تفسير المراغي/الجزء الثاني
[تتمة سورة البقرة]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة البقرة (2): الآيات 142 الى 143]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)
تفسير المفردات
السفه والسفاهة: اضطراب في الرأي والفكر أو الأخلاق، ويسمى اضطراب العقل طيشا وجهلا، واضطراب الأخلاق فسادا، وولاه عن الشيء: صرفه، والقبلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل، ثم خصت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة، والصراط الطريق، والمستقيم المستوي المعتدل من الأفكار والأعمال والأخلاق، وهو ما فيه الحكمة والمصلحة، والوسط العدل والخيار، والزيادة على ذلك إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، وكلاهما مذموم، والفضيلة في الوسط كما قيل:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفى قصد الأمور ذميم
يقال انقلب على عقبيه عن كذا إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء وهو طريق العقبين الرأفة رفع المكروه وإزالة الضرر، والرحمة أعمّ إذ تشمل دفع الضرر، وفعل الإحسان.
المعنى الجملي
كان النبي ﷺ وهو بمكة يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة، كما كان أنبياء بني إسرائيل قبله يفعلون ذلك، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى لو حوّل الله القبلة إليها، ومن ثمّ كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلى جهة جنوب الكعبة مستقبلا الشمال.
فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس فحسب لتعذر الجمع بينهما، وبقي على ذلك ستة عشر شهرا كان في أثنائها يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة لأنها قبلة أبيه إبراهيم، فأمره الله بذلك ونزل قوله: « قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » إلخ فقال اليهود والمشركون والمنافقون: ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟
وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي ﷺ به قبل وقوعه، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطّن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلاما، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس، وليعدّ الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم، وقد قالوا في أمثالهم « قبل الرمي يراش السهم » وليكون الوقوع بعد الإخبار به معجزة له ﷺ.
ويتضمن هذا الجواب سرّا من أسرار الدين كان أهل الكتاب في غفلة عنه وجهل به، وهي أن الجهات كلها لله، فلا فضل لجهة على أخرى، فلله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة منها ويجعلها قبلة، وعلى العبد أن يمتثل أمر ربه « ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله ».
الإيضاح
(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟) أي سيقول الذين خفّت أحلامهم، وامتهنوا عقولهم بالتقليد والإعراض عن النظر، والتأمل من المنكرين تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين على جهة الإنكار والتعجب: أي شيء جرى لهؤلاء المسلمين، فصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي قبلة النبيين والمرسلين من قبلهم؟
(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي أجبهم بأن الجهات كلها لله، فليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في جوهرها، وليس فيها من المنافع ما لا يوجد في غيرها، وكذلك الكعبة والبيت الحرام، وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة، لتكون جامعة لهم في عبادتهم، لكن سفهاء الأحلام يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هي الصخرة المعيّنة أو البناء المعين، وقد بلغ الأمر باليهود أن قالوا للرسول ﷺ: ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، وما أرادوا بذلك إلا فتنته ﷺ والطعن في الدين، ببيان أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها، حدث بلا داع يدعو إليه، حتى قالوا: إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، وليرجعنّ إلى دينهم أيضا.
(يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي يرشد الله من يشاء إرشاده وهدايته إلى الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين، ويلهمهم ما فيه الخير لهم، وهو تارة يكون في التوجه إلى بيت المقدس، وأخرى في التوجه إلى الكعبة.
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي وقد جعلنا المسلمين خيارا وعدولا، لأنهم وسط فليسوا من أرباب الغلوّ في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين.
وقد كان الناس قبل الإسلام قسمين: مادّى لا همّ له إلا الحظوظ الجثمانية كاليهود والمشركين، وقسم تحكمت فيه تقاليده الروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمية، كالنصارى والصابئة وطوائف من وثنى الهنود أصحاب الرياضات.
فجاء الإسلام جامعا بين الحقّين حق الروح وحق الجسم، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسم وروح، وإن شئت فقل: الإنسان حيوان وملك، فكماله بإعطائه الحقين معا.
(لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي لتشهدوا على الماديين الذين فرّطوا في جنب الله، وأخلدوا إلى اللذات: وحرموا أنفسهم من المزايا الروحية، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وتشهدوا على من غلا في الدين وتخلّى عن جميع اللذات الجثمانية وعذب جسمه، وهضم حقوق نفسه، وحرمها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة، فخرجوا بها عن جادة الاعتدال، وجنى على روحه بجنايته على جسمه.
تشهدون على هؤلاء وهؤلاء وتكونون سباقين للأمم جميعا باعتدالكم وتوسطكم في جميع شئونكم، وذلك هو منتهى الكمال الإنساني الذي يعطى كل ذي حق حقه، فيؤدى حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوي القربى وحقوق الناس جميعا.
(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) إذ هو المثل الأعلى لمرتبة الوسط، فنحن إنما نستحق هذا الوصف إذا اتبعنا سيرته وشريعته، وهو الذي يحكم على من اتبعها، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أخرى، وانحرف عن الجادّة وحينئذ يكون الرسول بدينه وسيرته حجة عليه، بأنه ليس من أمته التي وصفها الله في كتابه بقوله: « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين.
(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هي الجهة التي كنت عليها إلى اليوم، ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له، فهو عرضة لرياح الشبهات، تطير به وتغدو وتروح.
والخلاصة - إن الله يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين، وريب المرتابين، فيثبت من فقه الدين وعرف سره وحكمته، وتتخطف الشبهات والشكوك من أخذ الدين تقليدا من غير فقه ولا عرفان، وهكذا سبحانه يختبر ما في القلوب بما يبتلى به الناس من الفتن كما قال: « أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ».
وقد جاء في الكتاب الكريم (لنعلم - وليعلم) وعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، ومن ثم قال العلماء: المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع، ذاك أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت، ويترتب على ذلك الجزاء من ثواب وعقاب.
(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي وكانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجه إلى القبلة الأولى، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده ويثقل عليه الانتقال منه، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسر تشريعه، فعلموا أن التعبد باستقبالها إنما يكون بطاعة الله بها، لا بسرّ في ذاتها أو مكانها، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما، هو اجتماع الأمة عليها، وهو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم.
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقضى بإضاعة إيمانكم الباعث لكم على اتباع الرسول في الصلاة وفي القبلة، فلو كان تحويل القبلة مما يضيع الإيمان بتفويت ثواب كان قبله لما حولها، وفي هذا بشرى للمؤمنين المتبعين للرسول بأن الله يجزيهم الجزاء الأوفى، ولا يضيع أجرهم ولا ينقصهم منه شيئا.
ثم ذكر سبب ما تقدم بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن الله رءوف بعباده، لأنه ذو الرحمة الواسعة، فلا يضيع عمل عامل منهم، ولا يبتليهم بما يظهر صدق إيمانهم وإخلاصهم ليضيع عليهم هذا الإيمان والإخلاص، بل ليجزيهم أحسن الجزاء.
والخلاصة - إنه لا يكتفى بدفع البلاء عنهم برأفته، بل يعاملهم بعد ذلك بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل، ويزيدهم من فضله.
[سورة البقرة (2): الآيات 144 الى 147]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
تفسير المفردات
تقلب الوجه في السماء: تردده المرة بعد المرة فيها، وهي مصدر الوحي وقبلة الدعاء. نولينك، من وليه وليا إذا قرب منه، وتولية الوجه المكان جعله قبالته وأمامه، والشطر هنا الجهة، والمراد بالوجه جملة البدن، بكل آية: أي بكل برهان وحجة، وواحد الأهواء هوى وهو الإرادة والمحبة، والامتراء الشكّ.
المعنى الجملي
كان النبي ﷺ يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولو لا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فكره النبي ﷺ قبلتهم حتى روي أنه قال لجبريل: وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله ﷺ يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
الإيضاح
(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) أي قد نرى تردد نظرك جهة السماء حينا بعد حين، تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة.
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أي فلنجعلنّك تلى جهة تحبها وتتشوف لها غير جهة بيت المقدس.
(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي فاجعل وجهك بحيث يلي جهة المسجد الحرام، وفي ذكر (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه.
(وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي وفي أي مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم في الصلاة، وهذا يقتضى أن يصلّوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب.
وقد وجب لهذا أن يعرف المسلمون موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا، ومن ثمّ عنوا عناية عظيمة بعلم تقويم البلدان بقسميه الفلكي والأرضى (الجغرافية الفلكية والأرضية).
والأوامر التي جاءت في الكتاب الكريم موجهة إلى رسول الله ﷺ، هي له ولأمته، إلا إذا دلّ دليل على أنها خاصة به كقوله: « خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ » وقوله « وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ».
وإنما أكد الأمر باستقباله، ووجّهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه، وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله، لتشتدّ عزيمتهم وتطمئنّ قلوبهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب واليهود بعزيمة صادقة وثبات على اتباع الرسول، ثم عاد إلى بيان حال السفهاء مثيرى الفتنة في تحويل القبلة فقال:
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل من الله على نبيه ﷺ، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم، وما هي من كتبهم، ولكن يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض، بإثارة الشكوك في نفوسهم، ومن ثمّ كذب الله هؤلاء المخادعين، وبيّن أنهم يقولون ما لا يعتقدون، إذ هم يعلمون أن أمر القبلة كغيره من أمور الدين - حقّ لا محيص عنه، إذ جاء به الوحي الذي لا شك في صدقه.
(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فهو العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أي ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة، على أن الحق هو ما جئتهم به من وجوب التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام - ما صدّقوا به ولا اتبعوك عنادا منهم ومكابرة.
وقصارى ذلك - إنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة، بل خالفوك عنادا وصلفا، فلا يجدي معهم برهان ولا تقنعهم حجة. وكما أيأسه من اتباعهم قبلته، أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال:
(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي إن ذلك لا يكون منك، فإنك على قبلة إبراهيم الذي يجلّونه جميعا، فهي الأجدر بالاتباع. وإذا كان إتباع ابراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا والتقليد يحول بينهم وبين النظر في حكمة القبلة، وسرّ اجتماع الناس عليها، وكون الجهات كلها لله - فأى آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟
(وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقّا كان أو مبطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، إذ التقليد أعمى بصيرته، فلا يبحث في فائدة ما هو فيه، ولا يوازن بينه وبين غيره، ليتّبع أصلح الأمور وأكثرها نفعا.
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شكّ فيه - لتكونن من جملة الظالمين - وحاشاك أن تفعل ذلك.
وتقدم أن مثل هذا من باب (إيّاك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد أنه لا ينبغي لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في اتباع أهواء القوم استمالة لهم، فإن الحقّ قوي بذاته، فمن عدل عنه وجارى أهل الأهواء، رجاء منفعة أو اتقاء مضرّة فهو ظالم لنفسه، ولمن سلك بهم هذا السبيل الجائر.
وإذا كان هذا الوعيد توجه لأعلى الناس مقاما عند ربه لو حاول اتباع الهوى استرضاء للناس بمجاراتهم على الباطل، فما ظنك بغيره ممن يتبع الهوى ويجارى الناس على شيء نهاهم الله عنه، فليعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح من الظلم العظيم الذي يوقع في مهاوى الهلاك، فكأنه قيل: إن هذا ظلم عظيم لا هوادة فيه مع أحد، فلو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله لسحل عليه الظلم « وما للظّالمين من أنصار » فكيف بمن دونه ممن لا يقار به منزلة عند ربه؟
ولا شكّ أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يوجب على المؤمن أن يفكر طويلا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف إن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه، وقوارعه الشديدة، وزواجره التي تخرّ لها الجبال سجّدا.
وأعجب من هذا مجاراتهم لأهواء الملوك والأمراء، حتى إنهم ليلفّقون لهم من الحيل والفتاوى ما يسترضونهم به، ويكون فيه إشباع لشهواتهم واتباع لأهوائهم.
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) هذا كالدليل لما ذكر في قوله: « لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ » فكأنه قال: إن سبب العلم بأنه الحق، أنهم يعرفون النبي ﷺ بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شيء من أمرهم، حتى لقد قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه - وقد كان من أحبار اليهود - ثم أسلم: أنا أعلم به مني بابني، فقال له عمر رضي الله عنه: ولمه؟ قال: لأني لست أشكّ في محمد أنه نبي، أما ولدي فلعلّ والدته خانت، فقبّل عمر رضي الله عنه رأسه، فهذا اعتراف من حبر من أحبارهم هداه الله، كما اعترف بمثله تمنيم الداري من علماء النصارى (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه، من أن محمدا ﷺ نبي، وأن الكعبة قبلة، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى، ومنهم من كان يجحده عن جهل، لأنهم كفروا به تقليدا، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه.
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي إن الحق هو ما أتاك من ربك من الوحي، لا ما يقول لك اليهود والنصارى، فالقبلة التي وجهك نحوها هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين، فتمترى في الحق بعد ما تبين.
والنهى في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة، موجه فيه الخطاب إلى النبي ﷺ، والمراد من كانوا غير راسخى الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.
[سورة البقرة (2): الآيات 148 الى 152]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب، فذكر أنهم يعلمون أن محمدا ﷺ نبي حقّا، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنه متى ثبتت نبوّته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه - ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة تتوجه إليها، والواجب التسليم فيها لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازى كل عامل بما عمل، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلى، في البر أو في البحر، وأنه ينبغي لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة، بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا.
الإيضاح
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فأي شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه، فالقبلة إذا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم، فليست الجهة أسّا من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحي كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي فبادروا إلى فعل كل نوع من أنواع الخير، وليحرص كل منكم أن يكون سباقا إليه، وأن يتبع أمر المرشد لا أمر المكابر المستكبر الذي يتبع الهوى، ويلقى الحق وراءه ظهريا، فإنه إنما يستبق إلى الشرّ والضلال « وماذا بعد الحقّ إلا الضّلال ».
(أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) أي ففي أي مكان تقيمون فيه، فالله يأتي بكم ويجمعكم للحساب، فعليكم أن تستبقوا إلى فعل الخيرات، فالبلاد والجهات لا شأن لها في أمر الدين، وإنما الشأن لعمل البر، وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية.
ثم أقام الدليل على ما قبله بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات.
والأمر باستباق الخيرات هنا مجمل يفصله ذكر أنواع البر التي ذكرت في آية « لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ » وستأتى، وكأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة: إن جوهر الدين ولبه في المسارعة إلى الخيرات، فهل رأيتم محمدا ﷺ وأتباعه قصّروا في ذلك أو كانوا السباقين إلى كل مكرمة، المتصفين بكل فضيلة، فدعوا الجدل والمراء واتبعوا فضائل الدين، فالدين هو السبيل الموصل إلى السعادة المنجّى من كل سوء.
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي ومن أي مكان خرجت، وفي أي بقعة حللت، فول وجهك في صلاتك شطر المسجد الحرام، وقد أعاد الأمر مرة أخرى ليبين أن هذا التولي عام في كل زمان ومكان، ولا يختص ببلاد دون أخرى، ولا بحضر دون سفر، ولا بالصلاة التي كان يصليها وقد نزل عليه التحويل فيها، بل هو شريعة عامة في كل حين وفي كل مكان.
وأصحاب هذه القبلة يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها في بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا.
ثم وثّق ذلك ووكده بقوله:
(وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي وإن توليك إياه لهو الحق الثابت الموافق للحكمة والمصلحة.
(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي فالله ليس بغافل عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي ﷺ في كل ما يجىء به من أمر الدين، وسيجازيكم بذلك خير الجزاء.
ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة للمؤمنين بنيل المكافأة على ما يفعلون.
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي ومن حيث خرجت في أسفارك في المنازل القريبة أو البعيدة، فولّ وجهك جهة المسجد الحرام، وحيثما كنتم من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين وصليتم فولوا وجوهكم شطره.
وأعاد الأمر (فَوَلِّ وَجْهَكَ) مرة ثالثة عناية بأمر هذا التولي، وليرتب عليه الحكم والمنافع الثلاث الآتية:
1 - (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي لئلا يكون لأولئك المحاجين في أمر القبلة وهم أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون - حجة وسلطان عليكم.
ووجه انتفاء حجتهم على طعنهم في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، أن أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهي الكعبة فبقاء بيت المقدس قبلة دائمة له، حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به، فلما جاء هذا التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم.
وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم جاء لإحياء ملة أبيه، ينبغي ألا يستقبل غير بيت ربه الذي كان أبوه قد بناه، وكان يصلى هو وإسماعيل إليه، وبذلك دحضت حجة الفريقين، ومن ورائهم المنافقون.
(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي لكن الذين ظلموا منهم بالعناد، فإن لهم عليكم حجة، إذ يقول اليهود: ما تحوّل إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبّا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله، ويقول المشركون: رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، ويقول المنافقون: إنه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة، إلى نحو هذا من الآراء التي سداها ولحمتها الهوى، ولا مرجع فيها لحجة وبرهان، بل هي جدل في دين الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير، ومثل هؤلاء لا يقام لقولهم وزن.
(فَلا تَخْشَوْهُمْ) أي فلا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا يستند إلى حجة من برهان عقلى ولا هدى سماوي.
(وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا ما جاءكم به رسولي عنى، فأنا القادر على جزائكم بما وعدتكم.
وفي هذا إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه، وأن المبطل ينبغي ألا يؤبه له، فإن الحق دائما يعلو، وما آفة الحق إلا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل.
2 - (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم، وجعل الأمم الأخرى تبعا لكم فيه، وطهره من عبادة الأوثان والأصنام، ووجّه شعوب العالم جميعا إلى بلادكم، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما يجلّ حصره وفي الحق أن كل أمر من الله فامتثاله نعمة، وتكون النعمة أتمّ، والمنة أكمل، إذا كان فيه حكمة ظاهرة، وشرف للأمة، وأثر حميد نافع لها.
3 - (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي وليعدّكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق، فإن الفتن التي أثارها السفهاء على المؤمنين في أمر القبلة أظهرت قوة الحق وثباته، وضعف الباطل وخنوعه، ومحّصت المؤمنين، ومحقت الكافرين « ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوي عزيز ».
(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) أي ولأتمّ نعمتى عليكم باستيلائكم على البيت الذي جعلته قبلة لكم، وتطهيركم له من عبادة الأصنام، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم وهو محمد ﷺ، فالقبلة في بلادكم، والرسول من أمتكم، وهو يتلو عليكم آياتنا التي ترشدكم إلى الحق، وتهديكم إلى سبيل الرشاد، وهي تشمل آيات الكتاب الكريم وغيرها من الدلائل والبراهين التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته، وبديع تصرفه في السموات والأرض.
ووجه المنة في ذلك، أنه يهديهم إلى الحق مصحوبا بالدليل والبرهان، دون التقليد والتسليم بلا تبصر وفهم، وبذا يكون العقل مستقلا، والدين له مرشدا وهاديا.
(وَيُزَكِّيكُمْ) أي يطهر نفوسكم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من وأد البنات، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب.
وبهذه الزكاة التي زكّوا بها أنفسهم فتحوا الممالك الكبرى، وكانوا أئمة الأمم
التي كانت تحتقر هذا الجنس، وعرفوا لهم فضلهم بعدلهم وسياستهم للأمم سياسة حكيمة أنستهم سياسة الأمم التي قبلهم، وجعلت لذلك الدين أثرا عميقا في نفوسهم، فدانوا لحكمه خاضعين، واهتدوا بهديه راشدين.
(وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) أي ويعلمكم القرآن الكريم ويبين لكم ما انطوى عليه من الحكم الإلهية، والأسرار الربانية التي لأجلها وصف بأنه هدى ونور، فالنبي ﷺ كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه، حتى يبقى مصونا من التحريف والتصحيف، ويرشدهم إلى ما فيه من أسرار وحكم ليهتدوا بهديه، ويستضيئوا بنوره.
(وَالْحِكْمَةَ) وهي العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها، الباعث على العمل بها.
ذاك أن سنة الرسول العملية وسيرته ﷺ في بيته، ومع أصحابه في السلم والحرب، والسفر والإقامة، في القلة والكثرة، جاءت مفصلة لمجمل القرآن، مبيّنة لمبهمه، كاشفة لما في أحكامه من الأسرار والمنافع.
ولو لا هذا الإرشاد العملي لما كان البيان القولي كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء، والجهل إلى الائتلاف والاتحاد، والتآخى والعلم، وسياسة الأمم.
فالنبي ﷺ وقف أصحابه على فقه الدين، ونفذ بهم إلى سرّه، فكانوا حكماء علماء عدولا أذكياء، حتى إن أحدهم كان يحكم المملكة العظيمة ويقيم فيها العدل ويحسن السياسة، وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، لكنه فقهه وعرف أسرار أحكامه.
(وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما ليس مصدر علمه النظر والفكر، بل طريق معرفته الوحي كأخبار عالم الغيب وسير الأنبياء وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم، وأكثرها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا، وقد بلغوا في هذا النوع من العلم مبلغا فاقوا به سائر الأمم.
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) أي اذكروني بالطاعة بألسنتكم بالحمد والتسبيح، وقراءة كتابى الذي أنزلته على عبدي، وبقلوبكم بالفكر في الأدلة التي نصبتها في الكون لتكون علامة على عظمتى، وبرهانا على قدرتي ووحدانيتي، وبجوارحكم بالقيام بما أمرتكم به، واجتنابكم ما نهيتكم عنه، أجازكم بالثواب والإحسان وإفاضة الخير وفتح أبواب السعادة ودوام النصر والسلطان.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: يقول الله عز وجل: « أنا عند ظن عبدي وأنا معه، إذا ذكرنى في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرّب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا » الحديث.
وهذه أفضل تربية من الله لعباده، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل.
وبعد أن أعلمهم ما يحفظ النعم، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال:
(وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) أي واشكروا لي هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله، والثناء علي بالقلب واللسان، والاعتراف بإحساني إليكم، ولا تكفروا هذه المنن التي أو ليتكموها بصرفها في غير ما يبيحه الشرع والسنن الإلهية وهذا تحذير من الله لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، إذ كفرت بأنعم الله فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت لأجله، فسلبها ما كان قد وهبها تأديبا لها ولغيرها.
وقد امتثل المسلمون هذه الأوامر حينا من الدهر ثم تركوها بالتدريج فحلّ بهم ما ترى من النكال والوبال، كما قال تعالى: « وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ».
[سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 157]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
تفسير المفردات
الصبر: توطين النفس على احتمال المكاره، والابتلاء: الاختبار والامتحان، والمراد بالأموال: الأنعام التي كانت معظم ما يتموّله العرب، والمصيبة: كل ما يؤذي الإنسان في نفس أو مال أو أهل، قلّ أو كثر، والصلاة: من الله التعظيم وإعلاء المنزلة عنده وعند الناس، والرحمة: اللطف بما يكون لهم من حسن العزاء، والرضا بالقضاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتخويل القبلة، وأقام الحجة على المشاغبين، وبيّن فوائد التحويل للمؤمنين، ومن أهمها البشارة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من تمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوّره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى، ومنة عظمى.
بيّن في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل
كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعوّد تحمل المشاقّ، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حقّ أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك، وعلى هذا جرى النبي ﷺ وصحبه عليهم الرحمة والرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزّرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.
وفي الصلاة التوجه إلى الله ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلى للهيبة والجلال وهو واقف بين يدي ربه كما جاء في الحديث « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
وهو بهذا الشعور المالك للبّه المالئ لقلبه، يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخفّ بكل كرب، ويحتمل كل بلاء، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضى ربه الذي يلجأ إليه في الملمّات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.
وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هي مجرد القيام والركوع والسجود، والتلاوة باللسان خاصة، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله: « إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » وقوله: « إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ » ومن ثمّ نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يرومون، وما كان للمصلى أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله، والله يبرئه من ذلك ويقول: « إِلَّا الْمُصَلِّينَ ».
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه، وعلى سائر ما يشق عليكم من مصايب الحياة، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عزّ اسمه، وتصغر بمناجاته فيها كل المشاقّ.
وإنما خصّ الصبر والصلاة بالذكر، لأن الصبر أشد الأعمال الباطنة على البدن، والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليه، إذ فيها خضوع واستسلام لله، وتوجه بالقلب إليه، واستشعار لعظمة الخالق، وقد روى أنه ﷺ كان إذا حزبه أمر « اشتدّ عليه » فزع إلى الصلاة وتلا هذه الآية.
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي إن الله ناصرهم ومجيب دعوتهم، ومن كان الله ناصره فلا غالب له، أما الجازع فقلبه لاه عن ذكر الله، والقلب اللاهي ممتلىء بهموم الدنيا وأكدارها، وإن حاز الدنيا بحذافيرها.
وقد جرت سنة الله أن الأعمال العظيمة لا تنجح إلا بالثبات والدأب عليها، ومدار ذلك كله الصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه، فيسهّل له العسير من أمره، ويجعل له فرجا من ضيقه، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكّب عن سنته، فلن يبلغ قصده وغايته.
(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي ولا تتحدثوا في شأنهم، فتقولوا: إنهم أموات، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم، ولكن لا تشعرون بحياتهم، إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر، بل هي حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس وبها يرزقون وينعمون، ولا نعرف حقيقة هذه الحياة ولا الرزق الذي يكون فيها، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب، فنفوض أمره إلى الله، وقيل إنها حياة روحانية محضة لا ندرك سرها.
وقد أبان سبحانه في هذه الآية جزاء ما يلاقيه المؤمن في تأييد الدعوة إلى دينه مما يصل به أحيانا إلى القتل في التغلب على من يصدّ الناس عن الدعوة ويقاتل في الدفاع عن الباطل، فذكر ما أعد له من النعيم المقيم، والرزق المتواصل، والحياة التي لا يعرف كنهها إلا علام الغيوب، جزاء ما فعل لتأييد حجة الله البالغة، والجهر بالحق، والصدع بأمر ربه، فكان له ما كان مما لم تره عين، ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) أي والله لنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وبعض المصايب المعتادة في المعاش، كالجوع ونقص الثمار، إذ كان أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج صفر اليدين، حتى لقد بلغ من جوعهم أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرات، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك، وبنقص الأنفس بالقتل والموت من اجتواء المدينة، فقد كانت حين الهجرة بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها.
وفي الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضى سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف، بل كل ذلك يجرى بحسب السنن التي سنها الله لخلقه، فتقع المصايب متى وجدت أسبابها، وكامل الإيمان يتأدب بمقاومة الشدائد، ويتهذّب بوقوع الكوارث.
(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي وبشر الصابرين الذين يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر - بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون. والصبر لا ينافى ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين في الإنسان.
وقد جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ بكى عند ما حضر ولده إبراهيم الموت، فقيل له: أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال: إنها الرحمة، ثم قال: إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
والجزع المذموم هو الذي يدعو صاحبه إلى فعل ما يمجّه العقل وينهى عنه الشرع، مما نرى مثله عند الجماهير إذا حلّت بهم المصايب، ونزلت بهم الكوارث.
روى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمّ آجرني في مصيبتى، وأخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها ».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: « من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عاقبته، وجعل له خلفا صالحا يرضاه ».
وفي قوله: « إِنَّا لِلَّهِ » إقرار بالعبودية والملك، وفي قوله: « وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » إقرار بالفناء والبعث من القبور، واليقين بأن مرجع الأمر كله لله تعالى.
(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) أي أولئك الصابرون لهم من ربهم مغفرة ومدح على ما فعلوا، ورحمة يجدون أثرها في برد القلوب عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين، فإن الكافر الذي حرم من هذه الرحمة، إذا نزلت به المصيبة تضيق به الأرض بما رحبت، حتى لقد يقضى على نفسه بيده إذا لم يجد وسيلة للخلاص مما حلّ به (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) إلى الحق والصواب، ومن ثم استسلموا للقضاء، فلم يستحوذ الجزع على نفوسهم، ففازوا بخير الدنيا والراحة فيها، وسعادة الآخرة بتزكية النفس، وتحليها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال.
[سورة البقرة (2): آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
تفسير المفردات
الصفا والمروة: جبلان بمكة بينهما من المسافة مقدار 760 ذراعا، والصفا: تجاه البيت الحرام، والآن علتهما المباني وصار ما بينهما سوقا، وواحدة الشعائر شعيرة وهي العلامة، وتسمى المشاعر أيضا وواحدها مشعر، وهي تطلق حينا على معالم الحج ومواضع النسك، وحينا آخر على العبادة والنسك نفسه. والحج لغة القصد، وشرعا قصد البيت الحرام لأداء المناسك المعروفة. والعمرة: لغة الزيارة، وشرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام مفصلة في كتب العبادات، والاعتمار: أداء مناسك العمرة، والجناح:
(بالضم) الميل، ومنه « وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها » والمراد هنا الميل إلى الإثم، ويّطوف أصله يتطوّف: أي يكرر الطواف، وهذا التطوّف هو الذي عرف في كتب الدين بالسعي بين الصفا والمروة، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر والتطوع: لغة الإتيان بالفعل طوعا لا كرها، ثم أطلق على التبرع بالخير لأنه طوع لا كره، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب، شاكر: أي مجاز على الإحسان إحسانا.
المعنى الجملي
علمت مما سلف أن في تحويل القبلة إلى البيت الحرام توجيها لقلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه لتطهيره من الشرك والآثام، وأن في قوله: ولأتمّ نعمتى عليكم بشارة بهذا الاستيلاء، وأنه أرشد المؤمنين إلى ما يستعينون به على الوصول إلى ذلك وإلى سائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة، وأنه أشعرهم بما سيلاقون في سبيل ذلك من المصايب والكوارث، وهنا ذكر ما يؤكد تلك البشارة ويتمم لهم النعمة باستيلائهم على مكة وإقامة مناسك الحج فيها، فساق الكلام في الصفا والمروة على أنه شعيرة من شعائر الحج وقربة يتقرّب بها إلى الله، وأنه من المناسك التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي ﷺ ملته، وجعلت الصلاة إلى قبلته.
الإيضاح
(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أي إن هذين الموضعين من علامات دين الله، وكذلك الأعمال والمناسك التي تعمل بينهما وهي السعي بينهما هي أيضا من الشعائر، لأن القيام بها علامة الخضوع لله والإيمان به وعبادته إذعانا وتسليما.
والأحكام الشرعية قسمان:
(1) نوع يسمى بالشعائر وهي ما تعبّدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص، والتوجه فيها إلى مكان معين سماه بيته، مع أنه من خلقه كسائر العالم، وكمناسك الحج وأعماله، فمثل هذا شرعه الله لنا لمصلحة لا نفهم سرها تمام الفهم، ولا نزيد فيه ولا ننقص، ولا يؤخذ فيه برأى أحد ولا باجتهاده، إذ لو أبيح لهم ذلك لزادوا فيه، فلا يفرق بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع، ويصبح المسلمون كالنصارى ويصدق عليهم قوله: « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ».
(2) ما لا يسمى بالشعائر كأحكام المعاملات من بيع وإجارة وهبة ونحوها، وهذه قد شرعت لمصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل على الإنسان فهمها.
(فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر فلا يتخوفنّ من الطواف بهما، من أجل أن المشركين كانوا يطوفون بهما، فإن هؤلاء يطوفون بهما كفرا، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولي وطاعة لأمري.
والسرّ في التعبير بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح، مع أن السعي بينهما إما فرض كما هو رأى مالك والشافعي أو واجب كما هو رأى أبي حنيفة، الإشارة إلى بيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر، وأن السعي بينهما من مناسك إبراهيم، وذلك لا ينافي الطلب الجازم.
(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) أي ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجب - فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء.
وفي التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر - تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية، إذ أن منفعة عملهم عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه. أفبعد هذا ينبغي للإنسان أن يرى نعم الله تترى عليه، ولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما خلقت لأجله؟ وهل يليق به ألا يشكر نعمة من أسدى إليه المعروف وغمره بالنعمة؟
وشكر المنعم على ما يسديه من النعم ركن عظيم من أركان العمران، فهو يشحذ عزائم العاملين، ويوجد التنافس بين ذوي الهمم المخلصين لوطنهم وأممهم، بل للعالم أجمع.
كما أن ترك شكر الناس وتقدير أعمالهم جناية على الناس وعلى أنفسنا، فإن صانع المعروف إن لم يلق من الناس إلا الكفران، ترك عمل الخير يأسا منه في الفائدة أو حذرا من سوء النية، إذا الحاسدون من الأشرار يسعون في إيذاء الأخيار.
ويروون في ذلك حديثا يدل على أنه ﷺ كان يسرّ بمديحه إذا ذكرت أعماله الشريفة وسعيه في حب الخير، مع أنه من أخلص المخلصين لله لا يبغى بعمله غير مرضاته، وه
و« عجبت لمحمد كيف يسمن من أذنيه ».
[سورة البقرة (2): الآيات 159 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
تفسير المفردات
الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه، واليهود فعلوا في التوراة كليهما، فقد أخفوا حكم رجم الزاني، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد ﷺ، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام، وكذلك فعلوا بالدلائل الدالة على نبوّة عيسى عليه السلام وزعموا أنها لغيره، وأنهم لا يزالون إلى الآن ينتظرونه، والبينات: هي الأدلة الواضحة الدالة على أمر محمد ﷺ وعلى الرجم، وتحويل القبلة، والهدى هو ضروب الإرشاد التي فيها، والكتاب يراد به الكتب المنزلة جميعا، واللعن: الإبعاد والطرد، ولعن الله الإبعاد من رحمته التي تشمل المؤمنين جميعا في الدنيا والآخرة، واللاعنون: هم الملائكة والناس أجمعون، ولعنهم لهم دعاؤهم عليهم بالإبعاد من رحمة الله، تابوا: أي رجعوا عن الكتمان، وأصلحوا: أي أصلحوا أعمالهم وأرشدوا قومهم إلى تلك الآيات البينات عن النبي ﷺ ودينه والهدي الذي جاء به، وبينوا: أي جاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس حتى يمحوا عن أنفسهم سمة الكفر ويكونوا قدوة لغيرهم، خالدين: أي ما كثين في تلك اللعنة على طريق الدوام، ومتى خلد فيها فقد خلد في عذاب النار الدائم، ينظرون: أي يمهلون.
المعنى الجملي
لا يزال الكلام في عناد الكفار للنبي ﷺ ومعاداتهم إياه، ولا سيما اليهود، فقد ذكر فيما سلف جحودهم وعنادهم له في مسألة القبلة، وجاء في سياق ذلك أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون.
وهنا ذكر أن أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم:
(1) إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارة بالنبي ﷺ وصفاته مع وجودها في سفر التثنية، فقد جاء فيه: وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بنى إخوتهم، وأجعل كلامى في فمه، ويكلمهم بكل شيء آمره به. ولا شكّ أن بنى إخوتهم هم العرب أبناء إسماعيل، وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره في سورة المائدة.
(2) وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، أو بحمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم.
وقد فضحهم الله بهذه الآيات، وسجل عليهم اللعنات الدائمات.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام وأمر محمد ﷺ وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بينا واضحا، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين.
وحكم هذه الآية شامل لكل من كتم علما فرض الله بيانه للناس، كما روي في الخبر أنه عليه السلام قال: « من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ».
وروي أن أبا هريرة قال: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم، وتلا « إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا » الآية.
ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، والدين يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشى الهدى، ثم هو لا ينتصر بيد
ولا لسان، يكون ممن يستحق وعيد الآية، وقد لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله: « كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ » فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهى عن المنكر، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال: « وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ».
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إلا من أناب عن كتمانه، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد ﷺ وأقر بنبوته، وصدّق ما جاء به من عند الله، وأصلح حال نفسه بالتقرّب إلى الله بصالح الأعمال، وبيّن ما علم من وحي الله إلى أنبيائه، وما عهد إليهم في كتبه، فلم يكتمه ولم يخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويفيض عليهم مغفرته تفضلا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.
وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، في التوبة عما فرط من الذنوب، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام كما قال: « يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ».
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بعد أن ذكر في الآية السالفة أن الكافرين الذين كتموا الحق يستحقون اللعن، ثم أخرج من بينهم جماعة التائبين، ذكر في هذه الآية وما بعدها أن اللعن الأبدي الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان، لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر، وحينئذ تسجل عليه اللعنة من الله والملائكة والناس جميعا، ومن بينهم أهل مذهبه، فإنهم إذا
شرحت لهم أحوال كفره وإصراره على غيه، وكيف يعاند الداعي إلى الحق، رأوه محلا للعن ومستحقا أشدّ العقوبة.
والسر في التعبير بلعن الملائكة والناس، مع أن لعن الله وحده يكفى في خزيه، الدلالة على أن جميع من يعلم أحواله من العوالم العلوية والسفلية يراه أهلا للعن الله ومقته، فلا يشفع له شافع ولا يرحمه راحم، فهو قد استحق اللعن لدى جميع من يعقل ويعلم، ومن استحق النكال من الرب الرءوف الرّحيم، فماذا يرجو من سواه من عباده؟
(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي ماكثين في هذه اللعنة على طريق الدوام، ومتى خلدوا فيها فقد خلدوا في عذاب النار الدائم لا يخلصون منه، ولا يخفف عنهم شيء منه، ولا هم ينظرون ويمهلون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال، لأن الكفر الذي استحقوا به هذا العذاب هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح، ومتى مات انقطع عمله وتعذر عليه أن يجلّى تلك الظلمة، ويرجع إلى الحق، ويزكى نفسه، ولا يمهل إذ هو الجاني على نفسه، فأي شيء يرجو من غيره؟
[سورة البقرة (2): الآيات 163 الى 164]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
المعنى الجملي
حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء ولا يقبل منهم فدية ولا تنفعهم شفاعة.
وهنا ذكر أن شارع الدين واحد لا معبود سواه، ولا ينبغي أن تكتم هدايته للبشر وهو مفيض الرحمة والإحسان، ليتذكر أولئك الذين يكتمون البينات، المؤثرون آراء رؤسائهم وأحبارهم، ثقة بهم، واعتمادا على شفاعتهم، إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا وإنهم مخطئون في كتمان الحق ومعاداة أهله.
الإيضاح
(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي وإلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدا.
والشرك به ضربان:
(1) شرك في الألوهية والعبادة، بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض، فيتوجه إليه في الدعاء عند ما يتوجه إلى الله، ويدعوه معه، أو يدعوه من دون الله، ليكشف عنه ضرا أو يجلب له نفعا.
(2) شرك به في الربوبية، بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلّغه عنه الرسل، استنادا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين، هم أعلم بمراد الله، وهذا هو المراد بقوله تعالى: « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ».
فواجب علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، كما فعل من قبلهم من أهل الكتب المنزلة، حين زادوا على الوحي أحكاما كثيرة من تلقاء أنفسهم، وخالفوا ما نزل بتأويلات وتعسفات بعيدة عن روح الدين وسرّه.
والله هو الرّحمن الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فحسب المرء أن يرجوها ولا يعتمد على رحمة سواه، ممن يظن أنهم مقربون إليه، إذ كل ما يعتمد عليه من دونه فليس أهلا للاعتماد عليه، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك.
والإله الذي بيده أزمّة المنافع، والقادر على دفع المضارّ، واحد لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلماته، ولا أوسع من رحمته.
وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق، بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.
ثم ذكر - عزت قدرته - بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال: « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الآية.
وهذه الظواهر والآيات ضروب منوّعة:
1 - السموات التي تتألف أجرامها من طوائف، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها، فتكون سببا في حياة الحيوان والنبات، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها، استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية، ولو لا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعا.
وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه واحد
2 - الأرض، ففي جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان، وفي منافعهما المختلفة باختلاف أنواعها، ما يدل على إبداع.
الحكيم العليم « وفي الأرض آيات للموقنين ».
3 - (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما بمجىء أحدهما وذهاب الآخر واختلافهما في الطول والقصر باختلاف الأقطار والبلدان ومواقع الطول والعرض واختلاف الفصول، وفي ذلك من المنافع والمصالح للناس آيات بينات دالة على وحدة مبدع هذا النظام ورحمته بعباده، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم في آيات أخرى فقال: « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا » وقال أيضا: « وهو الّذى جعل اللّيل والنّهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورا ».
4 - (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) الفلك اسم للسفينة الواحدة وللكثير.
ودلالتها على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء وقانون الثقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هي العمدة في سير السفن الكبرى في هذا العصر.
وكل ذلك يجرى على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام، هي قوة الإله الواحد العليم، كما قال: « وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ».
ودلالتها على الرحمة قد بينه سبحانه بقوله « بِما يَنْفَعُ النَّاسَ » أي ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم، فهي تحمل أصناف المتاجر من صقع إلى صقع، ومن قطر إلى آخر، فتجعل العالم كله مشتركا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها.
وجاءت هذه المنة عقب اختلاف الليل والنهار لاحتياج المسافرين إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، ومن احتياج ربابنة السفن إلى معرفة علم النجوم (الجغرافية الفلكية) ومن ثم قال تعالى: « وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ».
5 - (وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) وقد وصف الله تعالى في آية آخري كيف ينزل المطر قال: « اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ » وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم: إن المطر يتوالد من تصاعد بخار الماء بوساطة حرارة الهواء التي تنشأ في مياه البحار من احتكاك بعض ذراتها ببعض، ومن احتكاك الهواء بسطح البحر، وحين تصعد في الجو تتكاثف وتتكون سحبا يسقط الماء من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله.
(فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات، وبه أمكن معيشة الحيوان على سطحها، وهذا هو الإحياء الأول الذي أشير إليه بقوله في آية أخرى « أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ » أي ان السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلا بعض أجزائها بيعض ففتقناهما فانفصل جرم الأرض من جرم السماء وصارت الأرض قطعة مستقلة ملتهبة وكانت مادة الماء (الأوكسجين والإيدروجين) تبخر من الأرض فتلاقى في الجو طبقة باردة تحيلها سحابا فتنزل على الأرض فتبرد حرارتها، وما زالت هذه حالها حتى صارت كلها ماء، وتكونت بعد ذلك الأرض اليابسة وحرج النبات وعاش الحيوان.
وأما الإحياء المستمر المشاهد في جميع بقاع الأرض فهو المشار إليه بقوله: « وتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » فكل أرض لا ينزل عليها المطر ولا تجرى فيها المياه من الأرضين الممطورة تكون خالية من النبات والحيوان.
فنزول الماء على هذا النحو المشاهد، وكونه سببا في حياة الحيوان والنبات من أعظم الأدلة على وحدانية المبدع، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع يدل على الرحمة الإلهية الشاملة.
6 - (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي توجيه الرياح وتصريفها بحسب الإرادة ووفق النظام على السنن الحكيمة، فمنها الملقحة للنبات كما قال تعالى: « وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ » ومنها العقيم، وهي في الأغلب تهب من جهة من الجهات الأربع، وقد تكون متناوحة: أي تهب من كل ناحية، وتارة تأتى نكباء بين بين، يدل على وحدة مصدرها ورحمة مدبرها.
7 - (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي الغيم الذي ذلل وسحب في الجواء لإنزال الأمطار في مختلف البلاد، وتكوّن بنظام، واعترض بين السماء والأرض بحسب السنة الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها وعلوها وهبوطها، مما يدهش لرؤيته الناظر قبل أن يألفه ويأنس به.
(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي في كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر في الأسباب، ليدرك الحكم والأسرار، ويميز بين النافع والضار، ويستدل بما فيها من الإتقان والإحكام، على قدرة مبدعها وحكمته، وعظيم رحمته، وأنه المستحق للعبادة دون غيره من خلقه.
وفي الحديث « ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها » المج: قذف الريق ونحوه من الفم، والمراد عدم الاعتبار والاعتداد بها، إذ من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه.
وقال بعض العلماء: إن لله كتابين كتابا مخلوقا هو الكون، وكتابا منزلا هو القرآن، ويرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك، بما أوتيناه من العقل، فمن اعتبر بهما فاز، ومن أعرض عنهما خسر الدنيا والآخرة.
[سورة البقرة (2): الآيات 165 الى 167]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
تفسير المفردات
الأنداد واحدها ندّ وهو المماثل، والتبرؤ المبالغة في البراءة وهي التنصل والتباعد ممن يكره قربه وجواره، والأسباب واحدها سبب وهو الخبل الذي يصعد به النخل وأمثاله، ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد من المقاصد المعنوية، والكرّة العودة والرجوع إلى الدنيا، والحسرة شدة الندم والكمد بحيث يتألم القلب ويتحسر مما يؤلمه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما تقدم ظواهر الكون الدالة على توحيد الخالق ورحمته، ذكر هنا حال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامها برهانا على وحدانيته، ومن ثم جعلوا لله أندادا يلتمسون منهم الخير، ويدفعون بهم النقمة، ويأخذون عنهم الدين والشّرعة
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) أي ومن الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت أوصافه الجليلة أندادا وأمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، يحبونهم كحب الله ويسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه، إذ هم لا يرجون من الله شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربا من التوسط الغيبى فيه، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحّد.
وللمشرك أنداد متعددون، وأرباب متفرقون، فإذا حزبه أمر، أو نزل به ضرّ لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر؟ أو استشفع بزيد أو عمرو، لا يدرى أيهم يسمع ويسمع، ويشفع فيشفّع، فهو دائما مبلبل البال، لا يستقر من القلق على حال.
وقد عظمت فتنة متخذي الأنداد بهم، حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله، إذ أنهم لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم مثله، فهم يلتجئون إليهم عند الحاجة كما يلتجئون إلى الخالق سبحانه.
وليس من اتخاذ الأنداد طلب المسببات من أسبابها، وقد تخفى علينا أحيانا ويعمى علينا طريق معرفتها، فعلينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ إلى الله، لعله برحمته يلهمنا إلى طريقها، مع بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب، حتى لا يبقى في الإمكان شيء بعد ذلك.
فالدين يحظر علينا أن ننفر إلى الحرب والدفاع عن الأوطان ونحن عزل أو حاملو سلاح دون سلاح العدو المعتدى اتكالا على الله واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرنا بإعداد العدة، ثم الاتكال بعد ذلك في الهجوم والإقدام على عناية الله، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله، كما أن من التجأ إلى ما ليس بسبب كإنسان مكرّم أو ملك مقرّب، أو ما دون ذلك كصنم أو تمثال فهو مشرك بالله ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب، أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى لأحد أقار به أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية طلبا للتعجيل بالشفاء.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من كل ما سواه إذ حبهم له خاص به لا يشركون فيه غيره، إذ هم يعتقدون أن ملكوت السموات والأرض بيده، وهو الذي له القدرة والسلطان على جميع الأكوان، فما ينالهم من خير كسبى فهو بهدايته وتوفيقه.
وما يجيئهم بغير حساب فهو بعنايته وفضله، وما تعذر عليهم من الأمور يفوضونه إليه، ولا يعوّلون إلا عليه.
ثم ذكر بعد هذا وعيد متخذي الأنداد قال:
(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) أي ولو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك، وظلم الناس وغشهم، بحملهم على أن يحذو حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم، حين يرون العذاب في الآخرة، فتقطع بهم الأسباب، ولا تغنى عنهم الأنداد والأرباب، أن القوة لله وحده، بها يتصرف في كل موجود، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هي عين القوة التي تدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين حين لجئوا إلى سواها، وأشركوا معها غيرها، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم.
وأمثال هذا العذاب على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثير في القرآن والسنة الصحيحة، وعليه جرى السلف الصالح، وهو حجة على من يعمل بأقوال أناس من الموتى ممن لا يعرف له تاريخ يوثق به، ولا رواية يصح الاعتماد عليها، مع تركهم لكلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف.
ثم بين حال التابعين والمتبوعين يوم القيامة حتى ينكشف الغطاء، ويرى الناس بأعينهم العذاب، فقال:
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) أي حين يتبرأ الرؤساء المضلون الذين اتّبعوا من أتباعهم الذين أغووهم في الدنيا ويتنصلون من إضلالهم، لأنه قد ضاعف عذابهم وحملهم أوزارا فوق أوزارهم، وتتقطع الروابط التي كانت بينهم في الدنيا ولكن ذلك لا يجديهم نفعا فهو إنما حصل لرؤيتهم العذاب ماثلا أمام أعينهم، بما اقترفوا من السيئات وجنوه من الآثام، فأنّى يفيدهم التبرؤ مما صنعوا؟.
(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) أي وقال التابعون:
ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبع سبيل الحق، ونأخذ بالتوحيد الخالص، ونهتدى بكتاب
الله وسنة رسوله ثم نعود إلى موضع الحساب، فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.
(كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) أي إنه كما أراهم العذاب، سيريهم أعمالهم حسرات عليهم، والمراد من إراءتهم ذلك، أنه يظهر لهم أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الآثار في نفوسهم، حتى جعلتها مستعبدة لغير الله، فيورثهم ذلك حسرة وشقاء، فالأعمال هي التي كونت هذه الحسرات في النفوس، ولكن ذلك لا يظهر إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها النفوس أو تشقي.
(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) إلى الدنيا وهم على صحة العقيدة وصلاح الأعمال، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم، ولا إلى الجنة، لأن سبب دخولهم هو ما طبعوا عليه من خرافات الشرك وحب الأنداد.
[سورة البقرة (2): الآيات 168 الى 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170)
تفسير المفردات
الحلال هو ما أباحه الشارع، والحرام ضده، والخطوات واحدها خطوة (بالضم) وهي ما بين قدمى الماشي، يقال اتبع خطواته، ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته، ومبين أي ظاهر العداوة لذوي البصائر، والسوء ما يسوءك وقوعه أو عاقبته، والفحشاء كل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام وهي أقبح وأشد
من السوء، ويأمركم أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع، وأنتم في انقيادكم له، كأنكم مأمورون، ألفينا أي وجدنا، وعقل الشيء عرفه بدليل، وفهمه بأسبابه ونتائجه.
المعنى الجملي
بعد أن بين في الآية قبلها حال متخذي الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب، وأن الذين اتّبعوا سيتبرءون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب، وتقطع الأسباب بينهم، وهي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان:
(1) قسم يتّخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله.
(2) قسم يعتمد عليه في دفع المضارّ وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب.
بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا) أي كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام أكلا حلالا طيبا.
قال ابن عباس: نزلت في قوم من ثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرّموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام.
وقد بين ما حرم من المآكل في الآية الكريمة « قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ » فما عدا هذا فهو مباح بشرط أن يكون طيبا وهو ما لا يتعلق به حق الغير، وبيانه أن المحرم قسمان:
(1) محرم لذاته لا يخل إلا للمضطر.
(2) محرم لعارض، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرءوسين بلا مقابل، أو يأخذه المرءوسون بجاه الرؤساء، وكأخذ الربا والرّشوة والغصب والسرقة والغش، فكل هذا خبيث غير طيب.
(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ولا تتبعوا سيرته في الإغواء ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء، فهو عدو لكم بين العداوة، إذ هو منشأ الخواطر الرديئة، والمحرّض على ارتكاب الجرائم والآثام قال تعالى: « شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا » فهذا نهى عن اتباع وحي الباطل والشر، لأنه من إغواء الشيطان، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة بائس فقير، فهمّت نفسه بالعمل، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير، فليعلم أن هذا من وحي الشيطان. ولا ينخدع لما يسوّله له من إرجاء هذا العطاء ووضعه في موضع أنفع، أو بذله لفقير أحوج.
ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال:
(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) أي إنما يوسوس الشيطان ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بأن تفعلوا ما يسوءكم في دنياكم وآخرتكم وأن تجترحوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها، اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية، والتصرف في الأكوان بدون اتخاذ الأسباب - قد ضلوا ضلالا بعيدا واتبعوا أمر الشيطان، ومثلهم من اتخذ رأى الرؤساء حجة في الدين من غير أن يكون بيانا أو تبليغا لما جاء عن الله، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله وأهملوا نعمة العقل، واتخذوا من دون الله الأنداد « ومن يضلل الله فلا هادي له ».
(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أيويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع.
ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه، لا يفعل شيئا إلا بوساطتهم، فحولوا قلوب عباده عنه وعن سننه في خلقه، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ويسمون مثل هذا توسلا: أي تقربا إلى الله، وحاشى أن يتقبّل التقرب إليه بالشرك به، ودعاء غيره معه وهو يقول « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ».
ثم سجل عليهم كمال ضلالهم وعدّد جناياتهم فقال:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي ولا تتبعوا من دونه أولياء - جنحوا إلى التقليد، وقالوا نحن لا نعرف إلا ما وجدنا عليه السادة والكبراء والشيوخ من آبائنا، استئناسا بما ألفوه مما ألفه آباؤهم من قبل.
ثم رد عليهم سبحانه مقالتهم الحمقاء وأظهر بطلان آرائهم فقال:
(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) أي أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كل حال وفي كل شيء، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين وعباداته: أي حتى لو تجردوا من دليل عقلى أو نقلى في عقائدهم وعباداتهم.
وفي الآية إرشاد إلى منع التقليد لمن قدر على الاجتهاد.
فإذا اتبع المرء غيره في الدين ممن علم أنه على حق كالأنبياء والمجتهدين - فهذا ليس بتقليد، بل اتباع لما أنزل الله، كما قال تعالى « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » فأقرب الناس إلى معرفة الحق هم الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح، فإنهم إذا أخطئوا يوما أصابوا في آخر، وأبعدهم عن معرفة الحق المقلدون، لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم، وهم لا يوصفون بإصابة الصواب، لأن المصيب من يعرف أن هذا هو الحق، والمقلد إنما يعرف أن فلانا قال هذا هو الحق، فهو عارف بالقول فقط.
[سورة البقرة (2): آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
تفسير المفردات
المثل الصفة والحال، ونعق الراعي والمؤذن صاح، وما لا يسمع أي لا يدرك بالاستماع إلا دعاء ونداء، والفارق بينهما أن الدعاء للقريب والنداء للبعيد، والفارق بين الكافر والضال أن الأول يرى الحق ويعرض عنه، ويصرف نفسه عن دلائله، فهو كالحيوان يرضى بأن يقوده غيره ويصرّفه كيف شاء، والثاني يخطئ الطريق مع طلبه أو جهله بمعرفته بنفسه أو بدلالة غيره.
المعنى الجملي
بعد أن نعى سبحانه وتعالى على المقلدين من الكفار سوء حالهم من اتباعهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه، أو حجة يركنون إليها.
أعقبه بمثل يبين خطل آرائهم، وسخف عقولهم، فذكر أنهم كالغنم التي تقبل بدعاء راعيها، وتنزجر بزجره، مسخّرة لإرادته، ولا تفهم لما ذا دعا، ولما ذا زجر، وهكذا شأن من يسلّمون معتقدا بلا دليل ويقبلون تكليفا بلا فهم ولا تعليل، فهم كالصم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم، وكالبكم الذين لا يستجيبون لما دعوا إليه، وكالعمى في الإعراض عن الأدلة حتى كأنهم لم يشاهدوها، فهم لا يصلون إلى معرفة الحق، لأن اكتسابه إنما يكون بالنظر والاستدلال، وإني لمن فقد هذه الحواس أن يصل إلى الحق ويقبله؟ ومن ثم قالوا: من فقد حسا فقد فقد علما.
الإيضاح
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) أي إن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال، وعدم تأملهم فيما يلقى إليهم من الأدلة، مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي، ويسوقها إلى المرعى، ويدعوها إلى الماء، ويزجرها عن الحمى، فتستجيب دعوته وتنزجر بزجره، وهي لا تعقل مما يقول شيئا، ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتا تقبل لسماع بعضها وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود، ولا تعقل سببا للإقبال والإدبار.
وفي الآية إرشاد إلى أن التقليد بلا عقل ولا فهم من شأن الكافر، وأما المؤمن فمن شأنه أن يعقل دينه. ويعرفه بنفسه، ويقتنع بصحته، إذ ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل المقصد منه أن يرتقى عقله وتتزكى نفسه بالعلم والعرفان، فهو يعمل الخير لأنه نافع يرضى الله، ويترك الشر لأنه يضره في دينه ودنياه.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي إنهم يتصامّون عن سماع الحق، فكأنهم صم ولا يستجيبون لما يدعون إليه فكأنهم خرس، ولا ينظرون في آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسهم فكأنهم عمى، لا يعقلون لعملهم مبدأ ولا غاية، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان، ومن ثم اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون.
[سورة البقرة (2): الآيات 172 الى 173]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
تفسير المفردات
الإهلال رفع الصوت، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها، ويقولون: باسم اللات. أو باسم العزّى، ثم قيل لكل ذابح (مهلّ) وإن لم يجهر بالتسمية، والباغي الطالب للشىء الراغب فيه كما ورد في الحديث (يا باغي الخير هلّم)
والعادي المتجاوز قدر الضرورة كما جاء في التنزيل « وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ » أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم، والإثم الذنب والمعصية.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه، ثم خاطب الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبا، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنه لا استقلال لهم برأى ولا يهتدون بعقل.
هنا وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأحرى بالاهتداء، فطلب إليهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) كان المشركون وأهل الكتاب قبل مجىء الإسلام فرقا وأصنافا، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة عند العرب، وبعض الحيوان عند غيرهم، وكان الشائع لدى النصارى أن أقرب القربات تعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات، واحتقار الجسد وما يلزمه، وأن الله لا يرضى إلا بإحياء الروح، وافتنّوا في الحرمان من الطيبات، فمنها ما خصصوه بالقديسين أو الرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عام كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصوم كصوم العذراء والقديسين، والحرمان من السمك واللبن والبيض في بعض آخر منها.
وكل هذه الأحكام وضعها الرؤساء، ولا وجود لها في التوراة، ولا نقلت عن المسيح عليه السلام، ولكن نقلوها عن الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات، اعتقادا منهم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بتعذيب النفس وترك حظوظ الجسد.
وقد جعل الله هذه الأمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقه، فأحل لنا الطيبات وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا جثمانيين خلّصا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة بل جعلنا أناسي كملة.
وقصارى ذلك - إن الله أباح لنا أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تدينا ولا تعذيبا للنفس ولا نحرم بعضا ونحل بعضا تقليدا للرؤساء ووساوس الشياطين.
وأمرنا بشكره على خلقها لنا وتيسر أسباب الحصول عليها، ونهانا أن نجعل له ندّا نطلب منه الرزق، أو نرجع إليه في التحليل والتحريم، وإلا كنا مشركين به، كافرين لنعمه، كما فعل من اتخذ وسطاء بينه وبين ربه، يطلب منهم الرزق، ويشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه الله.
وبعد أن ذكر إباحة الطيبات، بين ما حرم من الأطعمة فقال:
(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي إنه تعالى حرم الميتة لما يتوقع من ضررها، لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضرره، ولأن الطباع تستقذرها.
(والدم) أي الدم المسفوح، لأنه قذر وضارّ كالميتة.
(وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) لأنه ضار ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة.
(وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) أي وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه لصم وغيره مما يعبد من دون الله، لأنه من أعمال الوثنية، وفيه إشراك واعتماد على غير الله، وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى إذ يقولون عند الذبح: باسم الله الله أكبر، يا سيد يا بدوي، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر ويقضى حاجة صاحبه.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي فمن ألجئ إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا، لم يقصد إجازة عمل الوثنية.
ولا استحسانه.
وإنما ذكر قوله: غير باغ ولا عاد، لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر، وجعل الضرورة تقدر بقدرها.
[سورة البقرة (2): الآيات 174 الى 176]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
تفسير المفردات
الضلالة: هي العماية التي لا يهتدى فيها الإنسان لمقصده، والهدى: الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه، والشقاق: هو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف، وحقيقته أن يكون كل من الخصمين في شق أي جانب غير ما فيه الآخر.
المعنى الجملي
بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله، وشرعوا لهم ما لم يشرعه، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي ﷺ وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال: « تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ».
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي إن الذين يخفون ما أنزل الله من وحيه على رسله، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير موضعه برأيهم واجتهادهم، في مقابل الثمن القليل من حطام الدنيا كالرشوة على ذلك أو الجعل (الأجر) على الفتاوى الباطلة أو نحو ذلك مما يستفيده الرؤساء من المرءوسين، وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل فذاك إلى أمد الحياة القصير كما قال: « فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ».
(أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار، وانتهاء مطامعهم بعذابها، وقد يكون المعنى: إنه لا تملأ بطونهم إلا النار أي لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها على نحو ما جاء في الحديث « ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب »
وهذا الحكم عامّ يصدق على المسلمين كما يصدق على غيرهم، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق وخذلان أهل الباطل.
(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي إن الله يعرض عنهم ويغضب عليهم، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا أعرضوا عن المغضوب عليهم ولم يكلموهم، كما أنهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه، ويقابلونه بالبشاشة والبشر.
(وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرّون على كفرهم.
(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ولهم عذاب شديد الألم موجع.
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي إن أولئك الذين جزاؤهم ما تقدم، هم الذين تركوا الهدى الواضح البين الذي لا خلاف فيه، وهو ما جاء به الرسل
عن ربهم، واتبعوا آراء الناس في الدين وهي لا ضابط لها، وهي مشتبه الأعلام يضلّ بها الفهم، ومن ثم كان أهلها في خلاف وشقاق.
(وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أي إن متبع الضلال استحق العذاب بدل المغفرة، وهو باختياره إياه بعد قيام الحجة قد اشترى العذاب بالمغفرة، وكان هو الجاني على نفسه حين اغترّ بالعاجل واستهان بالآجل.
(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي إنّ انهماكهم في العمل الذي يوصلهم إلى النار المبين في الآيتين السالفتين هو مثار العجب، فسيرهم في الطريق التي يجرهم إليها، وعدم مبالاتهم بمآل أعمالهم، دليل على أنهم يطيقون الصبر عليها، وتلك حال تستحق العجب أشد العجب، وأعجب من ذلك أن يرضاها عاقل لنفسه ومثل هذا الأسلوب ما يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب ملك من الملوك: ما أصبرك على القيد والسجن! أي إنه لا يتعرض لمثل هذا إلا من هو شديد الصبر على العذاب.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي ذلك العذاب الذي تقرّر لهم بسبب أن الكتاب جاء بالحق، والحق لا يغالب، فمن غالبه غلب.
(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي وإن الذين اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله لجمع الكلمة على اتباع الحق وإزالة الاختلاف، لفى شقاق بعيد عن سبيل الحق، فلا يهتدون إليه، إذ كل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من رأى ومذهب، وينأى بجانبه عن الآخر، فيكون الشقاق بينهما بعيدا.
وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق، فالمختلفون لا يسلكون سبيلا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن « وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » فلا يجوز أهل الكتاب الإلهي أن يكونوا شيعا ومذاهب شتى كما قال: « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ».
فإذا وجد خلاف في الفهم (وهو ضرورى في طباع البشر) وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال: « فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ » وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم، لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجا، على أن ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضى الشقاق والنزاع، بل يسبهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلف فيه، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه، إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها.
[سورة البقرة (2): آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
تفسير المفردات
البر: لغة التوسع في الخير، وأصله من البر المقابل للبحر، وفي لسان الشرع كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق، قبل المشرق والمغرب أي ناحيتيهما، وآتى المال أي أعطاه، والمسكين هو الدائم السكون لأن الحاجة أسكنته، والعجز قد أقعده عن طلب ما يكفيه، وابن السبيل هو المسافر البعيد عن ماله ولا يمكنه الاتصال بأهل أو بذي قرابة، والسائل من ألجأته الحاجة إلى السؤال وتكفّف الناس، والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل ألا يتعداها، وفي الرقاب أي وفي تحرير الرقاب وعتقها، وأقام الصلاة أي أداها على أقوم وجه وأحسنه، والعهد ما يلتزم به إنسان لآخر والبأساء من البؤس وهو الفقر والشدة، والضراء كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهل ومال، صدقوا أي في دعوى الإيمان، والتقوى هي الوقاية من سخط الله وغضبه بالبعد عن الآثام والذنوب
المعنى الجملي
لما أمر الله تعالى بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، طال خوض أهل الكتاب في ذلك، واحتدم الجدل بينهم وبين المسلمين حتى بلغ أشده، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى، ولا يكون صاحبها متبعا دين الأنبياء، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يرضى عنها الله إلا إدا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعا.
من قبل هذا بين الله في تلكم الآيات أن تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين، لأنه إنما شرع لتذكير المصلى بأنه يناجى ربه، ويدعوه وحده، ويعرض عن كل ما سواه، وليكون شعارا لاجتماع الأمة على مقصد واحد، فيكون في ذلك تعويدهم الاتفاق في سائر شئونهم وأغراضهم وتوحيد جهودهم.
الإيضاح
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي ليس توجيه الوجه إلى المشرق والمغرب لذاته نوعا من أنواع البر، فهو في نفسه ليس عملا صالحا.
(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) أي ولكن البر هو الإيمان وما يتبعه من الأعمال باعتبار اتصاف البارّ بها وقيامه بعملها.
فالإيمان بالله أساس البر، ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمكنا من النفس مصحوبا بالإذعان والخضوع واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة، ولا تؤيسه نقمة، كما قال تعالى: « الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ».
والإيمان به يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، ودعوى الوساطة عند الله، ودعوى التشريع والقول على الله بلا إذنه، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدا ذليلا لأحد من البشر، وإنما يخضع لله وشرعه.
والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبى غير هذا العالم، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد، ولا يجعل أكبر همه لذّات الدنيا وشهواتها فحسب.
والإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي والنبوة واليوم الآخر، فمن أنكرها أنكر كل ذلك، لأن ملك الوحي هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين كما قال تعالى: « تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » وقال: « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ».
والإيمان بالكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء يستدعى امتثال ما فيها من أوامر ونواه، إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع توجهت نفسه لعمله، ومن اعتقد أنه ضار ابتعد عنه ونفرت نفسه منه.
والإيمان بالنبيين يستدعى الاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم.
وقدران الجهل على قلوب كثير من الناس فظنوا أن صياحهم بالأدعية والصلاة على الرسول ﷺ بمثل ما في كتاب دلائل الخيرات والمدائح الشعرية، مع الجهل بأخلاقه الشريفة، وسيرته الكاملة، والتأسى به إذا دعوا إلى ذلك أو نهوا عن البدع في دينه، والزيادة في شريعته، فيها غناء لهم أيّما غناء، وقد ضلوا ضلالا بعيدا.
فقد جاء في الصحيحين « أن جماعة من أمته ﷺ يردون الحوض يوم القيامة فيذادون عنه (يطردون دونه) فيقول أمتي فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول. سحقا لمن بدّل بعدي ».
(وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ) أي وأعطى المال مع حبه له الأصناف الآتية من ذوي الحاجة، رحمة بهم وشفقة عليهم وهم:
(1) ذوو القربي المحتاجون، وهم أحق الناس بالبر، إذ المركوز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوي رحمه وعدمهم أشد مما يألم لغيرهم، فهو يرى أن هوانه بهوانهم وعزه بعزهم، فمن قطع رحمه وامتنع عن مساعدتهم، وهم بائسون وهو في نعمة من الله وفضل، فقد بعد عن الدين والفطرة، وجاء في الحديث الصحيح « صدقتك على المسلمين صدقة، وعلى ذي رحمك اثنتان » أي لأنها صدقة وصلة رحم.
(2) اليتامى، لأن صغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب، في حاجة إلى معونة ذوي اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم وتفسد تربيتهم، فيكونوا ضررا على أنفسهم وعلى الناس.
(3) المساكين، الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم، فيجب على المسلمين أن يساعدوهم ويقدموا لهم المعونة، إذ هم أعضاء من جسم الأمة، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر حفظا لكيانها، وإبقاء على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال.
(4) ابن السبيل، وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض.
(5) السائلون، الذين اضطروا إلى تكفف الناس، لشدة عوزهم.
(6) في تحرير الرقاب وعتقها، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم، ومساعدة الأسرى على الافتداء، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم (المكاتب هو الرقيق يشترى نفسه من مولاه بثمن يجعله نجوما (أقساطا).
وفي جعل هذا نوعا من البذل واجبا على المسلمين، دليل على رغبة الشارع في فكّ الرقاب، واعتباره أن الإنسان خلق ليكون حرا إلا في أحوال عارضة تقضى المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقا.
والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين، ولا بامتلاك نصاب محدود من المال ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة، بل هو موكول إلى أريحيّة المعطي وحال المعطى.
وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حث عليها الكتاب الكريم، مع ما فيها من التكافل العامّ بين المسلمين، ولو أدوها لكانوا في معايشهم من خير الأمم، ولدخل كثير من الناس في الإسلام، لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء، وأن لهم حقوقا في أموال الأغنياء، فتتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين.
(وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي أداها على أقوم وجه، ولا يتحقق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب، بل إنما يكون بوجود سرّ الصلاة وروحها، ومن آثاره تحلّى المصلى بالأخلاق الفاضلة، وتباعده من الرذائل، فلا يفعل فاحشة ولا منكرا، كما قال تعالى مبينا فوائدها: « إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » ولا يكون هلوعا جزوعا إذا مسه الضرّ، ولا بخيلا منوعا إذا ناله الخير كما قال عزّ اسمه: « إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ » كما لا يخشى في الحق لوم اللائمين، ولا يبالى في سبيل الله ما يلقى من الشدائد، ولا بما ينفق من فضله ابتغاء مرضاته.
(وَآتَى الزَّكاةَ) أي أعطى الزكاة المفروضة، وقلما تجئ الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة ذاك أن الصلاة تهذب الروح، والمال قرين الروح، فبذله ركن عظيم من أعمال البرّ، ومن ثمّ أجمع الصحابة على محاربة مانعى الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله ﷺ، لأن مانعها يهدم ركنا من أركان الإسلام، وينقض أساس الإيمان.
وقد افتنّ الناس في منعها بما سموه حيلا شرعية، وهي ليست من الشرع في شيء، فكيف يؤكد الله علينا الزكاة ويذكرها في كتابه سبعين مرّة، ثم يرضى أن نحتال عليه ونخادعه في تركها، فلم إذا فرض وأوجب، ورغّب ورهّب؟ وأحرى بمثل هذه الحيل أن تسمى حيلا شيطانية لا حيلا شرعية، لأن فيها احتيالا على الله في إبطال فريضته.
ومن ذلك أن يأتي المزكى قبل تمام الحول (وهو شرط في وجوب الزكاة) بيوم أو يومين ويهب ماله لامرأته على أن ترده إليه بعد ذلك الميقات المضروب، وهو بهذا يدكّ صرح الكتاب والسنة، ويزعم مع هذا أنه مسلم مؤمن بالله ورسوله وكتابه.
وقد بينت السنة العملية والقولية قدر المأخوذ وحددته بمقدار 1/ 40 من رأس المال، وسبيل الأخذ، وسائر أحكام الزكاة.
وبعد أن ذكر البر في الأعمال ذكر البر في الأخلاق، فقال:
(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا، ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما جاء به في دينه، ولا يجب الوفاء به إذا كان في معصية.
ومثل العهود العقود، فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة.
وفي الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده، كما أن الغدر والإخلاف فيها هادم للنظام، مفسد للعمران فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد (وهو ركن الأمانة وقوام الصدق) إلا حل بها العقاب الإلهي، فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال، فيعيشون متخاذلين وكأنهم وحوش مفترسة، ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه، إذا أمكن يده أن تصل إليه، ومن ثمّ يضطر أفرادها إلى الاستيثاق في عقودهم بكل ما يقدرون عليه، ويحترس كل منهم من غدر الآخر، فلا يكون هناك تعاون ولا تناصر، بل تباغض وتحاسد، ولا سيما بين الأقارب، ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من هذا البلاء.
(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) أي والصابرين لدى الفقر والشدة، وعند الضر من مرض وفقد أهل وولد ومال، وفي ميادين القتال، ولدى الضرب والطعان ومنازلة الأقران.
وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر، وكاد يفضى إلى الكفر، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه.
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفرار من الزّحف من أكبر الكبائر.
وباتباع هذه الأوامر كانت الأمة الإسلامية أعظم أمة حربية في العالم، وما زال استبداد الحكام يفسد من بأسها، وترك الاهتداء بالكتاب والسنة يضعف من قوتها، حتى سبقتها الأمم كلها في ميادين الكفاح.
(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في دعواهم الإيمان، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا، وعذابه في الآخرة.
وقال بعض العلماء: من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه، ونال أقصى مراتب إيقانه.
[سورة البقرة (2): الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
تفسير المفردات
كتب: فرض ولزم عند مطالبة صاحب الحق به، والقصاص: لغة يفيد العدل والمساواة، ومنه سمى المقصّ مقصا لتعادل جانبيه، والقصة قصة لأن الحكاية تساوى المحكي، وشرعا أن يقتل القاتل، لأنه مساو للمقتول في نظر الشارع، فاتباع بالمعروف: أي فمطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف، وأداء إليه بإحسان: أي أداء بلا مماطلة ولا بخس حق، اعتدى: أي انتقم من القاتل بعد العفو، والألباب: واحدها لبّ وهو العقل.
المعنى الجملي
كان القصاص على القتل أمرا محتوما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج، وكانت الدية أمرا مقضيا عند النصارى، وكانت العرب تتحكم في ذلك بحسب قوة القبائل وضعفها، فكثيرا ما كانت القبيلة تأبي أن تقتص من القاتل، بل تقتصّ من رئيس القبيلة، وربما طلبوا بالواحد عشرة، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرّا، فإن أجيبوا فيها ونعمت، وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا ظلم عظيم، وقسوة شديدة، وقتل القاتل فحسب وهو ما جاء في التوراة إصلاح لهذا الظلم.
ولكن قد تقع أحيانا بعض جرائم يكون الحكم فيها بقتل القاتل ضارّا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل المرء أخاه أو أحد أقار به لغضب فجائي اضطره إلى قتله، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت. فإذا قتل يفقدون بفقده النصير والمعين.
بل قد يكون في قتل القاتل مفاسد ومضارّ، وإن كان القاتل أجنبيا من المقتول فيكون من الخير لوليّه عدم قتله دفعا للضرر أو استفادة للدية، ففي أمثال هذه الحالات يجوز لأولياء المقتول العفو مع أخذ الدية أو تركها.
وإذا ارتقت عاطفة الرحمة لدى شعب أو بلد وصار يستنكر القتل ويرى أن العفو أفضل، فالأمر موكول إليهم والشريعة ترغبهم فيه، وهذا هو الإصلاح الكامل الذي جاء به الكتاب الكريم في القصاص.
وقد يجول بخاطر بعض الناس ولا سيما في عصرنا الحاضر، أن عقوبة القاتل بالقتل انتقام لا تربية، والواجب أن تعلّم الحكومة الجمهور التراحم في العقوبات، لأنهم ما ارتكبوا هذه الجريمة إلا لمرض في عقولهم، فيجب أن يوضعوا في المستشفيات حتى يبرءوا إلى كلام كثير كهذا وأشباهه، ولو أنا دققنا النظر وتأملنا لعلمنا أن مثل هذا إن ساغ في التشريع فلن يكون إلا في الأمم الراقية التي قطعت شوطا بعيدا في الحضارة، وكان أفرادها على حظ عظيم من الأخلاق الفاضلة، ولا يصلح أن يكون تشريعا عاما، فالقصاص بالعدل والمساواة هو الذي يربّى الأمم والشعوب، وتركه يغرى الأشقياء، ويجرئهم على سفك الدماء، فإن عقوبة السجن لا تزجر كثيرا من الناس، بل يرون السجون خيرا لهم من بيوتهم
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) أي فرض عليكم المساوات، والعدل في القصاص، لا كما كان يفعله الأقوياء مع الضعفاء من المغالاة في قتل الكثير بالقليل، وقتل السيد البريء بالمسود تعنتا وظلما.
ثم فسر هذه المساواة بقوله:
(الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) أي يؤخذ الحر ويقتل بقتل الحر بلا إبطاء ولا جور، فإذا قتل حرّ حرّا قتل هو به لا غيره من سادة القبيلة، ولا عدد كثير منها.
وإذا قتل عبد عبدا قتل به لا سيده ولا أحد الأحرار من قبيلته، وكذلك تقتل المرأة إذا قتلت ولا يقتل أحد فداء منها.
والخلاصة - إن القصاص على القاتل أيا كان لا على أحد من قبيلته، ولا فرد من أفراد عشيرته.
قال البيضاوي في تفسيره: كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول (فضل وشرف) على الآخر، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى الرسول ﷺ فنزلت الآية وأمرهم أن يتبارءوا (يتساووا).
وقد جرى العمل من لدن رسول الله ﷺ على قتل الرجل بالمرأة، والحر بالعبد إذا لم يكن سيده، فإن كان هو عزّر بشدة تمنع أمثال هذا الاعتداء، ولا يقتل الوالد بولده، لأن المقصد من القصاص ردع الجاني عن الاستمرار في مثل هذه الجناية، والوالد بفطرته مجبول على الشفقة على ولده حتى ليبذل ماله وروحه في سبيله، وقلما يقسو عليه، ولكن كثيرا ما يقسو الولد على والده، وللحاكم أن يعزر قاتل ولده بما يراه زاجرا لأمثاله ومربّيا لهم.
وبعد أن ذكر وجوب القصاص وهو أساس العدل، ذكر هنا العفو وهو مقتضى التراحم والفضل قال:
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ) أي فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه ولي الدم، ولو كان العافي واحدا إن تعددوا وجب اتباعه وسقط القصاص، وقد جعل هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده، ويهانون بفقده، ويحرمون من رفده وعونه، فمن أزهق روحه كان لهم أن يطلبوا إزهاق روحه، إذ تحفزهم إلى ذلك النّعرة القومية والمصلحة، فإذا طلبوا ولم يقتصّ الحاكم، فربما احتالوا للانتقام، وفشا التشاحن والخصام، ولكن إن جاء العفو من جانبهم أمنت الفتنة، وليس للحاكم أن يمتنع من العفو إذا رضوا به، ولا أن يستقلّ بالعفو إذا طلبوا القصاص حتى لا تحملهم الضغينة على الانتقام بأيديهم إذا قدروا.، فيكثر الاعتداء ويعيشون في تباغض وفوضى تستباح فيها الدماء.
(فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي فاتباع العفو بالمعروف واجب على العافي وغيره، وعليه ألا يرهق القاتل من أمره عسرا، بل يطلب منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس، وكذلك لا يمطل القاتل ولا ينقص ولا يسىء في كيفية الأداء، ويجوز العفو عن الدية أيضا كماقال: « ودية مسلّمة إلى أهله إلا أن يصّدّقوا ».
(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي ذلك الحكم الذي شرعناه لكم من العفو عن القاتل والاكتفاء بقدر من المال، تخفيف ورخصة من ربكم ورحمة لكم، وأي رحمة أفضل من العطف والعفو والامتناع عن سفك الدماء.
(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فمن اعتدى وانتقم من القاتل بعد العفو والرضى بالدية، فله عذاب أليم من ربه يوم القيامة، يوم لا تغنى نفس عن نفس شيئا.
وبعد أن ذكر حكمة العفو والرغبة فيه، وذكر الوعيد على الغدر، أرشد إلى بيان الحكمة في القصاص، إذ أن ذلك أدعى إلى ثبات الحكم في النفس، وأدعى إلى الرغبة في العمل به فقال:
(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي إن في القصاص الحياة الهنيئة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، إذ من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها، يرتدع عن القتل فيحفظ حياة من أراد قتله وحياة نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، إذ من الناس من يبذل المال الكثير للإيقاع بعدوه.
وقد أثر عن العرب كلمات تفيد معنى الآية كقولهم: القتل أنفى للقتل، وقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم: أكثروا القتل ليقلّ القتل، ولكن الآية أخصر من هذا كله، وفيها من الفوائد ما لا يوجد فيما أثر عنهم، إذ أن القتل ظلما لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب في زيادته، وإنما النافي للقتل هو القتل قصاصا، وأمرهم بالقتل ليقلّ القتل أو ينتفى، يصدق باعتداء قبيلة على أخرى والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على الأخذ بالثأر، ويكون المراد أن قتلنا لعدوّنا إحياء لنا وتقليل أو نفى لقتله إيانا.
(يا أُولِي الْأَلْبابِ) وخصّ أرباب العقول بالنداء للدلالة على أن الذي يفهم قيمة الحياة ويحافظ عليها هم العقلاء، كما أنهم هم الذين يفقهون سرّ هذا الحكم وما اشتمل عليه من المصلحة والحكمة، فعليكم أن تستعملوا عقولكم في فهم دقائق الأحكام.
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي ولما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم لعلكم تتقون الاعتداء وتكفّون عن سفك الدماء، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص.
[سورة البقرة (2): الآيات 180 الى 182]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
تفسير المفردات
كتب: أي فرض، وخيرا: أي مالا كثيرا، والوصية: الإيصاء والتوصية، وتطلق على الموصى به من عين أو عمل، والمعروف: ما لا يستنكره الناس لقلته بالنسبة إلى ذلك الخير أو لكثرته التي تضرّ الورثة، وتقدر الكثرة باعتبار العرف ففي القرى غيرها في الأمصار، فهي تقاس بحسب حال الشخص لدى الناس، وإنما يكون ذلك بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين، وخاف: أي علم، والجنف: الخطأ، والإثم: تعمّد الإجحاف والظلم.
المعنى الجملي
كان الكلام في الآية السابقة في القصاص في القتل، وهو ضرب من ضروب الموت، فناسب أن يذكر ما يطلب ممن يحضره الموت من الوصية، والخطاب عام موجه إلى الناس كلهم، بأن يوصوا بشىء من الخير، ولا سيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته، لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وقد تقدم أن قلنا إن الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتمّ إلا بالتعاون والتكافل والائتمار بأوامرها والتناهى عن نواهيها، فإن لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على ذلك.
الإيضاح
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) أي فرض عليكم معشر المؤمنين إذا حضرت أسباب الموت وعلله والأمراض المخوفة، وتركتم مالا كثيرا لورثتكم، أن توصوا للوالدين وذوي القربى بشىء من هذا الخير لا يعدّ في نظر الناس قليلا ولا كثيرا، وقد قدروه بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين، وجمهرة العلماء وأئمة السلف. وروى عن بعض الصحابة أن هذه الوصية إنما تكون لهم ما لم يكونوا وارثين لقوله عليه الصلاة والسلام: « إن الله أعطى كل ذي حقّ حقه، ألا لا وصية لوارث ».
وجوّز بعض الأئمة الوصية للوارث، بأن يخص بها بعض من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا عاجزا عن الكسب، فمن الخير والمصلحة ألا يسوّى بين الغنى والفقير، والقادر على الكسب ومن يعجز عنه.
وإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصى لهما بما يؤلّف به قلوبهما، وقد أوصى الله بحسن معاملتهما وإن كانا كافرين، كما قال: « وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ».
(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي أوجب ذلك حقا على المتقين لي المؤمنين بكتابي.
(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصي، فإنما إثم التبديل على من بدّل، وقد برئت منه ذمة الموصى وثبت له الأجر عند ربه.
والتغيير إما بإنكار الوصية، أو بالنقص فيها بعد أن علمها حق العلم.
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه سميع لأقوال المبدّلين والموصين، ويعلم نياتهم ويجازيهم وفقها.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد للمبدّلين، والوعد بالخير للموصين.
وهذه الوصية واجبة عند بعض علماء السلف كما ترشد إلى ذلك هذه الآية
والحديث « ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصى به إلا ووصيته عند رأسه »
وعند جمهور العلماء مندوبة.
ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح وإزالة التنازع فقال:
(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي إذا خرج الموصى في وصيته عن نهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا، فتنازع الموصى لهم في المال أو تنازعوا مع الورثة، فتوسط بينهم من يعلم بذلك، وأصلح بتبديل هذا الجنف
والحيف، فلا إثم عليه في هذا التبديل، لأنه تبديل باطل بحق، وإزالة مفسدة بمصلحة، وقلما يكون إصلاح إلا بترك بعض الخصوم شيئا مما يرونه حقا لهم.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن خالف وبدل للإصلاح، فالله يغفر له ويثيبه على عمله.
[سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 185]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
تفسير المفردات
الصيام في اللغة: الإمساك والكفّ عن الشيء، وفي الشرع الإمساك: عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر إلى المغرب احتسابا لله، وإعدادا للنفس وتهيئة لها لتقوى الله بمراقبته في السرّ والعلن، والإطاقة: القدرة على الشيء مع تحمل المشقة الشديدة والفدية: هي طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة عن كل يوم يفطرونه، واليسر: السهولة والتخفيف، وضده العسر.
المعنى الجملي
فرض الله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا، لأنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس، وأقوى العبادات في كبح جماع الشهوات، ومن ثم كان مشروعا في جميع الملل حتى الوثنية، فهو معروف لدى قدماء المصريين، ومنهم انتقل إلى اليونان والرومان، ولا يزال الهنود الوثنيون يصومون إلى الآن، وفي التوراة مدحه ومدح الصائمين، وليس فيها ما يدل على أنه فرض، وثبت أن موسى صام أربعين يوما كما أنه ليس في الإنجيل نص على الفريضة، بل فيها مدحه وعدّه عبادة، وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي فرض عليكم الصيام كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلكم من لدن آدم عليه السلام.
وفي هذا تأكيد له وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين فإنه عبادة شاقة، والأمور الشاقة إذا عمّت كثيرا من الناس سهل تحملها ورغب كل أحد في عملها.
ثم بين فائدة الصوم وحكمته فقال:
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي إنه فرضه عليكم ليعدّكم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده، فتتربي بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرّمة والصبر عنها.
وقد جاء في الحديث: « الصيام نصف الصبر »
وبهذا نعلم أنه ما كتب علينا الصوم إلا لمنفعتنا، لا كما يعتقد الوثنيون من أن القصد منه تسكين غضب الآلهة إذا عملوا ما يغضبهم، أو استمالتهم في بعض الشئون والأغراض، لأن الآلهة لا ترضى إلا بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وشاع هذا الاعتقاد بين أهل الكتاب فجاء الإسلام ومحاكل هذا.
وإعداد الصوم لتقوى الله يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأنا:
(1) أنه يعوّد الإنسان الخشية من ربه في السرّ والعلن، إذ أن الصائم لا رقيب عليه إلا ربه، فإذا ترك الشهوات التي تعرّض له من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وزوجة جميلة، امتثالا لأمر ربه، وخضوعا لإرشاد دينه مدة الصيام شهرا كاملا، ولولا ذلك لما صبر عليها وهو في أشدّ الشوق إليها، لا جرم أنه بتكراره ذلك يتعوّد الحياء من ربه، والمراقبة له في أمره ونهيه، وفي ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواتها، وشدة مراقبتها لبارئها.
ومن كملت لديه هذه الخلّة لا يقدم على غشّ الناس ومخادعتهم، ولا على أكل أموالهم بالباطل، ولا على هدم ركن من أركان الدين كالزكاة، ولا على اقتراف المنكرات، واجتراح السيئات، وإذا ألمّ بشىء منها يكون سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة كما قال تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ».
ولما للصوم من جليل الأثر في تهذيب النفس جاء في الحديث: « من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » أي من صغائر ذنوبه وكبائرها إذا تاب منها قبل الصوم.
وجاء في الحديث القدسي: « كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به ».
(2) أنه يكسر حدّة الشهوة، ويجعل النفس مصرّفة لشهواتها بحسب الشرع، كما جاء في الحديث: « يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » والوجاء: رضّ الأنثيين، وهو كالخصاء مضعف للشهوة الزوجية
(3) أنه يعوّد الشفقة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، فهو عند ما بجوع يتذكر من لا يجد قوتا من أولئك البائسين، فيرقّ قلبه لهم ويشفق عليهم، وفي ذلك تكافل للأمة وشعور بالأخوة الدينية.
(4) أن فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء، والملوك والسوقة، في أداء فريضة دينية واحدة.
(5) تعويد الأمة النظام في المعيشة، فهم يفطرون في وقت واحد، لا يتقدم واحد على آخر.
(6) أنه يفنى المواد الراسبة في البدن، ولا سيما في أجسام المترفين أولى النّهم قليلى العمل، ويجفف الرطوبات الضارة، ويطهر الأمعاء من السموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحم الذي هو شديد الخطر على القلب.
وقد أثر عنه ﷺ أنه قال: « صوموا تصحّوا »
وقال بعض علماء أوربا: إن صيام شهر واحد في السنة يذهب الفضلات الميتة في البدن مدة سنة. ومن يصم على هذا الوجه يكن راضيا مرضيّا مطمئنّا لا يجد في نفسه اضطرابا ولا قلقا من مزعجات الحوادث، ولا عظيم المصايب والكوارث، نعم إن وجد شيء من هذا كان جثمانيّا لا روحانيّا.
وأين هذا من الصوم الذي عليه أكثر المسلمين اليوم من إثارته للسخط والغضب لأدنى سبب حتى صاروا يعتقدون أنه أثر طبيعي للصوم، وهو وهم استحوذ على النفوس حتى صار كأنه حقيقة واقعة.
وهذا الأثر في نفوسهم مناف للتقوى التي شرع الصيام لأجلها، ومخالف لما جاء من الآثار من نحو قوله ﷺ: « الصيام جنّة » أي ستر ووقاية من المعاصي والآثام.
ويرى الأوزاعي أن الغيبة تفطر الصائم، وقال ابن حزم يبطله كل معصية من متعمّد لها ذاكر لصومه، وقال الغزالي: من يعصي الله وهو صائم كمن يبنى قصرا، ويهدم مصرا وأين هذا مما نرى عليه الناس من الاستعداد لمآكل رمضان وشرابه، حتى لينفقون فيه ما يكاد يساوى نفقة السنة كلها، فكأنّ رمضان موسم أكل، وكأنّ الإمساك عن الطعام في النهار لأجل الاستكثار منه في الليل.
(أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ) أي أياما معيّنات بالعدد وهي أيام رمضان، فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفا ورحمة بالمكلفين.
(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فمن كان على إحدى الحالين فالواجب عليه - إذا أفطر - القضاء بقدر عدد الأيام التي لم يصمها لأن كلتيهما عرضة لاحتمال المشقة بالصوم، وأكثر الأئمة على اشتراط أن يكون المرض شديدا يصعب معه الصوم بدليل قوله: « يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ».
ويرى جماعة منهم ابن سيرين وعطاء والبخاري أن أي مرض هو رخصة في الإفطار فربّ مرض لا يشقّ معه الصوم يضرّ فيه الصوم المريض، ويكون سببا في زيادة مرضه وطول مدته، وضبط المشقة عسر، ومعرفة الضرر أعسر.
والسفر الذي يباح فيه الفطر هو الذي يباح فيه قصر الصلاة.
روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين - يريد أنه يقصر الصلاة - وهذه المسافة وإن قطعت الآن في دقائق معدودات مبيحة للفطر، إذ العبرة بقطع مثل هذه المسافة لا بالزمن الذي تقطع فيه.
ومن صام رمضان وهو مريض أو مسافر فقد أدى الفريضة، ومن أفطر وجب عليه القضاء، وبذلك كان عمل الصحابة.
فقد ورد في الصحيح أنهم كانوا يسافرون مع النبي ﷺ منهم المفطر ومنهم الصائم لا يعيب أحد على الآخر، وأنه كان يأمرهم بالإفطار عند توقع المشقة فيفطرون جميعا.
روى أحمد ومسلم عن أبي سعيد قال: سافرنا مع رسول الله ﷺ إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا، فقال رسول الله ﷺ: « إنكم قد دنوتم من عدوّكم والفطر أقوى لكم » فكانت
رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: « إنكم مصبّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطرنا » فكانت عزمة فأفطرنا.
وروي عن عائشة أن حمزة الأسلمى قال للنبي ﷺ: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال له: « إن شئت فصم وإن شئت فأفطر »
وفي رواية مسلم أنه أجابه بقوله: « هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه »
وأكثر الأئمة كمالك وأبي حنيفة والشافعي على أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشقّ، ويرى أحمد والأوزاعى أن الفطر أفضل عملا بالرخصة.
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) والذين يطيقون هم الشيوخ الضعفاء والزّمنى الذين لا يرجى برء أمراضهم، والعمال الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم من المناجم، والمجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا كان الصيام يشق عليهم، والحبلى والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فكل هؤلاء يفطرون وعليهم الفدية، وهي طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة بقدر شبع المعتدل الأكل، عن كل يوم يفطرونه.
وخلاصة ما تقدم: أن المؤمنين في صيامهم أقسام ثلاثة:
1 - المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، والصوم حتم واجب عليه، وتركه من الكبائر.
2 - المريض والمسافر ويباح لهما الإفطار مع وجوب القضاء، لما في المرض والسفر من التعرض للمشقة، فإذا علما أو ظنا ظنّا قويّا أن الصوم يضرهما وجب الإفطار.
3 - من يشقّ عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله كهرم وضعف بنية ومرض مزمن لا يرجى برؤه، وأشغال شاقة دائمة، وحمل وإرضاع، وهؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا مسكينا عوضا من كل يوم بقدر ما يشبع الرجل المعتدل الأكل.
(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي فمن زاد في الفدية فذلك خير له، لأن ثوابه عائد إليه ومنفعته له، وهذا التطوع شامل لأصناف ثلاثة:
1 - أن يزيد في الإطعام على مسكين واحد، فيطعم بدل كل يوم مسكينين أو أكثر.
2 - أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
3 - أن يصوم مع الفدية.
(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي وصومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه، خير لكم من الفدية، لما فيه من رياضة الجسد والنفس وتفدية الايمان بالتقوى ومراقبة الله.
روي أن أبا أمامة قال للنبي ﷺ: مرني بأمر آخذه عنك قال: « عليك بالصوم فإنه لا مثل له ».
(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين، لأن الله غني عن العالمين، وما روى من قوله عليه الصلاة والسلام: « ليس من البر الصوم في السفر »
فقد خصّص بمن يجهده الصوم ويشقّ عليه حتى يخاف عليه الهلاك.
ثم بين الأيام المعدودات التي كتبت علينا فقال:
(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) أي هذه الأيام هي شهر رمضان الذي بدئ فيه بإنزال القرآن، ثم نزل منجّما في ثلاث وعشرين سنة، لهداية الناس إلى الصراط السوي والنهج المستقيم، مع وضوح آياته وإرشادها إلى الحق، وجعلها فارقة بين الحق والباطل، والفضائل والرذائل.
ومن التذكر لهدايته أن يعبد في هذا الشهر ما لا يعبد في غيره، ليكون ذلك كفاء فيضه الإلهي بالإحسان، وتظاهر نعمه على عباده، فهو من شعائر ديننا، ومواسم عبادتنا.
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أي فمن شهد منكم دخول الشهر بأن لم يكن مسافرا فليصمه، وشهوده برؤية هلاله، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره أن يصومه، والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم.
ومن لم يشهدوا الشهر كسكان البلاد القطبية - التي يكون فيها الليل نصف سنة في القطب الشمالي، بينما يكون نهارا في القطب الجنوبي والعكس بالعكس - فعليهم أن يقدروا مدة تساوى مدة شهر رمضان، والتقدير على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم.
(وَمَنْ كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أعيد ذكر رخصة الإفطار مرة أخرى، لئلا يظن أن صوم هذا الشهر محتم لا تتناوله رخصة، أو تتناوله ولكنها غير محمودة، ولا سيما بعد تعظيم أمر الصوم فيه، لما له من المناقب والمزايا التي سبق ذكرها، حتى روى أن بعض الصحابة رضي الله عنهم مع علمهم بالرخصة في القرآن كانوا يتحامون الفطر في السفر، حتى إن النبي ﷺ كان يأمرهم به في بعض الأسفار فلا يمتثلون حتى يفطر هو.
(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي يريد الله في هذه الرخصة في الصيام وفي كل ما شرعه لكم من الأحكام، أن يجعل دينكم يسرا لا عسر فيه.
وفي هذا إيماء إلى أن الأفضل الصيام إذا لم يلحق الصائم مشقة أو عسر، لانتفاء علة الرخصة حينئذ، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة، منها حديث أنس: « يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا ».
(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي رخص لكم في الإفطار في حالى المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر، وأن تكملوا العدة، فمن لم يكملها أداء لعذر المرض أو السفر أكملها قضاء بعده، وبذا تحصّلون خيراته، ولا يفوتكم شيء من بركاته.
(وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ) إليه من الأحكام التي فيها سعادتكم في الدنيا والآخرة، وذلك بذكر عظمته وحكمته في إصلاح حال عباده، بتربيتهم بما يشاء من الأحكام، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص التي تليق بحالهم.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) له نعمه كلها، فتعطوا كلا من العزيمة والرخصة حقها، فيكمل إيمانكم ويرضى عنكم ربكم.
[سورة البقرة (2): آية 186]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
المعنى الجملي
لما طالب الله عباده في الآية السابقة بصوم الشهر وإكمال العدّة، وحثهم على التكبير ليعدّوا أنفسهم للشكر، عقب بهذه الآية للدلالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، فيجيب دعوة الداعين ويجازيهم بأعمالهم، وفي هذا حثّ لهم على الدعاء.
وقد روي أن سبب نزول الآية أن النبي ﷺ سمع المسلمين يدعون الله بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم: « أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم ».
ويستفاد من هذه الآية أنه لا ينبغي رفع الصوت في العبادات إلا بالمقدار الذي حدده الشرع في الصلاة الجهرية، وهو أن يسمعه من بالقرب منه، فمن تعمد المبالغة في الصياح حين الدعاء، كان مخالفا لأمر ربه وأمر نبيه.
(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) قرب الله من عباده إحاطة علمه بكل شيء، فهو يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم، أي ذكّر أيها الرسول عبادي بما يجب أن يراعوه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجه إلي وحدي بالدعاء، وأخبرهم بأني قريب منهم ليس بيني وبينهم حجاب، ولا ولي ولا شفيع يبلغنى دعاءهم وعبادتهم، أو يشاركنى في إجابتهم وإثابتهم، وأجيب دعوة من يدعونى بلا وساطة أحد إذا هو توجه إلي وحدي في طلب حاجته، لأننى أنا الذي خلقته وأعلم ما توسوس به نفسه والعارف بالشريعة وبسنن الله في خلقه، لا يقصد بدعائه إلا هدايته إلى الأسباب التي توصله إلى تحصيل رغباته ونيل مقاصده، فهو إذا سأل الله أن يزيد في رزقه، فهو لا يقصد أن تمطر له السماء ذهبا وفضة، وإذا سأله شفاء مريضه الذي أعياه علاجه، فإنه لا يريد أن يخرق العادات، بل يريد توفيقه إلى العلاج الذي يكون سبب الشفاء، ومن ترك السعي والكسب وطلب أن يؤتي مالا فهو غير داع بل جاهل، وكذا المريض الذي لا يراعى الحمية ولا يتخذ الدواء ويطلب الشفاء والعافية، لأن مثل هذين يطلبان إبطال السنن التي سنها الله في الخليقة.
والدعاء المطلوب هو الدعاء بالقول مع التوجه إلى الله بالقلب، وذلك أثر الشعور بالحاجة إليه، والمذكّر بعظمته وجلاله، ومن ثم سماه النبي ﷺ مخّ العبادة.
وإجابة الدعاء: تقبّله ممن أخلص له وفزع إليه، سواء وصل إليه ما طلبه في ظاهر الأمر أم لم يصل، ونحو الآية قوله في سورة ق: « وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » وعلى هذا فلا داعي لرفع الصوت في الدعاء، ولا إلى الوساطة بينهم وبينه في طلب الحاجات كما كان يفعله المشركون من التوسل بالشفعاء والوسطاء.
(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) الاستجابة الإجابة بعناية واستعداد، أي وإذ كنت قريبا منهم مجيبا دعوة من دعانى، فليستجيبوا لي بالقيام بعمل ما أمرتهم به من الإيمان والعبادات النافعة لهم كالصيام والصلاة والزكاة وغيرها مما أدعوهم إليه، كما أجيب دعوتهم بقبول عبادتهم.
(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) الرشد والرشاد ضد الغي والفساد: أي إن الأعمال إذا صدرت بروح الإيمان يرجى أن يكون صاحبها راشدا مهتديا، أما إذا صدرت اتباعا للعادة وموافقة المعاشرين فلا تعدّ للرشاد والتقوى، بل ربما زادت فاعلها ضراوة في الشهوات، وفسادا في الأخلاق، كما يشاهد ذلك لدى الصائمين الذين يصومون تقليدا لآبائهم وعشيرتهم لا بإخلاص لربهم وابتغاء لمثوبته.
[سورة البقرة (2): آية 187]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
تفسير المفردات
ليلة الصيام: هي الليلة التي يصبح منها المرء صائما، والرفث إلى النساء: الإفضاء إليهن. قال الأزهري: الرفث، كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، واللباس:
الملابسة والمخالطة، تختانون أنفسكم: أي تخونون أنفسكم بعمل شيء تعدونه حراما، الخيط الأبيض: أول ما يبدو من بياض النهار كالخيط الممدود رقيقا ثم ينتشر، والخيط الأسود: هو ما يمتد من سواد الليل مع بياض النهار، فالصبح إذا بدا في الأفق بدا كأنه خيط ممدود ويبقى بقية من ظلمة الليل يكون طرفها الملاصق لما يبدو من الفجر كأنه خيط أسود في جنب خيط أبيض، والإتمام: الأداء على وجه التمام، وحقيقة المباشرة مسّ كلّ بشرة الآخر: أي ظاهر جلده، والمراد بها ما أريد بالرفث، والاعتكاف شرعا: المكث في المسجد طاعة لله وتقربا إليه، والحدود: واحدها حد، وهو في اللغة الحاجز بين شيئين ثم سمى بها ما شرعه الله لعباده من الأحكام، لأنها تحدد الأعمال وتبين أطرافها وغاياتها، فإذا تجاوزها المرء خرج عن حد النصيحة وكان عمله باطلا.
والمراد من الآيات هنا دلائل الدين ونصوص الأحكام.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الصوم فرض علينا كما فرض على من قبلنا، لأنه يعدّنا للهداية وتقوى الله، ثم ذكر الأعذار المبيحة للفطر، أردف ذلك ذكر بقية أحكام الصوم.
فبيّن أن صومنا امتاز برخصة لم تكن لمن قبلنا، ثم بيّن بدء مدة الصوم ونهايته، ثم ذكر حرمة قربان النساء مدة الاعتكاف في المساجد، ثم ختمها ببيان أن الله يبين الأحكام للناس لأجل أن يتقوه ويخشوا عقابه.
روى أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل: أن الناس كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له قيس بن صرمة (بكسر الصاد) صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح مجهودا، وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي ﷺ فذكر له ذلك فأنزل الله: « أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ » إلخ.
وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام كان كل إنسان يذهب في فهمه مذهبا كما يؤديه إليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب للتقوى، حتى نزلت هذه الآية.
الإيضاح
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) أي أحلّ لكم ليلة الصيام قربان نسائكم، وقد علّمنا الله النزاهة في التعبير عن هذا الأمر حين الحاجة إلى الكلام فيه بعبارات مبهمة كقوله: « لامَسْتُمُ النِّساءَ، أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ، دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ ».
ثم بيّن سبب هذا الحكم فقال:
(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) أي رخص لكم في مباشرتهنّ ليلة الصيام لما بينكم وبينهن من مثل هذه المخالطة والمعاشرة التي تجعل من العسير عليكم أن تجتنبوهنّ وتجعل من الصعب الصبر عنهنّ.
(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم، إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به، إذ قد ذهب بهم اجتهادهم إلى أنهم يحرمون على أنفسهم بعد النوم في الليل ما يحرم على الصائم في النهار، لكنهم قد خانوا أنفسهم بحسب اعتقادهم فهم عاصون بما فعلوا.
(فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) أي فقبل توبتكم وعفا عن خيانتكم أنفسكم، إذ خالفتم ما كنتم تعتقدون حين فهمتم من قوله: « كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ » تحريم ملامسة النساء ليلا، أو تحريمها بعد النوم كتحريم الأكل والشرب.
(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي فالآن إذ أحلّ لكم الرفث إليهنّ بالنصّ الصريح، باشروهن واطلبوا بتلك المباشرة ما قدر لهذا الجنس بمقتضى الفطرة من جعل المباشرة سببا للنسل، ولإحصان كل منهما الآخر وصده عن الحرام، ومن ثم
قال ﷺ للفقراء « وفي بضع أحدكم صدقة، فقالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ قالوا بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ».
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أي ويباح لكم الأكل والشرب والمباشرة عامة الليل، حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، ويتبين بطلوع الفجر الصادق.
واستدل الأئمة بالآية على صحة صوم من أصبح جنبا، لأن المباشرة أبيحت إلى طلوع الفجر، والصائم لا يمكنه الاغتسال إلا بعده، وعلى أنه إذا طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب فنزع تم صومه، وعلى أنه لو أكل ظانّا أن الفجر لم يطلع صحّ صومه.
وبعد أن ذكر مبدأ الصيام في الجملة السابقة ذكر غايته فقال:
(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أي ثم استمروا في صيامكم إلى ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن، ويتلو ذلك إقبال الليل، قال ﷺ: « إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابت الشمس فقد أفطر الصائم ».
ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة التي تفهم من قوله: « أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ » منع المباشرة حين الاعتكاف كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم في المساجد للعبادة، فإن المباشرة نهطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهارا.
(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها) أي إن هذه الأحكام المشتملة على الإيجاب والتحريم والإباحة هي حدود الله وأحكامه فلا تقربوها، إذ من قرب من الحد أو شك أن يتعداه كالشاب يداعب امرأته في النهار يوشك ألا يملك إربه، فيقع في المباشرة المحرّمة، أو يفسد صومه بالإنزال، فالاحتياط يقتضى ألا يقرب الحدّ حتى لا يتجاوزه بالوقوع فيما بعد، ومن ثم جاء في الحديث: « إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ».
فالتحذير في هذه الآية أشد منه في الآية الأخرى « تلك حدود الله فلا تعتدوها » والله لم ينه عن قرب حدوده إلا في هذه الآية وفي الزنا وفي مال اليتيم، ولكن تعدّد فيه الوعيد على تعديها.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي على هذا الطريق السوي من بيان أحكام الصيام في أوله وآخره، وعزيمته ورخصته، وفائدة مشروعيته وحكمته، يبين الله آياته للناس ليعدّهم لتقواه ويباعدهم عن الهوى.
[سورة البقرة (2): آية 188]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
تفسير المفردات
المراد بالأكل الأخذ والاستيلاء، وعبّر به لأنه أعم الحاجات التي ينفق فيها المال وأكثرها، إذ الحاجة إليه أهم، وتقويم البنية به أعظم، والباطل من البطلان وهو الضياع والخسران، وأكله بالباطل أخذه بدون مقابلة شيء حقيقي، والشريعة حرمت أخذ المال بدون مقابلة يعتدّ بها، وبدون رضا من يؤخذ منه، وإنفاقه في غير وجه
حقيقى نافع، والإدلاء: إلقاء الدلو لإخراج الماء، ويراد به إلقاء المال إلى الحكام لإخراج الحكم للملقى، وقوله بها أي بالأموال، والفريق من الشيء: الجملة والطائفة منه، والإثم: هو شهادة الزور أو اليمين الفاجرة أو نحو ذلك.
المعنى الجملي
لما كان الكلام في الآية السالفة في الصيام وأحكامه، وفيه حلّ أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت، ناسب أن يذكر هنا حكم أكل الإنسان مال غيره.
الإيضاح
(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض، وسماه ماله إشعارا بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيها إلى أن احترام مال غيرك احترام وحفظ لمالك، كما أن التعدي على مال غيرك جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، ولا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، إذ هو باستحلال مال غيره يجرّئ غيره على استحلال أكل ماله إذا كان في طاقته. والباطل كلمة معروفة المعنى عند الناس بوجوهها الكثيرة ويدخل فيها:
(1) الربا لأنه أكل لأموال الناس بدون مقابل من صاحب المال المعطى.
(2) الأموال التي تلقى إلى الحكام رشوة لهم.
(3) الصدقة على القادر على الكسب الذي يكفيه.
(4) أخذ القادر على الكسب صدقة، فلا يحلّ لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطر إليها.
(5) باعة التمائم والعزائم وختمات القرآن والعدد المعلوم من سورة يس لقضاء الحاجات أو رحمة الأموات.
(6) التعدي على الناس بغصب المنفعة، بأن يسخر بعضهم بعضا في عمل لا يعطيه عليه أجرا، أو ينقصه من الأجر المسمى أو أجر المثل.
(7) ضروب الغشّ والاحتيال كما يقع من السماسرة من التلبيس والتدليس، فيزينون للناس السلع الرديئة والبضائع المزجاة، ويورطونهم في شرائها، ويوهمونهم ما لا حقيقة له، بحيث لو عرفوا الخفايا ما باعوا وما اشتروا.
(8) الأجر على عبادة من العبادات كالصلاة والصوم، لأن العبادة إنما تكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى ابتغاء لمرضاته وامتثالا لأمره، فمتى شاب هذا حظ من حظوظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة، إذ لا يقبل الله من الأعمال إلا ما أريد به رضاه فحسب، ودافع الأجر عليها خاسر لماله، وآخذه خاسر لمآله.
ومن علّم العلم والدين بالأجر، فهو كسائر الصناع والأجراء لا ثواب له على أصل العمل، بل على إتقانه والإخلاص فيه، ولا يجوز أخذ الأجر على جواب السائل عن فتوى دينية تعرض له، إذ الإجابة فريضة على أهل الذكر العارفين، وكتمان العلم محرم عليهم.
والخلاصة - أنه ينبغي للإنسان أن يطلب الكسب من الطرق المشروعة التي لا تضر أحدا.
(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم.
(لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لتأخذوا بعضا من أموال غيركم بوساطة يمين فاجرة، أو شهادة زور، أو نحو ذلك مما تثبتون به أنكم على حقّ فيما تدّعون، وأنتم تعلمون أنكم على الباطل مرتكبون المعصية، فإن الاستعانة بالحكام على أكل الأموال بالباطل حرام، إذ الحكم لا يغير الحق في نفسه، ولا يحله للمحكوم له، وحكم القاضي إنما ينفذ ظاهرا فقط، فهو لا يحلل الحرام، فإذا حكم القاضي بصحة عقد بأن فلانا عقد على فلانة بشهادة زور لا يحلّ له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي وهو يعلم أنه بغير حقّ، وهكذا الحال في الأموال والعقود المالية.
والأصل في ذلك حديث أم سلمة الذي رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن أن النبي ﷺ قال لمتخاصمين حضرا أمامه « إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ». فبكى الخصمان وقال كل واحد منهما: أنا حلّ لصاحبي، فقال عليه الصلاة والسلام: « اذهبا فتوخّيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه ».
وقوله ألحن بحجته: أي أقدر عليها من صاحبه، والتوخي قصد الحق، والاستهام: الاقتراع أي اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من القسمة.
وفي الآية والحديث عبرة لو كلاء الدعاوى (المحامين) فلا ينبغي لمن يؤمن منهم بالله واليوم الآخر أن يقبل الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها مبطل، ويعتمد في ذلك على خلابته في القول ولحنه في الخطاب.
والناظر إلى ما عليه المسلمون اليوم من غرامهم بالتقاضي والخصام والإدلاء إلى الحكام لمحض الإيذاء والانتقام وإن أضرّ بنفسه، يعلم بعدهم عن فهم دينهم وهدى كتابهم، ومن ثم ساءت حالهم فنفدت ثرواتهم، وخربت بيوتهم، وفرّقت جماعاتهم، ولو تأدبوا بأدب الكتاب الذي إليه ينتسبون لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ولحلّ فيهم التراحم محل التزاحم، وقد بلغ من أمرهم أن ظنوا أنهم عن هدى الدين أغنياء، وعموا عما أصابهم لأجل هذا من الأرزاء.
[سورة البقرة (2): آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
تفسير المفردات
الأهلة: واحدها هلال وهو القمر في ليلتين أو ثلاث من أوّل الشهر، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر حين رؤيته، من قولهم: استهلّ الصبي إذا صرخ حين يولد، وأهلّ القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، والمواقيت: واحدها ميقات وهو ما يعرف به الوقت وهو الزمن المقدّر المعين.
المعنى الجملي
كان الكلام في الآيات السابقة في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان، فناسب ذلك ذكر الأهلة، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال كما جاء في الحديث: « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ».
أخرج أبو نعيم وابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة ابن غنيمة قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوى ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال فنزلت الآية.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي يسألونك عن حكمة اختلاف الأهلة وفائدته، فأجبهم بأنها معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية، فيعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم، وآجال عقودهم في المعاملات، ومعالم للعبادات المؤقتة، فيعرفون بها أوقاتها كالصيام والإفطار ولا سيما الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء، ولو كان الهلال ملازما حالا واحدة لم يتيسر التوقيت به.
والتوقيت بالأهلة يسهل على العالم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر، والتوقيت بالسنة الشمسية لا يصلح إلا للحاسبين، وهؤلاء لم يقدروا على ضبطها إلا بعد ارتقاء العلوم بأزمان طوال.
والعلوم التي نحتاج إليها في حياتنا على ضروب:
(1) ما لا حاجة لنا فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات.
(2) ما لا نجد له أستاذا إذ لا سبيل للبشر إلى الوصول إليه، ككيفية التكوين والخلق الأول فالطبيب يعرف كيف يولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ كان نطفة إلى أن صار إنسانا عاقلا والنباتي يعرف ما تكوّن منه النبات، وكيف ينمو ويتغذى، ولكنّ كلا منهما عاجز أن يعرف كيف وجدت أنواع الحيوان والنبات، ولا مادتهما أول مرة، فالإيجاد والخلق لا يمكن اكتناههما، كما لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته.
(3) ما يتيسر للناس معرفته بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الطبيعية والرياضية والزراعية والهيئة الفلكية كأسباب أطوار الهلال وتنقله من حال إلى حال وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله: « وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ».
ومثل هذا ينبغي ألا يطالب الأنبياء ببيانه، لأن ذلك جهل بوظيفتهم، وإهمال للقوى والمواهب التي وهبها الله تعالى للإنسان ليصل بها إلى ذلك، وإلا وجب حينئذ أن يتلقّى كل شيء بالتسليم، كما يجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن كان الأنبياء ينبهون الناس إجمالا إلى استعمال الحواس والعقول فيما يزيد منافعهم ويرقى إدراكهم وشعورهم، يرشد إلى ذلك
قوله ﷺ في واقعة تأبير النخل « أنتم أعلم بأمور دنياكم »
ومن حديث ذلك أنه عليه الصلاة والسلام نهي أهل المدينة عن تأبير نخلهم: أي وضع طلع الذكر عليه فلم ينتج ثمرا جيدا، فرجعوا إليه فقال لهم هذه المقالة.
والتاريخ الذي سيق في القرآن لم يذكر على أنه قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، بل سيق للعبر تتجلى في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم بيانا لسنة الله فيهم، وإنذارا للكافرين بما جاء به محمد ﷺ، وتثبيتا لقلوب المؤمنين كما قال تعالى: « لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ » وما يروى في التوراة من التاريخ المفصل من ذكر خلق آدم وما بعده، فهو مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون.
(4) ما يجب علينا للخالق الذي هدى عقولنا إلى الإيمان بآياته التي نراها في الآفاق وفي أنفسنا، لكن هذه الهداية مبهمة تحتاج إلى التحديد من حيث معرفة ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا، وما يتبع ذلك من وجوب الشكر والعبادة له، ومعرفة مصيرنا وحال الحياة الأخرى.
ومثل هذا لا سبيل إلى معرفته بطريق الكسب البشري، وكثيرا ما وقعت الأمم في الخطأ والحيرة في فهم مسائله لجهلهم بالصلة بين الخالق والمخلوق فمنهم من توهم أن الحياة الأخرى تكون بهذه الأجساد، والجزاء فيها يكون بهذا المتاع، ومن ثمّ اخترعوا الأدوية لحفظ أجسادهم ومتاعهم كالمصريين في عهد الفراعنة.
لهذا كان الإنسان محتاجا إلى هاد يخبر عن الله تعالى لنأخذ عنه بالإيمان والتسليم ما لا يصل الحسّ والوجدان والعقل إلى إدراكه.
(5) ما يستطيع العقل البشرى أن يصل إلى إدراك فائدته، لكنه عرضة للخطأ فيه، لما يعرض له من الشهوات والأهواء التي تلقى الغشاوة على البصائر والأبصار، فتحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة، أو تلبس الحقّ بالباطل أو تشبه النافع بالضار، فالخمر والحشيش يعلم الإنسان مضرتهما، لكن الشهوة تحجب ذلك عنه فيشربهما، ويؤثر حكم لذته في حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار، ومن ثمّ احتاج في هذا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ويكبح جماح الشهوات ليكون على هدى وبينة من أمره.
ولما ذكر مواقيت الحج ذكر ما كان من أفعالهم فيه قال:
(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) هذا إبطال لما كانوا يفعلونه في الجاهلية إذا هم أحرموا من إتيان البيت من ظهره وتحريم دخوله من بابه، روى البخاري وابن جرير عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس (جمع أحمس من الحماسة، وهي الشدة والصلابة لتشددهم في دينهم) وكانوا يدخلون البيوت من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله ﷺ في بستان، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة ابن عامر الأنصاري، فقالوا يا رسول الله: إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، قال إني رجل أحمسي، قال له: فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية.
(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بعد أن أعلمهم بخطئهم في إتيان البيوت من ظهورها وظنهم أن ذلك من البرّ، بيّن لهم البرّ لحقيقى، وأنه تقوى الله بالتخلي عن المعاصي والرذائل، والتحلي بالفضائل واتباع الحقّ وعمل الخير، فأتوا البيوت من أبوابها، وليكن باطنكم عنوانا لظاهركم، واتقوا الله رجاء أن تفلحوا في أعمالكم وتصلوا إلى غاية آمالكم، فالمتقون ملهمون إلى طريق الرشاد، كما قال تعالى: « وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ».
[سورة البقرة (2): الآيات 190 الى 193]
وقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
تفسير المفردات
سبيل الله دينه لأنه طريق إلى مرضاته، يقاتلونكم: أي يتوقع منهم قتالكم، ولا تعتدوا: أي لا تبدءوهم بالقتال، محبة الله لعباده إرادة الخير والثواب لهم، والمعتدون أي الذين جاوزوا ما حده الله لهم من الشرائع والأحكام، والثقف: الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا، وقد يستعمل في مطلق الإدراك، من حيث أخرجوكم: أي من مكة، والفتنة من قولهم فتن الصائغ الذهب إذا أذابه في النار ليستخرج منه الزّغل، ثم استعملت في كل اختبار شاقّ كالإخراج من الوطن المحبب من الطباع السليمة والفتنة في الدين، ويكون الدين لله أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية بين هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد لا لحظوظ النفس وشهواتها وحبّ سفك الدماء.
وقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ذلك أن رسول الله ﷺ صدّ عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفى لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله الآية.
الإيضاح
(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) أي أيها المؤمنون الذين يخشون أن يمنعهم كفار قريش حين زيارة البيت الحرام والاعتمار فيه، نكثا منهم للعهد، وفتنة لهم في الدين، ويكرهون الدفاع عن أنفسهم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام، إني أذنت لكم في قتالهم إعزازا لدين الله وإعلاء لكلمته، لا لهوى النفس وشهواتها ولا حبّا في سفك الدماء.
(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي ولا تعتدوا بالقتال فتبدءوهم به، ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، فإنّ الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى، ولا سيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم.
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي إذا نشب القتال بينكم وبينهم فاقتلوهم أينما أدركتموهم، ولا يصدنكم عنهم وجودكم في أرض الحرم.
(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة، فإن المشركين أخرجوا النبي ﷺ وأصحابه منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم، وبعدئذ صدوهم عن دخولها للعبادة، فرضى النبي ﷺ والمؤمنون على شرط ألا يعارضوهم في دخولها العام القابل لأداء النسك والإقامة بها ثلاثة أيام ثم نقضوا العهد فكان من فضل الله ورحمته بالمؤمنين أن قوّى أمرهم وأذن لهم أن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الحانثين في عهودهم.
ثم ذكر العلة في الإذن بقتالهم فقال:
(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي إن فتنتهم إياكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب والإخراج من الوطن ومصادرة المال أشد قبحا من القتل فيه، إذ لا بلاء على الإنسان أشدّ من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره.
ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه المسجد الحرام فقال:
(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته، فلا أمان له حينئذ.
ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرّج منه، أكد الإذن فيه بشرطه السابق فقال:
(فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم.
(كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي إنه قد جرت سنة الله بأن يجازى الكافرين مثل هذا الجزاء، ويعذبهم مثل ذلك العذاب لأنهم قد تعرّضوا له بتعديهم الحدود التي شرعها، فهم الظالمون لأنفسهم، لأنهم قد بدءوا بالعدوان، فيلقون جزاء ما صنعوا.
(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن كفّوا عن القتال أو عن الكفر فإن الله يقبل منهم عملهم، فهو رحيم بعباده يغفر لهم ما سبق من زلاتهم، ويمحو خطيئاتهم إذا هم تابوا عما اقترفوا، وأحسنوا واتقوا: « إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ».
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي وقاتلوهم حتى لا تكون لهم قوّة يفتنونكم بها في دينكم، ويؤذونكم في سبيله، ويمنعونكم من إظهاره والدعوة إليه.
وجملة وقاتلوا الأولى بينت بدء القتال، وقاتلوهم إلخ بينت الغاية منه، وهي ألا يوجد شيء من الفتنة في الدين.
(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة.
وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام مغلوبين على أمرهم، والمشركون في ضلالتهم هم أصحاب الحول، وكانت مكة قرارة الشرك، والكعبة مستودع الأصنام، فأبى الله إلا أن يتمّ نوره، فمكّن للمؤمنين في الأرض، ففتحوا مكة وحطّموا تلك الأصنام، وكسروا اللات والعزّى « وتمّت كلمة ربّك صدقا وعدلا لا مبدّل لكلماته ».
(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فإن انتهوا عما كانوا عليه وأسلموا، فلا تعتدوا عليهم، لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم، ليرجعوا عن ظلمهم وغيهم.
[سورة البقرة (2): الآيات 194 الى 195]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
تفسير المفردات
الحرمات: واحدها حرمة وهي ما يجب احترامه والمحافظة عليه، والقصاص: المقاصة والمقابلة بالمثل، وإلقاء الشيء: طرحه حيث تراه ثم استعمل في كل ما يطرح ويلقى مطلقا، سبيل الله: هي طريق الخير والبرّ المؤدى إلى إعزاز دينه كجهاد الأعداء وصلة الأرحام، والتهلكة: الهلاك والمراد به هنا الإمساك عن النفقة في الاستعداد للقتال وترك الجهاد.
المعنى الجملي
خرج المؤمنون مع النبي ﷺ للنسك عام الحديبية، فصدهم المشركون وقاتلوهم رميا بالسهام والحجارة في شهر ذي القعدة سنة ست، ثم صالحوهم على أن يرجعوا إلى مكة في العام القابل، ولما خرجوا في ذلك العام لعمرة القضاء كرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام، فبيّن الله لهم أن المحظور في الأشهر الحرم هو العدوان بالقتال لا المدافعة عن النفس، وأن المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين فعلوا ما هو أشد قبحا من القتل بتأييدهم للشرك ومنعهم للحق.
الإيضاح
(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي الشهر الحرام يقابل بذلك الشهر الحرام، وهتك حرمته بهتك حرمته، فلا تبالوا بالقتال فيه إذا اضطررتم للدفاع عن دينكم وإعلاء كلمته.
(وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي يجب مقاصة المشركين على انتهاك حرمة الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقا، فهم قد انتهكوا حرمة شهركم بالصدّ عن البيت الحرام وفيه تعرّض للقتال، فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم مكة عنوة وقهرا، فإن منعوكم في هذه السنة عن قضاء العمرة وقاتلوكم فاقتلوهم.
ثم ذكر نتيجة لما سبق وأيد الحكم السابق بقوله:
(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه.
وبهذه الآية استدل الشافعي على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به، فيذبح إذا ذبح ويخنق إذا خنق، ويغرق إذا أغرق وهكذا.
وفي الآية أيضا إيماء إلى أن قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير، فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي واحذروا أن تعتدوا بما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين بالمعونة والتأييد، والنصر والتمكين، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.
ثم أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال:
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين، فاشتروا السلاح والكراع وعدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلب عليكم، وإلى هذا أشار بقوله:
(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدّة فقد أهلكتم أنفسكم.
روي أن أبا أيوب الأنصاري قال: فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية، إنه لما أعزّ الله دينه، ونصر رسوله همس بعضنا في أذن بعض، إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه ما يردّ علينا ما قلنا (وَأَنْفِقُوا) الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو، رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم في جماعة آخرين.
والخلاصة - إن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين، وهم من الكثرة بحيث يخشى شرّهم، فلو انصرف المؤمنون عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لأوقعوا بهم، فيكونون حينئذ قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة.
(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي وأحسنوا كل أعمالكم وجوّدوها ولا تهملوا إتقان شيء منها، ويدخل ذلك التطوع بالإنفاق في سبيل الله لنشر دعوة الدين.
وقتال النبي ﷺ وأصحابه في الصدر الأوّل كان دفاعا عن الحقّ وأهله وحماية دعوة الدين، فكانوا يبدءون أولا بالدعوة بالحجة والبرهان، فإذا منعوا بالقوّة وهدّد الداعي أو قتل قاتلوا حماية للدعاة ونشرا للدعوة، لا للإكراه على الدخول في الدين، إذ ذاك منهى عنه بنحو قوله تعالى: « أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ».
فإذا لم يوجد من يصدّ الدعوة أو يهدد الدعاة ويعتدى على المؤمنين، فلا يفرض علينا الجهاد لسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا للطمع في الغنائم والأنفال.
وجملة القول: إن القتال شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدّعى من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيى الدعوة الإسلامية ويعدّ لها عدّتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان.
ولم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة العربية، كما اعترف بذلك المنصفون من الإفرنج، فقد قال جوستاف لو بون الفيلسوف الفرنسى: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، وما يتجنّى به أعداء الإسلام من دعواهم أن الإسلام قام بالسيف، فقول يكذبه التاريخ ولا يؤيده من ينظر إلى الأمور بعين الإنصاف ويدع الهوى وراءه ظهريا.
[سورة البقرة (2): آية 196]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)
تفسير المفردات
الحصر والإحصار: الحبس والتضييق، يقال حصره عن السفر وأحصره إذا حبسه ومنعه، والهدى يطلق على الواحد والجمع وهو ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرق على الفقراء والمحل (بكسر الحاء) مكان الحلول والنزول، حاضر والمسجد الحرام هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت.
المعنى الجملي
كان الكلام فيما مضى في بيان أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره بعد شهر الصيام، وجاء ذكر آيات القتال تابعا لبيان أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام.
وهنا عاد إلى إتمام أحكام الحج، فذكر حكم المحصر وعدم جواز الحلق قبل بلوغ الهدى محله، إلا لمن كان مريضا أو به جروح ونحوها فإنه يحلق وعليه أن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة أو يتصدق بفرق على ستة مساكين (الفرق بالتحريك مكيال بالمدينة يزن ستة عشر رطلا) فإذا زال الخوف من العدوّ، فمن أتم العمرة وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه دم، لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج، وسبعة إذا رجع إلى بلده إلا إذا كان مسكنه ووراء الميقات.
الإيضاح
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي وأتوا بالحج والعمرة تامين كاملين، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة.
والتجارة لا تنافى الإخلاص إذا لم تقصد لذاتها بدليل قوله تعالى: « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ » والرياء والسمعة إذا كانا هما الباعث على الحج، فالحج ذنب للمرائي لا طاعة، وهكذا حكم من يحج ليقال له (الحاج فلان) أو ليحتفل بقدومه، أو يقترض بالربا أو يرتكب أكبر ضروب المنكر ليحج، أو لا تخطر على باله مناسك الحج وأركانه، وإنما يقصد زيارة النبي ﷺ ولا يعرف من الحج إلا هذه الزيارة.
وقد كان الحج معروفا في الجاهلية من عهد إبراهيم وإسماعيل وأقرّه الإسلام بعد أن أزال ما فيه من ضروب الشرك والمنكرات، وزاد فيه مناسك وعبادات.
وهو فريضة لقوله تعالى: « وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا » وللأحاديث الواردة في ذلك.
وأول حجة حجها المسلمون كانت سنة تسع بإمرة أبي بكر رضي الله عنه، وكانت تمهيدا لحجة النبي ﷺ سنة عشر، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية: « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ».
(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فإن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، وأردتم أن تتحللوا فعليكم أن تذبحوا ما تيسر لكم من بدنة أو بقرة أو شاة، ثم تتحللوا.
وذبحها يكون في موضع الإحصار ولو في الحل. لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل.
(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) قد جعل الشارع أمارة الدخول في الحج أو العمرة، الإحرام بنية النسك عند الابتداء به بالتلبية ولبس غير المخيط من إزار ورداء وكشف الرأس للرجل ولبس النعلين العربيتين، وأمارة الخروج منهما (ويعبر عنه بالإحلال والتحلل) بحلق الرأس أو التقصير، فالنهي عن الحلق نهى عن الإحلال قبل بلوغ الهدى إلى المكان الذي يحل ذبحه فيه، وذلك حيث يحصر الحاج، وإلا فالكعبة لقوله تعالى « هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ ».
(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أي فمن كان منكم مريضا يحتاج إلى الحلق ويؤذيه تركه، أو به أذى من رأسه من جراح أو صداع، فعليه فدية إن حلق، وهي إما صيام أو صدقة أو نسك.
وقد بيّن مقدارها ما أخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة قال « وقف علي رسول الله ﷺ بالحديبية ورأسى يتهافت قملا، فقال: يؤذيك هوامك؟
قلت نعم، قال: فاحلق رأسك » قال فنزلت هذه الآية، وذكرها، فقال النبي ﷺ: صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك بما تيسر ».
(فَإِذا أَمِنْتُمْ) من خوفكم من عدوكم أو برأتم من مرضكم الذي منعكم من حجكم أو عمرتكم.
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة، إلى وقت الانتفاع بأعمال الحج، فعليه ما استيسر من الهدى أي فعليه دم نسك شكرا لله أن أتاح له الجمع بين النسكين، ويأكل منه كالأضحية ويذبح يوم النحر.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أي فمن لم يجد الهدى لعدم وجوده أو عدم المال الذي يشترى به، فعليه صيام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج وتمتد إلى يوم النحر، وسبعة أيام إذا رجع من الحج إلى بلده، أو شرع في الرجوع فيجزئ الصوم في الطريق، ولا يتضيق الوقت إلا إذا وصل إلى وطنه.
(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) أي هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة، وهذا نتيجة لما تقدم مبين لجملة العدد الواجب بعد أن بينه تفصيلا، وفائدته إزالة وهم من قد يظن أن الواو للتخيير بمعنى أو كقوله تعالى « مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ » وقولهم: جالس الحسن وابن سيرين، وإرشاد إلى أن المراد بالسبعة هنا العدد دون الكثرة في الآحاد وهي تستعمل لهما، إلى أن القرآن قد جرى على طريقهم في التخاطب، فهم لكونهم أمة أمية كان أحدهم إذا خاطب صاحبه بأعداد متفرقة جمعها له ليسهل إحاطته بها.
وفائدة وصفها بالكمال الإشارة إلى أن رعاية العدد من المهام التي لا يجوز إغفالها بل يجب المحافظة عليها دون نقص في عددها ولا تهاون في أدائها، وإلى أن هذا البدل كامل في قيامه مقام المبدل منه، وهما في الفضيلة سواء.
ثم بين سبحانه أن التمتع بالعمرة مضمومة إلى وقت الإحرام بالحج وما يتبعه من الأحكام خاص بالآفاقيين دون أهل الحرم قال:
(ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي إن أهل الآفاق هم الذين يحتاجون إلى هذا التمتع، لما يلحقهم من المشقة بالسفر إلى الحج وحده ثم السفر إلى العمرة وحدها، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك، فلا متعة ولا قران لحاضرى المسجد الحرام.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي اخشوا الله وحافظوا على امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، واحذروا أن تعتدوا في ذلك، واعلموا أنه تعالى شديد العقاب لمن انتهك حرماته، وركب معاصيه.
[سورة البقرة (2): آية 197]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)
تفسير المفردات
فرض فيهن الحج أي أوجبه على نفسه، والرفث لغة قول الفحش، وشرعا قربان النساء، والفسوق لغة التنابز بالألقاب كما جاء في قوله تعالى « وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ » وشرعا الخروج عما حدده الشارع للمحرم إلى ما كان مباحا في الحل كالصيد والطيب والزينة باللباس المخيط. والجدال المراء والخصام، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر، لأنه مشقة تضيق بها الصدور، والزاد هو الأعمال الصالحة وما يدّخر من الخير والبر، والتقوى هي ما يتقى به سخط الله وغضبه من أعمال الخير والتنزه عن المنكرات والمعاصي.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أعمال الحج وبين ما يجب على المحصر أن يفعله من ذبح الهدى وعدم الحلق حتى يبلغ الهدى محله، ثم ذكر حكم من لم يجد ذلك، أعقب هذا بذكر زمان الحج، وما يجب على من أوجب على نفسه الحج من ترك الرفث والفسوق والجدال، ثم ختم ذلك بطلب التمسك بالآداب الصالحة والتزود بها ليوم المعاد، فهي خير زاد، كما طلب خشيته تعالى والخوف من عقابه.
الإيضاح
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وهذا هو المروي عن ابن عباس، وجرى عليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وفي قوله: معلومات، إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار هذه الأشهر أشهرا للحج، ونقل ذلك بالتواتر العملي من لدن إبراهيم وإسماعيل، وجاء الإسلام مقررا لما عرف ولم يغيره.
وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر معرفة أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها، وإن كان الإحرام يصح في غيرها، لأنه شرط للحج فيجوز تقديمه على وقت أدائه كتقديم الطهارة على أداء الصلاة.
(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدى، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل، فلا يكفى للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه.
(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) أي لا يفعل الحاج شيئا من هذه الأفعال لأنه مقبل على الله قاصد لرضاه، فينبغي أن يتجرد عن عاداته وعن التمتع بنعيم الدنيا، وينسلخ عن مفاخره ومميزاته عن غيره بحيث يتساوى الغنى والفقير والصعلوك والأمير، وفي هذا تهذيب للنفس وإشعار لها بالعبودية لله تعالى.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنه ﷺ قال « من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ».
إلى ما في ذلك من تعظيم شأن الحرم وتغليظ أمر الإثم فيه، لأن المرء في أوقات العبادة ومناجاة الله، يجب أن يكون على أكمل الآداب وأفضل الأحوال، وللمرء في المجتمع من الآداب ما ليس له حين الخلوة، وله في مجلس السلطان ما ليس له مع الإخوان.
(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم وتتخلى عن الرذائل وتتحلى بالفضائل، وتكون أكثر استعدادا لعمل الخير، وأطوع لامتثال أوامر الشرع، والله يعلم ما تفعلون، فيجازيكم بأعمالكم ويثيبكم على أفعالكم.
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أي واتخذوا التقوى زادكم لمعادكم، فإنها خير زاد.
(وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي وأخلصوا لي يا أهل العقول والأفهام بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبى وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز برضاى ورحمتي.
[سورة البقرة (2): الآيات 198 الى 199]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
تفسير المفردات
الجناح: الحرج والإثم، من الجنوح، وهو الميل عن القصد، أن تبتغوا أي أن تقصدوا وتطلبوا، وفضلا أي عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج، والإفاضة من المكان: الدفع منه أي أفضتم أنفسكم ودفعتموها، ويقال أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق، وعرفات موقف الحاج في أداء النسك، وسمى بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون فيه، وعرفة اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات، وهو التاسع من ذي الحجة، والذكر: الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد، والمشعر الحرام: هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمى بهذا الاسم لأنه معلم للعبادة، والشعائر العلامات، ووصف بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهى عنه
المعنى الجملي
جاء هذا كالاستدراك: والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من منع التجارة في الحج ذاك أن الآيات السابقة أرشدت إلى حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج، والتجارة تفضي إلى الجدال والنزاع في قيم السلع قلة وكثرة، فعقب ذلك ببيان حكمها، وأبان أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافى الإخلاص في هذه العبادة، وإنما الذي ينافيها أن يكون المقصد التجارة فحسب، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر للحج.
وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج، حتى إنهم كانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثّموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فنزلت الآية.
وعن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر إنا نكري (أي الرواحل للحجاج) فهل لنا من حج؟ فقال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية، فدعاه النبي ﷺ فقال: أنتم حجاج.
الإيضاح
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) أي لا حرج ولا إثم في الكسب أيام الحج إذا لم يكن هو المقصد بالذات، إذ هو مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الله عبادة، ولكن التفرغ لأداء المناسك في تلك الأوقات أفضل، والتنزه عن حظوظ الدنيا أكمل، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله « وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ».
(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أي يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالدعاء والتحميد والثناء والتلبية، وإنما طلب منه ذلك خشية أن يتركه بعد المبيت، فطلب منه المضي في الذكر مادام في هذا الموضع.
(وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، بأن يكون بتضرع وخيفة وطمع في ثوابه، صادر عن رغبة ورهبة كما قال ﷺ « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك »
ولا تعدلوا عنه إلى ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من الشرك واتخاذ الوسطاء بينكم وبينه، فلا تفرغ قلوبكم له، فقد كانوا يقولون في التلبية: لبّيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي وإنكم كنتم من قبل هذا الهدى من الضالين عن الحق في العقائد والأعمال بعباد الأوثان والأصنام، وباتخاذ الوسطاء الذين يشفعون عنده ويقربون إليه زلفى.
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) روى البخاري ومسلم: أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس (واحدهم أحمس وهو الشديد الصّلب في الدين والقتال) كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.
فأمر الله نبيه أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، ليبطل ما كانت عليه قريش.
فالمعنى - عليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر وعدم الامتياز لأحد عن أحد، وذلك من أهمّ مقاصد الدين.
(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) مما أحدثتم من تغيير المناسك بعد إبراهيم، وإدخال الشرك في أعمال الحج.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يستغفره مع الإنابة والتوبة.
[سورة البقرة (2): الآيات 200 الى 203]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
تفسير المفردات
الخلاق: الحظ والنصيب، وحسنة الدنيا هي العافية أو المرأة الصالحة أو الأولاد البررة، أو العلم والمعرفة، وحسنة الآخرة هي الجنة أو رؤية الله تعالى يوم القيامة، والأولى التعميم في كل هذا.
المعنى الجملي
كان العرب في الجاهلية يجتمعون بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات والديات، ليس له ذكر غير فعال آبائه فأنزل الله هذه الآية.
ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون، فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج، كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.
وخطب النبي ﷺ في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال: أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجمي، ولا لعجمى على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلّغت، قالوا بلغ رسول الله ﷺ.
الإيضاح
(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) أي فإذا فرغتم من مناسك الحج ونفرتم فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.
ثم ذكر أن الذين يذكرونه فيدعونه قسمين:
1 - (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي فمن المسلمين فريق ممن يشهدون مواسم الحج، ممن لم تصل أسراره وحكمه إلى شغاف قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم، يكون جلّ اهتمامهم في ذكرهم ودعائهم حظ الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء إلى نحو ذلك من الحظوظ العاجلة، وهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة مما أعده الله للمتقين من رضوانه، إذ هم وجهوا جلّ اهتمامهم لحظوظ الدنيا وعملوا لها جهد الطاقة، ولا يسألون ربهم إلا المزيد من نعيمها ولذاتها، وقد ينالونها بدون عناء ولا نصب في العمل كما قال تعالى: « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ».
2 - (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي ومنهم فريق يقول: ربنا هب لنا حياة طيبة سعيدة في الدنيا، وحياة راضية مرضية في الآخرة.
وطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها التي دلت التجربة على نفعها في الكسب ونظم المعيشة وحسن معاشرة الناس والتخلق بآداب الشرع وأدب السلوك وما جرى عليه العرف من فضائل الصفات.
وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص والعمل الصالح والتحلي بمكارم الأخلاق.
(وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي واحفظنا من الشهوات والذنوب التي تؤدى إليها، ويكون ذلك بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بأداء الفرائض.
وفي الآية إيماء إلى أن الغلوّ في الدين والتشدد فيه مذموم خارج من سنن الفطرة، وقد نهى الله أهل الكتاب عنه وذمهم عليه، ونهى عنه النبي ﷺ، روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف، فقال له: هل كنت تدعو الله بشىء؟ قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه، فهلا قلت: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) ودعا له فشفاه الله.
(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي أولئك الذين يطلبون سعادة الدارين، والحسنة في المنزلتين، يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم وسعيهم، فهم قد طلبوا الدنيا بأسبابها، وسعوا للآخرة سعيها فكان لهم حظ من كسبهم في الدارين على قدره.
وبمعنى الآية قوله: « مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ».
(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيوفي كل كاسب أجره عقب عمله، فقد جرت سنته أن يكون الجزاء أثرا للعمل بلا إبطاء، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطلاع كل عامل على عمله، ويتم ذلك في لحظة، وقد روى أن الله يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وروي بمقدار لمحة البصر.
وبعد أن أمر بذكره عند المشعر الحرام وكانوا لا يذكرونه هناك، وأمر بذكره عند تمام قضاء المناسك بعد أيام منى حيث كانوا يذكرون مفاخر آبائهم، أمر بذكره في أيام منى فقال:
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) الأيام المعدودات هي أيام منى، وهي أيام التشريق الثلاثة من حادى عشر من ذي الحجة إلى ثالث عشر، وقد روى أرباب السنن عن عبد الرّحمن بن يعمر قال: إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة فسألوه، فأمر مناديا ينادى « الحج عرفة، من جاء ليلة جمع - مزدلفة - قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه ».
وأردف رجلا ينادى بهن، أي أركب معه رجلا ينادى بهذه الكلمات، ليعرف الناس الحكم، وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر فيها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهي الليلة العاشرة من ذي الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام منى ثلاثة، وهي التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له، ومن تأخر إلى الثالث جاز له، بل هو الأفضل لأنه الأصل.
وبينت السنة أن ذكر الله في هذه الأيام هو التكبير في إدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين، وعند رمي الجمار، روي عن الفضل بن العباس قال: كنت رديف رسول الله ﷺ من جمع (مزدلفة) إلى منى، فلم يزل يلبّى حتى رمى جمرة العقبة، وروي عن ابن عمر أنه ﷺ كان يكبر بمنى تلك الأيام، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا.
والذكر في يوم عرفة ويوم النحر لغير الحاج التكبير، وللحاج هذا وغيره، والمأثور من التكبير، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، ومن التلبية، لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لك، لا شريك لك.
(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) أي من تعجل وطلب الخروج من منى في تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمى الجمار فيهما ولم يمكث حتى يرمى الجمار في اليوم الثالث، فلا إثم عليه بهذا التعجيل، إذ المطلوب أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ويرمى كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات (والجمرة جمعها جمار وجمرات وهي مجتمع الحصى) ورميها من ذكريات المناسك المأثورة عن إبراهيم عليه السلام كذبح القرابين وعامة أعمال الحج.
ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني فعليه أن يبيت حتى يرمى اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر ولا إثم عليه بترك الترخيص.
وهذا التخيير ونفى الإثم عن المستعجل والمتأخر، إنما هو لمن اتقى الله وترك ما نهى عنه، لأنه هو الحاج على الحقيقة، فما الغرض من كل عبادة إلا التقوى كما قال: « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ».
والوسيلة إلى ذلك ذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال حتى يكون عبدا له لا لأهوائه وشهواته.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واتقوا الله حين أدائكم مناسك الحج وفي جميع شئونكم واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة، والعاقبة حينئذ لمن اتقى كما قال تعالى: « تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ».
ومن علم بأنه محاسب على أعماله مجازى عليها. كان ذلك باعثا له على العمل، وداعيا له إلى ملازمة التقوى، أما من كان على شك أو ظن فإنه يعمل تارة ويترك أخرى.
وقد كرر الأمر بالذكر وبين منزلة التقوى ليشعرنا بأن المهم في العبادة هو ذكر الله الذي يصلح النفس ويوجه القلب إلى عمل الخير، ويبعدها عن الشرور والمعاصي، فيكون فاعلها من المتقين.
[سورة البقرة (2): الآيات 204 الى 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
تفسير المفردات
يقال أعجبه الشيء أي راقه واستحسنه ورآه عجبا أي طريفا جديدا غير مبتذل، وتقول العرب: الله يشهد أو الله يعلم إني أريد كذا، تقصد بذلك الحلف واليمين كما قال تعالى حكاية عن رسل عيسى: « قالوا ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون » واللدد شدة الخصومة، والخصام الجدال، وتولى أي أدبر وانصرف عن مجلسك، والسعي السير السريع بالأقدام والمراد به هنا الجد في العمل والكسب، ويهلك أي يضيع، والحرث الزرع، والنسل ما تناسل من الحيوان، والمراد من إهلاكهما الإيذاء الشديد، أخذته أي لزمته، والعزة في الأصل خلاف الذل والمراد بها هنا الأنفة والحميّة، بالإثم أي على الذنب الذي نهى عنه واسترسل في فعله، حسبه أي كافيه، والمهاد الفراش يأوى إليه المرء للراحة، ويشرى أي يبيع ويبذل ابتغاء أي طلبا.
المعنى الجملي
دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى، لاستشعارها عظمته وفضله، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافى التقوى بل يعين عليها، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أسّ الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.
ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان: منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه.
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ومن الناس فريق يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة الدنيا، لأنك تأخذ بالظواهر، وهو منافق يظهر غير ما يضمر ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة اللسان، في غش المعاشرين والأقران، ويوهم أنه صادق الإيمان، نصير للحق خاذل للباطل، متّق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي ويحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي.
(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي وهو قوى في الجدل لا يعجزه أن يغشّ الناس بما يظهر من الميل إليهم والسعي في إصلاح شئونهم.
والخلاصة - إن هذا الفريق يركن في خداعه للناس إلى أمور ثلاثة:
(1) حسن القول بحيث يعجب السامع ويملك لبه، بحيث لا يتهمه في صدقه.
(2) إشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده.
(3) قوة العارضة في الجدل عند محاجة المنكر أو المعارض.
ومثل هذا الفريق يوجد في كل أمة وكل عصر وإن اختلفت حاله باختلاف العصور، فحينا ترى الواحد لا يغشّ بزخرف قوله إلا فردا أو أفرادا معدودين وحينا يتسنى له أن يخدع أمة وينكل بها تنكيلا، فترى الجرائد في عصرنا قد تكون سبيلا للغش، كما تكون أحيانا طريقا للنصح وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها وفلاحها ولا سيما إذا كان الكاتبون فيها ممن تثق بهم الدهماء، ويتقبل الجمهور آراءهم بالتسليم والاطمئنان.
(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) أي إن مثل هؤلاء إذا أعرضوا عن مخاطبيهم وذهبوا لشأنهم، فإن سعيهم يكون على ضد ما قالوا، فهم يدّعون الصلاح والإصلاح ثم يسعون في الأرض بالفساد، إذ لا همّ لهم إلا اللذات والحظوظ الدنيئة التي لأجلها يعادون أرباب الفضيلة، ويكونون من ذوي اللدد والخصومة لهم، لما بينهم من التناقض في السجايا والغرائز، بل يعادون أمثالهم من المفسدين، إذ من دأبهم الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم.
وقوله في الأرض يفيد العموم أي إنهم في أي مكان يحلون فيه يفسدون.
(وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) أي إنه دائب على إفساده مسترسل فيه ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل، وهكذا شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خربت الدنيا بأسرها.
وفي ذلك عبرة للذين يقتلعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره، انتقاما ممن يكرهونهم، فأين منهم هدى الإسلام وهدى القرآن.
ويرى بعضهم أن المراد بالحرث النساء كما في قوله: « نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ » وبالنسل الأولاد، فيكون المراد - إن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقونه من الفتن ويدأبون عليه من التفريق - لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب، فهم يؤذون أنفسهم وأهليهم بضروب من الإيذاء قد يعميهم الغرور عنها، أو عن كونها من سعيهم.
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي والله لا يرضى الفساد ولا يحبه، فلا يحب المفسدين، وفي الآية إيماء إلى أن تلك الصفات المحمودة في الظاهر لا تكون مرضية عند الله إلا إذا أصلح صاحبها عمله، لأن الله لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.
(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي إن ذلك المفسد إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر أسرع إليه الغضب، وعظم عليه الأمر وأخذته الأنفة وطيش السفه، إذ يخيل إليه أن النصح والإرشاد ذلة تنافى العزة التي تليق بأمثاله.
وفي طبع المفسدين النفور ممن يأمرهم بالصلاح، إذ يرون في ذلك تشهيرا بهم وإعلانا لمفاسدهم التي يسترونها بزخرف القول وخلابته، وإن استطاعوا الحبس حبسوا أو ضربوا أو قتلوا.
(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي إن النار مصيره ويكفيه عذابها جزاء له على كبريائه وحميته حمية الجاهلية، وستكون مهاده ومأواه، وهي بئس المهاد وشره، فلا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها.
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتق الله، فوضع خده على الأرض، وقال ابن مسعود: من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد اتق الله، فيقول: عليك نفسك أي أصلح نفسك ولا تصلح غيرك.
ثم ذكر الفريق الآخر فقال:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) أي ومن الناس فريق يبيع نفسه لله لا يبغى ثمنا لها غير مرضاته، ولا يتحرى إلا صالح العمل وقول الحق مع الإخلاص فيهما، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر عرض الدنيا وزخرفها على ما عند ربه.
وهذا البيع لا يتحقق إلا إذا جاد المؤمن بنفسه وما له في سبيل الله إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كجهاد أعداء الأمة عند الاعتداء عليها، أو الاستيلاء على شيء من أرضها، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ذلك، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ذلك، وإن قدر عليهما معا وجب عليه، فإن قصر في شيء من ذلك فقد آثر نفسه على مرضاة الله وخرج من زمرة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله.
(وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فيجازيهم على العمل القليل نعيما دائما، ولا يكلفهم إلا ما في وسعهم عمله، ويشترى منهم أموالهم لأنفسهم وهي ملكه تعالى بما لا يعدّ ولا يحصى من رحمته وإحسانه وكرمه، ويرفع هممهم ليبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده، وتقرير الحق والعدل فيهم، ولو لا ذلك لغلب شرّ المفسدين في الأرض، فلا يبقى فيها صلاح كما قال تعالى: « وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ».
[سورة البقرة (2): الآيات 208 الى 210]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
تفسير المفردات
أصل السلم: التسليم والانقياد، فيطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام، والخطوات: واحدها خطوة (بالضم) ما بين قدمى من يخطو، والزلل في الأصل: عثرة القدم، ثم استعمل في الانحراف عن الحقّ، والبينات: الحجج والأدلة التي ترشد إلى أن ما دعيتم إليه هو الحق، عقلية كانت أو نقلية، والعزيز الغالب: الذي لا يعجزه الانتقام، والحكيم: الذي يعاقب المسيء ويكافئ المحسن، ينظرون: أي ينتظرون، يأتيهم الله: أي يأتيهم عذابه، والظلل: واحدها ظلة (بالضم) وهي ما أظلك، والغمام: السحاب الأبيض الرقيق، وقضى الأمر: أي أتمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل، وفريق يبغى بعمله رضوان الله وطاعته - أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفريق والانقسام.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) كافة: أي في أحكامه كلها التي أساسها الاستسلام والخضوع لله والإخلاص له، ومن أصوله الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب بين المهتدين بهديه، والأمر بالدخول فيه أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى: « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ».
المعنى - يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب، دوموا على الإسلام فيما تستأنفون من أيامكم، ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه، بل خذوا الإسلام بجملته وتفهموا المراد منه، بأن تنظروا في كل مسألة إلى النصوص القولية والسنة المتبعة فيها وتعملوا بذلك، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر، وإن أدى إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وبهذا يرتفع الشقاق والتنازع ويعتصم المسلمون بحبل الوحدة الإسلامية التي أمرنا الله باتباعها في قوله: « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا » ونهانا عن ضدها في قوله: « وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا » وقوله ﷺ « لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض ».
ولكنّ المسلمين قد خالفوا هذا فتفرّقوا وتنازعوا وشاقّ بعضهم بعضا، واتخذوا مذاهب متفرّقة، كل فريق يتعصب لمذهب ويعادى سائر إخوانه المسلمين زعما منه أنه ينصر الدين وهو يخذله بتفريق كلمة المسلمين، فهذا سنّى يقاتل شيعيا، وهذا شافعى يغرى التتار بالحنفية، وهؤلاء مقلّدة الخلف يحادّون من اتبع طريق السلف.
(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي ولا تتبعوا سبله في التفرق في الدين أو في الخلاف والتنازع، إذ هي سبله التي يزينها للناس، ويسوّل لهم فيها المنافع والمصالح، فقد كانت اليهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد، فوسوس لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وشيعا، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا، وحرّفوا من حكمه ما حرّفوا، فسلّط الله عليهم أعداءهم فمزقوهم كل ممزّق، وهكذا فعل غيرهم من أهل الأديان، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه، وقليلا فكثّروه فثقل عليهم بذلك فوضعوه، فذهب الله بوحدتهم ولم تغن عنهم كثرتهم، إذ سلّط عليهم الأعداء وأنزل بهم البلاء.
ثم ذكر السبب في النهي عن اتباع خطوات الشيطان فقال:
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم، فإن جميع ما يدعو إليه ظاهر البطلان، بيّن الضرر لمن تأمل فيه وتفكر، ومن لم يدرك ذلك في مبدأ الخطوات أدركه في الغايات، حين يذوق مرارة العاقبة، فلا عذر لمن بقي على ضلالته بعد تذكير الله وهداية عباده إلى سبل الخير، وتحذيره إياهم من سلوك طرق الشر.
ثم توعدهم إذا هم حادوا عن الهج السويّ والطريق المستقيم فقال:
(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي فإن حدتم عن صراط الله وهو السلم، وسرتم في طريق الشيطان وهي طريق الخلاف والافتراق، بعد أن بيّن لكم عداوته، ونهاكم عن اتباع طرقه وخطواته، فاعلموا أن الله يأخذكم أخذ عزيز مقتدر، فهو عزيز لا يغلب على أمره، حكيم لا يهمل شأن خلقه، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة، فجعل لكل ذنب عقوبة، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم ضربة لازب في الدنيا، ولم يؤخرها حتى تحلّ بها في الحياة الأخرى.
ولا تقوم للأمم قائمة إلا إذا أقامت العدل بين أفرادها، وكانت صالحة لعمارة الأرض كما قال تعالى: « وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ » وهكذا الأفراد إذا لم ينهجوا النهج السوي ويتحلّوا بفاضل الأخلاق، فلن يوفّقوا في دنياهم ولا في أخراهم.
ثم زاد في التهديد والوعيد فقال:
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) أي هاهى ذي قد قامت الحجج ودلت البراهين على صدق محمد ﷺ، فهل ينتظر المكذبون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب في ظلل من الغمام عند خراب العالم وقيام الساعة، وتأتي الملائكة وتنفّذ ما قضاه الله يومئذ؟.
والحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به، ولا توطئة توطّن النفوس على احتماله، إلى أن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أفظع وأشدّ هولا، والخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم ونحو الآية قوله: « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ».
وفي الآية عبرة للمؤمن ترغّبه في المبادرة إلى التوبة لئلا يفاجئه وعد الله وهو غافل، فإذا لم يفاجئه قيام الساعة العامة وهلاك هذا العالم كله، فاجأه قيام قيامته بموته بغتة، فإن لم يمت بغتة جاءه المرض بغتة، فلا يقدر على العمل وتدارك الزلل.
(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي كيف ينتظرون غير ذلك، وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفرّ منه، وحينئذ يثاب الطائع ويعاقب العاصي.
ثم بالغ في التهديد والزجر قال:
(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول، ومنه بدأت الخلائق، وهو الآخر وإليه ترجع الأمور وتصير، فعلى من زلّ عن الصراط السويّ، واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة ويرجع إلى الحق قبل أن يحيق به زلله، ويجازى على عمله « كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ».
[سورة البقرة (2): الآيات 211 الى 212]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
تفسير المفردات
الآية: المعجزة الظاهرة التي لا يخفى أنها من عند الله كالعصا واليد البيضاء، والتبديل: تغيير الشيء من حال إلى حال، ونعمة الله: هي آياته الباهرة التي آتاها أنبياءه وجعلها مصدر الهدى والنجاة، والعقاب: عذاب يعقب الذنب، وزيّن له الشيء: حسّن له، وسخر منه: استهزأ به، والحساب: التقدير.
المعنى الجملي
(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي سل أيها الرسول الكريم هؤلاء الحاضرين من بني إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتيناها أسلافهم فأنكروها، فأخذناهم بذنوبهم، وحلّ بهم ما كانوا أهلا له من العقاب، فهل لهم أن يتدبروا عاقبة أمرهم ويعتبروا بتلك العظات البالغة، ويقلعوا عما هم عليه من الجحود والطغيان؟ خوفا من أن يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك من النكال والوبال وسوء المآل.
وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ لهم على طغيانهم وجحودهم بالحق بعد وضوح الآيات، كما يقول أحدنا توبيخا لآخر أمام جمع من الناس: سلوه كم أنعمت عليه؟ وكم أنقذته من ورطة كادت تودى به؟.
ثم هدّد وتوعد من يغير سنن الله قال:
(وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يغير نعمة الله وهي باهر آياته فيجعلها من أسباب ضلاله بدلا من أن تكون من أسباب سعادته، وتزيده رجسا إلى رجسه، عاقبه الله أشدّ العقاب. وذلك جزاء كل من حاد عن سنته، وبدّل شريعته. وهؤلاء المبدلون منهم، فالعقاب لا محالة نازل بهم، إذ هو من سنن الله العامة فحذار أن تكونوا من المخالفين المبدلين.
ومعنى قوله (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أنها وصلت إليه وتمكن من معرفتها، ووقف على تفاصيلها فهو بمعنى قوله: « يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ».
والآية عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين، فإن ملكهم الذي يتقلص ظله وعزّهم الذي تتخطّفه منهم الأيدي - ما حدث له ما حدث إلا بعد أن بدلوا نعمة الله التي أشار إليها بقوله: « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا ».
ثم ذكر طبيعة الكافرين الجاحدين قال:
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي حسنت الحياة الدنيا للكافرين وأشربت محبتها في قلوبهم فتهالكوا عليها، وتهافتوا فيها، وأعرضوا عن الدين حين ظنوا أن منافعها قد تفوتهم.
والمراد بهم من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس، إيمان إذعان وانقياد، بل يؤثرون الدنيا على ما عند الله من النعيم المقيم، وأخصّ صفاتهم أن تكون زينة الدنيا أكبر همهم، فهم يؤثرونها على كل شيء، حتى إن أمر الدين لا يزحزحهم عن شيء يقدرون عليه من هذه الزينة، لأنهم لا يقين لهم في الآخرة، فدينهم تقاليد وخواطر تتنازعها الشبهات، والشكوك والتأويلات فأهل الكتاب - ولهم شريعة إلهية - تفرّقوا واختلفوا في التأويل وارتكبوا التحريف، وكل فريق منهم يعتذر عن ترك العمل بالتوراة بأنه متبع لبعض الأحبار الذين هم أعلم منه بها.
وليس لذلك من سبب إلا الافتتان بزينة الحياة الدنيا الزائلة، وإيثارها على حياة الآخرة الباقية، فقد انصرفت نفوسهم عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيّناته، فرؤساؤهم جعلوا همهم الشهرة والاستعلاء على الأقران، وانتصر كل فريق لمذهب يدافع عنه بالجدل والتأويل، والمرءوسون ينتمى كل فريق إلى رئيس يعتزّ به ويقلده، ولا يستمع قولا لمخالفه، وحب الدنيا هو رأس كل خطيئة، وسبب كل بلية في الدنيا والآخرة.
فليحذر المسلمون أن يحذوا حذوهم ويسيروا سيرتهم ولا يتبعوا خطوات الشيطان فيتفرّقوا كما تفرّق اليهود والنصارى حتى لا يحيق بهم ما حق بالذين من قبلهم.
ولكن الله قد قضى ولا راد لقضائه أن يحتذوا حذوهم، ويتبعوا نهجهم، ويختلفوا كما اختلف الذين من قبلهم، فحاق بهم مثل ما حاق بأولئك، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
والخلاصة - إن الله قد أوعد المسلمين على التفرّق والاختلاف، وذكّرهم بحال من سبقهم من أهل الكتاب الذين حلّ بهم عقابه في الدنيا جزاء أعمالهم من حبهم للدنيا وزينتها، وتركهم حقوقه وحقوق الناس واختلافهم في دينهم لأجلها.
(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ويسخرون من فقراء المؤمنين كعبد الله بن مسعود وعمّار وصهيب، ويقولون: تركوا لذات الدنيا وعذّبوا أنفسهم بالعبادات.
كما يسخرون من أغنيائهم لأنهم لا يتنوّقون في النعيم، بل يستعدون لما بعد الموت بترقية نفوسهم بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبينات والتحلي بفاضل الأخلاق، وإعطاء فضل ما لهم للعاجزين والبائسين.
ثم ردّ على أولئك الساخرين الذين يرون أنهم في لذاتهم خير من أهل اليقين في تقاهم فقال:
(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي إنه إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين برهة من الدهر في هذه الحياة القصيرة بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والخدم والأعوان، فإن المؤمنين المتقين سيكونون أعلى منهم في تلك الحياة الأبدية مقاما وأرفع منهم منزلة.
وآثر التعبير بالذين اتقوا عن الذين آمنوا، إيماء إلى أن المفتونين بزخرف الدنيا يدّعون الإيمان لأنهم نشئوا بين قوم يدعون أهل الكتاب، ومع هذا لم يعتد بإيمانهم في الآخرة، إذ لم تصحبه التقوى، ولم يكن له أثر في النفس يولّد العمل الصالح كما قال: « تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ».
(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنه يعطى كثيرا بلا تضييق ولا تقتير كما يقال هو ينفق بغير حساب، على معنى أنه ينفق كثيرا، وقد جاء هذا المعنى في قوله: « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ».
والرزق بلا حساب ولا سعي في الدنيا يكون بالنسبة إلى الافراد، فإنا نرى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، لكن المتقى يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، إذ هو بالتقوى يجد المخلص من كل ضيق، ومن عناية الله به رزقا غير محتسب.
أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك، فالأمم الذليلة المهينة لا تكون متقية لأسباب نقمة الله وسخطه بالجري على سننه، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزّة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر ولا تعمل ولا تتدبر، بل هو يعطيها بعملها ويسلبها بزللها كما قال: « وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ».
[سورة البقرة (2): آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
تفسير المفردات
جاء لفظ الأمة في كتاب الله لعدة معان: (1) الملة: أي العقائد وأصول الشرائع كما في قوله: « إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، » (2) الجماعة الذين تربطهم رابطة يعتبرون بها وحدة تسوغ أن يطلق عليها اسم الأمة كما في قوله: « وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ »، (3) الزمن كما في قوله: « وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ » وقوله: « وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ »، (4) الإمام الذي يقتدي به كما في قوله: « إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ »، (5) إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ».
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه الذين آمنوا بنبيه أن يدخلوا في السلم كافة، وأن يكونوا في وفاق لا نزاع معه، إذ ينبغي لمن جاءته الهداية من ربه ألا ينحو في عمله إلى ما يدعو إلى خلاف أو يثير نزاعا، بل الواجب عليه أن يقف عند ما حدده الكتاب الإلهي والهدى السماوي، ثم ذكر أن جاحد الحق إنما ينظر في عمله إلى ما يوفّر عليه لذته في هذه الحياة الدنيا، فهو لا يسعى إلا إلى لذة عاجلة، ومن كانت هذه حاله كان في خلاف وشقاق.
ذكر هنا أن الاهتداء بهدى الأنبياء ضرورى للبشر، إذ أن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض، ولا سبيل لعقولهم وحدها أن تصل إلى ما يلزمهم في توفير مصالحهم، ودفع المضار عنهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله القادر على إثابتهم وعقوبتهم، العالم بما في ضمائرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من أسرارهم.
الإيضاح
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي خلق الله الناس أمة واحدة مرتبطا بعضها ببعض في المعاش، لا تعيش إلا مجتمعة يعاون بعضها بعضا، وكل واحد منهم يعيش بعمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن الوفاء بجميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته، وهذا ما يعبر عنه بقولهم « الإنسان مدني بالطبع ».
ولما كانوا كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف، إذ لا يمكنهم في هذه الوحدة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام، مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول، وحرمانهم من الإلهام الذي يهدى كلا منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه، فكان من لطف الله ورحمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومنذرين بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الله إذا اتبعوا شهواتهم، ولم ينظروا في العاقبة.
وقال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني: إن المعنى: إن الناس كانوا أمة واحدة على سنة الفطرة، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، وتمييز الحسن من القبيح، والباطل من الصحيح بالنظر في المنافع والمضار، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدى إلهي مما يدعو إلى الاختلاف، فكثيرا ما حالت الأوهام بين الناس وبين الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام.
فالعقل شاهد بأن العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده، فكما نشأ الفرد قاصرا في جميع قواه، نشأت الجماعة البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشئون الرفيعة العالية، والمعاني السامية، وما زال هذا شأنه تربيه حوادث الكون، وتهذبه تجارب السنين والأيام، فاستعمل النحاس بعد الحجارة في معايشه، وانتقل من بعد ذلك إلى الحديد، ثم ارتقى إلى استعمال البخار فالكهرباء.
وقد كان في طور قصوره لا يدرك إلا ما يصل إليه بالحس، ولا يعلم إلا المحسوس، ولم يزل كذلك حتى كشفت له تجارب السنين والأيام خطأه فيما يتوّهم، وعلّمته الحوادث ما لم يكن يعلم، فاستعدّ لفهم باطن ما عقل، وسرّ ما عرف، فجاءته الأنبياء تهديه لصلته بربه، وصلته ببني الإنسان، وكانوا له بمنزلة الرأس من البدن يبينون له الخير، ويبشرون كاسبه بأحسن الجزاء، وينذرون فاعل الشرّ بسوء المصير، بنار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي إن الله يبعث الأنبياء لينبهوا أقوامهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذروهم عاقبة ما هم فيه من سيىء العادات، وقبيح الأخلاق، وشرّ الأعمال، حتى إذا تهيأت نفوسهم لقبول تشريع الأحكام أنزل الله الكتب لبيان تلك الأحكام بحسب استعداد تلك الأمم.
وفي الآية إيماء إلى أن الكتاب هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيجب على الحاكمين أن يلزموا حكمه، ولا يعدلوا عنه إلى ما تسوّله لهم نفوسهم وتزينه أهواؤهم من ضروب التأويل، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر في ضروب التأويل فتصبح المصلحة مفسدة.
وكما أضاف الحكم إلى الكتاب هنا، أضاف إليه النطق في قوله. « هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ » والهدى والتبشير في قوله: « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ».
وفي الآية إيماء إلى أن الله أنزل مع كل نبي كتابا سواء كان طويلا أو قصيرا دوّن وحفظ، أو لم يدوّن ولم يحفظ ليبلغه للناس، فيبلّغ السلف الخلف، والسابق اللاحق.
ثم ذكر أن ممن أوتوا الكتاب من جعلوه مصدر الاختلاف بغيا وجورا قال:
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي إن الاختلاف الذي وقع من الرؤساء والأحبار، والعلماء وأهل النظر القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل، وهم الذين أوتوه، وأعطاهم الله الكتاب ليقرّروا ما فيه، ويراقبوا سير العامة عليه، بعد أن قامت الأدلة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف، وأنه ما جاء إلا لإسعاد الناس والتوفيق بينهم، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم - لم يكن مصدره إلا البغي بينهم، وتعدى الحدود التي أقامها الدين حواجز بين الناس.
فقد يشوب طلب الحق شيء من الرغبة في عزة الرياسة، أو ميل مع أربابها، أو شهوة خفية في منفعة أخرى، وهذا من البغي على حق الله في عباده، أو من التعصب للرأى وتأييد المذهب بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان، وربما كان هذا مع حسن النية، فيكون هذا مصدر شقاق وخلاف، وقد كان الواجب تمحيص الآراء ليحصل الوفاق، لكن هذه الجناية التي جناها الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس بسبب بغيهم لا تقدح في هداية الكتاب إلى ما يتفق عليه الناس من الحق، فبغى علماء الدين في التأويل، وكثرة القيل والقال ليس بعيب في الكتاب، فالذي يؤتي العقل ثمّ لا يهتدى بهديه، هل يعد ذلك منقصة له، تدل على أنه ليس بنعمة من عند الله؟ والذين لهم أبصار ولا يستعملونها في معرفة الطريق التي يسيرون فيها، ولا في وقاية أرجلهم من الأشواك التي تصادفهم في تلك الطريق، ولا يتباعدون من حفرة يتردّون فيها، وربما كانت نظرة واحدة تقيهم من التهلكة لو وجهوا أنظارهم نحوها. وكذلك لا يأخذون حذرهم إذا هم سمعوا الأصوات التي تنذر بالخطر العاجل - فهل حال مثل هؤلاء يحطّ من قيمة السمع والبصر؟ كذلك حال رجال الدين لا تقدح في إرشاد الدين، وقيمة هديه للناس.
وقد رأينا الأديان في بدء نشأتها تلمّ الشمل وتمحق أسباب الخلاف من النفوس، وتوجد بين معتنقيها أخوّة لا تدانيها أخوة النسب، فكان الواحد من الصحابة يؤثر أخاه في الدين بماله على نفسه، ويبذل روحه فداء له، والأخ من النسب لا يفعل شيئا من ذلك.
كان هذا أيام أن كان الدين غضّا طريّا معروفا بحقيقته لأهله، تبينه للناس رؤساؤه، ويمشى بنوره فيهم علماؤه، لا خلاف ولا اعتساف، ولكن خلف من بعدهم خلف اعتسفوا في التأويل، وما همهم من ذلك إلا سدّ مطامعهم، وتأييد سطوتهم، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت، واعوجّت السبل أم استقامت، ثم يأتي ضال آخر فيحرّف ويؤوّل، ويريد أن ينال من الأول ما نال هذا من غيره، فيقع الخلاف والشقاق باسم الدين ولحماية الدين، وكم حروب وقعت بين المسلمين حتى قصمت ظهورهم، وأوهنت عزائمهم، وما كان دعواهم في كل ما حدث إلا حفظ الدين، وحمل الناس على الحق المبين، وقد سبقهم إلى مثل هذا اليهود والنصارى ولا يزال أمرهم كذلك إلى اليوم، فكأنهم احتذوا حذوهم، وجعلوهم رائدهم مع ما في كتابهم من النعي عليهم وتقريعهم على سوء صنيعهم، وكتابهم مليء بهذا، وسنة نبيهم تحذرهم كل التحذير من سلوك هذا الطريق المعوّج الذي جرى عليه سابقوهم، وكان وبالا ونكالا عليهم.
ثم أرشد إلى أن الإيمان الصحيح يهدى الناس إلى الحق ويمنع الاختلاف قال:
(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحقّ ويصلون إلى ما يرضى ربهم بتوفيقه وإنعامه، فالإيمان الصحيح له نور يسطع في العقول فيهديها في ظلمات الشبه، ويضىء لها السبيل إلى الحق لا يخالطه باطل، فيسهل عليها أن تميط كل أذى يتعثر يه السالك، كما لا يسمح لصاحبه أن يأخذ بأمر قبل أن يتبصر فيه، ويعرف أنه نافع له في دينه ودنياه، ويجعل لنفسه رقيبا عليها في كل خطرة تمرّ بباله، وكل نظرة تقع على ما بين يديه من آيات الله، فإذا اعتقد فهو يعتقد ما يطابق الواقع، وإذا تخيل فإنما يتخيل صورا تجلّى الواقع في أقوى مظاهره، فهو ساكن القلب، مطمئن النفس، والناس في اضطراب وحرب، كفروا بأنعم الله فعوقبوا عليها بفشوّ الشرّ، وفساد الأمر كما قال تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ »
[سورة البقرة (2): آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
تفسير المفردات
المثل: الوصف العظيم والحال التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل، والبأساء: الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه، كأخذ المال، والإخراج من الديار، وتهديد الأمن، ومقاومة الدعوة، والضرّاء ما يصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزال: الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب: « وزلزلوا زلزالا شديدا ».
المعنى الجملي
بعد أن أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وأرشد إلى حاجة البشر إلى معونة بعضهم بعضا لكثرة المطالب وتعدد الرغبات، وذلك مما يدعو إلى التنازع والتعادي، فدعا ذلك إلى وضع نظام جامع وشرع يحدّد الحقوق ويهدى العقول إلى ما لا مجال للنزاع فيه، لما فيه من البينات الدالة على أنه من عند الله، ثم ذكر إحسان الله إلى عباده، إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم فيما اختلفوا فيه، ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في كتابهم، واتخاذهم آلة الوفاق طريقا للخلاف، وبعدئذ بيّن أن الله هدى أهل الإيمان الصحيح لما وقع فيه الاختلاف من الحق بالرجوع إلى الكتاب وتحكيمه في كل خلاف، ثم أشار إلى أن الذين يحاولون الخروج من الخلاف يكونون عرضة لبغى المختلفين وإيذائهم، وإن كانوا يريدون الخير لهم، حثّ المؤمنين هنا على الثبات والمصابرة في تحمل المشاقّ التي تصيبهم من الكفار، كما لقى الأنبياء ومن معهم من أمثالهم من الشدائد ومقاساة الهموم، وكان عاقبة أمرهم الفلج والنصر عليهم.
روي أن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين، وشجوا رأس النبي ﷺ، وكسروا رباعيته، وقيل نزلت في غزوة الأحزاب حين اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين، وأصاب المؤمنين يومئذ جهد وشدة وجوع وضروب من الأذى، وأبدى المنافقون صفحة العداوة والبغضاء للمؤمنين الصادقين وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض « ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا » وقال صادقو الإيمان على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم: « هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيمانًا وَتَسْلِيمًا »
الإيضاح
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) هذا خطاب للذين هداهم الله إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الوفاق باتباعهم هدى الكتاب زمن التنزيل، وهم أهل الصدر الأول من المسلمين، وفيه العبرة لمن يأتي بعدهم ويظنون أن في انتسابهم إلى الإسلام الكفاية في دخول الجنة، جهلا منهم بسنة الله في أهل الهدى منذ أن خلقهم أن يتحملوا الشدائد والإيذاء في طريق الحقّ وهداية الخلق.
والخلاصة - إنه قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون على الشدائد كما ثبتوا، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله من غير أن تفتنوا في سبيل الحق، فتصبروا على ألم الفتنة، وتؤذوا في الله، فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟
ثم بين ما أصاب الأمم قبلهم من الشدائد فقال:
(مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟) أي إن أولئك السابقين كانوا إذا أصابهم البؤس والضر ووقعوا في حال من الاضطراب والزلزلة من شدة الهول، وقد أحاط بهم أعداء الحق من كل جانب اعتقدوا أن النصر الذي وعد الله به من ينصره قد أبطأ فاستعجلوه بقولهم:
(مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟).
فأجابهم الله بقوله:
(أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) فهو سينصركم على عدوكم، ويكفيكم شرّ أهل البغي ويؤيد دعوتكم، ويجعل كلمتكم العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ونحو الآية قوله تعالى: « حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وقوله: « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ».
والمسلمون لم يصلوا في الشدة إلى مثل الحال التي نال فيها أولئك الرسل ما نالوا، فقد قتل بعض النبيين وأصابهم ضروب من الإيذاء حتى قيل إن منهم من نشر بالمنشار وهو حي، وأحرق بعض بالنار كما فعل أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار « وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ».
فليتأمل المسلمون وليعتبروا بما خوطب به أصحاب النبي ﷺ وهم موضع التجلة والاحترام، وكيف عوتبوا هذا العتاب الشديد على ظنهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضرّاء واحتمال الشدائد في سبيل نصرة الدين، مثل ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان حتى استحقوا الجنة، فكيف لا يعاتب المسلم نفسه (وهو يعلم أنه دون الصحابة إيمانا ودعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيل الله) حين يؤثر ما عند الناس على ما عند الله، ولا همّ له إلا زينة الدنيا والاستكثار من المال ولو من غير الطريق الحلال، والاعتداء على الناس، والبغي في الأرض.
وقصارى القول - إن للإيمان حقوقا وواجبات تؤدى إلى سعادة الدارين، من أهملها سلب النعمة التي أنعم بها على السابقين، فعلى المسلم أن يجعل همه تطبيق آي كتاب الله على أعماله، وأن يعرض عن الاحتفال بعيوب الناس، وأن يتعاون مع المؤمنين على البرّ والتقوى، ويهجر من رغب عنها، اكتفاء بزخرف الدنيا وزينتها.
[سورة البقرة (2): آية 215]
يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
تفسير المفردات
الخير هنا: هو المال، وسمى به لأن حقه أن ينفق في وجوهه، والأقربون: هم الأولاد وأولادهم ثم الإخوة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف، وأن أهل الحق هم الذين يتحملون البأساء والضرّاء في أموالهم وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ناسب أن يذكر هنا ما يرغب الإنسان في الإنفاق في ذلك السبيل، ومن المعلوم أن بذل المال كبذل النفس، كلاهما من آيات الإيمان، فالسامع لما تقدم تتوجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه، ومن ثم جاء بعده السؤال مقرونا بالجواب.
روي في أسباب النزول عن ابن عباس، أن ابن الجموح - وكان شيخا كبيرا وله مال عظيم - سأل رسول الله ﷺ قال: يا رسول الله، بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فنزلت الآية.
وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: تصدّقوا فقال رجل: عندي دينار، قال: تصدّق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنت أبصر به.
الإيضاح
(يسئلونك ما ذا ينفقون) أي أي شيء يتصدقون به من أصناف أموالهم؟
(قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي قل لهم: على المنفق أن يقدم الوالدين لأنهما قد ربياه صغيرا وتعبا في تنشئته، ثم الأولاد وأولادهم، ثم الإخوة لأنهم أولى الناس بعطفه ورعايته، ولأنه إذا تركهم يحتاجون إلى غيره كان في ذلك عار وشنار عليه، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الكسب لصغر سنهم، ثم المساكين وأبناء السبيل للتكافل العام بين المسلمين، فهم أعضاء أسرة واحدة فيجب أن يتعاونوا في السرّاء والضرّاء.
وقد جاءت الآية في بيان نفقة التطوع لا في الزكاة المفروضة، لأنها لم تعين مقدار المنفق، والزكاة الشرعية معينة المقدار بالإجماع، ولم يذكر سبحانه السائلين والرقاب لذكرهما في مواضع أخرى.
(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي وما تنفقوه في وجوه البرّ والطاعة في أي زمان وأي مكان على الأصناف المذكورة أو غيرها، فالله عليم به لا يغيب عنه شيء، فلا ينسى المثوبة والجزاء عليه، بل يضاعف عليه الجزاء.
[سورة البقرة (2): الآيات 216 الى 218]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
تفسير المفردات
كتب عليكم: أي فرض عليكم، والصدّ المنع، والفتنة: أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم، يرتدد: أي يرجع، وحبط العمل: بطل وفسد، وآمنوا: أي ثبتوا على إيمانهم، وهاجروا: أي فارقوا الأهل والوطن، وجاهدوا من الجهد وهو المشقة، ويرجون: أي يتوقعون المنفعة بعمل الأسباب التي سنها الله، ورحمة الله: أي ثوابه.
المعنى الجملي
كان الكلام فيما مضى في الإنفاق وبذل المال في سبيل الله على أصناف من المؤمنين في احتياج إلى مدّ يد المعونة والمساعدة لهم إيجادا لروح التعاون بين الإخوة في الإيمان، وبثا لمبدأ التكافل العام في الأسرة الإسلامية، لتصلح جميع أعضائها وتكون كالبدن السليم، لا يشتكى منه عضو من الأعضاء، فيؤدى كل عضو وظيفته في الحياة، ويعمل العمل الذي هيئ له بمقتضى النظام العام. قفى ذلك بذكر القتال وبذل النفس لإعلاء دين الله وجعل كلمته العليا وكلمة الكفر هي السفلى ونشر النور الإسلامي في أرجاء المعمورة لهدى الخلق ومعرفتهم للحق. ومن البين أن المال أخو الروح، فالصلة بينهما وثيقة، فناسب ذكر آيات القتال بعد ذكر أحكام الصدقة على النحو الذي عرفت.
الإيضاح
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي فرض عليكم قتال الكفار فرض كفاية إذا قام به جماعة كفى ولم يلزم الباقين، إلا إذا دخل العدوّ بلاد المسلمين فاتحا فيكون فرض عين. وقوله: وهو كره لكم أي شاقّ عليكم تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافى الرضا بما يكلف به الإنسان كالمريض يشرب الدواء المرّ البشع الذي تعافه نفسه لما يرى فيه من منافع في العاقبة.
وهذه أول آية فرض فيها القتال، وكان ذلك في السنة الثانية للهجرة، وقد كان القتال محظورا على النبي ﷺ مدة إقامته في مكة، فلما هاجر إلى المدينة أذن له في قتال من يقاتله من المشركين بقوله: « أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا » ثم أذن له في قتال المشركين عامة، ثم فرض الجهاد.
(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) أي إن من الأشياء المكروهة طبعا ما يفعله الإنسان لما يرجو فيه من نفع وخير فيما بعد، فقد يتحمل الإنسان أخطار الأسفار لتحصيل الربح في التجارة، ويتحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة في الدنيا والعقبى.
كذلك من الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضرر والأذى في نفسه، أو من جهة منازعة الناس له فيه، وهكذا الحال في ترك الجهاد فإنه يصون النفس عن خطر القتل ويصون المال عن الإنفاق منه حالا، لكن فيه مفاسد ومضار مآلا كتسليط الكفار على بلاد المسلمين وأموالهم واستباحة حريمهم، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم، وكفى بذلك خسرانا مبينا.
إلى أن في الجهاد الظفر بالغنائم، والفرح بالاستيلاء على بلاد العدوّ، وحفظ بيضة الإسلام، وترغيب الناس في الدخول فيه، وإعلاء كلمة الحق، والثواب في الآخرة، ومرضاة الله « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ».
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إذا تصوّرتم قصور علمكم وكمال علم ربكم علمتم أنه تعالى لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، فعليكم أن تمتثلوا وإن كرهته نفوسكم، فاشتغلوا بطاعة الله، ولا تلتفتوا إلى مقتضى طباعكم وما تهواه قلوبكم.
وقال بعض المفسرين: المراد بذلك أن المسلمين رأوا أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به، فخافوا أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه، فأبان لهم سبحانه أن سنته قد جرت بأن ينصر الحقّ وحزبه على الباطل وأهله ما استمسكوا به ودعوا إليه ودافعوا عنه، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغرى به أعداءه، ويطمعهم بالتنكيل بحزبه والتألّب عليه للإيقاع به.
وقد سبق في علم الله أنه لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم كما قال: « كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ » وقد علم الله هذا فأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه، وستجدون صدق هذا في امتثال أمره، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه.
وبعد أن ذكر أن القتال كتب على هذه الأمة بين مسألة سألوا عنها، وهي القتال في الشهر الحرام فقال: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، إذ اختلج في صدورهم أن الأمر به في غير الشهر الحرام والمسجد الحرام، فسألوا النبي ﷺ، أيحلّ لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أولا؟ ويؤيده ما روي أن رسول الله ﷺ بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمته في ثمانية من المهاجرين في جمادى الآخرة قبل وقعة بدر بشهرين، ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو ابن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها تجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم.
ولما قدموا على رسول الله ﷺ قال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ منها شيئا، ولما قال لهم رسول الله ﷺ ما قال، ندموا على ما فعلوا وظنوا أن قد هلكوا فنزلت الآية، فأخذ النبي ﷺ العير وعزل منها الخمس وقسم الباقي بين أصحاب السريّة وفدى الأسيرين.
(قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي إن أي قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر الوقوع لعظيم حرمته، وأن ما فعله عبد الله بن جحش وما يفعله المسلمون فيما بعد من القتال فيه، مبني على قاعدة ارتكاب أخفّ الضررين إذا لم يكن من أحدهما بدّ، فالقتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم، ولكنه ارتكب لإزالة ما هو أعظم منه، وذلك ما ذكره تعالى بقوله:
(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) أي إنّ منع المشركين للمؤمنين عن الطريق الذي يوصل إلى الله تعالى، وهو الإسلام باضطهادهم للمسلمين، وفتنتهم عن دينهم بقتلهم من يسلم تارة، وإيذائه في نفسه وأهله وماله ومنعه من الهجرة إلى النبي ﷺ تارة أخرى، ومنعهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة، وإخراجهم أهله منه، وهم النبي ﷺ والمهاجرون، وكفرهم بالله تعالى - كل جريمة من هذه الجرائم التي يرتكبها المشركون أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فما بالك بها وقد اجتمعت معا.
ثم ذكر عزّ اسمه السبب الذي من أجله شرع القتال، وهي فتنة المؤمنين عن دينهم فقال:
(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرتّ وغيرهم، فقد عذبوا عمارا بالكيّ بالنار ليرجع عن دينه، وعذّب أبوه وأخوه وأمه، فمرّ بهم النبي ﷺ فقال: صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، ومات ياسر في العذاب، وطعنت أمه بحربة في موضع عفتها فماتت، وكان أمية بن خلف يعذب بلالا بالجوع والعطش ليلة ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمى بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى، فيأبي ذلك وتهون عليه نفسه في سبيل الحفاظ على دينه. وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه، على أنه لم يسلم من أذاهم ذوو العصبيات فقد آدوا رسول الله ﷺ فوضعوا سلا الجزور (الكرش المملوء بالفرث) على ظهره وهو يصلى حتى نحّته عنه فاطمة رضي الله عنها، وتعرّضوا له بضروب أخرى من الإيذاء وقاه الله شرّها كما قال تعالى: « إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ».
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وكثر عددهم صاروا يقاتلونهم في مهجرهم لفتنتهم في الدين إن استطاعوا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) أي إن هؤلاء لا همّ لهم إلا منع الإسلام عن الانتشار في الأرض، لاستحكام عداوتهم وحرصهم على فتنتكم فانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام إذا كان وحده، فكيف إذا اقترن به غيره من الآثام كالصدّ عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، والكفر بالله، والاعتداء بالقتال. وفي قوله إن استطاعوا استبعاد لاستطاعتهم، وشك في حصولها، وتنبيه إلى سخف عقولهم، وكون فعلهم هذا عبثا لا يوصل إلى غرض، لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة لا يرجع عنه إلى الكفر، وهكذا حال الكافرين في كل عصر ومصر يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا. ثم عاقبة من يتأثر بهذه الفتنة فيرتد عن دينه فقال:
(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر، ويمت على هذه الحال - بطلت أعماله حتى كأنه لم يعمل صالحا قط، لأن قلبه قد أظلم فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية، ويخسر الدنيا والآخرة، أما خسارة الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة، إذ يقتل عند الظفر به، ولا يستحق موالاة المسلمين ولا نصرتهم، وتبين منه زوجته، ويحرم الميراث، وأما خسارة الآخرة فيكفى في بيانها قوله: (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
والردة تارة تحصل بالقول كإنكار شيء مما علم من الدين قطعا، وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم والاستهانة بالمصحف ونحو ذلك. وظاهر الآية يدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر، وبه أخذ الشافعي، ورأى أبو حنيفة أن الردة تحبط العمل حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام تمسكا بعموم قوله تعالى: « وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » وقوله: « وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ».
ولما ذكر حال المشركين وحكم المرتدين، بين جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ) أي إن المؤمنين الذين ثبتوا على إيمانهم والذين هاجروا مع رسول الله ﷺ أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الدين وإعلاء كلمة الله، والذين بذلوا جهدهم في مقاومة الكفار وتقوية المؤمنين - هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه، وهم جديرون بأن يعطوا ذلك، لأنهم استفرغوا ما في وسعهم، وبذلوا غاية جهدهم، ولم يدخروا وسيلة فيها مرضاة لربهم إلا فعلوها، فحق لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة. وقد هاجر النبي ﷺ من مكة إلى المدينة فرارا بنفسه وقومه من أذى قريش وفتنتهم في دينهم، بعد أن عاهده أهل المدينة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وتبعه المؤمنون في هجرته ليعتزّ الإسلام بأهله، ويقدروا على الدفاع عن أنفسهم إذا هم اجتمعوا، واستمروا على ذلك حتى فتح مكة، وخذل الله المشركين وجعل كلمتهم السفلى وكلمة الله هي العليا.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بالمؤمنين، يحقق لهم رجاءهم إن شاء، بعميم فضله، وعظيم طوله، قال قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمة، قد جعلهم الله أهل رجاء، ومن رجا طلب، ومن خاف هرب.
[سورة البقرة (2): الآيات 219 الى 220]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
تفسير المفردات
الخمر مأخوذة من خمر الشيء إذا ستره وغطاه، سميت بها لأنها تستر العقل وتغطيه، والميسر: القمار، من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب بلا مشقة ولا كدّ، والإثم الذنب ولا ذنب إلا فيما كان ضارا من قول أو فعل، والضرر يكون في البدن والنفس والعقل والمال، والعفو الفضل والزيادة على الحاجة، والعنت: المشقة وما يصعب احتماله، يقال عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر.
المعنى الجملي
روى أحمد عن أبي هريرة قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله ﷺ عنهما فنزلت الآية فقال الناس: ما حرّم علينا، إنما قال: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين وأمّ الناس في المغرب فخلّط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » ثم نزلت آية أغلظ من ذلك « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » إلى قوله: « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » قالوا انتهينا ربّنا.
ومجموع الروايات يدل على أن النهى القطعي عنها كان بعد التمهيد لذلك وبعد النهي عن قرب الصلاة حال السكر، وأوقات الصلاة متقاربة، فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران، وفي هذا من الحكمة في التدريج بالتكليف ما يجعل النفوس له أقبل ولاتّباعه أطوع.
قال القفّال: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب - أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي يسألونك عن حكم تناول الخمر، إحلال هو أم حرام؟ ومثل هذا بيعها وشراؤها ونحو ذلك مما يدخل في التصرفات التي تخالف الشرع - وعن حكم استعمال الميسر وفعله. وكلمة (الخمر) يراد بها عند الشافعي كل شراب مسكر، ويراد بها عند أبي حنيفة ما اعتصر من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد.
حجة الأول
(1) أن الصحابة وهم صميمو العرب فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما كان من العنب وما كان من غيره.
(2) وما رواه أبو داود والترمذي من قوله ﷺ: كل مسكر خمر.
(3) وما رواه النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البرّ خمرا، وإن من الشعير خمرا.
(4) وما أخرجه البخاري عن أنس قال: حرّمت الخمر حين حرمت، وما يتخذ من خمر الأعناب إلا القليل، وعامة خمرنا من البسر والتمر.
قال بعض العلماء: جرى ذكر هذه الأشياء لكونها معهودة في ذلك العصر، فكل ما في معناها من ذرة أو عصارة شجر أو تفاح أو بصل أو نحو ذلك مما يستخرج منه الخمر الآن فحكمه حكم هذه الأصناف.
وكيفية الميسر عند العرب أنه كانت لهم عشرة قداح وتسمى الأزلام والأقلام أيضا (واحدها قدح وزلم وقلم، وهي قطع من الخشب) وأسماؤها الفذّ والتّوأم والرقيب والحلس والمسبل والمعلّى والنّافس والمنيح والسّفيح والوغد، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها إما عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرين جزءا، ولا شيء للثلاثة الأخيرة، فكانوا يعطون للفدسهما، وللتوءم سهمين، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، وهو أعلاها، ومن ثم يضرب به المثل، فيقال لذي الحظ الكبير من كل شيء (هو صاحب القدح المعلّى).
وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرّبابة وهي الخريطة توضع على يد عدل يجلجلها ويدخل يده ويخرج منها واحدا باسم رجل ثم واحدا باسم رجل آخر وهكذا، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجذور كله - وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها شيئا، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم (الوغد: اللئيم عديم المروءة).
واتفق العلماء على أن كل قمار حرام كالقمار على النّرد والشّطرنج وغيرهما، إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد.
(قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي قل لهم: إن في تعاطى الخمر والميسر إثما لأن فيهما أضرارا كثيرة، ومفاسد عظيمة.
أما الخمر فلها مضار في البدن والنفس والعقل والمال وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض، فمن ذلك:
(1) مضارها الصحية - بإفساد المعدة وفقد شهوة الطعام وجحوظ العينين وعظم البطن وامتقاع اللون، ومرض الكبد والكلى، والسل الذي يفتك بالبلاد الأوربية فتكا ذريعا على عناية أهلها بالقوانين الصحية، وقد استطار شره في مصر بعد انتشار المسكرات بها، مع أن جوها لا يساعد على انتشاره، وإسراع الهرم إلى السكير حتى قال بعض الأطباء الألمان: إن السكير ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين، وقال آخر: إن المسكر يعطل وظائف الأعضاء أو يضعفها، فهو يضعف حاسة الذوق ويحدث التهابات في الحلق وتقرّحات في الأمعاء وتمددا في الكبد ويولد الشحم فيه فيضعف عمله، ويعيق دورة الدم وقد يقفها أحيانا فيموت السكّير فجأة، كما يضعف مرونة الشرايين فتتمدد وتغلظ حتى تفسد أحيانا فيفسد الدم ولو في بعض الأعضاء فتحدث (الغرغرينا) التي تقضى بقطع العضو الذي تظهر فيه حتى لا يسرى الفساد إلى الجسم كله فيكون الموت، وكذلك يضعف مرونة الحنجرة ويهيج شعب التنفس ويحدث بحة في الصوت ويكثر السعال. وانقطاع النسل، فولد السكير يكون ضعيفا وحفيده أشد ضعفا وأقل عقلا وهكذا يسرى الضعف إلى أولاده طبقة بعد أخرى حتى ينقطع النسل، ولا سيما إذا سار الأبناء على سنة الآباء وذلك هو الغالب فيهم، حتى قال أحد الأطباء: اقفلوا لي نصف الخانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات.
(2) مضارها العقلية - إنها تضعف القوة العاقلة لتأثيرها في المجموع العصبي، وكثيرا ما ينتهي الأمر بالسّكور إلى الجنون.
(3) مضارها المالية - تفنى الثروة وتستهلك المال، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أصناف الخمور وغلا ثمن الكثير منها - وافتنّ تجرها في ترويج بضاعتهم بوسائل شتى حتى لقد يجمعون بينها وبين القيادة والزنا، فكم رأينا من خمار رومى فقير يفتح حانة في إحدى القرى فلا يلبث إلا قليلا حتى يبتلع ثروة أهلها ويصير سيد القرية، وقد قيل: إن ما ينفق في مصر ثمنا للخمر يربو على ما ينفق في فرنسا كلها.
(4) مضارها في المجتمع - وقوع النزاع والخصام بين بعض السكارى وبعض، وبينهم وبين من يعاشرهم لأدني بادرة تصدر من واحد منهم، وذلك ما أشار إليه الكتاب الكريم: « إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ».
والخسة والمهانة في عيون الناس، فقد يأتي السكّير في كلامه وحركاته بما يضحك منه ويكون موضع السخرية من الناس، ويعبث به الصبيان، إذ يكون أقل منهم عقلا، وقلما يضبط أقواله وأفكاره، وللسكارى من النوادر ما يكفى كل ذي شرف وعقل أن يكفّ عن الخمر، وتجرّئ على ارتكاب الجرائم وتغرى بها، ولا سيما الزنا والقتل، ومن ثم سميت أم الخبائث.
(5) مضارها النفسية - إفشاء السر وهو ذو أضرار خطيرة، ولا سيما إذا كان متصلا بالحكومات وسياسة الدول وشئونها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس في نجاحهم في مهامهم التي ندبوا لها.
(6) مضارها الدينية - إن السكران لا تتأتى منه عبادة صحيحة، ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين، ومن ثم قال: « وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ » أي يصدكم الشيطان بتناولها عن الذكر والصلاة.
أما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر، فمنها:
(1) أنه يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين.
(2) أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
(3) أنه يفسد الأخلاق بتعويد الناس الكسل بانتظار الرزق من الأسباب الوهمية وتركهم الأعمال الجالبة للكسب كالزراعة والصناعة والتجارة وهي أساس العمران (4) خراب البيوت بغتة وضياع أموال أربابها فجأة بالخسارة في لعب الميسر، فكم رأينا من أسرة نشأت بين أحصان الثروة والغنى، وانحصرت ثروتها في واحد من أفرادها، فلم يكن منه إلا أن أضاعها بين غمضة عين وانتباهتها، وأصبحت هذه الأسرة في فقر مدقع لا تملك ما تعيش به عيش الكفاف.
أما منافع الخمر فكثيرة منها:
(1) الاتجار بها فقد كانت ولا تزال موردا كبيرا للغنى والإثراء.
(2) قد تكون علاجا لبعض الأمراض ككثير من السموم والنبات الضار بالمزاج المعتدل والمقدار الذي يعطى حينئذ يكون قليلا لا يكفى للذة والنشوة.
(3) تسلي الحزين على ما يكون بعدها من رد الفعل الذي يزيد في الكآبة والحزن.
(4) تثير النّخوة والشجاعة، وهذا من أعظم منافعها عند العرب، وإن كان هذا مضرة في العصر الحاضر، فإن هذه الحميّة هي التي تثير الشحناء والبغضاء بين السكارى ولا حاجة إليها الآن في الحرب، لأنها أصبحت فنا لا بد فيه من حضور العقل وجودة النظر.
(5) تجعل البخيل سخيّا، وقد يكون هذا نافعا في الأزمنة القديمة حين كان الرجل ينفق ماله بين أهله - أما الآن فإنه كثير الضرر، لأنه يذهب بثروة البلاد ويضعها في أيدي الأشرار من الأجانب.
ومن منافع الميسر.
(1) مواساة الفقراء كما في النوع المسمى (يا نصيب) الذي يعمل لبناء الملاجئ والمستشفيات والمدارس وغيرها من أعمال البر.
(2) سرور الرابح وأريحيته.
(3) أنه يصيّر الفقير غنيّا بدون تعب ولا نصب.
(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) في هذا إرشاد إلى القاعدة العظيمة التي دوّنها علماء الإسلام فيما بعد وهي: « درء المفاسد مقدم على جلب المصالح »، وإلى القاعدة الأخرى « ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما ».
ولما كانت دلالة الآية على التحريم ليست صريحة لم تجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة، بل عمل فيها كل واحد باجتهاده، فمن فهم منها التحريم امتنع منها، ومن لم يفهم ذلك جرى على أصل الإباحة، ومن ثم عمل الصحابة باجتهادهم على اختلافهم فيه، وأقرّهم النبي ﷺ على ذلك، وصار عمر يدعو الله أن يبين في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية المائدة التي تقدمت: إنما الخمر والميسر إلخ. فتركهما الصحابة جميعا.
ولما للخمر من مضارّ كثيرة تركها في الجاهلية كثير من العرب، منهم العباس بن مرداس فقد قيل له: ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلى بيدي فأدخله في جوفى، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم وأمسى سفيههم.
وقد ألّفت الجماعات في أوربا وأمريكا للسعي في إبطال المسكرات، وحمل الدول على تشديد العقوبة على بائعى الخمور. ولا تزال الأيام تظهر من مضارّ الخمر والميسر ما لم يكن معروفا من قبل، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ولكن الهوى وسلطان اللذة صرفا كثيرا من أدعياء المدنية عن النظر في هذه المضار، فأسرفوا في معاقرتها حتى غيض معين الشباب، وحرموا من سعادة الحياة، وحرمت منهم أمتهم وأهلوهم، وهم أحوج ما يرجون من ذكائهم ورجاحة عقولهم، وبدت فتنة السكر بين ذوي الثراء والجاه من المتعلمين، وانتقلت منهم العدوى إلى غيرهم من الفلاحين، والعمال والأجراء، وعم خطر هذه الآفة وتبعها انتشار الزنا بما له من مضارّ لا تحصى كداء الزهري والسيلان وغيرهما مما يوجب انقطاع النسل.
وإذا استمر انتشار الخمر والزنا في هذه البلاد ولا سيما الخمور التي تباع للفقراء فهي موادّ سامة محرقة (سبيرتو) يضاف إليها قليل من الماء والسكر، فليس بالبعيد أن تنقرض الأمة بعد جيلين أو أكثر كما انقرض هنود أمريكا، ولا يبقى منهم إلا بعض الأجراء والخدم، فالسكر والزنا مقراضان يقرضان الأمم قرضا.
وقد شاع حديثا في مصر ما هو أفتك بالأمة من الخمور وأقتل لها، وهو بعض السموم التي تستعمل حقنا تحت الجلد أو شمّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهرويين.
وأما كون إثم الميسر أكثر من نفعه فواضح مما تقدم، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أنواع القمار وعمّ ضررها، وقد تنبهت لذلك حكومات كثيرة فمنعت أكثر أنواعه وشددت في العقوبة عليه، مع احترامها للحرية الشخصية، علما منها بأن منفعة القمار وهمية ومضرته حقيقية، إذ المقامر يبذل ماله المملوك له لربح موهوم، والمسترسل في إضاعة المحقق طلبا للمتوهم يفسد فكره، ويضعف عقله، ومن ثم انتهى الأمر
بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم أو الرضا بعيشة الذل والمهانة. وكم من أرباب الثراء ما زال الشيطان يغريه حتى فقد ثروته وعاش بقية حياته فقيرا معدما. ولبيوت القمار وسائل في استدراج الأغنياء وتخريب بيوتهم بأجابيلهم وشركهم التي ينصبونها.
وقلما يقدر متعاطى الخمر والميسر على تركهما، لأن للخمر تأثيرا في الأعصاب يدعو إلى شربها والإكثار منها، وما تحدثه من التنبيه يعقبه الخمود والفتور، فيشعر السكران بعد صحوه أنه مضطر إلى معاودة السكر، فإذا هو عاد قويت الداعية إليه.
وأما صاحب الميسر فإذا ربح طمع في المزيد، وإذا خسر طمع في تعويض الخسارة وقصارى القول - إن الله قد هدانا لأن نبحث عن مضار الخمر والميسر بأنفسنا لنكون على بصيرة في تحريمهما، وإنا لنرى الأمم التي لا تدين بالإسلام قد اهتدت إلى ما لم نهتد إليه من المضار، فأنشأت تؤلف الجماعات للسعي في إبطال هاتين الجريمتين.
(وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) أي أي جزء من أموالهم ينفقون، وأي جزء منها يمسكون، ليكونوا ممتثلين لقوله: « وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ». وقد أطلق القرآن العفو والزيادة ليقدّره كل قوم بحسب عصرهم، وما يليق بحالهم والمراد بهذا الإنفاق فيما زاد على الزكاة المفروضة من صدقات التطوع على الأفراد والمصالح العامة. وقد قضت الحكمة بمجىء الإنفاق مطلقا أول الإسلام، وبمدح الإيثار على النفس، لأن المسلمين كانوا فئة قليلة بين أمم وشعوب تناصبهم العداوة وتبذل في سبيل ذلك الأموال والأرواح، فلا تستقيم لهم حال إذا لم يتّحدوا ويكونوا كرجل واحد ويجودوا بالمال لخدمة المصالح العامة. وتلك سنة الله في كل دين حين بدأ ظهوره، حتى إذا ما اعتز وكثرت الأمة، وصار يكفى لمرافقها العامة ما يبذله كل ذي غنى من ماله - اختلفت الحال ودعا الأمر إلى تقييد الإنفاق، ومن ثم سأل المسلمون ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأنهم ينفقون الفضل والزيادة على حاجة من يعولونهم.
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول » وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أن النبي ﷺ قال « خير الصدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: أنفق علي أو طلقني، ويقول مملوكك: أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك: إلى من تكلني؟ ». وأخرج ابن سعد عن جابر قال: قدم أبو الحصين السلمي بمثل بيضة الحمامة من الذهب، فقال يا رسول الله: أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله ﷺ فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، ثم قال: يأتي أحدكم بما يملك، فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يتكفّف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول.
والحكمة في الجمع بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الإنفاق في آية واحدة - الموازنة بين حال فريقين من الناس: فريق ينفق المال بغير حساب في الإثم تفاخرا ومباهاة فيما لا خير فيه، أو لمجرد اللذة وإن ساءت العاقبة، وفريق ينفقه في سبيل الله يزيل به ضرورة إخوانه ذوي الحاجة، أو يرفع به شأن أمته بالإنفاق في مصالحها العامة وأعمال الخير فيها كالتعليم وإنشاء الملاجئ والمستشفيات.
فالأمة التي يكون أفرادها مليون نسمة إذا بذلوا في مصالحها العامة كتربية النشء وإعداد القوة الحربية ونحو ذلك مما يرقى شئونها - تكون أعز وأقوى من أمة عدّتها مائة مليون لا يبذلون شيئا من فضل أموالهم في مثل ذلك، فكل امرئ من الأولى يكون كأمة، لأن أمته عون له، تعده جزءا منها ويعدها كلّا له، والأمة الثانية كلها لا تعدّ بواحد، لأن كل واحد منها يخذله الآخرون، ويرى أن حياته بموته، فيكون كل واحد منها في حكم الميت، ومثل هذا الجمع لا يسمى أمة، لأن كل واحد يعيش وحده وإن كان مع غيره على ظهر الأرض، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم، ويتعاون الجميع على حفظ الوحدة الجامعة لهم، وبها تتكون الأمة الناجحة في الحياة. فالأمم لا تنهض إلا بمثل هذا التعاون ومساعدة الغنى للفقير وإعانة القوى للضعيف، وبهذا يظهر القليل على الكثير وتكون له السيادة.
ثم ذكر مننه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال:
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي على هذا النحو من البيان قضت الحكمة بأن يبين لكم الأحكام التي فيها مصالحكم ومنافعكم، ويوجه عقولكم إلى ما فيها من منافع ومضارّ.
ثم ذكر الحكمة في شرع هذه الأحكام فقال:
(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي لتتفكروا في شئونهما معا، فتجتمع لكم مصالح الروح والجسد وتكونوا أمة وسطا، لا كمن ظنوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها فخسروها وخسروا الآخرة، إذ الدنيا مزرعة الآخرة، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات، ففسدت أخلاقهم، وأظلمت أرواحهم، وصاروا كالبهائم، وخسروا الآخرة والدنيا. وهذه الآية وما ماثلها ترشد إلى أن الإسلام هاد إلى سعة دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين معا، ومن ثم قال العلماء إن الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم - من الفروض الدينية، إذا أهملت الأمة شيئا منها ولم يقم من أفرادها من يكفيهم أمرها، كانت عاصية لأمر ربها مخالفة لدينه.
وعلى هذا سارت الأمة الإسلامية في القرون الأولى، فكانت إذا احتاجت إلى شيء مما يستدعيه التوسع في العمران، عدّت القيام به من فروض الدين - إلى أن غلا أقوام في الدين وأهملوا مصالح الدنيا زعما منهم بأن ذلك من الزهد المطلوب والتوكل المحبوب، وما هو منهما في شيء، وكان نتيجة ذلك أن أهملت الشريعة، ولم توجد أمة إسلامية تقيمها، ولم يعد من المسلمين من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها مصالح الأمم والحكومات، بل قد أصبح كثير من العلماء يعد الاشتغال بالعلوم والفنون التي تتوقف عليها مصالح الدنيا، صادّا عن الدين مبعدا عنه.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) أي ويسألونك عن القيام بأمر اليتامى، أو عن مخالطتهم وكفالتهم.
أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت آية « وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » وآية « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى » انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، وذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) الآية.
وأشد ما ورد في الوصية باليتامى قوله تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْمًا إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا » وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله ويأخذون القرآن بقوة، فتحدث لهم ذكرى وعظة لا يجد مثلها من بعدهم ممن لم يفهم القرآن كما فهموا.
وهذه الوصايا باليتامى ملكت على المؤمنين نفوسهم فتركتهم في حيرة وحرج من أمر القيام على اليتامى واستغلال أموالهم خوفا من أن ينالهم شيء من الظلم، وتأثّم الصحابة من مخالطة اليتامى، فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم، وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله، فلا يخالطونه في شيء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده، ثم فطنوا إلى ما في هذا من الحرج مع عدم المصلحة لليتيم، بل فيه مفسدة له في تربيته وضياع لماله، إلى ما في ذلك من الاحتقار والإهانة له، فيكون كالكلب أو كالداجن في مأكله ومشربه، ومن ثم احتاجوا إلى السؤال عما يجمع بين المصلحتين: مصلحة اليتيم ليعيش في بيت كافله عزيزا كأحد عياله، ومصلحة الكافل فيسلم من أكل شيء من ماله بغير حق، فأجيبوا بقوله تعالى:
(قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي قل لمن يسأل عن المصلحة في معاملة اليتامى من عزل أو مخالطة - إن كل ما فيه صلاح لهم فهو خير، فعليكم أن تصلحوا نفوسهم بالتربية والتهذيب، وأموالهم بالتنمية والتثمير، ولا تهملوا شئونهم فتفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم، ولا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والكسب، فهم إخوانكم في الدين، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء في الملك والمعاش، وفي ذلك منفعة لهم لا ضرر عليهم، إذ كل واحد منهم يسعى في خير الجميع، والمخالطة مبنية على المسامحة، لانتفاء مظنّة الطمع، فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته، ويتحرى له رجحان كفته (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي والله يعلم ما تضمره القلوب، وتميل إليه من قصد الإفساد أو الإصلاح في هذه المخالطة، وسيحاسبكم على الدقيق والجليل من الأمور وإنما نبه القلوب إلى ذكر علمه تعالى، لتلاحظ ذلك حين العمل، وترقب الجزاء على ما تعمل، حتى تأمن الزلل، وتبتعد عن مواطن الشبهة، فشهوة الطمع كثيرا ما تسوّل للانسان أكل مال اليتيم، كما تزين له أكل مال أخيه الضعيف ولا وازع ولا زاجر إلا تقوى الله، ومراقبته في السر والعلن.
وكثير من الأوصياء على الأيتام يظهرون العفّة والزهد في أكل أموالهم، وهم يلتهمونها التهاما، فتراهم بعد قليل أصبحوا من ذوي الثراء، وأجرهم المفروض ليس فيه الغناء.
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي ولو شاء الله أن يكلفكم ما لا تطيقونه من القيام بشئون اليتامى وحفظ أموالهم دون أن يأذن لكم في مخالطتهم لفعل، لكنه لواسع رحمته لا يكلف النفس إلا ما تطيق كما قال: « وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » ومن ثم أباح لكم مخالطتهم ومعاملتهم معاملة الإخوة، وعفا عما جرى العرف به من المسامحة فيه، إذ ذلك لا يستغنى عنه الخلطاء، ووكل أمر ذلك إلى ضمائركم، مع مراقبة من لا تخفى عليه خافية، العليم بالسر والنجوى.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي لو شاء إعناتكم لعزّ على غيره أن يمنعه، ولكن جرت سنته أن يجعل شرائعه جامعة لمصالح عباده، جارية على ما توحى به الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها.
والحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر - أن السؤالين الأولين بينا حال طائفتين من الناس في بذلهم وإنفاقهم للمال فناسب أن يذكر بعدها السؤال عن طائفة هي أحق الناس بالإنفاق عليها، وبذل المال في تربيتها وإصلاح شئونها، وهي جماعة اليتامى، كأنه تعالى يذكرنا بأنه حين مخالطتهم وإصلاح أمورهم يجب أن تكون النفقة من أموالنا، وأنهم من الأصناف التي تستحق أن ينفق عليها من العفو الزائد على حاجتنا، ولا ينبغي أن نعكس ذلك ونطمع في فضول أموالهم.
ومما تقدم تعلم، كيف كانت عناية المؤمنين بأحكام دينهم وحفظ حدوده، وكيف شدد سبحانه في الأمر بشأن اليتامى، فلم يأذن في القيام عليهم إلا بقصد الإصلاح ولا بمخالطتهم إلا مخالطة الإخوة، مع توجيه القلوب إلى مراقبته، والتذكير بإحاطة علمه، ومع كل هذا لا نرى من الأوصياء على اليتامى إلا الفساد والإفساد، دون مراقبة لله في أعمالهم، ومراجعة نفوسهم في أفعالهم، غير ناظرين إلى الوعيد الشديد الذي تقشعر من هوله الصمّ الجلاميد.
[سورة البقرة (2): آية 221]
ولا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
المعنى الجملي
روى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ بعث رجلا من قبيلة غني يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان حليفا لبنى هاشم، إلى مكة ليخرج جماعة من المسلمين أسارى بها. فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته وقالت ويحك يا مرثد ألا تخلو، فقال لها؟ إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرّمه علينا، ولكن إن شئت تزوجتك، فقالت نعم، فقال: إذا رجعت إلى رسول الله ﷺ استأذنته في ذلك، ثم تزوجتك، فقالت له: وأبي، تتبرّم، ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله ﷺ راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها، فقال يا رسول الله: أيحل لي أن أتزوجها؟ فنزلت الآية.
الإيضاح
(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) أي ولا تتزوجوا المشركات اللاتي لا كتاب لهن حتى يؤمنّ بالله ويصدقن بمحمد ﷺ، وقد جاء لفظ المشرك في القرآن بهذا المعنى في نحو قوله: « ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ » وفي قوله: « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ».
والخلاصة - لا تتزوجوا المشركات ما دمن على شركهن.
(وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي ولأمة مؤمنة على ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر، خير من مشركة حرة على مالها من شرف الحرية ونباهة القدر ولو أعجبتكم بحمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها.
إذ بالإيمان يكون كمال دينها، وبالمال والجاه يكون كمال دنياها، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يستطع الجمع بينهما - إلى أنه ربما حصلت المحبة والتآلف عند اتحادهما دينا فتكمل المنافع الدنيوية أيضا من حسن العشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والقيام على الأولاد بتنشئتهم تنشئة قويمة، وتهذيب أخلاقهم حتى يكونوا قدوة لسواهم.
أخرج ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: « لا تنكحوا النساء لحسنهنّ، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهن على الدّين، فلأمة سوداء ذات دين أفضل » وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك » أي افتقرت، وظاهر هذا الأسلوب الدعاء عليه، والمراد الدّعاء له، وهو كثير الاستعمال في كلام العرب.
(وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) أي لا تزوجوهم المؤمنات إلا إذا آمنوا وتركوا ما هم عليه من الكفر، وحينئذ يصيرون أكفاء لهن.
(وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) أي ولمملوك مؤمن مع ما به من الذلة والمهانة خير من مشرك عزيز الجانب مهيب في أعين الناس.
وقصارى ما تقدم - إنه لا يجوز لنا أن نتصل بالمشركين برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوّج منهم، إذ المرأة موضع ثقة الرجل، يأمنها على نفسه وولده ومتاعه، وما كان الجمال وحده ليحقق في المرأة هذا الوصف، فالمشركة لا دين لها يحرّم عليها الخيانة ويأمرها بالخير وينهاها عن الشر، فقد تخون زوجها وتفسد عقيدة ولدها.
أما الكتابيات كالنصرانيات واليهوديات، فقد جاء في القرآن في سورة المائدة النصّ على حلّهن فقال: « وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ » والحكمة في هذا التألف لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا، وسهولة شريعتنا، فالرجل هو القوّام على المرأة وصاحب الولاية والسلطة عليها، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن هذا الدين يدعو إلى الإنصاف في المعاملة وسعة الصدر بين المختلفين في الدين.
وأما زواج الكتابي بالمسلمة فحرام بنص السنة وإجماع المسلمين على ذلك، والسرّ في هذا أن المرأة كما علمت ليس لها من الحقوق مثل ما للرجل، فلا تظهر الفائدة التي تقدمت، إلى أنه بما له عليها من السلطان يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه.
وقد بين علة النهي عن مناكحة المشركين والمشركات بقوله:
(أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إن هؤلاء المشركين والمشركات من دأبهم أن يدعوا إلى كل ما يكون سببا في دخول النار من الأقوال والأفعال - وصلة الزوجية من أقوى العوامل في تأثير هذه الدعوة في النفوس، إذ من شأنها أن يتسامح معها في أمور كثيرة، فربما سري شيء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب من الشبه والتضليل، فالمشركون عبدوا غير الله لكنهم لم يسموا عملهم عبادة، بل أطلقوا عليه الاستشفاع والتوسل، واتخذوا غير الله ربّا وإلها وسمّوه وسيلة وشفيعا، ظنا منهم أن تسمية الشيء بغير اسمه يخرجه عن حقيقته كما قال تعالى: « وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ ».
وإذا كانت مساكنة المشركين مع الكراهة والنفور قد أفسدت الأديان، فكيف بهم إذا اتّخذوا أزواجا، ألا يكون في ذلك الدعوة إلى النار، والسبب في الشقاء والدمار؟
(وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) أي إن دعوة الله التي عليها المؤمنون هي التي توصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه وتوفيقه، فهي بالضد من دعوة المشركين التي توصل إلى النار، لسوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم، وما عليه المؤمنون هو الذي هدت إليه الفطرة، وبلّغه عنه رسله بإذنه، وأرشدوا إليه خلقه.
اعتبر بهذا وانظر إلى ما فتن به كثير من الشبان المصريين من التزوّج بالأفرنجيات والغرام بعشرتهنّ تاركين بنات وطنهم من المسلمات المؤمنات العفيفات، فأفسدن عليهم دينهم ووطنيتهم وقطعن صلة الأرحام ما بين الأزواج وأسرهم، وصارت المعيشة الزوجية في كثير من الأحيان جحيما وغصة وعذابا أليما، حتى اضطر بعضهم إلى الطلاق بعد أن أنفق كثيرا من ثروته وماله، ومن استمر عليها أغضى العين على القذى وباع العرض رخيصا، وفقد الغيرة والنّخوة التي هي أفضل شمائل الرجل، وبها يكون التفاضل بين الرجال، وقلما اهتدت امرأة بزواجها بمسلم فأسلمت، بل لقد عظم الخطب وعمّ البلاء، فسرت العدوى إلى المسلمات المتعلمات الغنيات، فتزوّجن بمن أحببن من رجال الفرنجة بلا مبالاة ولا خشية من دين، ولا خوف من حكومة، ولا وازع من أسرة، وكل هذا من ضعف الوازع الديني، وترك الفضائل الإسلامية التي ينبغي أن تغرس في نفوس النشء إبّان الصبا.
ثم امتنّ عز اسمه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال:
(وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ويوضح الأدلة على أحكام شريعته للناس، فلا يذكر لهم حكما إلا إذا بيّن لهم حكمته وأرشدهم إلى فائدته، والسرّ في تشريعه لعلهم بهذا يعتبرون، فإن الأحكام إذا ذكرت بعللها وأدلتها طبعت في النفوس وتقبلتها على الوجه المرضى، ولم تكن صورا ورسوما تؤدى دون أن تحصل الغاية منها، وهي الإخبات إلى الله، وتهذيب الأرواح وتنقيتها من أدران الذنوب وأكدار المعاصي.
[سورة البقرة (2): الآيات 222 الى 223]
ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
تفسير المفردات
الحيض: لغة السيلان، يقال حاض السيل وفاض، وشرعا: دم ذو أوصاف خاصة يخرج من الرحم في مدة مخصوصة استعدادا للحمل حين المعاشرة الزوجية إبقاء للنوع البشرى، والأذى: الضرر، واعتزال النساء زمن المحيض ترك غشيانهن في هذه المدة، والطهر: انقطاع دم الحيض، والتطهر: هو الاغتسال بالماء إن وجد ولم يمنع منه مانع، أو التيمم خلفا عنه عند الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن طهرت لأقل من عشرة أيام فلا تحل له إلا إذا اغتسلت أو مضى وقت صلاة والدم منقطع، وإن طهرت لأكثر مدته، وهي العشرة حلت له ولو لم تغتسل، والحرث: موضع النبت أي الأرض التي تستنبت، شبهت بها النساء لأنها منبت للولد كالأرض للنبات، أنّى شئتم: أي كيف شئتم من قيام وقعود واضطجاع، وإقبال وإدبار متى كان المأتى واحدا وهو موضع الحرث.
المعنى الجملي
هذا السؤال ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو لاتصالها بما قبلها وما بعدها، إذ كلها في التشريع المختص بالنساء، أما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فهي مختلفة الموضوعات، فجاءت مفصولة على طريق التعداد والسرد. كل هذه الأسئلة جاءت والنبي ﷺ بالمدينة والاختلاط على أتمه بين العرب واليهود، وقد كان اليهود يشددون في مسائل الحيض كما جاء في الفصل الخامس عشر من التوراة، وفيه: أن كل من مسّ الحائض في أيام طمثها يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه بماء ويستحم ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مسّ متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا - إلى نحو ذلك من الأحكام وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام. وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحيّض، ولا يؤاكلونهنّ كما كانت تفعل اليهود والمجوس. وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض، وكانوا مخالطين للعرب في كثير من المواطن، وقد جرت العادة أن الناس لا يتأثمون في أمور الدين إذا كانت تتعلق بلذاتهم وشهواتهم، وفيها منفعة لهم، وقلما يقفون عند حدود الشرائع، فكان هذا الاختلاف الذي يرونه بين أهل الأديان مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة
الإيضاح
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أي ويسألونك عن حكم مخالطة النساء زمن الحيض.
(قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي أجبهم وقل لهم: هو ضرر وأذى، فاتركوا غشيانهنّ في هذه المدة، والسرّ في هذا التأكيد كبح جماح الرغبة في ملابسة النساء ولو وصلت إلى حد الإيذاء، وقد كان بعض الناس يظن أن الاعتزال ترك القرب الحقيقي، لكن السنة بينت أن المحرّم إنما هو الوقاع فحسب، فعن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي ﷺ عن ذلك، فأنزل الله عز وجلّ: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) الآية فقال رسول الله ﷺ: « اصنعوا كل شيء إلا الجماع » رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
وعن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله ﷺ ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: « لك ما فوق الإزار » أي ما فوق السرّة، رواه أبو داود.
وقد جاءت الآية ببيان سبب المنع أوّلا، ثم رتبت عليه الحكم وهو المنع، ليؤخذ بالتسليم والقبول، وليعلم أن الأحكام لم تشرع إلا للمصلحة لا للتعبد كما يرى اليهود.
والخلاصة - إنه يجب ترك غشيان النساء مدة الحيض، لأنه سبب للأذى والضرر، وقد أثبت ذلك الطب الحديث، فقالوا: إن الوقاع في زمن الحيض يحدث الأضرار الآتية:
(1) آلام أعضاء التناسل في الأنثى، وربما أحدث التهابات في الرحم في المبيضين أو في الحوض تضرّ صحتها ضررا بليغا، وربما أدى ذلك إلى تلف المبيضين وأحدث العقم.
(2) إن دخول مواد الحيض في عضو التناسل عند الرجل، قد تحدث التهابا صديديا يشبه السيلان، وربما امتدّ ذلك إلى الخصتين فآذاهما، ونشأ من ذلك عقم الرجل، وقد يصاب الرجل (بالزهرى) إذا كانت جراثيمه في دم المرأة.
وعلى الجملة فقربانها في هذه المدة قد يحدث العقم في الذكر أو في الأنثى، ويؤدى إلى التهاب أعضاء التناسل فتضعف صحتها، وكفى بهذا ضررا، ومن ثمّ أجمع الأطباء المحدثون في بقاع المعمورة على وجوب الابتعاد عن المرأة في هذه المدة كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم خبير.
(فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أي فإذا اغتسلن من دم الحيض فأتوهن من المأتي الذي جبلت النفوس على الميل إليه، ومضت سنة الله بحفظ النوع به، وهو موضع النسل. وفي هذا إيماء إلى أن الشريعة طلبت التزوج وحرّمت الرهبانية، فليس لمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرّب إلى الله تعالى، لأنه سبحانه قد امتنّ علينا بالزواج بقوله: « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وطلب إلينا أن ندعوه بالتوفيق للسرور بالزوجة الصالحة والولد البارّ فقال: « رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ». فالزواج الشرعي وقربان المرأة ابتغاء النسل من أعظم القرب، وتركه مع القدرة عليه وعدم المانع مخالف لناموس الفطرة وسنته تعالى في شريعته. وحين قال عليه الصلاة والسلام: « وفي بضع أحدكم صدقة » قالوا يا رسول الله: يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: « أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر »؟
وقصارى ذلك - إن الإسلام لم يجعل العبادة في تعذيب النفس ومخالفة سنة الفطرة بترك ما أحلّ الله من لذات الدنيا، توهما بأن ذلك مما يرضى الخالق جلّ وعلا.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) أي إن الله يحب الذين يرجعون إليه تائبين غير مصرّين على سيئ أفعالهم، بتغليب سلطان الشهوة على سنة الفطرة حين أتوا نساءهم في المحيض أو في غير المأتي الذي أمر الله به.
(وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي وإنه تعالى يحب كل من نزّه نفسه عن الأقذار، وابتعد عن ارتكاب المنكرات، وهؤلاء أحبّ إلى الله ممن فرطت منهم الزلة ووقعوا في الدنس ثم تابوا (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي لا حرج عليكم في إتيان نسائكم بأى كيفية شئتم ما دمتم تقصدون الاستيلاد في الموضع الطبيعي، فالشارع لا يقصد إلى إعناتكم وحظر اللذة عليكم، بل يريد لكم الخير والمنفعة، ولا يريد المفسدة بوضع الأشياء في غير مواضعها.
وقد جاءت هذه الآية عقب سابقتها، كالبيان لها شارحة وجه الحكمة التي لأجلها شرع غشيان النساء، وهو حفظ بقاء النوع البشرى بالاستيلاد، كما يحفظ النبات بالزرع والحرث، لا لذة المباشرة لذاتها، ومن ثمّ لا يحل لكم أن تأتوا النساء في زمن الحيض حيث لا استعداد لقبول الزرع، ولا في غير المأتى الذي يتحقق به الاستيلاد (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) ما يقدّم للنفس هو ما ينفعها في مستأنف حياتها، ولا شيء أنفع للإنسان في مستقبله من ولد بارّ ينفعه في دينه ودنياه كما جاء في الحديث « إن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه بعد موته » ولا يكون الولد كذلك إلا إذا أحسن والداه تربيته وهذباه وجعلاه ذا خلق عظيم. وهذا يدعو إلى اختيار المرأة الودود الولود، التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها، وتكون قدوة حسنة له، إذ ينشأ وهو يرى فضائلها وجلائل أعمالها فتنطبع صورتها في نفسه، فيشبّ وهو كامل الأخلاق حميد الصفات، كما يختار الزارع الأرض الصالحة التي تؤتي جيد الغلة.
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي واحذروه بأن تخرجوا النساء عن كونهنّ حرثا بإضاعة مادة النسل في الحيض، أو بوضعها في غير موضع الحرث، أو بأن تختاروا المرأة السيئة الأخلاق التي تفسد تربية الأولاد بإهمالها، وسوء القدوة في معاشرتها.
ثم أوعد من يخالفون أمره فقال:
(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي واعلموا أنكم ستلاقون ربكم في الآخرة، فيجازيكم على عصيانه ومخالفة أمره، وتتجرّعون من جراء ذلك العذاب الأليم.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر المؤمنين الذين يقفون عند حدود دينهم، ويتبعون هدى ربهم في أمر النساء والأولاد، فيسعدون بنعيم الدنيا والآخرة فمن يختر لنفسه الزوجة الصالحة، ويحسن تربية ما رزقه الله من الأولاد، يكن قرير العين سعيدا بما يرى من حسن حاله وحال أهله وولده.
أما من تطغى عليه شهواته، فيخرج عن السنن التي شرعها الله لعباده، فإنه لا يسلم من المنغصات في هذه الحياة، وهو في الآخرة أتعس حالا وأضلّ سبيلا. فالسعادة كل السعادة في تكميل النفس بصادق الإيمان وفاضل الأخلاق، واطمئنان القلب عند الفرح والحزن، ولدى السرور والهم، وتسليم الأمر إلى خالق الخلق ومدبر أمرهم بعد أخذ الأهبة، وكمال العدّة، وهذا هو التوكل الذي أمرنا به.
[سورة البقرة (2): الآيات 224 الى 227]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
تفسير المفردات
العرضة كالغرفة: المانع المعترض دون الشيء، والمراد من الأيمان الأمور المحلوف عليها، كما جاء في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه »
واللغو: ما يقع في حشو الكلام من الأيمان من غير قصد ولا رويّة كقول الإنسان: إي والله، ولا والله، فهذا ونحوه يسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد به عقد اليمين، فلا يؤاخذ الله به بفرض كفارة ولا بعقاب، حتى لا يكون في ذلك حرج على المؤمنين. والإيلاء: لغة الحلف، وشرعا حلف الرجل ألا يقرب امرأته إما لمدة معينة أو غير معينة كأن يقول: والله لا أقربك أربعة أشهر، أو لا أقربك، والتربص: الانتظار، وفاءوا: أي رجعوا إلى نسائهم، وعزموا الطلاق: أي صمّموا في قصده، وعزموا ألا يعودوا إلى ملامسة نسائهم.
المعنى الجملي
بعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره - ذكر هنا أن مما يتّقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعا من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس.
وقد روى ابن جرير أن سبب نزول الآية أن أبا بكر حلف ألا ينفق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك بافترائه على عائشة، وقد كان من ذوي قرابته، وفيه نزل: « وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى » الآية.
كذلك بين أنه لا يؤاخذ باليمين اللغو فلا يعاقب عليها ولا يفرض فيها كفارة، كما أرشد إلى أن من آلى من امرأته ينتظر عليه مدة أربعة أشهر، وبعدها إما أن يرجع إليها ويحنث في اليمين، وإما أن يطلق.
الإيضاح
(وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أي ولا تجعلوا الحلف بالله مانعا لما حلفتم على تركه من عمل البر، فتتركوه تعظيما لاسمه، فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجابا دون الخير، فكثيرا ما يسرع الإنسان إلى الحلف بألا يفعل كذا ويكون خيرا، أو أن يفعل كذا ويكون شرا، فنهانا الله عن ذلك وأمرنا بتحرى وجوه الخير، فإذا حلفنا على تركها فلنفعلها ولنكفر عن اليمين بما سيأتي في سورة المائدة.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما تلفظون به، عليم بنواياكم، فعليكم أن تراقبوه في السر والعلن، وتراقبوا حدود شرائعه لتكونوا من المفلحين.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد والتهديد.
(لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي لا يؤاخذكم بما يقع منكم من الأيمان في حشو الكلام دون أن تقصدوا به عقد اليمين، فلا يفرض عليكم فيه كفارة ولا يعاقبكم به.
(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي ولكن يؤاخذكم بالكفارة أو العقوبة بما نوت قلوبكم وقصدته من اليمين، حتى لا تجعلوا اسمه الكريم عرضة للابتذال، أو مانعا من صالح الأعمال.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فيغفر لعباده ما ألموا به من الذنوب، ولا يتعجلهم بالعقوبة، ولم يكلفهم ما يشق عليهم مما لم تقصده قلوبهم، ولا يدخل تحت سلطان الاختيار.
وبعد بيان أحكام اليمين العامة انتقل إلى حكم يمين خاصة هي يمين الإيلاء فقال:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم أن ينتظروا مدة أربعة أشهر دون أن يطالبوا بالرجوع إلى نسائهم أو بالطلاق.
والحلف على هذا الوجه حلف بما لا يرضى الله تعالى، لما فيه من ترك التوادّ والتراحم بين الزوجين، ولما يترتب عليه من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما، ولما فيه من امتهان المرأة وهضم حقوقها.
وقد كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها أبدا، ويتركها لا هي أيّم ولا هي ذات بعل، وكان المسلمون في ابتداء الإسلام يفعلون مثل هذا، فأزال الله ذلك الضرر عنهنّ، وضرب للزوج مدة يتروّى فيها، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارّة فعله، وإن رأى المصلحة في المفارقة فارقها.
(فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن رجعوا إلى نسائهم وحنثوا في اليمين وقاربوهنّ في أثناء هذه المدة أو في آخرها، فإن الله يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة، لأن الفيئة توبة في حقهم، فيغفر لهم إثم حنثهم عند التكفير.
(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي وإن عزموا ألا يعودوا إلى ملامسة المرأة، وثبتوا على ترك القربان حتى مضت المدة، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنياتهم، فليراقبوه فيما يفعلون، فإن كانوا يريدون بذلك إيذاء النساء ومضارتهنّ فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربيتهنّ لإقامة حدود الله، وعلى الطلاق اليأس من إمكان العشرة، فالله يغفر لهم.
وخلاصة ذلك - إن من حلف على ترك غشيان امرأته، لا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر، فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعين عليه أحد أمرين: الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق، وعليه أن يراقب الله فيما يختاره منهما، فإن لم يطلق بالقول كان مطلقا بالفعل: أي إنها تطلق منه بعد انتهاء تلك المدة رغم أنفه.
وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق، إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة، وذكّر المولى بسمعه لما يقول، وعلمه بما يسرّه في نفسه ويقصده من عمله.
هذا حكم الإيلاء إذا أطلقه الزوج ولم يذكر زمنا أو ذكر أكثر من أربعة أشهر، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر، فلا يلزمه شيء إذا أتمها.
[سورة البقرة (2): آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
تفسير المفردات
يراد بالمطلقات هنا الأزواج اللاتي يعهد في مثلهنّ أن يطلقن، وأن يتزوجن بعد ذلك، وهنّ الحرائر ذوات الحيض بقرينة ما قبلها وما بعدها من ذكر التربص بالزواج، ولأنهنّ المستعدات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزواج.
أما من لسن كذلك كاليائسات، فليس من شأنهنّ أن يطلقن، إذ من أمضى مدة الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض، فأدب الشرع وداعي الفطرة يحتمان عليه أن برعى عهدها ويحفظ ودعا - إلى أنّ مثل هذه لو طلقت فقلما تتزوج بعد، والتي لم تبلغ الحلم لا تكاد تتزوّج، ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة، فيندر أن يتحوّل عنها فيطلقها.
والتربص: الانتظار، والقروء: واحدها قرء (بضم القاف وفتحها) يطلق تارة على حيض المرأة وأخرى على طهرها، ومن ثم قال الحنفية والحنابلة المراد به الحيض، وقال المالكية. والشافعية المراد به الطهر، وما في أرحامهنّ يشمل الولد والحيض والبعولة واحدهم بعل وهو الزوج، والمراد بالدرجة هنا ما جاء في قوله: « الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ».
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة أن المولى إما أن يفىء ويرجع إلى معاشرة زوجه، وإما أن يعقد العزم على الطلاق بترك القربان - ناسب أن يذكر بعدئذ شيئا من أحكام الطلاق ليكون كالتتمة لما سبق.
الإيضاح
(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي وحرائر النساء اللاتي يطلقن وهنّ من ذوات الحيض، فلسن يائسات انقطع عنهنّ الحيض، ولا صغيرات لم يصلن إلى سن الحيض - ينتظرن ثلاث حيض بعد الطلاق حتى يتزوّجن، ليظهر أنهنّ غير حوامل. وفي قوله بأنفسهنّ إشارة إلى أنه يجب عليهنّ أن يملكن رغبتهنّ في الزواج. ويكبتن جماح شهواتهنّ إلى إتمام تلك المدة وإلى أن هذه الرغبة مما تنطوي عليها نفوس النساء، وإلى أنهنّ يستطعن امتلاكها والتربص اختيارا، إلى ما في هذا من التعظيم والتبجيل لهنّ إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا.
ثم بين سبحانه حكمة هذا التربص بالزواج ضمن حكم آخر فقال:
(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) أي ولا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق الله في الأرحام من ولد إذا علمن به، أو حيض ليطلن عدتهنّ، وقد فشا ذلك الآن في المطلقات اللاتي لا يجدن الأزواج، لأن القضاة يفرضون لهنّ النفقة ما دمن في العدة، فهنّ يكتمن الحيض جهد المستطاع استدامة لهذه النفقة، وقد جرت المحاكم الآن على أن تكون أقصى العدة سنة قمرية كما هو رأي الإمام مالك رضي الله عنه.
وكانت المرأة في الجاهلية تتزوج أحيانا بعد فراق رجل ثم يظهر أنها حبلى من الأول، فتلحق الولد بالثاني، فلما جاء الإسلام حرّم هذا لما فيه من ضروب الغش والبهتان بنفي الولد عن قوم هو منهم وإلحاقه بمن ليس منهم، وأمر أن تعتد بعد فراق زوجها لتظهر براءة الرحم من الحمل.
(إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إذا كن صادقات في الإيمان بالله الذي أنزل الحرام والحلال لمصلحة عباده، وباليوم الآخر الذي يجازى فيه كل عامل على ما عمل، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ، إذ التصديق بأن في اتباع هذا المثوبة والرضوان، وفي تركه الشقاء والخسران، يقتضى الامتثال مع التعظيم والإجلال، ولا يخفى ما في هذا من التهديد الشديد والوعيد.
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحًا) أي إن بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى العصمة الأولى في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة، أما إذا قصد من المراجعة مضارتها ومنعها من التزوج حتى تكون كالمعلقة، فلا هو يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى، ولا يمكّنها من التزوج بغيره، فهو آثم بينه وبين ربه بهذه المراجعة.
والخلاصة - إنه لا يباح للرجل أن يردّ مطلقته إلى عصمته إلا إذا أراد إصلاح ذات البين، ونية المعاشرة بالمعروف وإنما كان أحق بردها، لأنه بعد الطلاق قلّما يرغب فيها الرجال، ولأنه قد يندم على طلاقها، ويرغب في مراجعتها، ولا سيما إذا أنجبا أولادا فتتغلب عاطفة تربيتهم وكفالتهم بين الزوجين على عاطفة الغضب العارضة، وهذا الطلاق الذي يملك فيه الرجل حق المراجعة ما دامت المرأة في العدة يسمى طلاقا رجعيا، ولا يحتاج فيه الرجل إلى رأي المرأة وإذنها - وسيأتي ذكر الطلاق البائن الذي لا تحل مراجعة المطلقة بعده إلا بعقد جديد برضا الزوجة أو الزواج بغيره.
ولما كانت إرادة الإصلاح بردّ المرأة إلى العصمة، إنما تؤتى ثمرها إذا قام كل منهما بالحقوق التي ينبغي عليه أن يؤديها، ذكر ذلك سبحانه بعبارة هي على إيجازها تعتبر دستورا في معاملة كل من الزوجين للآخر - وهو مساواة الرجل للمرأة في سائر الحقوق إلا أمرا واحدا فقال:
(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي إن للرجل حقوقا وعليه واجبات يؤديها للمرأة، وللمرأة مثل ذلك. بيان هذا أن الحقوق والواجبات التي على كل منهما للآخر موكولة إلى اصطلاح الناس في معاملاتهم وما يجرى عليه العرف بينهم، وتابعة لشرائعهم وآدابهم وعاداتهم، فإذا طلب الرجل منها شيئا تذكر أنه يجب عليه شيء آخر بإزائه، ومن ثم أثر عن ابن عباس أنه قال: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية.
والمراد بالمماثلة أن الحقوق بينهما متبادلة متكافئة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متساويان في الشعور والإحساس والعقل، فليس من العدل ولا من المصلحة أن يتحكم أحد الجنسين في الآخر ويستذله، لأن الحياة المشتركة بينهما لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه.
وهذه الحقوق أجملها النبي ﷺ فيما قضى به بين بنته وصهره، فقضى على ابنته بخدمة البيت، وعلى علي بما كان في خارجه من الأعمال.
وهذا ما تحكم به الفطرة في توزيع الأعمال بين الزوجين، فعلى المرأة تدبير شئون المنزل والقيام بحوائج المعيشة، وعلى الرجل السعي والكسب في خارجه، وهذا لا يمنع من استعانة كل منهما بالخدم والأجراء حين الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه، كما لا يمنع من مساعدة كل منهما للآخر في عمله حين الضرورة، يرشد إلى ذلك
قوله تعالى: « وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ ».
والخلاصة - إن الإسلام رفع النساء إلى درجة لم يرفعهنّ إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع الماضية، بل لم تصل إليها أمة من الأمم التي بلغت شأوا بعيدا في الحضارة والمدنية، فهي وإن بالغت في تكريم النساء واحترامهنّ وتعليمهنّ العلوم والفنون، لا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من التصرف في مالها بدون إذن زوجها.
وقد أعطى الإسلام هذه الحقوق للمرأة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، وكانت في أوربا من نحو مائة سنة تعامل معاملة الرقيق كما كانت في الجاهلية، أو أسوأ منها حالا.
ومن العجب العاجب أن الفرنجة الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن المرأة، يفخرون علينا ويرموننا بالوحشية في معاملتها مدّعين أن ذلك هو أثر التعاليم الدينية، ولكن لهم بعض العذر في ذلك بما يرون عليه المسلمين في معاملتهم للنساء بحكم العادة والجهل بفقه الشريعة وعدم النظر إلى ما كان عليه الصدر الأول من المسلمين في معاملتهن.
وأما الدرجة التي للرجال عليهن فهي الرياسة، والقيام على المصالح كما فسرتها الآية: « الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ».
فالحياة الزوجية حياة اجتماعية تقتضى وجود رئيس يرجع إليه حين اختلاف الآراء والرغبات، حتى لا يعمل كل ضدّ الآخر، فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختلّ النظام، والرجل هو الأحق بهذه الرياسة، لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوّته وماله، ومن ثم كان هو المطالب بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي المطالبة بطاعته فيما لا يحرّم حلالا، ولا يحلل حراما، فإن نشزت عن طاعته كان له حق تأديبها بالوعظ والهجر في المضاجع، والضرب غير المبرّح، كما يجوز مثله لقائد الجيش وللسلطان لمصلحة الجماعة.
أما الاعتداء عليها للتشفى من الغيظ أو لمجرد التحكم فهو ظلم لا يقره الدين بحال كما ورد في الحديث عن ابن عمر من قوله ﷺ: « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها ».
ولا شكّ أن من موجبات هذه الرياسة التي للرجال أن يعلموهنّ ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن من الواجبات، ومعرفة ما لهن من الحقوق، ويعلموهن عقائد الدين وآدابه، وما يجب عليهن لتربية أولادهن، ومعاملتهن للناس.
ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فتمريض المرضى ومداواة الجرحى كان فيما مضى أمرا سهلا، لكنه الآن يحتاج إلى تعلم علوم وفنون متعددة وتربية خاصة فتحت لأجلها مدارس تعدّ لها. وأي الأمرين أفضل في نظر الدين والعقل، أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرّضة أجنبية تطّلع على ما لا يحل لها أن تنظر إليه إلا للضرورة، وتنكشف على مخبآت بيته؟ وهل تستطيع أن تفعل ذلك إذا كانت جاهلة بالقوانين الصحية غير عارفة بأسماء الأدوية؟ وهل يمكن الأم الجاهلة أن تعلم أولادها شيئا نافعا لهم قبل ذهابهم إلى المدرسة؟ أو هي تحشو أدمغتهم بخرافات وأوهام تسىء إليهم في مستأنف حياتهم عند ما يصيرون رجالا في المجتمع، ولله درّ حافظ إبراهيم حين يقول:
الأمّ مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فمن عزته وحكمته أن أعطى المرأة من الحقوق مثل ما أعطى الرجل بعد أن كانت كالمتاع لدى جميع الأمم، وفي اعتبار كل الشرائع، وأن أعطى الرجل حق الرياسة عليها، ومن لم يرض بهذا يكن منازعا لله في عزّته وسلطانه، ومنكرا لحكمته في أحكامه. ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لمن خالف ما فرض الله وقدره من الأحكام.
[سورة البقرة (2): آية 229]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
تفسير المفردات
الطلاق اسم بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، ومرتان: أي دفعتان، والإمساك بالمعروف أن يراجعها لا على قصد المضارة، بل على قصد الإصلاح وحسن المعاشرة، والتسريح بإحسان أن يوقع الطلقة الثالثة ويؤدى لها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة، والجناح: الإثم، والاعتداء تجاوز الحد في قول أو فعل، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
المعنى الجملي
كان للعرب في جاهليتهم طلاق وعدة للمرأة ومراجعة في العدة، لكن لم يكن للطلاق حدّ ولا عدد، فإن كان الطلاق لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع زوجه واستقامت بينهما العشرة، وإن كان لمضارة الزوجة راجعها قبل انقضاء العدة، واستأنف طلاقا جديدا، وهكذا يفعل المرة تلو المرة أو يفىء وتسكن ثورة غضبه، فكانت المرأة ألعوبة في يد الرجل يضارها بالطلاق أنّى شاء. فلما جاء الإسلام أصلح مما أصلح من شئونهم الاجتماعية أمور الزوجية والطلاق والرجعة.
أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت: « كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي ﷺ فسكت حتى نزلت الآية « الطلاق مرتان »...
الإيضاح
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي إن التطليق الشرعي الذي حده الله للطلاق ولم يخرج به العصمة من أيدي الرجال هو مرتان: أي طلقتان تحلّ بكل منهما العصمة ثم تبرم، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام كما قال بذلك جمع من الصحابة، منهم عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري، ويؤيده حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال له: « إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلّق لكل قرء تطليقة ».
فالطلاق الذي يثبت للزوج فيه حق المراجعة هو أن يوجد طلقتان فقط، أما بعد الطلقتين بأن وجدت الثلاث فلا يثبت للزوج حق الرجعة البتة، ولا تحل له المرأة إلا بعد زواج آخر.
(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي ليس لكم بعد المرتين إلا أحد الأمرين، الإمساك بالمعروف أو الطلاق بإحسان، ويؤيد هذا حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داود وغيره، أنه سأل النبي ﷺ سمعت الله تعالى يقول: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فأين الثالثة؟ فقال ﷺ: أو تسريح بإحسان.
فقوله تعالى بعد هذا « فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ » بيان لهذا. فإن اختار التسريح فطلقها بانت منه ولا تحل له حتى تتزوّج زوجا غيره.
والخلاصة - إن الرجل إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها، يجوز له أن يراجعها من غير رضاها ما دامت في العدة، فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، أو طلقها قبل الدخول بها، فلا تحل له إلا بعقد جديد بإذنها، فإن طلقها ثلاثا فلا تحل له ما لم تتزوّج زوجا غيره ويصبها.
والحكمة في إثبات حق الرجعة - أن الإنسان لا يحس بخطر النعمة وجليل قدرها إلا إذا فقدها، وربما ظهرت المحبة للمرأة بعد فراقها، أو استبانت له الحاجة إليها وعظمت المشقة عليه في تركها والبعد عنها، ويندم على ما فرط منه في شأنها - وقد تكون المرأة سادرة في كبريائها وخيلائها، ولا تؤدى ما ينبغي للرجل من الحقوق والواجبات، فإذا هي طلقت تذكرت مصار خطئها، وأحست بما كان فيها من عيوب في المعاملات الزوجية والشؤون المنزلية، وتمنت أن لو كانت لها عودة تمكنها من إصلاح ما سلف منها - فإذا أبيح لها العودة إلى الحياة الزوجية كان في هذا فرصة في استدراك ما فات، والعمل على الطريق السوي فيما هو آت وقد يحدث أحيانا أن يرجع الرجل سيرته الأولى من المشاكسة والمغاضبة وسوء الخلق، أو يحدث من الزوجة ما يدعو إلى الفراق ثانية فيطلقها حين حدة الغضب مرة أخرى، ثم يرى أنه كان بما عمل في غواية وضلالة، وأنه لا يطيق البقاء بعيدا عنها، إذ أن أولاده لا تستقيم شئونهم إلا بوجودها فأبيح له العودة مرة أخرى، فإذا هو عاد الثالثة استبان أن رباط الزوجية قد وهن، وأن العشرة أصبحت في خطر، وأن بقاءهما زوجين ربما جرّ إلى ما لا تحمد عقباه من الإساءة إليها في نفسها أو في مالها أو في عرضها، فيجدر أن يكون الفراق لا رجعة بعده، مع أدائه ما لها عليه من حقوق مالية، وفاء بحقوق العشرة السالفة التي كانت فيها المودة والرحمة بينهما، حين كان يسكن إليها وتسكن إليه، ومن ثم ينبغي له ألا يذكرها بسوء في نفسها أو في عرضها وعفتها حتى لا ينفر الناس منها إذا هي أرادت أن تتزوج بسواه، وفي هذا منتهى المروءة والوفاء لذلك الرباط الوثيق الذي كان بينهما، وحل الزوج وثاقه بطلاقها.
وفي هذا التشريع بذلك التدريج منتهي الرأفة والسجاحة في تلك الشئون الاجتماعية التي يترتب عليها صلاح الأسرة وحسن تهذيب الأولاد، وتثقيف عقولهم والحدب عليهم بإشراك الوالدين في تقويم المعوج وتعهدهما لهم بالرعاية الأبوية التي لن تكون كاملة إلا إذا قام كل من الوالدين بقسط منها.
وبعد أن فرض سبحانه الإحسان على من اختار التسريح حرّم على الرجال أخذ شيء من مال المرأة فقال:
(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) أي ولا يحل لكم أن تأخذوا منهنّ بإزاء الطلاق شيئا مما أعطيتموهنّ على سبيل التمليك مهرا كان أو غيره، بل يجب عليكم أن تمتعوهنّ بشىء من المال زائدا على ذلك كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا ».
وإنما نصّ سبحانه على ذلك وإن كان هذا يفهم من الأمر بالإحسان إليهن حين التسريح، لمزيد العناية بأمر النساء، وللتأكيد في تحذير الرجال الأقوياء من ظلم النساء الضعفاء وهضم حقوقهن كما تومئ إلى ذلك الآية الكريمة: « وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا » وهذا الحكم فيما إذا اختار الزوج الفراق ورغب عنها، فإن كانت هي الطالبة لفراقه وتوسلت إلى ذلك بالنشوز وسوء العشرة لكراهتها إياه أو لسوء خلقها، لا لمضارته إياها فلا جناح عليه فيما يأخذه منها لإطلاق سراحها، إذ لا يكلف خسارة امرأته وماله بغير ذنب جناه، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) ألا يقيما أي ألا يراعيا، وحدود الله هي أحكامه التي شرعها للزوجين من حسن العشرة والمماثلة في الحقوق مع ولاية الرجل عليها، والتعاون على القيام بتدبير المنزل وتربية الأولاد بما يصلح حالهم في دينهم ودنياهم، وعدم المضارة التي أشار إليها بقوله: « وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ». فإن خافا ذلك بأن خافت المرأة أن تعصى الله في أمر زوجها بأن تجحد نعمة العشرة أو تخونه، أو خاف الرجل أن يزيد على ما شرعه الله في مؤاخذة الناشز، فالحكم ما ذكره بقوله:
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الخطاب في مثل هذا للأمة لأنها متكافلة في المصالح العامة، وأولو الأمر هم المطالبون أولا بالقيام بهذه المصالح، والحكام وسائر الناس رقباء عليهم، أي إذا خافا عدم إقامة حدود الله التي سنها للزوجين فلا إثم عليهما فيما تعطيه المرأة للرجل لتفتدى به نفسها وتطلق منه، ولا على الرجل في أخذه لأجل ذلك، لأنه برضاها واختيارها بدون إكراه منه ولا مضارة لها بل هي الحافزة عليه.
روى البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ابن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله ثابت ابن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضا وأكره الكفر في الإسلام (تريد كفران نعمة العشير وخيانته) قال: أتردّين عليه حديقته؟ (وكان قد أصدقها إياها) قالت نعم: قال اقبل الحديقة وطلقها تطليقة.
وهذا الفراق الذي يبنى على الافتداء يسمى خلعا وعدّته كعدة المطلقة.
ثم ختم الآية بوعيد من يخالف هذه الأحكام فقال:
(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها) أي هذه الأوامر والنواهي المتقدمة هي الحدود التي حدها الله في المعاملات الزوجية، فلا تتجاوزوا ما أحله لكم إلى ما حرمه عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه.
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وفعل ما لا ينبغي فعله، والظلم مخرّب للعمران، مبيد للأمم، ولا سيما ظلم الأزواج للأزواج، إذ الرابطة التي بينهما أمتن الروابط وأحكمها، فأى رجاء في الأمة إذا انحلت فيها عرا تلك الرابطة، وهي أشد الروابط تماسكا.
وإنا لنشاهد الآن ما يدمى له القلب أسى وحسرة من انفصام روابط الزوجية بحال لم تعهد في أي عصر من عصور الإسلام، إذ هتك النساء حجاب الصيانة والحياء، وأسرفن في التبرّج والاختلاط بالرجال، وكثر الطلاق، وقلّ الزواج، وعمت الشكوى من هذه الفوضى الخلقية، ونبذ آداب الدين والفضيلة، وشعر العقلاء بسوء المغبة بعد أن فاتت الفرصة، وندموا ولات ساعة مندم.
وقد جاء في السنة الحث على ترك الطلاق، وحظره في غير ضرورة، فمن ذلك حديث ثوبان عند أحمد والترمذي والبيهقي قال: قال رسول الله ﷺ « أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة » وقال: « المختلعات هنّ المنافقات ».
[سورة البقرة (2): آية 230]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
الإيضاح
(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) أي فإن طلقها بعد المرتين المذكورتين في قوله: « الطَّلاقُ مَرَّتانِ » وهذه التطليقة هي المعبّر عنها فيما سلف بقوله: « أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلا إذا تزوجت بزوج آخر زواجا صحيحا مقصودا مع غشيان الثاني لها كما بينته السنة. فقد روى الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله ﷺ فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقنى فبتّ طلاقى، فتزوجنى عبد الرّحمن ابن الزّبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي ﷺ وقال: « أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك » (يعني بالعسيلة أقل ما يكون من تغشى الرجل بالمرأة).
والحكمة في اشتراط ذلك أن الرجل متى علم أن المرأة لا تحل له بعد الطلاق ثلاثا إلا إذا نكحت زوجا غيره، ولعله عدوه - يرتدع ويزدجر، لأن هذا مما تنفر منه الطباع السليمة ويأباه ذوو الغيرة والمروءة.
والآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثا ما كان زواجا صحيحا عن رغبة مقصودة لذاتها، فمن تزوج بامرأة بقصد إحلالها للزوج الأول كان زواجه غير صحيح ولا تحل به المرأة للأول إذا هو طلقها، وهو معصية لعن الشارع فاعلها، وبهذا قال مالك وأحمد والثوري - وقال جماعة من الفقهاء: هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط ذلك في العقد.
روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: « ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له ».
وروي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله ﷺ عن المحلل فقال: لا، إلا نكاح رغبة لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العسيلة.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك، فقال: كلاهما زان. وسأل رجل ابن عمر فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله ﷺ.
وسئل ابن عباس عمن طلّق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخدع الله يخدعه.
ومن هذا ترى أن حكم السنة ورأى كبار الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، لعن المحلل والمحلل له، لكن قد فشت هذه الرذيلة بين الأشرار الذين اتخذوا الطلاق عادة، وجعلوا دينهم هزوا ولعبا، حتى صار الإسلام يعاب بمثل هذا، وما عيبه إلا بفعلهم.
(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أي فإن طلقها الزوج الثاني فلا حرج عليه ولا على المرأة أن يتراجعا، ويكون هو أحق بها من الزوج الأول، ولكن بعد تحقق الشرط الذي بينه الله بقوله:
(إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) أي إن ترجح لدى كل منهما أن يقوم بحق الآخر على الوجه الذي حده الله من حسن العشرة وسلامة النية، ليصلح حالهما ويستقيم أمرهما.
فإن خافا حين المراجعة نشوزا منها أو إضرارا منه، فالرجوع ممقوت عند الله وإن صح عند القاضي.
(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن هذه الأحكام بينها الله على لسان نبيه في كتابه الكريم لأهل العلم بفائدتها، ومعرفة ما فيها من المصلحة، ليعملوا بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة والمنفعة، لا لمن يجهلون ذلك، فلا يجعلون لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في العمل، فيرجع أحدهم إلى المرأة وهو يضمر لها السوء ويبغى الانتقام منها.
[سورة البقرة (2): آية 231]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
تفسير المفردات
يقال بلغ البلد: إذا وصل إليه، ويقال أيضا بلغه إذا شارفه ودنا منه، يقول الرجل لصاحبه: إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى، يريد دنوت منها، لأن ذا طوى قبلها، والأجل يطلق على المدة كلها وعلى آخرها، فيقال لعمر الإنسان أجل وللموت الذي ينتهى به أجل، والمراد هنا زمن العدة، والمراد بالإمساك المراجعة، والمعروف ما ألفته العقول واستحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة، والمراد بالتسريح ترك المراجعة حتى تنقضى عدتها والضرار الضرر، والاعتداء الظلم، وآيات الله هي آيات أحكام الطلاق والرجعة والخلع ونحو ذلك، وهزوا أي مهزوءا بها بالإعراض عنها، والتهاون في المحافظة عليها، لقلة الاكتراث بالنساء وعدم المبالاة بهن، ونعمة الله هي الرحمة التي جعلها بين الزوجين، وما أنزل عليكم من الكتاب أي من آيات أحكام الزوجية التي تحفظ لكم الهناء في الدنيا والسعادة في الآخرة، والحكمة هي سرّ تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن فيما سلف كيفية الطلاق المشروع وعدده بقوله: « الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » وأن الأصل فيه أن يكون بلا عوض بقوله: « ولا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا »، وأن أخذ العوض لا يحل إلا بشرط ذكره بقوله: « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ».
ذكر هنا ما يجب في معاملة المطلقات، ونهى عن ضده، وتوعد على فعل ذلك الضد، وأرشد إلى المصلحة والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والانتهاء عن ذلك النهي
الإيضاح
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي وإذا طلقتم النساء فقار بن إتمام العدة، فاعزموا أحد الأمرين، إما إمساك المرأة بالمراجعة، أو إطلاق سبيلها بالمعروف الذي شرع لكم في الآية: « الطَّلاقُ مَرَّتانِ ».
وإنما فسرنا بلوغ الأجل بقرب إتمام العدة، لأن الأجل إذا انقضى حقيقة لم يكن للزوج حق إمساكها بالمعروف، إذ هي غير زوجة له، وفي غير عدة منه.
ثم أكد الأمر بالإمساك بالمعروف ووضح معناه بقوله:
(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا) أي ولا تراجعوهن مريدين مضارتهن وإيذاءهن بالحبس وتطويل العدة لتلجئوهن إلى افتداء أنفسهن كما كانوا يتعاطونه في الجاهلية، روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، ثم يفعل ذلك ليضارّها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية.
وعن السدي قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، ثم راجعها ثم طلقها مضارة لها فأنزل الله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا).
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي ومن يفعل ذلك الإمساك المؤدى إلى الظلم فقد ظلم نفسه في الدنيا بسلوك طريق الشر وإقلاق راحة الضمير بالاعتداء، وبمناصبة المرأة وأسرتها العداء فيتألبون عليه وينفرون منه حتى يوشك ألا يصاهره أحد، كما ظلم نفسه في الآخرة بمخالفة أمر الله وتعرضه لسخطه.
(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُوًا) أي ولا تتهاونوا بحدود الله التي شرعها لكم في دينه جريا على سنن الجاهلية، فإن التهاون بعد هذا البيان والتأكيد يعدّ استهزاء بها. وفي هذا وعيد شديد وتهديد لمن يتعدى هذه الحدود، وفيه حث للمسلمين على احترام صلة الزوجية والبعد عما كانوا يفعلونه في الجاهلية، إذ كانوا يتخذون هذه الصلة لعبا ويعبثون بطلاقهن ويمسكونهن عبثا. فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت ويعتق، ثم يقول لعبت فأنزل الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُوًا) فقرأها رسول الله ﷺ وقال « ثلاث جدّهن جد وهزلهنّ جدّ: الطلاق والنكاح والرجعة ».
(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) أي وتذكّروا ما أنعم به عليكم من الرحمة التي جعلها بين الزوجين، وبها امتنّ علينا في قوله: « ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » ومن جعل النكاح والطلاق والرجعة بأيدينا، وعدم التضييق في عدد النساء كما ضيق على من سبقنا إذ أحل لهم امرأة واحدة ولم يحلّ لهم بعد موت المرأة زواج أخرى، وبما أنزل به عليكم من آيات أحكام الزوجية التي تجعلكم في هناء في الدنيا وسعادة في الآخرة، ومن الحكمة في سنّ تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح، إذ معرفة التشريع مع حكمته هي التي تحدث العبرة والعظة الباعثة على الامتثال.
وقد ذكّرنا سبحانه بنعمته علينا أن ممكننا من إقامة الصلة الزوجية على أتمّ نظام، وأن هدانا بهذا الدين القويم وحدّ لنا الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها، وأيدها بالمواعظ التي تهدى إلى اتباعها. بيد أن الناس قد أعرضوا عن هذه النعم ففسدت بينهم تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة غرورهم بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفر النساء نعمة الرجال وتمادين في ذمهم والتبرم بهم، وقلد الناس بعضهم بعضا في ذلك.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) بامتثال أمره ونهيه في أمر النساء وتوثيق الصلة الزوجية، وترك ما ألف الناس من عدم المبالاة بعقد الزوجية الذي كانوا يرونه كعقد الرق والإجارة في المتاع الخسيس، بل كانوا يرونه دون ذلك، إذ كانوا يطلقون المرأة لأتفه سبب، ثم يعودون إليها، يفعلون ذلك المرة بعد المرة للضرار والإهانة.
فاعتياد المعاملة السيئة والأنس بها لا يقاوم إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة في تأكيده بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد.
نعم، كان لذلك أحسن الأثر في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، ثم خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام، حتى صاروا شرا مما كان عليه أهل الجاهلية من ظلم النساء ومعاملتهن بالقسوة دون مراعاة لما أمر به الدين على لسان سيد المرسلين.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء مما يسرّه العبد أو يعلنه، وهو لا يرضى إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه، مع الإخلاص وحسن النية، حتى يكون الباطن كالظاهر في الخير، ولا يتم ذلك إلا بمراقبة الله في العمل، والإخلاص له في السر والعلن، والعلم بأنه تعالى المطلع على كل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
[سورة البقرة (2): آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)
تفسير المفردات
البلوغ الانتهاء، والأجل هنا آخر المدة المضروبة لانقضاء العدة لا قربها كما في الآية التي قبلها، لأن الإمساك بالمعروف والتسريح لا يتأتي بعد انقضاء العدة إذا انقضاؤها إمضاء للتسريح فلا محل معه للتخيير، والتخيير يستمر إلى قرب الانقضاء والمذكور هنا النهي عن العضل وإجازة النكاح، وهذا لا يكون إلا بعد انقضاء العدة، ومن ثم أثر عن الشافعي أنه قال: دل السياق على افتراق البلوغين، والعصل الحبس والتضييق، والعظة النصح والتذكير بالخير على وجه يرقّ له القلب ويبعث على العمل، والزكاء النماء والبركة.
الإيضاح
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله. إذا طلقتم النساء وانقضت عدّتهن، وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردن هنّ ذلك، فلا تمنعوهن من الزواج، إذا رضى كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجا، وكان التراضي في الخطبة بما هو معروف شرعا وعادة، بألا يكون هناك محرّم ولا شيء يخلّ بالمعروف ويلحق العار بالمرأة وأهلها.
وفي قوله « بينهم » دليل على أنه لا مانع أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها، ويتفق معها على التزوج بها، ويحرم حينئذ على الولي أن يعضلها ويمنعها من الزواج.
كما أن في قوله « بالمعروف » دليلا على أن العضل من غير الكفء غير محرم، كأن تريد الشريفة في قومها أن تتزوج برجل خسيس يلحقها منه عار، ويمسّ كرامة قومها منه أذى، وحينئذ ينبغي أن تصرف عنه بالنصح والعظة.
وأجاز بعضهم العضل إذا كان المهر دون مهر المثل، ولكن الذي ينبغي التعويل عليه أنه إذا كان الرجل حسن السيرة يرجى منه صلاح المعيشة الزوجية، ويعسر عليه دفع المهر الكثير والنفقات الأخرى للزواج - لا يجوز العضل بل يجب تزويجه.
والمدار في الكفاءة على العرف القومي لا على تقاليد بيوت ذوي الشرف والجاه وكبريائهم، فما يعدّه جمهرة الناس إهانة للمرأة وعارا على أهلها، فهو الذي يبيح لأوليائها المنع منه إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أشنع منه، كما لا يجوز إكراه المرأة على أن تتزوج بمن لا تحب، إذ قد يجرّ هذا إلى أضرار ومفاسد ربما لا تحمد عقباها.
والخطاب هنا للأمة جميعها، لأنها متكافلة في المصالح العامة، ليعلم المسلمون أنه يجب على من علم منهم بوقوع المنكر من أولياء النساء أو غيرهم أن ينهوه عن ذلك حتى يفىء إلى أمر الله وأنهم إذا سكتوا عن المنكر ورضوا به يأثمون، إذ كثيرا ما يرجّحون أهواءهم وشهواتهم على الحق والمصلحة، ثم يقتدى بعضهم ببعض، فيكثر الشر والمنكر فتهلك الأمة كما قال تعالى « لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ».
وقد كان من عادات الجاهلية أن يتحكم الرجال في تزويج النساء، إذ لم يكن يزوج المرأة إلا وليها، وقد يزوجها بمن تكره، ويمنعها من تحب لمحض الهوى.
أخرج البخاري وخلق كثير غيره عن معقل بن يسار قال: كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له: يا لكع (يا لئيم) أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها فأنزل الآية، قال: ففي نزلت فكفرت عن يمينى وأنكحتها إياه. وفي رواية فلما سمع معقل الآية قال: أرغم أنفى، وأزوّج أختى، وأطيع ربي.
(ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ذلك الذي تقدم من الأحكام المقرونة بالحكم، مع الترغيب والترهيب، يوعظ به أهل الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هم الذي يتقبلونه، وتخشع له قلوبهم، ويتحرّون العمل به. طاعة لأمر ربهم، ورجاء لمثوبته عليه في الدارين.
وفي الآية دليل على أن المؤمن حقا لا بد أن يتعظ به، فالذين لا يتعظون به ولا يعملون به فليسوا بمؤمنين، بل هم يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، لأنهم لم يتلّقوا أصول الإيمان بالدليل، فلم يقع من نفوسهم موقع التأثير في مسالك الوجدان، فوعظهم عبث ضائع، إذ هم لا يتبعون إلا أهواءهم، ويقلدون ما وجدوا عليه آباءهم.
(ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي ذلكم النهي عن ترك العضل على الشرط الذي تقدم، فيه بركة وصلاح لحال متبعيه، وفيه طهر لأعراضهم وأنسابهم، وحفظ لشرفهم وأحسابهم، فكم كان عضل النساء مدعاة للفسوق، مفسدة للأخلاق، وسببا في اختلال نظم البيوت، وشقاء الذرية.
انظر إلى ولي يمنع من له الولاية عليها من الزواج بمن تحب، ويزوجها بمن تكره، اتباعا لهواه أو لعادات قومه، كما كانت تفعل العرب من قبل، أيرجى لمثل هذه صلاح أو أن تقيم حدود الله، أم يخشى أن يغويها الشيطان بمن تحب، ويمد لها حبل الغواية حتى لا تقف عند حد؟
ولجهل الناس بوجوه المصالح الاجتماعية كانوا لا يرون للنساء شأنا في إصلاح حال البيوت ولا فسادها، حتى جاء الإسلام وعلمهم من ذلك ما هم في أشد الحاجة إليه من حسن معاملة النساء والرفق بهن ومعاملتهن بالحسنى « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ » لكنّ المسلمين نسوا أوامر دينهم وساروا سيرة جاهلية مع نسائهم فكان لذلك أسوأ الأثر في فساد الاسر والبيوت جزاء وفاقا لتركهم عظات شريعتهم وتناسيهم أوامر دينهم.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي والله يعلم ما لكم في ذلك من النفع والصلاح، إذ هو العليم بوجوه الفائدة في هذه الأحكام، والسر فيما به أمر، وعنه نهي، وأنتم لا تعلمون ذلك علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام.
فالبشر جميعا لم يهتدوا إلى هذه الأحكام مع اختبارهم وتجاربهم الطويلة، بل عزبت حكمتها عن نفوس الكثيرين منهم، بعد أن نزل بها الوحي، وجاء بها الدين فلم يعملوا بها، وكان يجب عليهم أن يقيموها على وجهها ملاحظين مالها من فوائد ومنافع أرشد إليها العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
[سورة البقرة (2): آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
تفسير المفردات
الحول والعام يقعان على صيفة وشتوة كاملتين، والسنة تبتدئ من أي يوم عددته من العام إلى مثله، والمولود له هو الوالد، والتكليف الإلزام، والوسع ضد الضيق وهو ما تتسع له القدرة ولا يبلغ آخر مداها، والطاقة آخر درجات القدرة، فليس بعدها إلا العجز التام، مأخوذة من آخر طاقة (فتلة) من الطاقات التي يتألف منها الحبل، والمضارة مشاركة كل من الوالدين للآخر في الضرر، فتفيد أن كل إضرار من أحدهما للآخر بسبب الولد إضرار بنفسه، إذ هذا يستلزم ضر الولد وكيف تحسن تربية ولد بين أبوين همّ كل منهما إيذاء الآخر وضرره، والفصال الفطام لأنه يفصل الولد من أمه، ويفصلها منه فيكون مستقلا في غذائه دونها، والتشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأي من المستشارين، ولا جناح عليهما أي لا حرج، واسترضعت المرأة الطفل أي اتخذتها مرضعا له، ما آتيتم أي ما ضمنتم والتزمتم، بالمعروف أي على الوجه المتعارف المستحسن شرعا وعادة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحكام الطلاق في الآيات السالفة، وبين حرمة العضل على الأولياء - ذكر هنا أحكام الرضاعة وكيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف، وتربية الأطفال والعناية بشئونهم بطريق التشاور والتراضي بين الوالدين.
الإيضاح
(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي على جميع الوالدات مطلقات كن أو غير مطلقات أن يرضعن أولادهن مدى حولين كاملين لا زيادة عليهما، وقد تنقص المدة إذا رأى الوالدان أن في ذلك مصلحة، والأمر موكول إلى اجتهادهما.
وإنما وجب ذلك على الأم لأن لبنها أفضل لبن باتفاق الأطباء، فالولد قد تكوّن من دمها وهو في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحول الدم إلى لبن يتغذى منه وهو منفصل منها، فهو الذي يلائمه في التغذية وهو سائر معه بحسب سنه، ولا يخشى على الولد منه من علة بدنية أو خلقية تكون فيه، فما أخذه وهو في الرحم فاللبن لا يزيده شيئا، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها ومعرفة أخلاقها وبذل الجهد في اختيارها، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد، فيكون دما له ينمو به اللحم وينشز العظم، فيؤثر فيه جسميا وخلقيا، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية في الرضيع أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه حتى لقد يؤثر صوتها في صوته، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية، وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية، حتى كانت قيصرة روسيا ترضع أولادها وتحرم عليهم المراضع. فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شئونهم، فقد رغب نساء الأغنياء عنها ترفعا وطمعا في بقاء الجمال وحفظ الصحة وسرعة الحمل، وكل هذا مقاوم لسنة الفطرة ومفسد لتربية الأولاد. وقد كان للمسلمين من دينهم وازع أيما وازع، فقد هداهم إلى ما فيه المصلحة في تربية الطفل وتهذيبه، ولم نردينا تعرّض لمحاسن تربية النشء ومساويها مثل ما تعرض له الدين الإسلامي، فاللهم وفق المسلمين إلى الاهتداء بهديه، والتحلي بآدابه. ويرى جمع من العلماء أنه يجمل بالأم أن ترضع ولا يجب عليها ذلك إلا إذا تعينت للإرضاع بأن كان الولد لا يقبل غير ثديها كما يشاهد ذلك من بعض الأطفال، أو كان الأب عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه، أو كان قادرا ولم يجد من ترضع.
وقوله كاملين تأكيد لذلك إذ قد جرت العادة أن يتسامح في مثل هذا فيقال: أقمت عند فلان حولين بمكان كذا، ويكون قد أقام حولا وبعض الحول. والحكمة في تحديد هذه المدة في الرضاع العناية بشئون الطفل، فإن اللبن هو الغذاء الموافق له في هذه السن، إلى أنه محتاج إلى شفقة وعناية تامة لا تتوافران عند غير الأم، إلا إذا رأى الوالدان المصلحة في أقل من ذلك، فهما اللذان يراعيان صحة الطفل فمن الولدان من يستغنى عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين.
وقد استنبط العلماء من هذه الآية ومن قوله: « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا » أقل مدة الحمل، فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر وهي أقل المدة.
وقد روى هذا عن على وابن عباس رضي الله عنهما.
(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وعلى الوالد كفاية المرضع من طعام وكسوة لتقوم بخدمته حق القيام، وتحفظه من عاديات الأيام.
وإنما عبر بالمولود له، ولم يعبر بالوالد للإشارة إلى أن الأولاد لآبائهم، فإليهم ينسبون، وبهم يدعون، والأمهات مستودعات لهم كما قال المأمون:
لا تزرين بفتى من أن يكون له أمّ من الروم أو سوداء دهجاء
فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأبناء آباء
والخلاصة - إن الوالدات قد حملن للوالد، وأرضعن له، فعليه أن ينفق عليهن ما فيه الكفاية من طعام وشراب وكسوة ليقمن بخدمته، ويحفظنه ويرعين شئونه، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف اللائق بحال المرأة في البيئة التي تعيش فيها، ولا تلحقها بها غضاضة في نوعه، ولا في طرق أدائه.
(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) أي لا تلزم نفس إلا بما تتسع له قدرتها بحيث لا ينتهى إلى الضيق، وقد فسر هذا في سورة الطلاق بقوله: « لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا ما آتاها، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ».
ثم بين العلة في تشريع الأحكام السابقة بقوله:
(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي إن العلة في تشريع ما تقدم منع الضرار من الجانبين بإعطاء كل ذي حق حقه بالمعروف، فيحرم أن يأتي من أحد الوالدين إضرار بالآخر بسبب الوالد، فلا ينبغي أن تمتنع الأم من إرضاعه تعجيزا للوالد بالتماس الظئر، أو تكلفه من النفقة فوق وسعه، أو تقصّر في تربية الولد تربية بدنية أو خلقية أو عقلية لتغيظ الرجل، كذلك لا يليق به أن يمنعها من إرضاع ولدها، وهي له أرأم، وبه أرأف، وعليه أحنى وأعطف، أو يضيّق عليها في النفقة مع الإرضاع، أو يمنعها من رؤيته ولو بعد مدة الرضاع والحضانة.
(وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) أي وعلى وارث الصبى وهو قريبه الذي لا يجوز له أن يتزوجه على تقدير أن يكون أحدهما ذكرا والثاني أنثى، مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة وأجرة الرضاع.
وقيل المراد بالوارث وارث الصبى من الوالدين أي إذا مات أحد الوالدين فيجب على الآخر ما كان يجب عليه من إرضاعه والنفقة عليه.
(فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي: فإن للوالدين صاحبي الحق المشترك في الولد، الراغبين في تربيته تربية قويمة في جسمه وعقله - أن يفطماه قبل الحولين الكاملين أو بعدهما إذا اتفق رأيهما على ذلك بعد التشاور والتراضي بينهما، لأن هذا التحديد إنما هو للمصلحة ودفع الضرر، فمتى رأيا الفائدة في الأقل أو في الأكثر فعلاه، أما إذا أقدم أحدهما على ما يضر بالولد كأن ملّت الأم الإرضاع، أو بخل الأب بإعطاء الأجرة بقية الأجل المضروب فلا حق له في ذلك، وإنما اعتبر رضا الأم مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره، مراعاة لمصلحة الطفل، إذ هي لكمال شفقتها عليه لا تفكر إلا فيما له فيه خير وفائدة.
وهأنت ذا ترى إرشاد القرآن إلى استعمال المشورة في أدنى الأعمال لتربية الولد، ولم يبح لأحد الوالدين الاستبداد بذلك دون الآخر - فما بالك بأجلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة، فهل بعد هذا من شك في حاجة الملوك والأمراء إليها في تربية الأمم وتدبير شئونها؟ ومن ثم طلبها القرآن الكريم من الرسول صلوات الله عليه بقوله: « وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » ومدح المؤمنين بقوله تعالى: « وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ».
(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم المراضع الأجنبيات فلا ضير في ذلك إذا أعطيتم لهن الأجور المتعارفة لأمثالهن، لما في ذلك من مصلحة للمرضع ومصلحة للولد والوالد، فإن المرضع إذا لم تعامل معاملة حسنة ترضيها بأن تأخذ أجرها كاملا غير منقوص، وتمنح الهبات والعطايا - لا تهتم بالطفل ولا تعنى بإرضاعه، ولا بنظافته ولا بسائر شئونه، وإذا هي أوذيت تغير لبنها فيكون ضارا بالطفل مؤذيا له، ويتبع هذا إيذاء الوالد حين يرى ابنه على غير ما يحب ويهوى.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي واخشوا الله فلا تفرطوا في شيء من هذه الأحكام مع توخّى الحكمة فيها، واعلموا أن الله بصير بأعمالكم فهو يجازيكم عليها، فإذا قمتم بحقوق الأطفال بتراض وتشاور واجتنبتم المضارّة كان الأولاد قرة أعين لكم في الدنيا وسبب المثوبة في الآخرة، وإن أنتم اتبعتم أهواءكم وعمل كل منكم على مضارة الآخر كان الأولاد بلاء وفتنة لكم في الدنيا واستحققتم عذاب الله في الآخرة.
فما أشد هذا التهديد والوعيد على ترك العناية بالأطفال ومضارة كل من الوالدين للآخر من أجل أولادهما، فليعتبر بذلك المسلمون ولا يجعلوا تربية الأولاد موكولة إلى المصادفة، والعناية بها دون العناية بسلعة التاجر، وأدوات الصانع، وماشية الزارع، وما أبعد المسلمين اليوم عن اتباع مناهج دينهم واتباع وصاياه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[سورة البقرة (2): الآيات 234 الى 235]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
تفسير المفردات
يتوفون منكم: أي يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم، ويذرون: أي يتركون، والزوج يطلق على الذكر والأنثى كما قال تعالى: « وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ » وأصله العدد المكوّن من شيئين اتحدا وصارا شيئا واحدا في الباطن وإن كانا شيئين في الظاهر، وسمى به كل من الرجل والمرأة للدلالة على أن من مقتضى الفطرة أن يتحد الرجل بامرأته والمرأة ببعلها، بتمازج النفوس ووحدة المصلحة، حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر، ويتربصن: أي ينتظرن، وبلغن أجلهن: أي أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار، والتعريض في الكلام أن تفهم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح بدون تصريح، والخطبة (بكسر الخاء) هي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسائل المعروفة بين الناس، والإكنان في النفس هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوج بالمرأة بعد انقضاء العدة، والقول المعروف ما لا يستحيا منه في المجاهرة كذكر حسن المعاشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك.
وعزم الشيء وعزم عليه واعتزمه: إذا صمم على تنفيذه، والكتاب بمعنى المكتوب أي المفروض، وأجله: أي نهايته.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في أحكام الطلاق من جهة عدده وكيفيته، وأن للزوج المراجعة والإمساك بالمعروف، كماله التسريح والتطليق بالإحسان، ثم ذكر بعده حكم الإرضاع وما للوالدة من حقوق فيه، وما على الوالد من واجبات قبل ولده من رزق وكسوة ونحو ذلك - وهنا ذكر أحكام من يموت بعولتهن من وجوب الحداد عليهم، ومن وجوب العدة، ومن جواز خطبتهن، ومن صحة العقد عليهن.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) أي إن الرجال الذين يموتون ويتركون زوجات يردن الزواج، لا يحل لزوجاتهم أن يتعرضن لخطبة ولا زواج ولا خروج من المنزل إلا لعذر شرعي مدة أربعة أشهر وعشرة أيام.
وخلاصة المعنى - إن عدة النساء اللاتي يموت أزواجهن أربعة أشهر وعشرة أيام لا يتعرضن فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل إلا للأعذار المبيحة لذلك، ولا يواعدن الرجال بالزواج، اهتماما بحقوق الزوجية وتعظيما لشأنها.
وقد حرمت السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام.
وهذا الحكم خاص بغير الحوامل، فإن الحامل التي يموت زوجها تنقضى عدتها بوضع الحمل ولو بعد الموت بساعة كما قال تعالى: « وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ » سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن.
روى أبو داود حديث سبيعة الأسلمية قالت: إن النبي ﷺ أفتاها بأنها حلّت حين وضعت حملها، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر.
ولا نبحث عن الحكمة في تحديد هذه المدة فهي كأعداد الركعات ومقدار الواجب في الزكاة، وقال بعضهم في بيانها: إن تعرف براءة الرحم احتاجت إلى ثلاثة قروء أو ستين يوما، فبراءة النفس من الحزن والكآبة تحتاج إلى مدة أطول من هذه لعظم الكارثة وفداحة الخطب، إلى أن التعجيل بالزواج مما يسىء أهل الزوج ويفضى إلى الخوض في شأن المرأة، إذ يقولون إنها لم تكن على ما ينبغي من الوفاء للزوج والحزن عليه إلى أنه كان من المعروف عند العرب أن المرأة تصبر على البعد عن الرجل أربعة أشهر بلا حرج ولا مشقة وتتوق إليه بعد ذلك، حتى إن عمر أمر ألا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته.
وإذا صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام.
وهذا التحديد لعدة الوفاة يشمل الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض واليائسة.
(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي فإذا أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار فلا إثم عليكم أيها المسلمون أن تفعل المرأة ما كان محظورا عليها قبل ذلك من التزين والتعرض للخطّاب والخروج من المنزل على الوجه المعروف شرعا وعرفا.
فإن فعلن شيئا من ذلك قبل انقضاء الأجل كن قد أتين بمنكر فيجب على أوليائهن وخيار المسلمين أن يمنعوهن، فإن لم يستطيعوا ذلك استعانوا بالحاكم لإزالة هذا المنكر.
وقد بينت السنة والأخبار الصحيحة ما يحظر على المرأة أن تفعله، فقد روى الشيخان من حديث حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفى أبو سفيان (والدها) فدعت بطيب فيه صفرة خلوق وغيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها، ثم قالت والله ما بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله ﷺ على المنبر يقول: « لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ».
وقالت زينب: سمعت أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله ﷺ (لا) مرتين أو ثلاثا - كل ذلك يقول (لا) ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر.
وقد كانت المرأة في الجاهلية تحدّ على زوجها شر حداد وأقبحه، فكانت تمكث سنة كاملة لا تمسّ طيبا ولا زينة، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، ثم تخرج بعد ذلك، وكان لهم في ذلك عادات سخيفة وخرافات شائنة. إلى أن جاء الإسلام فأصلح من ذلك، فجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدى الزواج، وما منع النظافة ولا الجلوس في كل مكان في البيت مع النساء والمحارم من الرجال، والكحل الذي منعه النبي ﷺ هو كحل الزينة لا كحل التداوي بدليل حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ قال: « اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار ».
والمسلمات اليوم لا يسرن على طريق واحدة في الحداد، فمنهن من يغلون في الحداد ويغرقن في النّوح والندب والخروج من مألوف العادات في المعيشة، حتى يزدن على ما كان عليه نساء الجاهلية، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع، بل ربما حددن على الولد السنة والسنتين، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين.
فالخير كل الخير للمسلمين أن يصلحوا هذه العادات الرديئة في الحداد، إذ لا فائدة فيها إلا إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون، وفساد آداب المعاشرة والشقاء في أحوال المعيشة، وما ينجم عن ذلك من الأمراض، ولا سيما لدى ضعفاء الأمزجة. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة إلى أحكام الشرع من الحداد ثلاثة أيام على القريب وأربعة أشهر وعشرا على الزوج، وجعل الحداد مقصورا على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من المنزل إلا لضرورة.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فهو محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، فإذا جعلتم نساءكم تسير على نهج الشرع وحدوده صلحت أحوالكم، وسعدتم في دنياكم، وأحسن الله جزاءكم في أخراكم، وإن أسأتم السيرة وحدتم عن السّنن السوي أخذكم أخذ عزيز مقتدر.
(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ، أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي ولا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرّض للمرأة ويلوّح لها في أثناء عدة الزواج، أو عدة الطلاق البائن بأمر الزواج، لا في أثناء عدة الطلاق الرجعى، لأنها لا تزال في عصمة زوجها.
وللناس في كل عصر كنايات يستعملونها في مثل هذا، كأن يقول: إني أحب امرأة من صفتها كيت وكيت، أو يقول وددت لو أن الله وفّقنى لامرأة صالحة مثلك أو يقول: إني حسن الخلق، كثير الإنفاق، جميل العشرة، محسن إلى النساء، إلى نحو ذلك.
كذلك لا حرج عليه فيما يكتمه في نفسه ويعزم عليه من الزواج بها بعد انتهاء أجل العدة، لأن مثل هذا مما يتعسر الاحتراز منه، ومن ثم ذكره الله تعالى على وجه الترخيص بقوله:
(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) في أنفسكم ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن أن تبوحوا لهن بما انطوت عليه جوانحكم، ومن ثم رخص لكم في التعريض دون التصريح، فعليكم أن تقفوا عند حدّ الرخصة ولا تتجاوزوها.
(وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي ولكن لا تواعدوهن على الزواج في السر، فإن المواعدة على هذه الحال مدرجة للفتنة، ومظنّة للقيل والقال، بخلاف التعريض فإنه يكون على ملأ من الناس، فلا عار فيه ولا عيب، ولا يكون وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه.
وذهب جمهرة العلماء إلى أن السر هنا يراد به النكاح، أي لا تتّعدوا معهن وعدا صريحا على التزوّج بهن.
(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) أي لا تواعدوهن بالمستهجن، ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك.
والخلاصة - إنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في أمر الزواج سرّا، أو يتواعدوا معهن عليه، ولكن رخص لهم في التعريض الذي لا ينكر الناس مثله على مسمع منهن، ولا يعدّونه خارجا من الاحتشام معهن.
وفائدة ذلك - أن يكون تمهيدا لهن، حتى إذا أتمت إحداهن العدة كانت عالمة بمن يرغب فيها، فإذا سبق المفضول ردته إلى أن يأتي الأفضل.
(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) أي ولا تصمموا تصميما جازما على الارتباط الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهى عدتها.
والخلاصة - إن التزوج بالمرأة في العدة محرم قطعا، بل الخطبة فيها محرّمة، والعقد فيها باطل بإجماع المسلمين.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) أي واعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا أن تعزموا على ما حظر عليكم من قول أو فعل.
وقد جاء هذا التحذير عقب ذكر الأحكام المتقدمة على سنن القرآن من قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا، ليكون ذلك آكد في المحافظة عليها والعناية بها.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي واعلموا أن الإنسان إذا تعدى حدود الله وأراد الرجوع إليه بالتوبة يغفر له، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل عباده ليصلحوا بصالح أعمالهم ما أفسدوا بما سبق من زلّاتهم، فعليكم أن تجتنبوا أسباب العقوبة، وتعملوا بما أمرتم به، وتغتنموا زمان الحياة القصيرة حتى لا تأسوا على ما فاتكم.
[سورة البقرة (2): الآيات 236 الى 237]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
تفسير المفردات
الجناح هنا التبعة (المسئولية) كالتزام بمهر وغيره، والمسيس: اللمس باليد من غير حائل، ويراد به في لسان الشرع ما يراد بالمماسة والملامسة والمباشرة وهو غشيان المرأة، والفريضة: المهر، وفرضها: تسميتها، والمتعة والمتاع ما ينتفع به مع سرعة انقضائه ومن ثمّ يسمى التلذذ بالشيء تمتعا لسرعة انقطاعه، وأوسع الرجل إذا صار ذا سعة في المال وبسطة وغنى، وأقتر: إذا قلّ ماله وافتقر، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيق عليهم في النفقة، والقدر (بفتح الدال وسكونها) قدر الإمكان والطاقة، ومتاعا: أي حقّا ثابتا واجبا، والمعروف: ما يتعارفه الناس بينهم ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم ومعايشهم وبيئاتهم، والمحسنون: هم الذين يحسنون في معاملة المطلقات، والذي بيده عقدة النكاح هو الزوج المالك لعقد النكاح وحله، وعفوه: تركه ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها كاملا تكرما منه، والفضل: المودة والصلة.
الإيضاح
(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي لا يلزمكم شيء من المهر وغيره عند طلاقكم للنساء قبل الدخول بهن إلا إذا سميتم لهن مهرا، فإن حصل المساس فعليه تمام المسمى في حال التسمية، ومهر مثلها إن لم يسمّ لها مهرا، وفي حال الطلاق قبل المسيس مع الفرض، عليه نصف ما فرض وسمى.
(وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أي وأعطوا المطلقات شيئا من مالكم يتمتعن به بحسب حالكم في الثروة والغنى، ولم يحدده الله تعالى، بل وكله إلى اجتهاد المرء لأنه أدرى بثروته، إلا أن الشارع حبب في بسط الكف والسخاء للمطلقة تطييبا لنفسها وعوضا عما لحقها من الضرر.
(مَتاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي وجعل هذه المتعة حقا واجبا على من يريد الإحسان في معاملة المرأة بما يتعارفه الناس بينهم.
وهذه المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول ولم يسمّ لها مهر وهي المذكورة في الآية، ومستحبة لسائر المطلقات.
والحكمة في شرعها أن في الطلاق قبل الدخول امتهانا وسوء سمعة لها، لأن فيه إيهاما للناس بأن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه شيء من أخلاقها، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قبله لا من قبلها ولا علة فيها، فتحتفظ بما كان لها من صيت وشهرة طيبة، ويتسامع الناس ويقولون إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو معترف بفضلها، لا أنه رأى فيها عيبا، أو رابه من أمرها شيء، فيكون ذلك كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق.
وقد أثر عن الحسن السبط أنه متّع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي وإن حصل الطلاق قبل المسيس وقد سمى لهن مهر فلهن نصف المسمى المفروض، ويرجع إلى الزوج النصف الثاني.
وهذا جار على ما كان يعمله الناس من سوق المهر كله للمرأة حين العقد، لا على ما استحدثوه من تأخير ثلث المهر أو أكثر منه أو أقلّ لرغبتهم في حبّ الظهور والتفاخر بكثرة المهر مع اجتناب إرهاق الزوج بدفعه كله.
وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول وجب المهر كله للزوجة إذا مات الزوج، أو لوارثها إذا ماتت هي، لأن الموت كالدخول بها يوجب المهر كله، إن كان هناك مهر مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسمّ لها مهر.
(إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي إلا أن يعفو المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه، فتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئا؟ فيسقط حينئذ ما وجب عليه، وحق الإسقاط إنما يكون للمرأة البالغة الرشيدة.
(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي أو يعفو الزوج ويترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها تكرما منه، وحينئذ تأخذ الصداق كاملا، النصف الواجب عليه، والنصف الساقط العائد إليه بالتنصيف، وعبر بقوله: بيده عقدة النكاح للتنبيه إلى أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده، لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شيء، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى، وإن كان الواجب المحتّم نصفه، وإلى هذا أشار بقوله:
(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي إن من عفا من الرجال والنساء فهو المتّقى، فأحيانا تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر، وأحيانا في عفو المرأة عن النصف الواجب لها، لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا سبب داع منها، وقد يكون بالعكس.
والمراد بالتقوى هنا تقوى الله المطلوبة في كل أمر، إذ العفو أكثر ثوابا وأجرا، أو المراد تقوى الريبة بما يترتب على الطلاق من التباغض، إذ السماح بالمال يذهب هذا الأثر ويعيد الصفاء إلى القلوب، وهذا ما بينه سبحانه بقوله:
(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي ينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلق، ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، ولكن المسلمين نسوا دينهم أو تناسوه، وجروا على عكس هذا، فصارت روابط الصهر وسائر أنواع القرابة واهنة ضعيفة، وإنك لو رأيت ما يجرى بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات وما يكيد به بعضهم لبعض، لوجدت أنهم تجافوا أوامر شريعتهم وجعلوا إلههم هواهم، فالرجال يتركون نساءهم بلا نفقة حتى يضطررن أحيانا إلى بيع أعراضهن، أو يذرونهن كالمعلقات، فلا هم يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان حتى يفتدين منهم بالمال.
والمطلقات المعتدات بالأقراء يزعمن أن الحيض قد حبس عنهن، فتمضى السنة أو أكثر منها ولا تنقضى عدتهن بزعمهن، وما الغرض من هذا إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه، ولكن العمل الآن في المحاكم المصرية على أن نفقة العدة لا تزيد على سنة قمرية (354 يوما).
وإذا حدث طلاق - كان بين أسرتي الزوجين حرب عوان ونصبت كل منهما للأخرى الحبائل والأشراك، لتوقعها في مهاوى الهلاك، فأين هؤلاء من كتاب الله وشرعه، إنهم ليسوا منه في شيء، فقد عميت أبصارهم وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
(إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ختم سبحانه الآية بالتذكير باطلاعه تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيبا في المحاسنة والفضل، وترهيبا لأهل المخاشنة والجهل، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذّى الإيمان وتبعث على الامتثال.
[سورة البقرة (2): الآيات 238 الى 239]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْبانًا فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
تفسير المفردات
حافظ على الشيء وداوم عليه وواظب عليه: فعله المرة بعد المرة، وحفظ الصلاة المرة بعد الأخرى الإتيان بها كاملة الشرائط والأركان بالخشوع والخضوع القلبي، والصلوات: هي الخمس المعروفة بالبيان العملي من النبي ﷺ والتي أجمع عليها المسلمون من جميع الفرق، حتى إن من جحدها أو شيئا منها لا يعدّ مسلما، وقد استنبطوا عددها من آيات أخرى كقوله تعالى: « فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ » والصلاة الوسطى: هي إحدى هذه الخمس، والوسطى: إما بمعنى المتوسطة بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وإما بمعنى الفضلى، وبكل من المعنيين قال جماعة من العلماء، ومن ثم اختلفوا أي الصلوات أفضل؟ وأيتها المتوسطة؟ وأرجح الأقوال أنها صلاة العصر لما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن على مرفوعا (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) يعني يوم الأحزاب، وروى أحمد والشيخان أن النبي ﷺ قال في هذا اليوم « ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس » ولم يذكر العصر، وفي رواية عن علي عن عبد الله بن أحمد في سند أبيه: كنا نعدها الفجر، فقال رسول الله ﷺ: « هي العصر ».
والقنوت: الانصراف عن شئون الدنيا إلى مناجاة الله والتوجه إليه لذكره ودعائه، والرجال: واحدهم راجل، وهو الماشي، والركبان: واحدهم راكب.
المعنى الجملي
تقدم هاتين الآيتين آيات في الأحكام بعضها في العبادات وبعضها في المعاملات وكان آخرها ما بينه من السبيل القويم في معاملة الأزواج، وقد جرت سنة القرآن أن يأتي عقب الحكم والأحكام بالأمر بتقوى الله، والتذكير بعلمه بحال عباده، وما أعدّ لهم من جزاء على العمل، حتى يقوى الوازع الديني في النفوس ويحفزها على الإخلاص فيه. لكن النفوس قد تغفل عن هذا التذكير بانهما كها في مشاغل الحياة، أو في تمتعها باللذات، فتتنكّب عن جادة الهدى، وتتفرّق بها السبل، ومن ثم كانت في حاجة إلى مذكّر يرقى بها إلى العالم الروحي، ويخلعها من عالم الحس، ويوجهها إلى مراقبة من برأها وفطرها حتى تطهر من تلك الأرجاس والأدران، وتترفع عن البغي والعدوان، وتميل إلى العدل والإحسان، ذلك المذكر هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتنفى الجزع والهلع عند المصايب، وتعلّم البخيل الكرم والجود، لهذا أردف هذه الأحكام بطلب الصلاة والمحافظة عليها وأدائها على وجهها بإخبات وقنوت لتحدث في النفس آثارها.
الإيضاح
(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أي داوموا على الصلوات جميعها لما فيها من مناجاة الله والتوجه إليه بالدعاء له والثناء عليه كما جاء في الحديث « اعبد الله كانك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
وإذا أديت على الوجه الحق وأقيمت كما أمر به الدين نهت عن الفحشاء والمنكر، وحفظت النفوس من الشرور والآثام، ولا سيما صلاة العصر حين ينتهى الإنسان من أعمال الدنيا فيضرع إلى الله أن وفقه لخدمة نفسه وعياله وأهله ووطنه، ويشكره على ذلك حق الشكر.
(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي قوموا خاشعين لله مستشعرين هيبته وعظمته، ولا تكون الصلاة كاملة تتحقق فائدتها التي ذكرت في الكتاب الكريم إلا بالتفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب وخشوعه.
روى أحمد والشيخان من حديث زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام - لأن حديث الناس مناف له، فيلزم من القنوت تركه.
والمحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى والشرط في صحة الإسلام والأخوّة في الدين وحفظ الحقوق.
روى أحمد وأصحاب السنن من حديث، بريدة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر.
وروى أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ « أنه ذكر الصلاة يوما فقال: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف ».
وروى الترمذي قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. أرأيت بعد هذا كيف أعرض جمهرة المسلمين عن الصلاة، وكثر التاركون الغافلون عنها، وقلّ عدد المصلين، أرأيت أن أحدهم لتتلى عليه الآيات والأحاديث فيصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقرا، اتكالا على شفاعة الشافعين، وغرورا بالانتساب إلى الإسلام، واعتقادا بأن ذلك كاف في نيل السعادة في الآخرة، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدّهم في غيهم، ويستدرجهم في غرورهم.
وقد كان من أثر ترك الصلاة والتهاون في شئون الدين في المدن والقرى، أن فشت الفواحش والمنكرات، وكثرت حانات الخمور، ومواخر الفجور والرقص، وبيوت القمار، وتكالب الناس على جمع المال، لا يبالون أمن حلال جاء أم من حرام، وانقبضت الأيدي عن فعل الخير، وزال التراحم والتعاطف، وقلّت الثقة بين بعض الناس وبعض، واعتدى بعض الزراع على بعض بقلع المزروعات قبل النّضج، وبالسرقة بعده، وبقتل الماشية بالسم أو بالسلاح، وتزعزع الأمن على النفس والمال ولو حافظوا على الصلوات كما أمر الله لانتهوا عن كل هذا بالوازع النفسي، فالصلاة حارس وديدبان يمنع من عمل السوء. فالمحافظ عليها لا يرضى أن يكون من روّاد بيوت القمار ومحالّ اللهو والفسوق، ولا يمنع الماعون، بل يبذل معونته لمن يراه مستحقا لها، ولا يخلف موعدا، ولا ينتقص حقا لغيره، ولا يضيع حقوق أهله وعياله، ولا حقوق أقاربه وجيرانه، ولا يجزع من النوائب، ولا تفلّ عزمه المصايب، ولا تبطره نعمة، ولا تقطع رجاءه نقمة. والمحافظ عليها هو الذي يؤمن شره، ويرجى خيره، ولا غرو فللصلاة يد في الآداب الكاملة، والأخلاق السامية، والاستقامة في السرّ والعلن.
(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْبانًا) أي فإن خفتم أي ضرر من قيامكم قانتين لله، فصلوا كيفما تيسر لكم راجلين أو راكبين. وفي هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة وبيان أنها لا تسقط بحال، إذ حال الخوف على النفس أو المال أو العرض مظنّة العذر في تركها، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام.
والسبب في عدم سقوطها عن المكلف في كل حال، أنها عمل مذكّر بسلطان الله المستولى علينا وعلى العالم كله، وما الأعمال الظاهرة إلا مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات، إذ من شأن الإنسان أنه إذا أراد عملا قلبيا يحتاج إلى جمع الفكر وحضور القلب أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل. فإذا تعذر بعض الأعمال البدنية فلا تسقط العبادة القلبية وهي الإقبال على الله مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر المستطاع، ويكون ذلك حين قتال العدو أو الفرار من أسد فيصلى المكلف راجلا أو راكبا إن حال وقت الصلاة لا يمنعه من ذلك الكرّ والفرّ والطعن والضرب، ويأتي من أقوال الصلاة وأفعالها بما يستطاع من ركوع وسجود ولا يلتزم التوجه للقبلة. وستأتي صلاة الخوف كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة في سورة النساء.
(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي فإذا زال الخوف وأمنتم فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه، كيف تصلون حين الأمن وحين الخوف.
[سورة البقرة (2): الآيات 240 الى 242]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
تفسير المفردات
يذرون: أي يتركون زوجات بعد وفاتهم، وصية لأزواجهم: أي وصية من الله لأزواجهم، متاعا إلى الحول: أي جعل الله لهن ذلك متاعا مدة الحول، غير إخراج: أي لهن ذلك المتاع وهن مقيمات في البيت غير مخرجات منه، ولا ممنوعات من السكنى فيه.
المعنى الجملي
هذه الآيات جاءت متممة لأحكام الزواج، وقد توسط بينها الأمر بالمحافظة على الصلاة لأنها عماد الدين، فجدير بالمسلمين أن يعنوا بها أشد العناية، إذ من حافظ عليها جعل نصب عينيه إقامة حدود الدين، والعمل بالشريعة كما قال: « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ».
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) أي والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات بعدهم، فليوصوا لهن بوصية وليمتّعوهن متاعا إلى آخر الحول غير مخرجات من بيوتهن، فلا يمنعن السكنى فيها.
والخلاصة: إن على الأزواج أن يوصوا لهن بشىء من المال ينفقنه مدة الحول، ولا يخرجن من البيوت مدة سنة كاملة، تمر فيها الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهن فيها.
وهذا الأمر أمر ندب واستحسان لا أمر وجوب وإلزام تهاون فيه الناس كما تهاونوا في كثير من المندوبات.
(فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أي فإن خرجن من تلقاء أنفسهن فلا إثم عليكم أيها المخاطبون بالوصية فيما فعلن في أنفسهن من المعروف شرعا وعادة كالتعرض للخطّاب بعد العدة والتزوج، إذ لا ولاية لكم عليهن، فهن حرائر لا يمنعن إلا من المنكر الذي يمنع منه كل مكلف.
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي والله عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه، حكيم يراعى في أحكامه مصالح عباده.
ومن عزته وقدرته أن يحوّل الأمم من عادات ضارة، إلى عادات نافعة تقتضيها المصلحة، كتحويل العرب من عادتهم في العدة والحداد، إذ كانوا يجعلون المرأة أسيرة ذليلة مقهورة في عقر دارها سنة كاملة - إلى ما هو خير من ذلك وهو إكرامها في بيت زوجها بين أهله، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآدابه.
(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي وشرعت المتعة لكل مطلقة على سبيل الوجوب إذا كانت غير مدخول بها، وعلى سبيل الاستحسان لغيرها، والذي يفعل ذلك من أشرب قلبه تقوى الله والخوف من عقابه، فهو الذي يجود بالمال تطييبا للقلوب وإزالة للضغن.
والخلاصة - إن المطلقات أصناف أربعة:
(1) مطلقة مدخول بها وقد فرض لها مهر، وهذه لها كل المفروض، وهي التي عناها الله سبحانه بقوله: « وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ».
(2) مطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها، وهذه يجب لها المتعة بحسب يسار الزوج ولا مهر لها، وهي التي عناها الله بقوله: « لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ » إلى آخر الآية، ولا عدّة لها.
(3) مطلقة مفروض لها وغير مدخول بها، ولها نصف المهر المفروض، ولا عدة لها، وفيها نزل قوله: « وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ... »
(4) مطلقة مدخول بها غير مفروض لها، ولها مهر مثلها من قريباتها وأسرتها.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) المراد من البيان ذكر الحكم وفائدته، ثم قرنه بالموعظة الحسنة، وقوله تعقلون: أي تتدبرون الأشياء وتذعنون لما أودع فيها من الحكم والمصالح إذعانا يكون له الأثر في الأعمال.
والمعنى - إن الله جلت قدرته، مضت سنته أن يبين لعباده أحكام دينهم على هذا النحو من البيان الذي تقرن فيه الأحكام بعللها وأسبابها وبيان فوائدها، ليعدّهم بذلك لكمال العقل، حتى يتحرّوا الاستفادة من كل عمل، وليكونوا على بصيرة من دينهم، عالمين بانطباق أحكامه على مصالحهم، فدينهم هو دين العقل، وأحكامه تنطبق على مصالح البشر في كل زمان ومكان.
[سورة البقرة (2): الآيات 243 الى 244]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأحكام الماضية وقرنها بعللها وأسبابها، وفوائدها ومنافعها، ووجّه أنظار المخاطبين عقب كل منها إلى الخوف والخشية من الربّ الخالق لكل شيء، العليم بكل شيء - قفى هذا بذكر بعض الأخبار عمن سلف من الأمم للعبرة والعظة في سياق واقعة مصت تنويعا في التذكير والبيان.
والأحكام السالفة تتعلق بالأفراد في أنفسهم وفي بيوتهم، والحكمان الآتيان يتعلقان بالأمم من ناحية الدفاع عن استقلالها وحفظ كيانها بمدافعة المعتدين عليها، وبذل المال والروح في توفير منافعها، وجلب الخير لها.
وقد جرت العادة بأن التذكير بمنافع الشخص ومصالحه كافية في العمل بما يوعظ به، إذ أنها وفق ما يهوى، فلها في النفس عون أيّما عون، أما المصالح العامة فالرغبة فيها قليلة، فتحتاج إلى العناية في الدعوة إليها وتكرار الطلب لها، ومن ثم جاءت هذه الآية على هذا النسق الرائع، والأسلوب الخلاب، لتدعو المخاطبين إلى تلبية الدعوة، والقيام بما يجب من النصرة، فتكون المصلحة العامة صنو المنفعة الخاصة، وما يحفظ بقاء الجماعة عدل ما يحفظ نظام الفرد والأسرة.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) الخطاب في نحو هذا يوجه إلى كل من بلغه وسمعه، والاستفهام للتعجيب والاعتبار، والرؤية بمعنى العلم، وهذا أسلوب جار مجرى المثل يخاطب به من لم يرو من لم يعلم، ويراد معنى - ألم ينته علمك إلى كذا، والمقصد هنا - ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وحالهم بلغت من العجب مبلغا لا ينبغي لمثلها أن تجهل - إذ هم قوم بلغوا حدّا من الكثرة التي تدعو إلى الشجاعة واطمئنان النفس والدفاع عن الحمى، لا إلى الهلع والجزع وخور العزيمة والهرب من الوطن خوفا من الموت بمهاجمة الأعداء، وهذا هو الخوف والحذر الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيخيل إليهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا وسيلة تدني إليه، فهو يمكّن العدوّ من الرقاب، ويحفزه إلى الفتك بهم، استهانة بأمرهم كما قال المتنبي:
يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم
والكتاب الكريم لم يبين لنا عدد هؤلاء القوم ولا أمتهم، ولا بلدهم، ولو علم أن في ذلك خيرا لنا لتفضل علينا ببيانه في محكم كتابه فنكتفى بما فيه، ولا ندخل في تفاصيل ذكرت في الإسرائيليات، هي إلى الأوهام والخرافات أقرب منها إلى الحقائق التي تصلح للعبرة، وتكون وسيلة إلى الموعظة.
ويرى جمع من المفسرين منهم ابن كثير بسنده عن ابن جرير وعطاء - أن هذا مثل لا قصة واقعة، ضرب للعظة والتأمل فيما ينطوى عليه، ليكون أفعل في النفس وأدعى إلى الزجر.
(فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) أي خرجوا هاربين فأماتهم الله، بأن مكن منهم العدوّ ففتك بهم، وقتل أكثرهم وفرّق شملهم، وأصبح من بقي منهم خاضعا للغالب، منضويا تحت لوائه، يصرّف بحسب إرادته ولا وجود له في نفسه، ثم أحياهم بعود الاستقلال إليهم، بعد أن جمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، واعتزوا وكثروا، وخرجوا من ذلّ العبودية إلى رياض الحرية، وكان ما أصابهم من البلاء تأديبا لهم ومطهرا لنفوسهم مما عرض لهم من ذميم الأخلاق ورذيل السجايا.
وقد جرت سنة الله في خلقه أن تموت الأمم باحتمالها الظلم، وقبولها الجور والعسف، حتى إذا أفاقت من سباتها وتنبهت من غفلتها، قام بعض أفرادها بتدارك مافات، والاستعداد لما يرقى شأنها، وتبذل في ذلك كل مرتخص وغال، وتتلمس كل الوسائل التي تحقق لها ما تصبو إليه، ولا يصدها عن ذلك ما يحول دونها من العوائق حتى تفوز ببغيتها وتنال أمنيتها، ومن ثم أثر عن علي كرم الله وجهه أنه قال: بقية السيف هي الباقية، أي هي التي يحيا بها أولئك الميتون.
وعلى هذا فالموت والحياة واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهد في أسلوب القرآن، إذ خاطب بني إسرائيل في زمن التنزيل بما كان من آبائهم الأولين بمثل قوله: « وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ » وقوله: « ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ »
وسر هذا تقرير وحدة الأمة وتكافلها، وتأثير سيرة بعض أفرادها في بعض حتى كأنها شخص واحد، وكل جماعة منها كعضو فيه، وهذا استعمال معهود في كلام العرب يقولون هجمنا على بنى فلان حتى أفنيناهم، ثم أجمعوا أمرهم وكرّوا علينا، ولا شك أن الذي كر إنما هو من بقي منهم.
وإطلاق الحياة على حال الأمة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم، والموت على مقابلها، معهود في القرآن كقوله: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ » وقوله: « أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ».
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) جميعا بما جعل في موتهم من الحياة، فقد جعل المصايب محيية للهمم، كما جعل الجبن والهلع وغيرهما من مفاسد الأخلاق سببا في ضعف الأمم، وجعل ضعفها مغريا للقوى بالاعتداء عليها، وجعل هذا الاعتداء منبها لها إلى اليقظة بعد السّبات العميق، حتى تحيا وتكون أمة عزيزة مرهوبة الجانب، قوية البطش والشوكة.
والخلاصة - إن إماتة الأمة إنما تكون بتسليط الأعداء عليها، والتنكيل بها، وإحياءها يكون بإحياء نابتة من أبنائها تستردّ ذلك المجد الضائع، والشرف المسلوب، كالبنيان القديم الذي تقضى الضرورة بإزالته، وإقامة بناء جديد تدعو الحاجة إلى عمل مثله، أو كالعضو الفاسد الذي يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يقومون بحقوق هذه النعم، بل هم في غفلة من حكمة ربهم، فينبغي للمؤمنين أن يعتبروا بما نزل بغيرهم، ويستفيدوا من حوادث الكون، حتى إذا نزل بهم البلاء بما يقع منهم من التفريط، لم يقصروا في حماية أنفسهم، علما منهم بأن الحياة العزيزة لا تكون إلا بدفع المعتدى، ومقاومة عدوانه، هذا خلاصة ما اختاره الأستاذ الإمام تفسيرا للآية.
واختار غيره أن الآية تشير إلى قوم بأعيانهم خرجوا من ديارهم، ورووا عن ابن عباس أن ملكا من ملوك بني إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا وقالوا: إن الأرض التي سنذهب إليها موبوءة، فدعنا حتى يزول الوباء، فأماتهم الله ثمانية أيام حتى انتفخوا، وعجز بنو إسرائيل عن دفنهم لكثرتهم، فأحياهم الله وقد بقي منهم شيء من ذلك النّتن وقالوا إن هذا الموت لم يكن كالموت الذي يكون وراءه الحياة للبعث والنشور، وإنما هو نوع انقطاع لتعلق الروح بالجسد بحيث لا يلحقه التغيير والفساد، وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد، حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بأنه موت حقيقي.
وقيل إنه من خوارق العادات، فلا يجرى على سنن الموت الطبيعية.
(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمة الحق، وتأمين الدعوة، ونشر الدين، حتى لا يغلب أهله، ولا يصدهم صادّ عن إقامة شعائره، وتلقين أوامره، والدفاع عن بلاد الإسلام إذا همّ الطامع في اغتصابها والتمتع بخيراتها، وإرادة إذلالها، والعدوان على استقلالها.
فهذا أمر لنا بأن نتحلّى بالشجاعة، ونلبس سرابيل القوة، ليخشى العدو بأسنا، ويرهب جانبنا، ونكون أعزاء ونحيا حياة سعيدة في دنيانا وأخرانا.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فعلينا أن نراقب أنفسنا فيما عسى أن نعتذر به عن التقصير عن امتثال الأمر بالقتال بنحو قولنا - ماذا نعمل، ليس لنا في الأمر شيء « ليس لها من دون الله كاشفة » إلى نحو ذلك من تعلّات الجبناء التي لا يتقبلها الله وما هي إلا مراوغة، وفرار من الاستعداد للدفاع ومقاتلة العدو، فالمتعلل بها مخادع لربه ولنفسه ولقومه.
فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول، عليم بما يفعل، حاسب نفسه حتى يتجلّى له من تقصيره ما يحمله على التشمير عن ساعد الجد لتدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت.
[سورة البقرة (2): آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالقتال في الآية السابقة دفاعا عن الحق، وكان ذلك يتوقف على بذل المال لتجهيز المقاتلة، والاستعداد للمدافعة، ولا سيما بعد أن ارتقت الفنون العسكرية، واحتاجت إلى علوم وصناعات كثيرة - حثّ هنا على بذل المال فيما يعين عليه، ويعلى شأن الدين، ويمنع عداوة المعتدين.
الإيضاح
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) حث سبحانه على الإنفاق في سبيل الله بهذا الأسلوب الذي يستفزّ النفوس ويبسط الأكف، إذ سماه قرضا لله، والله غني عن العالمين، لعلمه بأن داعي البذل في المصالح العامة ضعيف في نفوس أكثر الناس والرغبة فيه قليلة، فإنك لترى أن الغنى يبذل فضل ماله لأفراد يعيش بينهم، إما لاتقاء شر حسده، وإما لارتفاع مكانته في النفوس، وإما لجلب محبتهم إياه كما قال:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
ولا سيما إذا كان البذل لذوي القربي، فحظ النفس فيه أظهر، إذ يتعذر على الإنسان أن يكون ناعم البال بين أهل الضر والبؤس، سعيدا بين الأشقياء والمعوزين.
أما البدل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته، وحفظ حقوقه، فليس فيه شيء من حظوظ النفس التي تسهل عليها مفارقة ما تحبه وهو المال، إلا إذا كان تبرعا جهريا يتولاه الحكام والملوك.
من قبل هذا احتاج الأمر إلى المبالغة في الترغيب، فإنك لا تقول: من ذا الذي يفعل كذا إلا في الأمر العظيم الذي يندر أن يقدم عليه أحد، لأنه عظيم أو شاقّ قلّ من يتصدى له كما جاء في قوله: « مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ » وقوله: « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ».
والقرض الحسن هو ما حل محله ووافق المصلحة، لا ما قصد به الرياء والسمعة، نعم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن وإن أريد به الشهرة، لكنه لا يدل على ثقة المنفق بربه، وابتغائه مرضاته، ولا على حبه للخير لذاته، فلا يكون له حظ من نفقته يقرّبه إلى ربه.
والخلاصة - إنه لا يكون القرض حسنا إلا إذا وضع موضعه، مع البصر بوجه الحاجة وحسن النية، ليكون فيه منفعة للمسلمين من الطريق الذي شرعه الإسلام (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً) الأضعاف واحدها ضعف، وهو مثل الشيء في المقدار يزاد عليه، وقد عبر عن البذل في سبيله ابتغاء مرضاته بالقرض الحسن، وهذا يقتضى أنه لا يضيع منه شيء عند الله، ثم عبر ثانيا بالجزاء عليه أضعافا مضاعفة، زيادة في الترغيب والحث عليه.
وهذه الأضعاف الكثيرة التي جاء في بعض الآيات أنها تبلغ سبعمائة ضعف (والمراد من ذلك) تكون في الدنيا والآخرة. ذاك أن المنفق لإعلاء كلمة الله، ولتعزيز الأمة، والدفاع عن الحق، إنما يدافع عن نفسه، ويحفظ حقوقها، فضعف الأمة وضياع حقوقها لا يكون إلا بما يقع على أفرادها من البلاء والعسف والظلم - إلى أن بذل الأغنياء لأموالهم، وقيامهم بفريضة التعاون، وكفالة الغنى للفقير، وحماية القوي للضعيف - مما يوسع المرافق على الأمة ويوفر لها السعادة ويديم لأفرادها النعمة، ما بقوا على هذه السنة، واستقاموا على هذا النهج القويم ثم هم بذلك يستحقون سعادة الآخرة ومضاعفة الثواب، ورضوان الله « ورضوان من الله أكبر ».
(وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقبض أي يقتر ويضيق، ويبسط أي يوسع أي والله يقتر على بعض الناس لجهلهم بسنن الله في كسب المال، وعدم نهوضهم للسعي في مناكب الأرض بحسب الأوضاع التي شرعها الله لعباده في هذه الحياة، ويبسط الرزق لآخرين، لأنهم ساروا على النواميس التي تقتضيها طبيعة الحياة، واتخذوا الأسباب التي توصل من سلكها إلى نتائجها المحتومة كما أرشدت إلى ذلك الفطرة وسنة الوجود. ولو شاء أن يغني فقيرا، أو يفقر غنيا لفعل، فإن الأمر كله له، وبيده القبض والبسط، فحضّ الأغنياء على مؤازرة الفقراء لم يكن من حاجة له، أو عجز منه، بل هداية منه لعباده، ليشكروه على تلك النعم فيزيدهم منها كما قال: « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » وبذلك يبلغ النوع الإنساني كماله الاجتماعى الذي أعده له بحكمته حتى يحقق معنى الخلافة في الأرض ويعمرها على أحسن الوجوه، وأفضل الحالات.
ثم بين مصير الخلق ومجازاتهم على أعمالهم من خير أو شر، وفيه وعد ووعيد فقال:
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) والرجوع إلى الله ضربان:
(1) رجوع في هذه الحياة بالسير على سننه الحكيمة، ونظمه في الخليقة، بأن يعرف المرء أن الغنى يكون بعمل العامل وتوفيق الله وتسخيره، وأن البذل من فضل الله يأتي بالمنافع الخاصة للباذل، وبالمنافع العامة لقومه الذين يعتز بهم ويسعد بسعادتهم، وأن تركه يعقبه مفاسد ومضار عامة وخاصة للأمم والأفراد، وأنه لا يستقل بعمله مهما أوتي من رجاحة عقل، بل له حاجة إلى معونة الله وتوفيقه بتسخير الأسباب له.
(2) رجوع في الآخرة حين تظهر للمرء نتائج أعماله وآثار أفعاله « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ».
[سورة البقرة (2): الآيات 246 الى 247]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكًا نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكًا قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)
تفسير المفردات
الملأ: القوم يجتمعون للتشاور، ولا واحد له، وسموا بذلك لأنهم يملئون العيون رواء، والقلوب هيبة، والنبي هو شمويل معرّب صمويل أو صموئيل، عسى كلمة تفيد توقع الحصول وقرب تحققه، كتب: أي فرض، وطالوت معرب شاول لقب به لطوله، فقد جاء في سفر صموئيل الأول من العهد العتيق (فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب، من كتفه فما فوق) اصطفاه أي فضله بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك، وبسطة الجسم عظمه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات التي قبل هذه شرع القتال لحماية الحق وبذل المال في سبيل الله لعزة الأمة ومنعتها، وأن من ينحرف عن ذلك يتردى في مهاوى الردى كما وقع لمن خرجوا من ديارهم فارّين من عدوهم على كثرة عددهم. هنا بين قصة قوم من بني إسرائيل أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن واستحقوا الخزي والنكال، لكن جاءت هذه القصة مفصلة تبين ما في القصة الأولى المجملة، فإن الأولى تصرح بأن موتهم كان بذهاب استقلالهم، وأنه نتيجة لفرارهم وضعف عزيمتهم، لكن لم يذكر سبب إحيائهم وإن كان قد فهم مما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال أن هذا هو سنة الله في إحياء الأمم. أما هذه القصة فقد فصلت احتياج هؤلاء القوم إلى القتال لمدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم من أيديهم، فبذلوا الوسع في الاستعداد للدفاع، لكن الضعف قد بلغ منهم كل مبلغ، فتولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا منهم، ألهمهم الله رشدهم فاعتبروا وانتصروا.
وقد جاء قصص القرآن للعبرة والموعظة كما قال: « لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ » ومن ثم لم يذكر إلا ما تمس الحاجة إليه من الفائدة، أما ذكر التفاصيل والجزئيات فربما شغل عن ذلك - إلى ما فيها من خلاف ربما يذهب الثقة بها، ومن قبل هذا اقتدى كثير من المؤرخين في العصر الحديث بطريق القرآن فلا يذكرون إلا الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات، مع توافر أسباب ضبطها ونقل أخبارها بتصوير الوقائع والأماكن، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان، وإنك لترى في ذكر أخبار الحروب في العصر الحاضر التناقض الواضح في رسائل الفريقين المختصمين فيها، مما يرفع الثقة بها.
وإذا جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق، أو في كتب التاريخ القديمة ما يخالف ما في القرآن في باب القصص، فعلينا ألا نحفل به ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فحال التاريخ قبل الإسلام كانت حالكة الظلام، فلا يوثق إذ ذاك برواية، كما أن الكتب الدينية ليست لها أسانيد متواترة، وقد صرح القرآن بأن أتباع موسى نسوا حظّا مما ذكروا به، وحفظوا نصيبا وهذا الذي حفظوه حرفوه، وأن أتباع عيسى فعلوا مثل ما فعل أصحاب موسى، فلا ثقة بما جاء في قصص العهدين العتيق والجديد مما يسمى مجموعه الكتاب المقدس.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي ألم ينته إلى علمك قصص هؤلاء الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى في عصر داود عليه السلام، وكان بينهما زمان طويل. (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكًا نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي قالوا لنبيهم شمويل، أقم لنا أميرا نصدر عن رأيه في تدبير الحرب، وتنتظم به كلمتنا، وكان دأب بني إسرائيل أن يقوم أمرهم بملك يجتمعون عليه، يجاهد الأعداء ويجرى الأحكام، ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم، ويأتيهم بالخير من ربهم. (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) أي هل أتوقع منكم الجبن عن القتال إن كتب عليكم؟ (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أي أي سبب يدعونا إلى ترك القتال، وقد عرض لنا ما يوجبه إيجابا قويا بإخراجنا من ديارنا وأوطاننا واغترابنا عن أهلنا وأولادنا؟ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) أي فلما فرض عليهم القتال بعد سؤال النبي ذلك وبعث الملك - أعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله بعد مشاهدة العدوّ وشوكته، إلا قليلا منهم عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة كما سيأتي بعد. ذاك أن الأمم إذا قهرها العدو تهن قوّتها ويغلب عليها الجبن وتلبس ثوب الذل والمسكنة، فإذا أراد الله إحياءها بعد موتها نفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها وهم الأقلون، فيعملون ما لا يعمله الأكثرون.
وفي الآية من العبرة والفوائد الاجتماعية - أن الأمم حين الضعف قد تفكر في الدفاع حين الحاجة إليه، وتعزم على القيام به إذا توافرت الشرائط التي يتخيلونها كما قال:
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
فإذا توافرت لهم ضعفوا وجبنوا وزعموا أن ما هم عليه من القوة غير كاف لمقاومة الأعداء، والتمسوا لأنفسهم المعاذير، وأكثروا من التعللات الواهية.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي بالذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها، وحفظا لحقوقها، فيصبحون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين، وفي هذا وعيد لأمثالهم لا يخفى.
(قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكًا) روي في أخبار بني إسرائيل أن الإسرائيليين في الزمن الذي بعث فيه صموئيل نبيا لهم، كانوا قد انحرفوا عن شريعتهم، وعبدوا الأصنام والأوثان، وضعفت فيهم الرابطة الدينية، فسلط الله عليهم أهل فلسطين، فأثخنوهم وقتلوا منهم العدد الكثير، وأخذوا تابوت عهد الرب، وكانوا من قبل يستفتحون به (يطلبون الفتح والنصر به) على أعدائهم ففترت هممهم واستكانوا وذلوا، ولم يكن لهم إلى ذلك العهد ملوك، بل رؤساؤهم وقضاتهم رجال الدين، ومن بينهم أنبياؤهم، ومن هؤلاء صموئيل فقد كان قاضيا، ولما كبرت سنه جعل بنيه قضاة، فكانوا من قضاة الجور وأكلة الرّشا، فاجتمع شيوخ بني إسرائيل الذين عبر عنهم القرآن بالملأ، وطلبوا من صمويل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كبقية الشعوب الأخرى، فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستعبادهم للأمم فألحوا، فألهمه الله أن يختار لهم شاول ملكا.
(قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) أي كيف يملّك علينا وهو لا يستحق هذا التملك؟ لأن هناك من هو أحق به منه، ولأنه لا يوجد لديه ما يتوقف عليه الملك وهو المال، ولأنه ليس من سلائل الملوك ولا من سلائل النبوّة، وقد كان الملك في سبط يهوذا بن يعقوب لا يتجاوزه إلى غيره ومنهم داود وسليمان، وكانت النبوة في سبط لاوى بن يعقوب، ومنه موسى وهرون.
وقد جرت العادة عند الناس أن الملك لا بد أن يكون وارثا للملك أو ذا نسب شريف يسهل على عظماء الناس أن يخضعوا له، وأن يكون ذا مال كثير يدبر به الملك ولا يأبهون بمعارفه وصفاته الذاتية وفضائله وأخلاقه.
من أجل هذا بيّن الله فيما حكاه عن نبيه خطأ هؤلاء القوم في زعمهم أن الملك لا يستحق إلا بالنسب وسعة المال فقال:
(قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أي قال لهم نبيهم: إن الله اختاره ملكا عليكم لما فيه من المزايا الآتية:
(1) الاستعداد الفطري وهو في المنزلة الأولى من الأهمية، ومن ثم قدمه.
(2) السعة في العلم الذي يكون به التدبير، ومعرفة مواطن ضعف الأمة وقوتها وجودة الفكر في تدبير شئونها.
(3) بسطة الجسم وكمال قواه المستلزمة لصحة الفكر، فقد جاء في أمثالهم: العقل السليم في الجسم السليم. وللشجاعة والقدرة على المدافعة والهيبة والوقار.
(4) توفيق الله تعالى له بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: « وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ ».
أما المال فليس بلازم في تأسيس الملك، لأنه متى وجدت الأسباب سهل على صاحبها إيجاد المال اللازم لتدبير الملك، فكم في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي وكان استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها كافيا في الاستيلاء عليها، واستعانته بأهل العلم والشجاعة كافيا في تمكين سلطته فيها.
(وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي والله واسع التصرف والقدرة، إذا شاء أمرا اقتضته حكمته في نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة، عليم بوجوه الحكمة، فهو يضع لهم من السنن والنظم ما هو في منتهى الإبداع والإتقان، وليس في الإمكان أبدع مما كان.
[سورة البقرة (2): الآيات 248 الى 252]
وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
تفسير المفردات
الآية: العلامة، والتابوت: صندوق وضعت فيه التوراة، أخذه العمالقة ثم ردّ إلى بني إسرائيل وفي سفر تثنية الاشتراع: أن موسى لما أكمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون شاهدا عليكم. ثم كانت حرب بين الفلسطينيين وبني إسرائيل على عهد عالي الكاهن انتصر فيها الفلسطينيون، وأخذوا التابوت من بني إسرائيل ونكلّوا بهم تنكيلا، فمات
عالي كمدا، وكان صموئيل أو شمويل قاضيا لبني إسرائيل من بعده وهو نبيهم الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ففعل، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت الذي أقامه لهم، والسكينة: ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب، وتحمله: أي تحرسه وقد جرت عادتهم بأن من يحفظ شيئا في الطريق ويحرسه يقال إنه حمله، وإن كان الحامل غيره، وفصل بالجنود: أي فصل عن بلده مصاحبا لهم لقتال العمالقة، والجنود:
واحدهم جندى وهم العسكر وكل صنف من الخلق كما جاء في الحديث « الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها: ائتلف، وما تناكر منها اختلف » والابتلاء: الاختبار والامتحان، والنهر (بسكون الهاء وفتحها) كان بين فلسطين والأردن، والشرب: تناول الماء بالفم من موضعه وابتلاعه دون أن يشرب بكفين ولا إناء، وطعم الشيء: أي ذاقه مأكولا كان أو مشروبا، والغرفة (بالضم) المقدار الذي يحصل في الكف بالاغتراف، والغرف: أخذ الماء بالكف ونحوه، والطاقة: أدني درجات القوة، وجالوت: أشهر أبطال الفلسطينيين أعدائهم، والفئة: الجماعة من الناس قليلا كان عددهم أو كثيرا، والبراز (بالفتح) الأرض المستوية الفضاء، والإفراغ: إخلاء الإناء مما فيه بصبه، وثبات القدم: كمال القوة وعدم التزلزل عند المقاومة، وداود: هو داود ابن يسّى وكان راعى غنم وله سبعة إخوة هو أصغرهم، والحكمة: النبوة وعليه نزل الزبور كما قال: « وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا » وتعليمه مما يشاء هو صنعة الدروع كما قال: « وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ » ومعرفة منطق الطير كما قال: « عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ » وفصل الخصومات لقوله: « وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ».
المعنى الجملي
في هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم.
الإيضاح
(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) أي وقال لهم نبيهم: إن من علامة عناية الله بطالوت عود التابوت إليكم، وفيه ما تطمئن به قلوبكم (وقد كان له عندهم شأن ديني خاص) وفيه بقية من رضاضة الألواح (فتاتها) وعصا موسى وثيابه وشىء من التوراة وأشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهرون، وقد أضيف إلى آل موسى وآل هرون، لأنه قد تناولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت.
وفي صدور هذا القول من النبي دليل على أن بني إسرائيل لم يقنعوا بما احتج به عليهم من استحقاق طالوت للملك للأسباب المتقدمة، ومن ثم جعل لهم علامة أخرى تدل على عناية ربه به.
وقد وصف التابوت في كتب بني إسرائيل بأوصاف هي غاية في الغرابة في كيفية صنعه وجمال منظره، وما تحلّى به من الذهب ودخل في تركيبه من الخشب الثمينة.
والسبب في صنعه أن المصريين الوثنيين استعبدوا الإسرائيليين دهرا طويلا، فملكت قلوب بني إسرائيل عظمة الهياكل الوثنية، وما فيها من الزينة وجمال الصنعة، فأراد الله أن يشغل قلوبهم عنها بمحسوسات من جنسها تنسب إليه وتذكّر به وقد سمى التابوت أولا تابوت الشهادة: أي شهادة الله سبحانه، ثم تابوت الربّ، وتابوت الله.
وقد جاء الإسلام بمنع الزخارف والزينة في المساجد وبيوت العبادة، حتى لا بشغل المصلى شيء منها عن مناجاة ربه. ولكن وا أسفا قلّد المسلمون أرباب الملل الأخرى في الزّخرف والنقش في المساجد والمنابر، وأقيمت الأضرحة، ولبس رجال الدين مثل لباسهم، بل سبقوهم في كثير من ذلك، فأصبحت المساجد كأنها هياكل ومعابد للوثنيين، ونسوا أو تناسوا الحكمة التي لأجلها امتنع المسلمون في الصدر الأول عن تجميلها، وفرشها بالطنافس وعمل الحلي فيها، وصدق فيهم ما جاء في الأثر: « لتتّبعنّ سنن من قبلكم باعا فباعا حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه ».
(تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قيل إن البقرتين اللتين حملتا التابوت وجرّتا العجلة (العربية) من بعض بلاد فلسطين إلى بني إسرائيل كانتا تسيران مسخّرتين بإلهام الملائكة وحراستهم، ولم يكن لهما قائد ولا سائق.
وقد جرت العادة بأن ما يحدث بإلهام ولا كسب فيه للبشر وهو من الخير يسند إلى إلهام الملائكة.
وقالوا في سبب إتيان التابوت: إن أهل فلسطين ابتلوا بعد أخذ التابوت بالفيران في زرعهم، والبواسير في أنفسهم فتشاءموا منه، وظنوا أن إله إسرائيل انتقم منهم، فأعادوه على عجلة تجرها بقرتان، ووضعوا فيه صور فيران وصور بواسير من الذهب، جعلوا ذلك كفارة لذنبهم.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في مجيء التابوت علامة على عناية الله بكم، واصطفائه لكم هذا الملك الذي ينهض بشئونكم، وينكل بعدوكم، فعليكم أن ترضوا بملكه، ولا تتفرقوا عنه، بل عاونوه يرق بكم إلى مراقى السعادة والفلاح.
(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أي فلما خرج طالوت من البلد يصحبه هؤلاء الجند قال لهم هذه المقالة.
وقد روى أنهم لما رأوا التابوت لم يشكّوا في النصر، فسارعوا إلى الجهاد، فقال لهم طالوت: لا يخرج معى شيخ ولا مريض، ولا رجل بنى بناء ولم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها، ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا (شديد الحر) وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء، وسألوا الله أن يجرى لهم
نهرا، فقال لهم: إن الله سيختبر حالكم ويعلم المطيع منكم من العاصي، والراضي من الساخط، وستقابلون نهرا فمن شرب منه فليس من أشياعى المؤمنين، إلا أن يكون ما يتناوله قليلا وهو غرفة تؤخذ باليد، ومن لم يذقه فهو الذي يوثق به ويركن إليه عند الشدائد.
وحكمة هذا الابتلاء أن يختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال وثباته حين النزال، ويبعد من يظهر عصيانه، ويخشى في الوغى خذلانه، فطاعة الجيش لقائده من أهم أسباب الظفر، وأحوج القواد إلى ذلك من ولّى على قوم وهم له كارهون.
والخلاصة - أن مراتب الاختبار ثلاث:
(1) من يشرب فيروى ولا يبالى بمخالفة الأمر، وهذا يتبرّأ منه.
(2) من يأخذ بيده غرفة يبلّ بها ريقه، وهو مقبول على ما به من نقص في الجملة.
(3) من لا يذوق الماء أبدا، وهذا هو المولى والنصير الذي يوثق باتحاده ويعوّل على جهاده.
(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) لأنهم كانوا قد اعتادوا العصيان وفسد بأسهم وتزلزل إيمانهم، ولم يبق فيهم من أهل الإيمان والغيرة على الدين إلا النفر القليل.
والقليل من ذوي العزائم الصادقة والنفوس التي أشربت حب الإيمان وامتلأت غيرة عليه - يفعل ما لا يفعله الكثير من ذوي الأهواء المختلفة، والنزعات المتضاربة « تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى ».
(فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي فلما تخطى طالوت النهر هو ومن آمن معه وهم القليل الذين أطاعوه، ولم يخالفوه فيما ندبهم إليه، قال بعض ممن آمن معه من المؤمنين لبعض آخر منهم، وهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، لا قدرة لنا على محاربة جالوت وجنوده، فضلا عن أن يكون لنا الغلب عليهم، لما شاهدوا من كثرتهم وقوتهم، فردّ عليهم الفريق الثاني لوثوقه بنصر الله وقوة أهل الحق على قلتهم، وخذلان أهل الباطل على كثرتهم، كما حكى الله عنهم.
(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) أي قال الذين يستيقنون بلقاء ربهم بالبعث، ويتوقعون ما عنده من الجزاء والثواب: كثيرا ما رأينا الجماعات القليلة غلبت الجماعات الكثيرة حين يكتب الله لهم الترفيق بمشبئته وقدرته، والله لا يذلّ من نصره وإن قلّ عدده، ولا يعزّ من خذله وإن كثرت آلاته وعدده وهذا دليل منهم على ثقتهم بنصر الله وتوفيقه.
(وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فهو ينصرهم على عدوهم، ويثبتهم عند لقائه، وفي هذا حضّ على الصبر المؤدى إلى الغلبة، والثقة بالله عند الشدائد، ومدلهمات الحوادث، والرجوع إليه إذا فدح الخطب، وعظم الأمر، فهو القادر على النصر والتأييد لمن أخلص له من عباده.
(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لأعدائه الفلسطينيين جالوت وجنوده، وشاهدوا ما هم عليه من كثرة العدد والعدد لجئوا جميعا إلى الله يدعونه أن يفرغ على قلوبهم الصبر، ويثبت أقدامهم في القتال، ويملأ نفوسهم ثقة واطمئنانا، وينصرهم على أولئك القوم الكافرين عبدة الأوثان الذين أشربوا حبّ الدنيا وامتلأت قلوبهم بالترهات والأباطيل. ولقد راعوا الترتيب الطبيعي في الدعاء بحسب الأسباب الغالبة، إذ الصبر سبب الثبات، والثبات سبب النصر، وأولى الناس بنصر الله المؤمنون.
(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي فاستجاب الله دعاءهم، فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم وانتهى أمرهم بالهرب من المعركة وفاقا لسنته تعالى في نصر أهل الحق المؤمنين الصابرين على أهل الباطل الضالين.
(وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كان جالوت جبار الفلسطينيين طلب البراز فلم يجرؤ أحد من بني إسرائيل على مبارزته، حتى جعل طالوت مكافأة لمن يقتله أن يزوجه ابنته ويحكّمه في ملكه، فبرز له داود وكان صغير السن ولم يليس درعا ولم يحمل سلاحا، بل حمل حجارته ومقلاعه الذي كان من عادته أن يقاتل به الذئب والأسد، فسخر منه جالوت وقال: ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة، لأبدّدن لحمك، ولأطعمنّه اليوم للطير والسباع، فرماه داود بمقلاعه، فأصاب الحجر رأسه فصرعه، ودنا منه فاحتزّ رأسه، وجاء به فألقاه بين يدي طالوت، وانهزم من كان معه، وشهر داود بين الناس، وكان له من الصيت والسمعة ما ورث به ملك بني إسرائيل، وآتاه الله النبوّة وأنزل عليه الزبور وعلّمه صنعة الدروع، ومعرفة منطق الطير، وعلوم الدين وفصل الخصومات كما قال تعالى: « وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ » ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله إذ كان من أحوالهم أن يبعث الله إليهم نبيا ويملّك عليهم ملكا يأتمر بأمر ذلك النبي، وكان نبي هذا العصر شمويل والملك طالوت، فلما توفّيا صار له الملك والنبوة.
ثم بين سبحانه الحكمة في الأمر بالقتال الذي استفيد من الآيات السالفة فقال:
(وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ولو لا دفع الله أهل البغي والجور والشرور والآثام بأهل الإصلاح والخير، لغلب أهل الفساد وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم وصار لهم السلطان في الأرض.
فكان من رحمة الله لعباده وفضله عليهم، أن أذن للمصلحين بقتال البغاة المفسدين وهو سبحانه جعل أهل الحق حربا لأهل الباطل، وهو ناصرهم ما نصروه وأصلحوا في الأرض.
وقد نسب عز اسمه الدفع إلى نفسه، لأنه سنة من سننه في المجتمع البشرى، وعليه بنى نظام هذا العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها
(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي هذه القصص السالفة من حديث الألوف الذين خرجوا من ديارهم، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة، وقتل داود جالوت - آيات الله نقصها عليك على وجه لا يشك فيه أهل الكتاب، إذ هم يجدونه مطابقا لما جاء في كتبهم الدينية والتاريخية فأنت من المرسلين لما دلت عليه هذه الآيات، ولو كنت قد تعلمتها لجئت بها على النهج الذي عند أهل الكتاب أو غيرهم من القصّاص، ولم تشاهد أزمنة وقوعها حتى تراها رأي العين، وقد أشار سبحانه إلى مثل هذه الحجة للدلالة على نبوّته ﷺ فقال: « وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُونًا فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ »
العبرة بهذه القصص
(1) إن الأمم إذا سيمت الخسف تتنبه أفكارها إلى دفع الضيم، فتعلم أن لا سبيل إلى ذلك إلا بانضوائها تحت لواء زعيم عادل باسل كما وقع من بني إسرائيل حين نكل بهم أهل فلسطين.
(2) إن أول من يشعر بالحاجة إلى ذلك هم خواصها وأشرافها كما حدث من الملأ من بني إسرائيل، ثم تنتقل الفكرة من ذلك إلى عامتهم، حتى إذا وصلت إلى حيز العمل نكص ضعفاء العزائم على أعقابهم كما يدل عليه قوله: « فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ».
(3) إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الملك، ومن ثم لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم ليختار لهم ملكا، وقد جاء الإسلام وجعل المرجح اختيار أرباب المكانة في الأمة، وهم أهل الحل والعقد، وعون الحاكم وقوته، لاحترام الأمة لهم وثقتها بهم.
(4) إن الأمم زمن الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة هم أصحاب الجاه والثروة كما يدل على ذلك قول المنكرين لملك طالوت (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) مع أن الأجدر بهذا الاختيار أهل الشرف بمعارفهم وعلومهم وأخلاقهم الفاضلة، ونفوسهم الكريمة.
(5) إن الأمم إذا رقيت في علومها ومعارفها وحضارتها اختارت ملوكها من سلائل الملوك والأمراء، وحافظت على قوانين الوراثة، ولم يشذ عن ذلك إلا أصحاب الحكومات الجمهورية التي تختار رئيسها بالانتخاب.
(6) إن الظفر لا يتم للقائد إلا إذا أطاعه جنده في كل ما يأمر وينهى، وعلى هذا بنيت قوانين الجندية في العصر الحديث.
(7) إن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة إذا صبرت وثبتت وأطاعت رؤساءها والتجارب والمشاهدة تدل على صدق هذا.
(8) إن من سنن الله في خلقه دفع الناس بعضهم بعضا وهو المعبر عنه في العصر الحديث (بنظرية تنازع البقاء) ومن ثم قالوا إن الحرب طبيعية في البشر، إذ بها يبقى الأصلح والأمثل، وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » أي إن سنة الله أن يقذف زبد الباطل الضار بالمجتمع ويمحوه من الوجود، ويبقى إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه عمران العالم، ويحفظ به الخلق من أعاصير الظلم والفساد، حتى يتغلب الخير على الشر، والحق على الباطل، ولا يزال هذا سنة الوجود ما بقي الإنسان على ظهر البسيطة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
ثمّ تصنيف هذا الجزء بمدينه حلوان من أرباض القاهرة في اليوم الثامن والعشرين من جمادى الأولى من سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.
فهرس أهم المباحث العامة العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث
5 الحكمة في توحيد القبلة في الصلاة لجميع المسلمين.
6 شهادة المسلمين على الغلاة في الدين والمفرّطين فيه.
7 كان تحويل القبلة امتحانا لصدق الإيمان أو الريب فيه.
9 الحكمة في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
13 مقال عبد الله بن سلام لعمر بن الخطاب في اعتقاده أن محمدا نبي حقّا.
21 نعم الله قد تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب.
22 من آثار الصلاة المتقبلة عند الله أنها تنهى عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
23 حياة الشهداء حياة غيبية لا ندرك كنهها.
24 ابتلاء الله لعباده المؤمنين بنقص الأموال والأنفس والثمرات.
25 الجزع المذموم هو ما يدعو صاحبه إلى فعل ما ينهى عنه الشرع ويمجه العقل.
27 الأحكام الشرعية شعائر ومعاملات.
28 سمى الله إحسانه إلى عباده شكرا تعويدا لهم الآداب السامية.
29 كتمان الحق ضربان فعلهما اليهود في التوراة.
30 من يرى حرمات الدين تنتهك، ثم لا ينتصر بيد ولا لسان، فقد استحق وعيد الله.
32 الشرك ضربان، شرك في الألوهية وشرك في الربوبية.
34 بعض ظواهر الكون التي ترشد إلى وحدانيته تعالى.
39 طلب المسببات من أسبابها لا يحظره الدين بل يطلبه.
42 من الأنداد من يتخذ شارعا يحلل ويحرم، ومنهم من يعتمد عليه في دفع الضر وجلب النفع.
45 أبعد الناس عن معرفة الحق هم المقلدون.
46 المقلدون للآباء والأجداد دون أن يفقهوا شيئا كالغنم تسخر لراعيها.
48 الدين الإسلامي وسط في أحكامه يعطى الروح حقه والجسد حقه.
49 ما حرم من الأطعمة وسبب تحريمه.
55 الإيمان بالنبيين يستدعى الاهتداء بهديهم والتأدب بآدابهم.
57 في بذل المال على الفقراء والمساكين مراعاة للتكافل العام بين المسلمين.
58 ما يسمونه بالحيل الشرعية لإبطال الزكاة جناية على الدين بهدم ركن من أركانه.
59 الصبر ألزم في مواطن.
61 عفو الولي عن القاتل أو أخذه الدية منه رخصة عظيمة في الدين.
61 القصاص بالعدل والمساواة هو الذي يربى الشعوب.
65 الوصية للوالدين والأقارب، والوصية للوارث.
66 تبديل الوصية بما فيه الخير للموصى لهم لا مانع منه.
68 فائدة الصوم وسر التشريع فيه
70 الصيام الآن لا يحقق حكمة الشارع فيه
71 الأعذار المبيحة للفطر
72 المؤمنون بالنسبة إلى الصوم أقسام ثلاثة.
73 التطوع في الفدية.
80 أكل الأموال بالباطل له ضروب وألوان.
84 العلوم التي نحتاج إليها في حياتنا أنواع.
85 شرع قتال المشركين خوف الفتنة في الدين وصدّ الدعوة إلى الحق.
93 الجهاد شامل للجهاد بالنفس والجهاد بالمال.
96 أول حجة حجها المسلمون.
97 الأعذار المبيحة للتحلل من الإحرام.
99 أشهر الحج، وفائدة التوقيت بها.
100 الحكمة في حظر الرفث والفسوق والجدال في الحج.
101 لا حظر في التجارة في الحج إذا لم تكن هي المقصودة.
103 قريش ومن دان دينهم كانوا يترافعون في الجاهلية أن يفيضوا مع الناس.
104 أمر الحجاج بذكر الله بعد قضاء المناسك، وترك التفاخر كما كانوا في الجاهلية.
105 الناس في ذكر الله فريقان.
107 أمر الحاج بذكر الله في أيام معدودات.
110 المنافق يخدع الناس بضروب من الخدع.
115 بالعدل تحيا الأمم، وبالظلم تموت.
119 الاختلاف والتفرق بين الأمم.
122 الإنسان مدني بالطبع، والاختلاف بين أفراده في آرائهم ضربة لازب.
124 الدين يحث على الوحدة والائتلاف، فالاختلاف فيه بغى وعدوان.
126 الأمم لا تنال رضوان الله إلا بعد تمحيصها بضروب من الابتلاء.
130 أحق الناس بالإنفاق عليهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين.
132 الحكمة في شرع الجهاد في سبيل الله.
135 الفتنة في الدين شر من القتل.
136 الردّة تحبط الأعمال في الدنيا والآخرة.
138 شرع تحريم الخمر على طريق التدرج لحكمة.
139 الخمر في لسان الشرع اسم لكل مسكر.
139 كيفية الميسر عند العرب.
140 مضار الخمر الصحية والعقلية والمالية، ومضارها في المجتمع
142 مضار الميسر.
145 الحث على صدقة التطوع.
146 التعاون بين الأفراد في النفس والمال ضرورى لرقى الأمم.
149 كل ما فيه صلاح لليتيم فهو خير له.
152 منع الدين التزوج بالمشركات، وأباح التزوج بالكتابيات.
157 الأضرار التي تنشأ من قربان الحائض.
158 حث الدين على الزواج.
161 كفارة اليمين.
164 عدة المطلقة المدخول بها.
167 رفع الدين المرأة إلى درجة لم يرفعها إليها دين سابق.
167 رياسة البيت والقيام بشئونه من حق الرجل.
169 لم يكن للطلاق في الجاهلية حد ولا عدد فأصلح ذلك الإسلام.
171 الحكمة في إثبات حق الرجعة.
174 لا تحل المطلقة ثلاثا لزوجها إلا إذا تزوجت غيره وضاجعها.
179 الرحمة والمودة بين الزوجين.
181 حكم العضل أي منع المرأة من الزواج.
ا185 إرضاع الولد واجب على الأم.
187 نفقة الولد واجبة على الأب.
190 عدة المتوفى عنها زوجها.
193 إصلاح الإسلام لعدة المتوفى عنها زوجها.
193 مدة الحداد الواجبة على الزوج.
194 حرمة المواعدة سرّا في عدة الوفاة.
197 الحكمة في وجوب المتعة أو ندبها للزوجة.
205 الأمر بالوصية للأزواج مدة المحول.
205 المطلقات أصناف أربعة.
207 تموت الأمم باحتمالها الضيم والذل.
209 إحياء الأمم يكون بنابتة من أبنائها تسترد المجد الضائع.
210 القتال في سبيل الله.
211 سمى الله إنفاق المال في سبيله قرضا حسنا.
212 الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف.
213 الرجوع إلى الله ضربان.
215 لا يعول إلا على قصص القرآن لا على ما جاء في التوراة والإنجيل.
217 عدم رضا بني إسرائيل عن تعيين طالوت ملكا عليهم.
218 أسباب اختيار صموئيل له.
221 المسلمون قلدوا من قبلهم في الزخرفة والنقش في المساجد.
223 كيف اختبر طالوت جنوده؟
225 لو لا دفع أهل البغي والجور بأهل الصلاح لفسدت الأرض
226 العبرة من قصص داود وجالوت.
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |