق للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد، وقواعد التشريع، وروائع الحكم والمواعظ، وأخبار الأمم الغابرة - نبذ فريق من اليهود كتابهم وهو التوراة، لأنهم حين كفروا بالرسول المصدّق لما معهم فقد نبذوا التوراة التي فيها أن محمدا رسول الله، وأهملوها إهمالا تاما كأنهم لا يعلمون أنها من عند الله.
وقد جعل تركهم إياها وإنكارهم لها إلقاء لها وراء الظهر، لأن من يلقى الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكره.
(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة تجاهلا منهم بما هم به عالمون - اتبعوا السحر الذي تلته الشياطين في عهد سليمان بن داود وعملوا به، وذلك هو الخسران المبين.
وقد زعموا أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ثم استخرجها الناس وتناقلوها، وهذا من مفتريات أهل الأهواء نسبوها إليه كذبا وبهتانا.
(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي وما سحر، لأنه لو فعل ذلك فقد كفر، إذ كونه نبيّا ينافى كونه ساحرا، فالسحر خداع وتمويه، والأنبياء مبرءون من ذلك.
(وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودوّنوه وعلموه الناس هم الذين كفروا.
(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) قد جاء ذكر السحر في القرآن في مواضع كثيرة ولا سيما في قصص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداع وتخييل للأعين حتى ترى ما ليس بكائن كائنا كما قال: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) وقال في آية أخرى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ).
والآية نص صريح على أن السحر كان يعلّم ويلقّن، والتاريخ يؤيد هذا.
والسحر إما حيلة وشعوذة، وإما صناعة وعلم خفي يعرفه بعض الناس ويجهله الكثير منهم، ومن ثم يسمون العمل به سحرا لخفاء سببه عليهم. وقد روى المؤرخون أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين حتى خيّل إلى الناس أنها تسعى.
وقد اعتاد الذين اتخذوه صناعة للمعاش أن يتكلموا بأسماء غريبة وألفاظ مبهمة، اشتهر بين الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجن، ليوهموهم أن الجنّ يستجيبون دعاءهم ويسخّرون لهم، وهذا هو منشأ اعتقاد العامة أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب.
ولمثل هذا تأثير في إثارة الوهم دلت التجربة على وجوده، وهو يغنى منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته فيمن يعمل له السحر.
(وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) في الملكين قراءتان فتح اللام وكسرها، وهما رجلان شبها إما بالملائكة لانفرادهما بصفات محمودة، وقد جرت العادة أن يقولوا هذا ملك وليس بإنسان، وإما بالملوك كما يقال لمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس: هذا من الملوك، وكان الناس في عهد هاروت وماروت كحالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الروحية إلا أهل السمت والوقار الذين يلبسون لباس أهل الصلاح والتقوى.
وظاهر الآية يدل على أن ما أنزل على الملكين غير السحر لكنه من جنسه، وقد ألهماه واهتديا إليه بلا أستاذ ولا معلم، وقد يسمى مثل هذا وحيا كما في قوله: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وقوله: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ).
(وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي وما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له: إنما نحن ابتلاء من الله عزّ اسمه، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم ولم يعمل به ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاده وجواز العمل به.
وفي هذا إيماء إلى أن تعلم السحر وكل ما لا يجوز اتباعه والعمل به ليس محظورا، وإنما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحسب.
وإنما كانا يقولان ذلك إبقاء على حسن اعتقاد الناس فيهما، إذ كانا يقولان إنهما ملكان، كما نسمع الآن من الدجالين الذين يحترفون مثل ذلك لمن يعلمونهم الكتابة للحب والبغض. نوصيك بألا تكتب هذا لجلب امرأة إلى حبّ غير زوجها ولا تكتب لأحد الزوجين أن يبغض الآخر، بل تجعل ذلك للمصلحة العامة كالحبّ بين الزوجين، والتفريق بين عاشقين فاسقين، وهذا منهم إيهام بأن علومهم إلهية وصناعتهم روحية.
(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي كانوا يتعلمون منهما ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين، مما يسمى الآن (كتاب البغضة).
والآية لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلمونه من السحر - أمؤثر بطبعه أو بسبب خفي أو بخارق من خوارق العادات، أم غير مؤثّر؟ كما أنها لم تبين نوع ما يتعلمونه، أتمائم وكتابة هو، أم تلاوة رقى وعزائم، أم أساليب سعاية، أم دسائس تنفير ونكاية، أم تأثير نفسانى، أم وسواس شيطاني؟ فأى ذلك أثبته العلم كان تفصيلا لما أجمله القرآن ولا نتحكم في حمله على نوع منها، ولو علم الله الخير في بيانه لبينه، ولكنه وكل ذلك إلى بحوث الناس وارتقائهم في العلم، فهو الذي يجلّى الغامض، ويكشف الحقائق.
(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إن هذين لم يعطيا شيئا من القوى الغيبية فوق ما أعطى سائر الناس، بل هي أسباب ربط الله بها مسبباتها، فإذا أصيب أحد بضرر بعمل من أعمالهم، فإنما ذلك بإذنه تعالى، فهو الذي يوجد المسببات حين حصول الأسباب:
(وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) من قبل أنه سبب في إضرار الناس، وهذا مما يعاقب الله عليه، ومن عرف بإيذاء الناس أبغضوه واجتنبوه ولا نفع لهم فيه، فإنا نرى منتحلى هذه المهن من أفقر الناس وأحقرهم، وذلك حالهم في الدنيا، فما بالك بهم في الآخرة يوم يجزى كل عامل بما عمل.
(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي إنهم عالمون بأن من اختار هذا وقدّمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة في الدارين فليس له حظ في الآخرة، لأنه قد خالف حكم التوراة التي حظرت تعلم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجنّ والشياطين والكهان، كعقوبة عابدي الأصنام والأوثان.
(وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي ولبئس ما باعوا به أنفسهم السحر، وعبر عن بيع الإيمان ببيع النفس، لأنها إنما خلقت لمعرفة الدين والعمل به، أي أنهم لو كانوا يعلمون حرمة السحر علما يصدر عن اعتقاد له أثر في النفس ويصدقون بما توعد به مرتكبه من العقوبة - لما ارتكبوه ولا أصرّوا عليه، لكنهم خانهم هذا النوع من العلم واكتفوا بعلم مبهم لا أثر له في النفس، فتسرب إليهم كثير من التأويل والتحريف لنصوص التوراة.
وهذا هو ما يفعل مثله بعض المسلمين اليوم، إذ ينتهكون بعض حرمات الدين بمثل تلك التأويلات، فيمنعون الزكاة بحيلة، ويأكلون أموال الناس بحيلة أخرى، ويشهدون الزور بحيلة ثالثة وهكذا.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ) أي ولو أنهم آمنوا الإيمان الحق بكتابهم، وفيه البشارة بمحمد ﷺ والأمر باتباعه، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه - لكان هذا الثواب العظيم الذي ينتظرونه من الله جزاء على أعمالهم الصالحة خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع والمصالح الدنيوية.
(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إنهم ليسوا على شيء من العلم الصحيح، إذ لو كان كذلك لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي ﷺ واتبعوه وصاروا من المفلحين لكنهم يتبعون الظن ويعتمدون على التقليد، ومن جرّاء هذا خالفوا الكتاب وساروا وراء أهوائهم وشهواتهم فوقعوا في الضلال البعيد.
[سورة البقرة (2): الآيات 104 الى 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
تفسير المفردات
راعنا: أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه، وانظرنا: أي وأمهلنا وانتظر ما يكون من شأننا، والمودّة: محبة الشيء وتمنى حصوله.
المعنى الجملي
هذا خطاب وجه إلى المؤمنين في شأن له اتصال باليهود، وبه انتقل من الأحاديث الخاصة بهم إلى حديث مشترك بينهم وبين المؤمنين والنصارى في أمر من أمور الدين.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا، وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا) نهى سبحانه الصحابة عن كلمة كانت تدور على ألسنتهم، حين خطابهم النبي ﷺ وهي كلمة (راعِنا) ومعناها راعنا سمعك: أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ونراجعك القول لنفهمه عنك، وانظرنا: أي راقبنا وانتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه.
وسبب نهيهم عنها أن اليهود لما سمعوها افترصوها وصاروا يخاطبون بها النبي ﷺ لاوين بها ألسنتهم لموافقة جرسها العربي لكلمة (راعينو) العبرية التي معناها (شرير) فأرشد الله نبيه الكريم لذلك، وأمر أصحابه أن يقولوا (انْظُرْنا) وهي خير منها وأخفّ لفظا، وتفيد معنى الإنظار والإمهال، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين، إذ تقول: نظرت الشيء ونظرت إليه إذا وجهت إليه بصرك ورأيته.
(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) الكافرون هنا هم اليهود، وفي التعبير به إيماء إلى أن ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه ﷺ كفر لا شكّ فيه، لأن من يصف النبي ﷺ بأنه شرّير، فقد أنكر نبوّته وأنه موحى إليه من قبل ربه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحق العذاب الأليم.
قال الأستاذ الإمام: إن هذا التأديب ليس خاصا بمن كان في عصره من المؤمنين بل يعم من جاء بعدهم أيضا، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم وكان يجب عليهم الاستماع له والإنصات لتدبره - هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شيء، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولا تجب طاعته والاهتداء بهديه - فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون؟ إنهم يلغطون في مجلس القرآن فلا يستمعون ولا ينصتون ومن أنصت واستمع فإنما ينصت طربا بالصوت واستلذاذا بتوقيع نغمات القارئ، وإنهم ليقولون في استحسان ذلك واستجادته ما يقولون في مجالس الغناء، ويهتزون للتلاوة ويصوّتون بأصوات مخصوصة كما يفعلون عند سماع الغناء لا فرق، ولا يلتفتون إلى شيء من معانيه إلا ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه السلام، مع الغفلة عما فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة، ولا سيما العفة والأمانة، أليس هذا أقرب إلى الاستهانة بالقرآن منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها؟ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ا هـ.
(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي إن الذين عرفتم شأنهم مع أنبيائهم من أهل الكتاب حسدة لكم لا يودون أن ينزل عليكم خير من ربكم، والكتاب الكريم أعظم الخيرات فهو الهداية العظمى، به جمع الله شملكم ووحّد شعوبكم وقبائلكم، وطهّر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وكذلك المشركون إذ يرون في نزول القرآن على طريق التتابع الوقت بعد الوقت قوة للإسلام ورسوخا لقواعده، وتثبيتا لأركانه وانتشارا لهديه، وهم يودون أن تدور عليكم الدوائر، وينتهى أمركم ويزول دينكم من صفحة الوجود.
(وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن حسد الحاسد يدل على أنه ساخط على ربه معترض عليه، لأنه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يصيره سخط الساخطين، ولا يحوّل مجارى نعمته حسد الحاسدين، فهو يختصّ من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنّة وكل عباده غارق في بحار نعمته، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربه.
[سورة البقرة (2): الآيات 106 الى 108]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
تفسير المفردات
النسخ في اللغة الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل: أي أزالته، والإنساء: إذهاب الآية من ذاكرة النبي ﷺ بعد تبليغها إياه، والولي: القريب والصديق، والنصير: المعين، والفارق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير: قد يكون أجنبيا عمن ينصره، والسؤال: الاقتراح المقصود به التعنت، وبدل وتبدل واستبدل جعل شيئا موضع آخر، وضلّ: عدل وجار، والسواء: من كل شيء الوسط، ومنه قوله:
(فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) والسبيل: الطريق
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له جملة - بين سر نسخه وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة، ثم ينهى عنه لما يرى في ذلك من الخير حينئذ، فأطيعوا أمره واتبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا، وترك ما عنه زجروا.
روي أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود، ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فقد أمر في حد الزاني بإيذاء الزانيين باللسان حيث قال: (فَآذُوهُما) ثم غيّره وأمر بإمساكهنّ في البيوت حيث قال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) ثم غيّره بقوله:
(فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).
فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضا ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليضعفوا عزيمة من يريد الدخول فيه وينضوى تحت لوائه.
الإيضاح
(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) النسخ في لسان الشرع: بيان انتهاء الحكم المستفاد من الآية المتلوة، وحكمته أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شرع حكم في وقت كانت الحاجة إليه ماسة، ثم زالت الحاجة فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته للعباد، وما مثل ذلك إلا مثل الطبيب الذي يغير الأغذية والأدوية باختلاف الأزمنة والأمزجة، والأنبياء صلوات الله عليهم هم مصلحو النفوس، يغيرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقية، التي هي للنفوس بمثابة العقاقير والأدوية للأبدان، فما يكون منها مصلحة في وقت قد يكون مفسدة في وقت آخر.
وخلاصة المعنى - ما نغيّر حكم آية أو ننسيكه إلا أتينا بما هو خير منه لمصلحة العباد بكثرة الثواب أو مثله فيه.
قال الأستاذ الإمام: والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق أن الآية هنا ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم، أي ما ننسخ من آية نقيمها دليلا على نبوّة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها، فإنا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوّة الإقناع وإثبات النبوّة أو مثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه ا هـ وقد سبقه إلى مثله محيى الدين بن العربي في تفسيره.
ونسخ الحكم إما أن يكون بأيسر منه في العمل، كما نسخت عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، وإما بمساوله كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة، وإما بأشقّ منه ويكون ثوابه أكثر، كما نسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين.
ثم أقام الدليل على إمكان النسخ فقال:
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الخطاب للنبي ﷺ، والمراد غيره من المؤمنين الذين ربما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك تثبيتا لهم وتقوية لإيمانهم، ببيان أن القادر على كل شيء لا يستنكر عليه نسخ الأحكام، لأنها مما تتناولها قدرته، ثم أقام دليلا آخر فقال:
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن الله تعالى له ملك السموات والأرض وهما تحت قبضته والعباد أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام، ويقرر ما شاء منها بحسب ما يرى من الفائدة.
(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ناصركم ومعينكم هو الله وحده فلا تبالوا بمن ينكر النسخ أو يعيبكم به، وليس في استطاعته أن يلحق بكم أذى.
(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي أتريدون أن تسألوا رسولكم أن يجيئكم بآيات بينات فوق ما جاءكم به، فيكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا موسى ما لا يجوز سؤاله تبرما وتعنتا كقولهم: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً).
وفي هذا نصح للمسلمين أن يعملوا بما يأمرهم به الرسول ﷺ وينتهوا عما نهاهم عنه ولا يطلبوا منه غير ما جاءهم به.
ثم أتبع التحذير بالوعيد فقال:
(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزّلة بحسب المصالح ويطلب غيرها تعنتا وعنادا للنبي ﷺ، فقد اختار الكفر على الإيمان، واستحبّ العمى على الهدى، وبعد عن الحق والخير، ومن حاد عن الحق وقع في الضلال (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ).
وسبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبي ﷺ: ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه، وفجّر الأنهار نتبعك.
[سورة البقرة (2): الآيات 109 الى 110]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
تفسير المفردات
العفو: ترك العقاب على الذنب كما قال: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) والصفح: الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب، وأمر الله: نصره ومعونته.
المعنى الجملي
بعد أن نهى عز اسمه المؤمنين في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود وعدم قبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ذكر هنا وجه العلة في ذلك، وهي أن كثيرا منهم يودون لو ترجعون كفارا حسدا لكم ولنبيّكم، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي ﷺ والكيد له بنقض ما عاهدهم عليه، بل يحسدونكم على نعمة الإسلام ويتمنون أن تحرموا منها.
وقد كان لأهل الكتاب حيل في تشكيك المسلمين في دينهم، فقد طلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره كى يتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، وكانوا يلقون بعض الشبه على المؤمنين ليشكّكوهم في دينهم.
الإيضاح
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوكم عن توحيد الله والإيمان بمحمد ﷺ ويرجعوكم كفارا كما كنتم، حسدا لكم.
وفي هذا إشارة إلى أن النصح الذي يشيرون به منشؤه الحسد وخبث النفوس وسوء الطويّة والجمود على الباطل - لا الغيرة على الحق وصرف الهمة في الدفاع عنه.
(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أي من بعد أن ظهر لهم بساطع الأدلة أن محمدا على الحق بما جاء به من الآيات التي تنطبق على ما يحفظونه من بشارات كتبهم بنبي يأتي آخر الزمان.
(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي فعاملوهم بأحاسن الأخلاق من العفو عن مذنبهم بترك عقابه، والصفح عنه بترك لومه وتعنيفه حتى يأتي نصر الله لكم بمعونته وتأييده.
وقد يكون المعنى - حتى يأتي أمر الله ونصره، وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بني النضير من المدينة بعد أن غدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين بعد أن عفا عنهم وصفح مرات كثيرات.
وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر، فكأنه يقول لهم: لا تغرّنّكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فأنتم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، وأهل الحق مؤيدون بعناية الله، ولهم العزة ما ثبتوا عليه.
ثم أكد الوعد السابق بالنصرة بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، ويثبتكم بما أنتم عليه من الحق فتتغلبوا على من يناوئكم ويظهر لكم العدوان اغترارا بكثرته، واعتزازا بقوته: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
ثم ذكر سبحانه بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدوا به فقال:
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) لما في الصلاة من توثيق عرا الإيمان، وإعلاء الهمة، ورفعة النفس بمناجاة الله، وتأليف قلوب المؤمنين حين الاجتماع لأدائها، وتعارفهم في المساجد، وبهذا ينمو الإيمان، وتقوى الثقة بالله، وتتنزه النفس أن تأتى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتكون أقوى نفاذا في الحق، فتكون جديرة بالنصر
ولما في الزكاة من توكيد الصلة بين الأغنياء والفقراء، فتتحقق وحدة الأمة وتكون كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تألم باقى الأعضاء بالحمى والسهر.
وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، إلى أن المال شقيق الروح، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله سهل عليه بذل نفسه في سبيل الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.
وبعد أن أبان أن الصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا أردف هذا ببيان أنهما من أسباب السعادة في الآخرة أيضا فقال:
(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) أي وما تعملوا من خير تجدوا جزاءه عند ربكم يوم توفى كل نفس جزاء عملها بالقسطاس المستقيم.
ونحو الآية قوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ).
ونسب الوجود إلى العمل والذي يوجد هو جزاؤه، لما للعمل من أثر في نفس العامل، فكأن الجزاء بمثابة العمل نفسه.
ثم ختم الآية بما يحثّ المرء على الإحسان في العمل فقال:
(إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو عالم بجميع أعمالكم كثيرها وقليلها، لا تخفى عليه خافية من أمركم، خيرا كانت أو شرّا وهو مجازيكم عليها.
ولا يخفى ما في هذا من الترغيب والترهيب.
ومن مواعظ علي كرم الله وجهه أنه كان إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات - ثم قال: أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعرى ما عندكم؟ والذي نفسي بيده لو أن لهم في الكلام لقالوا: إن خير الزاد التقوى.
وفي الحديث الصحيح: « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له »
والأول يشمل بناء المساجد ومعاهد العلم والمستشفيات والملاجئ، والأحباس على المعوزين والمحتاجين، والثاني: ينضوى تحته ما يخلفه الإنسان من تصنيف نافع، أو تعليم للعلوم الدينية.
وقيد الولد بكونه صالحا، لأن الأجر لا يحصل من غيره، أما الوزر فلا يلحق الأب سيئة ابنه.
[سورة البقرة (2): الآيات 111 الى 113]
وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
تفسير المفردات
الأماني: واحدها أمنية وهي ما يتمناه المرء ولا يدركه، والعرب تسمى كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا، وضلالا وأحلاما وإسلام الوجه لله هو الانقياد والإخلاص له في العمل بحيث لا يجعل العبد بينه وبين ربه وسطاء يقربونه إليه زلفى، ويقال فلان ليس على شيء من كذا: أي ليس على شيء منه يعتدّ به ويؤبه به.
المعنى الجملي
ذكر عزّ اسمه في هذه الآية حالين من أحوال اليهود، أولاهما: تضليل من عداهم وادعاؤهم أن الحق لا يعدوهم، وأن النبوة مقصورة عليهم، وثانيتهما: تضليل اليهود للنصارى وتضليل النصارى لهم كذلك، مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود.
والعبرة من هذا القصص - أنهم قد صاروا إلى حال من اتباع الأهواء لا يعتدّ معها بقول أحد منهم لا في نفسه ولا في غيره، فطعنهم في النبي ﷺ وإعراضهم عن الإيمان به لا يثبت دعواهم في أنه مخالف للحق، فاليهود قد كفروا بعيسى وقد كانوا ينتظرونه، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة وهي حجتهم على دينهم، فكيف بعدئذ يعتدّ برأيهم في محمد ﷺ وهو من غير شعبهم، وجاء بشريعة نسخت شرائعهم.
وسبب نزول الآيات أن يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبي ﷺ وكذب بعضهم بعضا، فقال اليهود لبنى نجران: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت بنو نجران لليهود: لن يدخل الجنة إلا النصارى - وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح - فعقيدة كل من الفريقين في الآخر كذلك.
الإيضاح
(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارى) أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى كذلك، وهذه آراء الفريقين إلى يومنا هذا.
(تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) أي هذه الأمنية السالفة التي تشمل أماني كثيرة، كنجاتهم من العذاب ووقوع أعدائهم فيه، وحرمانهم من النعيم.
(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لكلا الفريقين هاتوا البرهان على ما تزعمون، وهذا وإن كان ظاهره طلب الدليل على صدق المدّعى، فهو في عرف التخاطب تكذيب له، لأنه لا برهان لهم عليه.
وفي هذا إيماء إلى أنه لا يقبل من أحد قول لا برهان عليه، والقرآن مليء بالاستدلال على القدرة والإرادة والوحدانية بالآيات الكونية والأدلة العقلية، كقوله: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) (بلى) كلمة تذكر جوابا لإثبات نفى سابق، وردّا لما زعموه فهي مبطلة لقولهم:
(لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارى) أي بلى إنه يدخلها من لم يكن هودا ولا نصارى، إذ رحمة الله لا تختصّ بشعب دون شعب، بل كل من عمل لها وأخلص في عمله، فهو من أهلها.
(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي كل من انقاد لله وأخلص في عمله، فله الجزاء على ذلك عند ربه الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.
والآية ترشد إلى أن الإيمان الخالص لا يكفى وحده للنجاة، بل لا بد أن يقرن بإحسان العمل، وقد جرت سنة القرآن إذا ذكر الإيمان أردفه عمل الصالحات كقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ).
(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين أسلموا وجوههم لله وأحسنوا العمل لا تساور نفوسهم مخاوف ولا أحزان، كما تختلج صدور الذين أشرب قلوبهم حبّ الوثنية، وأعرضوا عن الهداية، إذ من طبيعة المؤمن أنه إذا أصابه مكروه بحث عن سببه واجتهد في تلافيه، فإن لم يمكنه دفعه فوّض أمره إلى ربه، ولم يضطرب ولم تهن له عزيمة، علما منه بأنه قد ركن إلى القوة القادرة على دفع كل مكروه، وتوكل على من بيده دفع كل محظور.
أما عابدو الأوثان والأصنام فهم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم، فإذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم داخلهم الهلع ولم يستطيعوا صبرا على البأساء، وهم يستخذون للدجّالين والمشعوزين، ويعتقدون بسلطة غيبية لكل من يعمل عملا لا يهتدون إلى معرفة سببه.
ثم ذكر مقال كل من الفريقين في الآخر:
(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ) أي ليسوا على شيء من الدين يعتدّ به، فهم قد كفروا بالمسيح مع أنهم يتلون التوراة التي تبشر به وتذكر من الأوصاف ما لا ينطبق إلا عليه، ولا يزالون إلى اليوم يدّعون أن المسيح المبشر به فيها لمّا يأت بعد، وينتظرون ظهوره وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل.
(وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ) أي ليسوا على شيء من الدين الصحيح، ومن ثم أنكروا نبوّة المسيح المتمم لشريعتهم.
(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي قالوا ذلك وكتاب كل من الفريقين ينطق بغير ما يعتقدون، فالتوراة تبشر برسول منهم يأتي بعد موسى، لكنهم خالفوها ولم يؤمنوا به، والإنجيل يقول: إنه (المسيح) جاء متمما لناموس موسى لا ناقضا له، وهم قد نقضوه.
والخلاصة - إن دينهم واحد ترك بعضهم أوّله، وبعضهم آخره ولم يؤمن به كله أحد منهم، والكتاب الذي يتلونه حجة عليهم شاهد على كذبهم.
ثم بين أنهم ليسوا ببدع فيما يقولون، بل قبلهم أمم قالت مثل مقالتهم.
(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي مثل هذا القول الذي لم يبن على برهان، قال الجهلة من عبدة الأوثان لأهل كل دين: لستم على شيء والحق وراء هذه المزاعم، فهو إيمان خالص وعمل صالح لو عرفه الناس حقّ المعرفة لما تفرقوا ولا اختلفوا في أصوله، لكنهم تعصبوا لأهوائهم فاختلفوا فيه وتفرّقوا طرائق قددا.
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فهو العليم بما عليه كل فريق من حقّ أو باطل، فيحقّ الحق ويجعل أهله في النعيم ويبطل الباطل، ويلقى أهله في سواء الجحيم.
[سورة البقرة (2): الآيات 114 الى 117]
ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
تفسير المفردات
الاستفهام هنا للإنكار ويفيد النفي، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم، والمسجد: موضع العبادة لله تعالى، والمراد بخزي الدنيا الهوان والذلّ فيها، والوجه: الجهة، فثمّ: أي هناك، واسع: أي لا يحصر ولا يتحدّد، سبحان: كلمة تفيد التنزيه والتعجب مما يقوله أولئك الجاهلون، والقنوت: الخضوع والانقياد، والبديع: بمعنى المبدع، والإبداع: هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق.
المعنى الجملي
يشير سبحانه في هذه الآيات إلى ما وقع من تيطس الروماني إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخربها حتى لم يبق منها حجرا على حجر، وهدم هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما منهم إذ أخرجوهم من ديارهم، وتحقيقا لوعيد المسيح، فتسللوا لواذا على قلتهم حتى وصلوا إلى رومية، فحرّضوا تيطس على غزوهم في بلادهم وكان له هوى في ذلك، فأجابهم إلى ما طلبوا وكان منه ما علمت.
الإيضاح
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) أي وأي امرئ أشدّ تعديا وجراءة على الله ومخالفة لأمره، من امرئ منع من العبادة في المساجد، وسعى في خرابها بهدمها أو تعطيل شعائر الدين فيها، لما في ذلك من انتهاك حرمة الأديان المؤدّى إلى نسيان الخالق، وفشوّ المنكرات بين الناس، ونشر الفساد في الأرض.
(أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أي أولئك المانعون ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع، فكيف بهم دخلوها مفسدين ومخرّبين، فما كانت عبادة الله إلا نافعة للبشر، وما كان تركها إلا ضارّا لهم.
وقد توعدهم الله على ظلمهم بقوله:
(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى الدنيا بما يعقبه الظلم من الفساد المؤدّى إلى الذل والهوان، ولا ظلم أكبر من إبطال العبادة من المساجد والسعي في خرابها، وقد تحقق ما أوعد به الله فحلّ بالرومانيين الخزي في الدنيا فتقسمت دولتهم، وتشتت ملكهم، ولحقهم الذلّ والهوان على يد غيرهم من الأمم القوية الفاتحة وعذاب الآخرة هو ما أعدّه الله للفجار في جهنم وبئس القرار.
(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي له هاتان الجهتان المعلومتان لكل أحد، والمراد ربّ الأرض كلها، فهو كقوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ).
(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أي أي مكان تستقبلونه في صلاتكم، فهناك القبلة التي يرضاها الله لكم ويأمركم بالتوجه إليها، فأينما توجه المصلى في صلاته فهو متوجه إلى الله لا يقصد بصلاته غيره، والله تعالى راض عنه مقبل عليه.
والحكمة في استقبال القبلة - أنه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود، وهو بهذه الطريقة محال على الله - شرع للناس مكانا مخصوصا يستقبلونه في عبادتهم إياه، وجعل استقباله كاستقبال وجهه تعالى.
(إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى لا يحصر ولا يتحدد، فيصح ان يتوجه إليه في كل مكان، وهو عليم بالمتوجه إليه أينما كان، فاعبدوه حيثما كنتم، وتوجهوا إليه أينما حللتم، ولا تتقيدوا بالأمكنة، والمعبود غير مقيد.
وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة، وفيها إبطال لما كان يعتقده أرباب الملل السابقة من أن العبادة لا تصح إلا في الهياكل والمعابد، وإزالة لما قد يتوهم من أن الوعيد إنما كان على إبطالها في الأماكن المخصوصة، فأبان بها أن الوعيد إنما كان لإبطالها مطلقا، لأن الله لا تحدده الجهات، ولا تحصره الأمكنة.
(وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، ولا فارق بين أن يكون هذا القول قد صدر من جميع أفراد الأمة أو من بعضها، فإن أفرادها متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون، مما يعود أثره من خير أو شر إلى الجميع.
(سبحانه) تنزيها له تعالى أن يكون له ولد، إذ هذا الولد إما من العالم العلوي وهو السماء أو من العالم السفلى وهو الأرض، وليس شيء منهما بمجانس له عز اسمه إلى أن السبب المقتضى للولد هو الاحتياج إلى المعونة في الحياة والقيام مقامه بعد الموت والله منزه عن ذلك.
(بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي ليس الأمر كما زعموا، بل جميع ما في السموات والأرض ملك له قانت لعزته، خاضع لسلطانه، منقاد لإرادته، فما وجه مخصيص واحد منهم بالانتساب إليه وجعله ولدا مجانسا له: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا).
نعم إن الله يختص من يشاء من عباده بما شاء من الفضل كالأنبياء صلوات الله عليهم ولكن هذا لا يرتقى بالمخلوق إلى أن يصل إلى مرتبة الخالق.
(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي موجدهما اختراعا وابتكارا لا على مثال سابق، وإذا كان هو المبدع لهما والموجد لجميع من فيهما فكيف يصح أن ينسب إليه شيء منهما على أنه مجانس له، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
(وَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي وإذا أراد إحداث أمر وإيجاده فإنما يأمره أن يكون موجودا فيكون، والكلام تمثيل وتشبيه لتعلق إرادته بإيجاد الشيء فيعقبه وجوده، بأمر يصدر فيعقبه الامتثال.
والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشيء كن فيكون.
[سورة البقرة (2): الآيات 118 الى 120]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)
تفسير المفردات
لولا: كلمة لحضّ الفاعل على الفعل وطلبه منه، والآية: الحجة والبرهان، والتشابه: التماثل، واليقين: هو العلم بالدليل والبرهان، والحق: هو الشيء الثابت المتحقق الذي لا شكّ فيه.
المعنى الجملي
كان الكلام فيما سلف في الردّ على من أنكر الوحدانية واتخذ لله شريكا - والكلام هنا فيمن أنكر نبوّة محمد ﷺ وطعن في الآيات التي جاء بها وتجنّى بطلب آيات أخرى تعنتا وعنادا كما جاء في نحو قوله حكاية عنهم (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا) وقوله: (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا).
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من المشركين، لأنه لا كتاب لهم ولا هم أتباع نبي من الأنبياء حتى يتجلى لهم ما يليق بمقام الألوهية، وما يصح أن يعطاه الأنبياء من الآيات.
(لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) أي هلا يكلمنا الله بأنك رسوله حقا كما يكلم الملائكة، أو يرسل إلينا ملكا فيخبرنا بذلك، كما كلمك على هذا الوجه مع أنك بشر مثلنا.
وما مقصدهم من هذا إلا العناد والاستكبار وبيان أنه ليس بأحسن منهم حالا، فلم اختصّ بهذا الفضل من بيننا؟
(أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أي أو تأتينا ببرهان على صدقك في دعواك النبوة، ومرادهم بذلك ما حكاه الله عنهم بنحو قوله: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) الآية.
وهذا منهم جحود لأن يكون ما أوتيه من القرآن وغيره من المعجزات آيات كافيات في إثبات ما ادّعى من النبوة.
(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي ومثل هذه الأسئلة التي يراد بها التعنت لإجلاء الحقيقة، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية، فقد قال اليهود لموسى: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)، و(لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) إلى نحو ذلك، وقالت النصارى: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) فهذه أقوال صدرت عنهم للتشهى واتباع الهوى تعنّتا وعنادا لا للوصول إلى كشف غامص وجلاء حقيقة كما قال تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
ثم ذكر السبب في اتحاد مقالهم ومقال من سبقهم فقال:
(تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي تماثلت قلوب هؤلاء وقلوب من قبلهم في العمى والقسوة والعناد، والألسنة ترجمان القلوب، والقلب إذا استحكم فيه الكفر والعمى لا يجرى على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدى، وتعلّات لا تفيد.
فالحق واحد، ومخالفته هي الضلال وهو واحد وإن تعددت طرقه واختلفت وجوهه، وآثاره تتشابه حين تصدر عن الضالين حتى كأنهم متواصون به فيما بينهم كما قال تعالى: (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ).
(قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي إننا لم نتركك بلا آية، بل بينا للناس الآيات على يديك بما لا يدع مجالا للريب لدى طالبى الحق بالدليل والبرهان، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين، ولن يكون هذا إلا لمن صفت نفوسهم، وسلموا من العناد والمكابرة اللّذين يمنعان من وصول نور الحق إلى القلوب، وقد كان كبار الصحابة يراجعون النبي ﷺ فيما لم يظهر لهم دليله، لأنهم طبعوا على معرفة الحق بالبينة.
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) أي إنا أرسلناك بالشيء الثابت الذي لا تضلّ فيه الأوهام، بسعد من أخذ به، ويثلج قلبه بروح اليقين، وهذا شامل للعقائد المطابقة للواقع، وللشرائع التي توصل صاحبها إلى سعادة المعاش والمعاد.
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا) أي لتبشر من أطاع، وتنذر من عصى، لا لتجبر على الإيمان، فلا عليك إن أصروا على الكفر والعناد (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).
(وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي فلا يضرنّك تكذيب المكذبين الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم، فأنت لم تبعث ملزما ولا جبارا، فتكون مقصرا إن لم يؤمنوا، بل بعثت معلما وهاديا بالدعوة وحسن الأسوة، كما قال: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).
وفي هذا تسلية للنبي ﷺ لئلا يضيق صدره كما قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا).
(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) الطريقة المشروعة للعباد تسمي ملة، لأن الأنبياء أملّوها وكتبوها لأمتهم، وتسمى دينا، لأن العباد انقادوا لمن سنها، وتسمى شريعة لأنها مورد للمتعطشين إلى ثواب الله ورحمته.
وقد كان النبي ﷺ يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به، ومن ثم كبر عليه إعراضهم عن إجابة دعوته، وإلحافهم في مجاحدته، مع موافقتهم له في أصل دينهم، من توحيد الله وتقويم ما اعوجّ من الفطرة الإنسانية، بما طرأ عليها من التقاليد الفاسدة بالمعارف الدينية الصالحة إلى أقصى حد مستطاع.
وفي الآية تيئيس له عليه السلام من طمعه في إسلامهم، إذ علق رصاهم عنه بما هو مستحيل أن يكون، وهو اتباع ملتهم والدخول في دينهم، لأنهم اتخذوا الدين جنسية لا يرضون عن أحد إلا إذا دخل في حظيرتها، وانضوى تحت لوائها.
وكلامهم هذا يتضمن أن ملتهم هي الهدى لا ما سواها، ومن ثم ردّ الله عليهم بقوله آمرا نبيّه.
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى) أي إن الهدى هو ما أنزله الله على أنبيائه، لا ما أضافه إليه اليهود والنصارى بالهوى والتشهي، ففرقوا دينهم وكانوا شيعا، كلّ شيعة تكفر الأخرى وتقول إنها ليست على شيء.
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي ولئن اتبعت ما أضافوه إلى - دينهم وجعلوه أصلا من أصول شريعتهم بعد ما حصل لك من اليقين والطمأنينة بالوحي الإلهي الذي نزل عليك، ومنه علمت أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويل، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به.
(ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي فالله لا ينصرك ولا يساعدك على ذلك، إذ أن اتباع الهوى لا يكون طريقا موصلا إلى الهدى، وإذا لم ينصرك الله ويتولّ شئونك فمن ذا الذي ينصرك من بعده؟
وهذا الإنذار الشديد والوعيد والتهديد وإن كان موجها إلى النبي ﷺ الذي عصمه الله من الزيغ والزلل وأيده بالكرامة، هو في الحقيقة خطاب للناس كافة في شخص النبي ﷺ، وقد جرى العرف في خطاب الملوك أن يقال للملك: إذا فعلت كذا كانت العاقبة كذا، ويراد إذا فعلته دولتك أو أمتك.
والكلام هنا جاء على هذا الأسلوب ليرشد من يأتي بعده أن يصدع بالحق، وينتصر له ولا يبالى بمن خالفه مهما قوى حزبه واشتدّ أمره، فمن عرف الحقّ وعرف أن الله ولي أمره وناصره لا يخاف في تأييده لوم اللائمين، ولا إنكار المعاندين.
[سورة البقرة (2): الآيات 121 الى 123]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
المعنى الجملي
هذه الآيات سيقت استدراكا على ما قبلها، فإن ما تقدم كان تيئيسا للنبي ﷺ والمؤمنين من إيمان أهل الكتاب وسلب ما كان يخالج نفوسهم من الرجاء، وهنا أرشد إلى أن فريقا منهم يرجى إيمانهم وهم الذين يتدبرون كتابهم ويميزون بين الحق والباطل ويفهمون أسرار الدين ويعلمون أن ما جئت به هو الحق الذي يتفق مع مصالح البشر، فهو الذي يهذب نفوسهم، ويصفى أرواحهم، وينظم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وبعد أن أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان، إذ لا ينبغي لمن كرمه الله وفضله على غيره من الشعوب أن يكون حظه من كتابه كحظ الحمار يحمل أسفارا.
الإيضاح
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي ومن أهل الكتاب طائفة تقرأ التوراة قراءة تأخذ بمجامع قلوبهم، وتدخل في شغاف أفئدتهم، فيراعون ضبط لفظها ويتدبرون معناها، ويفقهون أسرارها وحكمها، أولئك هم الذين يعقلون أن ما جئت به هو الحق، فيؤمنون به ويهتدون بهديه إلى سواء السبيل كعبد الله ابن سلام وأضرابه ممن آمنوا بالنبي ﷺ.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يكفر بما أنزل إليك بعد أن تبين له أنه الحق من الرؤساء المعاندين، والجهال المقلدين (وكثير ما هم) فأولئك هم الذين خسروا سعادة الدنيا والمجد والسيادة التي يعطيها الله من ينصر دينه، كما قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) وخسروا نعيم الآخرة، وحقّ عليهم العذاب الذي أعدّه الله للكافرين.
وكفرانهم به آت إما بتحريف كتابهم المبشر به حتى لا تنطبق البشارة عليه، ليوافق أهواءهم، وإما بإهماله اكتفاء بقول علمائهم الذين أضافوا إلى التوراة ما شاءوا ليشتروا به ثمنا قليلا.
وفي الآية إيماء إلى أن الذين يتلون الكتاب دون أن يتدبروا معانيه، لا حظ لهم من الإيمان، لأنهم لا يفقهون هداية الله فيه، ولا تصل العظة إلى أفئدتهم بتلاوته.
وفي هذا عبرة لنا كما قال: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فينبغي أن يكون ذلك حافزا لنا في تدبر القرآن وفهمه، لا قراءته لمجرد التلاوة كما قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وقال: (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).
ولكن وا أسفا إن كل هذه الآيات والعبر لم تحل بين هذه الأمة وتقليدها من قبلها وحذوها حذوهم شبرا فشبرا وباعا فباعا، والقرآن حجة عليها كما جاء في الحديث (والقرآن حجة لك أو عليك).
ومن يتله وهو معرض عن تدبره والتأمل في العبرة منه يكن كالمستهزئ بربه، وما مثله إلا مثل من يرسل كتابا إلى آخر لغرض خاص فيقرؤه المرسل إليه مثنى وثلاث ورباع، ويترنم به ولا يلتفت إلى معناه، ولا يكلف نفسه إجابة ما طلب فيه، أيرضى المرسل بمثل هذا ويكتفى به عن إجابة طلبه أم يعدّه استهزاء به؟
فعلى المؤمن في كل زمان ومكان أن يتلوا القرآن بالتدبر والفهم والعمل بما فيه، فإن كان أمّيّا أو أعجميّا فإنه ينبغي أن يطلب من أهل الذكر أن يفهموه معناه ويشرحوا له مغزاه.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) هذا عظة لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل، وتذكير لهم بما سلف من نعمة الله على آبائهم بإنقاذهم من أيدي عدوهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم، وتمكينه لهم في البلاد بعد أن كانوا أذلاء مقهورين، وإرساله الرسل منهم وتفضيلهم على غيرهم ممن كانوا بين ظهرانيهم حين كانوا مطيعين للرسل مصدّقين لما جاءهم من عند ربهم - حتى يتركوا التمادي في الغي والضلال ويثوبوا إلى رشدهم.
ومن أجلّ ما أنعم به عليهم التوراة التي أنزلت عليهم، وذكرها يكون بشكرها، وشكرها يكون بالإيمان بجميع ما جاء فيها، ومن جملته وصف النبي ﷺ فهو المبشّر به فيها.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) تقول جزى عنى هذا الأمر يجزى كما تقول قضى يقضى، زنة ومعنى، أي واتقوا يا معشر بني إسرائيل المبدّلين كتابى، المحرفين له عن وجهه، المكذبين برسولي محمد ﷺ - عذاب يوم لا تقضى فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا كما ورد في الصحيحين « يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا ».
(وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) العدل الفدية: أي لا يؤخذ من نفس فدية تنجو بها من النار، إذ هي لا تجد ذلك لتفتدى به، ولا يشفع فيما وجب عليها من حقّ شافع، وقد كانوا يعتقدون بالمكفّرات تؤخذ فدية عما فرطوا فيه، وبشفاعة أنبيائهم لهم، فأخبرهم الله أنه لا يقوم مقام الاهتداء به شيء آخر.
(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي إنه لا يأتيهم ناصر ينصرهم فيمنع عذاب الله عنهم إذا نزل بهم.
وهذا ترهيب لمن سلفت عظتهم في الآية قبلها.
[سورة البقرة (2): آية 124]
وإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
تفسير المفردات
الابتلاء: الاختبار، أي معرفة حال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه فعله أو تركه، والكلمات: واحدها كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وعلى الكلام المفيد، والمراد هنا معناها من أمر ونهى، وأتمهنّ: أي قام بهنّ خير قيام وأدّاهنّ أحسن التأدية بلا تفريط ولا توان، وإماما: أي رسولا.
المعنى الجملي
بعد أن حاجّ سبحانه أهل الكتاب وبيّن كفرهم بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة كتبهم به، ذكر هنا الأساس الذي بنى عليه الإسلام والنسب الذي يمتّ به ويحترمه أهل الكتاب ومشركو العرب، وهو ملة إبراهيم ونسبه، فلا فضل إذا لليهود على العرب بأنهم يمتون بالنسب إلى إبراهيم ودين إبراهيم، إذ النسب واحد والملة واحدة.
فالقرآن حاج أهل الكتاب الذين جاء لإصلاح دينهم بما أدخلوه عليه من تحريف لبعضه ونسيل لبعضه الآخر، وأثبت التوحيد والتنزيه لله تعالى، وحاج أهل الشرك والوثنية التي جاء لمحوها، تارة بالبراهين العقلية وتارة بالأدلة الكونية في كثير من السور ولا سيما السور المكية.
الإيضاح
(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) أي واذكر لقومك المشركين وغيرهم حين اختبر إبراهيم ربّه ببعض الأوامر والنواهي، فأدّاها خير الأداء، وأتي بها على وجه الكمال كما قال: (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى).
والمراد من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من الحوادث، لأن الوقت محتو عليها، فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا.
والقرآن الكريم لم يعين الكلمات، ومن ثم اختلفوا فيها فقيل هي مناسك الحج، وقيل إنها الكواكب والشمس والقمر التي رآها واستدلّ بأفولها على وحدانية الله تعالى والعرب التي خوطبت به كانت تعرف المراد منها.
(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا) أي قال إني جاعلك للناس رسولا يؤتمّ بك، ويقتدى بهداك إلى يوم القيامة، فدعا الناس إلى الحنيفية السمحة وهي الإيمان بالله وتوحيده والبراءة من الشرك، وما زال هذا جاريا في ذريته، فلم ينقطع منها دين التوحيد، ولأجل هذا وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم.
(قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي قال واجعل من ذريتى أئمة يقتدى بهم، وقد جرى إبراهيم على سنة الفطرة، فتمنى لذريته الخير في أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم، ولا غرو فالإنسان يرجو أن يكون ابنه أحسن منه في جميع ذلك.
(قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي قال أجبتك إلى ما طلبت، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدى بالإمامة لا يناله الظالمون، إذ هم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس.
وفي ذكر الظلم مانعا من الإمامة تنفير لذرية إبراهيم منه وتبغيض لهم فيه، ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته، كيلا يقعوا فيه ويحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها، كما هو تنفير من الظالمين وعدم مخالطتهم.
فالإمامة الصالحة لا تكون إلا لذوي النفوس الفاضلة التي تسوق صاحبها إلى خير العمل، وتزعه عن الشرور والآثام، ولا حظّ للظالمين في شيء من هذا.
والخلاصة - إن الإمامة والنبوة لا ينالها من دنّس نفسه ودسّاها بالظلم وقبيح الخلال، وإنما ينالها من شرفت خلاله، وكملت أخلاقه، وصفت نفسه، لأن أهم أعمال الإمام رفع الظلم والفساد حتى ينتظم العمران، وتسود السكينة بين الناس.
[سورة البقرة (2): الآيات 125 الى 126]
وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
تفسير المفردات
البيت: غلب استعماله في بيت الله الحرام بمكة، مثابة: أي مرجعا يثوب إليه هؤلاء الزوار وأمثالهم، وأمنا: أي موضع أمن، ومقام إبراهيم: هو الحجر الذي كان يقوم عليه حين بناء الكعبة، والمصلى: موضع الصلاة أي الدعاء والثناء على الله تعالى وعهد إليه بكذا إذا وصاه به، والثمرات: المأكولات مما يخرج من الأرض والشجر، والاضطرار: الإكراه، يقال اضطررت فلانا إلى كذا: أي ألجأته إليه وحملته عليه.
المعنى الجملي
ذكّر سبحانه العرب في هذه الآيات بنعم أسبغها عليهم ومنن قلّدها جيدهم، وهي جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه، وجعله مأمنا لهم في هذه البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب، ودعوة إبراهيم للبيت وأهله المؤمنين، وفي التذكير بهذا فائدة في تقرير دعوة النبي ﷺ وأنها مبنية على أصول ملة إبراهيم الذي يحترمه العرب جميعا.
الإيضاح
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) أي واذكروا حين أن جعلنا البيت الحرام مرجعا للناس يثوبون إليه للعبادة، ويقصدونه لأداء المناسك فيه، وجعلناه أمنا لاحترام الناس له وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه، حتى كان يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له بسوء ونحو الآية قوله في سورة العنكبوت: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟).
(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) أي وقلنا لهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وفائدة ذكر هذا الأمر أن يستحضر السامع أو التالي المأمورين، وكأن الأمر يوجه إليهم، ليقع في نفوس المخاطبين به أن الأمر يتناولهم وأنه موجه إليهم كما وجه إلى سلفهم في عهد أبيهم إبراهيم، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ له، فنحن مأمورون بالدعاء في مقام إبراهيم، كما أمر به من كان في عصره من المؤمنين.
(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي ووصينا إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت من كل رجس معنوى كالشرك بالله وعبادة الأصنام، أو رجس حسي كاللغو والرفث والتنازع فيه، حين أداء العبادات كالطواف به والسعي بين الصفا والمروة والعكوف فيه والركوع والسجود.
وفي الآية إيماء إلى أن إبراهيم كان مأمورا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل على معرفة الطريق التي كانوا يؤدونها بها، وسماه الله بيته لأنه جعله معبدا للعبادة الصحيحة، وأمر المصلين بأن يتوجهوا في عبادتهم إليه.
والحكمة في ذلك أن الخلق في حاجة إلى التوجه إلى خالقهم لشكره والثناء عليه والتوسل إليه لاستمداد رحمته ومعونته، وهم يعجزون عن التوجه إلى موجود غيبي لا يتقيد بمكان ولا ينحصر في جهة، فعيّن لهم مكانا نسبه إليه رمزا إلى أن ذاته المقدسة تحضره، والحضور الحقيقي محال عليه، فالمراد أن رحمته الإلهية تحضره، ومن ثمّ كان التوجه إلى هذا المكان كالتوجه إلى تلك الذات العلية لو وجد العبد إلى ذلك سبيلا.
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا) أي قال: رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة، وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد.
وقد استجاب الله دعاءه فلم يقصده أحد بسوء إلا قصم ظهره، ومن تعدى عليه لم يطل زمن تعديه، بل يكون تعديا عارضا ثم يزول.
(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو مشاهد، وقد جاء في سورة القصص: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ).
وخص إبراهيم بدعائه المؤمنين، وإن كان سبحانه لواسع رحمته جعل رزق الدنيا عاما للمؤمنين والكافرين (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) لأن تمتيع الكافرين قصير محدود بذلك العمر القصير، ثم إلى النار وبئس المصير، وهذا ما بينه عزّ اسمه بقوله:
(قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أيقال يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات، ورزقت كفارهم أيضا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدا قليلا وهو مدة وجودهم في الدنيا، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا اختيار لهم فيه، ولا يعلمون أن عملهم ينتهى بهم إليه.
ذاك أن أعمال البشر التي تقع باختيارهم، لها آثار وغايات اضطرارية تنتهي بهم إليها وتكون نتيجة لها بحسب ما وضعه الله في نظام الكون من وجود المسبّبات عقب وجود أسبابها، فالإسراف في الشهوات يفضى إلى بعض الأمراض في الدنيا، كذلك الكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسوقهم، وستكون نتيجة ذلك سوقهم إلى عذاب النار بمقتضى السنن الموضوعة.
وكل أعمال الإنسان النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضى بصاحبها إلى السعادة أو الشقاء، وهي أعمال كسبية اختيارية فالإنسان متمكن من اختيار الحق وترك الباطل وترك الخبيث وفعل الطيب بما أعطاه الله من العقل وبما نزل عليه من الوحي، فإذا حاد عن ذلك يكون قد ظلم نفسه وعرّضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبي وأثرها اضطراري.
وهذه السنن بقضاء الله وتقديره، ومن ثم يصح أن يقال إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه، وجعل الأرواح المدنّسة بالأخلاق الذميمة أو بالعقائد الفاسدة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأمراض القذرة عرضة للأمراض في الدنيا.
[سورة البقرة (2): الآيات 127 الى 129]
وإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
تفسير المفردات
القواعد: واحدها قاعدة، وهي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من السافات (طاقات البناء) ورفعها إعلاء البناء عليها، وتقبل الله العمل: قبله ورضى به، مسلمين أي منقادين لك، يقال أسلم واستسلم إذا خضع وانقاد، والأمة الجماعة، والمناسك: واحدها منسك (بفتح السين) من النسك وهو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحج خاصة، كما شاع استعمال المناسك في معالم الحج وأعماله، وتاب العبد إلى ربه إذا رجع إليه، لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله وعن موجبات رضوانه، وتاب الله على العبد: رحمه وعطف عليه، والكتاب القرآن، والحكمة أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة، قال ابن دريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة.
أو نهتك عن قبيح فهي حكمة، ويزكيهم: أي يطهر نفوسهم من دنس الشرك وضروب المعاصي، العزيز: أي القوى الغالب، الحكيم: أي الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكّر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطنى هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركّع السجود، تنبيها لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة.
انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدّعى أنها على ملة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش.
الإيضاح
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) أي واذكروا إذ يرفع إبراهيم قواعد البيت وأساسه، وهذا نصّ في أنهما هما اللذان بنياه لعبادة الله في تلك البلاد الوثنية، وجعلاه موضعا لضروب من العبادة التي لا تكون في غيره، وذلك هو مصدر شرفه لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بأنه نزل من السماء، فكل ما روى بصدد هذا فهو من الإسرائيليات التي لا يعول عليها ولا ينبغي تصديقها، ولا يقبلها العلماء الذين يفقهون أسرار الدين ويفهمون مراميه، ومن ثم قال عمر بن الخطاب عند استلام الحجر الأسود: « أما والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولو لا إني رأيت رسول الله ﷺ قبّلك ما قبّلتك، ثم دنا فقبّله » رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وفي هذا الأثر إيماء إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته، بل هو كسائر الأحجار، وإنما استلامه امر تعبدي كاستقبال الكعبة في الصلاة، وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدّه مكان، ولا تحصره جهة.
(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي إن إبراهيم وإسماعيل كانا يقولان في دعائهما وهما يرفعان قواعد البيت: (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا).
(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي ربنا أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالنا
وفي الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأدّاها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك - فعليه أن يتضرّع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبا ولا يضيع سعيه سدى، كما أنه لا ينبغي أن يجزم بأن عبادته متقبّلة، ولو لا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة.
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي ربنا واجعلنا مخلصين لك في الاعتقاد بألا نتوجه بقلبنا إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك لا اتباع الهوى ولا إرضاء الشهوة.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة، وقد أجاب الله دعاءهما وجعل في ذريتهما الأمة الإسلامية وبعث فيها خاتم النبيين.
ومما سلف تعلم أن المراد بالإسلام الانقياد والخضوع لخالق السموات والأرض، وليس المراد منه الأمة الإسلامية خاصة حتى يكون كل من يولد فيها ويلقب بهذا اللقب ينطبق عليه اسم الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم صلوات الله عليه.
(وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي عرّفنا مواضع نسكنا أي أفعال الحج كالمواقيت التي يكون منها الإحرام، وموضع الوقوف بعرفة، وموضع الطواف إلى نحو ذلك من أفعاله وأقواله.
(وَتُبْ عَلَيْنا) أي ووفقنا للتوبة، لنتوب ويرجع إليك من كل عمل يشغلنا عنك، وهذا نظير قوله تعالى: (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا).
وهذا منهما إرشاد لذريتهم، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله.
(إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم لحسن العمل وقبول ذلك منهم، الرّحيم بالتائبين المنجّى لهم من عذابك وسخطك.
(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) أي ربنا وأرسل في الأمة المسلمة لك رسولا من أنفسهم ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعزّ به، وأقرب لإجابة دعوته، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانه وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوّة النبي.
وقد أجاب الله دعوته، وأرسل خاتم النبيين محمدا ﷺ رسولا منهم، ومن ثم روى الإمام أحمد قوله ﷺ: « أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ».
(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) أي يقرأ عليهم ما توحى إليه من الآيات التي تنزلها عليه، متضمنة تفصيل الآيات الكونية الدالة على وحدانيتك، ومشتملة على إمكان البعث والجزاء، بالثواب على صالح الأعمال والعقاب على سيئها، فيكون في ذلك عبرة لمن هداه الله ووفقه للخير والسعادة.
(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي ويعلمهم القرآن وأسرار الشريعة ومقاصدها بسيرته بين المسلمين فيكون قدوة لهم في أقواله وأفعاله.
(وَيُزَكِّيهِمْ) أي ويطهر نفوسهم من الشرك وضروب المعاصي التي تدسّيها وتفسد الأخلاق وتقوّض نظم المجتمع، ويعوّدها الأعمال الحسنة التي تطبع فيها ملكات الخير التي ترضى المولى جلّ وعلا.
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إنك أنت القوى الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك، الحكيم في أفعالك في عبادك، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
وقد ختم إبراهيم دعواته بالثناء على ربه، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه، فوصفه بأنه العزيز الذي لا يردّ له أمر، وأنه الحكيم الذي لا معقّب لحكمه، فمن الهيّن عليه أن يجيبه إلى ما طلب، مما هو متنافر مع طباع العرب، بعيد من معايشهم وأحوالهم، فهم بعيدون عن ورود مناهل العلم، وفيهم خشونة في الطباع، وغلظ في الأكباد، ليس لديهم استعداد لحضارة ولا مدنية، وقد أجاب الله دعاءه وكوّن منهم أمة كانت خير الأمم، سادت العالم وملكت المشارق والمغارب ردحا من الزمان، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق بلائهم، وعظيم سياستهم للشعوب التي انضوت تحت لوائهم، بما لم تجارهم فيه أرقى الأمم مدنية في عصرنا، عصر الرقى والحضارة.
[سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 134]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهًا واحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
تفسير المفردات
رغب في الشيء: أحبه، ورغب عنه كرهه، وسفه نفسه: أذلّها واحتقرها، واصطفيناه: أي اخترناه وأصل الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وهي خالصه، أسلم: أي أخلص لي العبادة، والتوصية: إرشاد غيرك إلى ما فيه خير وصلاح له من قول أو فعل على جهة التفضل والإحسان في أمر ديني أو دنيوي، مسلمون: أي مخلصون بالتوحيد، والشهداء: واحدهم شهيد، أي حاضر، وحضور الموت: حضور أماراته وأسبابه وقرب الخروج من الدنيا، والأمة: الجماعة، وخلت: مضت وذهبت، لها ما كسبت: أي ما عملت، ولكم ما كسبتم: أي أنتم مجزيون بأعمالكم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهنّ، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة، فصدع بما أمر، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذلّ نفسه واحتقرها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم ردّ على شبهة لليهود إذ قالوا للنبي ﷺ إن يعقوب كان يهوديا، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته: نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد.
وقد روي في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، قال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبي مهاجر.
الإيضاح
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي إن ملّتكم هي ملّة أبيكم إبراهيم الذي إليه تنتسبون، وبه تفخرون، فكيف ترغبون عنها وتحتقرون عقولكم وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا.
(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح وإرشاد الناس للعمل بهذه الملة.
ولا شكّ أن ملة هذا شأنها، وبها كانت له المكانة عند ربه، لا يرغب عنها إلا سفيه يعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته.
وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة وعدة له بذلك.
(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الآيات ونصب له من الأدلة على وحدانيته، فلبّى الدعوة.
(قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي قال أخلصت ديني لله الذي فطر الخلق جميعا، ونحو هذا قوله: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وقد نشأ إبراهيم في قوم عبدة أصنام وكواكب، فأنار الله بصيرته، وألهمه الحق والصواب، فأدرك أن للعالم ربّا واحدا يدبره ويتصرف في شئونه وإليه مصيره، وحاجّ قومه في ذلك وبهرهم بحجته فقال: (أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة الأنعام.
(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي ووصّى بهذه الملة التي ذكرت في قوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) إبراهيم أولاده ووصّى بها يعقوب من بعده أولاده أيضا، قائلين لهم: إن الله اصطفى لكم دين الإسلام الذي لا يتقبل الله سواه.
(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فحافظوا على الإسلام لله ولا تفارقوه برهة واحدة، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم.
وفي هذا النهى إيماء إلى أنّ من كان منحرفا عن الجادّة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الدين، خيفة أن يموت وهو على غير هدى، فالمرء مهدّد في كل آن بالموت.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
ثم أكد أمر الوصية وزاده تقريرا، وأقام الحجة على أهل الكتاب فوجه إليهم الخطاب وقال:
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أي أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين محمدا الجاحدين نبوته - شهودا حين حضر يعقوب الموت، فتدّعون أنه كان يهوديا أو نصرانيا، فقد روي أن اليهود قالوا للنبي ﷺ: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية؟
وخلاصة ذلك - أنتم لم تحضروا ذلك فلا تدّعوا عليه الأباطيل وتنسبوه إلى اليهودية أو النصرانية، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية المسلمة، وبها وصّوا بنيهم وعهدوا إلى أولادهم من بعدهم.
(إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي أكنتم شهداء حين قال لبنيه: أي معبود تعبدون من بعدي؟ ومراده من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بثباتهم على الإسلام والتوحيد، وأن يكون مقصدهم في جميع أعمالهم وجه الله ومرضاته، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان، كما قال في دعائه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).
(قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهًا واحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي قالوا: نعبد الإله الذي قامت الأدلة العقلية والحسية على وجوده ووجوب عبادته لا نشرك به سواه، ونحن له منقادون خاضعون معترفون له بالعبودية متوجهون إليه عند الملمّات، وقد كانوا في عصر فشت فيه عبادة الأصنام والكواكب، والحيوان وغيرها.
وجعلوا إسماعيل (وهو عمه) أبا تشبيها له بالأب، وقد روى الشيخان قوله عليه السلام « عم الرجل صنو أبيه ».
وقد أرشدت الآية الكريمة إلى أن دين الله واحد في كل أمة، وعلى لسان كلّ نبي، وروحه التوحيد والاستسلام لله، والإذعان لهدى الأنبياء، وبهذا كان يوصى النبيون أممهم كما قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
فالقرآن يحثّ الناس على الاتفاق في الدين الذي أساسه أمران: أولهما التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه، وثانيهما الاستسلام لله والخضوع له في جميع الأعمال، فمن لم يتصف بذلك فليس بالمسلم أي ليس على الدين القيم الذي كان عليه الأنبياء.
والناس يطلقون الإسلام اليوم لقبا على طوائف من الناس لهم ميزات دينية، وعادات تميزهم من سائر الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى، وقد يكون من بعض أهله من لم يكن مستسلما مخلصا لله في أعماله، بل قد يكون مبتدعا ما ليس منه، أو فاسقا عنه قد اتخذ إلهه هواه.
والإسلام الذي دعا إليه القرآن هو الذي دعا إليه النبي ﷺ ولم يدع إلى الإسلام بمعنى ذلك اللقب المعروف اليوم.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن سنة الله في عباده ألا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله، ولا يسأل إلا عن كسبه وعمله كما جاء في قوله: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)
وجاء في الحديث: « يا بني هاشم، لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم ».
وقال الغزالي: إذا كان الجائع يشبع إذا أكل والده دونه، والظمآن يروى بشرب والده وإن لم يشرب، فالعاصى ينجو بصلاح والده.
ومن هذا تعلم أن من يخاطب أصحاب القبور حين الاستغاثة بهم بنحو قوله: (المحسوب منسوب) فقد ضل ضلالا بعيدا، وخالف ما تظاهر من نصوص الدين التي تدلّ على خلاف ما يقول:
[سورة البقرة (2): الآيات 135 الى 138]
وَقالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
تفسير المفردات
الحنيف: المائل، وأطلق على إبراهيم لأنه خالف الناس جميعا، ومال عن الكفر إلى الإيمان، والأسباط: واحدهم سبط، وسبط الرجل ولد ولده، والأسباط: من بني إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم، وما أوتى موسى: هو التوراة، وما أوتى عيسى: هو الإنجيل، والشقاق: مأخوذ من الشّق وهو الجانب، فكأن كل واحد في شقّ غير شق صاحبه لما بينهما من عداوة، والصبغة: في اللغة اسم لهيئة صبغ الثوب وجعله بلون خاص.
المعنى الجملي
بعد أن دعا سبحانه العرب إلى الإسلام وأشرك معهم أهل الكتاب، لأنهم أجدر بإجلال إبراهيم واتباعه، وفي أثناء ذلك بين حقيقة ملة إبراهيم على الوجه الحقّ لا كما يعتقده اليهود والنصارى، ثم بيّن أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، والفوارق في الجزئيات والتفاصيل لا تغيّر من جوهر الدين في شيء، وقد جهل أهل الكتاب هذه الحقيقة، فقصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين من التفاصيل والتقاليد التي أضافوها إلى التوراة والإنجيل، فبعد كل من الفريقين من الآخر أشدّ البعد، وصار كل منهما يحتكر الإيمان لنفسه، ويرمى الآخر بالكفر والإلحاد.
الإيضاح
(وَقالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) أي وقالت اليهود: لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها، لأن نبيهم موسى أفضل الأنبياء، وكتابهم أفضل الكتب، ودينهم خير الأديان، ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: لا يتقبل الله إلا النصرانية لأن الهداية خاصة بها، إذ عيسى أفضل الأنبياء وكتابهم أجلّ الكتب، ودينهم خير الأديان، وقد كفروا بموسى والتوراة ومحمد والقرآن، ولو صحّ ما تقولون: لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وأنتم جميعا متفقون على أنه سيد المهتدين وإمامهم، ومن ثمّ ردّ الله عليهم بقوله:
(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا) أي قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم الذي لا تنازعون في هداه، فهي الملة التي لا انحراف فيها ولا زيغ.
(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم.
وفي هذا تعريض بأهل الكتاب وبيان بطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم لقولهم عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
ودين إبراهيم الحنيف هو الدين الذي عليه محمد ﷺ وأتباعه المؤمنون به.
وبعد أن أمر الله نبيّه أن يدعو الناس إلى اتباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال:
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أي قولوا آمنا بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة لرب العالمين، فلا نكذّب أحدا منهم فيما ادّعاه ودعا إليه في عصره، بل نصدق بذلك تصديقا جمليا ولا يضيرنا تحريف بعض وضياع بعض، فإن التصديق التفصيلي إنما يكون لما أنزل إلينا فحسب.
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال النبي ﷺ: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن معقل مرفوعا « آمنوا بالتوراة والإنجيل وليسعكم القرآن ».
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء، وتبرّأت النصارى من محمد ﷺ وأقرّت بغيره، بل نشهد أن الجميع رسل الله بعثوا بالحقّ والهدى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي ونحن خاضعون له بالطاعة مذعنون له بالعبودية، وذلك هو الإيمان الصحيح، وأنتم لستم كذلك، بل أنتم متبعون أهواءكم لا تحولون عنها.
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فإن آمنوا الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين، كما نؤمن به نحن وتركوا ما هم عليه من ادّعاء حلول الله في بعض البشر وكون رسولهم إلها أو ابن إله، فقد اهتدوا إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم.
ذاك أنه قد طرأ على إيمانهم بالله نزعات الوثنية وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس، وتمسكوا برسوم العبادات ونقصوا منها وزادوا عليها مما بعدوا به عن مقاصد الأديان من حيث يدعون العمل بها كاملة غير منقوصة.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي وإن أعرضوا عما تدعوهم إليه من الرجوع إلى أصل الدين ولبّه، وفرّقوا بين رسل الله فصدّقوا ببعض وكفروا ببعض، فإن أمرهم يكون محصورا في المشاقّة والعداوة وكل ما يوسع مسافة الخلف بينكم وبينهم.
(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي فسيكفيك الله إيذاءهم وسيّئ مكرهم ويؤيد دعوتك وينصرك عليهم نصرا مؤزرا.
وقد أنجز الله وعده للنبي والمؤمنين، فقتل وسبى بنى قريظة، ونفى بني النضير إلى الشام، وضرب الجزية على نصارى نجران، وهو سميع لما يقولون بألسنتهم ويبدو بأفواههم من الدعوة إلى الكفر والضلال، عليم بما يبطنون لك ولأصحابك المؤمنين من الحسد والبغضاء.
(صِبْغَةَ اللَّهِ) أي صبغنا الله وفطرنا على الاستعداد للحق والإيمان بما جاء به الأنبياء والمرسلون، ولا نتبع آراء الرؤساء وأهواء الزعماء وتقاليدهم الوضعية، وهو زينتنا التي بها نتحلى كما يتحلى الثوب بالصبغ.
(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي لا أحد تكون صبغته أحسن من صبغة الله، فإنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أدران الكفر، وينجيهم من الشرك، فهي جماع كل خير وبها تتآلف القلوب والشعوب، وتزكو النفوس أما ما أضافه الأحبار والرهبان من أهل الكتاب إلى الدين، فهو من الصبغة البشرية، والصبغة الإنسانية، التي تجعل الدين الواحد مذاهب متفرّقة، والأمة شيعا متنافرة.
(وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) ولا نعبد سواه، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في ديننا وينقصون، ويحلون ويحرّمون، ويمحون من نفوسنا صبغة التوحيد ويثبتون مكانها صبغة البشر التي تفضى إلى الإشراك بالله واتخاذ الأنداد له.
وفي الآية إيماء إلى أن الإسلام لم يشرع أعمالا خاصة يتميز بها المسلم من سواه، كما شرع النصارى المعمودية، بل المعوّل عليه ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحبّ الخير والاعتدال كما قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
[سورة البقرة (2): الآيات 139 الى 141]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُودًا أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
تفسير المفردات
المحاجة: المجادلة بدعوى الحق لدى كل من المتخاصمين مع إقامة الحجة على ذلك، في الله: أي في دينه.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن الملة الصحيحة هي ملة إبراهيم وليست هي باليهودية ولا النصرانية، بل هي صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهي بعيدة عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاع الرؤساء فطمست ما جرى عليه الأنبياء حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله محمدا ﷺ ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق، فلقّن نبيه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات.
روي أن سبب نزول هذه الآيات أن اليهود والنصارى قالوا: يجب أن يكون الناس لنا تبعا في الدين، لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع، فردّ الله عليهم بما ستعلم بعد.
الإيضاح
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ؟) أي أتدّعون أن الدين الحق هو اليهودية والنصرانية، وتقولون حينا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارى) وحينا آخر تقولون: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ومن أين جاءكم هذا القرب من الله دوننا، والله ربنا وربكم وربّ العالمين، فهو الخالق وجميعنا خلقه، وإنما يتفاضل الناس بأعمالهم، وآثار أعمالنا عائدة إلينا خيرا كانت أو شرّا، وآثار أعمالكم كذلك لكم على هذا النحو، ونحن له مخلصون في أعمالنا لا نبتغى إلا وجهه، أما أنتم فقد اتكلتم على أسلافكم من الصالحين، وزعمتم أنهم شفعاء لكم عند ربكم مع انحرافكم عن سيرتهم، إذ هم ما كانوا يتقربون إلا بصالح العمل وصادق الإيمان، فاجعلوهم رائدكم وانهجوا نهجهم تنالوا الفوز والسعادة.
وخلاصة ما سبق - إن روح الدين التوحيد، وملاك أمره الإخلاص المعبّر عنه بالإسلام، فإذا زال هذا المقصد وحفظت الأعمال الصورية لم يغن ذلك شيئا، وأهل الكتاب أزهقوا هذا الروح وحفظوا الرسوم والتقاليد، فهم ليسوا على شيء من الدين، ولكنّ محمدا ﷺ جاء بما أحيا ذلك الروح الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين، فهو الذي كمّل شريعتهم بشريعته التي تصلح لجميع البشر في كلّ زمان ومكان.
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُودًا أَوْ نَصارى) أي أتقولون: إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله وهو ربنا وربكم، أم تقولون إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها إنما كان بأن هؤلاء الأنبياء كانوا عليها، فإن كان هذا ما تدّعون فأنتم كاذبون فيما تقولون، فإن هذين الاسمين إنما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلا بعد عيسى، فكيف تزعمون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، وقضية العقل شاهدة بكذبكم؟
(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟) أي أأنتم أعلم بالمرضي عند الله، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله؟ لا شكّ أن الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدّقه قبل أن تجىء اليهودية والنصرانية، فلما ذا لا ترضون لأنفسكم هذه الملة؟
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) أي لا أحد أشدّ ظلما ممن يكتم شهادة مثبتة في كتاب الله تبشر بأن الله يبعث فيهم نبيّا من بنى إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل.
وهم لا يزالون يكتمون ذلك، فينكرون على غير المطّلع على التوراة، ويحرّفون على المطلع عليها.
وخلاصة ما سلف - أنه أقام ثلاث حجج تدحض ما ادّعوا:
(1) قوله: (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ).
(2) قوله: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) إلخ.
(3) قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) إلخ.
(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي إن الله لا يترك أمركم سدى، بل يعذبكم أشدّ العذاب، وهو محيط بما تأتون وما تذرون.
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد عقب التقريع والتوبيخ.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن جماعة الأنبياء قد مضت بالموت، ولها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم منها، ولا يسأل أحد عن عمل غيره، بل يسأل عن عمل نفسه ويجازى به، فلا يضره ولا ينفعه سواه، وهذه قاعدة أقرتها الأديان جميعا وأيّدها العقل كما قال: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان فأوّلوا لهم نصوص الدين اتباعا للهوى، ومن ثمّ جاء القرآن يقرّر ارتباط السعادة بالكسب والعمل، وينفى الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم، وقد حاجّ بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة.
وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا ورائدنا في أعمالنا تلك القاعدة - الجزاء على العمل - ولا نغتر بشفاعة سلفنا الصالح، ونجعلها وسيلة لنا في النجاة إذا نحن قصّرنا في عملنا، فكل من السلف والخلف مجزي بعمله، ولا ينفع أحدا عمل غيره.
وفّقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين تمّ تصنيف هذا الجزء في الثامن والعشرين من صفر سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان. في مدينة حلوان من أرباض القاهرة بالديار المصرية.
فهرس أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث
3 مقدمة التفسير
5 عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم.
6 التفسير في عهد الصحابة
7 التفسير في عهد التابعين
10 عصر المعرفة الإسلامية
13 آراء العلماء في كتابة المصاحف
16 نهجنا الذي سلكناه في هذا التفسير
17 أساليب المفسرين
18 ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم
19 تمحيص الروايات في كتب التفسير
22 تفسير سورة الفاتحة
23 ماحوته سورة الفاتحة من المقاصد
24 نزول القرآن منجما
26 آراء الصحابة والتابعين في البسملة
32 جزاء الأمم والأفراد في الدنيا
33 معنى العبادة شرعا
34 الاستعانة بالله أو التوكل عليه
35 ضروب الهداية
39 تفسير سورة البقرة
40 عقاب الله يتقى باتقاء أسبابه
41 الإيمان بالغيب
42 الصلاة التي طلبها الدين
44 ما يحصل به الإيمان على الوجه الصحيح
46 الختم على القلوب
53 المفسدون في كل زمان يدّعون أنهم مصلحون
57 مثل المنافقين في القرآن
63 الأنداد الذين نهى الله عن اتخاذهم
70 ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها
70 العهد الذي أخذه الله على عباده
73 أمر التكوين وأمر التشريع
75 أخبار النشأة الإنسانية وآراء العلماء في الحوار الذي بين الله وملائكته
85 الخلافة في الأرض
86 عالم الملائكة
87 آراء العلماء في إبليس
90 جنة آدم
92 هبوط آدم وحواء من الجنة، خلق حواء من ضلع آدم
93 عصيان آدم
95 أطوار النوع البشرى
106 الاستعانة بالصبر والصلاة
110 الشفاعة التي جاءت بها الأحاديث الصحيحة
113 الزمن الذي بين دخول بني إسرائيل مصر في عصر يوسف وخروجهم منها في عصر موسى
116 فرق البحر لموسى وقومه
122 الأمم متكافلة، فسعادة الفرد بسعادة سائر الأفراد وشقاؤه بشقائهم
128 الفرق بين المخترعات العلمية والمعجزات
136 المقصد من الكتب الإلهية العمل بها لا التغني بألفاظها
139 آراء العلماء في المسخ الذي حدث لبني إسرائيل
156 أسباب حبّ الوالدين لولدهما
162 تمني الموت
180 السحر وتأثيره، وما أنزل على الملكين ببابل
197 تخريب تيطس الروماني بيت المقدس
206 التالي للقرآن وهو معرض عن تدبر معناه كالمستهزئ بربه
212 الحكمة في التوجه إلى البيت الحرام
213 أعمال البشر التي تقع باختيارهم لها آثار اضطرارية
217 قوله ﷺ أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى
218 وصية يعقوب لبنيه
226 صبغة الله
هامش
- ↑ الحسن البصري.
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |