تفسير المراغي/الجزء الحادي والعشرون

ملاحظات:


[تتمة سورة العنكبوت ]

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة العنكبوت (29): الآيات 46 الى 49]

وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)

تفسير المفردات

الجدل: الحجاج والمناظرة، مسلمون: أي خاضعون مطيعون، والجحد: نفى ما في القلب ثبوته أو إثبات ما في القلب نفيه والمراد به هنا الإنكار عن علم، والارتياب: الشك، الظالمون: أي الذين ظلموا أنفسهم وجحدوا وجه الحق.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة في تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله: « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ » وقوله: « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها » إلى أشباه ذلك - أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى، ولا يسفّه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.

ذاك أن المشركين جاءوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغي من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغي إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة في القول، والأسلوب الجافّ في الحديث، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.

ثم أمر رسوله أن يقول لهم: آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم من التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له.

ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل في الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب في صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانا مدى حياته، يأتي بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب، ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل في محيط نشأ به، ولا في بلد كان يأويه - لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.

الإيضاح

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا تجادلوا من أراد الاستبصار في الدين من اليهود والنصارى إلا باللين والرفق، وقابلوا الغضب بكظم الغيظ، والشّغب بالنصح، والسّورة بالأناة.

ونحو الآية قوله: « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » وقوله: « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » وقوله لموسى وهرون حين بعثهما إلى فرعون « فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ».

إلا من ظلموا منهم وحادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح الحجة، وعاندوا وكابروا، ولم يجد فيهم الرفق، فمثل هؤلاء لا ينفع فيهم إلا الغلظة:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

قال سعيد بن جبير ومجاهد: المراد بالذين ظلموا منهم - الذين نصبوا القتال للمسلمين وآذوا رسول الله ، فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.

(وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي إذا حدّثكم أهل الكتاب عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن أن يكونوا صادقين فيه وأن يكونوا كاذبين، ولم تعلموا حالهم في ذلك - فقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا والتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم، ومعبودنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له، منقادون لأمره ونهيه والطاعة له.

روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال: « كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون »

وروى عبد الله بن مسعود أن النبي قال: « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذّبوا بحق، وإما أن تصدّقوا بباطل »

وفي البخاري عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدّث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب.

ثم بين أنه لا عجب في إنزال القرآن على الرسول فهو على مثال ما أنزل من الكتب من قبل فقال:

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك أيها الرسول - أنزلنا إليك هذا الكتاب، فالذين آتيناهم الكتب ممن تقدم عهدك من اليهود والنصارى يؤمنون به، إذ كانوا مصدقين بنزوله بحسب ما علموا عندهم من الكتاب، ومن كفار قريش وغيرهم من يؤمن به.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل، ويغطّى ضوء الشمس بالوصائل، ويغمط حق النعمة عليه، وينكر التوحيد عنادا واستكبارا.

ثم ذكر ما يؤيد إنزاله ويزيل الشبهة في افترائه فقال:

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي وما كنت من قبل إنزال الكتاب إليك تقدر أن تتلو كتابا ولا تخطه بيمينك: أي ليس من دأبك وعادتك ذلك، إذ لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب المشركون وقالوا لعله التقط ذلك من كتب الأوائل، ولما لم يكن أمرك هكذا لم يكن لارتيابهم وجه.

قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية.

وخلاصة ما سلف - إنك قد لبثت في قومك عمرا طويلا قبل أن تأتى بهذا القرآن، لا تقرأ ولا تكتب، وكل واحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهذه صفتك في الكتب المتقدمة كما قال: « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ».

فلا وجه إذا للشك في أن هذا القرآن منزّل من عند الله وليس مفتعلا من صنع يدك تعلمته من الكتب المأثورة عمن قبلك كما حكى سبحانه عنهم من نحو قولهم: « وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ».

ثم أكد ما سلف وبين أنه منزل من عند الله حقا فقال:

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحق، يسّر الله حفظها وتفسيرها للعلماء كما قال: « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ ».

روى البخاري أن النبي قال: « ما من نبي إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا ».

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي وما يكذب آياتنا ويبخس حقها ويردها إلا المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.

ونحو الآية قوله: « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ».

[سورة العنكبوت (29): الآيات 50 الى 52]

وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله وليس بمفترى من عند محمد - أردف هذا شبهة أخرى لهم، وهي أنهم طلبوا من النبي أن يأتي لهم بمعجزة محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله لا إليه، فلو علم أنكم تهتدون بها لأجابكم إلى ما طلبتم، ثم بين سخف عقولهم وطلبهم الآيات الدالة على صدقه بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر وهي القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر من قبلهم ونبأ من بعدهم وحكم ما بينهم، وفيه بيان الحق ودحض الباطل، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين ثم أبان أن الله شهيد على صدقه وهو العليم بما في السموات والأرض، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم، ويؤمن بالجبت والطاغوت فقد خسرت صفقته، وسينال العقاب من ربه جزاء وفاقا على جحوده وإنكاره.

أخرج الدارمي وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي « كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم » فنزلت « أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ » الآية.

وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله « ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن »

أي يستغن به عن غيره. وعن عبد الله ابن الحرث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله ؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فسرّى عن رسول الله وقال: لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتمونى لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظى من الأمم » أخرجه عبد الرزاق.

الإيضاح

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال كفار قريش تعنتا وعنادا: هلا أنزل على محمد آية من الآيات التي أنزل مثلها على رسل الله الماضين كناقة صالح وعصا موسى وأشباههما من المعجزات المحسوسة التي ترى رأي العين، فيكون ذلك أقبل لدى النفوس وأدهش للعقول، فتلجئ إلى التصديق بمن تظهر على يده المعجزة.

فأمره الله أن يجيبهم بقوله:

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قل لهم: إنما أمر الآيات ونزول المعجزات إلى لله، ولو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى ما سألتم، لأن ذلك سهل يسير عليه، ولكنه يعلم أنكم إنما قصدتم بذلك التعنت والامتحان، فهو لا يجيبكم إلى ما طلبتم كما قال سبحانه « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ».

(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات، لا الإتيان بما اقترحتموه منها، فعلي أن أبلغكم رسالة ربى وليس علي هداكم كما قال: « مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا » وقال. « لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ».

ثم بين سبحانه سخفهم وجهلهم، إذ كيف يطلبون الآيات مع نزول القرآن عليهم فقال:

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أما كفاهم دليلا على صدقك أنزلنا الكتاب عليك، يتلونه ويتدارسونه ليل نهار، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، وقد جئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، وبينت الصواب فيما اختلفوا فيه كما قال: « أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ».

ثم بين فضائل هذا الكتاب ومزاياه فقال:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في هذا الكتاب الباقي على وجه الدهر - لرحمة لمن آمن به، ببيان الحق وإزالة الباطل، وتذكرة بعقاب الله الذي حل بالمكذبين قبلكم، وبما سيحل بهم من النكال والوبال، وبما سيكون لمن اتبع سنتهم وكذب بالآيات بعد وضوحها.

وبعد أن أقام الأدلة على صدق رسالته، وبين أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به - أمره أن يكل علم ذلك إلى الله وهو العليم بصدقه وكذبه فقال:

(قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا) أي كفى الله عالما بما صدر مني من التبليغ والإنذار، وبما صدر منكم من مقابلة ذلك بالتكذيب والإنكار، وهو المجازى كلّا بما يستحق، وإني لو كنت كاذبا عليه لا نتقم مني كما قال: « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ » بل إني صادق فيما أخبرتكم به، ومن ثمّ أيدنى بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات.

ثم علل كفايته وأكدها بقوله:

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو العليم بكل ما فيهما، ومن جملته شأني وشأنكم، فيعلم ما تنسبونه إلي من التقوّل عليه، وبما أنسبه إليه من القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عن الإتيان بمثله، فهو حجتى الفالجة عليكم، التي لم تستطيعوا لها ردا ولا دفعا.

ولما بين طريق الجدل مع كلّ من أهل الكتاب والمشركين - عاد إلى تهديد المشركين وبين مآل أمرهم، فقال:

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين يعبدون الأوثان والأصنام ويكفرون بالله، مع تظاهر الأدلة التي في الآفاق والأنفس على الإيمان به، ويكفرون برسوله مع تعاضد البراهين على صدقه، أولئك هم الأخسرون أعمالا، المغبونون في صفقتهم، من حيث اشتروا الكفر بالإيمان، فاستوجبوا العقاب حين الوقوف بين يدي الملك الديّان.

وخلاصة ذلك: إن الله سيجزيهم على ما صنعوا من تكذيبهم بالحق، واتباعهم للباطل، وتكذيبهم برسول الله، مع قيام الأدلة على صدقه « نارًا تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ».

[سورة العنكبوت (29): الآيات 53 الى 55]

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

المعنى الجملي

بعد أن أنذر المشركين بالعذاب، وهدّدهم أعظم تهديد قالوا له تهكما واستهزاء: إن كان هذا حقا فأتنا به، وهم يقطعون بعدم حصوله، فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجّل باستعجالكم، لأن الله أجّله لحكمة، ولو لا ذلك الأجل المسمى، الذي قتضته حكمته، وارتضته رحمته، لعجّله لكم ولأوقعه بكم، وإنه ليأتينّكم فجأة وأنتم لا تشعرون به، ثم تعجب منهم في طلبهم الاستعجال، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون.

الإيضاح

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي ويستعجلك كفار قريش بنزول العذاب، بنحو قولهم « مَتى هذَا الْوَعْدُ » وقولهم: « فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » ولو لا أجل مسمى ضربه الله لعذابهم، لجاءهم حين استعجالهم إياه.

(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وليأتينهم العذاب فجأة، وهم لا يشعرون بمجيئه، بل يكونون في غفله عنه، واشتغال بما ينسيهموه.

ثم زاد في التعجيب من جهلهم بقوله:

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي يطلبون منك إيقاع العذاب ناجزا في غير ميقاته، ويلحقون في ذلك، ولو علموا ما هم صائرون إليه، لتمنّوا أنهم لم يخلقوا، فضلا عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه.

ثم بين السبب في جهلهم وحمقهم، فقال:

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن جهنم ستحيط بالكافرين المستعجلين للعذاب يوم القيامة.

ثم ذكر كيف تحيط بهم، فقال:

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يوم يجلّلهم العذاب، ويكون من الأهوال والأحوال، ما لا يفى به المقال، ويقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ونحو الآية قوله: « لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ » وقوله « لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ » وقوله: « لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ » الآية، وقوله: « يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ » وقوله: « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ».

[سورة العنكبوت (29): الآيات 56 الى 60]

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار - اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة في ديارهم.

ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى بكم أن يكون ذلك في سبيل الله لتنالوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجرى من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم.

روي أن الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا: نخشى إن نحن هاجرنا عن الجوع وضيق المعيشة.

الإيضاح

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أييا عبادي الذين وحّدوني وآمنوا بي وبرسولي محمد ، إنّ أرضى لم تضق عليكم فتقيموا منها بموضع لا يحل لكم المقام فيه، فإذا انتشرت في موضع ما معاصى الله، ولم تقدروا على تغييرها، فاهربوا منه إلى موضع آخر تتمكنون من القيام فيه بشعائر دينكم.

روي أن رسول الله قال: « البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم »

ومن ثم لما ضاق على المستضعفين مقامهم بمكة خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة، فآواهم وأيدهم بنصره، وأنزلهم ضيوفا مكرمين ببلاده، ثم هاجر رسول الله والصحابة الباقون إلى المدينة.

والخلاصة: إن الله أمر المؤمنين بالهجرة إن لم يتسنّ لهم إقامة شعائر دينهم، إلى أرض يستطيعون ذلك فيها.

ثم حث على إخلاص العبادة له والهجرة من الوطن، فبين أن الدنيا ليست دار بقاء، وأن وراءها دار الجزاء، التي يؤتى فيها كل عامل جزاء عمله فقال:

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي أينما تكونوا يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وافعلوا ما أمركم به، فذلك خير لكم، فإن الموت لا محالة آت، ولله در القائل:

الموت في كل حين ينشد الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا

لا تركننّ إلى الدنيا وزهرتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا

أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين هم كانوا لها سكنا؟

سقاهم الموت كأسا غير صافية صيّرتهم تحت أطباق الثرى رهنا

ثم إلى الله مرجعكم، فمن كان مطيعا له جازاه خير الجزاء وآتاه أتم الثواب.

والخلاصة: لا يصعبنّ عليكم ترك الأوطان، مرضاة للرحمن، بل هاجروا إلى أوفق.

البلاد وإن بعدت، فإن مدى الدنيا قريب، والموت لا محيص منه، ثم إلى ربكم ترجعون، فيوفيكم جزاء ما تعملون، فقدموا له خير العمل تفوزوا بنعيم مقيم، وجنة عرضها السموات والأرض.

ثم بيّن جزاء المؤمن بربه، المهاجر بدينه، فرارا من شرك المشركين، فقال:

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي والذين صدّقوا الله ورسوله فيما جاء به من عنده، عملوا بما أمرهم به، فأطاعوه وانتهوا عما نهاهم عنه لنزلنهم من الجنة علالي وقصورا، تجرى من تحت أشجارها الأنهار، ما كثين فيها إلى غير نهاية، جزاء لهم على ما عملوا ونعم الجزاء.

ثم بين صفات هؤلاء العاملين الذين استحقوا تلك الجنات بقوله:

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي هؤلاء العاملون هم الذين صبروا على أذى المشركين، وشدائد الهجرة وغيرهما من الجهود والمشاقّ، وتوكلوا على ربهم فيما يأتون وما يذرون، كأرزاقهم وجهاد أعدائهم، فلا ينكلون عنهم، ولا يتراجعون ثقة منهم بأن الله معل كلمتهم، وموهن كيد الكافرين، وأنّ ما قسم لهم من الرزق من يفوتهم.

ثم ذكر سبحانه أن مما يعين على التوكل عليه معرفة أنه الكافي أمر الرزق في الوطن والغربة فقال:

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هاجرو أيها المؤمنون بالله ورسوله، وجاهدوا أعداءه، ولا تخافوا عيلة ولا إقتارا، فكم من دابة ذات حاجة إلى الغذاء والمطعم لا تطيق جمع قوتها ولا حمله، فترفعه من يومها لغدها عجزا منها عن ذلك، الله يرزقها وإياكم يوما بيوم وساعة فساعة، وهو السميع لقولكم نخشى من فراق أوطاننا العيلة، العليم بما في أنفسكم، وإليه يصير أمركم وأمر عدوكم من إذلال الله إياه ونصرتكم عليه ولا تخفى عليه خافية من أمور خلقه.

روى ابن عباس « أن النبي قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية ».

[سورة العنكبوت (29): الآيات 61 الى 63]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)

المعنى الجملي

لما بين الأمر للمشركين وذكر لهم سوء مغبة أعمالهم - خاطب المؤمنين بما فيه مدّكر لهم، وإرشاد للمشرك لو تأمله وفكر فيه، ومثل هذا مثل الوالد له ولدان: أحدهما رشيد والآخر مفسد، فهو ينصح المفسد أوّلا، فإن لم يسمع يعرض عنه، ويلفت إلى الرشيد قائلا: إن هذا لا يستحق أن يخاطب، فاسمع أنت ولا تكن كهذا المفسد، فيكون في هذا نصيحة للمصلح، وزجر للمفسد، ودعوة له إلى سبيل الرشاد.

الإيضاح

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله: من خلق السموات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر يجريان دائبين لمصالح خلقه؟ ليقولنّ: الذي خلق ذلك وفعله هو الله.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي فيكف يصرفون عن توحيده، وإخلاص العبادة له، بعد إقرارهم بأنه خالق كل ذلك.

والخلاصة - إنهم يعترفون بأنه هو الخالق للسموات والأرض، والمسخر للشمس والقمر، ثم هم مع ذلك يعبدون سواه، ويتوكلون على غيره، فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيرا ما يقرر القرآن توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية التي كانوا يدينون بها بنحو قولهم: لبّيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.

ولما ذكر اعترافهم بالخلق ذكر حال الرزق، من قبل أن كمال الخلق ببقائه، ولا بقاء له إلا بالرزق فقال:

(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي إن الله يوسع رزقه على من يشاء من خلقه، ويقتّر على من يشاء، فالأرزاق وقسمتها بيده تعالى لا بيد أحد سواه، فلا يؤخّرنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم خوف العيلة والفقر، فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن أرزاقها.

ونحو الآية قوله: « إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ».

ثم علل التفاوت في الرزق بين عباده بعلمه بالمصلحة في ذلك فقال:

(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه هو العليم بمصالحكم، فيعلم من يصلحهم البسط ومن يفسدهم، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء.

ثم ذكر اعترافهم بهذا بقوله:

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألتهم من ينزل من السحاب ماء فيحيى به الأرض القفر فتصير خضراء تهتز بعد أن لم تكن كذلك - لم يجدوا إلا سبيلا واحدة، هي الاعتراف الذي لا محيص عنه بأنه الله، فهو الموجد لسائر المخلوقات، ومن عجب أنهم بعد ذلك يشركون به بعض مخلوقاته التي لا تقدر على شيء من ذلك.

ولما أثبت أنه الخالق بدءا وإعادة - نبّه إلى عظمة صفاته التي يلزم من إثباتها صدق رسوله فقال:

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي قل متعجبا من حالهم: الحمد لله على إظهار الحجة، واعترافهم بأن النعم كلها منه تعالى، ولكن أكثر المشركين لا يعقلون ما لهم فيه من النفع في دينهم وما فيه الضر لهم، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الآلهة دون الله ينالون بها الزلفى والقرب عنده.

والخلاصة - إن أقوالهم تخالف أفعالهم، فهم يقرون بوحدانية الله وعظيم قدرته وجلاله، ثم هم يعبدون معه سواه مما هم معترفون بأنه خلقه.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 64 الى 66]

وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

تفسير المفردات

اللهو: الاستمتاع باللذات، واللعب: هو العبث وما لا فائدة فيه، الحيوان: أي الحياة التامة التي لا فناء بعدها.

المعنى الجملي

لما ذكر فيما سلف أنهم يعترفون بأن الله هو الخالق وأنه هو الرزاق، وهم بعد ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه الشركاء اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها - أردف ذلك أن هذه الدنيا باطل وعبث زائل، وإنما الحياة الحقة هي الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها فلو أوتوا شيئا من العلم ما آثروا تلك على هذه.

ثم أرشد إلى أنهم مع إشراكهم بربهم سواه في الدعاء والعبادة، إذا هم ابتلوا بالشدائد، كما إذا ركبوا البحر وعلتهم الأمواج من كل جانب، وخافوا الغرق نادوا الله، معترفين بوحدانيته، وأنه لا منجّى سواه، وليتهم استمروا على ذلك، ولكن سرعان ما يرجعون القهقرى، ويعودون سيرتهم الأولى، كما هو دأب من يعمل للخوف لا للعقيدة.

الإيضاح

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي وما هذه الحياة الدنيا التي يتمتع بها هؤلاء المشركون إلا شيء يتعلّل به، ثم هو منقض عما قريب، لا بقاء له ولا دوام، ومن ثم قيل: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها، وأنشدوا:

تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت وتحدث من بعد الأمور أمور

وتجرى الليالي باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغور

فمن ظن أن الدهر باق سروره فذاك محال لا يدوم

سرور عفا الله عمن صيّر الهمّ واحدا وأيقن أن الدائرات تدور

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي وإن الدار الآخرة لهى دار الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع.

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أن ذلك كذلك لما آثروا عليها الحياة الدنيا السريعة الزوال، الوشيكة الاضمحلال.

ثم أخبر بأن تلك حال المشركين في الرخاء، فإذا ابتلوا بالشدائد دعوا الله وحده ليخلصهم منها كما قال:

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي فإذا ركب هؤلاء المشركون في السفينة وخافوا الغرق، دعوا الله وحده، وأفردوا له الطاعة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ليخلصوهم من تلك الشدة، فهلا يكون هذا منهم دائما؟

ثم بين سرعة رجوعهم وعودتهم إلى ما كانوا عليه وشيكا فقال:

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي فلما خلّصهم مما كانوا فيه من الضيق، ونجاهم من الهلاك، ووصلوا إلى البر، رجعوا القهقرى، وعادوا سيرتهم الأولى، وجعلوا مع الله الشركاء، ودعوا الآلهة والأنداد.

ونحو الآية قوله « وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا ».

روى محمد بن إسحاق في السيرة عن عكرمة بن أبي جهل قال: « لما فتح رسول الله مكة ذهبت فارّا منها، فلما ركبت البحر إلى الحبشة اضطربت بنا السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا منجّى هاهنا إلا هو، فقال عكرمة: لئن كان لا ينجى في البحر غيره فإنه لا ينجى في البر أيضا غيره، اللهم لك علي عهد، لئن خرجت لأذهبنّ فلأضعن يدي في يد محمد فلأجدنّه رءوفا رحيما فكان كذلك ».

وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتد عليهم الريح ألقوها فيه وقالوا يا رب يا رب.

قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء ا هـ.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفران بما آتيناهم من نعمة النجاة، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها.

ثم تهددهم وتوعدهم فقال:

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك حين يعاقبون يوم القيامة.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 67 الى 69]

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن المشركين حين يشتد بهم الخوف إذا ركبوا في الفلك ونحوه لجئوا إلى الله وحده مخلصين له العبادة - ذكر هنا أنهم حين الأمن كما إذا كانوا في حصنهم الحصين وهو مكة التي يأمن من دخلها من الشرور والأذى يكفرون به ويعبدون معه سواه، وتلك حال من التناقض لا يرضاها لنفسه عاقل، فإن دعاءهم إياه حال الخوف مع الإخلاص ما كان إلا ليقينهم بأن نعمة النجاة منه لا من سواه، فكيف يكفرون به حين الأمن، وهم يوقنون بأن الأصنام حين الخوف لا تجديهم فتيلا ولا قطميرا؟

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟) أي أو لم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من النعمة دون سائر عبادنا، فأسكناهم بلدا حرّمنا على الناس أن يدخلوه لغارة أو حرب، وآمنا من سكنه من القتل والسبي والناس من حولهم يقتلون ويسبون في كل حين، فيشكرونا على ذلك، ويزدجروا عن كفرهم بنا وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم.

والخلاصة: إنه تعالى يمتنّ على قريش بما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن دخله كان آمنا، فهم في أمن عظيم، والأعراب حولهم نهب مقسّم، يقتل بعضهم بغضا، ويسبى بعضهم بعضا، ثم هم مع ذلك يكفرون به، ويعبدون معه سواه.

ونحو الآية قوله: « لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ».

ثم بين أن العقل كان يقضى بشكرهم على هذه النعمة، لكنهم كفروا بها، وما جنحوا إلى مرضاة ربهم، فقال:

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟) أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله.

والخلاصة: إنه كان من حق شكرهم له على هذه النعم إخلاص العبادة له، وألا يشركوا به، وأن يصدّقوا برسوله، ويعظموه ويوقروه، لكنهم كذبوه فقاتلوه وأخرجوه من بين أظهرهم، ومن ثم سلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، بقتل من قتل منهم ببدر، وأسر من أسر، حتى قطع دابرهم يوم الفتح، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم.

ولما استنارت الحجة، وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنع، بين أنهم قوم ظلمة مفترون، وضعوا الأمور في غير مواضعها بكذبهم على الله، فقال:

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) أي ومن أظلم ممن كذبوا على الله، بأن زعموا أن له شريكا، وأنهم إذا فعلوا فاحشة قالوا: إن الله أمرنا بها، والله لا يأمر بالفحشاء، وكذبوا بالكتاب حين مجيئه، دون أن يتأملوا فيه أو يتوقفوا، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه.

وفي هذا من تسفيه آرائهم، وتقبيح طرائقهم ما لا يخفى ثم بين سوء مغبة أعمالهم بطريق الاستفهام التقريرى، وهو أبلغ في إثبات المطلوب، فقال:

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟) أي ألا يستوجب هؤلاء الكافرون من أهل مكة الثّواء في جهنم، فقد افتروا على الله الكذب، فكذبوا بالكتاب لما جاءهم بلا تريّث ولا تلبث؟.

والخلاصة: إن مثوى هؤلاء وأشباههم جهنم وبئس المصير.

وبعد أن بين عاقبة أولئك الكافرين ذكر عاقبة المؤمنين الذين اهتدوا يهدى الله وجاهدوا في سبيله، فقال:

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله الكذب، المكذبين لما جاءهم به رسوله، مبتغين بقتالهم علوّ كلمتنا، ونصرة ديننا، لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير، وتوفيقا لسلوكها كما قال: « وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ »

وجاء في الحديث: « من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم »، وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لاورثنا علما لا تقوم به أبداننا. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.

ثم ذكر أن الله يعينهم بالنصرة والتوفيق.

(وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي وإن الله ذا الرحمة لمع من أحسن من خلقه، فجاهد أهل الشرك مصدقا رسوله فيما جاء به من عند ربه بالمعونة والنصرة على من جاهد من أعدائه، وبالمغفرة والثواب في العقبى.

روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.

وقد انتهى بهذا تفسير السورة الكريمة، ولله الحمد أولا وآخرا.

مشتملات هذه السورة الكريمة

(1) اختبار المؤمنين ليعلم صدقهم في إيمانهم.

(2) في الجهاد فائدة للمجاهد، والله غني عن ذلك.

(3) الحسنات يكفّرن السيئات.

(4) الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما مع عدم طاعتهما في الإشراك بالله.

(5) حال المنافق الذي يظهر الإيمان ولا يحتمل الأذى في سبيل الله.

(6) حال الكافرين الذين يضلون غيرهم، ويقولون للمؤمنين: نحن نحمل خطاياكم إن كنتم ضالين.

(7) قصص الأنبياء: كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب وصالح وموسى وهرون، وبيان ما آل إليه أمر الأنبياء من النصر، وأمر أممهم من الهلاك بضروب مختلفة من العقاب.

(8) حجاج المشركين بضرب الأمثال لهم مما فيه تقريعهم وتأنيهم.

(9) حجاج أهل الكتاب، والنهي عن جدلهم بالفظاظة والغلظة.

(10) إثبات النبوة ببيان صدق معجزته .

(11) ذكر بعض شبههم في نبوته، والرد على ذلك.

(12) استعجالهم بالعذاب تهكما.

(13) أمر المؤمنين بالفرار بدينهم من أرض يخافون فيها الفتنة.

(14) العاقبة الحسنى للذين يعملون الصالحات.

(15) اعترافهم بأن الخالق الرازق هو الله.

(16) بيان أن الدار الآخرة هي دار الحياة الحقة.

(17) امتنانه على قريش بسكناهم البيت الحرام، ثم كفرانهم بهذه النعمة بإشراكهم به سواه.

سورة الروم

هي مكية إلا قوله تعالى: « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ » فمدنية وآيها ستون، نزلت بعد سورة الانشقاق.

ومناسبتها ما قبلها من وجوه:

(1) إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به، فافتتحت بأن الناس لم يخلقوا في الأرض ليناموا على مهاد الراحة، بل خلقوا ليجاهدوا حتى يلاقوا ربهم، وأنهم يلاقون شتى المصاعب من الأهل والأمم التي يكونون فيها، وهذه السورة قد بدئت بما يتضمن نصرة المؤمنين ودفع شماتة أعدائهم المشركين، وهم يجاهدون في الله ولوجهه فكأن هذه متممة لما قبلها من هذه الجهة.

(2) إنّ ما في هذه السورة من الحجج على التوحيد والنظر في الآفاق والأنفس مفصل لما جاء منه مجملا في السورة السالفة، إذ قال في السالفة: « فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ » إلخ، وهنا بيّن ذلك، فقال: « أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » إلخ، وقال: « اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ».

[سورة الروم (30): الآيات 1 الى 7]

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)

تفسير المفردات

الروم: أمة عظيمة من ولد روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم، كذا قال النسابون من العرب، أدنى الأرض: أي أقربها من الروم، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة الذين يساق إليهم الحديث، والبضع: ما بين الثلاث إلى العشر، وقال: المبرد ما بين العقدين في جميع الأعداد، ظاهر الحياة الدنيا: هو ما يشاهدونه من زخارفها ولذاتها الموافقة لشهواتهم التي تستدعى انهما كهم فيها وعكوفهم عليها.

المعنى الجملي

روي أن فارس غزوا الروم، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قبل أن الفرس مجوس، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون بمكة وشمتوا، ولقوا أصحاب النبي وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات، فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المشركين فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا ولا يقرّن الله أعينكم (لا يسرّنكم) فوالله لتظهرنّ الروم على فارس كما أخبرنا بذلك نبينا فقام إليه أبي ابن خلف فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه (أراهنك) على عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي فأخبره، فقال عليه السلام: زايده في الخطر وماده في الأجل، فخرج أبو بكر، فلقى أبيا، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبى كفيلا بالخطر إن غلب، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا، ومات أبي من جرح جرحه إياه النبي في الموقعة وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي فقال النبي : تصدق به

(وقد كان هذا قبل تحريم القمار كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي، لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر بالمدينة).

الإيضاح

(الم) تقدم في السورة قبلها ما فيه الكفاية من الكلام في أمثال هذه الحروف في أوائل السور، وقد بينا هناك أنه ينطق بأسمائها فيقال (ألف. لام. ميم).

(غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) أي غلبت فارس الروم في أقرب أرض الروم بالنسبة إلى بلاد العرب، إذ الوقعة كانت بين الأردن وفلسطين، والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون فارس في بضع سنين، وقد تحقق ذلك فغلبوهم بعد سبع من الوقعة الأولى.

ولا شك أن وقوعه على نحو ما قال الكتاب الكريم بعد من أكبر الدلائل على إعجازه، وأنه كلام الله العليم بكل شيء لا كلام البشر.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي لله الأمر من قبل غلب دولة الروم على فارس ومن بعدها، فمن غلب فهو بأمر الله وقضائه وقدره كما قال: « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ » فهو يقضى في خلقه بما يشاء ويحكم بما يريد، ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه.

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) أي ويوم تغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بنصر الله وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له، وغيظ من شمتوا من كفار مكة، وأنه سيكون فألا حسنا لغلبة المؤمنين على الكافرين.

ثم أكد قوله « لِلَّهِ الْأَمْرُ » بقوله:

(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي ينصر من يشاء أن ينصره على عدوه ويغلّبه عليه على مقتضى السنن التي وضعها في الخليقة، وهو المنتقم ممن يستحقون الانتقام بالنصر عليهم، الرحيم بعباده، فلا يعاجلهم بالانتقام على ذنوبهم كما قال: « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ».

(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس، والله لا يخلف ما وعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك لجهلهم بشئونه تعالى وعدم تفكرهم في النواميس والسنن التي وضعها في الكون، فإنه قد جعل من تلك السنن أن وعده لا يخلف إذ هو مبنى على مقدمات ووسائل هو يعلمها، وقد رتب عليها تلك العدة التي وعدها، وجعل قانون الغلب في الأمم والأفراد مبنيا على الاستعداد النفسي والاستعداد الحربي، فلا تغلب أمة أخرى إلا بما أعدت لها من وسائل الظفر بها، وما كان لها من صفات تكفل لها هذا الظفر من أناة وصبر وتضحية بما تملك من عزيز لديها من مال ونفس.

وهكذا حكم الفرد فهو لا ينجح في الحياة إلا إذا كان معه أسلحة يغالب بها عوامل الأيام حتى يغلبها بجدّه وكدّه، فهذه الأمور وأمثالها تحتاج إلى دقة نظر لا يدركها إلا ذوو البصائر.

(يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كتدبير معايشهم، وإحسان مساكنهم، وتنمية متاجرهم، وتصرفهم في مزارعهم، على النحو الذي يجعلها تزدهر وتفى بحاجة المجتمع (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي وهم غافلون عن أن النفوس لها بقاء بعد الموت وأنها ستلبس ثوبا آخر في حياة أخرى، وستنال إذ ذاك جزاء ما قدمت من خير أو شر، ولو لم تكن النفوس تتوقع هذه الحياة لكانت آلام الدنيا ومتاعبها لا تطاق ولا تجد النفوس لاحتمالها سبيلا، وهي ما قبلت تلك الآلام واحتملتها إلا لأنها توقن بسعادة أخرى وراء ما تقاسى من المناعب في هذه الحياة، ولله در القائل:

ومن البلية أن ترى لك صاحبا في صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر

[سورة الروم (30): الآيات 8 الى 10]

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

المعنى الجملي

لما أنكر المشركون الإله بإنكار وعده، وأنكروا البعث كما قال وهم عن الآخرة هم غافلون - أردف هذا أن الأدلة متظاهرة في الأنفس والآفات على وجوده وتفرده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، وأنها لم تخلق سدى ولا باطلا، بل خلقت بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة، ثم أمرهم بالسير في أقطار الأرض ليعلموا حال المكذبين من الأمم قبلهم، وقد كانوا أشد منهم بأسا وقوة، فكذبوا رسلهم فأهلكهم الله وصاروا كأمس الدابر والمثل الغابر، وما كان ذلك إلا بظلمهم وفساد أنفسهم لا بظلم الله لهم.

الإيضاح

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى؟) أي أو لم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث من قومك في خلق الله لهم ولم يكونوا شيئا، ثم تصريفهم أحوالا وتارات حتى صاروا كاملى الخلق كاملى العقل فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا، ثم يجازى المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، لا يظلم أحدا منهم فيعاقبه بدون حرم صدر منه، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله، لأنه العدل الذي لا يجور، فهو ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل، وإقامة الحق إلى أجل مؤقت مسمى، فإذا حل الأجل أفنى ذلك كله، وبدل الأرض غير الأرض، وبرزوا للحساب جميعا.

ثم ذكر أن كثيرا من الناس غفلوا عن الآخرة وما فيها من حساب وجزاء فقال:

(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لأنهم لم يتفكروا في أنفسهم، ولو تفكروا فيها ودرسوا عجائبها لأيقنوا بلقاء ربهم، وأن معادهم إليه بعد فنائهم.

ثم نبههم لي صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحة، من إهلاك من جحد نبوتهم، ونجاة من صدقهم فقال:

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي أو لم يسر هؤلاء المكذبون بالله، الغافلون عن الآخرة، في البلاد التي يسلكونها تجرا، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة، كيف كان عاقبة أمرهم في تكذيبهم رسلهم، وقد كانوا أشد منهم قوة، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء ثم أهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم رسله، وما كان الله بظالم لهم، بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله وجحودهم آياته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمعصيتهم ربهم.

والخلاصة - إنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر، فقد كانوا أكثر منكم أموالا وأولادا، ومكّنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا معشاره، وعمّروا فيها أعمارا طوالا واستغلوها أكثر من استغلالكم، ولما جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم وفرحوا بما أوتوا فأخذوا بذنوبهم ولم تغن عنهم أموالهم شيئا، ولم تحل بينهم وبين بأس الله ثم أكد ما سلف بقوله:

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ثم كان العذاب عاقبتهم، أما في الدنيا فلهم البوار والهلاك، وأما في الآخرة فالنار لا يخرجون منها ولا هم يستعتمون، وما ذاك إلا لأن كذبوا بحجج الله وآياته، وهم أنبياؤه ورسله، وسخروا منهم عنتا وكبرا.

[سورة الروم (30): الآيات 11 الى 16]

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)

تفسير المفردات

يبلس المجرمون: أي يسكتون وتنقطع حجتهم، الروضة: الأرض ذات النبات والماء ويقال أراض الوادي واستراض إذا كثر ماؤه، وأرض القوم: أرواهم بعض الرّي، يحبرون: يسرون، يقال حبره يحبره (بالضم) حبرا وحبورا: إذا سره سرور لتهلل له وجهه، وظهر فيه أثره، وفى المثل: امتلأت بيوتهم حبرة، فهم ينتظرون العبرة، محضرون: أي مدخلون فيه لا يغيبون عنه.

المعنى الجملي

بعد أن بين أن عاقبة المجرمين النار، وكان ذلك يستلزم الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة، بل أقام عليه الدليل بأن أبان أن من خلق الخلق بقدرته وإرادته لا يعجز عن رجعته، ثم بين ما يكون حين الرجوع من إفلاس المجرمين وتحقق بأسهم وحيرتهم، إذ لا تنفعهم شركاؤهم، بل هم يكفرون بهم، ثم ذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، فالأولون يمتعون بسرور وحبور، والآخرون يصلون النار دأبا لا يغيبون عنها أبدا.

الإيضاح

(اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي الله ينشىء جميع الخلق بقدرته، وهو منفرد بإنشائه من غير شريك ولا ظهير، ثم يعيده خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه كما بدأه خلقا سويا ولم يك شيئا، ثم إليه يردّون فيحشرون لفصل القضاء بينهم، فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم بين ما سيحدث في هذا اليوم من الأهوال للأشقياء، والنعيم والحبور للسعداء، فقال:

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه بعد نشرهم من قبورهم وحشرهم إلى موقف الحساب - يسكت الذين أشركوا بالله واجترحوا في الدنيا مساوى الأعمال، إذ لا يجدون حجة يدفعون بها عن أنفسهم ما يحل بهم من النكال والوبال.

ولما كان الساكت قد يغنيه غيره عن الكلام نفى ذلك بقوله:

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي ولم يكن لهؤلاء المجرمين من شركائهم الذين كانوا يتبعونهم على ما دعوهم إليه من الضلالة - شفعاء يستنقذونهم من عذاب الله، وإذ ذاك يستبين لهم جهلهم وخطؤهم إذ قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

ولما ذكر سبحانه حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله:

(وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي وجحدوا ولاية الشركاء وتبرءوا منهم كما جاء في آية أخرى: « إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا ».

ثم بين بعدئذ أن الله يميز الخبيثين من الطيبين فقال:

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله يتفرق أهل الإيمان بالله وأهل الكفر به فأما أهل الإيمان به فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها.

ثم بين كيف يكون كل من الفريقين فقال:

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي فأما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمرهم الله به وانتهوا عما نهاهم عنه، فهم في رياض الجنات يمرحون، وبألوان الزّهر والسندس الأخضر يتمتعون، ويتلذذون بالسماع والعيش الطيب الهني.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي وأما الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسله وأنكروا البعث بعد الممات والنشور للدار الآخرة، فأولئك في عذاب الله محضرون لا يغيبون عنه أبدا.

[سورة الروم (30): الآيات 17 الى 19]

فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حالى الفريقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، والكافرين المكذبين بالآيات، وما أعدّ لكل منهما من الثواب والعقاب - أرشد إلى ما يفضى إلى الحال الأولى وينجى من الثانية، وهو تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به، وحمده، والثناء عليه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.

ولما كان الإنسان حين الإصباح يخرج من حال النوم التي هي أشبه بالموت منها إلى اليقظة، وكأنها حياة بعد موت - أتبع ذلك بذكر الموت والحياة حقيقة.

الإيضاح

(فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي نزّهوا الله سبحانه في وقت المساء حين إقبال الليل وظلامه، وحين الصباح حين إسفار النهار بضيائه.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي والله هو المحمود من جميع خلقه في السموات من سكانها من الملائكة، وفى الأرض من أهلها من أصناف خلقه فيها.

(وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أيونزهوه وقت العشى حين اشتداد الظلام، ووقت الظهيرة حين اشتداد الضياء كما قال: « وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها »، وقال: « وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ».

وتخصيص هذه الأوقات من بين سائرها لما فيها من التبدل الظاهر في أجزاء الزمن، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة، كالانتقال من الضياء إلى الظلام في المساء، ومن الظلام إلى النور في الإصباح، ومن ضياء تام وقت الظهيرة إلى اضمحلال لذلك الضياء وقت العشى، وهكذا.

ثم بين صفات ذلك الإله المستحق للثناء والتقديس، فقال:

(1) (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فهو القادر على خلق الأشياء المتقابلة بعضها من بعض، فيخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة، كما يفعل ضد هذا، فيخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر، وفى هذا دلالة على كمال قدرته، وبديع صنعه، وكون البيضة والنطفة كائن حي لا تعرفه العرب ولا تعترف به.

(2) (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ويحيى الأرض بالمطر، فتخرج النبات الغض بعد أن كانت صعيدا جرزا.

ونحو الآية قوله: « وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ » وقوله: « وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ».

(3) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وكما سهل حركة النائم الساكن بالانتباه، وإنماء الأرض بإنباتها بعد موتها - يسهل عليه إحياء الميت وإخراجه من قبره لفصل القضاء.

[سورة الروم (30): الآيات 20 الى 21]

وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه بتنزيهه عن الأسواء والنقائص التي لا تليق بجلاله وكماله، ذكر أن الحمد له على خلقه جميع الموجودات، وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله: (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)، ذكر هنا أدلة باهرة، وحججا ظاهرة على البعث والإعادة، ومنها: خلقكم من التراب الذي لم يشمّ رائحة الحياة، ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم، ثم إبقاء نوعكم بالتوالد، فإذا مات الأب فام ابنه مقامه، لتبقى سلسلة الحياة متصلة بهذا النوع وبسائر الأنواع الأخرى بالازدواج والتوالد إلى الأجل الذي قدره الله لأمد هذه الحياة.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء من إنشاء وإفناء، وإيجاد وإعدام: أن خلقكم من تراب بتغذيتكم إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها، وإما من النّبات والحيوان غذاؤه النبات، والنبات من التراب، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية تجعلها صالحا للتغذية، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون في الأرض. تتصرفون فيها في أغراضكم المختلفة، وأسفاركم البعيدة، تكدحون وتجدّون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم، وواسع نعمه عليكم.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي ومن آياته الدالة على البعث والإعادة: أن خلق لكم أزواجا من جنسكم لتأنسوا بها، وجعل بينكم المودة والرحمة لتدوم الحياة المنزلية على أتم نظام.

ونحو الآية قوله: « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها ».

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما سلف من خلقكم من تراب، وخلق أزواجكم من أنفسكم، وإبقاء المودة والرحمة - لعبرة لمن تأمل في تضاعيف تلك الأفعال المبنية على الحكم والمصالح، فهي لم تخلق عبثا، بل خلقت لأغراض شتى، تحتاج إلى الفكر حتى يصل إلى معرفتها ذوو الذّكن والعقل الراجح.

[سورة الروم (30): الآيات 22 الى 23]

وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر دلائل وجوده بما ذكره في خلق الإنسان - أعقبه بذكر الدلائل في الأكوان المشاهدة، والعوالم المختلفة، وفى اختلاف ألوان البشر ولغاتهم التي لا حصر لها، مع كونهم من أب واحد وأصل واحد، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلا، وحركتهم السريعة نهارا، في السعي على الأرزاق، والجدّ والكد فيها.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ومن دلائل وجوده وآيات قدرته: خلقه السموات المزدانة بالكواكب، والنجوم الثوابت والسيارة المرتفعة السموك الواسعة الأرجاء، وخلق الأرض ذات الجبال والوديان، والبحار والقفار، والحيوان والأشجار.

(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) أي واختلاف لغاتكم اختلافا لا حدّ له، فمن عربية إلى فرنسية، إلى إنجليزية، إلى هندية، إلى صينية، إلى نحو ذلك مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات، واختلاف أنواعكم وأشكالكم اختلافا به أمكن التمييز بين الأشخاص في الأصوات والألوان، وهذا مما لا غني عنه في منازع الحياة ومختلف أغراضها، فكثيرا ما تميز الأشخاص بالأصوات، وبذا نعرف الصديق من العدو، فنتخذ ما يلزم من العدّة لكل منهما، كما نميزها بلغاتها، فنعرف من أي الأجناس هي.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي إن فيما ذكر لدلائل لائحة لأولى العلم الذين يفكرون فيما خلق الله، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقه لحكمة بالغة فيها عبرة لمن تذكر.

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن علامات قدرته نومكم بالليل واستقراركم فيه، حتى لا تكون حركة ولا حس، وسعيكم للأرزاق نهارا بمزاولة أسباب المعاش ووسائله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن في فعل الله ذلك لعبرا وأدلة لمن يسمعون مواعظه فيتعظون بها، ويفهمون حججه عليهم، على أن صانع ذلك لا يعجزه بعث العالم وإعادته.

[سورة الروم (30): الآيات 24 الى 25]

وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما يعرض للأنفس من الأوصاف - ذكر ما يعرض للأكوان والآفاق ونشاهده رأي العين الفينة بعد الفينة، مما فيه العبرة لمن ادّكر، ونظر في العوالم نظرة متأمل معتبر في بدائع الأكوان، ليتوصّل إلى معرفة مدبرها وخالقها الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته أنه يريكم البرق، فتخافون مما فيه من الصواعق، وتطمعون فيما يجلبه من المطر الذي ينزل من السماء، فيحيى الأرض الميتة التي لا زرع فيها ولا شجر.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن في ذلك الذي سلف ذكره لبرهانا قاطعا، ودليلا ساطعا، على البعث والنشور، وقيام الساعة، فإن أرضا هامدة لا نبات فيها ولا شجر يجيئها الماء فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج: لهى المثال الواضح، والدليل اللائح، على قدرة من أحياها على إحياء العالم بعد موته، حين يقوم الناس لرب العالمين.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن الحجج الدالة على قدرته على ما يشاء قيام السماء والأرض بلا عمد، بل بإقامته وتدبيره فالأرض تجرى، والسحاب يجرى حولها، والهواء تبع لها، وهي والقمر والسيارات يجرين حول الشمس، والشمس ولواحقها يجرين حول كواكب أخرى، لا نعلم عنها إلا هذه الآثار العلمية الضئيلة.

وقصارى ذلك: إلى إمساك هذه العوالم، وإقامتها وتدبيرها وإحكامها من الآيات التي ترشد إلى إله مدبر لها.

(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي ولا يزال الأمر هكذا حتى ينتهى أجل الدنيا، ويختل نظام العالم، فتبدل الأرض غير الأرض، وتدك الجبال دكا، وحينئذ تخرجون من قبوركم سراعا حينما يدعوكم الداعي.

ونحو الآية قوله: « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا » وقوله: « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله: « إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً. فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ».

[سورة الروم (30): الآيات 26 الى 27]

وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية وهي الأصل الأول، وعلى القدرة على الحشر، وهي الأصل الثاني - أعقب ذلك بهاتين الآيتين وجعلهما كالنتيجة لما سلف.

الإيضاح

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي إن من في السموات والأرض من خلق الله مطيع له فيما أراد به، من حياة أو موت، من سعادة أو شقاء، من حركة أو سكون، إلى أشباه ذلك، وإن عصاه بقوله أو فعله فيما يكسبه باختياره، ويؤثره على غيره.

ثم كرر ذكر البعث والإعادة مرة أخرى لشدة إنكارهم له فقال:

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي وهو الذي يبدأ الخلق من غير أصل له، فينشئه بعد أن لم يكن شيئا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده كما بدأه، وذلك أسهل عليه على حسب ما يدور في عقول المخاطبين، من أن من فعل شيئا مرة كانت الإعادة أسهل عليه.

والخلاصة: إن الإعادة أسهل على الله من البدء بالنظر لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شيء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء والمراد بذلك التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث، وإلا فكل الممكنات بالنظر إلى قدرته سواء.

وقصارى ذلك: إنه أهون عليه بالإضافة إلى أعمالكم، وبالقياس إلى أقداركم.

روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : يقول الله تعالى « كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمنى ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي.

فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وإما شتمه إياي، فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ».

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الوصف البديع في السموات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو، ليس كمثله شيء، تعالى عن الشبيه والنظير.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يغلب، الحكيم في تدبير خلقه، وتصريف شئونه فيما أراد، وفق الحكمة والسّداد.

[سورة الروم (30): الآيات 28 الى 29]

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)

تفسير المفردات

من أنفسكم: أي منتزعا من أحوال أنفسكم، التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم، ملكت أيمانكم: أي مماليككم وعبيدكم، فيما رزقناكم: أي من العقار والمنقول، فأنتم فيه سواء: أي تتصرفون فيه كتصرفكم، تخافونهم: أي تخافون أن يستبدوا بالتصرف فيه، كخيفتكم أنفسكم: أي كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض، نفصل الآيات: أي نبيتها بالتمثيل الكاشف للمعاني، فمن يهدى من أضل الله؟: أي لا أحد يهديهم، وما لهم من ناصرين: أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير.

المعنى الجملي

بعد أن بين القدرة على الإعادة بإقامة الأدلة عليها، ثم ضرب لذلك مثلا أعقب ذلك بذكر المثل على الوحدانية بعد إقامة الدليل عليها.

الإيضاح

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟) أي بين الله تعالى إثبات وحدانيته بما يكشفها من ذلك المثل المنتزع من أحوال أنفسكم وأطوارها التي هي أقرب الأمور إليكم، وبه يستبين مقدار ما أنتم فيه من الضلال بعبادة الأوثان والأصنام، فتسرعون إلى الإقلاع عن عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

هل أنتم أيها الأحرار تشركون معكم عبيدكم في أموالكم، فيساوونكم في التصرف فيها؟ لا، لا يتصرفون فيها إلا بإذنكم خوفا من لأئمة تلحقهم منكم، كما يخاف بعضكم بعضا، وإذا كنتم لا ترضون بذلك لأنفسكم وأنتم وهم عبيد الله، فكيف ترضون لرب الأرباب أن تجعلوا عبيده شركاء له؟

وهذا مثل ضربه الله للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم معترفون بأن شركاءه من الأصنام والأوثان عبيده وملكه، إذ كانوا يقولون في التلبية والدعاء، حين أداء مناسك الحج: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.

وخلاصة المثل: إن أحدكم يأنف أن يساويه عبيده في التصرف في أمواله، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ومثل هذا التفصيل البديع بضرب الأمثال الكاشفة للمعاني، المقربة لها إلى العقول، إذ تنقل المعقول إلى المحسوس التي هي به ألصق، ولإداركه أقرب - نفصل حججنا وآياتنا لقوم يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال، واستخراج مغازيها ومراميها للوصول إلى الأغراض التي لأجلها ضربت، ولمثلها استعملت، فيستبين الرشد من الغي، والحق من الباطل، ولأمرمّا كثرت الأمثال في جلاء الحقائق، وإيضاح ما أشكل منها على الناظرين.

ثم بين أن المشركين إنما عبدوا غيره، سفها من أنفسهم وجهلا، لا ببرهان قد لاح لهم فقال:

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله، اتبعوا أهواءهم جهلا منهم لحق الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان في عبادته، ولو قلّبوا وجوه الرأي، واستعملوا الفكر والتدبر لربما ردّهم ذلك إلى معرفة الحق، ووصلوا إلى سبيل الرشد، ولكن أنّى لهم ذلك؟

(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟) أي فمن يهدى من خلق الله فيه الضلال، وجعله كاسباله باختياره، لسوء استعداده وميله بالفطرة إليه، وعلم الله فيه ذلك؟

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لهم ناصر ينقذهم من بأس الله وشديد انتقامه إذا حل بهم، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

[سورة الروم (30): الآيات 30 الى 32]

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

تفسير المفردات

أقم: من أقام العود وقوّمه إذا عدّله والمراد الإقبال على دين الإسلام والثبات عليه، حنيفا: من الحنف وهو الميل، فهو مائل من الضلالة إلى الاستقامة، والفطرة: هي الحال التي خلق الله الناس عليها من القابلية للحق، والتهيؤ لإدراكه، وخلق الله: هو فطرته المذكورة أوّلا، القيم: أي المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف، منبين إليه: أي راجعين إليه بالتوبة وإخلاص العمل، من قولهم: ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى، واتقوه: أي خافوه، فرقوا دينهم: أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم، شيعا: أي فرقا تشايع كل فرقة إمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله.

المعنى الجملي

بعد أن عدد سبحانه البينات. والأدلة على وحدانيته، وأثبت الحشر وضرب لذلك المثل، وسلى رسوله ووطن عزيمته على اليأس من إيمانهم، لأن الله قد ختم على قلوبهم، فلا مخلص لهم مما هم فيه ولا ينقذهم من ذلك لا هو ولا غيره فلا تذهب نفسك عليهم حسرات - أعقب ذلك بأمره بالاهتمام بنفسه، وعدم المبالاة بأمرهم، وإقامة وجهه لهذا الدين غير ملتفت عنه يمنة ولا يسرة، فهو فطرة الله التي خلق العقول معترفة بها.

الإيضاح

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أي فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك إليه ربك لطاعته، وهو الدين القيم، دين الفطرة، ومل عن الضلال إلى الهدى.

(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي الزموا خلقة الله التي خلق الناس عليها، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد وموقنين به، لكونه موافقا لما يهدى إليه العقل، ويرشد إليه صحيح النظر، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: « كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء » (مستوية لم يذهب من بدنها شى ء) « هل تحسون فيها من جدعاء » (مقطوعة الأذن أو الأنف).

ثم علل وجوب الامتثال بقوله:

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي لا ينبغي أن تبدّل فطرة الله أو تغير، وهذا خبر في معنى النهى كأنه قيل: لا تبدّلوا دين الله بالشرك.

بيان هذا أن العقل الإنساني كصحيفة بيضاء، قابلة لنقش ما يراد أن يكتب فيها، كالأرض تقبل كل ما يغرس فيها، فهي تنبت حنظلا وفاكهة، ودواء وسمّا، والنفس يرد عليها الديانات والمعارف فتقبلها، والخير أغلب عليها من الشر، كما أن أغلب نبات الأرض يصلح للرعى، والقليل منه سمّ لا ينتفع به، ولا تغير بالآراء الفاسدة إلا بمعلم يعلمها ذلك كالأبوين اليهوديين أو النصرانيين، ولو ترك الطفل وشأنه لعرف أن الإله واحد ولم يسقه عقله إلى غير ذلك، فإن البهيمة لا تجدع إلا بمن يجدعها من الخارج، هكذا صحيفة العقل لا تغيّر إلا بمؤثّر خارجى يضلّها بعد علم.

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الذي أمرتكم به من التوحيد هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لعدم تدبرهم في البراهين الواضحة الدالة عليه، ولو علموا ذلك حق العلم لا تبعوه، وما صدوا الناس عن الاقتباس من نوره، وما سدلوا الحجب التي تحجب عنهم ضياءه.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) أي فأقم وجهك أيها الرسول أنت ومن اتبعك، حنفاء لله منيبين إليه، وخافوه، وراقبوا أن تفرطوا في طاعته، وترتكبوا معصيته.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي وداوموا على إقامتها، فهي عمود الدين، وهي التي تذكّر المؤمن ربه، وتجعله يناجيه في اليوم خمس مرات، وتحول بينه وبين الفحشاء والمنكر، لأنها تعوّد النفس الخضوع والإخبات له، ومراقبته في السر والعلن، كما جاء في الحديث: « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».

(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) به غيره، بل أخلصوا له العبادة ولا تريدوا بها سواه، وحافظوا على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

ثم بين صفات هؤلاء المشركين بقوله:

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا) أي من المشركين الذين بدلوا دين الفطرة وغيّروه، وكانوا في ذلك فرقا مختلفة كلها جانبت الحق، وركنت إلى الباطل، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان، وسائر الأديان الباطلة.

والخلاصة: إن أهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على مذاهب ونحل باطلة، كل منها تزعم أنها على شيء.

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل طائفة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق، وأحدثوا من البدع ما أحدثوا - فرحون بما هم به مستمسكون، ويحسبون أن الصواب لا يعدوهم إلى غيرهم من النحل والمذاهب الأخرى.

[سورة الروم (30): الآيات 33 الى 37]

وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

المعنى الجملي

لما أرشد سبحانه إلى التوحيد، وأقام الأدلة عليه، وضرب له المثل أعقبه بذكر حال للمشركين يعرفون بها، وسيماء لا ينكرونها، وهي أنهم حين الشدّة يتضرعون إلى ربهم، وينيبون إليه، فإذا خلصوا منها رجعوا إلى شنشنتهم الأولى، وأشركوا به الأوثان والأصنام، فليضلوا ما شاءوا، فإن لهم يوما يرجعون فيه إلى ربهم، فيحاسبهم على ما اجترحوا من السيئات، وليتهم اتبعوا ذلك عن دليل، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون، بل هو الهوى المطاع، والرأي المتّبع، ثم ذكر حال طائفة من المشركين دون سابقيهم، وهم من تكون عبادتهم لله رهن إصابتهم من الدنيا، فإن آتاهم ربهم منها رضوا، وإذا منعوا منها سخطوا وقنطوا، وقد كان عليهم أن يعلموا أن بسط النعمة وإقتارها بيده وحده، وقد جعل لذلك أسبابا متى سلكها فاعلها وصل إلى ما يريد، وليس علينا إلا أن تطمئن نفوسنا إلى ما يكون، فكله بقدر الله وقضائه، وعلينا أن نستسلم له، ونعمل ما طلب إلينا عمله من الأخذ من الأسباب والجد في العمل جهد الطاقة.

الإيضاح

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي وإذا مس هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر - ضرّ فأصابهم جدب وقحط أخلصوا لربهم التوحيد، وأفردوه بالتضرع إليه واستغاثوا به منيبين إليه، تائبين إليه من شركهم وكفرهم.

(ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا كشف ربهم عنهم ذلك الضر وفرجه عنهم، وأصابهم برخاء وخصب وسعة، إذا جماعة منهم يشركون به فيعبدون معه الآلهة والأوثان.

والخلاصة: إنهم حين الضرر يدعون الله وحده لا شريك له، وإذا أسبغ عليهم نعمه إذا فريق منهم يشركون به سواه، ويعبدون معه غيره.

ثم أمرهم أمر تهديد كما يقول السيد لعبده متوعدا إذا رآه قد خالف أمره: اعصني ما شئت، قال:

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي فليجحدوا نعمى عليهم وإحساني إليهم كيف شاءوا، فإن لهم يوما نحاسبهم فيه، يوم يؤخذون بالنواصي، ويجرّون بالسلاسل والأغلال، ويقال لهم: ذوقوا ما كنتم تعملون.

ومثله الأمر بعده وهو:

(فَتَمَتَّعُوا) أي فتمتعوا بما آتيناكم من الرخاء، وسعة النعمة في الدنيا، فما هي إلا أو يقات قصيرة تمضى كلمح البصر.

ثم هددهم أشد التهديد بقوله:

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا وردتم علي ما يصيبكم من شديد عذابى، وعظيم عقابي، على كفركم بي في الدنيا.

روي عن بعض السلف أنه قال: والله لو توعدنى حارس درب لخفت فيه، فكيف والمتوعّد هو الله الذي يقول للشىء كن فيكون؟.

ثم أنكر على المشركين ما اختلقوه من عبادة غيره بلا دليل، فقال:

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي أأنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الآلهة والأوثان كتابا فيه تصديق لما يقولون، وإرشاد إلى حقيقة ما يدّعون.

وإجمال القصد: إنه لم ينزّل بما يقولون كتابا ولا أرسل به رسولا، وإنما هو شيء افتعلوه اتباعا لأهوائهم.

ثم ذكر طبيعة الإنسان وجبلّته إلا من عصمه الله فقال:

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أيإن الإنسان قد ركّب في طبيعته الفرح والبطر حين تصيبه النعمة، كما حكى الله عنه: « لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ » وإذا أصابته شدة بجهله بسنن الحياة، وعصيانه أوامر الدين، قنط من رحمة الله وأيس منها، فهو كما قيل:

كحمار السوء إن أعلفته رمح الناس وإن جاع نهق

« إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » فإنهم راضون بما قسمه لهم ربهم من خير أو شر، علما منهم أن الله حكيم، لا يفعل إلا ما فيه خير للعبد، وفى الحديث الصحيح: « عجبا للمؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له ».

ثم أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء، فقال:

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي ألم يشاهدوا ويعلموا أن الأمرين من الله، فما بالهم لم يشكروا في السراء، ويحتسبوا في الضراء، كما يفعل المؤمنون، فإن من فطر هذا العالم لا ينزل الشدة بعباده إلا لما لهم فيها من الخير كالتأديب والتذكير والامتحان، فهو كما يربى عباده بالرحمة يربيهم بالتعذيب فلو أنهم شكروه حين السراء، وتضرعوا إليه في الضراء، لكان خيرا لهم.

والخلاصة: إنه يجب عليهم أن ينيبوا إليه في الرخاء والشدة، ولا يعوقهم عن الإنابة إليه نعمة تبطرهم، ولا شدة تحدث في قلوبهم اليأس، بل يكونون في السراء والضراء منيبين إليه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في ذلك البسط على من بسط له والقدر على من قدر عليه - لدلالة واضحة لمن صدّق بحجج الله إذا عاينها.

[سورة الروم (30): الآيات 38 الى 40]

فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

تفسير المفردات

حقه: هو صلة الرحم والبرّ به، والمسكين: هو المعدم الذي لا مال له، وابن السبيل: هو المسافر الذي احتاج إلى مال وعزّ عليه إحضاره من بلده، ووسائل المواصلات الحديثة الآن تدفع مثل هذه الحاجة، ربا: أي زيادة، والمراد بها الهدية التي يتوقع بها مزيد مكافأة، فلا يربو عند الله: أي فلا يبارك فيه، والمراد بالزكاة الصدقة، المضعفون: أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - أردف ذلك ببيان أنه يحبّ الإحسان على ذوي القربى وذوي الحاجات من المساكين وأبناء السبيل، فإنه إذا بسط الرزق لم ينقصه الإنفاق، وإذا قدر لم يزده الإمساك:

إذا جادت الدنيا عليك فجدبها على الناس طرّا إنها تتقلّب

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب

الإيضاح

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعط أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين: الأقارب الفقراء جزءا من مالك صلة للرحم، وبرا بهم لأنهم أحق الناس بالشفقة ومن ثم حكي عن أبي حنيفة أنه استدل بهذه الآية على وجوب النفقة على كل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب.

وكذا المسكين الذي لا مال له إذا وقع في ورطة الحاجة، فيجب على من عنده مقدرة دفع حاجته، وسدّ عوزه.

ومثله المسافر البعيد عن ماله، الذي لا يستطيع إحضار شيء منه لانقطاع السبل به فيجب مساعدته بما يدفع خصاصته، حتى يصل إلى مأمنه، وسرعة طرق المواصلات الآن تدفع هذه الضرورة.

(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ذلك الإعطاء لمن تقدم ذكرهم، من فعل الخير الذي يتقبّله الله، ويرضى عن فاعليه، ويعطيهم جزيل الثواب، وأولئك قد ربحوا في صفقتهم، فأعطوا ما يفنى، وحصلوا على ما يبقى، من النعيم المقيم، والخير العميم.

وإنما كان هذا العمل خيرا، لما فيه من تكافل الأسرة الخاصة، وتعاونها في السراء والضراء، وتعاون الأسرة العامة، وهي الأمة الإسلامية جمعاء، كما جاء في الحديث: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا ».

ولا يخفى ما لذلك من أثر في تولد المحبة والمودة، وفى التكاتف لدفع عوادى الأيام، ومحن الزمان.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) أي ومن أهدى هدية يريد أن تردّ بأكثر منها، فلا ثواب له عند الله، وقد حرم الله ذلك على رسوله على الخصوص، كما قال تعالى: « وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ » أي ولا تعط العطاء تريد أكثر منه.

روي عن ابن عباس أنه قال: الربا ربوان: ربا لا يصح وهو ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية.

وقال عكرمة: الربا ربوان: ربا حلال، وربا حرام فأما الربا الحلال: فهو الذي يهدى، يلتمس ما هو أفضل منه وعن الضحاك في هذه الآية: هو الربا الحلال الذي يهدى، ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له أجر وليس عليه فيه إثم.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ومن أعطوا صدقة يبتغون بها وجه الله تعالى خالصا، فأولئك من الذين يضاعف لهم الثواب والجزاء، كما قال تعالى: « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً؟ ».

وجاء في الصحيح أن النبي قال: « وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربّى أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد (جبل) ».

ولما بين أنه لا زيادة إلا فيما يزيده، ولا خير إلا فيما يختاره أكد ذلك بقوله:

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي الله الذي لا تصح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا، ثم رزقكم ما به تقوم شئونكم في هذه الحياة، ثم يقبض أرواحكم في الدنيا، ثم يحييكم يوم القيامة للبعث.

ثم وبخ هؤلاء المشركين الذين يعبدون الآلهة والأصنام التي لا تخلق ولا ترزق ولا تحيى ولا تميت بقوله:

(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟) أي هل من آلهتكم وأوثانكم الذين جعلتموهم شركاء لي في العبادة من يخلق أو يرزق أو ينشر الميت يوم القيامة؟.

وإجمال المعنى: إن شركاءكم لا يفعلون شيئا من ذلك، فكيف يعبدون من دون الله؟.

ثم برأ سبحانه نفسه من هذه الفرية التي افتروها، فقال:

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه عن الشريك، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.

[سورة الروم (30): الآيات 41 الى 42]

ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)

تفسير المفردات

البر: الفيافي والقفار، ومواضع القبائل، والبحر: المدن، والعرب تسمى الأمصار بحارا لسعتها كما قال سعد بن عبادة في عبد الله بن أبي بن سلول: ولقد أجمع أهل هذه البحيرة (المدينة) ليتوّجوه.

وقال ابن عباس: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن المشركين عبدوا مع الله سواه، وأشركوا به غيره، والشرك سبب الفساد، كما يرشد إلى ذلك قوله: « لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا » - أعقب ذلك ببيان أن الناس قد انتهكوا حرمات الله، واجترحوا المعاصي، وفشا بينهم الظلم والطمع، وأكل القوى مال الضعيف، فصب عليهم ربهم سوط عذابه، فكثرت الحروب، وافتنّ الناس في أدوات التدمير والإهلاك، فمن غائصات البحار تهلك السفن الماخرة فيها، إلى طائرات قاذفات للحمم والموادّ المحرقة، إلى مدافع تحصد الناس حصدا، إلى دبابات سميكة الدروع تهدّ المدن هدا وما الحرب القائمة الآن إلا مثال الوحشية الإنسانية، والمجازر البشرية التي سلط الله فيها العالم بعضه على بعض، فارتكب المظالم، واجترح المآثم، والإنسان في كل عصر هو الإنسان.

وكما أهلك الله الكافرين قبلهم بكفرهم وظلمهم، يهلك الناس بشؤم معاصيهم وفسادهم، فليجعلوا من سبقهم مثلا لهم، ليتذكروا عقاب الله وشديد عذابه للمكذبين.

الإيضاح

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ظهر الفساد في العالم بالحروب والغارات، والجيوش والطائرات، والسفن الحربية والغواصات، بما كسبت أيدي الناس من الظلم وكثره المطامع، وانتهاك الحرمات، وعدم مراقبة الخلاق، وطرح الأديان وراء ظهورهم، ونسيان يوم الحساب، وأطلقت النفوس من عقالها، وعاثت في الأرض فسادا، إذ لا رقيب من وازع نفسي، ولا حسيب من دين يدفع عاديتها، ويمنع أذاها، فأذاقهم الله جزاء بعض ما عملوا من المعاصي والآثام، لعلهم يرجعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويتذكرون أن هناك يوما يحاسب الناس فيه على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيخيّم العدل على المجتمع البشرى، ويشفق القوي على الضعيف، ويكون الناس سواسية في المرافق العامة، وحاج المجتمع بقدر الطاقة البشرية.

وبعد أن بين أن ظهور الفساد كان نتيجة أفعالهم أرشدهم إلى أن من كان قبلهم وكانت أفعالهم كأفعالهم، أصابهم بعذاب من عنده، وصاروا مثلا لمن بعدهم وعبرة لمن خلفهم، قال:

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: سيروا في البلاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم وكذبوا رسله، كيف أهلكناهم بعذاب منا، وجعلناهم عبرة لمن بعدهم؟.

ثم بين سبب ما حاق بهم من العذاب، فقال:

(كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فما حل بهم من العذاب كان جزاء وفاقا لكفرهم بآيات ربهم، وتكذيبهم رسله.

[سورة الروم (30): الآيات 43 الى 45]

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)

تفسير المفردات

لا مرد له: أي لا يقدر أحد أن يردّه، يصّدّعون: أي يتصدعون ويتفرقون، كما قال متمّم بن نويرة من قصيدة يرثى بها أخاه مالكا:

وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن نتصدعا 1

فأصبحنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

يمهدون: من مهد فراشه إذا وطّأه حتى لا يصيبه ما ينغّص عليه مرقده من بعض ما يؤذيه، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها، وتمهيد العذر بسطه وقبوله، لا يحب الكافرين: أي إنه يبغضهم، وسيعاقبهم على ما فعلوا.

المعنى الجملي

بعد أن نهى الكافر عن بقائه على حاله التي هو عليها خيفة أن يحل به سوء العذاب - أردف ذلك أمر رسوله ومن تبعه بالثبات على ما هم عليه، بعبادتهم الواحد الأحد، قبل أن يأتي يوم الحساب، الذي يتفرق فيه العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فمن كفر فعليه وبال كفره، ومن عمل صالحا فقد أعد لنفسه مهادا يستريح عليه بما قدم من صالح العمل، وسينال من فضل ربه وثوابه ورضاه عنه ما لا يخطر له ببال، ولا يدور له في حسبان.

والكافر سيلقى في هذا اليوم العذاب والنكال، لأن ربه يبغضه ويمقته جزاء ما دسّى به نفسه من سيئ العمل.

الإيضاح

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) أي فاسلك أيها الرسول الكريم الطريق الذي رسمه لك ربك بطاعته، واتباع نهجه القويم، الذي لا عوج فيه ولا أمت، من قبل أن يجىء ذلك اليوم الذي لا راد له، وهو يوم الحساب الذي كتب الله مجيئه وقدّره، وما قدّر لا بد أن يكون.

ثم ذكر حال الناس يومئذ، فقال:

(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يومئذ يتفرق الناس بحسب أعمالهم، فريق في الجنة يؤتى ثمرة عمله، وفريق يزجى إلى النار بما اجترح من الآثام، وبما ران على قلبه مما كسبت يداه.

ثم بين أن ما ناله كل منهما من الجزاء كان نتيجة حتمية لعمله فقال:

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي من كفر بالله، ودسّى نفسه بما عمل من السيئات، واجترح من الآثام، فعليه وحده أوزار جحوده وكفره بنعم ربه، ومن عمل الصالحات، وأطاع الله فيما به أمر، وعنه نهى، فقد أعدّ لنفسه العدّة، ووطأ لنفسه الفراش حتى لا يقضّ عليه مضجعه، ويقع في عذاب السعير.

ثم بين العلة في تفرقهم، فقال:

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي إنهم يتفرقون ليجازى المؤمنين بالحسنى من فضله، فيكافئ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله من المنح والعطايا.

وذكر جزاء الكافرين بما يدل عليه قوله:

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي إنه يبغضهم، وذلك يستدعى عقابهم، ولا يخفى ما في ذلك من تهديد ووعيد.

[سورة الروم (30): آية 46]

وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه أن الفساد ظهر في البر والبحر بسبب الشرك والمعاصي، نبههم إلى دلائل وحدانيته بما يشاهدونه أمامهم من إرسال الرياح وبالأمطار، فتحيا بها الأرض بعد موتها وجرى الفلك حاملة لما هم في حاجة إليه، مما فيه غذاؤهم، وعليه مدار حياتهم.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن الأدلة على وحدانيته تعالى، والحجج القائمة على أنه رب كل شيء، أنه يرسل الرياح من حين إلى آخر مبشرات بالغيث الذي به تحيا الأرض وينبت الثمر والزرع، فتأكلون منه مالذ وطاب، وتعيشون أنتم ودوابكم وأنعامكم فضلا من ربكم، وتجرى السفن ما خرة للبحار، حاملة للأقوات وأنواع الثمار، متنقلة من قطر إلى قطر، فتأتى بما في أقصى المعمور من الشرق إلى أقصاه في الغرب، والعكس بالعكس، فلا تحتجن الثمرات والأقوات في أماكنها، وتكون وقفا على قوم بأعيانهم.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدّكم لشكره كفاء ما أسدى إليكم من نعمه الوفيرة، وخيراته العميمة التي لا تحصى، كما قال: « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ».

[سورة الروم (30): آية 47]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه البراهين الساطعة الدالة على الوحدانية والبعث والنشور، ولم يرعو بها المشركون، بل لجّوا في طغيانهم يعمهون، سلى رسوله ، فذكر له أنك لست أول من كذّب، فكثير ممن قبلك جاءوا أقوامهم بالبينات، فلم تغنهم الآيات والنذر، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، ونصرنا رسلنا ومن آمن بهم، فلا تبتئس بما كانوا يعملون، ولنجرينّ عليك وعلى قومك سنننا، ولننتقمنّ منهم، ولننصرنّك عليهم، فالعاقبة للمتقين.

الإيضاح

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أرسلنا أيها الرسول رسلا من قبلك إلى أقوامهم الكافرين، كما أرسلناك إلى قومك عابدي الأوثان من دون الله، فجاءوهم بالحجج الواضحة على أنهم من عند الله، فكذبوهم كما كذبك قومك، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عنده، كما ردوا عليك ما جئتهم به، فانتقمنا من الذين اجترحوا الآثام، واكتسبوا السيئات من أقوامهم، ونجينا الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، ونحن فاعلوا ذلك بمجرمى قومك، وبمن آمن بك، سنة الله التي شرعها لعباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وهذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو لا يخلف الميعاد.

أخرج الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه والترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله يقول: « ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة » ثم تلا: وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »: ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة بالظفر على أعدائه، والوعيد والنكال، والخسران في المآل، لمن كذب به من قومه.

[سورة الروم (30): الآيات 48 الى 51]

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

تفسير المفردات

تثير: أي تحرك، يبسط: أي ينشر، في السماء: أي في سمتها وجهتها، كسفا: أي قطعا، والودق: المطر، خلاله: واحدها خلل، وهو الفرجة بين الشيئين، لمبلسين: أي لآيسين.

المعنى الجملي

عود على بدء، بعد أن سلى رسوله على ما يلاقيه من أذى قومه ببيان أنه ليس ببدع في الرسل، فكائن من رسول قبله قد كذّب، ثم دالت الدّولة على المكذبين، ونصر الله رسوله والمؤمنين، أعاد الكرة مرة أخرى، فأتبع البرهان بالبرهان لإثبات الوحدانية، وإمكان البعث والنشور بما يشاهد من الأدلة في الآفاق، مرشدة إلى قدرته، وعظيم رحمته، ثم بما يرى في الأرض الموات من إحيائها بالمطر، وهو دليل لائح يشاهدونه، ولا يغيب عنهم الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة، أفليس فيه حجة لمن اعتبر ومقنع لمن ادّكر؟.

الإيضاح

(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي الله الذي يرسل الرياح فتنشئ سحابا فينشره ويجمعه جهة السماء، تارة سائرا، وأخرى واقفا، وحينا قطعا، فترى المطر يخرج من وسطه، فإذا أصاب به بعض عباده فرحوا به لحاجتهم إليه.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله، فلما جاءهم على فاقة وحاجة وقع منهم موقعا عظيما.

والخلاصة: إنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبل ذلك أيضا، إذ هم ترقّبوه في إبّانه فتأخر، ثم مضت فترة فترقبوه فيها فتأخر، ثم جاء بغتة بعد اليأس والقنوط، وبعد أن كانت أرضهم هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر أيها الرسول أثر الغيث الذي أنبت به ما أنبت من الزرع والأشجار والثمار، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة وواسع الرحمة.

وإذ قد ثبتت قدرته على إحياء الميت من الأرض بالغيث ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها وتفرقها وتمزقها إربا إربا، ومن ثم قال:

(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام حين البعث.

ثم أكد هذا بقوله:

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء، فإحياؤكم من قبوركم هيّن عليه، ونحو الآية قوله: « قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها. أَوَّلَ مَرَّةٍ ».

ثم ذمهم على تزلزلهم وسوء اضطرابهم، فإذا أصابهم الخير فرحوا به، وإن أصابهم السوء يئسوا وأبلسوا، وانقطع رجاؤهم من الخير، فقال:

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة على الزرع الذي زرعوه وبما واستوى على سوقه، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضرته - لظلّوا من بعد ذلك الاستبشار والرجاء يجحدون نعم الله السابقة عليهم.

ولا يخفى ما في ذلك من المبالغة في احتقارهم لتزلزلهم في عقيدتهم، إذ كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله في كل حال، ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر، ولا يبأسوا من روح الله، ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جل وعلا برحمته، وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه، لكنهم قد عكسوا الأمر، وأبوا ما يجديهم، وأتوا بما يؤذيهم.

[سورة الروم (30): الآيات 52 الى 53]

فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه صنوف الأدلة، ثم ضرب المثل على توحيده ووجوب إرسال الرسل مبشرين ومنذرين، وصحة بعث الأجسام يوم القيامة، ووعد وأوعد بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، ثم ما زادهم دعاء الرسول إلا إعراضا، ولا تكرار النصح إلا إصرارا وعنادا - أردف هذا تسليته على ما يراه من التمادي في الإعراض، وكثرة العناد واللجاج، فأبان أن هؤلاء كأنهم موتى، فأنّى لك أن تسمعهم، وكأنهم صمّ، فكيف يسمعون دعاءك حتى يستجيبوا لك؟ إنما الذي يستجيب من يؤمن بآيات الله، فهو إذا سمع كتابه تدبره وفهمه، فيخضع لك بطاعته، ويتذلل لمواعظ كتابه.

الإيضاح

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم، فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبوا أسماعهم بأن تجعل لهم أسماعا، ولا تقدر أن تهدى من تصامّوا عن فهم آيات كتابه فتجعلهم يسمعونها ويفهمونها كما لا تقدر أن تسمع الصم - الدعاء إذا ولّوا عنك مدبرين.

ثم بين أن الهداية والضلالة بيده لا بيد الرسول، فقال:

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس في طوقك أن تهدى من أضله الله، فتردّه عن ضلالته، بل ذلك إليه وحده، فإنه يهدى من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه.

والخلاصة: إن هذا ليس من عملك، ولا بعثت لأجله.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فيتّبعه، إلا من يؤمن بآياتنا، لأنه هو الذي إذا سمع كتاب الله تدبره وفهمه، وعمل بما فيه، وانتهى إلى حدوده التي حدها، فهو مستسلم خاضع له، مطيع لأوامره، تارك لنواهيه.

[سورة الروم (30): آية 54]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر دلائل الآفاق على وحدانيته أردفها دلائل الأنفس، فذكر خلق الأنفس، في أطوارها المختلفة من ضعف إلى قوة، ثم انتكاسها وتغيير حالها من قوة إلى ضعف، ثم إلى شيخوخة وهرم. وبين أنه العليم بها في مختلف أحوالها، القدير على تغييرها واختلاف أشكالها.

الإيضاح

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) يقول سبحانه محتجا على المشركين المنكرين للبعث: إن الذي خلقكم من نطفة وماء مهين، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، ثم جعل لكم قوة على التصرف من بعد ضعف الصغر والطفولة، ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر، بعد أن كنتم أقوياء في شبابكم - قادر أن يعيدكم مرة أخرى بعد البلى، وبعد أن تكونوا عظاما نخرة.

والخلاصة: إن تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال من ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف - دليل على قدرة الخالق الفعّال لما يشاء، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعجزه أن يعيدكم كرّة أخرى.

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي يخلق ما يشاء من ضعف وقوة، وشباب وشيب وهو العليم بتدبير خلقه، القدير على ما يشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وهو كما يفعل هذا قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء:

[سورة الروم (30): الآيات 55 الى 57]

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

تفسير المفردات

الساعة الأولى: يوم القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات لدنيا، ما لبثوا: أي ما أقاموا بعد الموت، غير ساعة: أي غير قطعة قليلة من الزمان، يؤفكون: أي يصرفون عن الحق، المعذرة: العذر، يستعتبون: أي يطلب منهم إزالة عتب الله وغضبه عليهم بالتوبة والطاعة، فقد حق عليهم العذاب، يقال: استعتبني فلان فأعتبته: أي استرضاني فأرضيته.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف بدء النشأة الأولى، وذكر الإعادة والبعث، وأقام عليه الأدلة في شتى السور وضرب له الأمثال - أردف ذلك ذكر أحوال البعث وما يجرى فيه من الأفعال والأقوال من الأشقياء والسعداء ليكون في ذلك عبرة لمن يدّكر.

الإيضاح

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي ويوم تجئ ساعة البعث، فيبعث الله الخلق من قبورهم، يقسم المجرمون الذين كانوا يكفرون بالله في الدنيا، ويكتسبون فيها الآثام، إنهم ما أقاموا في قبورهم إلا قليلا من الزمان، وهذا استقلال منهم لمدة لبثهم في البرزخ على طولها، وهم قد صرفوا في الآخرة عن معرفة مدة مكثهم في ذلك الحين.

(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كذبوا في قولهم ما لبثنا غير ساعة، كما كانوا في الدنيا يحلفون على الكذب وهم يعلمون. والكلام مسوق للتعجب من اغترارهم بزينة الدنيا وزخرفها، وتحقير ما يتمتعون به من مباهجها ولذاتها، كى يقلعوا عن العناد، ويرجعوا إلى سبل الرشاد، وكأنه قيل: مثل ذلك الكذب العجيب كانوا يكذبون في الدنيا اغترارا بما هو قصير الأمد من اللذات وزخارف الحياة.

ثم ذكر توبيخ المؤمنين لهم وتهكمهم بهم:

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله لأولئك المنكرين: لقد لبثتم من يوم مماتكم إلى يوم البعث في قبوركم.

وفي هذا رد عليهم وعلى ما حلفوا عليه، وإطلاع لهم على الحقيقة.

ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم:

(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فهذا هو اليوم الذي أنكرتموه في الدنيا، وزعمتم أنه لن يكون لتفريطكم في النظر وغفلتكم عن الأدلة المتظاهرة عليه.

ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، ذكر أن المعاذير لا تجدى في هذا اليوم، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا، لإصلاح ما فسد من أعمالهم، فقال:

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ففي هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا، كقولهم: ما علمنا أن هذا اليوم كائن، ولا أنا نبعث فيه، ولا هم يرجعون إلى الدنيا ليتوبوا، لأن التوبة لا تقبل حينئذ فالوقت وقت جزاء لا وقت عمل، وقد حقت عليهم كلمة ربهم « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » والخلاصة: إنهم لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون عليها.

ونحو الآية قوله: « وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ».

[سورة الروم (30): الآيات 58 الى 60]

وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر، وأعاد وكرر، بشتى البراهين، وبديع الأمثال - أردف ذلك أنه لم يبق بعد هذا زيادة لمستزيد، وأن الرسول قد أدى واجبه، وأن من طلب شيئا بعد ذلك فهو معاند مكابر، فإن من كذّب الدليل الواضح اللائح، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل.

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم

الإيضاح

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد أوضحنا لهم الحق، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق، وعلى البعث وصدق الرسول، ليستبينوا الحق ويتبعوه، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارا وعنادا كما أشار إلى ذلك بقوله:

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي والله لئن جئتهم بالآيات لا يؤمنون بها، بل يعتقدون أنها سحر مفترى، وما هي إلا أساطير الأولين.

ونحو هذا قوله: « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ».

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبرة والعظات، والآيات البينات، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب لسوء استعدادهم، ولما دسوابه أنفسهم من سوء القول والفعل، فهم في طغيانهم يعمهون.

ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم، وعدم الالتفات إلى عنادهم، فقال:

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما ينالك من أذى المشركين، وبلغهم رسالة ربك، فإن وعده الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم، وتمكينك وتمكين أصحابك وأتباعك في الأرض - حق لا شك فيه، وليكونن لا محالة.

(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي ولا يحملنك الذين لا يوقنون بالميعاد ولا يصدقون بالبعث بعد الممات - على الخفة والقلق، فيثبطوك عن أمر الله والقيام بما كلفك به من تبليغ رسالته.

وفي هذا إرشاد لنبيه ، وتعليم له، بأن يتلقى المكاره بصدر رحب، وسعة حلم.

أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا وهو في صلاة الفجر فقال: « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » فأجابه وهو في الصلاة: « فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ».

ولا عجب من صدور مثل هذا الجواب على البديهة من علي كرم الله وجهه، وهو مدينة العلم.

وصل ربنا على محمد وآله الكرام، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات

(1) إثبات النبوة بالإخبار بالغيب.

(2) البراهين الدالة على الوحدانية.

(3) الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم.

(4) الأدلة التي في الآفاق شاهدة على وحدانية الله وعظيم قدرته.

(5) الأدلة على صحة البعث.

(6) ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا يوم القيامة.

(7) الأمر بعبادة الله وحده وهي الفطرة التي فطر الناس عليها.

(8) النهي عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم.

(9) من طبيعة المشرك الإنابة إلى الله إذا مسه الضر، والإشراك به حين الرخاء.

(10) من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

(11) الأمر بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل.

(12) الدلائل التي وضعها سبحانه في الأنفس شاهدة على وحدانيته.

(13) للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت.

(14) في النظر في آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر.

(15) تسلية الرسول على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمى لا يسمعون ولا يبصرون.

(16) بيان أن الكافرين يكذبون في الآخرة كما كانوا يكذبون في الدنيا.

(17) الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية في الإعذار والإنذار، وأن قومه قد بلغوا الغاية في التكذيب والإنكار.

(18) أمره بإدامة التبليغ مهما لاقى من الأذى، فإن العاقبة والنصر له، والخذلان لمن كذب به.

سورة لقمان

هي مكية إلا الآيات 28، 29، 30 فمدنية، فإن النبي لما هاجر إلى المدينة قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » أعنيتنا أم قومك؟ قال: كلّا عنيت، فقالوا: إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء، فقال عليه الصلاة والسلام ذلك في علم الله قليل، فأنزل الله هؤلاء الآيات.

وآيها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات.

وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي عن قصة لقمان مع ابنه وعن برّه والديه، فنزلت.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه:

(1) إنه تعالى قال في السورة السالفة: « وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ » وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة.

(2) إنه قال في آخر ما قبلها: « وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ » وقال في هذه: « وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا ».

(3) إنه قال في السورة السابقة: « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » وقال هنا: « ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ »، ففي كلتيهما إفادة سهولة البعث.

(4) إنه ذكر هناك قوله: « وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ »، وقال هنا: « وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ » فذكر في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الآخر.

(5) إنه ذكر في السورة التي قبلها محاربة ملكين عظيمين لأجل الدنيا، وذكر هنا قصة عبد مملوك زهد فيها، وأوصى ابنه بالصبر والمسألة، وذلك يقتضى ترك المحاربة، وبين الأمرين التقابل وشاسع البون كما لا يخفى

[سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 5]

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

الإيضاح

(الم) تقدم تفسير هذا مرارا بإسهاب.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا.

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي هذه آيات الكتاب الهادي من الزيغ، الشافي من الضلال، لمن أحسنوا العمل، وانبعوا الشريعة، فأقاموا الصلاة على الوجه الأكمل، الذي رسمه الدين في أوقاتها، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة، ورغبو إلى الله في ثواب ذلك لم يراءوا به، ولا أرادوا به جزاء ولا شكورا.

ولما كان المتصفون بهذه الخلال هم الغاية في الهداية والفلاح قال:

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن هؤلاء الذين ذكرت أوصافهم على نور من ربهم، وأولئك الذين رجوا ما أمّلوا من ثوابه يوم القيامة، وقد تقدم مزيد إيضاح لهذا أول سورة البقرة.

[سورة لقمان (31): الآيات 6 الى 7]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)

تفسير المفردات

المراد بلهو الحديث: الجواري المغنيات، وكتب الأعاجم، وقد اشتريت حقيقة.وقال ابن مسعود: لهو الحديث: الرجل يشتري جارية تغنيه ليلا ونهارا، وعن ابن عمر « أنه سمع رسول الله يقول في لهو الحديث: إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل »، وسبيل الله: هو دينه، والهزو: السخرية، مهين: أي تلحقهم به الإهانة، وقرا: أي صمما يمنعهم من السماع.

المعنى الجملي

بعد أن بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب الله، وينتفعون بسماعه وهم الذين قال الله فيهم: « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ » - أردف ذلك ذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.

روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية) وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق بها إليه، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه.

وروي عن مقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا، ويقول لهم: إن محمدا يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم وإسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون سماع القرآن.

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُوًا) أي ومن الناس فريق يتخذ ما يتلهّى به عن الحديث النافع للإنسان في دينه، فيأتي بالخرافات والأساطير والمضاحيك وفضول الكلام، كالنضر بن الحارث الذي كان يشترى الكتب، ويحدّث بها الناس، وربما اشترى الفتيات، وأمرهن بمعاشرة من أسلم، ليحملهم على ترك الإسلام، وما مقصده من ذلك إلا الإضلال، والصد عن دين الله وقراءة كتابه، واتخاذه هزوا ولعبا.

وعن نافع قال « كنت أسير مع عبد الله بن عمر في الطريق، فسمع مزمارا، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صنع ».

وعن ابن عوف أن رسول الله قال: « إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان. وصوت عند مصيبة خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان ».

والخلاصة: إن سماع الغناء الذي يحرك النفوس، ويبعثها على اللهو والمجون بكلام يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا خلاف في تحريمه، أما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح: كالعرس والعيد، وحين التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشه (عبد أسود كان يقود راحلة نساء النبي عام حجة الوداع) فأما ما ابتدعه الصوفية من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام، وأما طبل الحرب فلا حرج فيه، لأنه يقيم النفوس، ويرهب العدو، فقد ضرب بين يدي النبي يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله : « دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح » فكنّ يضربن ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار.

ولا بأس من استعمال الطبل والدف في النكاح. وكذا الآلات المشهرة به والغناء بما يحسن من الكلام مما لا رفث فيه.

وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز.

ثم بين عاقبة أمرهم، فقال:

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي إنه كتب لهم العذاب والخزي يوم القيامة، لأنهم لما أهانوا الحق باختيارهم الباطل - جوزوا بإهانتهم يوم الجزاء بعذاب يفضحهم ويخزيهم أمام الخلائق.

ثم أشار سبحانه إلى أن هذا داء قد استشرى في نفسه، فكلما تليت عليه آية ازداد إباء ونفورا، فقال:

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) أي وإذا تتلى آيات الكتاب الكريم على هذا الذي اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله - يعرض عن سماعها ويولّى مستكبرا، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه ثقلا، فلا يصيخ لها، ولا يأبه لتلقّفها وتأملها.

ونحو الآية قوله: « قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ».

ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما بزيل كبره وعظمته قال:

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشر هذا المعرض وأوعده بالعذاب الذي يؤلمه ويقض مضجعه يوم القيامة.

[سورة لقمان (31): الآيات 8 الى 9]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال من أعرض عن الآيات وبيّن مآله - عطف على ذلك ذكر مآل من قبل تلك الآيات وأقبل على تلاوتها والانتفاع بها.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. خالِدِينَ فِيها) أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة، فأتوا بما أمرهم به ربهم في كتابه على لسان رسله، وانتهوا عما نهاهم عنه - لهم جنات ينعمون فيها بأنواع اللذات والمسارّ من المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، مما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم فيها مقيمون دائما لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولا.

(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي ما أخبرنا به كائن لا محالة، لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده وهو الكريم المنّان على عباده.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد في انتقامه من أهل الشرك به، الصادّين عن سبيله، الحكيم في تدبير خلقه، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة لهم.

[سورة لقمان (31): الآيات 10 الى 11]

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

تفسير المفردات

العمد: واحدها عماد، وهو ما يعمد به أي يسند به، تقول: عمدت الحائط إذا دعمته، رواسي: أي جبالا ثوابت، تميد: أي تضطرب، والبثّ: الإثارة والتفريق كما قال: « كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ » والمراد الإيجاد والإظهار: وزوج: أي صنف، كريم: أي شريف كثير المنفعة.

المعنى الجملي

بعد أن أبان فيما سلف كمال قدرته وعلمه وإتقان عمله - أردف ذلك الاستشهاد لما سلف بخلق السموات والأرض وما بعده، مع تقرير وحدانيته، وإبطال أمر الشرك، وتبكيت أهله.

الإيضاح

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي ومن الأدلة على قدرته البالغة، وحكمته الظاهرة أن خلق السموات السبع بغير عمد تستند إليه، بل هي قائمة بقدرة الحكيم الفعال لما يشاء، وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الرعد.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وجعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال، لئلا تضطرب بكم، وتميد بالمياه المحيطة بها، الغامرة لأكثرها.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي وذرأ فيها من أصناف الحيوان ما لا يعلم عددها ومقادير أشكالها وألوانها إلا الذي فطرها.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي وأنزلنا من السماء مطرا فكان ذلك سببا لإنبات كلّ صنف كريم من النبات ذي المنافع الكثيرة.

ثم بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه، فأرونى ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة فقال:

(هذا خَلْقُ اللَّهِ) أي هذا الذي تشاهدونه من السموات والأرض وما فيهما من الخلق - خلق الله وحده دون أن يكون له شريك في ذلك.

(فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟) أي فأخبروني أيها المشركون الذين تعبدون هذه الأصنام والأوثان: أي شيء خلق الذين من دونه مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة، حتى استحقوا به العبودية، كما استحق ذلك عليكم خالفكم وخالق هذه لأشياء التي عددتها لكم؟.

ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم، المستدعى للإعراض عنهم، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول لاستحالة أن يفهموا منه شيئا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه، فقال:

(بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بل المشركون بالله، العابدون معه غيره في جهل وعمى واضح لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه، فأنّى لهم أن يرعووا عن غي أو يهتدوا إلى رشد وحق؟.

[سورة لقمان (31): آية 12]

وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

تفسير المفردات

لقمان كان نجارا أسود من سودان مصر ذا مشافر آتاه الله الحكمة، ومنحه النبوة. والحكمة: العقل والفطنة، وقد نسب إليه من المقالات الحكيمة شيء كثير، كقوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها ناس كثيرون، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو، ولا أراك ناجيا. وقوله: من كان له من نفسه واعظ، كان له من الله حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه، زاده الله بذلك عزا، والذل في طاعة الله، أقرب من التعزز بالمعصية. وقوله: يا بني لا تكن حلوا فتبتلع، ولا مرّا فتلفظ. وقوله: يا بني إذا أردت أن تواخى رجلا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه فآخه، وإلا فاحذره. والشكر: الثناء على الله تعالى، وإصابة الحق، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء وجميع النعم لما خلقت له.

المعنى الجملي

بعد أن بين فساد اعتقاد المشركين بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شيء، ثم بين أن المشرك ظالم ضالّ - أعقب ذلك ببيان أن نعمه الظاهرة في السموات والأرض، والباطنة: من العلم والحكمة ترشد إلى وحدانيته، وقد آتاها لبعض عباده كلقمان الذي فطر عليها دون نبي أرشده، ولا رسول بعث إليه.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي ولقد أعطى سبحانه لقمان الحكمة، وهي شكره وحمده على ما آتاه من فضله بالثناء عليه بما هو أهل له، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء إلى ما خلقت له.

(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن الله يجزل له على شكره الثواب، وينقذه من العذاب كما قال: « وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ».

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي ومن كفر نعم الله عليه، فإلى نفسه أساء، لأن الله معاقبه على كفرانه إياها، والله غني عن شكره، لأن شكره لا يزيد في سلطانه، وكفرانه لا ينقص من ملكه، وهو المحمود على كل حال، كفر العبد أو شكر.

[سورة لقمان (31): الآيات 13 الى 19]

وإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

تفسير المفردات

العظة: تذكير بالخير يرقّ له القلب، والوهن: الضعف، والفصال: الفطام، جاهداك: أي حرصا على متابعتك لهما في الكفر، أناب: أي رجع، المثقال: ما يوزن به غيره، ومثقال حبة الخردل مثل في الصغر، لطيف: أي يصل علمه إلى كل خفي، خبير: أي عليم بكنه الأشياء وحقائقها، من عزم الأمور: أي من الأمور المعزومة التي قطعها الله قطع إيجاب، تصعير الخد: ميله وإبداء صفحة الوجه، وهو من فعل المتكبرين، قال أعرابي: وقد أقام الدهر صعرى بعد أن أقمت صعره، وقال عمرو بن حني التغلبي:

وكنا إذا الجبار صعّر خدّه أقمنا له من ميله فتقوّما

وفي الحديث: « يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر » والأصعر: المعرض بوجهه كبرا، وفي الحديث « كل صعّار ملعون » أي كل ذي أبهة وكبر هو كذلك. مرحا: أي فرحا وبطرا، والمختال: هو الذي يفعل الخيلاء وهي التبختر في المشي كبرا، والفخور: من الفخر وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك، اقصد: أي توسط، اغضض: أي انقص منه وأقصر، من قولهم: فلان يغضّ من فلان إذا قصّر به ووضع منه وحط من قدره، أنكر الأصوات: أي أقبحها وأصعبها على السمع من نكر (بالضم) نكارة، أي صعب.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتى الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها في الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد في أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصّى بها سبحانه الأولاد في معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أي واذكر أيها الرسول الكريم موعظة لقمان لابنه، وهو أشفق الناس عليه، وأحبهم لديه حين أمره أن يعبد الله وحده، ونهاه عن الشرك، وبين له أنه ظلم عظيم أما كونه ظلما، فلما فيه من وضع الشيء في غير موضعه، وأما أنه عظيم، فلما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه، وهو سبحانه وتعالى، ومن لا نعمة لها، وهي الأصنام والأوثان.

روى البخاري عن ابن مسعود قال: لما نزل قوله تعالى: « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ » شق ذلك على أصحاب رسول الله ، وقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله : إنه ليس بذلك. ألا تسمعون لقول لقمان: « يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ».

وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد، وذكر ما في الشرك من الشناعة أتبعه بوصيته الولد بالوالدين لكونهما السبب في وجوده، فقال:

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي وأمرناه ببرهما وطاعتهما، والقيام بحقوقهما، وكثيرا ما يقرن القرآن بين طاعة الله وبر الوالدين كقوله: « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا ».

ثم ذكر منّة الوالدة خاصة لما فيها من كبير المشقة، فقال:

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ) أي حملته وهي في ضعف يتزايد بازدياد ثقل الحمل إلى حين الطلق، ثم مدة النفاس.

ثم أردفها ذكر منه أخرى، وهي الشفقة عليه وحسن كفالته حين لا يملك لنفسه شيئا، فقال:

(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي وفطامه من الرضاع بعد وضعه في عامين تقاسى فيهما الأم في رضاعه وشئونه في تلك الحقبة جمّ المصاعب والآلام التي لا يقدر قدرها إلا العليم بها، ومن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وقد وصى بالوالدين لكنه ذكر السبب في جانب الأم فحسب، لأن المشقة التي تلحقها أعظم، فقد حملته في بطنها ثقيلا، ثم وضعته وربته ليلا ونهارا، ومن ثم قال لمن سأله من أبرّ؟: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم قال بعد ذلك: ثم أباك.

ثم فسر هذه الوصية بقوله:

(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) أي وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمى عليك، ولوالديك، لأنهما كانا السبب في وجودك، وإحسان تربيتك، وملاقاتهما ما لا قيا من المشقة حتى استحكمت قواك.

ثم علل الأمر بشكره محذّرا إياه بقوله:

(إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي إلي الرجوع، لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر منك مما يخالف أمري، وسائلك عما كان من شكرك لي على نعمى عليك، وعلى ما كان من شكرك لوالديك وبرّك بهما.

وبعد أن ذكر سبحانه وصيته بالوالدين وأكد حقهما، ووجوب طاعتهما استثنى من ذلك حقوقه تعالى، فإنه لا يجب طاعتهما فيما يغضبه، فقال:

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن ألحف عليك والداك في الطلب، وشدّ النكير عليك، بأن تشرك بي في عبادتى غيري مما لا تعلم أنه شريك لي، فلا تطعهما فيما أمراك به، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به.

روي أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص قال: « لما أسلمت حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، فناشدتها أول يوم فأبت وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله لو كانت لك مائة نفس لخرجت قبل أن أودع ديني هذا، فلما رأت ذلك وعرفت إني لست فاعلا أكلت ».

(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا) أي وصاحبهما في أمور الدنيا صحبة يرتضيها الدين، ويقتضيها الكرم والمروءة، بإطعامهما وكسوتهما، وعدم جفائهما وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما في القبر إذا ماتا.

وقوله: (فِي الدُّنْيا) إشارة إلى تهوين أمر الصحبة، لأنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء، فلا يصعب تحمل مشقتها.

ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة فيه نفى ذلك بقوله:

(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) أي واسلك سبيل من تاب من شركه ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا .

والخلاصة: واتبع سبيلى بالتوحيد، والإخلاص والطاعة، لا سبيلهما.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم إلي بعد مماتكم، فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر، ثم أجازيكم عليه، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.

ثم عاد إلى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه بعد أن نهى في مطلعها عن الشرك وأكده بالاعتراض الذي ذكره بقوله:

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) أي يا بني إن الفعلة من الإساءة والإحسان إن تك وزن حبة من خردل فتكن في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو في أعلى مكان كالسموات أو في أسفله كباطن الأرض - يحضرها الله يوم القيامة، حين يضع الموازين القسط، ويجازى عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كما قال تعالى: « وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ».

(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إن الله لطيف يصل علمه إلى كل خفي، خبير: يعلم ظواهر الأمور وخوافيها.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدها كاملة على النحو المرضى، لما فيها من رضا الرب بالإقبال عليه والإخبات له، ولما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وإذا تم ذلك صفت النفس وأنابت إلى بارئها في السراء والضراء كما جاء في الحديث: « اعبد الله كأنك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».

وبعد أن أمره بتكميل نفسه توفية لحق الله عليه عطف على ذلك تكميله لغيره، فقال:

(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي وأمر غيرك بتهذيب نفسه قدر استطاعتك، تزكية لها، وسعيا إلى الفلاح، كما قال: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ».

(وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي وانه الناس عن معاصى الله ومحارمه التي توبق من اكتسبها، وتلقى به في عذاب السعير، في جهنم وبئس المصير.

(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من أذى الناس في ذات الله إذا أنت أمرتهم بالمعروف أو نهيتهم عن المنكر.

وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة، وختمها بالصبر، لأنهما عمادا لاستعانة إلى رضوان الله كما قال: « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ».

ثم ذكر علة ذلك، فقال:

(إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن ذلك الذي أوصيك به من الأمور التي جعلها الله محتومة على عباده لا محيص منها، لما لها من جزيل الفوائد، وعظيم المنافع، في الدنيا والآخرة، كما دلت على ذلك تجارب الحياة، وأرشدت إليه نصوص الدين.

وبعد أن أمره بأشياء حذره من أخرى، فقال:

(1) (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا واحتقارا له، بل أقبل عليه بوجهك كله متهللا مستبشرا من غير كبر ولا عتوّ.

ومن هذا ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: « لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ».

(2) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) أي ولا تمش في الأرض مختالا متبخترا، لأن تلك مشية الجبارين المتكبرين الذين يبغون في الأرض، ويظلمون الناس، بل امش هونا، فإن ذلك يفضى إلى التواضع، وبذا تصل إلى كل خير.

روى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال: « جلست إلى عبد الله ابن عمرو بن العاصي، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، فيقول: يا بن آدم ما غرّك بي؟ ألم تعلم إني بيت الوحدة؟ ألم تعلم إني بيت الظلمة؟ ألم تعلم إني بيت الحق؟ يا بن آدم ما غرك بي؟ لقد كنت تمشى حولى فدّادا (ذا خيلاء وكبر) ».

وفي الحديث: « من جرّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة ».

ثم ذكر علة هذا النهى بقوله:

(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن الله لا يحب المختال المعجب بنفسه، الفخور على غيره، ونحو الآية ما مر من قوله: « وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا ».

(3) (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي وامش مشيا مقتصدا ليس بالبطىء المتثبّط، ولا بالسريع المفرط، بل امش هونا بلا تصنع ولا مراءاة للخلق، بإظهار التواضع أو التكبر.

روي عن عائشة أنها نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا، فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القرّاء (الفقهاء العالمين بكتاب الله) قالت: كان عمر سيّد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع.

ورأى عمر رجلا متماوتا، فقال له: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله. ورأى رجلا مطأطئا رأسه، فقال له: « ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض ».

(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي وانقص منه وأقصر، ولا ترفع صوتك حيث لا يكون إلى ذلك حاجة، لأنه أوقر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه.

ثم علل النهى وبيّنه بقوله:

(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي إن أبشع الأصوات وأقبحها برفعها فوق الحاجة بلا داع هو صوت الحمير، وغاية من يرفع صوته أنه يجعله شبيها بصوت الحمار في علوه ورفعه، وهو البغيض إلى الله.

وفي ذلك ما لا يخفى من الذم، وتهجين رفع الصوت، والترغيب عنه، ومن جعل الرافع صوته كأنه حمار مبالغة في التنفير من عمله، وهذا أدب من الله لعباده بترك الصياح وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة.

وقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، قال شاعرهم:

جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النّعم

ويعدو على الأين عدو الظّليم ويعلو الرجال بخلق عمم 2

[سورة لقمان (31): الآيات 20 الى 21]

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على التوحيد، وذكر أن لقمان فهمه بالحكمة دون أن يرسل إليه نبي - عاد إلى خطاب المشركين وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه من الشرك مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد لائحة للعيان، يشاهدونها في كل آن، في السموات والأرض، وتسخيرهم لما فيها مما فيه مصالحهم في المعاش والمعاد، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة ثم أبان أن كثيرا من الناس يجادلون في توحيد الله وصفاته بدون دليل عقلى على ما يدّعون، ولا رسول أرسل إليهم بما عنه يناضلون، ولا كتاب أنزل إليهم يؤيد ما يعتقدون، وإذا هم أفحموا بالحجة والسلطان المبين، لم يجدوا جوابا إلا تقليد الآباء والأجداد بنحو قولهم: « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ » وما ذاك إلا من نزغات الشيطان، والشيطان لا يدعو إلا إلى الضلال الموصّل إلى النار، وبئس القرار.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي ألم تروا أيها الناس أن الله الذي سخر لكم ما في السموات من شمس وقمر، ونجوم، تستضيئون بها ليلا ونهارا، وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر، وسحاب ينزل لكم الأمطار لسقى الناس والحيوان والمزارع المختلفة، وما في الأرض من الدوابّ والأشجار، والمياه والبحار، والسفن والمعادن التي في باطنها، إلى نحو ذلك من المنافع التي جعلها لغذائكم وأقواتكم، فتتمتعون ببعض ذلك، وتنتفعون بجميع ذلك، وأتمّ عليكم نعمه محسوسة وغير محسوسة.

والخلاصة: إنه تعالى نبّه خلقه إلى ما أنعم به عليهم في الدنيا والآخرة بأن سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، فأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح الشبه والعلل.

روي أن النبي قال لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: « الظاهرة: الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيئ عملك »

وقيل: الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة: المعرفة والعقل وقيل: الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات.

ثم ذكر أنه مع كل هذه الأدلة الظاهرة قد مارى بعض الناس دون برهان من عقل ولا مستند من نقل، فقال:

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي وهناك فريق من الناس يجادل في توحيد الله وصفاته كالنضر بن الحارث وأبي بن خلف اللذين كانا يجادلان النبي في ذلك بلا علم من عقل، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور يؤيد صحة ما يدّعون.

ثم بين أنه لا مطمع في إيمان مثل هؤلاء، لأنهم قد بلغوا الغاية في الغباوة، واستسلموا للتقليد، وتركوا الدليل وإن كان لائحا ظاهرا، فقال:

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين الجاحدين لوحدانية الله: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع - لم يجدوا ردا لذلك إلا قولهم: إنا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من دين، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح.

فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هي من حبائل الشيطان ووساوسه فقال:

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟) أي أيتبعونهم على كل حال دون نظر إلى دليل؟ فربما كان اعتقادهم مبنيا على الهوى وترّهات الأباطيل، سداه ولحمته ما زينه لهم الشيطان من وساوس، لا تستند إلى حجة ولا برهان.

والخلاصة - أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال؟

وفي هذا ما لا يخفى من تسفيه عقولهم وتسخيف آرائهم، وأنهم بلغوا الدّرك الأسفل في هدم العقل، وعدم الركون إلى الدليل مهما استبانت غايته، واستقامت محجته

[سورة لقمان (31): الآيات 22 الى 24]

ومَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)

تفسير المفردات

يسلم وجهه: أي يفوّض أمره، محسن: أي مطيع لله في أمره ونهيه، والمراد بالعروة الوثقى، أوثق العرى وأمتنها، وهو مثل: وأصله أن من يرقى في جبل شاهق أو يتدلى منه يستمسك بحبل متين مأمون الانقطاع، نضطرهم: أي نلزمهم، وغليظ: أي ثقيل ثقل الأجرام الغلاظ.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حال المشرك المجادل في الله بغير علم - أردف ذلك ذكر حال المستسلم المفوّض أموره إلى الله، وبيان عاقبته ومآله، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران، وبين له أنه قد بلّغ رسالات ربه وتلك وظيفة الرسل، وعلى الله الحساب والجزاء، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ في جهنم وبئس المصير.

الإيضاح

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي ومن يعبد الله وهو متذلل خاضع مع الإحسان في العمل بفعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات، فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان ربه ومحبته، وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح.

ثم بين العلة في أنه يلقى الجزاء الأوفى فقال:

(وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إن المصير إلى الله لا إلى غيره، فلا يكوننّ لأحد إذ ذاك أمر ولا نهى، ولا عقاب ولا ثواب، فيجازى المتوكل عليه أحسن الجزاء، ويعاقب المسيء أنكل العذاب.

ثم سلى رسوله على ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال:

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا تحزن على كفرهم بالله وبما جئت به، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن قدر الله نافذ فيهم.

ثم بين لرسوله أنه لا يهملهم على أعمالهم بل هو مجازيهم عليها فقال:

(إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي إن مصيرهم يوم القيامة إلينا فنخبرهم بما عملوا في الدنيا من خبيث الأعمال حتى لا يكون هناك سبيل إلى الإنكار ثم نجازيهم على ذلك أشد الجزاء.

ثم بين أنه عادل في الجزاء لسعة علمه وعظيم إحاطته بكل شيء فقال:

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى يجازيهم بكل ما عملوا، إذ لا تخفى عليه خافية.

ثم بين أن ما يمتعون به في الدنيا عرض قليل وظل زائل لا ينبغي لعاقل أن يقيم له وزنا بجانب العذاب الدائم فقال:

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي نمهلهم في الدنيا زمنا قليلا يتمتعون فيه بزخارفها ثم نلجئهم على كره منهم إلى عذاب شاقّ على نفوسهم.

ونحو الآية قوله: « قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ »

[سورة لقمان (31): الآيات 25 الى 26]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى بخلق السموات بلا عمد وبإسباغ نعمه الظاهرة والباطنة عليهم - أردف ذلك ببيان أن المشركين معترفون بذلك غير جاحدين له، وهذا يستدعى أن يكون الحمد كله له وحده، ومن يستحق الحمد هو الذي يستحق العبادة فأمرهم عجب يعلمون المقدمات ثم ينكرون النتيجة التي تستتبعها، فيعبدون من لا يستحق عبادة، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من الأصنام والأوثان.

الإيضاح

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله من قومك: من خلق السموات والأرض؟ ليقولن الله.

وفي هذا إيماء إلى أنه قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يستطيعون معه الإنكار والجحود ولما استبان بذلك صدقه وكذبهم قال آمرا رسوله.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به في العبادة التي لا يستخقها سوى الخالق المنعم على عباده.

ثم بين أنهم بلغوا الغاية في الجهل فهم يعترفون بالشيء ويعملون نقيضه فقال:

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر المشركين لا يعلمون من له الحمد، وأين موضع الشكر، فهم مع تكذيبك يعترفون بما يوجب تصديقك.

ولما أثبت لنفسه الإحاطة بأوصاف الكمال استدل على ذلك بقوله:

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي له سبحانه كل ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة فيهما غيره، وهو الغنى عن عبادة جميع خلقه، لأنهم ملكه وهم المحتاجون إليه المحمود على نعمه التي أنعمها عليهم.

[سورة لقمان (31): الآيات 27 الى 28]

ولَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه أجرى الحكمة على لسان لقمان، ثم قفى على ذلك ببيان أنه أسبغ نعمه على عباده ظاهرة وباطنة، وأن له ما في السموات وما في الأرض - أردف ذلك ببيان أن تلك النعم وهذه المخلوقات لا حصر لها، ولا يعلمها إلا خالقها كما قال: « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ».

ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها، أو أنها لكثرتها يصعب عليه تدبيرها وتصريف شئونها كما يريد - دفع هذا بقوله: (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).

روي أنه لما نزل بمكة قوله تعالى: « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ » الآية وهاجر رسول الله إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا بلغنا أنك تقول: « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » أتعنينا أم تعنى قومك؟ قال: كلّا عنيت: قالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء، فقال هي في علم الله قليل، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم، قالوا كيف تزعم هذا وأنت

تقول: « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا » فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير، فنزلت الآية: (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) إلخ.

الإيضاح

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ) أي ولو أن أفنان الأشجار وأغصانها بريت أقلاما وجعل البحر مدادا وأمدته سبعة أبحر والخلائق جميعا يكتبون بها كلمات الله الدالة على عظمته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولم تنفد كلمات الله.

ونحو الآية قوله « قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا » وإنما ذكرت السبعة الأبحر للدلالة على الكثرة، لا لقصد هذا العدد بعينه، فقد تقدم أن قلنا آنفا إن العرب تذكر السبعة والسبعين، والسبعمائة، وتريد بذلك الكثرة كما جاء في الحديث « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله »

وفي الآية: « مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ».

وقصارى ذلك: إنه سبحانه أخبر أن عظمته وكبرياءه وجلاله وأسماءه الحسنى لا يحيط بها أحد، ولا يصل البشر إلى معرفة كنهها وعدها كما ورد في الحديث: « سبحانك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ».

(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إن الله قد عز كل شيء وقهره، فلا مانع لما أراد، ولا معقّب لحكمه، وهو الحكيم في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شئونه.

ثم أبان أن هذا الخلق الذي لا حصر له محيط به علما، ولا يعجزه شيء فيه متى أراد، فقال:

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلق جميع الناس ولا بعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كخلق نفس واحدة، فالكل هين عليه كما قال: « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » وقال « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ »، وقال « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ».

(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إن الله سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم.

[سورة لقمان (31): الآيات 29 الى 32]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

تفسير المفردات

يولج: أي يدخل، والمراد أنه يضيف الليل إلى النهار، والعكس بالعكس، فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادة ونقصانا، تجرى أي تسير سيرا سريعا، بنعمة الله أي بما تحمله من الطعام والمتاع ونحوهما، غشيهم: أي غطاهم، والظلل: واحدها ظلة، وهي كما قال الراغب: السحابة تظلّ، مقتصد: أي سالك للقصد أي للطريق المستقيم وهو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره، وما يجحد: أي ما ينكر، وختار: من الختر، وهو أشد الغدر، قال عمرو بن معد يكرب:

فإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى:

بالأبلق الفرد من تيماء منزله حصن حصين وجار غير ختّار

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه سخر للانسان ما في السموات وما في الأرض - ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله يولج الليل في النهار إلخ، وبعض ما في السموات بقوله وسخر الشمس والقمر، وبعض ما في الأرض بقوله ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله، ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات، إلا أن البصير يدركها على الفور، ومن في بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع في شدة، وأحدق به الخطر، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شيء بإرادة الله.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ألم تشاهد أيها الناظر بعينيك أن الله يزيد ما نقص من ساعات الليل في ساعات النهار، ويزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات الليل.

والخلاصة: إنه يأخذ من الليل في النهار، فيقصر ذاك ويطول هذا، وذاك في مدة الصيف، إذ يطول النهار إلى الغاية، ثم يبتدئ النهار في النقصان، ويطول الليل إلى الغاية في مدة الشتاء.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمصالح خلقه ومنافعهم.

(كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل منهما يجرى بأمره إلى وقت معلوم، وأجل محدد، إذا بلغه كوّرت الشمس والقمر.

(وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وأن الله بأعمالكم من خير وشر خبير بها لا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو مجازيكم بها.

ثم بين الحكمة في إظهار آياته للناس، فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) أي إنما يظهر آياته للناس ليستدلوا بها على أنه هو المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه هو الباطل الذي يضمحلّ ويفنى، فهو الغنى عما سواه، وكل شيء فقير إليه.

(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وأنه تعالى المرتفع على كل شيء، والمتسلط على كل شيء، فكل شيء خاضع له، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.

وبعد أن ذكر الآيات السماوية الدالة على وحدانيته أشار إلى آية أرضية، فقال:

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهي تسير في البحر حاملة للأقوات والمتاع، من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر هو في حاجة إليها لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس في أيديهم.

وفي هذا دليل على عجبب قدرته التي ترشدكم إلى أنه الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها.

ثم ذكر من يستفيد من النظر في الآيات، فقال:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار في الضراء، شكور في الرخاء. قال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله: « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ». وقوله: « وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ».

وقال عليه الصلاة والسلام: « الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر ».

ثم بين أن المشركين ينسون الله في السراء ويلجئون إليه حين الضراء، فقال:

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وإذا أحاطت بالمشركين الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان - الأمواج العالية كالجبال، وأحدق بهم الخطر من كل جانب حين يركبون السفن - فزعوا بالدعاء إلى الله مخلصين له الطاعة لا يشركون به شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره.

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) أي فلما نجوا من الأهوال التي كانوا فيها، وخلصوا إلى البر، فمنهم متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موفّ بما عاهد عليه الله في البحر، ومنهم من غدر ونقض عهد الفطرة، وكفر بأنعم الله عليه.

[سورة لقمان (31): الآيات 33 الى 34]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَدًا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

تفسير المفردات

اتقوا ربكم: أي خافوا عقابه، لا يجزى: أي لا يغني، والغرور: ما غرّ الإنسان من مال وجاه، وشهوة وشيطان، والساعة: يوم القيامة، ما في الأرحام: أي ما في أرحام النساء من صفاته وأحواله كالذكورة والأنوثة، والحياة والموت، وغيرها من الأعراض.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر دلائل التوحيد على ضروب مختلفة، وأشكال منوّعة - أمر بتقوى الله على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم، يوم يحكم الله بين عباده، يوم لا تنفع فيه قرابة، ولا تجدى فيه صلة رحم، فلو أراد والد أن يفدى ابنه بنفسه لما قبل منه ذلك وهكذا الابن مع أبيه، فلا تلهينكم الدنيا عن الدار الآخرة، ولا يغرنكم الشيطان فيزيننّ لكم بوساوسه المعاصي والآثام ثم ختم السورة بذكر ما استأثر الله بعلمه، مما في الكائنات، وهي الخمس التي اشتملت عليها الآية الكريمة، مما لم يؤت علمها ملك مقرّب، ولا نبي مرسل.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئًا) أي يا أيها المشركون من قريش وغيرهم، اتقوا الله وخافوا أن يحل بكم سخطه في يوم لا يغني والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا، لأن الأمور كلها بيد من لا يغالب، ومن لا تنفع عنده الشفاعة والوسائل التي تنفع في الدنيا، بل لا تجدى عنده إلا وسيلة واحدة، هي العمل الصالح الذي قدمه المرء في حياته الأولى.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي اعلموا أن مجىء هذا اليوم حق، لأن الله قد وعد به، ولا خلف لوعده.

ثم حذرهم من شيئين، فقال:

(1) (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي فلا تخدعنّكم زينة هذه الحياة ولذاتها، فتميلوا إليها وتدّعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله في ذلك اليوم.

(2) (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي ولا يغرنكم الشيطان، فيحملنّكم على المعاصي بتزيينها لكم، ثم إرجاء التوبة إلى ما بعد ذلك، ثم هو ينسينكم ذلك اليوم، فلا تتخذنّ له زادا، ولا تعدّنّه معادا.

ثم ذكر سبحانه خمسة أشياء لا يعلمها إلا هو، فقال:

(1) (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يعلمها أحد سواه لا ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، كما قال: « لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ».

(2) (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في وقته المقدر له، ومكانه المعين في علمه تعالى، والفلكيون وإن علموا الخسوف والكسوف، ونزول الأمطار بالأدلة الحسابية، فليس ذلك غيبا، بل بأمارات وأدلة تدخل في مقدور الإنسان، ولا سيما أن بعضها قد يكون أحيانا في مرتبة الظن، لا في مرتبة اليقين.

(3) (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر هو أم أنثى، أتامّ الخلق أم ناقصه، أو نحو ذلك من الأحوال العارضة له.

(4) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَدًا) من خير أو شر.

(5) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي لا يدرى أحد أين مضجعه من الأرض؟ أفي بحر أم في برّ، أم في سهل، أم في جبل.

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن الله عليم بجميع الأشياء، خبير ببواطنها كما هو خبير بظواهرها.

أخرج ابن المنذر عن عكرمة « أن رجلا يقال له: الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي فقال: يا محمد متى قيام الساعة، وقد أجدبت بلادنا، فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت، فبأي أرض أموت، فنزلت الآية: إن الله عنده علم الساعة إلخ ».

وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله قال: « مفاتيح الغيب خمس: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا، وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير ».

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

مجمل ما حوته السورة الكريمة من الموضوعات

(1) القرآن هداية ورحمة للمؤمنين.

(2) قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم، واتخذ آيات الله هزوا.

(3) وصف العالم العلوي، والعالم السفلى، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله.

(4) قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة، وشكره لربه على ذلك، ثم نصائحه لابنه.

(5) الأمر بطاعة الوالدين إلا فيما لا يرضى الخالق.

(6) النعي على المشركين في ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر في الكون وعبادة الخالق له.

(7) لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات لله وعمل الصالحات.

(8) تسلية الرسول على عدم إيمان المشركين.

(9) تعجيب رسوله من المشركين بأنهم يقرون بأن الله هو الخالق لكل شيء ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم.

(10) نعم الله ومخلوقاته لا حصر لها.

(11) الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع لها.

(12) تحميق المشركين بأنهم في الشدائد يدعون الله وحده، وفى الرخاء يشركون معه سواه.

(13) الأمر بالخوف من عقاب الله يوم لا يجزى والد عن ولده.

(14) مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها.

(15) إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها.

سورة السجدة

هي مكية إلا من آية 16 إلى آية عشرين فمدنية وآيها ثلاثون، نزلت بعد سورة (المؤمنين).

ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه:

(1) اشتمال كل منهما على دلائل الألوهية.

(2) إنه ذكر في السورة السالفة دلائل التوحيد، وهو الأصل الأول، ثم ذكر المعاد، وهو الأصل الثاني، وهنا ذكر الأصل الثالث، وهو النبوة.

(3) إن هذه السورة شرحت مفاتح الغيب التي ذكرت في خاتمة ما قبلها، فقوله: « ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ » شرح لقوله: « إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ » وقوله: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ » شرح لقوله: « وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ » وقوله: « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » تفصيل لقوله: « وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ » وقوله: « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ » إيضاح لقوله: « وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَدًا » وقوله: « أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ » إلخ شرح لقوله: « وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ».

[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 3]

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

الإيضاح

(الم) تقدم الكلام في مثل هذا من قبل، في معناه، وكيفية النطق به.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزل على محمد لا شك أنه من عند الله، وليس بشعر، ولا سجع كاهن، ولا هو مما تخرّصه محمد .

وفي هذا تكذيب لقولهم: « وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ».

ثم فنّد تكذيبهم له، وأكد أنه من لدن رب العالمين، فقال:

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي بل هو الحق والصدق من عند ربك أنزله إليك، لتنذر قومك بأس الله وسطوته أن تحل بهم على كفرهم به، وإنه لم يأتهم نذير من قبلك، ليبين لهم سبيل الرشاد، وأن محمدا لم يختلقه كما يزعمون.

وفي هذا ردّ لقولهم: « إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ».

[سورة السجده (32): الآيات 4 الى 9]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9)

المعنى الجملي

بعد أن أثبت سبحانه صحة الرسالة - بيّن ما يجب على الرسول من الدعاء إلى توحيد لله، وإقامة الأدلة على ذلك.

الإيضاح

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي الله سبحانه هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما في ستة أطوار في نظر الناظرين إليها، وليس المراد اليوم المعروف، لأنه قبل خلق السموات لم يكن ليل ولا نهار، وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الفرقان.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم بيان هذا في سورة يونس وهود وطه.

(ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ليس لكم أيها الناس من يلي أموركم، وينصركم منه إن أراد بكم ضرا، ولا يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه.

والخلاصة: فإياه فاتخذوه وليّا، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم، فإنه يمنعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم، إذا هو أراد وقوعه بكم، لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب.

ثم أمرهم بالتذكر والتدبر في الأدلة، فقال:

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟) أي أفلا تعتبرون وتتفكرون أيها العابدون غيره، المتوكلون على من عداه، تعالى الله وتقدس أن يكون له نظير أو شريك، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) تدبير الأمر: النظر في دابره وعاقبته ليجىء محمود المغبّة، وتدبير الأمر من السماء إلى الأرض، ثم عروجه إليه، تمثيل لإظهار عظمته، كما يصدر الملك أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.

(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يصير الأمر كله إليه، ليحكم فيه في يوم مقداره ألف سنة مما كنا نعده في هذه الحياة.

والمراد بالألف الزمن المتطاول، وليس المقصد منه حقيقة العدد، إذ هو عند العرب منتهى المراتب العددية، وأقصى غاياتها، وليس هناك مرتبة فوقه إلا ما يتفرع منه من عداد مراتبها.

قال القرطبي: المعنى إن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول، وأيام السرور بالقصر، قال شاعرهم:

ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر ا هـ

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي لك المدبر لهذه الأمور، هو العالم بما يغيب عن أبصاركم، مما تكنّه الصدور وتخفيه نفوس، وما لم يكن بعد مما هو كائن، وبما شاهدته الأبصار وعاينته، وهو الشديد انتقامه ممن كفر به، وأشرك معه غيره، وكذب رسله، وهو الرحيم بمن تاب من ضلالته، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله، وعمل صالحا، وهو الذي أحسن خلق الأشياء وأحكمها.

ولما ذكر خلق السموات والأرض شرع يذكر خلق الإنسان، فقال:

(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي وبدأ خلق آدم أبى البشر من الطين، وقد يكون المعنى إن الطين ماء وتراب مجتمعان، والآدمي أصله مني، والمني من الغذاء والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية. والحيوانية ترجع إلى النباتية، والنبات وجوده بالماء والتراب وهو الطين.

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين الصلب والترائب في كل من الرجل والمرأة كما دل على ذلك علم الأجنة، وسيأتي إيضاح هذا عند قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي ثم عدّله بتكميل أعضائه في الرحم، وتصويره على أحسن صورة، ونفخ فيه من روحه، وجعلها تتعلق ببدنه، فيبدأ يتحرك، وتظهر فيه آثار الحياة، ثم ينطق ويتكلم.

(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي وأنعم عليكم، فأعطاكم السمع تسمعون به الأصوات، والأبصار تبصرون بها المرئيات، والأفئدة تميزون بها بين الخير والشر، وبين الحق والباطل.

وجاء الترتيب هكذا: لما ثبت من أن الطفل بعد الولادة يسمع ولا يبصر مدى ثلاث أيام، ثم يبتدئ يبصر، ثم يبتدئ يدرك ويميز كما هو مشاهد.

ثم بين أن الإنسان قابل هذه النعم بالكفران إلا من رحم الله، فقال:

(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم تشكرون ربكم قليلا من الشكر على هذه النعم التي أنعم بها عليكم باستعمالها في طاعته وعمل ما يرضيه.

[سورة السجده (32): الآيات 10 الى 11]

وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الرسالة بقوله: « لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ »، والوحدانية بقوله: « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » إلخ. أردف ذلك ذكر البعث، واستبعاد المشركين له، ثم الرد عليهم.

الإيضاح

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وقال المشركون بالله المكذبون بالبعث: أئذا صارت لحومنا وعظامنا ترابا في الأرض؟ أنبعث خلقا جديدا؟.

وخلاصة مقالهم: عظيم الاستبعاد للإعادة، بأنها كيف تعقل وقد تمزقت الجسوم، وتفرقت في أجزاء الأرض؟.

وهم قد قاسوا قدرة الخالق الذي بدأهم أول مرة، وأنشأهم من العدم بقدرة المخلوق العاجز - شتان بينهما - إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

ثم زاد في النعي عليهم، والإنكار لآرائهم بقوله:

(بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله على ما يشاء فحسب، بل هم تعدّوا ذلك إلى الجحود بلقاء ربهم حذر عقابه، وخوف مجازاته إياهم على معاصيهم.

ثم رد عليهم مقالتهم، وشديد استنكارهم بقوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أصل التوفي أخذ الشيء وافيا كاملا، أي قل لهؤلاء المشركين: إن ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم يستوفى العدد الذي كتب عليه الموت منكم حين انتهاء أجله، ثم تردون إلى ربكم يوم القيامة أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، وفى هذا إثبات للبعث مع تهديدهم وتخويفهم، وإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء.

[سورة السجده (32): الآيات 12 الى 14]

ولَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

المعنى الجملي

بعد أن أثبت البعث والرجوع - بين حال المشركين حين معاينة العذاب، ووقوفهم بين يدي الله أذلاء ناكسى رءوسهم من الحياء والخجل طالبى الرجوع إلى الدنيا لتحسين أعمالهم، ثم بين أنه لا سبيل إلى العودة، لأنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه، وأنه قد ثبت في قضائه، وسبق في وعيده أن جهنم تمتلئ من الجنة والناس ممن ساءت أعمالهم، وقبحت أفعالهم، فلا يصلحون لدخول الجنة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب النار جزاء ما عملتم في الدنيا، وقد نسيتم لقاء ربكم، فجازاكم، بفعالكم، وجعلكم كالمنسيين من رحمته.

الإيضاح

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا) أي ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين: أئذا ضللنا في الأرض أإنا لفى خلق جديد - ناكسى رءوسهم عند ربهم حياء وخجلا منه، لما سلف منهم من معاصيهم له في الدنيا، قائلين: ربنا أبصرنا الحشر، وسمعنا قول الرسول وصدّقنا به، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار، كما حكى عنهم سبحانه قولهم: « لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ».

ثم ادّعوا اطمئنان قلوبهم حينئذ، وقدرتهم على فهم معاني الآيات، والعمل بموجبها، كما حكى الله عنهم بقوله:

(إِنَّا مُوقِنُونَ) أي إنا قد أيقنا الآن ما كنا به في الدنيا جهالا من وحدانيتك، وأنه لا يصلح للعبادة سواك، وأنك تحيى وتميت، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء، وتفعل ما تشاء.

ونحو الآية قوله: « وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا » الآية.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما تهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا، ولكن تدبيرنا للخلق على نظم كاملة، كفيلة بمصالحه، قضى أن نضع كل نفس في المرتبة التي هي أهل لها بحسب استعدادها، كما توضع في الإنسان العين في موضع لا يصلح له الظفر والإصبع، والمعدة في موضع لا يصلح له القلب، وهذا هو المراد من قوله:

(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس الذين هم أهل لها، بحسب استعدادهم، ولا يصلحون لدخول الجنة كما لا يعيش البعوض والذباب، إلا في الأماكن القذرة، ليخلّص الجو من العفونات، ولو جعلا في القصور النظيفة النقية ما عاشا فيها، إذ لا يجدن فيها غذاء ولا منفعة لهما. وهكذا هؤلاء إذا رأوا العالم المضيء المشرق، والأنوار المتلألئة، والحياة الطيبة في الجنة لم يستطيعوا دخولها، وعجزوا عن ذلك، فما مثلهم إلا مثل السمك الذي لا يعيش في البر، ومثل ذوات الأربع التي لا تعيش في البحر.

ولما بين لهم أنه لا رجوع إلى الدنيا أنّبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي، وترك الطاعة له، فقال:

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي فذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم بهذا اليوم، واستبعادكم وقوعه، وعملكم عمل من لا يظن أنه راجع إلى ربه فملاقيه.

ثم ذكر لهم جزاءهم على فعل المعاصي، فقال:

(إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي إنا سنعاملكم معاملة الناسي، لأنه تعالى لا ينسى شيئا، ولا يضل عنه شيء، وهذا أسلوب في الكلام يسمى أسلوب المشاكلة، ونحوه: « الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا » وقوله: « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ » وقوله: « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ».

(وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وذوقوا عذابا تخلدون فيه إلى غير نهاية، بسبب كفركم وتكذيبكم بآيات ربكم، واجتراحكم للشرور والآثام.

[سورة السجده (32): الآيات 15 الى 17]

إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)

تفسير المفردات

ذكروا بها: أي وعظوا، خروا: أي سقطوا، سبحوا بحمد ربهم: أي نزهوه عما لا يليق به، تتجافى: أي ترتفع وتبتعد، قال عبد الله بن رواحة:

وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشقّ معروف من الصبح ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

والجنوب: واحدها جنب، وهو الشق، والمضاجع: واحدها مضجع، وهو مكان النوم، أخفى لهم: أي خبّئ لهم، من قرة أعين: أي من شيء نفيس تقرّ به أعينهم وتسرّ.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه علامة أهل الكفر من طأطأة الرءوس خجلا وحياء مما صنعوا في الدنيا، وذكر ما يلاقونه من العذاب المهين يوم القيامة - عطف على ذلك ذكر علامة أهل الإيمان من تذللهم لربهم، وتسبيحهم بحمده، ومحافاة جنوبهم للمضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، ثم أردفه ذكر ما يلاقونه من نعيم مقيم، وقرة أعين جزاء لهم على جميل أعمالهم، ومحاسن أقوالهم.

الإيضاح

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ما يصدّق بحججنا وآيات كتابنا إلا الذين إذا وعظوا بها خروا لله سجدا، تذللا واستكانة لعظمته، وإقرارا بعبوديته، ونزهوه في سجودهم عما لا يليق به، مما يصفه به أهل الكفر من الصاحبة والولد والشريك، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته، كما يفعل أهل الفسق والفجور حين يسمعونها، فإنهم يولون مستكبرين، كأن لم يسمعوها.

ثم ذكر بقية محاسن أعمالهم بقوله:

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يتنحون عن مضاجعهم التي يضطجعون فيها لمنامهم، فلا ينامون، داعين ربهم خوفا من سخطه وعذابه، وطمعا في عفوه عنهم، وتفضله عليهم برحمته ومغفرته، ومما رزقناهم من المال ينفقون في وجوه البر، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم فيه، قال أنس بن مالك: « نزلت فينا معاشر الأنصار، كنا نصلى المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلى العشاء مع النبي  ».

وعن معاذ بن جبل عن النبي في قوله: « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ » قال: هي قيام العبد أول الليل.

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن النبي قال: « عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى ضلاته رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزم، فعلم ما عليه من الفرار، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه ».

وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: « كنت مع النبي في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني عما يدخلنى الجنة، ويباعدنى عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسّره الله تعالى عليه - تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: تتجافى جنوبهم عن المضاجع - حتى بلغ - جزاء بما كانوا يعملون، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك مملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ».

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية: « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ لذكر الله، كلما استيقظوا ذكروا الله عز وجل، إما في الصلاة، وإما في قيام أو قعود، أو على جنوبهم، لا يزالون يذكرون الله تعالى » وقال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعى وغيرهم إن المراد بالتجافي القيام لصلاة النوافل بالليل.

وبعد أن ذكر حال المؤمنين المتواضعين ذكر جزاءهم بقوله:

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يعلم أحد عظيم ما أخفى لهم من النعيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد جزاء وفاقا بما كانوا يعملون من صالح الأعمال، أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.

روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي : « يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه، اقرءوا إن شئتم: « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ».

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: « إنه لمكتوب في التوراة، لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، وإنه لفى القرآن: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ».

[سورة السجده (32): الآيات 18 الى 22]

أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

تفسير المفردات

أصل الفسق: الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها، ثم استعمل في الخروج من الطاعة وأحكام الشرع مطلقا، فهو أعم من الكفر، وقد يخص به كما في قوله: « وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » والمأوى: المسكن وأصل النزل: ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب والصلة، ثم أطلق على كل عطاء، والمراد به هنا الثواب والجزاء، الأدنى: أي الأقرب، والمراد به عذاب الدنيا، فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، وقد ابتلاهم الله بسنى جدب وقحط أهلكت الزرع والضرع، والعذاب الأكبر: عذاب يوم القيامة.

المعنى الجملي

لما بيّن حالى المجرمين والمؤمنين - عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوى الفريقان؟ وبين أنهما لا يستويان، ثم فصّل ذلك ببيان مآل كل منهما يوم القيامة.

الإيضاح

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا؟ لا يَسْتَوُونَ) أي أفهذا الكافر المكذّب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله المصدّق وعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه - كلا - لا يستوون عند الله ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.

وخلاصة ذلك: أبعد ظهور ما بينهما من تفاوت بيّن يظن أن المؤمن الذي حكيت أوصافه كالكافر الذي ذكرت قبائح أعماله؟ كلا - إن الفضل بينهما لا يخفى على ذي عينين.

ونحو الآية قوله: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ »

وقوله: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » وقوله: « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ » الآية.

وبعد أن نفى استواءهما أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل:

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أما الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا صالح الأعمال - فلهم مساكن فيها البساتين والدور، والغرف العالية، جزاء لهم على جليل أعمالهم، وطيب أفعالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي وأما الذين كفروا بالله، واجترموا الشرور والآثام، فمساكنهم التي يأوون إليها في الآخرة، ويستريحون فيها هي النار، وبئس القرار.

وفي هذا ضرب من التهكم بهم، إذ جعلت النار ملجأ ومستراحا لهم يستريحون إليها، فهو كقوله: « فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ».

ثم بين حالهم فيها ونفورهم منها، فقال:

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي كلما شارفوا الخروج منها، وظنوا أنه قد تيسر لهم ذلك، وهم بعد في غمراتها أعيدوا فيها، ودفعوا إلى قعرها.

روي أن لهب النار يضربهم فيرتفعون إلى أعلاها، حتى إذا قربوا من أبوابها، وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها - وهكذا يفعل بهم أبدا.

قال الفضيل بن عياض: والله إنّ الأيدي لموثقة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم.

ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ:

(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي ذوقوا عذابها الذي كنتم تكذبون في الدنيا أن الله قد أعده لأهل الشرك به.

ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات في الدنيا لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلا وآجلا، فقال:

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ولنبتلينهم بمصايب الدنيا وأسقامها وآفاتها من المجاعات والقتل، ونحو ذلك، عظة لهم ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب يوم القيامة.

ثم ذكر حال من قابل آيات الله بالإعراض، بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد، فقال:

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟) أي لا أظلم ممن ذكّره الله بحججه، وآي كتابه ورسله، ثم أعرض عن ذلك كله، ولم يتعظ به، بل تناساه، كأنه لا يعرفه.

ثم بين جزاءه على ذلك، فقال:

(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي إنا سننتقم أشد الانتقام من الذين اجترحوا السيئات، واكتسبوا الآثام والمعاصي.

روى ابن جرير بسنده عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله يقول: « ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم ينصره، يقول الله: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ».

[سورة السجده (32): الآيات 23 الى 25]

ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه في أول السورة الرسالة والتوحيد والبعث - عاد في آخرها إلى ذكرها مرة أخرى، فقال:

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) المرية: الشك، أي إنا آتينا موسى التوراة مثل ما آتيناك القرآن، وأنزلنا عليك الوحي مثل ما أنزلناه عليه، فلا تكن في شك من لقائك الكتاب، فأنت لست ببدع من الرسل كما قال تعالى: « قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ».

وذكر موسى من بين سائر الرسل لقرب عهده من النبي ووجود من كان على دينه بينهم إلزاما لهم، ولم يذكر عيسى، لأن اليهود ما كانوا يعترفون بنبوته، والنصارى كانوا يقرون بنبوة موسى، فذكر المجمع عليه.

وقد يكون ذكره لأن الآية جاءت تسلية لرسوله ، فإنه لما أتى بكل آية وذكّرهم بها، وأعرض قومه عنها حزن حزنا شديدا، فقيل له: تذكّر حال موسى ولا تحزن، فإنه قد لقى مثل ما لقيت، وأوذى كما أوذيت، فإنّ من لم يؤمن به آذاه، كفرعون وقومه، ومن آمنوا به من بني إسرائيل آذوه أيضا بالمخالفة له كقولهم: « أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً » وقولهم: « فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا »، وغيره من الأنبياء لم يؤذه إلا من لم يؤمن به.

(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي وجعلنا الكتاب الذي آتيناه مرشدا لبني إسرائيل إلى طريق الهدى كما جعلناك مرشدا لأمتك.

ونحو الآية قوله: « وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ».

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي وجعلنا من بني إسرائيل رؤساء في الخير، يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم، بإذننا لهم وتقويتنا إياهم، لأنهم صبروا على طاعتنا، وعزفت أنفسهم عن لذات الدنيا وشهواتها، وكانوا من أهل اليقين بحججنا وبما تبين لهم من الحق.

وفي ذلك إيماء إلى أن الكتاب الذي آتيناكه سيكون هداية للناس، وسيكون من أتباعه أئمة يهدون مثل تلك الهداية.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك يقضى بين خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون من أمور الدين والثواب والعقاب، فيدخل الجنة أهل الحق، ويدخل النار أهل الباطل.

[سورة السجده (32): الآيات 26 الى 27]

أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)

المعنى الجملي

بعد أن أعاد ذكر الرسالة في قوله: « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ » أعاد هنا ذكر التوحيد مع ذكر البرهان عليه بما يرونه من المشاهدات التي يبصرونها.

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ؟) أي أو لم يبين لهم طريق الحق كثرة من أهلكنا من القرون الماضية الذين يمشون في أرضهم، ويشاهدون آثار هلاكهم كعاد وثمود وقوم لوط.

والخلاصة: أو لم يرشد هؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم لرسلهم، ومخالفتهم إياهم فيما جاءوهم به من سبل الحق، فلم يبق منهم باقية.

ونحو الآية قوله: « هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا » وقوله: « فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا » وقوله: « فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ».

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن في خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من أهلها لما كذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا، وعبدوا غيرنا - لآيات لهم وعظات يتعظون بها لو كانوا من أولى الحجا.

(أَفَلا يَسْمَعُونَ؟) عظاتنا وتذكيرنا إياهم، وتعريفهم مواضع حججنا سماع تدبر وتفكر ليعتبروا بها.

وبعد أن بين قدرته على الإهلاك - أرشد إلى قدرته على الإحياء ليبين أن النفع والضر بيده تعالى، فقال:

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) الأرض الجرز: هي التي جرز نباتها وقطع، إما لعدم الماء، وإما لأنه رعى وأكل، يقال: ناقة جروز إذا كانت تأكل كل شيء، ورجل جروز أي أكول: أي ألم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت، والنشر بعد الفساد - أنا بقدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه ما شيتهم وتتغذى به أجسامهم، فيعيشون به؟.

(أَفَلا يُبْصِرُونَ؟) أي أفلا يرون ذلك بأعينهم، فيعلموا أن القدرة التي بها فعلنا ذلك لا يتعذر عليها أن تحيى الأموات وتنشرهم من قبورهم، وتعيدهم بهيئاتهم التي كانوا عليها قبل موتهم؟.

[سورة السجده (32): الآيات 28 الى 30]

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

تفسير المفردات

الفتح: أي الفصل في الخصومة بيننا وبينكم، وينظرون: أي يمهلون ويؤخرون.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت الرسالة والتوحيد - عطف على ذلك ذكر الحشر، وبذلك صار ترتيب آخر السورة متناسقا مع ترتيب أولها، فقد ذكر الرسالة في أولها بقوله (لِتُنْذِرَ قَوْمًا) وفى آخرها بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وذكر التوحيد في أولها بقوله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وفى آخرها بقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) وذكر الحشر في أولها بقوله (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) وفى آخرها بقوله:

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ؟).

الإيضاح

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي ويقول المشركون على طريق الاستهزاء والاستبعاد: متى تنصر علينا أيها الرسول كما تزعم، ومتى ينتقم الله منا؟ وما نراك وأصحابك إلا مختفين خائفين أذلة - إن كنتم صادقين في الذي تقولون من أنا معاقبون على تكذيبنا الرسول، وعبادة الآلهة والأوثان، وهم ولا شك لا يستعجلونه إلا لاستبعادهم حصوله وإنكارهم إياه، وتكذيبهم له.

وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن استبعادهم موبخا لهم بقوله:

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي قل لهم: إذا حل بكم بأس الله وسخطه في الدنيا وفى الآخرة لا ينفعكم إيمانكم الذي تحدثونه في هذا اليوم، ولا تؤخّرون للتوبة والمراجعة.

والخلاصة: لا تستعجلوه ولا تستهزئوا، فكأني بكم وقد حل ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم حلول العذاب، فلم تنظروا.

ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم، وانتظار الفتح بينه وبينهم، فقال:

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بهم، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك، وانتظر ما الله صانع بهم، فإنه سينجزك ما وعد، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، وهم منتظرون يتربصون بكم الدوائر كما قال « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ».

وسترى عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة ربك، بنصرك وتأييدك، وسيجدون نحب ما ينتظرون فيك، وفى أصحابك من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات

(1) إثبات رسالة النبي وبيان أن مشركي العرب لم يأتهم رسول من قبله.

(2) إثبات وحدانية الله، وأنه المتصرف في الكون، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه.

(3) إثبات البعث والنشور، وبيان أنه يكون في يوم كألف سنة مما تعدون.

(4) تفصيل خلق الإنسان في النشأة الأولى، وبيان الأطوار التي مرت به، حتى صار بشرا سويا.

(5) وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح.

(6) تفصيل أحوال المؤمنين في الدنيا، وذكر ما أعده الله لهم من النعيم، والثواب العظيم في الآخرة.

(7) استعجال الكفار لمجئ يوم القيامة استبعادا منهم لحصوله.

سورة الأحزاب

هي مدنية نزلت بعد آل عمران.

وآيها ثلاث وسبعون.

ووجه اتصالها بما قبلها تشابه مطلع هذه وخاتمة السالفة، فإن تلك ختمت بأمر النبي بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه من ربه مع التوكل عليه.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 1 الى 3]

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)

تفسير المفردات

قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله، وتوكل على الله: أي فوّض أمورك إليه، الوكيل: الحافظ للأمور.

المعنى الجملي

أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهل مكة، ومنهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي أن يرجع عن قوله: على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فنزلت الآيات.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) أي يا أيها النبي خف الله بطاعته، وأداء فرائضه، وواجب حقوقه عليك، وترك محارمه، وانتهاك حدوده.

والخلاصة: يا أيها المخبر عنا، المأمون على وحينا، اثبت على تقوى الله، ودم عليها.

ولما وجّه إلى رسوله الأمر بتقوى الولي الودود - أتبعه بالنهي عن الالتفات نحو العدو الحسود، فقال:

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك: اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين، حتى نجالسك، والمنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالا، فلا تقبل لهم رأيا، ولا تستشرهم مستنصحا بهم، فإنهم أعداؤك، ويودون هلاكك، وإطفاء نور دينك.

روي أنه لما قدم رسول الله المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقا وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعا فحذره الله منهم، ونبهه الى عداوتهم.

ثم علل ما تقدم بقوله:

(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي إن الله عليم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة، وبالذي تنطوى عليه جوانحهم، حكيم في تدبير أمرك، وأمر أصحابك، وسائر شئون خلقه، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع.

والخلاصة: إنه تعالى هو العليم بعواقب الأمور، الحكيم في أقواله وأفعاله، وتدبير شئون خلقه.

ثم أكد وجوب الامتثال بأن الآمر لك هو مرّ بيك في نعمه، الغامر لك بإحسانه، فهو الجدير أن يتّبع أمره، ويجتنب نهيه، فقال:

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي واعمل بما ينزله عليك ربك من وحيه، وآي كتابه.

ثم علل ذلك بما يرغّبه في اتباع الوحي، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين، فقال:

(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) أي إن الله خبير بما تعمل أنت وأصحابك، لا يخفى عليه شيء منه، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء.

ثم أمر رسوله بتفويض أموره إليه وحده، فقال:

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وفوض أمورك إليه وحده، واعتمد عليه في شئونك.

(وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي وكفى به حافظا، يوكل إليه جميع الشئون، فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره.

والخلاصة: حسبك الله، فإنه إن أراد لك نفعا لم يدفعه عنك أحد، وإن أراد ضرا لم يمنعه منك أحد.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 4 الى 5]

ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

تفسير المفردات

جعل: أي خلق، ويقال: ظاهر الرجل من زوجته إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، يريدون أنت محرمة علي كما تحرم الأم، وكانوا في الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم، والأدعياء: واحدهم دعي، وهو الذي تدّعى بنوته، وقد كانت تجرى عليه أحكام الابن في الجاهلية وصدر الإسلام، السبيل: أي طريق الحق، أقسط: أي أعدل، ومواليكم: أي أولياؤكم فيه.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه نبيه بتقواه، والخوف منه، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين، والخوف منهم - ضرب لنا الأمثال ليبين أنه لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه، فذكر أنه ليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصى بالآخر، وإذا لم يكن للمرء إلا قلب واحد، فمتى اتجه لأحد الشيئين صدّ عن الآخر، فطاعة الله تصدّ عن طاعة سواه، وأنه لا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة، والبنوة الحقيقية والتبني في إنسان.

روى الشيخان والترمذي والنسائي في جماعة آخرين عن ابن عمر رضي الله عنهما « أن زيد بن حارثة مولى رسول الله ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الآية، فقال النبي : أنت زيد ابن حارثة بن شراحيل.

وكان من خبره أنه سبى من قبيلته كلب وهو صغير، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله وهبته له، ثم طلبه أبوه وعمه فخيّر بين أن يبقى مع رسول الله، وأن يذهب مع أبيه، فاختار البقاء مع رسول الله ، فأعتقه وتبناه، وكانوا يقولون زيد بن محمد فلما تزوج رسول الله زينب، وكانت زوجا لزيد وطلقها قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو بنهي عن ذلك، فنزلت الآية لنفى أن يكون للمتبنّى حكم الابن حقيقة في جميع الأحكام التي تعطى للابن.

الإيضاح

(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كان أهل مكة يقولون: إن معمرا الفهري له قلبان لقوة حفظه، وروى أنه كان يقول: إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، وكانت العرب تزعم أن كل أريب له قلبان، فأكذب الله في هذه الآية قوله وقولهم:

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي ولم يجعل الله لكم أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهن: أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا - أمهاتكم، بل جعل ذلك من قبلكم كذبا وألزمكم عقوبة.

وقد كان الرجل في الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته صارت حراما عليه حرمة مؤيدة، فجاء الإسلام ومنع هذا التأييد، وجعل الحرمة مؤقتة، حتى يؤدى كفّارة (غرامة) لانتهاكه حرمة الدين، إذ حرم ما أحل الله.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ولم يجعل الله من ادعى أحدكم أنه ابنه، وهو ابن غيره - ابنا له بدعواه فحسب.

وفي هذا إبطال لما كان في الجاهلية وصدر الإسلام من أنه: إذا تبنى الرجل ابن غيره أجريت عليه أحكام الابن النسبي، وقد تبني رسول الله قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطّاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة سالما.

ثم أكد ما سبق بقوله:

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذا الذي تقدم من قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ودعاء من ليس بابنه أنه ابنه إنما هو قولكم بأفواهكم، لا حقيقة له، فلا تصير الزوجة أمّا، ولا يثبت بهذا الدعاء دعوى النسب.

(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي والله هو الصادق، الذي يقول الحق وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه، وبه تكون المرأة أمّا إذا حكم بذلك، وهو يبين لعباده سبيل الحق، ويهديهم إلى طريق الرشاد، فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عز اسمه.

وخلاصة ما سلف:

(1) إنه لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، وهذا يؤدى إلى التناقض في أعمال الإنسان، فيكون مريدا للشىء كارها له، وظانا له موقنا به في حال واحدة، وهذا لن يكون.

(2) إنه لم ير أن تكون المرأة أما لرجل وزوجا له، لأن الأم مخدومة، مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة في المصالح الزوجية على وجوه شتى.

(3) لم يشأ في حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له، لأن البنوة نسب أصيل عريق، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.

ولما ذكر أنه يقول الحق فصل هذا الحق بقوله:

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) أي انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم - لآبائهم، فقولوا: زيد بن حارثة، ولا تقولوا زيد بن محمد، فذلك أعدل في حكم الله وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم.

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي فإن أنتم أيها الناس لم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم؟ حتى تنسبوهم إليهم، وتلحقوهم بهم فهم إخوانكم في الدين إن كانوا قد دخلوا في دينكم ومواليكم إن كانوا محرّرين أي قولوا: هو مولى فلان، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة، وكان قد تبناه من قبل.

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهى أو بعده نسيانا أو سبق لسان.

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين.

وخلاصة ما سلف: إنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأ غير مقصود، كأن سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية: « لو دعوت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه ».

(وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي وكان الله ستارا لذنب من ظاهر من زوجته، وقال الزور والباطل من القول، وذنب من ادعى ولد غيره ابنا له إذا تابا ورجعا إلى أمر الله وأنتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما رحيما بهما فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما.

[سورة الأحزاب (33): آية 6]

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا (6)

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فيما سلف: أن الدعي ليس ابنا لمن تبناه، فمحمد ليس أبا لزيد بن حارثة، ثم أعقب ذلك بالإرشاد إلى أن المؤمن أخو المؤمن في الدين، فلا مانع أن يقول إنسان لآخر: أنت أخي في الدين - أردف ذلك بيان أن محمدا ليس أبا لواحد من أمته، بل أبوته عامة، وأزواجه أمهاتهم وأبوته أشرف من أبوة النسب لأن بها الحياة الحقيقية، وهذه بها الحياة الفانية، بل هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا حضهم على الجهاد ونحوه، فذلك لارتقائهم الروحي، فإذا كيف يستأذن الناس آباءهم وأمهاتهم حين أمرهم بغزوة تبوك، وهو أشفق عليهم من الآباء، بل من أنفسهم.

روى البخاري عن أبي هريرة قال: إن رسول الله قال: « ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن ترك مالا، فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فليأتنى، فأنا مولاه ».

وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: « يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء، حتى من نفسي، فقال : الآن يا عمر ».

الإيضاح

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي النبي أشد ولاية ونصرة لهم من أنفسهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم في دنياهم وآخرتهم، أما النفس فإنّها أمارة بالسوء، وقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع.

ومما يلزم هذا أن يكون حكمه نافذا فيهم، مقدّما على ما يختارونه لأنفسهم، كما قال: « فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ».

وخلاصة ذلك: إنه تعالى علم شفقة رسوله على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي هن منزلات منزلة الأمهات في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام، وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات، فلا يحل النظر إليهن، ولا إرثهن ولا نحو ذلك.

وكان التوارث في بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله حين الهجرة، فقد آخى بين أبي بكر رضي الله عنه، وخارجة بن زيد، وآخى بين عمر وشخص آخر، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك، فغيّر الله الحكم بقوله:

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين، وحق المهاجرين بحق الهجرة فيما كتبه الله وفرضه على عباده.

والخلاصة: إن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها، وأبطلت حكما شرع لضرورة عارضة في بدء الإسلام، وهو الإرث بالتآخى في الدين، والتآخى حين الهجرة بين المهاجرين والأنصار حين كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه.

ثم استثنى من ذلك الوصية، فقال:

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا) الأولياء هنا المؤمنون والمهاجرون والمعروف الوصية أي إلا أن توصوا لهؤلاء بوصية، فهم أحق بها من القريب الوارث.

ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل في الإرث، وهو الحكم الثابت في كتابه الذي لا يغيّر ولا يبدل، فقال:

(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا) أي إن هذا الحكم، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض - حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير، وإن كان قد شرع غيره في وقت ما لمصلحة عارضة، وحكمة بالغة، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار في قدره الأزلى، وقضائه التشريعي.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 7 الى 8]

وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا أَلِيمًا (8)

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أحكاما شرعها لعباده، وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية، وأشياء مما كان في الإسلام، ثم أبطلت ونسخت - أتبع ذلك بذكر ما فيه حث على التبليغ، فذكر أخذ العهد على النبيين أن يبلّغوا رسالات ربهم، ولا سيما أولو العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في الآية، كما ذكر في آية أخرى سؤال الله أنبياءه عن تصديق أقوامهم له، ليكون في ذلك تبكيت للمكذبين من الكفار، فقال: « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ».

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي واذكر أيها الرسول العهد والميثاق الذي أخذه الله على أولى العزم الخمسة بقية الأنبياء ليقيمنّ دينه، ويبلغنّ رسالته، ويتناصرنّ كما قال في آية أخرى: « وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ».

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا) بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال: « وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ».

وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولا، وأمره بشىء وقبله كان ذلك ميثاقا عليه، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول ويفعل كان ذلك تغليظا للميثاق، حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة.

ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين، فقال:

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم كيما أسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، وما فعل أقوامهم فيما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة.

(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا أَلِيمًا) أي ليسأل الصادقين عن صدقهم، وأعدّ لهم ثوابا عظيما، ويسأل الكاذبين عن كذبهم، وأعدّ لهم عذابا أليما.

غزوة الأحزاب - وقعة الخندق

[سورة الأحزاب (33): الآيات 9 الى 27]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرارًا (13) ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلًا (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيمانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)

تفسير المفردات

المراد بالجنود هنا: الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطّفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السّلمى، وبنو النّضير من اليهود، ورؤساؤهم حيي ابن أخطب، وأبناء أبى الحقيق، وبنو قريظة من اليهود أيضا سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله عهد فنبذه كعب بسعى حيي، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف أو نحو ذلك، والجنود التي لم تروها: هي الملائكة من فوقكم: أي من أعلى الوادي من جهة المشرق، وكانوا بنى غطفان، ومن أسفل منكم: أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وكانوا قريشا ومن شايعهم، وبنى كنانة وأهل تهامة، زاغت الأبصار: أي انحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة، وبلغت القلوب الحناجر: يراد به فزعت فزعا شديدا، ابتلى المؤمنون: أي اختبروا وامتحنوا، وزلزلوا زلزالا شديدا: أي اضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدوّ، والذين في قلوبهم مرض: قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشّبه عليهم لقرب عهدهم بالإسلام، إلا غرورا: أي إلا وعد غرور لا حقيقة له يثرب: من أسماء المدينة، لا مقام لكم: أي لا ينبغي لكم الإنامة هاهنا، عورة: أي ذات عورة لأنها خالية من الرجال فيخاف عليها سرق السّرّاق، والأقطار: واحدها قطر وهو الناحية والجانب، والفتنة: الردة ومقاتلة المؤمنين، آتوها: أي أعطوها، وما تلبثوا بها: أي وما أقاموا بالمدينة، يعصمكم: أي يمنعكم، المعوّقين: أي المثبطين عن القتال مع رسول الله ، هلم إلينا: أي أقبلوا إلينا، والبأس: الشدة، والمراد به هنا الحرب والقتال، أشحة: واحدهم شحيح أي بخيل بالنّصرة والمنفعة، تدور أعينهم: أي تدير أعينهم أحداقهم من شدة الخوف، سلقوكم: أي آذوكم بالكلام، بألسنة حداد: أي ألسنة دربة سلطة تفعل فعل الحديد، أشحة على الخير: أي بخلاء حريصين على مال الغنائم، أحبط الله أعمالهم: أي أبطلها لإضمارهم الكفر، لو أنهم بادون في الأعراب: أي خارجون إلى العدو مقيمون بين أهله، أسوة: أي قدوة، والمراد به المقتدى به، قضى نحبه: أي فرغ من نذره ووفى بعهده، وصبر على الجهاد حتى استشهد كحمزة، ومصعب بن عمير، والغيظ: أشد الغضب، وكفى الله المؤمنين القتال: أي وقاهم شره، عزيزا: أي غالبا مستوليا على كل شيء، ظاهروهم: أي عاونوهم، من أهل الكتاب: أي من بنى قريظة، من صياصيهم: أي من حصونهم واحدها صيصية وهي كل ما يمتنع به قال الشاعر:

فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا

وقذف: أي ألقى، والرعب: الخوف الشديد.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه عباده بتقواه، وعدم الخوف من سواه - ذكر هنا تحقيق ما سلف فأبان أنه أنعم على عباده المؤمنين، إذ صرف عنهم أعداءهم وهزمهم حين تألّبوا عليهم عام الخندق.

وتفصيل هذا على ما قاله أرباب السير:

أن نفرا من اليهود قدموا على قريش في شوال سنة خمس من الهجرة بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاءوا غطفان وقيسا وعيلان، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه، فخرجت هذه القبائل ومعها قادتها وزعماؤها. ولما سمع رسول الله بمسيرهم أمر المسلمين بحفر خندق حول المدينة بإشارة سلمان الفارسي، وعمل فيه رسول الله والمسلمون وأحكموه وكان رسول الله يرتجز بكلمات ابن رواحة، ويقول:

اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا وفى أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء في بطن الخندق فكسرت حديدهم وشقّت عليهم، فلما علم بها أخذ المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها (جانبي المدينة) حتى كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبّر رسول الله تكبير فتح وكبر المسلمون وهكذا مرة ثانية وثالثة فكانت تضىء وكان التكبير ثم قال رسول الله : ضربت ضربتى الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتى الثانية، فبرق البرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثالثة فبرق البرق الذي قد رأيتم أضاء لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلخ، ونزل:

(قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية.

ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب الذين حزّبهم اليهود، وأتوا إلى المدينة رأوا الخندق حائلا بينهم وبينها، فقالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ووقعت مصادمات بين القوم كرّا وفرّا، فمن المشركين من كان يقتحم الخندق فيرمى بالحجارة، ومنهم من كان يقتحمه بفرسه فيهلك.

ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله فأعلمه أنه أسلم وأن قومه لم يعلموا بذلك، فقال : إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة، فأتى قريظة وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا، لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، وذهب إلى قريش وإلى غطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد، فيضرب أعناقهم، ويتحدون معه على قتالكم، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه.

وحينئذ تخاذل اليهود والعرب، ودبّ بينهم دبيب الفشل. ومما زاد في فشلهم أن بعث الله عليهم ريحا في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم، وتطرح آنيتهم.

وقد قام رسول الله ليلة يصلى على التّل الذي عليه مسجد الفتح، ثم يلتفت ويقول: هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يقم رجل واحد، من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فدعا حذيفة بن اليمان وقال: ألم تسمع كلامى منذ الليلة؟ قال حذيفة: فقلت يا رسول الله منعنى أن أجيبك الضّر والقرّ، قال: انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم وتأتينى بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، حتى تردّه إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتينى، فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله يده يقول: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّى وغمى وكربى، فقد ترى حالى وحال أصحابي فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك، فخر رسول الله على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا شكرا كما رحمتنى ورحمت أصحابي، وذهب حذيفة إلى القوم، فسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، فلما رجع أخبر رسول الله ، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها) أي تذكروا أيها المؤمنون نعم الله التي أسبغها عليكم حين حوصرتم أيام الخندق، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان، ويهود بني النضير الذين كانوا أجلاهم رسول الله من المدينة إلى خيبر، فأرسلنا عليهم ريحا باردة في ليلة باردة أحصرنهم، وسفت التراب في وجوههم، وأمر ملائكته، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف الرعب في قلوب الأعداء، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدي: إن محمدا قد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال.

قال حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله ليأتي بخبر القوم:

خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم (أبو سفيان) يقول: الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الرجل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، والريح تضربهم ثم رجعت نحو النبي فلما صرت في منتصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمّين قالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاك القوم.

والخلاصة: إنه تعالى يمتنّ على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم وتحزبوا عام الخندق.

(وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) أي وكان الله عليما بجميع أعمالكم من حفركم للخندق، وترتيب وسائل الحرب لإعلاء كلمته، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له، بصيرا بها لا يخفى عليه شيء منها، وهو يجازيكم عليها « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ».

ثم زاد الأمر تفصيلا وبيانا، فقال:

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق، وكانوا من غطفان، ومن تابعهم من أهل نجد، ومن بنى قريظة والنضير من اليهود، ومن أسفله من قبل المغرب، وكانوا من قريش، ومن شايعهم من الأحابيش، وبنى كنانة وأهل تهامة.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) أي وحين مالت الأبصار عن سننها، وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة، وخاف الناس خوفا شديدا، وفزعوا فزعا عظيما، وظنوا مختلف الظنون، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز الله وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه، ويقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله، ومنهم منافق وفى قلبه مرض يظن أن محمدا وأصحابه سيستأصلون، ويستولى المشركون على المدينة، وتعود الجاهلية سيرتها الأولى، إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها تجول في قلوب المؤمنين والمنافقين، على قدر ما يكون القلب عامرا بالإخلاص مكتوبا له السعادة أو متشككا في اعتقاده ليست له عزيمة صادقة.

ثم ذكر أن هذه الشدائد محّصت المؤمنين، وأظهرت المنافقين.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا) أي حين ذاك اختبر الله المؤمنين ومحصنهم أشد التمحيص، فظهر المخلص من المنافق، والراسخ الإيمان من المتزلزل، واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدو.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) أي وحين قال المنافقون كمعتّب بن قشير، والذين في قلوبهم ضعف في الإيمان لقرب عهدهم بالإسلام: ما وعدنا الله ورسوله من الظفر والنصر على العدو إلا وعدا باطلا بغرّنا به ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، ويسلخنا عن دين آبائنا، ويقول: إن هذا الدين سيظهر على الدين كله، وإنه سيفتح لنا فارس والروم، وها نحن أولاء قد حصرنا هاهنا حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) أي وحين قالت جماعة من المنافقين كعبد الله بن أبي وأصحابه: يا أهل المدينة ليس هذا المقام بمقام لكم فارجعوا إلى منازلكم ليكون ذلك أسلم لكم من القتل.

وقد يكون المعنى: لا مقام لكم في دين محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك وأسلموا محمدا إلى أعدائه.

(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي ويطلب جماعة منهم من النبي الرجوع إلى بيوتهم وتركهم للقتال، وهم بنو حارثة، معتذرين بمختلف المعاذير كقولهم: إن بيوتنا مما يلي العدو ذليلة الحيطان يخاف عليها من السرّاق، والحقيقة أنهم كاذبون فيما يقولون، وهم مضمرون غير ذلك.

ثمّ بين السبب الحقيقي لهذه المقالة، فقال:

(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرارًا) أي وما يريدون بالاستئذان إلا الفرار من القتال والهرب من عسكر رسول الله وعدم مساعدة المؤمنين.

ثم بين وهن الدين وضعفه في قلوبهم إذا ذاك، وأنه معلق بخيط دقيق ينقطع بأدنى هزة، فقال:

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيرًا) أي ولو دخل عليهم الأحزاب من جوانب بيوتهم، ثم طلبوا إليهم أن يرتدوا عن دينهم ويرجعوا إلى شركهم بربهم - لفعلوا ذلك مسرعين من شدة الهلع والجزع.

وفي هذا إيماء إلى أن الإيمان لا قرار له في نفوسهم، ولا أثر له في قلوبهم، فهو لا يستطيع مقابلة الصعاب، ولا مقاومة الشدائد، فلا تعجب لاستئذانهم وطلبهم الهرب من ميدان القتال.

والخلاصة: إن شدة الخوف والهلع الذي تمكن في قلوبهم مع خبث طويتّهم، وإضمارهم النفاق - تحملهم على الإشراك بالله والرجوع إلى دينهم عند أدنى صدمة تحصل لهم من العدو، فإيمانهم طلاء ظاهرى لا أثر له في نفوسهم بحال، فلا عجب إذا هم تسللوا لواذا، وبلغ الخوف من نفوسهم كل مبلغ.

ثم بين أن لهم سابقة عهد بالفرار وخوف اللقاء من الكماة، فقال:

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي ولقد كان هؤلاء المستأذنون وهم بنو حارثة قد هربوا يوم أحد وفرّوا من لقاء عدوهم، ثم تابوا وعاهدوا الله ألا يعودوا إلى مثلها وألا ينكثوا على أعقابهم حين قتالهم مع رسول الله .

ثم بين ما للعهد من حرمة فقال:

(وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) أي وعهد الله يسأل عن الوفاء به يوم القيامة ويجازى عليه.

ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم: إن فراركم لا يؤخر آجالكم، ولا يطيل أعماركم، فقال:

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي قل لهؤلاء المستأذنين الفارّين من قتال العدو ومنازلته في الميدان: لن ينفعكم الهرب ولا يدفع عنكم ما أبرم في الأزل من موت أحدكم حتف أنفه، أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدّر كائن لا محالة والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار، وكان علي يقول عند اللقاء: دهم الأمر، وتوقّد الجمر.

أي يومي من الموت أفرّ يوم لا يقدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجى الحذر

(وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم الموت فمتّعتم لم يكن ذلك التمتع إلا قليلا، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، فعمر تأكله الدقائق قليل وإن كثر، ولله درّ أحمد شوقى إذ يقول:

دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني

ولما كانوا ربما يقولون: بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم - أمره الله بالجواب عن هذا، فقال:

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي قل لهم: لا أحد يستطيع أن يمنع عنكم شرا من قتل أو بلاء قدره الله عليكم، أو يؤتيكم خيرا إن لم يكن أراده لكم.

والخلاصة: هل احترزتم في جميع أعمالكم عن سوء فنفعكم الاحتراز، أو اجتهد غيركم في منع الخير عنكم فتمّ له ما أراد؟.

وإجمال القول: إن النفع والضر بيده سبحانه، وليس لغيره في ذلك تصريف ولا تبديل.

ثم أكد هذا بقوله:

(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) أي ولا يجد هؤلاء المنافقون وليا ينفعهم غير الله، ولا نصيرا يدفع السوء عنهم.

وبعد أن أخبر سبحانه رسوله بمقالة المنافقين لأهل المدينة، وأمره بوعظهم - حذّرهم بدوام علمه بمن يخون الله ورسوله بقوله:

(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي إن ربك أيها الرسول ليعلم حق العلم من يثبّطون الناس عن رسول الله ويصدونهم

عنه، وعن شهود الحرب معه نفاقا منهم وتخذيلا عن الإسلام، ويعلم الذين يقولون لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الظلال والثمار، ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه مشهدا، فإنا نخاف عليكم الهلاك.

قال قتادة: كان المنافقون يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من الأنصار: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس (يريدون أنهم قليلو العدد) ولو كانوا لحما لا لتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فدعوه فإنه هالك.

(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولا يأتون الحرب إلا زمنا قليلا، فقد كانوا لا يأتون المعسكر إلا ليراهم المخلصون، فإذا غفلوا عنهم تسللوا لواذا وعادوا إلى بيوتهم ثم ذكر بعض معايبهم من البخل والخوف والفخر الكاذب، فقال:

(1) (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة، فهم لا يودون مساعدتكم لا بنفس ولا بمال.

(2) (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي فإذا بدأ الخوف بكرّ الشجعان وفرّهم في ميدان القتال - رأيتهم ينظرون إليك وقد دارت أعينهم في رءوسهم فرقا وخوفا كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فإنه إذ ذاك يذهب لبّه، ويشخص بصره، فلا يتحرك طرفه.

(3) (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي فإذا كان الأمن تكلموا فصيح الكلام، وفخروا بما لهم من المقامات المشهودة في النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون.

قال قتادة: أمّا عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة، يقولون: أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذ له للحق ا هـ.

ثم بين ما دعاهم إلى بسط ألسنتهم فيهم، فقال:

(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي هم بخلاء حريصون على الغنائم إذا ظفر بها المؤمنون، لا يريدون أن يفوتهم شيء مما وصل إلى أيديهم.

والخلاصة: إنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء.

أفي السلم أعيار جفاء وغلظة وفى الحرب أمثال النساء العواتك

وبعد أن وصفهم بما وصفهم به من دنىء الصفات - بيّن ما دعاهم إليها، وهو قلة ثقتهم بالله لعدم تمكن الوازع النفسي في قلوبهم، فقال:

(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ) أي هؤلاء الذين بسطت أوصافهم لم يصدّقوا الله ورسوله، ولم يخلصوا له العمل، لأنهم أهل نفاق، فأبطل الله أعمالهم، وأذهب أجورها، وجعلها هباء منثورا.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي وكان ذلك الإحباط هيّنا على الله لا يبالى به إذ هم قوم فعلوا ما يستوجبه ويستدعيه، فاقتضت حكمته أن يعاملهم بما يقتضيه عدله وتدل عليه حكمته.

ثم أبان مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم، فقال:

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي هم من شدة الهلع والخوف، وعظيم الدهشة والحيرة، لا يزالون يظنون أن الأحزاب من غطفان وقريش لم يرحلوا، وقد هزمهم الله ورحلوا، وتفرقوا في كل واد.

وإجمال القول: إنهم لما لم يقاتلوا لجبنهم، وضعف إيمانهم، فكأنهم غائبون، فظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد كانوا راحلين منهزمين لا يلوون على شيء.

(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي وإن يأت الأحزاب ويعودوا مرة أخرى تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة، حتى لا ينالهم أذى ولا مكروه، ويكتفون بأن يسألوا عن أخباركم كل قادم من جانب المدينة، وفى هذا كفاية لديهم لجبنهم، وخور عزائمهم.

(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو كان هؤلاء المنافقون فيكم في الكرة السابقة، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان القتال قتال جلاد وكرّ وفرّ، وطعن وضرب، ومحاربة بالسيوف، ومبارزة في الصفوف - ما قاتلوا إلا قتالا يسيرا رياء وخوفا من العار، لا قتالا يحتسبون فيه الثواب من الله وحسن الأجر.

وبعد أن فصّل أحوالهم، وشرح نذالتهم، وعظيم جبنهم - عاتبهم أشد العتب، وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول الله معتبر لو اعتبروا، وأسوة حسنة لو أرادوا التأسى، فقال:

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) أي إن المثل العالية، والقدوة الحسنة ماثلة أمامكم لو شئتم، فتحتذون الرسول في أعماله، وتسيرون على نهجه لو كنتم تبتغون ثواب الله، وتخافون عقابه إذا أزفت الآزفة، وعدم النصير والمعين، إلا العمل الصالح، وكنتم تذكرون الله ذكرا كثيرا، فإن ذكره يؤدى إلى طاعته، ويحقق الائتساء برسوله.

وخلاصة ذلك: هلا اقتديتم بالرسول، وتأسيتم بشمائله؟.

ولما ذكر سبحانه حال المنافقين - ذكر حال المؤمنين حين لقاء الأحزاب، فقال:

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيمانًا وَتَسْلِيمًا) أي ولما أبصر المؤمنون الصادقون المخلصون لله في القول والعمل - الأحزاب الذين أدهشت رؤيتهم العقول، وتبلبلت لها الأفكار، واضطربت الأفئدة - قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار الذي يعقبه النصر في نحو قوله: « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » وقوله: « أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ »

وقول الرسول : « سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم »

وقوله: « إنهم سائرون إليكم تسعا أو عشرا » أي في آخر تسع ليال أو عشر من حين الإخبار.

وصدق الله ورسوله في النصرة والثواب، كما صدق الله ورسوله في البلاء والاختبار، ومازادهم ذلك إلا صبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، وتصديقا بتحقيق ما كان الله ورسوله قد وعدهم.

ثم وصف سبحانه بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء، واحتملوا البأساء والضراء، فقال:

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) أي ومن المؤمنين بالله، المصدقين برسوله، رجال أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر في اللأواء وحين البأساء، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير هذه المواطن، ومنهم من ينتظر قضاءه والفراغ منه كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده، وما غيّروه وما بدلوه.

أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في جماعة آخرين عن أنس قال: « غاب عمى أنس بن النضر عن بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدا مع رسول الله فيما بعد ليرينّ الله تعالى ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية:

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إلخ.

وروى صاحب الكشاف أن رجالا من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، وحمزة ومصعب بن عمير، وجمع غيرهم.

ثم بيّن العلة في هذا الابتلاء والتمحيص، فقال:

(لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنه سبحانه إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر كل منهما جليا واضحا كما قال: « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ » وقال: « ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ » ثم يثيب أهل الصدق منهم بصدقهم بما عاهدوا الله عليه، ووفائهم له به، ويعذب المنافقين الناقضين لعهده، المخالفين لأوامره، إذا استمروا على نفاقهم حتى يلقوه، فإن تابوا ونزعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال غفر لهم ما أسلفوا من السيئات، واجترحوا من الآثام والذنوب.

ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة قال:

(إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا) أي إنه تعالى من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفى هذا حثّ عليها في كل حين، وبيان نفعها للتائبين.

ثم رجع يحكى بقية القصص وفصّل ذلك تتميما للنعمة التي أشار إليها إجمالا بقوله: « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها » ووسط بينهما بإيضاح ما نزل بهم من الطامة التي تحير العقول والأفهام، والداهية التي نزلت فيها الأقدام، وما صدر من من الفريقين المؤمنين وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال، لإظهار عظمة النعمة، وإبانة جليل خطرها، ومجيئها حين اشتداد الحاجة إليها فقال:

(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي فأرسلنا ريحا وجنودا لم تروها، ورددنا الذين كفروا بالله ورسوله من قريش وغطفان بغمّهم، بفوت ما أمّلوا من الظفر، وخيبتهم فيما كانوا طمعوا فيه من الغلبة والنصر على محمد وصحبه، إذ لم يصيبوا مالا ولا إسارا، ولم يحتج المؤمنون إلى منازلتهم ومبارزتهم لإجلائهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤمنين القتال، ونصر عبده، وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فلا شيء بعده.

روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله كان يقول « لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده ».

ورويا أيضا عن عبد الله بن أوفى قال: « دعا رسول الله على الأحزاب فقال: اللهم منزّل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ».

وروى محمد بن إسحاق أنه لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله « لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم »

وقد تحقق هذا فلم تغزهم قريش بعد ذلك، بل كان رسول الله يغزوهم حتى فتح الله تعالى مكة.

(وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) أي وكان الله عزيزا بحوله وقوته، فردّهم خائبين لم ينالوا خيرا.

ولما قص أمر الأحزاب وذكر ما انتهى إليه أمرهم ذكر حال من عاونوهم من اليهود فقال:

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) أي وأنزل الله يهود بنى قريظة الذين عاونوا الأحزاب على رسول الله من حصونهم بعد أن نقضوا العهد بسفارة حيي بن أخطب النضيري، إذ لم يزل بزعيمهم كعب بن أسد حتى نقض العهد وكان مما قاله له: جئتك بعزّ الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه، فقال له كعب:

بل والله جئتنى بذلّ الدهر، ويحك يا حيي إنك مشئوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل له في الذورة والغارب (يخادعه) حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن فيكون أسوتهم.

ولما أيد الله المؤمنين وكبت أعداءهم وردهم خائبين ورجعوا إلى المدينة ووضع الناس السلاح - أوحى إلى رسول الله أن انهض إلى بنى قريظة من فورك، فأمر الناس بالسير إليهم، وكانوا على أميال من المدينة بعد صلاة الظهر وقال « لا يصلينّ أحد منكم العصر إلا في بنى قريظة » فسار الناس فأدركتهم الصلاة، فصلى بعض في الطريق، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بنى قريظة فلم يعنّف واحدا من الفريقين.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) أي وألقى الرعب في قلوبهم حين نازلهم رسول الله وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس لأنهم كانوا حلفاءهم، فأحضره رسول الله وقال له: إن هؤلاء نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت، فقال رضي الله عنه: وحكمى نافذ فيهم؟ فقال رسول الله « نعم » فقال إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول الله « لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله » ثم أمر رسول الله بالأخاديد فخدّت في الأرض وجيء بهم مكتوفى الأيدي فضربت أعناقهم وكانوا ما بين سبعمائة وثمانمائة وسبى من لم ينبت منهم مع النساء، وسبى أموالهم.

والخلاصة - إنه قذف الرعب في قلوبهم، حتى أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها) أي وأورثكم مزارعهم ونخيلهم، ومنازلهم وأموالهم التي ادّخروها، وما شبتهم من كل ثاغية وراغية، وأرضا لم تطئوها وهي الأرضون التي سيفتحها المسلمون حتى يوم القيامة، قاله عكرمة واختاره أبو حيان.

(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) أي وكان الله قديرا على أن يورّثكم ذلك، وعلى أن ينصركم عليهم، إذ لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 28 الى 30]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

تفسير المفردات

زينة الدنيا: زخرفها ونعيمها، فتعالين: أي أقبلن باختياركن واخترن أحد الأمرين، أمتعكن: أي أعطكن المتعة، وهي قميص وغطاء للرأس وملحفة - ملاءة - بحسب السعة والإقتار، وأسرحكن: أي أطلقكن، سراحا جميلا: أي طلافا من غير ضرار ولا مخاصمة ولا مشاجرة، بفاحشة: أي فعلة قبيحة كنشوز وسوء خلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله، مبينة: أي ظاهرة القبح من قولهم: بيّن كذا بمعنى ظهر وتبين، ضعفين: أي ضعفى عذاب غيرهن أي مثليه، يسيرا: أي هيّنا لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي، بل هذا سبب له.

المعنى الجملي

بعد أن نصر الله نبيه ، فردّ عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه رضي الله عنهن أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن يا رسول الله: بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول - الخدم والحشم - ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب ونحو ذلك فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في شأنهن.

روى أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: « أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله ، والناس ببابه جلوس، والنبي جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا، والنبي جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر لأكلمنّ النبي لعله يضحك، قال: يا رسول الله! لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها، فضحك النبي حتى بدت نواجذه وقال « هنّ حولى يسألننى النفقة » فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله فقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلى فيه حتى تستأمري أبويك، قالت وما هو؟ فتلا عليها: « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ » الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال « إن الله تعالى لم يبعثنى معنّفا ولكن بعثني معلّما ميسرا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها » رواه مسلم والنسائي.

ثم وعظهن بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وخصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن يستمسكن بها لما لهنّ من مركز ممتاز بين نساء المسلمين، لأنهن أمهات المؤمنين، وموضع التجلّة والكرامة، إلى أنهن في بيت صاحب الدعوة الإسلامية، ومنه انبعث نور الهدى والطهر والعفاف، فأجدر بهن أن يكنّ المثل العليا في ذلك، ويكنّ قدوة يأتسى بهن نساء المؤمنين جميعا، ويا لها منقبة أوتيت لهن دون سعى ولا إيجاف منهن، بل هي منحة أكرمهن الله بها، فله الحمد في الآخرة والأولى.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا) أي يا أيها الرسول قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن إحدى خلتين: أولاهما أن تكنّ ممن يحببن لذّات الدنيا ونعيمها والتمتع بزخرفها فليس لكنّ عندي مقام، إذ ليس عندي شيء منها، فأقبلن علي أعطكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق، تطييبا لخاطرهن وتعويضا لهن عما لحقهن من ضرر بالطلاق، وهي كسوة تختلف بحسب الغنى والفقر واليسار والإقتار كما قال تعالى: « وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ » ثم أسرحكن وأطلقن على ما أذن الله به وأدّب به عباده بقوله: « إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » وكان عند رسول الله يومئذ تسع نسوة: خمس من قريش: عائشة وحفصة وأمّ حبيبة وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن وأربع من غير القرشيات: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وصفيّة بنت حيي بن أخطب النضيرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.

وحين نزلت هذه الآية عرض عليهن رسول الله ذلك وبدأ بعائشة وكانت أحبّ أهله إليه فخيّرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ففرح رسول الله ثم تابعها بقية نسائه.

ثم ذكر ثانية الخلتين فقال:

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) أي وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله وثواب الدار الآخرة فأطعنهما فإن الله أعد للمحسنات منكن في أعمالهن القولية والفعلية ثوابا عظيما تستحقر الدنيا وزينتها دونه، كفاء إحسانهن.

والخلاصة - أنتنّ بين أحد أمرين: أن تقمن مع الرسول وترضين بما قسم لكن وتطعن الله، وأن يمتعكن ويفارقكن إن لم ترضين بذلك.

وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله - أتبع ذلك بعظتهن وتهديدهن إذا هن فعلن ما يسوء النبي وأوعدهن بمضاعفة العذاب فقال:

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي من يعص منكن الرسول ويطلب ما يشق عليه ويضق به ذرعا ويغتم لأجله - يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين، أي تعذب ضعفى عذاب غيرها، لأن قبح المعصية منهن أشد، ومن ثم كان ذم العقلاء للعالم العاصي أشد منه للجاهل العاصي، وكان ذلك سهلا يسيرا على الله الذي لا يحابى أحدا لأجل أحد، إذ كونهن نساء رسوله ليس بمغن عنهن شيئا، بل هو سبب لمضاعفة العذاب.

روي أن رجلا قال لزين العابدين رضي الله عنه: إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله في أزواج النبي من أن نكون كما قلت، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي بعدها.

وإلى هنا تم ما أردنا من تفسير هذا الجزء من كلام ربنا القديم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وكان الفراغ من مسودّته صبيحة يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية.

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

الصفحة المبحث

5 جدال المشركين بالغلظة، وجدال أهل الكتاب بالحسنى

5 في الحديث « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم

6 الحكمة في كون الرسول أميا.

6 لا يكذب بالقرآن إلا من يستر الحق بالباطل.

7 في الحديث « ما من نبي إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر ».

8 طلب المشركون من النبي أن يأتيهم

10 أمر الرسول أن يقول للمشركين كفى

12 استعجال المشركين لنزول العذاب.

12 بيان جهلهم في هذا الاستعجال.

13 الأمر بالهجرة عند خوف الفتنة في الدين.

15 الموت في كل حين ينشد الكفنا.

15 جزاء المؤمنين الصالحين الصابرين المتوكلين.

17 المشركون لا ينكرون أن الله خالق السموات والأرض.

17 سعة الرزق وضيقه بحسب السنن التي وضعت في الكون

19 الدنيا لعب ولهو، والحياة الحقة هي دار الآخرة.

21 كان المشركون إذا اشتدّ بهم الخوف دعوا الله، وإذا أمنوا

21 معرفة الله في فطرة كل إنسان.

22 الامتنان على قريش بسكنى حرم الله.

23 مثوى الكافرين جهنم وبئس القرار.

23 الذين اهتدوا يزيدهم الله هدى.

24 الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.

25 خلاصة ما تضمنته سورة العنكبوت.

26 الصلة بين سورتى العنكبوت والروم.

27 فرح المشركين بغلبة فارس للروم.

27 الخطر الذي قدّمه أبو بكر لمن ناحبه.

28 الحروف المقطعة في أوائل السور.

28 غلبة الروم لفارس كما وعد الله، وفرح المؤمنين بذلك.

29 الكافرون غافلون عن الآخرة.

30 الأدلة متظاهرة في الأنفس والآفاق على وحدانية الله.

32 يوم تقوم الساعة يتفرق الناس، ففريق في الجنة وفريق

34 ما يوصل إلى الجنة ويبعد عن النار.

36 صفات الإله المستحق للثناء والتقديس.

37 الأدلة على البعث والإعادة في خلق الإنسان.

39 الأدلة في الأكوان المشاهدة والعوالم المختلفة.

42 في الحديث « كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك » إلخ

43 ضرب الأمثال على الوحدانية

45 أمره بعدم المبالاة بأمر المشركين

46 العقل الإنساني كصحيفة بيضاء قابلة لكل نقش

47 في الحديث « اعبد الله كأنك تراه » إلخ.

47 اختلف أهل الأديان فرقا وشيعا.

51 أمره بالإنفاق على ذوي القربى

54 تهديد المشركين بالنظر إلى أن من كان قبلهم كانت عاقبتهم

58 الأدلة على وجود الخالق ووحدانيته.

60 البرهان على البعث والنشور.

64 من الأدلة على وجود الخالق تنقل الإنسان في أطوار مختلفة

66 يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.

67 يوم القيامة لا ينفع الظالمين معاذيرهم عما فعلوا

68 الرسول أدى واجبه ومن خالفه فهو معاند.

69 أمره بتلقى المكاره بصدر رحب وسعة

70 خلاصة ما احتوت عليه سورة الروم من الموضوعات

71 المناسبة بين سورتى الروم ولقمان.

72 القرآن هدى ورحمة للمحسنين.

73 ما كان يفعله النضر بن الحارث عند سماع القرآن.

74 آراء العلماء في سماع الغناء.

75 جواز استعمال الطبل والدفّ في إعلان النكاح.

77 الاستدلال على وحدانية الله.

78 حكمة لقمان.

79 عظة لقمان لابنه.

82 وصيته سبحانه بحسن معاملة الوالدين.

82 تأكيد الوصية بالأم خاصة.

83 حديث سعد بن أبي وقاص مع أمه.

84 وصية لقمان لابنه بإقامة الصلاة.

85 تحذيره لابنه من تصعير الخد مرحا.

86 الأمر بغضّ الصوت.

89 تقليد المشركين للآباء والأجداد.

90 حال المستسلم المفوض أمره إلى الله.

92 المشركون يقرون بأن خالق السموات والأرض هو الله.

94 عظمة الله لا يحيط بها أحد.

97 الدلائل الأرضية على وحدانية الله سبحانه.

98 الأمر بتقوى الله وخشيته خوفا من ذلك اليوم الذي لا ينفع.

99 التحذير من غرور الدنيا والشيطان.

100 خمس لا يعلمهن إلا الله.

101 مجمل سورة لقمان.

102 وجه اتصال السجدة بلقمان.

104 الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم.

105 ماذا يراد باليوم الذي هو كألف سنة؟.

105 أطوار خلق الإنسان.

106 استبعاد المشركين للبعث وأسباب ذلك.

108 حال المشركين حين معاينة العذاب.

110 علامات أهل الإيمان.

115 مآل المؤمن والكافر.

116 انتقام الله من المجرمين.

118 أدلة التوحيد.

120 استبعاد المشركين حصول النصر للنبي

122 مجمل ما اشتملت عليه سورة السجدة.

123 سورة الأحزاب.

124 أمر النبي بتقوى الله ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين.

125 أمر النبي بالتوكل عليه وتفويض الأمور إليه وحده.

126 لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه.

127 لا تجتمع الزوجية والأمومة في امرأة.

129 أبوة محمد للمؤمنين أشرف لهم من أبوّة

130 قال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلخ

131 كان التوارث في بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين

132 أخذ الميثاق على الرسل.

133 غزوة الأحزاب - وقعة الخندق.

137 سياسة رسول الله وحسن تدبيره في هذه الموقعة

140 الشدائد تمحص المؤمن وتظهر نفاق المنافق.

141 تحريض المنافقين للجند بالفرار من الموقعة.

142 لا ينفع حذر من قدر.

143 النفع والضر بيد الله.

144 ذكر معايب المنافقين.

145 وصف المنافقين.

146 حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب.

147 بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء.

148 كفى الله المؤمنين القتال.

149 ذكر ما حل باليهود بعد الموقعة.

150 اليهود أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر.

151 تخيير النبي لنسائه.

152 وعظ نساء النبي وتخصيصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن يستمسكن بها


هامش

  1. وجذيمة: هو جذيمة الأبرش، وكان ملكا في الحيرة، ونديماه مالك وعقيل، وبهما يضرب المثل في طول المنادمة، فقد نادماه أربعين سنة ما أعادا عليه حديثا كان قالاه من قبل.
  2. الرواء بالضم: المنظر الحسن، والنعم: الإبل، والأين: الإعياء. والخلق العمم: التام.
أجزاء تفسير المراغي
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون