تفسير المراغي/الجزء الثامن عشر
سورة المؤمنون
هي مكية وقد نزلت بعد سورة الأنبياء، وآيها ثماني عشرة ومائة.
روي أن بعض الصحابة قالوا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله؟ قالت: كان خلقه القرآن، ثم قرأت: « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حتى انتهت إلى - وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ » هكذا كان خلق رسول الله ﷺ.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها من وجوه:
(1) إنه تعالى ختم السورة السابقة بخطاب المؤمنين وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات لعلهم يفلحون - وحقق فلاحهم في بدء هذه السورة.
(2) إنه تكلم في كل من السورتين في النشأة الأولى وجعل ذلك دليلا على البعث والنشور.
(3) إن في كل من السورتين قصصا للأنبياء الماضين وأممهم ذكرت عبرة للحاضرين والآتين.
(4) إنه نصب في كل منهما أدلة على وجود الخالق ووحدانية.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 11]
بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
تفسير المفردات
الفلاح: الظفر بالمراد، وأفلح: دخل في الفلاح كأبشر دخل في البشارة، والمؤمن: هو المصدّق بما جاء عن ربه على لسان نبيه من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، والخاشع: هو الخاضع المتذلل مع خوف وسكون للجوارح، واللغو: هجر القول وقبيحه، والزكاة: تزكية النفس وطهارتها بفعل العبادة المالية. والفرج: سوءة الرجل والمرأة، وحفظه: التعفف عن الحرام، وابتغى: طلب، وراء ذلك: أي غير ذلك، والعادون: أي المتناهون في العدوان ومجاوزة الحدود الشرعية، والأمانات: واحدها أمانة، وهي ما ائتمن المرء عليه من قبل الله كالتكاليف الشرعية أو من قبل الناس كالأموال المودعة لديه والنذور والعقود ونحوها، والعهد: ما عقده الإنسان على نفسه مما يقربه إلى ربه، وما أمر به الله كما قال: « الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا » والرعي: الحفظ. والراعي: القائم على الشيء لحفظه وإصلاحه، يحافظون: أي يواظبون عليها، والفردوس: أعلى الجنة.
الإيضاح
حكم الله سبحانه بالفلاح لمن كان جامعا لخصال سبع من خصال الخير:
(1) الإيمان (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي فاز وسعد المصدّقون بالله ورسله واليوم الآخر.
(2) الخشوع في الصلاة (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي الذين هم مخبتون لله أذلاء منقادون له خائفون من عذابه.
روى الحاكم أن النبي ﷺ كان يصلى رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده أي موضع سجوده، والخشوع واجب على المرء في الصلاة لوجوه:
(1) للتدبر فيما يقرأ كما قال: « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها » والتدبر لا يكون بدون الوقوف على المعنى كما قال: « وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا » أي لتقف على عجائب أسراره وبديع حكمه وأحكامه.
(ب) لتذكر الله والخوف من وعيده كما قال: « أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ».
(ج) إن المصلى يناجى ربه، والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتة، ومن ثم قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وجمهور العلماء على أن الخشوع ليس شرطا للخروج من عهدة التكليف وأداء الواجب، وإنما هو شرط لحصول الثواب عند الله وبلوغ رضوانه.
(3) الإعراض عن اللغو (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) أي والذين يعرضون عن كل ما لا يعنيهم، وعن كل كلام ساقط حقّه أن يلغى كالكذب والهزل والسب، إذ لهؤلاء من الجدّ ما يشغلهم، فهم في صلاتهم معرضون عن كل شى إلا عن خالقهم، وفى خارجها معرضون عن كل ما لا فائدة فيه، فهم متجهون للجد وصالح العمل، فهم قد استفادوا من خشوع الصلاة درسا انتفعوا منه بعدها، وتخلقوا بأخلاق للنبيين والصديقين.
(4) تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي والذين هم لأجل طهارة أنفسهم وتزكيتها يؤدون المفروض للفقير والمسكين كما قال: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها » وقال: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى » (5) حفظ الفرج (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي والذين يحفظون فروجهم في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسرّيهم (قربان الأمة بالملك) فإنهم حينئذ يكونون غير ملومين، والمراد بهذا الوصف مدحهم بنهاية العفة والإعراض عن الشهوات.
(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي فمن طلب غير أربع من الحرائر وما شاء من الإماء فأولئك هم المتناهون في العدوان والمتعدّون لحدود الله.
(6) رعاية الأمانة والعهد (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي والذين إذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدون الأمانة لأهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بما عاهدوا عليه، إذ الخيانة وخلف العهد من صفات المنافقين كما جاء في الحديث: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذ ائتمن خان »
وقصارى ذلك - إنهم يؤدون ما ائتمنوا وعوهدوا عليه من الرب أو العبد كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والعقود التي عاقدوا الناس عليها.
(7) المحافظة على الصلوات (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يواظبون عليها على أكمل وجه في الأوقات التي رسمها الدين، روى عن ابن مسعود أنه قال: « سألت رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله » رواه الشيخان.
وقد افتتح سبحانه هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة، دلالة على عظيم فضلها، وكبير مناقبها.
وقد ورد في الحديث: « اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ».
ولما كان الجزاء في الآخرة نتيجة للعمل في الدنيا، وما فيها من نعيم حصّاد لما زرع فيها، رتب على ذلك قوله:
(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك المؤمنون الذين تحلّوا بتلك الخلال السامية جديرون بأن يتبوءوا أرفع مراتب الجنات، كفاء ما زينوا به أنفسهم من الأخلاق الفاضلة، والآداب العالية، ويبقون خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون.
وقصارى ما سلف - إن فلاح المؤمن موقوف على اتصافه بتلك الصفات السامية العالية القدر، العظيمة الأثر في حياته الروحية، وكمالاته النفسية.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: « كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فأنزل عليه يوما، فمكث ساعة ثم سرّى عنه، فاستقبل القبلة فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ: قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر ».
[سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
تفسير المفردات
السلالة: ما سلّ من الشيء واستخرج منه، وتارة تكون مقصودة كخلاصات الأشياء كالزّبد من اللبن، وتارة تكون غير مقصودة كقلامة الظفر وكناسة البيت، وقرار: أي مستقر، مكين: أي متمكن، والعلقة: الدم الجامد، والمضغة: قطعة اللحم قدر ما يمضغ، تبارك الله: أي تعالى وتقدس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال السعداء المفلحين - قفّى على ذلك بذكر مبدئهم ومآل أمرهم وأمر غيرهم من بنى الإنسان، وفى هذا إعظام للمنة، وحث على الاتصاف بحميد الصفات، وتحمل مئونة التكاليف، ثم ذكر أن كل ذلك منته إلى غاية هي يوم القيامة الذي تبعثون وتحاسبون فيه على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي ولقد خلقنا أصل هذا النوع وأول أفراده، وهو آدم عليه السلام من صفوة طين لا كدر فيه.
ويرى جماعة من المفسرين: أن المراد بالإنسان هنا ولد آدم وهم يقولون: إن النطف تتوالد من الدم الحادث من الأغذية وهي إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانية تنتهى إلى نباتية، والنبات يتوالد من صفو الأرض والماء، فالإنسان على الحقيقة متوالد من سلالة من طين، ثم تواردت على تلك السلائل أطوار الخلقة إلى أن صارت نطفا (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي ثم جعلنا نسله نطفا في أصلاب الآباء، ثم قذفت إلى الأرحام، فصارت في حرز حصين من وقت الحمل إلى حين الولادة.
ونحو الآية قول: « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ».
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم خولنا النطفة من صفتها الثانية إلى صفة العلقة وهي الدم الجامد.
(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي ثم جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم بمقدار ما يمضغ.
(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا) أي فصيرناها كذلك، وميزنا بين أجزائها، فما كان منها من العناصر الداخلة في تكوين العظام جعلناه عظاما، وما كان من مواد اللحم جعلناه لحما، والمواد الغذائية شاملة لذلك ومنبثة في الدم، ومن ثم قال:
(فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا) أي فجعلنا اللحم كسوة لها، من قبل أنه يستر العظام، فأشبه بالكسوة الساترة للجسم.
(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ) مباينا للخلق الأول، إذ نفخنا فيه الروح وجعلناه حيوانا بعد ما كان أشبه بالجماد، ناطقا سميعا بصيرا، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها وباطنها ما لا يحصى.
وقد قال العلماء: إن جميع أعضاء الإنسان مقسمة تقسيما دقيقا على نسب معينة مقيسة بشبره، فطوله ثمانية أشبار بشبره، وإذا مدّ يديه إلى أعلى كان عشرة أشبار بقياسه، وإذا مد يديه إلى الجانبين كان طولهما كطوله على السواء، ومن ثمّ جعل المصريون أصل المقاييس الشبر، وجعلوا كل ضلع من أضلاع الهرم الأكبر بالجيزة ألف شبر بشبر الإنسان.
(فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي فتنزه ربنا جلت قدرته، وهو أحسن المقدّرين المصورين.
عن أنس قال: قال عمر « وافقت ربى في أربع، قلت يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله « وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى » وقلت يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابا، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر فأنزل الله « إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ » وقلت لأزواج النبي ﷺ لتنتهنّ أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن فنزلت « عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ » الآية ونزلت « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ - إلى قوله - ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ، فقلت: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ » فقال رسول الله ﷺ: هكذا أنزلت يا عمر أخرجه الطيالسي.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي ثم إنكم بعد النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) من قبوركم للحساب ثم المجازاة بالثواب والعقاب.
إذ يوفى كل عامل جزاء عمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وخلاصة ما تقدم - إنه تعالى بعد أن ذكر أنه كلف عباده بما كلف - بين أن هذه التكاليف شكر من الإنسان لربه الذي أنشأه النشأة الأولى وقلّبه في أطوار مختلفة حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله، فأصبح قادرا على تكليفه بتلك التكاليف، ولا بد له من طور يستحق فيه الجزاء على ما كلّف به، وهو طور البعث بعد الموت يوم القيامة.
ويقول الدكتور أحمد محمد كمال في مجلة الدكتور، إن كلمة (تراب) أو (طين) الواردة في القرآن وردت بمعناها المجازي، فالإنسان بل جميع الكائنات الحية تتركب كيميائيا من عناصر أولية جمعها الخالق سبحانه وتعالى وركبها في شكل مادة كيميائية معقدة هي البروتوبلازم أي المادة الحيوية التي تتركب منها الخلايا والأنسجة الحيوانية والنباتية، وهذه المادة الحيوية تتركب من عناصر الأكسجين والأيدروجين والكربون والأزوت والكبريت والفسفور والكالسيوم والصديوم والكلور والحديد والنحاس واليود إلخ.
فإذا نظرنا إلى التراب وقمنا بتحليل عينات منه وجدنا أنه يحتوى على نفس العناصر لأولية المذكورة.
وليس أدل على أن التعبير مجازى من أن جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات عند ما يتحلل بعد الوفاة يتحول إلى رماد أو تراب بنفس العناصر.
ويقول الدكتور سالم محمد في هذه المجلة إن الخلق في قوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ويكون إشارة إلى خلق آدم نفسه وقد يكون بمعنى أن النطفة في كل من الذكر والأنثى ليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان أو الجسم، وأصل هذه التغذية ومنشؤها من تراب، والنطفة هي الحيوان المنوي للذكر والبويضة للأنثى، فإذا تم التلقيح بدأت البويضة في الانقسام بدأ تطور العلقة وهي مجموعة من الخلايا الحية تنقسم إليها بويضة بعد تلقيحها. وإنما سميت في هذا الطور علقة للشبه الكبير بينها وبين علق الماء وطور العلقة في حياة الجنين يبلغ أربعة أسابيع، ثم تتطور العلقة إلى مضغة للشبه الكبير بينها وبين قطعة اللحم الممضوغة ويبلغ طور المضغة بضعة أسابيع، ثم يبدأ ظهور خلايا العظام، فاللحم أي العضلات التي تكسو هذه العظام.
وقوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ) أي انه من هذه الخلايا ومن هذه الأطوار المتعددة يخرج الله لنا هذه الصورة الإنسانية الجميلة التي تشهد بقدرة الخالق وعظمته.
وقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) فالقرار المكين هو الرحم، ومن يدرس تشريح الرحم وموضعه المكين الأمين في أسفل بطن المرأة ويرى ذلك الوعاء ذا الجدار المريض السميك ثم ترى هذه الأربطة العريضة والأربطة المستديرة، وهذه الأجزاء من البريتون التي تشده إلى المثانة والمستقيم، وكلها تحفظ توازن الرحم وتشد أزره، وتحميه من الميل أو السقوط، وتطول معه إذا ارتفع عند تقدم الحمل، وتقصر إلى طولها الطبيعي تدريجا بعد الولادة. وكذلك من يدرس تكوبن الحوض عظامه يعرف جليا صدق قوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وكذلك في الرحم سائل أمينوس داخل جيب المياه يعوم فيه الجنين بحرية ويدفع عن الجنين ما قد تلاقيه الأم من صدمات وهزات عنيفة قد تصل إليه فتؤذيه إن لم يهدىء هذا السائل من قوتها ويضعف من شدتها. ثم هو يحتفظ للجنين بحرارة مناسبة حيث أنه موصل ردىء للحرارة، وكذلك هو يقوم بعملية تحديد عنق الرحم وتوسيعه وقت الولادة (القرن) كما يقوم بعملية التطهير أمام الجنين بما فيه من خواص مطهرة، فكل ذلك يزيد الرحم مكنة وأمنا.
وهكذا يبدو أن مصير هذا الكتاب العجيب الخالد لا يفنى، وأن معين العلم والإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض، وأن الدنيا ستظل تكشف فيه آفاقا بعد آفاق كلما تقدم العلم فتلقى ما بهذا الكتاب الكريم من إيحاءات وإشراقات (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).
[سورة المؤمنون (23): آية 17]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)
تفسير المفردات
الطرائق: السموات واحدها طريقة أي مطروق بعضها فوق بعض من قولهم طارق بين ثوبين: إذا لبس ثوبا فوق ثوب، قال الخليل والزجاج: وهذا كقوله « أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا » وقوله: « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا » والخلق: أي المخلوقات التي منها السموات السبع، غافلين: أي مهملين أمرها كما قال: « يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ».
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان في أطواره المختلفة، واستدل بذلك على قدرته وتفرده بالتصرف في الملك والملكوت - أردفه بيان ما يحتاج إليه في بقائه لما فيه من المنافع التي لا غنى له عنها
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي ولقد خلقنا فوقكم سبع سموات بعضها فوق بعض وهي أيضا طرق الكواكب المعروفة عند البشر قديما، وهناك طرائق أخرى عرفها الناس حديثا.
(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي وما كنا عن المخلوقات - سواء كانت هذه الطرائق أو غيرها - غافلين عن أمرها، إذ تسير الكواكب في تلك الطرائق بحساب منتظم، ولو أهملناها لاختل توازنها وسار كل كوكب في غير مداره أو زلّ نجم عن سنن سيره، ففسد النظام العام للعالم العلوي والعالم الأرضي.
والخلاصة - إنا خلقنا السموات لمنافعهم، ولسنا غافلين عن مصالحهم، بل نفيض عليهم ما تقتضيه الحكمة، فخلقها دال على كمال قدرتنا، وتدبير أمرها دال على كمال علمنا.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 18 الى 20]
وأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
تفسير المفردات
السماء: هنا السحاب، بقدر: أي بتقدير خاص وهو مقدار كفايتهم، فأسكناه في الأرض: أي جعلناه ثابتا قارا فيها، والذهاب: الإزالة إما بإخراجه من المائية أو بتغويره في الأرض بحيث لا يمكن استخراجه، والشجرة: هي الزيتون، وطور سيناء: هو جبل الطور الذي ناجى فيه موسى ربه، ويسمى طور سينين أيضا، والصبغ: ما يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام، قال في المغرب: يقال صبغ الثوب بصبغ حسن، وصباغ حسن، ومنه الصّبغ والصباغ من الإدام، لأن الخبز يغمس فيه ويلوّن به كالخل والزيت.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن من دلائل قدرته خلق الطرائق السبع - قفى على ذلك ببيان ما فيها من منافع للإنسان، فمنها ينزل الماء الذي به تنشأ الجنات من النخيل والأعناب وكثير من أشجار الفاكهة التي تؤكل، وينبت به شجر الزيتون الذي يؤخذ من ثمره الزيت الذي يتّخذ دهنا للأجسام، وإداما في الطعام.
الإيضاح
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي وأنزلنا من السحاب مطرا بقدر الحاجة، لا هو بالكثير فيفسد الأرض، ولا هو بالقليل فلا يكفى الزرع والثمار، حتى إن الأرضين التي تحتاج إلى ماء كثير لزرعها ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها يساق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر، ويقال لمثلها (الأرض الجرز) فيساق إليها ماء النيل حاملا معه الطين الأحمر (الغرين) يجترفه من بلاد الحبشة في زمن الأمطار فيستقر فيها ويكون سمادا لها ونافعا لزرعها.
وبعض هذا الماء يسكن في الأرض فيتغذى به ما فيها من الحب والنوى، ومنه تتكون الآبار والعيون التي تمر على معادن مختلفة، فتتشكل بأشكالها وتتصف بصفاتها فيكون ماؤها حاويا إما للنوشادر وإما للكبريت وإما للأملاح وهكذا.
(وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي وإنا على ذهابه وإزالته لقادرون بحيث يتعذر استخراجه، كما كنا قادرين على إنزاله، ولو شئنا ألا يمطر السحاب لفعلنا، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى جهات أخرى لا تستفيد منه كالأرضين السبخة والصحارى، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل في الأرض يغور فيها إلى مدى بعيد لا تصلون إليه ولا تنتفعون به، ولكن بلطفنا ورحمتنا ننزل عليكم الماء العذب الفرات، ونسكنه في الأرض ونسلكه ينابيع فيها، لتسقوا به الزرع والثمار، وتشربوا منه أنتم ودوابكم وأنعامكم.
(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء بساتين فيها نخيل وأعناب.
(لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي لكم في الجنات فواكه كثيرة تتمتعون بها زيادة على ثمرات النخيل والأعناب.
(وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي ومن زروع الجنات وثمارها ترزقون وتحصّلون معايشكم، كما يقال فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن تجارة يتربح بها أي إنها طعمته وجهته التي منها يحصّل رزقه.
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت في هذا الجبل بتلك البقعة المباركة، وتثمر زيتونا تصنع منه الزيوت التي يدّهن بها، وتتخذ إداما للآكلين.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 21 الى 22]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
المعنى الجملي
بعد أن ذكرنا سبحانه بنعمة إنزال الماء من السماء الذي ينبت به جنات النخيل والأعناب والفواكه المختلفة والزيتون - أردفها ذكر النعم المختلفة التي سخّرها لنا من خلق الحيوان.
الإيضاح
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي إن في خلق الأنعام لعبرة فضلا عن كونها نعمة، ووجه العبرة فيها أن الدم المتوالد من الأغذية يتحول في الغدد التي في الضّرع إلى شراب طيب لذيذ الطعم صالح للتغذية، وهذا من أظهر الدلائل على قدرة الخالق لها.
ثم فصّل منافعها وذكر منها أريعا فقال:
(1) (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) فتنتفعون بألبانها على ضروب شتى، فتتخذون منها الققشدة والسمن والجبن ونحوها.
(2) (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) فتأخذون أصوافها وأشعارها وأوبارها، وتتخذونها ملابس وفرشا للدفء وبيوتا في الصحارى ونحوها مما يجرى هذا المجرى.
(3) (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي وتأكلون منها بعد ذبحها، فكما انتفعتم بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.
(4)َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أيوتركبون ظهورها وتحمّلونها الأحمال الثقيلة إلى البلاد النائية كما قال في آية أخرى: « وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ » وقال: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟ ».
وقصارى ذلك - إن في خلق الأنعام عبرا ونعما من وجوه شتى، ففيه دلائل على قدرة الخالق بخلق الألبان من مصادر هي أبعد ما تكون منها - ونعما لنا في مرافقها وأعيانها، فننتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونجعلها مطايا لنا في أسفارنا إلى نحو أولئك من شتى المنافع.
قصة نوح عليه السلام
[سورة المؤمنون (23): الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
تفسير المفردات
الملأ: أشراف القوم، يتفضل: أي يدعى الفضل والسيادة، جنة: أي جنون، فتربصوا: أي انتظروا، بأعيننا: أي بحفظنا ورعايتنا، وفار: نبع، والتنور: وجه الأرض، استويت: أي علوت، لآيات: أي عبرا، لمبتلين: أي لمختبرين ممتحنين لهم: أي لمعامليهم معاملة من يختبر.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه ما أنعم به على عباده في نشأتهم الأولى وفى خلق الماء لهم لينتفعوا به، وفى خلق الحيوان كذلك - ذكر هنا أن كثيرا من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار في هذا، فكفروا بهذه النعم، وجهلوا قدر المنعم بها، وعبدوا غيره، وكذبوا رسله الذين أرسلوا إليهم، فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وأهلكهم بعذاب من عنده، فأصبحوا كأمس الدابر، والمثل السائر، وفى هذا تخويف لقريش، وإنذار لهم على ما يفعلون، وأنه سيحل بهم ما داموا على تكذيب رسولهم والكفر به مثل ما حل بمن قبلهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه منذرا لهم عذاب الله وشديد بأسه وانتقامه على إشراكهم به وتكذيب رسوله، فقال لهم متعطفا عليهم مستميلا لهم لقبول الحق: يا قوم اعبدوا الله وحده وأطيعوه، ولا تشركوا معه ربا سواه، فإنه لا رب لكم غيره، ولا معبود سواه.
(أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي أفلا تخشون عقابه فتحذروا أن تعبدوا معه سواه؟.
(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم من العريقين في الكفر ومن ذوي الكلمة المسموعة والرأي المطاع: ما نوح إلا رجل منكم ليس له ميزة عليكم في فضل ولا خلق فيكون أهلا للنبوة وتلقى الوحي من ربه وما هو إلا رجل يريد أن يسودكم ويكون له الصّولة والسلطان عليكم، وقد ادعى الرسالة ليصل إلى ما تصبو إليه نفسه وليس له من حقيقتها شيء.
وبعد أن بينوا أن لا مقتضى لاختصاصه بالنبوة ذكروا الموانع التي تحول بينه وبينهما فذكروا أمورا ثلاثة:
(1) (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي ولو شاء الله ألا نعبد سواه لأرسل بالدعاء إلى ما يدعوكم إليه نوح ملائكة تؤدى إليكم رسالته.
(2) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي ما سمعنا في القرون الغابرة عهود الآباء والأجداد بمثل هذا الذي يدعو إليه نوح من أنه لا إله إلا إله واحد لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
وفي هذا إيماء إلى أنهم قوم لا رأى لهم، وإنما يعولون على التقليد وقول الآباء والأجداد، فلما لم يجدوا عن آبائهم شيئا مثل هذا أنكروا نبوّته، وفيه إشارة أيضا إلى أنهم قد بلغوا الغاية في العناد والتكذيب والانهماك في الغي والضلال.
(3) (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي وما نوح إلا رجل به خبل في عقله، فمزاعمه لا تصدر إلا من رجل لا يزن قوله، ولا يدعم رأيه بحجة ناصعة، فلا يلتفت إذا إلى ما يدّعى، ولا ينبغي أن نضيع الوقت في محاجّته، ودحض مزاعمه في صدق دعوته.
وبعد أن ذكروا موانع نبوّته ذكروا الطريقة المثلى في إبطال دعوته فقالوا:
(فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي فتلبثوا وانتظروا، لعله يضيق مما هو فيه فيعود سيرته الأولى، ويرجع من تلقاء نفسه إلى دينكم ودين آبائكم وأجدادكم.
وهذا من مكابراتهم لفرط عنادهم، إذ هم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا، وأرزنهم قولا.
ولم يردّ سبحانه على هذه الشبه لسخافتها ووضوح فسادها، إذ كل عاقل يعلم أن الرسول يتميز من غيره بالمعجزات التي تأتى على يديه سواء أكان ملكا أم بشرا.
وإرادته التفضل عليهم إن كانت لأجل أن يستبين فضله حتى ينقادوا له فلا ضير في ذلك بل هو واجب، وإن أرادوا أنه يبغى التجبر عليهم فالأنبياء منزهون عن ذلك، وقولهم: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، اعتناق للتقليد وهو لا يصلح حجة تدفع بها حجج المعارضين الواضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، وقولهم: به جنة كذب صراح، لأنهم يعلمون ذكنه، وعظيم فطنته، وما أوتيه من أصالة الرأي، وثاقب الفكر.
ولما استبان لنوح إصرارهم على ضلالهم وتماديهم في غيّهم ويأسه من إيمانهم وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن - طلب إلى ربه أن ينصره عليهم:
(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال رب انصرني بإنجاز ما أوعدتهم به من العذاب بقولي « إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ».
ونحو الآية قوله: « فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ » وقوله: « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا ».
وقد أجاب الله دعاءه فقال:
(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي فقلنا حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا لك، من التعدي عليك، وتعليمنا إياك كيفية صنعها.
(فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي فإذا جاء قضاؤنا من قومك بعذابهم وهلاكهم، ونبع الماء من وجه الأرض - فأدخل فيها من كل طائفة من الحيوان فردين مزدوجين كناقة وجمل، وحصان ورمكة، وأدخل ولدك ونساءهم إلا من سبق عليه القول منا بأنه هالك فيمن يهلك، فلا تحمله معك وهو كنعان وأمه.
(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تسألني أن أنجّى الذين كفروا بالله من الغرق. فإن كلمتي قد حقت عليهم أجمعين.
ثم أمره بحمده والثناء عليه إذا هو استوى على الفلك فقال:
(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فإذا اطمأننت في السفينة أنت ومن معك ممن حملته من أهلك، فقل الحمد لله الذي نجانا من هؤلاء المشركين الظلمة.
وفي هذا إيماء إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوّا إلا إذا اشتملت على دفع ضرره أو تطهير الأرض من دنس شركه وإضلاله.
قال ابن عباس: كان في السفينة ثمانون إنسانا نوح وامرأته غير التي غرقت وثلاثة بنين سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم واثنان وسبعون إنسانا، وكل الخلائق من نسل من كان في السفينة.
ثم أمر نوح أن يدعو ربه حين خروجه من السفينة.
(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي وقل إذا سلمت وخرجت من السفينة: رب أنزلنى من الأرض منزلا مباركا وأنت خير من أنزل عباده المنازل.
قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا حين ركوب السفينة: « بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها » وحين ركوب الدابة: « سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ » وحين النزول: « وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ » (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي إن فيما فعلنا بقوم نوح من إهلاكهم إذ كذبوا رسولنا وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الآلهة والأصنام - لعبرا لقومك من مشركي قريش، وحججا لنا عليهم يستدلون بها على سنننا في أمثالهم فينزجرون عن كفرهم، ويرتدون عن تكذيبهم حذر أن يصيبهم مثل الذي أصاب من قبلهم من العذاب، وقد كنا مختبريهم بالتذكير بهذه الآيات لننظر ماذا يفعلون قبل أن ننزل بهم عقوبتنا.
ونحو الآية قوله: « وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ » وقد تقدم هذا القصص بتفصيل في سورة هود عليه السلام.
قصة هود عليه السلام
[سورة المؤمنون (23): الآيات 31 الى 41]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرابًا وَعِظامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
تفسير المفردات
القرن: الأمة، والمراد بهم عاد قوم هود لقوله تعالى في سورة الأعراف: « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ » أترفناهم: أي وسّعنا عليهم وجعلناهم في ترف ونعيم، لخاسرون: أي لمغبونون في آرائكم، إذ أنكم أذللتم أنفسكم لعبادة من هو دونكم، هيهات: أي بعد، ما توعدون: هو البعث والحساب، بمؤمنين: أي بمصدقين، عما قليل: أي بعد زمان قليل، ليصبحنّ: أي ليصيرنّ، والصيحة: العذاب الشديد كما قال:
صاح الزمان بآل برمك صيحة خرّوا لشدتها على الأذقان
والغثاء: ما يحمله السيل من الورق والعيدان البالية التي لا ينتفع بها، بعدا: أي هلاكا.
الإيضاح
(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي ثم أوجدنا من بعد مهلك قوم نوح قوما آخرين وهم عاد، فأرسلنا فيهم رسولا منهم، وهو هود عليه السلام داعيا لهم قائلا: يا قوم اعبدوا الله وأطيعوه دون الأوثان والأصنام، فإن العبادة لا تنبغى إلا له، ولا تصلح لسواه، أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره من وثن أو صنم؟
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي وقال أشراف قومه الذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بالبعث والحساب، وقد وسعنا عليهم في الحياة الدنيا بما بسطنا لهم من الرزق حتى بطروا وعتوا وكفروا بربهم: ما هود إلا بشر مثلكم لا ميزة له عنكم، فهو يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، ومرادهم بذلك توهين أمره، وتحقير شأنه.
(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ) أي ولئن أطعتم بشرا مثلكم فاتبعتموه وقبلتم ما يقول: إنكم إذا لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة في الدنيا.
ثم بينوا سبب إنكارهم لاتباعه، واستبعادهم وقوع ما يدعيه بقولهم:
(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرابًا وَعِظامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا في القبور بعد أن تذهب لحومكم وتبقى عظامكم.
(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي بعد ما توعدون أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابا وعظاما تخرجون من قبوركم للبعث والحساب ثم الجزاء على ما تعملون.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم:
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي ما حياة إلا هذه حياة في الدنيا، تموت الأحياء منا فلا تحيا، ويحدث آخرون منا ويولدون، وما نحن مبعوثين بعد الموت، إنما مثلنا مثل الزرع يحصد هذا وينبت ذاك والخلاصة - إنه يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم.
وبعد أن كان أمرهم معه مقصورا على الاستبعاد فحسب، جاهروا بتكذيبه فيما يدعى فقالوا:
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي ما هود إلا رجل يختلق الكذب على الله، فتارة يقول: مالكم من إله غير الله خالق السموات والأرض وأخرى يقول: إنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون، وما نحن بمصدقيه فيما يدّعى ويزعم من التوحيد والبعث.
ولما يئس هود من إيمانهم بعد ذكر هذه المقالة « وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ » فزع إلى ربه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال بعد أن يئس من إيمانهم وقد سلك في دعوتهم كل مسلك، متضرعا إلى ربه: رب انصرني عليهم وانتقم لي منهم بتكذيبهم إياي فيما دعوتهم إليه من الحق وإصرارهم على الباطل.
فأجابه ربه إلى ما سأل.
(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي قال تعالى مجيبا دعاءه: ليصيرنّ مكذبوك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، وستحل بهم نقمتنا، ولا ينفعهم الندم حينئذ.
ثم أخبر أنه أنجز وعيده فيهم فقال:
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي فسلطنا عليهم نقمتنا فأخذهم العذاب الذي لا قبل لهم به، وقد كانوا لمثله مستحقين، بسبب كفرهم وتكذيبهم برسوله، فجعلناهم كغثاء السيل، لاغناء فيهم، ولا فائدة ترجى منهم.
(فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فأبعد الله القوم الكافرين بهلاكهم، إذ كفروا بربهم وعصوا رسوله وظلموا أنفسهم.
وفي هذا من الذلة والمهانة لهم والاستخفاف بأمرهم ما لا يخفى، وأن الذي ينزل بهم في الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم من العقاب في الدنيا، وفيه عظيم العبرة لمن بعدهم ممن هم عرضة لمثله.
قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم
[سورة المؤمنون (23): الآيات 42 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
تفسير المفردات
تترى، من المواترة: وهي التتابع بين الأشياء مع فترة ومهلة بينها قاله الأصمعي. أحاديث: واحدها أحدوثة، وهي ما يتحدث به تعجبا منه وتلهيا به، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع، وقال الزمخشري: الأحاديث اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله ﷺ ولكن الجمهور على أنه جمع كما علمت.
الإيضاح
(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ) أي ثم أنشأنا من بعد هلاك عاد أقواما آخرين، كقوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.
(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي ما تتقدم أمة من تلك الأمم المهلكة الوقت الذي قدّر لهلاكهم وما يستأخرون عنه.
والخلاصة - ما تهلك أمة قبل مجىء أجلها ولا بعده، فلكل شيء ميقات لا يعدوه.
(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين، وقد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به، بعضهم في إثر بعض.
(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) أي كلما بلّغهم الرسول ما جاء به من عند ربه من الشرائع والأحكام كذبوه، كما فعل قومك بك حين أمرتهم بذلك.
(فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضًا) أي فأهلكنا بعضهم في إثر بعض حين تألّبوا على رسلهم وكذبوهم.
(وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث بها للناس ويتلهّون بذكرها.
ونحو الآية قوله: « فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ».
ولما ترتب على تكذيبهم الهلاك المقتضى لبعدهم قال:
(فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي فأبعد الله قوما لا يؤمنون به ولا يصدقون برسوله قصة موسى وهرون عليهما السلام
[سورة المؤمنون (23): الآيات 45 الى 49]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
تفسير المفردات
الآيات: هي الآيات التسع التي سبقت في سورة الأعراف، والسلطان: الحجة عالين: أي متكبرين، عابدون: أي خدم منقادون، قال أبو عبيدة: العرب تسمى كل من دان للملك عابدا، وقال المبرد: العابد: المطيع الخاضع، الكتاب: هو التوراة.
الإيضاح
(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا عالِينَ) أي ثمّ أرسلنا بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم من قبل - موسى وأخاه هرون إلى فرعون وأشراف قومه من القبط، بالآيات والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، فاستكبروا عن اتباعهما والانقياد لما أمروا به ودعوا إليه، من الإيمان وترك تعذيب بني إسرائيل كما جاء في سورة النازعات: « اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى » وقد كان من دأبهم العتوّ والبغي على الناس وظلمهم كبرا وعلوا في الأرض.
ثم ذكر ما استتبعه هذا العتو والجبروت.
(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟) أي فقال فرعون وملؤه كيف ندين لموسى وأخيه، وبنو إسرائيل قومهما خدمنا وعبيدنا يخضعون لنا ويتلقّون أوامرنا؟
وما قصدوا بهذا إلا الزراية بهما والحط من قدرهما، وبيان أن مثلهما غير جدير بمنصب الرسالة، وقد قاسوا الشرف الديني والإمامة في تبليغ الوحي عن الله بالرياسة الدنيوية المبنية على نيل الجاه والمال.
وهم في هذا أشبه بقريش إذ قالوا: « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » وقد فاتهم أن مدار أمر النبوة والاصطفاء للرسالة إنما هو السبق في الفضائل النفسية والصفات السنية التي يتفضل الله بها على من يشاء من عباده، فالأنبياء لصفاء نفوسهم يتصلون بالعالم العلوي وعالم المادة، فيتلقون الوحي من الملأ الأعلى ويبلغونه إلى البشر، ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق، عن التبتل والانقطاع إلى حضرة الحق.
وإن تعجب من شيء فاعجب لهؤلاء وأمثالهم ممن لم يرض النبوة للبشر، كيف سوّغت لهم أنفسهم ادعاء الألوهية للحجر: « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ».
ثم ذكر عاقبة أعمالهم وما آل إليه أمرهم فقال:
(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي فأصر فرعون وملؤه على تكذيب موسى وهرون، فأهلكهم الله بالغرق في بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبهم لرسلهم.
ثم ذكر ما أولاه موسى بعد هلاكهم من التشريف والتكريم فقال:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفيها الأحكام من الأوامر والنواهي بعد أن أهلكنا فرعون وملأه وأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، رجاء أن يهتدى بها قومه إلى الحق، ويعملوا بما فيها من الشرائع.
قصص عيسى عليه السلام إجمالا
[سورة المؤمنون (23): آية 50]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
تفسير المفردات
الآية: الحجة والبرهان، وآويناهما: أي جعلنا مأواهما ومنزلهما الربوة: وهي ما ارتفع من الأرض دون الجبل، ذات قرار: أي ذات استقرار للناس لما فيها من الزرع والثمار، ومعين: أي ماء جار.
الإيضاح
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي وجعلنا عيسى آية للناس دالة على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا، إذ خلقناه من غير أب، وأنطقناه في المهد، وأجرينا على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وجعلنا أمه آية إذ حملته من غير أب.
وجعلهما آية واحدة، لأنهما اشتركا في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة وهو الولادة بلا أب.
ونحو الآية قوله: « وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ».
(وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) أي وجعلناهما ينزلان بمرتفع من الأرض ذي ثمار وماء جار كثير.
قال قتادة: الربوة: بيت المقدس، وقال مقاتل والضحاك: هي غوطة دمشق إذ هي ذات الثمار والماء.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
تفسير المفردات
الطيبات: ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه، أمتكم: أي ملتكم وشريعتكم، فتقطعوا: أي قطّعوا ومزّقوا، أمرهم: أي أمر دينهم، زبرا: أي قطعا واحدها زبور، فذرهم: أي فدعهم واتركهم، وأصل الغمرة الماء الذي يغمر القامة ويسترها والمراد بها الجهالة، حتى حين: أي إلى أن يموتوا فيستحقوا العذاب، نمدهم: أي نعطيه مددا لهم.
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه علينا قصص بعض الأنبياء السالفين - عقّب هذا ببيان أنه أوصاهم جميعا بأن يأكلوا من الحلال، ويعملوا صالح الأعمال، كفاء ما أنعم به عليهم من النعم العظيمة، والمزايا الجليلة التي لا يقدر قدرها، ثم حذرهم وأنذرهم بأنه عليم بكل أعمالهم، ظاهرها وباطنها، لا تخفى عليه من أمورهم خافية، ثم أرشدهم إلى أن الدين الحق واحد لا تعدد فيه، ولكن الأمم قد فرقت دينها شيعا، وكل أمة فرحة مسرورة بما تدين به كما هي حال قريش، ثم خاطب رسوله بأن يتركهم وما يعتقدون إلى حين، ثم ذكر أنهم في عماية حين ظنوا أن ما أوتوه من النعم هو حظوة من ربهم لهم - كلا، فهم لا يشعرون بحقيقة أمرهم وعاقبة حالهم، ولو عقلوا لعلموا أنهم في سكرتهم يعمهون.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا) أمر الله كل نبي في زمانه بأن يأكل من المال الحلال مالذّ وطاب، وأن يعمل صالح الأعمال، ليكون ذلك كفاء ما أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة.
وهذا الأمر وإن كان موجها إلى الأنبياء فإن أممهم تبع لهم، وكأنه يقول لنا:
أيها المسلمون في جميع الأقطار، كلوا من الطيبات أي من الحلال الصافي القوّام - الحلال ما لا يعصى الله فيه، والصافي ما لا ينسى الله فيه، والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل - واعملوا صالح الأعمال.
أخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد ابن أوس رضي الله عنها أنها بعثت إلى النبي ﷺ بقدح لبن حين فطره وهو صائم، فرد إليها رسولها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت من شاة لي، ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت اشتريتها بمالى فأخذه، فلما كان من الغد أمته وقالت يا رسول الله: لم رددت اللبن؟ فقال ﷺ: أمرت الرسل ألا يأكلوا إلا طيبا، ولا يعملوا إلا صالحا.
وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال ﷺ: « أيها الناس! إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: « يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحًا إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ » وقال « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ » ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّى بالحرام، يمدّ يديه إلى السماء، يا رب يا رب فإني يستجاب له »؟
وفي تقديم أكل الطيبات على العمل الصالح إيماء إلى أن العمل الصالح لا يتقبّل إلا إذا سبق بأكل المال الحلال.
وجاء في بعض الأخبار « إن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام »
وصح أيضا « أيّما لحم نبت من سحت فالنار أولى به ».
ثم علل هذا الأمر بقوله:
(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي إني بأعمالكم عليم، لا يخفى على شيء منها، وأنا مجازيكم بجميعها، وموفّيكم أجوركم، وثوابكم عليها، فخذوا في صالح الأعمال، واجتهدوا قدر طاقتكم فيها، شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم وفى هذا تحذير من مخالفتهم ما أمروا به، وإذا قيل للأنبياء ذلك فما أجدر أممهم أن تأخذ حذرها، وترعوى عن غيها، وتخشى بأس الله وشديد عقابه.
(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي وإن دينكم معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
واختلاف الشرائع والأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال لا يسمى اختلافا في الدين، لأن الأصول واحدة.
(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي وإني أنا ربكم لا شريك لي في الربوبية فاحذروا عقابي وخافوا عذابي.
وفي هذا إيماء إلى أن دين الجميع واحد فيما يتصل بمعرفة الله واتقاء معاصيه.
ثم بين أن أمم أولئك الرسل خالفوا أمر رسلهم واتبعوا أهواءهم وجعلوا دينهم فرقا وشيعا فقال:
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي فتفرق أتباع الأنبياء فرقا وجماعات، وأصبح كل فريق معجبا بنفسه، فرحا بما عنده، معتقدا أنه الحق الذي لا معدل عنه.
فيا أتباع الأنبياء. أين عقولكم؟ إن الله أرسل إليكم رسلا فجعلتموهم محل الشقاق ومثار النزاع، لم هذا؟ هل اختلاف الشرائع مع اتحاد الأصول والعقائد ينافى المودة والمحبة؟ وأين أنتم يا أتباع محمد؟ ما لكم كيف تفرقتم أحزابا؟ هل اختلاف المذاهب كشافعية ومالكية، وزيدية وشيعة يفرق العقيدة؟ وكيف يكون هذا سبب التفرقة فهل تغير الدين؟ وهل تغير القرآن؟ وهل تغيرت القبلة؟ وهل حدث إشراك؟ كلا كلا، فإذا كان العيب قد لحق الأمم المختلفة على تنابذها، فما أجدركم أن يلحقكم الذم على تنابذكم وأنتم أهل دين واحد.
ولا علة لهذا إلا لجهالة الجهلاء، فقد خيّم الجهل فوق ربوعكم ومدّت طنبه بين ظهرانيكم، لأنكم فرطتم في كتاب ربكم: ظننتم أن أسس الدين هي مسائل العبادات والأحكام، وتركتم الأخلاق وراءكم ظهريا، وتركتم آيات التوحيد والنظر في الأكوان ولو أنكم نظرتم إلى شيء من هذا لعلمتم أن كل ذلك من دينكم وأنتم عنه غافلون.
وبعد أن ذكر سبحانه ما حدث من أمم أولئك الأنبياء من التفرّق والانقسام فيما كان يجب عليهم فيه اتفاق الكلمة، ومن فرحهم بما فعلوا - أمر نبيه أن يتركهم في جهلهم الذي لا جهل فوقه، لأنه لا ينجع فيهم النصح، ولا يجدى فيهم الإرشاد فقال:
(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أي فذرهم في غيّهم وضلالهم إلى حين يرون العذاب رأي العين.
ونحو الآية قوله: « فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا » وقوله: « ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ».
وقد جعلوا في غمرة تشبيها لحالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء وغطّاه.
ثم بين خظأهم فيما يظنون من أن سعة الرزق في الدنيا علامة رضا الله عنهم في الآخرة فقال:
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد، كرامة لهم علينا وإجلالا لأقدارهم عندنا - كلا، إن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا في المعاصي، واستجرارا لهم إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات، إذ هم أشبه بالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في أنه - استدراج هو أم مسارعة في الخيرات؟
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » وقوله: « فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » وقوله: « إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا ».
قال قتادة في تفسير الآية: مكر الله بالقوم في أموالهم وأولادهم. يا ابن آدم لا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال ﷺ: « إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا وما بوائقه يا رسول الله؟ قال: غشّه وظلمه ».
[سورة المؤمنون (23): الآيات 57 الى 61]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
تفسير المفردات
الخشية: الخوف من العقاب، والإشفاق نهاية الخوف والمراد لازمه، وهو دوام الطاعة، والآيات: هي الآيات الكونية في الأنفس والآفاق والآيات المنزلة، وجلة: أي خائفة، سابقون: أي ظافرون بنيلها.
المعنى الجملي
بعد أن ذم سبحانه من فرقوا دينهم شيعا وفرحوا بما عملوا وظنوا أن ما نالوه من حظوظ الدنيا هو وسيلة لنيل الثواب في الآخرة، وبين أنهم واهمون فيما حسبوا - قفّى على ذلك بذكر صفات من له المسارعة في الخيرات، ومن هو جدير بها.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائبون في طاعته، جادّون في نيل مرضاته، فهم في نهاية الخوف من سخطه عاجلا، ومن عذابه آجلا، ومن ثم يبتعدون عن الآثام والمعاصي.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي والذين هم بآيات ربهم الكونية التي نصبها في الأنفس والآفاق دلالة على وجوده ووحدانيته، وبآياته المنزّلة على رسله - مصدّقون موقنون، لا يعتريهم شك ولا ريب.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي والذين لا يعبدون مع الله سواه، ويعلمون أنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له صاحبة ولا ولد.
وفيما سبق وصف لله بتوحيد الربوبية، وهنا وصف له بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول، لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية كما قال: « ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة، ومن ثم عبدوا الأصنام والأوثان على طرائق شتى، وعبدو معبودات مختلفة.
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي والذين يعطون ما أعطوا، ويتصدقون بما تصدقوا، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم، وألا يقع على الوجه المرضى حين يبعثون ويرجعون إلى ربهم، وتنكشف الحقائق، ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لديه وإن قل « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ».
ويدخل في قوله: (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) كل حق يلزم إيتاؤه، سواء أكان من حقوق الله كالزكاة والكفارة وغيرها أم من حقوق العباد كالودائع والديون والعدل بين الناس، فمتى فعلوا ذلك (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، من التقصير والإخلال بها بنقصان أو غيره) اجتهدوا في أن يوفّوها حقّها حين الأداء.
وسألت عائشة رسول الله ﷺ عن قوله: « (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى؟ فقال لا يا بنة الصديق، ولكن هو الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل ذلك منه.
(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي أولئك الذين جمعوا هذه المحاسن يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها لئلا تفوتهم إذا هم ماتوا، ويتعجلون في الدنيا وجوه الخيرات العاجلة التي وعدوا بها على الأعمال الصالحة في نحو قوله: « فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ » وقوله: « وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ » (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي إنهم يرغبون في الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب، لا أولئك الذين أمددناهم بالمال والبنين فظنوا غير الحق أن ذلك إكرام منّا لهم، فإن إعطاء المال والبنين والإمداد بهما لا يؤهل للمسارعة إلى الخيرات، وإنما الذي يؤهل للخيرات هو خشية الله وعدم الإشراك به وعدم الرياء في العمل والتصديق مع الخوف منه.
ومعنى (هم لها) أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، كقولك لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره - أنت لها - وعلى هذا قوله: مشكلات أعضلت ودهت يا رسول الله أنت لها
وخلاصة ذلك - إن النعم ليست هي السعادة الدنيوية ونيل الحظوظ فيها، بل هي العمل الطيب، بإيتاء الصدقات ونحوها مع إحاطة ذلك بالخوف والخشية.
[سورة المؤمنون (23): آية 62]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
تفسير المفردات
الوسع: ما يتسع على الإنسان فعله ولا يضيق عليه، والكتاب: هو صحائف الأعمال، بالحق: أي بالصدق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه صفات المؤمنين المخلصين الذين يسارعون إلى الخيرات - أرشد إلى أن ما كلّفوا به سهل يسير لا يخرج عن حد الوسع والطاقة، وأنه مهما قلّ فهو محفوظ عنده في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى، وهو لا يظلم أحدا من خلقه، بل يجزى بقدر العمل، وبما نطقت به الصحف على وجه الحق والعدل.
الإيضاح
(وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها) أي إن سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا إلا ما في وسعها وقدر طاقتها، ومن ثم قال مقاتل: من لم يستطع القيام في الصلاة فليصلّ قاعدا، ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.
(وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) أي وليدنا صحائف أعمالهم يقرءونها حين الحساب، وتظهر فيها أعمالهم التي عملوها في الدنيا دون لبس ولا ريب، ويجازون على الجليل منها والحقير، والقليل والكثير.
ونحو الآية قوله « هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » وقوله: « لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ».
ثم بين فضله على عباده وعدله بيننهم في الجزاء إثر بيان لطفه في التكليف وكتابة الأعمال على ما هي عليه فقال:
(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وهم لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب، بل يجازون مما عملوا ونطقت به كتبهم بالعدل والحق.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 63 الى 77]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
تفسير المفردات
الغمرة: الغفلة والجهالة، من دون ذلك: أي غير ذلك، والمترف: المتوسع في النعمة، وجأر الرجل: صلح ورفع صوته، لا تنصرون: أي لا يجيركم أحد ولا ينصركم، تنكصون: أي تعرضون عن سماعها، وأصل النكوص: الرجوع على الأعقاب (العقب مؤخر الرّجل) ورجوع الشخص على عقبه: رجوعه في طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه، سامرا: أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، والهجر (بالضم) الهذيان، والجنّة: الجنون، والذكر: القرآن الذي هو فخرهم، عن ذكرهم: أي فخرهم، خرجا: أي جعلا وأجرا، صراط مستقيم: أي طريق لا عوج فيه، لنا كبون: أي عادلون عن طريق الرشاد، يقال نكب عن الطريق: إذا زاغ عنه، لج في الأمر: تمادى فيه، يعمهون: أي يتحيرون ويترددون في الضلال، واستكانوا: خضعوا وذلوا، وما يتضرعون: أي يجددون التضرع والخضوع، مبلسون: أي متحيرون آيسون من كل خير.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه سجاحه هذا الدين، وأنه دين يسر لا عسر، فلا يكلفها النفس إلا ما تطيق، وأن ما يعمله المرء فهو محفوظ في كتاب لا يبخس منه شيئا ولا يزاد له فيه شيء - أردف هذا بيان أن المشركين في غفلة عن هذا الذي بيّن في القرآن، ولهم أعمال سوء أخرى من فنون الكفر والمعاصي، كطعنهم في القرآن واستهزائهم بالنبي ﷺ وإيذائهم للمؤمنين، فإذا حل بهم بأسنا يوم القيامة جأروا واستغاثوا، فقلنا لهم لا فائدة فيما تعملون، فقد جاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عنها واتخذتموها هزوا تسمرون بها في البيت الحرام، وقد كان من حقكم أن تتدبروا القرآن لتعلموا أنه الحق من ربكم، وأن مجىء الكتب إلى الرسل سنة قديمة، فكيف تنكرونها؟ وهل رابكم في رسولكم شيء حتى تمتنعوا من تصديقه وتقولوا إن به جنة وأنتم تعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا - لا - إن الأمر على غير ما تظنون، إنه قد جاءكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون، لما دسّيتم به أنفسكم من الزيغ والانصراف عن سبيل الحق، ولو أجابكم ربكم إلى ما في أنفسكم من الهوى وشرع الأمور وفق ذلك لفسدت السموات والأرض لفساد أهوائكم واختلافها، وأنتم لو تأملتم لعلمتم أن ما جاءكم به هو فخركم فكيف تعرضون عنه؟ وهل تظنون أنه يسألكم أجرا على هدايتكم وإرشادكم، فما عند الله خير مما عندكم وهو خير الرازقين.
فها هو ذا قد تبين الرشد من الغي، واستبان أن ما تدعوهم إليه هو الحق الذي لا محيص منه، وأن الذين لا يؤمنون به عادلون عن طريق الحق، وقد بلغوا حدا من التمرد والعناد لا يرجى معه صلاح، فلو أنهم ردّوا في الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.
ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم، ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه، بل استمروا في غيهم وضلالهم كما قال « فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ».
فإذا جاءتهم الساعة بغتة، وأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، أيسوا من كل خير، وانقطع رجاؤهم من كل راحة وسعادة.
الإيضاح
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أي بل قلوب المشركين في غفلة عن هدى القرآن والاسترشاد بما جاء به، مما فيه سعادة الناس في دينهم ودنياهم، فلو قرءوه وتدبروه لرأوا أنه كتاب ينطق بالصدق، وأنه يقضى بأن أعمال المرء مهما دقّت فهو محاسب عليها، وإن ربك لا يظلم أحدا من عباده.
ثم ذكر جنايات أخرى لهم فوق جنايتهم السابقة فقال:
(وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) أي إن لهم أعمالا أخرى أسوأ من ذلك، فقد أغرقوا في الشرك والمعاصي، واتخذوا هذا الكتاب هزوا، وجعلوه سمرهم في البيت الحرام يقولون فيه ما هو منه براء، يقولون إن هو إلا سحر مفترى، وما هو إلا أساطير الأولين، وما هو إلا كلام شاعر، ويتقوّلون على من أرسل به، فيزعمون أنه رجل به جنّة، وأنه قد تعلمه من غيره من أهل الكتاب، وانغمسوا في عبادة الأوثان والأصنام، ولقد تراهم إذا جاء البرهان الساطع أعرضوا عنه وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي حتى إذا حلّ بهم بأسنا يوم القيامة، وحاق بهم سوء العذاب، صاحوا صيحة منكرة وقالوا: وا غوثاه، ووا سوء منقلباه، لشدة ما يروه من الكرب والهول، ولا سيما مترفوهم الذي انقلب أمرهم من النعيم إلى العذاب الأليم، وندموا حين لا ينفع الندم:
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ثم أبان أن الصريخ والعويل لا يجديهم نفعا فقال:
(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي قلنا لهم: هيهات هيهات، قد فات ما فات، الآن لا يجديكم البكاء والعويل، فهذا وقت الجزاء على ما كسبت أيديكم وقد حقّت عليكم كلمة ربكم، ولا مغيث من أمره، ولا ناصر يحول بينكم وبين بأسه.
ولا يخفى ما في ذلك من التهويل الشديد لذلك اليوم وأنه لا تجدى فيه ضراعة ولا استغاثة، ولا ينفع فيه ولي ولا نصير.
ثم ذكر سببا آخر يبين أن البكاء والصراخ لا ينفع شيئا فقال:
(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي دعوا الصراخ فإنه لا يمنعكم منا، واتركوا النصير فإنه لا ينفعكم عندنا، فقد ركبتم شططا، وجاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عن سماعها، فضلا عن تصديقها والعمل بها، وكنتم كمن ينكص على عقبيه مولّيا القهقرى، نافرا مما يسمع ويرى.
ثم ذكر سببا ثالثا يدعو إلى التنكيل بهم والتشديد في عذابهم فقال:
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ) أي تعرضون عن الإيمان، مستعظمين بالبيت الحرام، تقولون نحن أهل حرمه وخدّام بيته، فلا يظهر علينا أحد، ولا نخاف أحدا، وتسمرون حوله وتتخذون القرآن سلواكم، والطعن فيه هجّيراكم، تهذون فتقولون:
هو سحر، هو شعر، هو كهانة إلى آخر ما يحلولكم أن تتقوّلوه.
والخلاصة - إنكم كنتم عن سماع آياتي معرضين، مستعظمين بأنكم خدام البيت وجيرانه، فلا تضلمون، وتهذون في أمر القرآن وتقولون فيه ما ليس فيه مسحة من الحق، ولا جانب من الصواب.
ثم أنّبهم على ما فعلوا وبيّن أن إقدامهم عليه لا بد أن يكون لأحد أسباب أربعة فقال:
(1) (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي إنهم لم يتدبروا القرآن فيعلموا ما خصّ به من فصاحة وبلاغة، وقد كان لديهم فسحة من الوقت، تمكنهم من التدبر فيه ومعرفة أنه الحق من ربهم، وأنه مبرأ من التناقض وسائر العيوب التي تعترى الكلام - إلى ما فيه من حجج دامغة، وبراهين ساطعة، إلى ما فيه من فضائل الآداب، وسامى الأخلاق، إلى ما فيه من تشريع إن هم اتبعوه كانوا سادة البشر، واتبعهم الأسود والأحمر، كما كان لمن اتبعه من السابقين الأولين من المؤمنين.
(2) (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي أم اعتقدوا أن مجىء الرسل أمر لم تسبق به السنن من قبلهم، فاستبعدوا وقوعه، لكنهم قد عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تترى وتظهر على أيديهم المعجزات، فهلّا كان ذلك داعيا لهم إلى التصديق بهذا الرسول الذي جاء بذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.
(3) (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أم أنهم لم يعرفوا رسولهم بأمانته وصدقه وجميل خصاله قبل أن يدّعى النبوّة؟ كلا، إنهم لقد عرفوه بكل فضيلة، وشهر لديهم باسم (الأمين) فكيف ينكرون رسالته، ولقد قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشى: إن الله بعث فينا رسولا نعرف نسبه، ونعرف صدقه وأمانته، وكذلك قال أبو سفيان لملك الروم حين سأله وأصحابه عن نسبه، وصدقه وأمانته، وقد كانوا بعد كفارا لم يسلموا.
(4) (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي أم إن به جنونا فلا يدرى ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأوفرهم رزانة.
وبعد أن عدد سبحانه هذه الوجوه، ونبّه إلى فسادها، بيّن وجه الحق في عدم إيمانهم فقال:
(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي إن ما جاءهم به هو الحق الذي لا محيص منه، فما هو إلا توحيد الله، وما شرعه لعباده مما فيه سعادة البشر، لكن أكثرهم جبلوا على الزيغ والانحراف عن الحق، لما ران على قلوبهم من ظلمات الشرك والإسراف في الآثام والمعاصي، ومن ثم فهم لا يفقهون الحق ولا تستسيغه نفوسهم فهم له كارهون.
وإنما نسب هذا الحكم للأكثر، لأن فيهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه أن يقولوا: ترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما أثر عن أبي طالب من قوله:
فوالله لو لا أن أجىء بسبّة تجرّ على أشياخنا في القبائل
إذا لا تبعناه على كل حالة من الدهر جدّا غير قول التخاذل
ثم بين سبحانه أن اتباع الهوى يؤدى إلى الفساد العظيم فقال:
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي ولو سلك القرآن طريقهم، بأن جاء مؤيدا للشرك بالله، واتخاذ الولد، (تعالى الله عن ذلك) وزيّن الآثام واجتراح السيئات، لاختل نظام العالم كما جاء في قوله: « لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا » ولو أباح الظلم وترك العدل لوقع الناس في هرج ومرج، ولوقع أمر الجماعات في اضطراب وفساد، والمشاهد في الأمم التي يفشو فيها التخاذل والذلة والمسكنة يئول أمرها إلى الزوال، ولو أباح العدوان واغتصاب الأموال وأن يكون الضعيف فريسة للقوى، لما استتبّ أمن ولا ساد نظام، وحال العرب قبل الإسلام شاهد صدق على ذلك.
ولو أباح الزنا لفسدت الأنساب وما عرف والد ولده، فلا تتكوّن الأسر، ولا يكون من يعول الأبناء، ولا يبحث لهم عن رزق، فيكونون شرّدا في الطرقات لا مأوى لهم، ولا عائل يقوم بشئونهم، وأكبر برهان على هذا ما هو حادث في أوروبا الآن من وجود نسل بازدواج غير شرعي مما تئنّ منه الأمم والجماعات إلى نحو أولئك مما سبق ذكره من قبل وفصّلناه تفصيلا.
وبعد أن أنبّههم على كراهتهم للحق، شنّع عليهم لإعراضهم عما فيه الخير لهم، وهو يخالف ما جبلت عليه النفوس من الرغبة في ذلك فقال:
(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم فأعرضوا عنه، ونكصوا على أعقابهم، وازدروا به وجعلوه هزوا وسخرية، وما كان لهم من الخير أن يفعلوا ذلك.
ونحو الآية قوله: « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ».
ثم نفى عن رسوله ﷺ ما ربما صدّهم عن دعوته، وهو طلبه المال منهم أجرا لنصحه وإرشاده فقال:
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أم يزعمون انك طلبت منهم أجرا على تبليغ الرسالة، فلأجل هذا لا يؤمنون.
والمراد - إنك لا تسألهم أجرا، فإن ما رزقك الله في الدنيا والعقبى خير من ذلك، لسعته ودوامه وعدم تحمل منّة فيه، ولأنك تحتسب أجره عند الله لا عندهم.
ونحو الآية قوله: « قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ » وقوله: « قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ » وقوله: « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ».
(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) توكيد لما قبله، إذ من يكون خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره.
وبعد أن فنّد آراءهم أتبعها ببيان صحة ما جاء به الرسول وأنه الحق الذي لا معدل عنه فقال:
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتدعو هؤلاء المشركين من قومك إلى ذلك الدين القيم الذي تشهد العقول السليمة باستقامته، وبعده عن الضلال والهوى والاعوجاج والزيغ.
وخلاصة ما سبق ما قاله صاحب الكشاف: قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم - بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره، وحاله مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدّعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلّما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، مع إبراز المكنون من أدوائهم، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضّلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيّرة، وكراهتهم للحق، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر اهـ.
ثم بين أن الذين ينكرون البعث هم في ضلال مبين فقال:
(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي وإن الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت، وبقيام الساعة ومجازاة الله عباده في الآخرة - عادلون عن محجة الحق، وعن قصد السبيل، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، ونصب الأدلة عليه.
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي إنهم بلغوا في التمرد والعناد حدا لا يرجى معه صلاح لهم، فلو أنهم ردوا في الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.
(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر، فما خضعوا لربهم ولا انقادوا لأمره ونهيه ولا تذللوا ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه، بل استمروا في غيهم وضلالهم.
ونحو الآية قوله: « فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ».
ثم أبان عاقبة أمرهم وما يكون من حالهم إذا جاءت الساعة فقال:
(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، وأخذهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون - أيسوا من كل خير وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 78 الى 80]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)
تفسير المفردات
ذرأكم في الأرض: أي خلقكم وبثكم فيها، اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما من قولهم: فلان يختلف إلى فلان: أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إعراض المشركين عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل في الحقائق - أردف ذلك الامتنان على عباده بأنه قد أعطاهم الحواس من السمع والبصر وغيرهما ووفقهم لاستعمالها، وكان من حقهم أن يستفيدوا بها، ليستبين لهم الرشد من الغي، لكنها لم تغن عنهم شيئا، فكأنهم فقدوها كما قال: « فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ » ثم ساق أدلة أخرى على وجوده وقدرته، فبين أنه أوجدهم من العدم وأن حشرهم إليه، وأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وأنه هو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، أفلا عقل لكم تتأملون به فيما تشاهدون؟
الإيضاح
امتن سبحانه على عباده بأمور هي دلائل قدرته وواسع علمه فقال:
(1) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله هو الذي أحدث لكم السمع، لتسمعوا به الأصوات التي تخاطبون بها، والأبصار لتشاهدوا بها الأضواء والألوان والأشكال المختلفة، والعقول لتفقهوا بها ما ينفعكم ويوصلكم إلى سعادة الحياتين الدنيا والعقبى.
وخص هذه الثلاثة بالذكر، لأنها طريق الاستدلال الحسي والعقلي لمعرفة الموجودات، وذكرها على هذا الترتيب، لما أثبته الطب أن الطفل في الأيام الثلاثة الأولى يسمع ولا يبصر، ثم يبدأ الرؤية بعدئذ، ومن الواضح تأخر العقل عن ذلك.
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) تقول العرب للكفور الجحود للنعمة: ما أقل شكر فلان على نعمتى، على معنى أنه لم يشكرها، فالمراد هنا أنكم لم تشكروه على هذه النعم العظيمة، وقد كان ينبغي أن تشكروه عليها في كل حين.
(2) (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي خلقكم في الأرض وبثكم فيها على اختلاف أجناسكم ولغاتكم، ثم يجمعكم لميقات يوم معلوم في دار لا حاكم فيها سواه.
(3) (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي وهو الذي جعل الخلق أحياء بنفخ الروح فيهم بعد أن لم يكونوا شيئا، ثم يميتهم بعد أن أحياهم، ثم يعيدهم تارة أخرى للثواب والجزاء.
(4) (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وهو الذي سخر الليل والنهار وجعلهما متعاقبين يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا، لا يملانّ ولا يفترقان كما قال: « لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ».
ثم أنب من ترك النظر في كل هذا فقال:
(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتفكرون في هذه الموجودات، لتعلموا أن هذه صنع الإله العليم القادر على كل شيء، وأن كل شيء خاضع له تحت قبضته دالّ على وجوده؟
[سورة المؤمنون (23): الآيات 81 الى 83]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
تفسير المفردات
الأساطير: الأكاذيب واحدها أسطورة كأحدوثة وأعجوبة، قاله المبرد وجماعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أدلة التوحيد المبثوثة في الأكوان والأنفس والتي يراها الناس في كل آن - أعقبها بذكر البعث والحشر وإنكار المشركين لهما، وتردادهم مقالة من سبقهم من الكافرين الجاحدين في استبعادهما والتكذيب بحصولهما.
الإيضاح
(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي ما اعتبر هؤلاء المشركون بآيات الله، ولا تدبروا حججه الدالة على قدرته على فعل كل ما يريد، كإعادة الأجسام بالبعث، وحياتها حياة أخرى للحساب والجزاء، بل قالوا مثل مقالة أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم، تقليدا لهم دون برهان ولا دليل.
ثم فصل تلك المقالة. فقال:
قالوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي قالوا: أئذا متنا وصرنا ترابا قد بليت أجسامنا، وجرّدت عظامنا: من لحومنا: أإنا لمبعوثون من قبورنا أحياء كهيئتنا قبل الممات؟ إن هذا لن يكون.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم:
(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي قالوا: لقد وعدنا هذا الوعد الذي تعدنا به، ووعد آباؤنا من قبل مثل هذا على أيدي قوم زعموا أنهم رسل الله، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد.
ثم زادوا في تأكيد الإنكار فقالوا:
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الذي تعدنا به من البعث بعد الممات إلا أكاذيب الأولين، قد تلقفناها منهم دون أن يكون لها ظل من الحقيقة، ولا نصيب من الصحة ونحو الآية قوله حكاية عنهم: « أَإِذا كُنَّا عِظامًا نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله: « أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ».
[سورة المؤمنون (23): الآيات 84 الى 90]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)
تفسير المفردات
تتقون: أي تحذرون عقابه، الملكوت: الملك والتدبير، يجير: أي يغيث، من قولهم أجرت فلانا من فلان إذا أنقذته منه، ولا يجار عليه: أي لا يعين أحد منه أحدا، تسحرون: أي تخدعون وتصرفون عن الرشد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه شبهات المشركين في أمر البعث والحساب والجزاء وأحوال النشأة الآخرة - عقب ذلك بذكر الأدلة التي تثبت تحققه وأنه كائن لا محالة.
الإيضاح
احتج سبحانه عليهم لإثبات البعث ببرهانات ثلاثة:
(1) (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك: لمن ملك السموات والأرض ومن فيها من الخلق، إن كنتم من أهل العلم بذلك؟
وفي قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) استهانة بهم وتوكيد لفرط جهالتهم كما لا يخفى ولما كانت بداهة العقل تضطرهم أن يجيبوا بأن الخالق لها هو الله - أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال:
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي إنهم سيقرون بأنها لله ملكا وخلقا وتدبيرا دون غيره.
ثم أمر رسوله أن يرغبهم في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه فقال:
(قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي قل لهم حين يعترفون بذلك موبّخا لهم: أفلا تتدبرون فتعلموا أن من قدر على خلق ذلك ابتداء؟ - فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم، وإعادتهم خلقا جديدا بعد فنائهم.
(2) (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي قل لهم: من خلق السموات وخلق العرش المحيط بهن كما قال: « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » ومن يدبر أمرهن على هذا الوضع البديع والنظام العجيب، كما قال: « فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ».
ثم أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال:
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي له كل شيء وهو رب ذلك، ليس لهم جواب غيره ولما تأكد الأمر وزاد وضوحا حسن التهديد فقال:
(قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي قل لهم منكرا وموبخا: أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقاب ربكم، فتنكروا ما أخبر به من البعث؟
وبعد أن قررهم بأن العالمين العلوي والسفلى ملك له تعالى - أمره أن يقررهم بأن له تدبير شئونهما وتدبير كل شيء فقال:
(3) (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قل لهم: من المالك لكل شيء؟ والمدبر لكل شيء؟ وفى قبضته وتحت سلطانه وتصرفه كل شيء؟ وهو يغيث من يشاء فيكون في حرز لا يقدر أحد على الدنوّ منه، ولا يغاث أحد ولا يمنع منه، لأنه ليس في العوالم كلها ما هو خارج من قبضته.
والخلاصة - إنه المدبر لنظام العالم جميعه، وهو الذي يغيث من شاء، ولا يستطيع أحد أن يغيث منه.
ثم أجاب عن هذا السؤال قبل أن يجيبوا فقال:
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي بيده ذلك دون غيره.
(قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟) أي قل لهم على طريق الاستهجان والتوبيخ: كيف تخدعون وتصرفون عن توحيد الله وطاعته؟ فأنتم بعبادة الأصنام أو بعض البشر قد سحرت عقولكم كأنما غابت عن رشدها، واعتراها الذهول، فتصورت الأشياء على غير ما هي عليها.
وقد ثبت بالتجربة أن تكرار الكلام يخدع العقول والحواس حتى تتخيل غير الحق حقا، وتتوهم صدق ما يقال وإن كان باطلا، ومن ثم كثرت المذاهب الإسلامية وابتدع الرؤساء الدينيون والسياسيون من الأساليب ما خدعوا به عقول الشعوب في دينهم ودنياهم.
والخلاصة - إن الكتاب الكريم عبر عن انصراف المشركين عن الحقائق الملموسة إلى ما لا أصل له إلا في أوهامهم وخيالاتهم بالسحر، فإن قوما يعترفون بإله خالق للسموات والأرض بل للعالم كله، ثم هم بعد ذلك يقولون إن له شريكا - ليس له من سر إلا أن العقول قد سحرت عن أن تفهم الحقائق، وعوّلت على الاقتناع بالترهات والأباطيل.
(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من قولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين، بل جئناهم فيه بالدين الحق الذي فيه سعادة البشر، وإنهم لكاذبون في إنكار ذلك، لأن عقولهم قد سحرت بخدع الآباء، وتكرار القول، وحكم العادة، وهي طبيعة ثانية.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 91 الى 92]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن المشركين كاذبون في إنكار البعث والجزاء، وفي مقالتهم: إن القرآن أساطير الأولين، قفى على ذلك ببيان أنهم كاذبون في أمرين آخرين: اتخاذ الله للولد، وإثبات الشريك له.
الإيضاح
نفى سبحانه عن نفسه شيئين:
(1) (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) أي ليس له ولد كما زعم قوم من المشركين حين قالوا: الملائكة بنات الله، وكيف يكون له ذلك، ولا مثل له ولا ندّ، والوالد إنما يتخذ للحاجة إلى النصير والمعين، والله غني عن كل شيء.
(2) (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يشركه في الألوهية، لا قبل خلق العالم ولا حين خلقه له ولا بعد خلقه.
ثم ذكر دليلين على بطلان تعدّد الآلهة فقال:
(ا) (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي لو قدّر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق، إذ لكل صانع ضرب من الصنعة يغاير صنعة سواه، فكان يحصل التباين في نظم الخلق والإيجاد، ويوجد الاختلاف بين المخلوقات المتحدة الأنواع فلا ينتظم الكون، والمشاهد أنه منتظم متسق، وهو الغاية في الكمال كما قال: « ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ».
(ب) (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ولكان لكل منهم أن يطلب قهر الآخر وغلبته، فيعلو بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا، وإذا لم تروا أثرا للتحارب والتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.
وبعد أن وضح الحق وصار كفلق الصبح جاء بما هو كالنتيجة لذلك فقال:
(سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه ربنا وتقدّس عما يقوله الكافرون من أن له ولدا أو شريكا.
ثم وصف نفسه بصفات الكمال فقال:
(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو العالم بما غاب عن خلقه من الأشياء فلا يرونه ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويبصرونه، والمراد أن الذين قالوا بالولد والشريك مخطئون فيما قالوا، فإنهم يقولون عن غير علم، وأن الذي يعلم الأشياء شاهدها وغائبها ولا تخفى عليه خافية من أمرهما - قد نفى ذلك، فخبره هو الحق دون خبرهم.
(فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس عما يقول الجاحدون الظالمون.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 93 الى 100]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
تفسير المفردات
الهمزات: الوساوس المغرية بمخالفة ما أمرنا به، واحدها همزة، وأصل الهمز النخس والدفع بيد أو غيرها، ومنه مهماز الرائض (حديدة توضع في مؤخر الرحل ينخس بها الدابة لتسرع) كلا: كلمة تستعمل للردع والزجر عن حصول ما يطلب، من ورائهم: أي من أمامهم، برزخ: أي حاجز بينهم وبين الرجعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه ما لهم من مقالات السوء، كإنكار البعث والجزاء واتخاذ الولد، ووصف الله بما لا يليق به، وكان كل هذا مما يدعو إلى استئصالهم وأخذهم بالعذاب - أمر رسوله أن يدعوه بألا يجعله قرينا لهم فيما يحيق بهم من العذاب، ثم ذكر أنه قدير على أن يعجّل لهم العذاب، ولكنه أخره ليوم معلوم، ثم أرشده إلى الترياق النافع في مخالطة الناس، وهو إحسان المرء إلى من يسىء إليه حتى تعود عداوته صداقة، وعنفه لينا.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
ثم أمره أن يستعيذ من حيل الشياطين وأن يحضروه في أي عمل من أعماله، ولا يكون كالكافرين الذين قبلوا همزها وأطاعوا وسوستها، حتى إذا ما حان وقت الاحتضار تمنّوا أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحا، وإنه لا يسمع لمثل هؤلاء دعاء، فإنه لارجعة لهم بعد هذا، وأمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم البعث.
الإيضاح
(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قل رب إن عاقبتهم وأنا مشاهد ذلك فلا تجعلنى فيهم، ولا تهلكني بما تهلكهم به، ونجّنى من عذابك وسخطك، واجعلنى ممن رضيت عنهم من أوليائك.
وفي أمره بذلك إيماء إلى أن العذاب قد يلحق غير من هو أهل له كما قال: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ».
روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي ﷺ كان يدعو « وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّنى إليك غير مفتون ».
(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي وإنا أيها الرسول لقادرون على أن نريك ما ننزله بهم من العذاب، فلا يحزننك تكذيبهم بك، وإنما تؤخره حتى يبلغ الكتاب أجله، علما منا أن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمن، ومن جزاء ذلك لا نستأصلهم ولا نمحو آثارهم.
ثم أرشده إلى ما يفعل بهم إذا لحقه أذاهم فقال:
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي ادفع الأذى عنك بالخصلة التي هي أحسن، بالإغضاء والصفح عن جهلهم والصبر على أذاهم وتكذيبهم بما أتيتهم به من عند ربك، ونحن أعلم بما يصفوننا به، وينحلونه إيانا من الاختلاق والأكاذيب.
وبما يقولون فيك من السوء وهجر القول ومجازوهم على ما يقولون، فلا يحزنك ذلك، واصبر صبرا جميلا.
ونحو الآية قوله: « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ».
روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال في الآية: « يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول له: إن كنت كاذبا فإني أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنت صادقا فإني أسأل الله أن يغفر لي ».
ولما أدب سبحانه رسوله ﷺ بأن يدفع بالحسنى أرشده إلى ما به يقوى على ذلك فقال:
(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي وقل: رب إني ألتجئ إليك من أن يصل إلي الشياطين بوساوسهم، أو أن يبعثوا إلي أعداءك لإيذائى، وهكذا يدعو المؤمنون فإن الشيطان لا يصل إليهم إلا بأحد هذين الأمرين.
وإذا انقطع العبد إلى مولاه وتبتل إليه وسأله أن يعيذه من الشياطين استيقظ قلبه، وتذكرر به فيما يأتي ويذر، ودعاه ذلك إلى التمسك بالطاعة، وازدجر عن المعصية.
وقد استعاذ ﷺ أن تحضره الشياطين في عمل من أعماله ولا سيما حين الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: « كان رسول الله ﷺ يعلمنا كلمات نقولها عند النوم خوف الفزع: بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، قال فكان ابن عمرو يعلمها من بلغ من أولاده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه ».
وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال: « يا رسول الله إني أجد وحشة، قال:
إذا أخذت مضجعك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنه لا يحضرك وبالحرى لا يضرك ».
وروى أبو داود أن رسول الله ﷺ كان يقول: « اللهم إني أعوذ بك من الهزم، وأعوذ بك من الهدم، ومن الغرق، وأعوذ بك أن تتخبّطنى الشياطين عند الموت ».
ثم أخبر عما يقوله الكافرون حين معاينة الموت من سؤال الرجعة إلى الدنيا ليصلحوا ما كانوا قد أفسدوا حال حياتهم فقال:
(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ) أي ولا يزال الكافر يجترح السيئات ولا يبالى بما يأتي وما يذر من الآثام والأوزار، حتى إذا جاءه الموت وعاين ما هو قادم عليه من عذاب الله ندم على ما فات، وأسف على ما فرّط في جنب الله وقال: رب ارجعنى إلى الدنيا لأعمل صالحا فيما قصّرت فيه من عبادتك وحقوق خلقك.
وخلاصة ذلك - إنه حين الاحتضار يعاين ما هو مقبل عليه من العذاب فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا، ليصلح ما أفسد، ويطيع فيما عصى.
ونحو الآية قوله: « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ » وقوله: « وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا » وقوله: « وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ » وقوله: « وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ».
ومن كل هذا تعلم أنهم يطلبون الرجعة حين الاحتضار، وحين النشور، وحين العرض على الملك الجبار، وحين يعرضون على النار وهم في غمرات جهنم، فلا يجابون إليها في كل حال.
(كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي إنا لا نجيبه إلى ما طلب، لأن طلبه الرد ليعمل صالحا هو قول فحسب ولا عمل معه وهو كاذب فيه، فلو ردّ لما عمل كما قال: « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ».
(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي ومن أمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم القيامة.
وفي هذا تيئيس لهم من الرجوع أبدا، لأنهم إذا لم يرجعوا قبل يوم القيامة، فهم بعدها لا يرجعون أبدا، لما علم أنه لا رجعة بعد البعث إلا إلى الآخرة.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 101 الى 111]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْمًا ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)
تفسير المفردات
الصور واحدها صورة نحو بسر وبسرة: أي نفخت في الأجساد أرواحها، ولا يتساءلون: أي لا يسأل بعضهم بعضا، موازينه: أي موزوناته وهي حسناته، المفلحون: أي الفائز ون، خسروا أنفسهم: أي غبنوها، تلفح: أي تحرق، كالحون: أي عابسون متقلصو الشفاه، الشقوة والشقاوة: سوء العاقبة، وهي ضد السعادة، اخسئوا: أي اسكتوا سكوت ذلة وهوان، سخريا: أي هزوا، ذكرى: أي خوف عقابي.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن وراء الرجوع إلى الدنيا حاجزا إلى يوم القيامة - أعقب ذلك بذكر أحوال هذا اليوم، فبين أنه عند البعث وإعادة الأرواح في الأجسام لا تنفع الأحساب، ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، وأن من رجحت حسناته على سيئاته فاز ونجا من النار ودخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته خاب وهلك وأدخل النار خالدا فيها أبدا، وكان عابس الوجه متقلّص الشفتين من شدة الاحتراق، وأنه يقال لأهل النار توبيخا لهم على ما ارتكبوا من الكفر والآثام، ألستم قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت عليكم الكتب؟ فيقولون بلى، ولكنا لم ننقد لها ولم نتبعها فصللنا، ربنا ارددنا إلى دار الدنيا، فإن نحن عدنا فإنا ظالمون مستحقون العقوبة، فيجيبهم ربهم: امكثوا في النار صاغرين أذلاء ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا، إنكم كنتم تستهزئون بعبادي المؤمنين وكنتم منهم تضحكون، إنهم اليوم هم الفائزون جزاء صبرهم على أذاكم واستهزائكم بهم.
الإيضاح
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد حين البعث والنشور، لا تنفعهم الأنساب، لأن التعاطف يزول، والود يختفى، لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، واشتغال كل امرئ بنفسه كما جاء في قوله: « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ » (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، لاشتغاله بأمر نفسه كما قال: « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا » وما جاء في بعض الآيات من إثبات التساؤل بينهم كقوله: « فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ » فإنما هو عند القرار في الجنة أو النار.
ثم شرع يبين أحوال السعداء وأحوال الأشقياء حينئذ فقال:
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موزونات أخلاقه وأعماله فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، والحائزون لكل مرغوب.
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي ومن ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك الذين خابوا وآبوا بالصفقة الخاسرة، إذ هم دسّوا أنفسهم باسترسالهم في الشهوات وفعل الموبقات.
(فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي مآلهم أن يمكثوا في جهنم لا يخرجون منها أبدا.
ثم وصف حال النار وحالهم فيها فقال:
(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرق النار وجوههم وهم فيها منقلصو الشفاه من أثر ذلك اللفح.
وإنما خص الوجوه من بين باقى الأعضاء، لأنها أشرفها، فذكر ما ينوبها من ألم، ويلحقها من أذى، يكون أزجر عن المعاصي التي تصل بهم إلى النار.
أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ في قول الله تعالى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.
ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ توبيخا وتقريعا وتذكيرا لما به حقّ عليهم العذاب (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي قد أرسلت إليكم الرسل.
وأنزلت عليكم الكتب، وأزلت عنكم الشّبه، ولم يبق لكم حجة كما قال: « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » وقال: « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » فكذبتم بها، وأعرضتم عنها، وآذيتم من جاء بها.
ونحو الآية قوله: « كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ».
ثم ذكر جوابهم عن ذلك فقال:
(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْمًا ضالِّينَ) أي قالوا قد قامت علينا الحجة ولم ننقد لها، لسوء استعدادنا وتغلّب شهواتنا، ولما دسّينا به أنفسنا من الآثام والمعاصي ومن ثم ضللنا طريق الهدى، ولم نتبع الحق.
ونحو الآية قوله « فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ».
والخلاصة - إنا كنا نعرف الحق، ولكن العادة وخشية الناس ملكتا علينا أمرنا، فلم نقدر على الخلاص مما نحن فيه، وما مثلنا إلا مثل شاربى الخمر والتّبغ والمولعين بحب الكبرياء والعظمة والمغرمين بالإسراف، فإنهم يعرفون أضرارها، ثم لا يجدون سبيلا إلى تركها ولا للبعد عنها.
وبعدئذ حكى دعاءهم ربّهم أن يخرجهم منها: وقولهم فإن عدنا كنا ظالمين فقال:
(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي قالوا ربنا أخرجنا من النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا من الشرور والآثام كنا ظالمين لأنفسنا جديرين بالعقوبة.
ثم ذكر ما أجيبوا به عن طلبهم هذا فقال:
(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي قال امكثوا فيها أذلاء صاغرين واسكتوا، ولا تعودوا إلى مثل سؤالكم هذا، فإنه لا رجعة لكم إلى الدنيا، وإنما يكلمنى من سمت نفسه إلى عالم الأرواح، ولبس رداء الخوف والخشية من ربه، واحتقر الدنيا وشهواتها، وعزف عنها، لما يرجوه من ربه من ثواب عميم، ونعيم مقيم.
ثم بين السبب فيما نالهم من العذاب فقال:
(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي إن فريقا من عبادي ممن كان يؤمن بالله واليوم الآخر في الدنيا يقولون: ربنا آمنا بك وبرسلك وبما جاءوا به من لدنك، فاستر زلّاتنا، وآمن روعاتنا، ولا تخزنا يوم العرض، ولا تعذبنا بعذابك، فإنك أرحم من رحم أهل البلاء.
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي فتشاغلتم بهم، ساخرين منهم، ودأبتم على هذا، حتى نسيتم ذكرى، ولم تخافوا عقابي، وكنتم تضحكون منهم استهزاء بهم.
والخلاصة - إنكم أضفتم إلى سيئاتكم، الاستهزاء بمن يفعلون الحسنات، ويتقربون إلى رب الأرض والسموات، روى أنها نزلت في كفار قريش وقد كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله ﷺ كبلال وعمار وصهيب.
ونحو الآية قوله: « إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ ».
ثم ذكر ما جازى به أولئك المستضعفين فقال:
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي إني جزينهم بصبرهم على الأذى والسخرية بهم - بالفوز بالنعيم المقيم.
والخلاصة - إنهم صبروا فجوزوا أحسن الجزاء.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 112 الى 118]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) ومَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
تفسير المفردات
اللبث: الإقامة، العادّين: الحفظة العادين لأعمال العباد وأعمارهم، والعبث: ما خلا من الفائدة الحق: أي الثابت الذي لا يبيد ولا يزول ملكه، والعرش: هو مركز تدبير العالم، ووصفه بالكريم لشرفه، وكل ما شرف في جنسه يوصف بالكرم كما في قوله: « وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ » وقوله: « وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا » يدعو: يعبد، حسابه: أي جزاؤه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنكارهم للبعث وأنهم لا يعترفون بحياة إلا ما كان في هذه الدنيا، وأنه بعد الفناء لا حياة ولا إعادة - ذكر هنا أنهم بعد أن يستقروا في النار ويوقنوا أنهم مخلدون فيها أبدا، يسألون سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم في الأرض، ليستبين لهم أن ما ظنوه أمدا طويلا يسير بالنسبة إلى ما أنكروه، وحينئذ يزدادون حسرة وألما على ما كانوا يعتقدون في الدنيا حين رأوا خلاف ما ظنوا، ثم بين بعدئذ ما هو كالدليل على وجود البعث، وهو تمييز المطيع من العاصي، ولولاه لكان خلق العالم عبثا، تنزه ربنا عن ذلك. ثم أتبع هذا بالرد على من أشرك معه غيره، وأنذره بالعذاب الأليم، ثم أمر رسوله أن يطلب منه غفران الذنوب، وأن يثنى عليه بما هو أهله.
الإيضاح
(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟) أي قال الملك المأمور بسؤالهم: كم لبثتم في الأرض أحياء؟.
(قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فقد نسى هؤلاء الأشقياء مدة لبثهم في الدنيا، لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب، وقصّر عندهم الأمد الذي مكثوه فيها، ما حل بهم من نقمة الله، حتى حسبوا أنهم لم يمكثوا إلا يوما أو بعض يوم، ولعل بعضهم يكون قد أقام بها الزمان الطويل والسنين الكثيرة.
(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي فاسأل الحفظة العارفين لأعمال العباد وأعمارهم كما روى ذلك جماعة عن مجاهد.
(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قال لهم الملك: ما لبثتم إلا زمنا يسيرا، ولو كنتم تعلمون شيئا من العلم لعملتم على مقتضى ذلك، ولما صدر منكم ما أوجب خلودكم في النار، ولما قلنا لكم « اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ».
روى مرفوعا « إن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال: يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، قال: لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول يا أهل النار. كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، فيقول بئسما أنجزتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين »
ثم زاد في توبيخهم على تماديهم في الغفلة وتركهم النظر الصحيح فيما يرشد إلى حقية البعث والقيامة فقال:
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي أظننتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم لعبا وباطلا؟ كلا، بل خلقناكم لنهذبكم ونعلمكم، لترتقوا إلى عالم أرقى مما أنتم فيه، لا كما ظننتم أنكم لا ترجعون إلينا للحساب والجزاء.
وفي هذا إشارة إلى أن الحكمة تقتضى تكليفهم وبعثهم لمجازاتهم على ما قدموا من عمل، وأسلفوا من سعى في الحياة الدنيا.
ثم نزه الله نفسه عما يصفه به المشركون فقال:
(فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي تنزه ربنا ذو الملك والملكوت الذي لا يزول، وليس هناك معبود سواه، وهو ذو العرش الكريم الذي يدبر فيه نظام الكون علويّه وسفليّه وجميع ما خلق عن أن يخلق الخلق عبثا، وأن تخلوا أفعاله عن الحكم والمقاصد الحميدة، وأن يكون له ولد أو شريك.
وبعد أن ذكر أنه الملك الحق الذي لا إله إلا هو - أتبعه ببيان أن من ادعى أن في الكون إلها سواه فقد ادعى باطلا، وركب شططا فقال:
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ومن يعبد مع ذلك المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، معبودا آخر لا بيّنة له به، فحزاؤه عند ربه، وهو موفيه ما يستحقه من جزاء وعقاب.
وفي ذلك من شديد التوبيخ والتقريع ما لا يخفى.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي إنه لا يسعد أهل الشرك، ولا ينجيهم من العذاب.
وما ألطف افتتاح السورة بفلاح المؤمنين، وختمها بخيبة الكافرين، وعدم فوزهم بما يؤملون!.
وبعد أن شرح أحوال الكافرين وجهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة، أمر رسوله بالانقطاع إليه، والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله:
(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي وقل أيها الرسول: رب استر على ذنوبى بعفوك عنها، وارحمني بقبول توبتى وترك عقابي على ما اجترحت من آثام وأوزار، وأنت ربّنا خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته وتجاوز عن عقابه إنك ربنا خير غافر، وإنك المتولى للسرائر، والمرجوّ لإصلاح الضمائر، وصلّ ربّنا على محمد وآله.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان في جماعة عن أبي بكر أنه قال « يا رسول الله علّمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم ».
خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام والآداب
(1) فوز المؤمنين ذوي الصفات الفاضلة بدخول الجنات خالدين فيها أبدا.
(2) ذكر حال النشأة الأولى.
(3) خلق السموات السبع وإنزال المطر من السماء وإنشاء الجنات من النخيل والأعناب وذكر منافع الحيوان للإنسان.
(4) قصص بعض الأنبياء كنوح وشعيب وموسى وهرون وعيسى عليهم السلام ثم أمرهم جميعا بأكل الطيبات وعمل الصالحات.
(5) لا يكلف الله عباده إلا بما فيه يسر وسجاحة.
(6) وصف ما يلقاه الكافرون من النكال والوبال يوم القيامة وتأنيبهم على عدم الإيمان بالرسول، وتفنيد المعاذير التي اعتذروا بها.
(7) ذكر ما أنعم به على عباده من الحواس والمشاعر.
(8) إنكار المشركين للبعث والجزاء والحجاج على إثبات ذلك.
(9) النعي على من أثبت الولد والشريك لله.
(10) دعاء النبي ﷺ ربه ألا يجعله في القوم الظالمين حين عذابهم.
(11) تعليم نبيه ﷺ الأدب في معاملة الناس، وأمره أن يدعوه بدفع همزات الشياطين عنه.
(12) طلب الكفار العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب، لعلهم إذا عادوا عملوا صالحا.
(13) وصف أهوال يوم القيامة وبيان ما فيها من الشدائد.
(14) أوصاف السعداء والأشقياء.
(15) تأنيب الكافرين على طلبهم العودة إلى الدنيا وزجرهم على هذا الطلب.
(16) سؤال المشركين عن مدة لبثهم في الدنيا، وبيان أنهم ينسون ذلك.
(17) النعي على من عبد مع الله إلها آخر.
وصلّى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
سورة النور
هي مدنية وآيها أربع وستون.
ووجه اتصالها بما قبلها:
(1) إنه قال في السورة السالفة: « وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ » وذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغضّ البصر الذي هو داعية الزنا، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، والنهي عن إكراه الفتيات على الزنا.
(2) إنه تعالى لما قال فيما سلف إنه لم يخلق الخلق عبثا بل للأمر والنهى - ذكر هنا جملة من الأوامر والنواهي.
روي عن مجاهد أنه قال: قال رسول الله ﷺ: « علّموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور »
وعن حارث بن مضرّب رضي الله عنه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
[سورة النور (24): آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
تفسير المفردات
أنزلناها: أي أعطيناها الرسول كما يقول العبد إذا كلم سيده: رفعت إليه حاجتي، والفرض: التقدير كما قال: « فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ » وقال: « إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ » والمراد هنا تقدير ما فيها من الحدود والأحكام على أتمّ وجه، بينات: أي واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام، ولعلّ هنا يراد بها الإعداد والتهيئة، تذكرون: أي تتذكرون وتتعظون.
الإيضاح
امتنّ سبحانه على عباده بما أنزل عليهم في هذه السورة من الفرائض والأحكام وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة التي لا تقبل جدلا، ليعدّهم بذلك لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم وفيه صلاحهم، فإن في حفظ الفروج صيانة للأنساب واطمئنانا على سلامتها مما يشوبها، كما أن فيه أمنا من حصول الضغائن والأحقاد التي قد تجر إلى القتل وارتكاب أفظع الجرائم بين الأفراد، وأمنا على الصحة والبعد من الأمراض التي قد تودى بحياة المرء وتوقعه في أشد المصايب وأعظم ألوان البلاء.
كما جاء فيها توثيق روابط المودة بين أفراد المجمع، ففيها نظام دخول البيوت للتزاور، وفيها حفظ الألسنة وصونها عن الولوغ في الأعراض بما لا ينبغي أن يقال حتى لا ينتسر الفحش بين الناس، وفيها تحذير للعباد من ذلك « إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ».
والخلاصة - إنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود الشرعية.
وفي آخرها الدلائل على وحدانيته وكامل قدرته، فأشار إلى الأولى بقوله (وَفَرَضْناها) وإلى الثانية بقوله: (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ).
والفائدة في كل هذا اتقاء المحارم والبعد عنها ومعرفة الله المعرفة التي تجعل المرء يخضع لجلاله وعظيم سلطانه، ويشعر بأنه محاسب على كل ما يعمل من عمل قلّ أو كثر فإذا تم له ذلك صلحت نظم الفرد ونظم المجتمع، وسادت السكينة والطمأنينة بين الناس.
[سورة النور (24): آية 2]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
عقوبة الزنا الدنيوية
الزاني والزانية إما أن يكونا محصنين: أي متزوجين، أو غير محصنين: أي غير متزوجين.
عقوبة المحصنين
إن كان الزانيان محصنين واستوفيا الشروط الآتية، وهي أن يكونا بالغين عاقلين حرين مسلمين متزوجين بعقد نكاح صحيح - وجب رجمهما: أي رميهما بالحجارة حتى يموتا، ويكون ذلك في حفل عامّ للمسلمين ليعتبر بهما غيرهما.
وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة، ورواه الثقات عن النبي ﷺ، فقد رواه أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد ابن خالد وبريدة الأسلمى في آخرين من الصحابة، وجاء في رواياتهم أن رجلا من الصحابة يسمى ما عزا أقر بالزنا فرجم، وأن امرأتين من بنى لخم وبنى غامد أقرتا بالزنا فرجمعا على مشهد من الناس ومرأى منهم.
عقوبة غير المحصنين
إن كان الزانيان غير محصنين فالعقوبة مابة جلدة بمحضر جمع من المسلمين كما بينته الآية ليفتضح أمرهما كما تقدم ذلك.
طريق إثبات الزنا
يثبت الزنا بأحد أمور ثلاثة:
(1) الإقرار به وهذا هو الطريق الذي ثبت به الزنا في الإسلام، وبه أوقع النبي ﷺ وصحابته العقوبة على من زنى.
(2) الحبل للمرأة بلا زوج معروف لها.
(3) شهادة أربعة من الشهود يرونهما وهما ملتبسان بالجريمة.
عقوبة الزنا الأخروية
تقدم أن بيّنا المساوى والأضرار التي تنشأ من الزنا للأفراد والجماعات في الدنيا، وهنا نذكر حكمه الأخروي فنقول: اتفقت الأمة على أن الزنا من أكبر الآثام، وأنه من الذنوب التي شدد الدين في تركها، وأغلظ في العقوبة على فعلها، وجاء فيه من النصوص ما لم يأت في غيره مما حرم الله، فقد قرن بالشرك في قوله: « وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا »
وروي عن حذيفة أن النبي ﷺ قال: « يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار ».
وعن عبد الله بن مسعود قال: « قلت يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت ثم أي؟ قال وأن تزنى بحليلة جارك، فأنزل الله تصديقها: « وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ »
الإيضاح
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي من زنى من الرجال أو زنت من النساء وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين فاجلدوا كلا منهما مائة جلدة عقوبة له على ما أتى من معصية الله.
(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) أي ولا تأخذكم بهما رحمة ورقة في حكم الله، فتعطلوا الحدود أو تخففوا الضرب، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا في دين الله ولا يأخذكم اللين والهوادة في استيفاء الحدود، وكفى برسول الله أسوة في ذلك، إذ يقول: « لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ».
(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن كنتم تصدقون بالله ربكم، وأنكم مبعوثون للحشر ومجازون بالثواب والعقاب. فإن من كان مصدّقا بذلك لا يخالف أمر الله ونهيه خوف عقابه على معاصيه.
وفي هذا تهييج وإغضاب لتنفيذ حدود الله وإقامة شريعته.
(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، والزيادة في تأنيبهما على ما فعلا.
والطائفة: الأربعة فصاعدا كما روي عن ابن عباس، وعن الحسن: عشرة فصاعدا.
[سورة النور (24): آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
المعنى الجملي
قال مجاهد وعطاء: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة عيشا، ولكل منهن علامة على بابها للتعريف عن نفسها والإعلان عن أمرها، وكان لا يدخل عليهن إلا زان أو مشرك، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا ننّزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهنّ، فاستأذنوا رسول الله ﷺ فنزلت الآية.
الإيضاح
(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي إن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء.
وإنما يرغب في فاسقة خبيثة أو في مشركة مثلها، والفاسقة المستهترة لا يرغب في نكاحها الصالحون من الرجال، بل ينفرون منها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة، ولقد قالوا في أمثالهم: إن الطيور على أشكالها تقع.
ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقى، وقد يفعل الخير من ليس بتقى، فكذا هذا فإن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف.
(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي إن نكاح المؤمن المتّسم بالصلاح الزانية، ورغبته فيها واندماجه في سلك الفسقة المشهورين بالزنا - محرم عليه، لما فيه من التشبه بالفسّاق ومن حضور مواضع الفسق والفجور التي قد تسبب له سوء القالة واغتياب الناس له، وكم في مجالسة الفساق من التعرض لاقتراف الآثام، فما بالك بمزاوجة الزواني والفجار، وجاء في الخبر « من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ».
حكم قذف غير الزوجة من النساء
[سورة النور (24): الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَدًا وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
تفسير المفردات
المراد بالمحصنات هنا العفيفات الحرائر البالغات العاقلات المسلمات.
المعنى الجملي
بعد أن نفّر سبحانه من نكاح الزانيات وإنكاح الزانين وبيّن أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله - نهى هنا عن رمى
المحصنات به، وشدد في عقوبته الدنيوية والأخروية، فجعل عقوبته في الدنيا الجلد وألا تقبل له شهادة أبدا، فيكون ساقط الاعتبار في نظر الناس ملغى القول لا تسمع له كلمة، وجعل عقوبته في الآخرة العذاب المؤلم الموجع إلا إذا تاب إلى الله وأناب وأصلح أعماله، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) أي إن الذين يشتمون العفيفات من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنا، ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون بأنهم رأوهن يفعلن ذلك - فاجلدوهم ثمانين جلدة جزاء لهم على ما فعلوا من ثلم العرض، وهتك الستر دون أن يكون ذلك بوجه الحق.
(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَدًا) أي وردوا شهادتهم، ولا تقبلوها أبدا في أي أمر من الأمور.
ثم بين سوء حالهم عند ربهم بقوله:
(وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي وأولئك هم الخارجون عن طاعة ربهم إذ أنهم فسقوا عن أمره وركبوا كبيرة من الكبائر، باتهامهم المحصنات الغافلات المؤمنات كذبا وبهتانا كما قال حسان يمدح أمّ المؤمنين عائشة:
حصان رزان ما تزنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل 1
وهم إن كانوا صادقين فقد هتكوا ستر المؤمنات، وأوقعوا السامعين في شك من أمرهن، دون أن يكون في ذلك فائدة دينية ولا دنيوية لهم، وقد أمرنا بستر العرض إذا لم يكن في ذلك مصلحة في الدين.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي إلا الذين رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا من بعد ما اجترحوا ذلك الإثم وأصلحوا حالهم.
وقد اختلف في هذا الاستثناء، أيعود إلى الجملة الأخيرة فترفع التوبة الفسق فحسب، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب؟ وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة، أم يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيّب وجماعة من السلف، وهو رأى مالك والشافعي وأحمد، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق.
ثم ذكر علة قبول التوبة فقال:
(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن الله ستّار لذنوبهم التي أقدموا عليها بعد أن تابوا منها، رحيم بهم فيزيل عنهم ذلك العار الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به.
حكم قذف الرجل زوجه
[سورة النور (24): الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
تفسير المفردات
يرمون أزواجهم: أي يقذفونهنّ بالريبة وتهمة الزنا، ولعنة الله: الطرد من رحمته، ويدرأ: أي يدفع، والعذاب: الحد، وغضب الله: سخطه والبعد من فضله وإحسانه
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنا وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء - ذكر هنا ما هو في حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة في الآية، لأن في تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روي عن ابن عباس أنه قال: « لما نزل قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات إلخ قال عاصم بن عدي الأنصاري: إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عو يمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي! فقال رسول الله ﷺ: وما ذاك؟ قال أخبرني عويمر ابن عمى أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله ﷺ بهم جميعا وقال لعويمر اتقى الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيري، فقال لها النبي ﷺ: اتقى الله ولا تخبري إلا بما صنعت، فقالت يا رسول الله: إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله ﷺ.
فنودى (الصلاة جامعة) فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل أشهد بالله إنها حبلى من غيري وإني من الصادقين ثم قال: قل: أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة شهور وإني لمن الصادقين ثم قال: قل لعنة الله على عويمر (يعنى نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال: اقعد، وقال لخولة: قومي فقامت وقالت أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة: إني حبلى منه، وقالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرق رسول الله بينهما ». « وفي رواية عن ابن عباس: أنها حين كانت تؤدى الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله ﷺ بالتفريق بينهما وألا يدعى ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة »
فصار هذا سنّة المتلاعنين وسمى عملهما (اللعان والملاعنة).
وفي رواية « إن رسول الله ﷺ قال: أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة (سحلية) فلا أراه إلا كاذبا فجاءت به على النعت المكروه ».
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة، فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات إنه لصادق فيما رماها به من الزنا، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به.
(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ويدفع عنها العقوبة الدنيوية وهي الحد أن تخلف بالله أربعة أيمان إن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة - لمن الكاذبين فيما قال، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما اتهمها به.
وخصّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب الله عليها تغليظا عليها، لأنها هي سبب الفجور ومنبعه، بخديعتها وإطماعها الرجل في نفسها.
وبعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج بين أن في هذا تفضلا بعباده ورحمة بهم فقال:
(وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي ولو لا تفضله سبحانه ورحمته بكم وأنه قابل لتوبتكم في كل آن، وأنه حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان - لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان، إذ لو لم يشرع لكم ذلك لوجب على الزوج حد القذف، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه، لأنه أعرف بحال زوجه، وأنه لا يفترى عليها، لاشتراكهما في الفضيحة، ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنا عليها لأهمل أمرها وكثر افتراء الزوج عليها لضغينة قد تكون في نفسه من أهلها، وفى كل هذا خروج من سبق الحكمة والفضل والرحمة، ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما درائة عنه العقوبة الدنيوية، وإن كان قد ابتلى الكاذب منهما في تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه وهو العقاب الأخروي.
[سورة النور (24): الآيات 11 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) ولَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
تفسير المفردات
الإفك: أبلغ الكذب والافتراء، والعصبة: الجماعة، وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين، وقد عدّت عائشة منها المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول وقد تولّى كبره، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها وزوج طلحة ابن عبيد الله، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، كبره (بكسر الكاف وضمها وسكون الباء) أي معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه، (لولا) كلمة بمعنى هلّا تفيد الحث على فعل ما بعدها، مبين: أي ظاهر مكشوف، أفضتم: أي خضتم في حديث الإفك، تلقونه: أي تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض، يقال تلقّى القول وتلقّنه وتلقّفه ومنه « فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ » سبحانك: تعجب ممن تفوّه به، بهتان: أي كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته، يعظكم: أي ينصحكم، تشيع: أي تنتشر، الفاحشة: الخصلة المفرطة في القبح وهي الزنا، وخطوات واحدها خطوة (بالضم) ما بين القدمين من المسافة، ويراد بها نزغات الشيطان ووساوسه: والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر منه، زكا: أي طهر من دنس الذنوب، ولا يأتل: أي لا يحلف، الفضل الزيادة في الدين، السعة: الغنى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات - ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ﷺ.
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت: « كان رسول الله ﷺ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن حرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمى (نصيبى) فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودى بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلى، فلست صدرى فإذا عقدى من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلون بي فاحتملوا هودجى فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون إني فيه لخفتى، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدوننى ويعودون في طلبى، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتنى عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمى من وراء الجيش، فلما رآني عرفنى فاستيقظت باسترجاعه، فخمّرت وجهى بجلبابي، وو الله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهيرة، وافتقدنى الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكري، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثى فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشىء من ذلك، ويريبني في وجعي إني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح (هى ابنة أبى رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق) قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه أولم تسمعى ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ﷺ ثم قال كيف تيكم؟ قلت أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال نعم، قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي: أي أماه، ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنيّة هوّني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراتر إلا أكثرن عليها: قالت قلت سبحان الله، أوقد تحدث الناس بهذا وبلغ رسول الله ﷺ؟ قالت نعم، قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكى، فقال لأمي ما يبكيها؟ قالت: لم تكن علمت ما قيل لها، فأكبّ يبكى، فبكى ساعة ثم قال: اسكتي يا بنية، فكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدى، ودعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله ﷺ بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية (يعنى بريرة) تصدقك، فدعا رسول الله ﷺ بريرة فقال: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتى الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ﷺ من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معى، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال: أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة، فقال أي سعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة، كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله ﷺ قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله ﷺ وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معى، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ﷺ ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشىء، قالت فتشهد رسول الله ﷺ حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه دمعة، قلت لأبي: أجب عنى رسول الله ﷺ فيما قال، قال والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت لأمى: أجيبي رسول الله ﷺ، فقالت والله ما أدرى ما أقول لرسول الله ﷺ، قالت فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم أن تصدّقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة (والله يعلم أبى بريئة) لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدّقنى، وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم إني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله ﷺ في المنام رؤيا يبرئنى الله بها، قالت والله ما دام رسول الله ﷺ مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما سُرّي عن رسول الله ﷺ وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك، فقالت لي أمي قومي إليه، فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله: « إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ » العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله: « وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ - إلى قوله - غَفُورٌ رَحِيمٌ » فقال أبو بكر: إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: وكان رسول الله ﷺ يسأل زينب بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت: يا رسول الله أحمي سمعى وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أحبها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك ». وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدثتنى الصّديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ﷺ المبرّأة من السماء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم أيها المؤمنون تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس لمقاصد لهم أخفوها والله عليم بما يفعلون.
وفي التعبير (بعصبة) بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون، وأنهم هم الذين ينتسرونه، لا أنهم عدد كثير من الناس.
(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا، بل هو خير لكم، لاكتسابكم به الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر في براءتكم وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية والآداب التي لا تخفى على من تأملها.
ثم ذكر عقاب من اجترحوه - كل منهم بقدر ما خاض فيه فقال:
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي لكل امرئ منهم جزاء ما اجترح من الإثم بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم ضحك كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقلّ، وبعضهم أكثر.
(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي والذي تحمّل معظم ذلك الإثم منهم وهو عبد الله بن أبي (عليه اللعنة) له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبإظهار نفاقه على رءوس الأشهاد، وأما في الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العليم الحكيم.
وقد كان هو أول من اختلقه لإمعانه في عداوة رسول الله ﷺ.
وقال الضحاك: الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما ﷺ حين أنزل الله عذرها، وجلد معهما امرأة من قريش، وإنما أضاف الكبر إليه، لأنه ابتدأ بذلك القول، لا جرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام « من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ».
ثم عاتب الله أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة وزجرهم بتسعة أمور:
(1) (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي هلا إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظنتم بمن اتّهم بذلك خيرا، لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن، ويكفّكم عن إساءتكم أنفسكم أي أمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم كما قال « وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ » وقال « فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ » وهلا قلتم حينئذ: هذا كذب ظاهر مكشوف؟ فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه - ذاك أن مجىء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك، ورسول الله بين أظهرهم ينفى كل شك، وإنما قيل ما قيل لحسد في القلوب كامن، وبغض في النفس مكتوم.
ثم علل سبحانه كذب الآفكين ووبّخهم على ما اختلفوه وأذاعوه بقوله:
(2) (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا جاء الخائضون في الإفك بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا وما رموها به.
(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك المفسدون هم الكاذبون في حكم الله وشرعه.
(3) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من أجلّها الإمهال للتوبة، ورحمته في الآخرة بالعفو بعد التوبة - لعجل لكم العقاب في الدنيا من جراء ما خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.
ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله:
(4) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله ورحمته لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، وقولكم قولا بالأفواه دون أن يكون له منشأ في القلوب يؤيده، وظنكم إياه هينا سهلا لا يعبأ به، وهو من العظائم والكبائر عند الله.
وخلاصة ذلك - إنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها:
(ا) تلقي الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له ما وراءك، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه، فهم قد فعلوا جهد المستطاع في نشره.
(ب) إنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما في القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه (ج) استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحق لشديد العقوبة.
(ه) (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي وهلّا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه في القول - قلتم تكذيبا له وتهويلا لشأن ما ارتكبه من الجرم: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا ولا ينبغي لنا أن نتفوه به سبحانك رب - هذا كذب صراح يحيّر السامعين، أمره، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس، بيت النبوة الذي هو في الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة، وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعدئذ؟ أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة، وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين، وشريف الأخلاق؟ وإنا لنبرأ إليك
ربنا منه وأن تلوكه ألسنتنا، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفّاك أثيم سولت له نفسه أن يكون الوسيلة في انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين.
وخلاصة هذا - تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين، وألا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق، وأن توسم زوج نبيه بالفجور، والعقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا، لأن فيه إيذاء للنبي ﷺ والله يقول « إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها، ولأن في إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقا بأخلاق الله
والنبي ﷺ يقول « تخلقوا بأخلاق الله ».
ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا فقال:
(6) (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، وكبر هذا الجرم، وأن فيه النكال والعقاب بالحد في الدنيا، والعذاب في الآخرة، كى لا تعودوا لمثله أبدا إن كنتم من أهل الإيمان تتعظون بعظات الله، وتأتمرون بأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه.
وفي قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيماء إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا.
(وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ويفصّل الله لكم في كتابه، آيات التشريع، ومحاسن الفضائل والآداب، وهو العليم بكم، لا يخفى عليه شيء منها، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. الحكيم في تدبير شئونكم وفيما كلفكم به، مما فيه سعادتكم في معاشكم ومعادكم، وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح، وتكونون خير الأمم في سياسة الشعوب وعمارة الأرض، وإقامة ميزان العدل بين أفرادها « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ » ولقد صدق الله وعده وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفا في ذلك الحين وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته حتى صاروا مضرب الأمثال، فلما انحرفوا عن الصراط السوي، والنهج القويم، تقلّص ظلهم، وذهب ريحهم، وصاروا أذلاء مستعبدين بعد أن كانوا السادة الحاكمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بيّن ذلك بقوله:
(7) (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنا في المحصنين والمحصنات من المؤمنين والمؤمنات، لهم عذاب موجع في الدنيا بإقامة الحد عليهم واللعن والذم من الناس، وفى الآخرة بعذاب النار وبئس القرار.
وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ».
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: « لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال عثرة مسلم أقال الله عثرته يوم القيامة ».
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا، ولا ترووا ما لا علم لكم به، ولا سيما حلائل رسول الله ﷺ فتهلكوا.
ثم كرر فضله ورحمته على عباده للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب فقال:
(8) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ولولا أن الله تفضل عليكم وأبقاكم بعد الخوض في الإفك ومكّنّكم من التلافي بالتوبة لهلكتم، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه.
وبعدئذ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال:
(9) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره، بإشاعتكم الفحشاء في الذين آمنوا، وإذا عتكموها فيهم، بروايتكم إياها عمن نقلها إليكم.
ثم ذكر سبب النهي فقال:
(وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر، فإنه لا يأمر إلا بهما، ومن هذا شأنه لا ينبغي اتباعه ولا طاعته.
ثم أكد منته على عباده فقال:
(وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) أي ولو لا فضل الله عليكم ورحمته بكم بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب وتغسل أدرانها ما طهر أحد منكم من ذنبه وكانت عاقبته النكال والوبال، ولعاجلكم بالعقوبة كما قال: « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ على ظهرها مِنْ دَابَّةٍ ».
(وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي ولكنّ الله جلت، قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب التي اجترحوها تفضلا منه ورحمة كما فعل بمن سلّم من داء النفاق ممن وقع في حديث الإفك كحسان ومسطح وغيرهما.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة، عليم بما في قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها، ومجازيكم بكل ذلك.
وفي هذا حث لهم على الإخلاص في التوبة، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية، وارتكاب الأوزار والآثام.
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي ولا يحلف من كان ذا فضل وسعة منكم أيها المؤمنون بالله، ألا يعطوا ذوي قرابتهم المساكين المهاجرين كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا وهاجر من مكة إلى المدينة وشهد مع رسول الله بدرا.
روي أن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قول في عائشة ما قال ذاك أنه بعد أن أنزلت براءة عائشة وطابت النفوس وتاب الله على من تكلم من المؤمنين في ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه - تفضل وله الحمد والمنة فعطّف الصّدّيق على قريبه مسطح وكان ابن خالته وكان مسكينا لا مال له وكان من المهاجرين في سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحدّ عليها.
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أي وليتركوا عقوبتهم على ذلك، بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم، وليعودوا لهم إلى مثل الذي كان لهم عليهم من الإفضال.
ثم رغبهم في العفو والتفضل فقال:
(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) أي ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضاله عليكم، والجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح الله عنك، فحينئذ قال الصديق: بلى والله نحب أن تغفر لنا ربّنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال والله لا أنزعها منه أبدا.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله غفور لذنوب من أطاعه واتبع أمره، رحيم به أن يعذبه على ما كان له من زلة قد استغفر منها وتاب إليه من فعلها.
وفي هذا ترغيب عظيم في العفو، ووعد كريم عليه بالمغفرة من الذنوب وحث على مكارم الأخلاق.
[سورة النور (24): الآيات 23 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
تفسير المفردات
المحصنات: العفيفات، الغافلات: أي عن الفواحش وهن النقيات القلوب اللاتي لا يفكّرن في فعلها، لعنوا: أي طردوا من رحمة الله في الآخرة وعذبوا في الدنيا بالحدّ، دينهم: أي جزاءهم ومنه « كما تدين تدان » الحق: أي الثابت الذي يحق لهم لا محالة، أن الله: أي وعده ووعيده، الحق: أي العدل الذي لا جور فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة وبين عقاب من اتهمها بالإفك وشديد عذابه يوم القيامة وأسهب في هذا - أعقب ذلك ببيان حكم عام وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور - فهو مطرود من رحمة الله، بعيد عن دار نعيمه، معذّب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها المؤمنات بالله ورسوله - يبعدون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، ولهم في الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم، فهم مصدر قالة السوء في المؤمنات، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والقدوة السيئة لمن يتكلم بها، فعليهم وزرها ووزر من تكلم بها كما ورد في الحديث: « من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ».
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولهم ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره يوم يجحدون ما اكتسبوا في الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول أو فعل، إذ ينطقها الله بقدرته، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ ».
عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: « إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول كذبوا، فيقال أهلك وعشيرتك، فيقول كذبوا، فيقال احلفوا فيحلفون، ثم يصمّهم الله فتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ثم يدخلهم النار ».
ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان، بل شهادة الإثبات والبيان، إذ كل ما يعمله الإنسان في الدنيا من قول أو فعل تنطبع له صورة على العضو الذي فعله، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على اللسان، واليد التي تمتد لفعل شيء، والرجل التي تخطو إلى عمل، كل ذلك يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته، فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات أيديهم وأرجلهم في قلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى ضبط أولئك المجرمين، فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل يكون كافيا جد الكفاية في إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغاة الظالمين.
(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي في هذا اليوم يوفيهم الله جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن ما كانوا يوعدون به في حياتهم الدنيا من العذاب هو الحق الذي لا شك فيه، ويزول عنهم كل ريب كان قد ألمّ بهم في الدار الأولى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: « اجتنبوا السبع الموبقات، قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » رواه الشيخان.
قال صاحب الكشاف: ولو قلّبت القرآن كله وفتّشت عما أوعد به العصاة لم تر أن الله قد غلّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعقاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه، على طرق مختلفة، وأساليب مفتنّة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا وتوعّدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، بأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفّيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله اهـ.
[سورة النور (24): آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
المعنى الجملي
بعد أن برأ سبحانه عائشة مما رميت به من الإفك، ثم ذكر أن رامى المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله - أردف ذلك دليلا ينفى الريبة عن عائشة بأجلى وضوح - ذاك أن السنة الجارية بين الخلق مبنية على مشاكلة الأخلاق والصفات بين الزوجين، فالطيبات للطيبين، والخبيثات للخبيثين، ورسول الله من أطيب الطيبين، فيجب كون الصّدّيقة من أطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم، والعادة الشائعة بين الخلق.
الإيضاح
(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال لا يتجاوزنهم إلى غيرهم.
(وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، لأن المجالسة من دواعى الألفة ودوام العشرة.
(وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) أي والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، لما قد عرفت من الأنس بمن يحاكيك في الصفات، ويجانسك في الفضل والكمال.
(وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والطيبون أيضا للطيبات منهن لا يتجاوزونهن إلى من عداهن.
وإذا كان رسول الله ﷺ من أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، استبان أن الصديقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات واستبان بطلان ما أشاعه المرجفون من أهل الإفك.
(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي أولئك الطيبون والطيبات ومنهم صفوان وعائشة مبرءون مما يقول الخبيثون والخبيثات من النساء.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة عن ذنوبهم التي اقترفوها من قبل، ورزق كريم عند ربهم في جنات النعيم.
[تنبيه ] هذه الآية الكريمة تشرح الغرائز والطباع، وتبين أن الإنسان بل هذا الوجود لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة، فالكرة الأرضية متجاذبة الأجزاء وكرة الهواء مطيعة لمجموعها، لما بينها من تناسب وتشابه في الصفات، وهكذا أخلاق الناس وصفاتهم إذا تشابهت اتفقوا، وهم يكونون يوم القيامة كذلك، لا يجتمعون إلا حيث يتفقون.
[سورة النور (24): الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
تفسير المفردات
حتى تستأنسوا: أي حتى تستأذنوا، إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت، وبدونه يستوحشون ويشق عليهم الدخول، تذكرون: أي تتعظون، أزكى: أي أطهر، جناح: أي حرج، متاع: أي حق تمتع ومنفعة كإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع، كحوانيت التجارة والفنادق والحمامات ونحوها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات الأجنبيات وحكم قذف الزوجات، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك وبسط ذلك غاية البسط، وكان مما يسهل السبيل إلى التّهمة في كل هذا وجود الخلوة بين رجل وامرأة - أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يوجد بحال تورث التّهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة، إلى أن الإنسان قد يكون في بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها.
روى عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار « أن امرأة قالت يا رسول الله: إني أكون في بيتي على الحال التي لا أحب أن ي راني عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتينى آت فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ».
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) أدب الله عباده المؤمنين بآداب نافعة في بقاء الود وحسن العشرة بينهم، ومن ذلك ألا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يطلعوا على عورات سواهم، ولا ينظروا إلى ما لا يحل لهم النظر إليه، ولا يقفوا على الأحوال التي يطويها الناس في العادة، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها إلى أن في هذا تصرفا في ملك غيرك فلابد أن يكون برضاه.
وينبغي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن له دخل وإلا انصرف، فقد ثبت في الصحيح أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس (يعنى أبا موسى) يستأذن؟ ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال ما أرجعك؟ قال إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي ﷺ يقول: « إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف ».
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي الاستئذان والتسليم والانتظار حتى يؤذن لكم خير من الدخول بغتة أو من الدخول على عادة الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حيّيتم صباحا، حيّيتم مساء، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد.
وقد أرشدكم ربكم إلى ذلك كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به.
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي فإن لم تجدوا فيها أحدا ممن يملك الإذن، بأن كان فيها عبد أو صبى فلا تدخلوها حتى يأذن لكم من يملكه وهو رب الدار.
وقد استثنى من ذلك ما إذا دعت الضرورة إلى الدخول فورا كإطفاء حريق أو منع حدوث جناية أو نحو ذلك.
(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي وإن قال لكم أهل البيت تستأذنون فيه ارجعوا فارجعوا، فإن الرجوع أطهر لكم في دينكم ودنياكم، لأن رب الدار قد يستوحش ويتأذى بوقوف غيره على بابه بعد منع الاستئذان، ولما في ذلك من الدناءة والتسكع على بيوت الناس، وربما ظن بأهل البيت سوء من وقوف الأجانب على أبوابهم.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي والله عليم بكل مقاصدكم ونواياكم من دخول البيوت ومجازيكم على ذلك.
ولما بين حكم البيوت المسكونة بين حكم البيوت غير المسكونة فقال:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي ليس عليكم أيها المؤمنون إثم ولا حرج أن تدخلوا بيوتا غير معدّة لسكنى قوم معينين، بل معدة ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان كالفنادق والحوانيت والحمامات ونحوها مما فيه حق التمتع لكم كالمبيت فيها وإيواء الأمتعة والبيع والشراء والاغتسال ونحو ذلك، لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيت وهو الاطلاع على عورات الناس والوقوف على أسرارهم - غير موجود فيها.
روي أن أبا بكر قال « يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت الآية ».
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي والله عليم بما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة، وما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس أو من قصد ريبة أو فساد.
وفي هذا من الوعيد الشديد ما لا يخفى.
[سورة النور (24): الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
تفسير المفردات
غض بصره: خفّض منه، والخمر: واحدها خمار وهو ما تغطى به المرأة رأسها (طرحة) والجيوب واحدها جيب: وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد، والبعولة: الأزواج واحدهم بعل، والإربة: الحاجة إلى النساء، والطفل: يطلق على الواحد والجمع، لم يظهروا: أي لم يعلموا عورات النساء لصغرهم.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعا للقيل والقال والاطلاع على عورات الناس وأسرارهم - أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غض البصر عن المحارم لمثل السبب المتقدم، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المفاسد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها.
الإيضاح
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين كفّوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، ولا تنظروا إلا ما يباح لكم النظر إليه، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرفوا أبصارهم عنه سريعا لما
رواه مسلم عن عبد الله البجلي قال: « سألت النبي ﷺ عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري ».
وروى أبو داود أن النبي ﷺ قال لعلى: « يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة ».
وفي الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ « إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال ﷺ: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ».
والحكمة في ذلك: أن في غض البصر سدا لباب الشر، ومنعا لارتكاب المآثم والذنوب، ولله در أحمد شوق حيث يقول: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) بمنعها من عمل الفاحشة، أو بحفظها من أن أحدا ينظر إليها، وقد جاء في الحديث: « احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ».
(ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي ما ذكر من غض البصر وحفظ الفرج أطهر من دنس الريبة وأنفع دينا ودنيا فقد قالوا: النظر بريد الزنا ورائد الفجور، ولله در شاعرهم:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء مادام ذا عين يقلّبها في أعين العين موقوف على الخطر
بسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) فلا يخفى عليه شيء مما يصدر منهم من الأفعال كإجالة النظر واستعمال سائر الحواس، وماذا يراد بذلك، فلتكونوا على حذر منه تعالى في كل ما تأتون وما تذرون.
وبعد أن أمر رسوله بأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم أمره بأن يأمر المؤمنات بذلك.
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء (ما بين السرة والركبة) وإذا نظرن إلى ما عدا ذلك بشهوة حرم، وبدونها لا يحرم، ولكن غض البصر عن الأجانب أولى بهن وأجمل لما روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة « أنها كانت عند رسول الله ﷺ وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله ﷺ احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله ﷺ: أوعمياوان أنتما؟ أولستما تبصرانه؟ ».
(وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) عما لا يحل لهن من الزنا والسّحاق ويسترنها حتى لا يراها أحد.
(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي ولا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل والخضاب، فلا يؤاخذن إلا في إبداء ما خفي منها كالسوار والخلخال والدّملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، لأن هذه الزينة واقعة في مواضع من الجسد (وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن) لا يحل النظر إليها إلا لمن استثنى في الآية بعد.
ولما نهى عن إبداء الزينة أرشد إلى إخفاء بعض مواضعها فقال:
(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) أي وليلقين خمرهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتى لا يرى منها شيء، وكان النساء يغطين رءوسهن بالخمر ويسدلها من وراء الظهر فتبدو نحورهن وبعض صدورهن كعادة الجاهلية فنهين عن ذلك، قالت عائشة: رحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها.
(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) أي قل للمؤمنات لا يظهرن هذه الزينة الخفيّة إلا لأزواجهن، فإنهم المقصودون بها والمأمورات نساؤهم بصنعها لهم، حتى إن لهم ضربهن على تركها، ولهم النظر إلى جميع بدنهن، أو لآباء النساء أو لآباء الأزواج أو لأبنائهن أو لأبناء أزواجهن أو لاخواتهن أو لأبناء الإخوة أو لأبناء الأخوات، لكثرة المخالطة بينهم وبينهن، وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولأن الطباع السليمة تأبى أن تفتتن بالقريبات، إلى أنهن محتاجات إلى صحبتهم في الأسفار للركوب والنزول.
(أو نسائهن) أي المختصات بهن بالصحبة والخدمة.
(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من الجواري، أما العبيد فقد اختلفوا فيهم، فقال قوم عبد المرأة محرم لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا، وله أن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم، وروى ذلك عن عائشة وأم سلمة، وقد روى أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها، وقال قوم هو كالأجنبي معها وهو رأى ابن مسعود والحسن وابن سيرين، ومن ثم قالوا لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، وسئل طاوس هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا، فأما رجل ذو لحية فلا.
(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) وهم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا غرض لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم إلى النساء، إما لأنهم طعنوا في السن ففنيت شهواتهم، وإما لكونهم ممسوحين قطعت منهم أعضاء التناسل.
(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي أو الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والقدرة على ملامسة النساء.
ثم نهى عن إظهار وسوسة الحلي بعد النهي عن إبداء مواضعه فقال:
(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي ولا يضربن بأرجلهن.
الأرض لتقعقع خلاخلهن، فإن ذلك مما يهيج الرجال ويورث ميلا إليهن، وللنساء أفانين في هذا، فقد يجعلن الخرز ونحوه في جوف الخلخال، فإذا مشين ولو هونا كان له رنين وصوت خاص، ومن الناس من تهيجه وسوسة الحلي أكثر مما تهيجه رؤيته (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج وترك دخول بيوت غيركم بلا استئذان ولا تسليم، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.
أخرج أحمد والبخاري والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة ».
ومن شرط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إليه، ورد الحقوق إلى أهلها، لا كما يظن الناس الآن أنها كلمة تلاك باللسان دون أن يكون لها أثر في القلب، ولا عزم على عدم العود، حتى إن كثيرا ممن يزعمون أنهم تابوا من الذنب يحكون ما فعلوه من الآثام على وجه الفخر والاستلذاذ بذكره، وهذا دليل على أنهم كاذبون في توبتهم مراءون في أفعالهم.
[سورة النور (24): الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
تفسير المفردات
الأيامى: واحدهم أيم وهو كما قال النضر بن شميل كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها بكرا كانت أو ثيبا، ويقال آمت المرأة وآم الرجل إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين، وكثر استعماله في الرجل إذا ماتت امرأته وفى المرأة إذا مات زوجها، والصالحين: أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه، والإماء: واحدهن أمة وهي الرقيقة غير الحرة، واسع: أي غني، وليستعفف: أي وليجتهد في العفة، لا يجدون: أي لا يتمكّنون من وسائله وهي المال والكتاب والمكاتبة: كالعتاب والمعاتبة يراد بها شرعا إعتاق المملوك بعد أداء شيء من المال منجّما أي في موعدين أو أكثر فيقول له كاتبتك على كذا درهما ويقبل المملوك ذلك، فإذا أدّاه عتق وصار أحق بمكاسبه، كما صار أحق بنفسه، والفتيات: واحدهن فتاة، ويراد بالفتى والفتاة لغة العبد والأمة، والبغاء: الزنا والتحصن: العفة، لتبتغوا: أي لتطلبوا، عرض الحياة الدنيا: أي الكسب وبيع الأولاد، مبينات: أي مفصّلات ما أنتم في حاجة إلى بيانه من الأحكام والآداب، مثلا: أي فصة عجيبة من قصص الماضين كقصة يوسف ومريم.
المعنى الجملي
لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج ونحوهما مما يفضى إلى السفاح أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامى، لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع، وحفظ الأنساب الذي يستدعى مزيد الشفقة على الأولاد وحسن تربيتهم ودوام الألفة بينهم، ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه، ثم رغّب في مكاتبة الأرقاء، ليصيروا أحرارا في أنفسهم وفي أموالهم يتزوجون كما يشاءون، وبعدئذ أردف ذلك النهي عن إكراه الإماء على الفجور إن أردن العفة، ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا.
ثم ختم هذا ببيان أنه أنزل عليكم في هذه السورة وفى غيرها آيات مبينات لكل ما أنتم في حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة، وعقوبات رادعة، وقصص عجيبة عن الماضين، وأمثال مضروبة، لتكون عبرة وذكرى لكم.
الإيضاح
(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) أي زوّجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر: أي من الرجال والنساء، والمراد بذلك، مدّيد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك، كإمدادهم بالمال، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة.
(وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي والقادرين والقادرات على النكاح والقيام بحقوق الزوجية من الصحة والمال ونحو ذلك.
والخلاصة - إن في الآية أمرا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية، وللسادة بتزويج العبيد والإماء، والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان لا على الوجوب، لأنه قد كان في عصر النبي ﷺ وفى سائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك أحد عليهم، والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خيفت الفتنة وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل أو المرأة.
ثم رغّب في الزواج بالفقير والفقيرة وألا يكون عدم وجدان المال حائلا عن إتمامه فقال:
(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون زواجها، ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح.
وكم يسر أتى من بعد عسر وفرّج كربة القلب الشجي
(وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي والله ذو سعة وغنى، فلا انتهاء لفضله ولا حد لقدرته، فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما، وهو عليم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
قال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغّبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم ووعدهم في ذلك الغنى.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله »
. وبعد أن بين حال القادرين على النكاح ووسائله، بين حال العاجزين عن تلك الوسائل فقال:
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وليجتهد في العفّة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله حتى يصل إلى بغيته من النكاح.
وقد جاء في الحديث الصحيح: « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » الباءة مؤن النكاح من مهر ونفقة وكسوة، والوجاء نوع من الخصاء يكون برضّ عروق الأنثيين مع بقاء الخصيتين كما هما، فشبه الصوم في قطعه شهوة النساء به.
(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجوما ليصيروا بعد أدائها أحرارا، ويكونون قادرين على الكسب وأداء ما كوتبوا عليه مع الأمانة والصدق - فكاتبوهم ويكونون بعد انتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارا في رقابهم وفي كسبهم.
ثم حث المؤمنين جميعا على تحرير الرقاب فقال:
(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي وآتوا أيها السادة المكاتبين شيئا من مال الله الذي أعطاكم وليس لكم فيه فضل، فإن الله ربكم ورب عبيدكم، وأموالكم ملكه، وأعطوا أيها الحكام المكاتبين سهومهم التي جعلها الله لهم في بيت المال في مصارف الزكاة بقوله (وَفِي الرِّقابِ) أي وفى تحرير الأرقاء.
وفي هذا حث لجميع المؤمنين على عتق الرقاب.
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: « ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله ».
ثم نهى المؤمنين عن السعي في جمع المال بسبل الحرام فقال:
(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ولا تكرهوا إماءكم على الزنا إن كنّ يردن التعفف والتحصن، التماسا لعرض الدنيا من مال وزينة ورياش.
وفي قوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) زيادة في تقبيح حالهم وتشنيع عليهم، فإن ذا المروءة لا يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه، فضلا عن أمرهن بذلك وإكراههن عليه، ولا سيما عند إرادة التعفف وتوافر الرغبة فيه.
والخلاصة - لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراه الإماء على البغاء، طلبا لمتاع سريع الزوال، وشيك الفناء والاضمحلال.
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها (مسيكة) وأخرى يقال لها (أميمة) كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله ﷺ فنزلت الآية.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ليأخذوا أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام ونزلت الآية.
ثم أبان أنهن إن أكرهن فالوزر على من أكرههن لا عليهن فقال:
(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ومن يكرههن على البغاء فإن الله غفور رحيم لهن من بعد إكراههن والذنب على المكره لهن، وكان الحسن إذا قرأ الآية قال: لهن والله، لهن والله.
وبعد أن فصّل هذه الأحكام وبيّنها امتنّ على عباده بذلك فقال:
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي ولقد أنزلنا آيات القرآن مبينات لما أنتم في حاجة إليه من الأحكام والآداب، كما أنزلنا قصصا من أخبار الأمم السالفة كقصة يوسف وقصة مريم وفيها شبه بقصص عائشة، وفيها عظة لمن اتقى الله وخاف عقابه وخشى عذابه.
وأثر عن علي كرم الله وجهه في وصف القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
[سورة النور (24): آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
تفسير المفردات
نور: أي ذو نور أي هو هاد أهل السموات والأرض، والمراد العالم كله، والمشكاة: لفظ حبشى معرّب يراد به الكوّة غير النافذة، الزجاجة: القنديل من الزجاج، والدري: المضيء المتلألئ منسوب إلى الدر، لا شرقية ولا غربية: أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شيء من الشروق إلى الغروب، يضرب الله الأمثال: أي يبين للناس الأشباه والأمثال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أنزل في هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس في صلاح أحوالهم في معاشهم ومعادهم من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق - بين أنه نور السموات والأرض بما بث فيهما من الآيات الكونية والآيات التي أنزلها على رسله دالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته من قدرة وعلم إلى نحو أولئك، هادية إلى صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة.
الإيضاح
(اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الله هاد أهل السموات والأرض بما نصب من الأدلة في الأكوان، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلال ينجون.
(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) أي مثل أدلته التي بثها في الآفاق وهدى بها من شاء من عباده كنور مشكاة فيها سراج ضخم ثاقب له الصفات الآتية.
(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي وذلك المصباح في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر.
(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي الزجاجة كأنها كوكب ضخم مضيء من دراري النجوم وعظامها كالزّهرة والمشتري.
(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي رويت ذبالته (فتيلته) بزيت شجرة زيتونة كثيرة المنافع، زرعت على جبل عال أو صحراء واسعة، فهي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها حاجب من حين طلوعها إلى حين غروبها، فزيتها أشد ما يكون صفاء.
فقوله: (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لا شرقية فحسب، ولا غربية فحسب، بل هي شرقية غربية تصيبها الشمس من حين طلوعها إلى حين غروبها كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر أحيانا ويقيم أخرى.
(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي هو لصفائه وبريقه ولمعانه كأنه يضىء بنفسه دون أن تمسه النار، لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا ثم رئى من بعد يرى كأن له شعاعا، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء - كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد نورا على نور وهدى على هدى.
قال يحيى بن سلام: قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له، لموافقته إياه، وهو المراد من وله ﷺ: « اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله ».
(نُورٌ عَلى نُورٍ) أي هو نور مترادف متضاعف، قد تناصرت فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم يبق بقية مما يقوّى النور ويزيده إشراقا ويمدّه بإضاءة.
ذاك أن المصباح إذا كان في مكان ضيق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينبعث فيه وينتشر، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفؤه.
(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يوفّق الله من يشاء من عباده لإصابة الحق بالنظر والتدبر وتوجيه الفكر لسلوك طريق الجادّة الموصلة إليه، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى سواء لديه جنح الليل الدّامس، وضحوة النهار الشامس. وعن على رضي الله عنه: « الله نور السماوات والأرض، ونشر فيهما الحق وبثه، فأضاء بنوره ».
(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أي ويسوق الله الأمثال للناس في تضاعيف هدايتهم بحسب ما تدعو إليه حالهم، لما فيها من الفوائد في النصح والإرشاد، إذ بها تتفتّق الأذهان للوصول إلى الحق، وبها تأنس النفس بتصويرها المعاني بصور المحسوسات التي تألفها وتدين بها، ولأمر ما كثرت في القرآن الكريم، فقلّما ساق حجاجا أو أقام دليلا إلا أردفه بالمثل، ليكون أدعى إلى الإقناع، وأرحى للاقتناع.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعطى هدايته من يستحقها ممن صفت نفوسهم، واستعدّوا لتلقى أحكام الدين وآدابه وكذلك يجعل وسائلها على ضروب شتى بحسب اختلاف أحوال عباده، لتقوم له الحجة عليهم.
وفي هذا وعد وبشارة لمن تدبر الأمثال ووعاها، ووعيد وإنذار لمن لم يتفكر فيها ولم يكترث بها، فإنه لا يصل إلى الحق ولا يهتدى لطريقه.
وخلاصة ذلك ما قاله ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، فكما يكاد الزيت الصافي يضىء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته ازداد ضوءا على ضوء - يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد هدى على هدى ونورا على نور.
[سورة النور (24): الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
تفسير المفردات
المراد بالبيوت: المساجد، وأذن: أمر، أن ترفع: أي أن تعظم وتطهّر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال، يسبح: أي ينزّه ويقدّس، الغدو والغداة: أول النهار، والآصال: واحدها أصيل وهو العشى: أي آخر النهار، تلهيهم: أي تشغلهم وتصرفهم، تجارة: أي نوع من هذه الصناعة، ولا بيع: أي فرد من أفراد البياعات وخصه بالذكر لأنه أدخل في الإلهاء، وإقام الصلاة: أي إقامتها لمواقيتها، وإيتاء الزكاة: أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين، واليوم: هو يوم القيامة، وتتقلّب فيه القلوب والأبصار: أي تضطرب وتتغير من الهول والفزع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر - جلّت آلاؤه - نوره لعباده وهدايته إياهم على أتم الوجوه - بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية.
الإيضاح
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي كمشكاة في بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية والمعنوية، كاللغو ورفث الحديث وأمر بذكره فيها وإخلاص العبادة له.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: « المساجد بيوت الله في الأرض، تضىء لأهل السماء كما تضىء النجوم لأهل الأرض ».
وعن عمرو بن ميمون قال: « أدركت أصحاب رسول الله ﷺ وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها ».
(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي ينزه الله ويقدسه في أول النهار وآخره، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم وتجاراتهم عن ذكر ربهم وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، فما عندهم ينفد، وما عند الله باق، ويؤدون الصلاة في مواقيتها على الوجه الذي رسمه الدين، ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم تطهيرا لأنفسهم من الأرجاس.
ونحو الآية قوله: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ » الآية. وقوله: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ».
ثم ذكر السبب في شغل أنفسهم بالعبادة فقال:
(يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي إنهم يخافون عقاب يوم تضطرب فيه الأفئدة من الهول والفزع، وتشخص فيه القلوب والأبصار من الهلع والحيرة والرعب والخوف ونحو الآية قوله: « وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ » وقوله: « إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ».
ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم فقال:
(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي يفعلون هذه القربات من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة مع الخوف من عذاب يوم القيامة - ليثيبهم الله على حسناتهم التي فعلوها، فرضها ونفلها، واجبها ومستحبها.
ونحو الآية قوله: « إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ».
وفي قوله (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) إيماء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم.
(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يجزيهم بأحسن الأعمال، ويضاعف لهم ما يشاء كما قال: « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها » وقال: « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ »
وقال ﷺ حكاية عن ربه: « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ».
ثم نبه إلى كمال قدرته وعظيم جوده وسعة إحسانه فقال:
(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفى به الحساب، فهم لما اجتهدوا في الطاعة، وخافوا ربهم أشد الخوف - جازاهم بالثواب العظيم على طاعتهم وزادهم الفضل الذي لا غاية له، لخوفهم من قهره وشديد عذابه.
[سورة النور (24): الآيات 39 الى 40]
والَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
تفسير المفردات
السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب ويحرى على وجه الأرض كأنه ماء، والقيعة والقاع: المنبسط من الأرض، والظمآن: شديد العطش، لجى: أي ذي لج (بالضم) واللجّ معظم الماء، والمراد بحر عميق الماء كثيره، يغشاه: أي يغطيه، لم يكد يراها: أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه أحوال المؤمنين وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبه يستمسكون بالعمل الصالح، وفى الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم - أردف ذلك بيان حال أضدادهم وهم الكفار، فذكر أنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران والبوار، وفى الدنيا في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وضرب لكلتا الحالين مثلا يوضحها أتم الإيضاح والبيان.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) شبه الأعمال الصالحة التي يعملها من جحدوا توحيد الله وكذبوا بهذا القرآن وبمن جاء به ويظنون أنها تنفعهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب في العاقبة آمالهم ويلقون خلاف ما قدّروا - بالسراب يراه من اشتد به العطش فيحسبه ماء فيطلبه ويظن أنه قد حصل على ما يبغى، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا - هكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعة منجيّة لهم من بأس الله، حتى إذا جاءهم العذاب يوم القيامة لم تنفعهم ولم تغنهم من عقابه إلا كما ينتفع بالسراب من اشتد ظمؤه، واحتاج إلى ما به يروى غلّته.
ثم بين شديد عقابه بقوله:
(وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي ووجد عقاب الله الذي توعد به الكافرين أمامه، وتحوّل ما كان يظنه نفعا عظيما إلى ضرر محقق وتجيئه الزبانية تعتله وتسوقه إلى جهنم وتسقيه الحمم والغساق.
ونحو الآية قوله: « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا ».
(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عبد عن حساب آخر.
وخلاصة ما سلف - إن الخيبة والخسران في الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال في الدنيا كصلة الأرحام، وإغاثة الملهوفين، وقرى الأضياف ونحو ذلك. وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم، وهم مع ذلك جاحدو ووحدانيته مكذبون لرسله، فما مثلهم إلا مثل من اشتد أوامه ورأى السراب فخاله ماء وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ورجع يخفّى حنين.
هذه حالهم في الآخرة، أما حالهم في الدنيا فكما قال:
(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي ومثل أعمالهم التي عملت على غير هدى مثل ظلمات مترادفة في بحر عميق ماؤه، بعيد غوره، يغطّيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب - فالظلمات هي أعمال الكافرين، والبحر اللجي قلوبهم التي غمرها الجهل، وتغشبتها الحيرة والضلالة، فلا تعقل ما في السكون من آيات، ولا تسمع عظة الناصحين، ولا تبصر حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض.
قال الحسن: الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وقال ابن عباس: هي ظلمة قلبه وبصره وسمعه.
والخلاصة - إن الكافر لشدة إصراره على كفره تراكمت عليه الضلالات، حتى إن أظهر الدلالات إذا ذكرت عنده لا يفهمها، فقلبه مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم.
(ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أي ما تقدم ذكره ظلمات متراكمة، فإن البحر يكون مظلم القعر جدا بسبب غور الماء، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كان فوق الماء سحاب يغطّى النجوم ويحجب أنوارها بلغت الظلمة حدا عظيما.
(إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي إذا أخرج الناظر يده، وهي أقرب ما يرى إليه، لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُو رًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أيومن لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة فما له هداية من أحد.
ونحو الآية قوله: « وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ » وقوله: « وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ».
وخلاصة ذلك - من لم يوله الله نور توفيقه ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له.
[سورة النور (24): الآيات 41 الى 42]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
تفسير المفردات
يسبح: أي ينزه ويقدس، صافات: أي باسطات أجنحتها في الهواء، المصير: المرجع.
المعنى الجملي
لما وصف سبحانه قلوب المؤمنين بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة - أردف ذلك ذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعة.
الإيضاح
(1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي ألم تعلم بالدليل أن الله ينزهه آنا فآنا في ذاته وصفاته وأفعاله جميع ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم، تنزيها تفهمه أرباب العقول السليمة، إذ كل المخلوقات في وجودها وبقائها دالة على وجود خالق لها متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص.
وخص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال، من جرّاء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلّوا بالتنزيه، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوّا كبيرا.
كما ذكر الطير مع دخولها في جملة ما في الأرض، من قبل أنها غير مستقرة فيها، ولاستقلالها ببديع الصنع وإنبائها عن كمال قدرة خالقها ولطف تدبير مبدعها، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف في الجو وتتحرك كيف تشاء، وإرشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا - حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد، وحكمة المبدع المعيد.
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي كل مصلّ منهم ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم طاعتها ومعصيتها، وعلمه محيط بها ومجازيهم عليها.
وقد يكون المعنى - إن كل مصلّ ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما، وليس بالبعيد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
انظر إلى النحل كيف تبنى بيوتها السداسية الأشكال التي لا يتمكن من بنائها فطاحل المهندسين إلا بدقيق الآلات، وإلى العنكبوت كيف تفعل الحيل اللطيفة لاصطياد الذباب، وإلى الدبّ يستلقى في ممر الثور، حتى إذا قرب منه ورام نطحه شبث ذراعيه بقرنيه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي إن لله تعالى ملك السموات والأرض وهو الحاكم المتصرف فيهما إيجادا وإعداما بدءا وإعادة، وإليه وحده مصيركم ومعادكم، فيوفيكم أجور أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، فأحسنوا عبادته، واجتهدوا في طاعته، وقدموا لأنفسكم صالح الأعمال.
[سورة النور (24): الآيات 43 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
تفسير المفردات
زجى: يسوق برفق وسهولة، يؤلف: أي يجمع بين أجزائه وقطعه، ركاما: أي متراكما بعضه فوق بعض، الودق: المطر، من خلاله: أي من فتوقه التي حدثت بالتراكم، واحدها خلل كجبال وجبل، من جبال: أي من قطع عظام تشبه الجبال، والسنا: الضوء، يذهب بالأبصار: أي يخطفها لشدة ضوئه وسرعة وروده، وهو كقوله في البقرة « يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ » يقلب الله الليل والنهار: أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر ذاك حتى يعتدلا ويغير أحوالهما بالحر والبرد، لأولى الأبصار: أي لأهل العقول والبصائر.
الإيضاح
(3) هاتان الآيتان دليلان آخران على وحدانية الله وقدرته.
وخلاصتهما - انظر أيها الرسول الكريم إلى السحاب، ويسوقه الله بقدرته أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، فينزل المطر من فتوقه، وحينا ينزل منه قطعا كبيرة من البرد كأنها الجبال، فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد إذا كان فوق الحاجة، ويصرفه عمن يشاء أن يصرفه، وإلى ما في هذا السحاب من برق يضىء بشدة وسرعة حتى ليكاد يخطف الأبصار، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة، إذ فيه توليد الضد من الضد، ففيه توليد النار من الماء.
وانظر أيضا إلى اختلاف الليل والنهار وتقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، إن في هذا لعبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تأمل فيه ممن له عقل، فهو واضح الدلالة على أن له مدبرا ومقلّبا لا يشبهه شيء.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار » أخرجه البخاري ومسلم.
[سورة النور (24): آية 45]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
الإيضاح
(4) هذا هو رابع الأدلة على التوحيد، فقد استدل بأحوال السماء والأرض، وبالآثار العلوية، وهنا استدل بأحوال الحيوان فقال:
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) أي والله خلق كل حيوان يدبّ على الأرض من ماء هو جزء مادته.
وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المواد، لظهور احتياج الحيوان إليه، ولا سيما بعد كمال تركيبه، ولامتزاج الأجزاء الترابية به.
ثم فصل أقسام الحيوان مما يدب على وجه الأرض فقال:
(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والسمك وغيرهما من الزواحف، وسمى حركتها مشيا مع كونها تزحف زحفا، إشارة إلى كمال القدرة، وأنها مع عدم وجود آلة المشي كأنها تمشى.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والوحوش.
ولم يذكر سبحانه ما يمشى على أكثر من ذلك كالعناكب وغيرها من الحشرات، لدخوله في قوله:
(يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ) مما ذكر ومما لم يذكر، مع الاختلاف في الصور والأعضاء، والحركات والطبائع، والقوى والأفاعيل.
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء - لذو قدرة فلا يتعذر عليه شيء أراده.
وعلى الجملة فاختلاف هذه الحيوانات في الأعضاء والقوى، ومقادير الأبدان والأعمال والأخلاق - لا بد أن يكون بتدبير مدبّر حكيم، مطلع على أحوالها وأسرار خلقها، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، تعالى الله عما يقول الجاحدون علوا كبيرا
[سورة النور (24): آية 46]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
المعنى الجملي
بعد أن ساق سبحانه ما يدل على وجوده من أحوال السماء والأرض والآثار العلوية وأحوال الحيوان - ذكر هنا أن هذه وغيرها آيات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون لا خفاء فيها.
الإيضاح
(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي لقد أنزلنا عليك دلائل واضحات على طريق الحق والرشاد، لكن لا يصل إلى فهمها إلا من أوتى بصيرة نيرة، وفطرة سليمة، تضىء له الفكر حتى يسير على نهج الحق ويبتعد عن الغي والضلال، ومن ثم قال:
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي والله يرشد من يشاء إلى الطريق الذي لا عوج فيه، وهو إخلاص العبادة له وحده والإنابة إليه.
[سورة النور (24): الآيات 47 الى 54]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
تفسير المفردات
يتولى: أي يعرض، مذعنين: أي منقادين، مرض: أي فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال، ارتابوا: أي شكّوا في نبوّتك، يحيف: أي يجور، الظالمون: أي الذين يريدون ظلم الناس وجحد حقوقهم، ويخشى الله: أي فيما صدر منه من الذنوب في الماضي، ويتقه: أي فيما بقي من عمره، جهد أيمانهم: أي أقصى غايتها من قولهم: جهد نفسه إذا بلغ أفصى وسعها وطاقتها، تولوا: أي تتولوا (بحذف إحدى التاءين).
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتمّ بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون: آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون صد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بيّن بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدّعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبّوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والإيمان لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم: أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتمونى اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله ﷺ ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ﷺ فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي: قضى لي النبي ﷺ فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال بلى، فقال مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ﷺ.
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي ويقول هؤلاء المنافقون: صدّقنا بالله وبالرسول وأطعنا الرسول، ثم يخالفون ذلك فيعرضون عن طاعة الله ورسوله ضلالا منهم عن الحق، وما أولئك بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان، بل هم ممن في قلوبهم مرض، وقد مرنوا على النفاق، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وخلاصة ذلك - لا يدخل في زمرة المؤمنين من يقول آمنا بالله والرسول وأطعنا، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة وينحاز إلى غير المؤمنين.
ثم بين هذا التولّى بقوله:
(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي وإذا دعى هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله - أعرضوا عن قبول الحق واستكبروا عن اتباع حكمه، لأنه لا يحكم إلا بالحق.
ونحو الآية قوله: « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ».
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا إلى الرسول مطيعين، لعلهم بأنه يحكم لهم، لأنه لا يحكم إلا بالحق، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد أن حكمه الحق، بل لأنه وافق هواهم، ومن جرّاء هذا لما خالف الحقّ قصدهم عدلوا عنه إلى غيره.
ثم فصل ما يحتمل أن يكون السبب في عدولهم عن قبول حكمه ﷺ بقوله:
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟) أي أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه ﷺ أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق؟ أم سببه أنهم ارتابوا وشكّوا في نبوته عليه السلام على ظهور أمرها؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم؟
وخلاصة ذلك - لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق، أو عروض شك في الدين، أو خوف من أن يجور الله ورسوله عليهم، وأيا كان الأمر فهو كفر وضلال، والله عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض.
ثم أبطل السببين الأولين وأثبت الثالث فقال:
(بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب، فهم ما عدلوا إلا لما في قلوبهم من المرض والنفاق، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم ومعصيتهم له فيما أمرهم به من الرضا بحكم رسوله ﷺ فيما أحبّوا وكرهوا، والتسليم لقضائه.
وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق بين صفات المؤمن الكامل فقال:
(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعاهم الداعون إلى حكم الله ورسوله فيما بينهم وبين خصومهم - سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم، وأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مخوف.
وبعد أن رتب الفلاح على هذا النوع من الطاعة أتبعه ببيان أن كل طاعة لله ورسوله موجبة للفوز فقال:
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه، ويخش الله فيما صدر منه من الذنوب فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي، ويتقه في مستأنف أموره، فأولئك الذين وصفوا بكل هذا هم الفائزون برضاه عنهم يوم القيامة، والآمنون من عذابه.
ثم حكى سبحانه نوعا آخر من أكاذيب المنافقين بقوله:
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) أيوحلفوا بالله جاهدين أيمانهم بالغين غايتها - لئن أمرتهم بالخروج للجهاد والغزو ليلبّنّ الطلب وليخرجنّ كما أمرت.
والخلاصة - إنهم أغلظوا الأيمان وشددوها في أن يكونوا طوع أمرك ورهن إشارتك وقالوا: أينما تكن نكن معك، فإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا.
فرد الله عليهم وزجرهم عن التفوه بهذه الأيمان الفاجرة وأمره أن يقول لهم:
(قُلْ لا تُقْسِمُوا) أي قل لهم: لا تحلفوا، فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى قسم ويمين لوضوح كذبه.
ثم علل النهي عن الحلف بقوله:
(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أيلا تقسموا لأن طاعتكم معروفة لنا، فهي طاعة باللسان فحسب من غير مواطأة القلب لها، ولا يجهلها أحد من الناس.
ونحو الآية قوله: « يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ » وقوله: « اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ».
ثم هددهم وتوعدهم على أيمانهم الكاذبة وأنه مجازيهم على أعمالهم السيئة، ولا سيما ذلك النفق المفضوح فقال:
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أيإنه تعالى لا تخفى عليه خافية من ظاهر أعمالكم وخافيها، فيعلم ما تظهرونه من الطاعة المؤكدة بالأيمان الكاذبة، وما تبطنونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين ونحو ذلك من أفانين الشر والفساد التي دبّرتموها.
ولما نبه سبحانه إلى خداعهم وأشار إلى عدم الاغترار بأيمانهم - أمر بترغيبهم وترهيهم مشيرا إلى الإعراض عن عقوبتهم بقوله:
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي مرهم باتباع كتاب الله وسنة رسوله، وفى هذا إيماء إلى أن ما أظهروه من الطاعة ليسوا منها في شيء.
ثم أكد الأمر السابق، وبالغ في إيجاب الامتثال به، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي فإن تتولوا عن الطاعة بعد أن أمركم الرسول بها، فما ضررتم الرسول بشىء، بل ضررتم أنفسكم، لأنه عليه ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد فعل، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة، فإن أنتم لم تفعلوا وتولّيتم فقد عرّضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم.
(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه - تهتدوا إلى الحق الموصّل إلى كل خير، المنجّى من كل شر، وما الرسول إلا ناصح وهاد ومبلّغ لكم، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب، وإن خالفتموه أوقعتم أنفسكم في الهلكة.
والخلاصة - إن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة، وقد بقي ما يجب عليكم أن تفعلوه.
ونحو الآية قوله: « فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ » وقوله: « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ».
[سورة النور (24): آية 55]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
المعنى الجملي
بعد أن بيّن أن من أطاع الرسول فقد اهتدى إلى الحق، ومن اهتدى إلى الحق فجزاؤه دار النعيم - أردف ذلك وعده الكريم بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين لله ورسوله خلفاء في الأرض، ويؤيدهم بالنصرة والإعزاز، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمنا، فيعبدون الله وحده وهم آمنون، ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك فقد عصى ربه، وكفر أنعمه.
روى الطبراني والحاكم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: « لما قدم رسول الله ﷺ وصحبه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ » فنزلت الآية.
الإيضاح
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وعد الله المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم - ليورثنّهم أرض المشركين من العرب والعجم، وليجعلنهم ملوكها وساستها، كما استخلف بني إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة وجعلهم ملوكها وسكانها.
وقد وفى سبحانه بوعده، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس في مصر، والنجاشي ملك الحبشة.
ولما قبض ﷺ إلى الرفيق الأعلى قام بالأمر من بعده الخلفاء الراشدون، فنهحوا منهجه، وافتتحوا كثيرا من المشرق والمغرب، ومزّقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستعبدوا أبناء القياصرة، وصدق
قول رسوله « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ».
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي وليجعلنّ دين الإسلام راسخا قويا ثابت القدم، ويعظم أهله في نفوس أعدائه الذين يواصلون الليل بالنهار في التدبير لإطفاء أنواره، لتعفو آثاره.
(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) أي وليغيرنّ حالهم من الخوف إلى الأمن.
قال الربيع من أنس: « كان النبي ﷺ وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله: أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله ﷺ: لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة، فأنزل الله « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا » إلى آخر الآية.
ونحو الآية قوله: « وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ».
ثم أتبع ذلك بتعليل التمكين وما بعده بقوله:
(يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) أي يعبدوننى غير خائفين أحدا غيري.
(وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي ومن جحد هذه النعم فأولئك هم الذين أنكروا فضل المنعم بها، وتناسوا جليل خطرها.
[سورة النور (24): الآيات 56 الى 57]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
تفسير المفردات
معجزين في الأرض: أي جاعلين الله عاجزا عن إدراكهم وإهلاكهم وإن هربوا في الأرض جميعها.
المعنى الجملي
بعد أن بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم في الأرض، ويجعل لهم من بعد الخوف أمنا - أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، شكرا له على ما أنعم به عليهم، وإحسانا إلى عباده البائسين الفقراء كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزة وضعفهم قوة، ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق، مع كثرة عدد عدوهم وعددهم، وبعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار، وبئس القرار.
الإيضاح
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأقيموا أيها الناس الصلاة على الوجه الذي رسمه الله في مواقيتها ولا تضيعوها، وآتوا الزكاة التي فرضها على أهلها، لما فيها من الإحسان إلى الفقير والمسكين وذوي البؤس والحاجة، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه، لعل ربكم أن يرحمكم فينجيكم من شديد عذابه.
ثم بين أن الكافرين سيحل بهم النكال، ولا يجدون مهربا مما أوعدهم به ربهم فقال:
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي أيها الرسول لا تضّنّ الكافرين يجدون مهربا في الأرض إذا أردنا إهلاكهم، بل نحن قادرون على أخذهم والبطش بهم متى أردنا، والكلام من وادي قولهم: (اسمعي يا جاره).
وبعدئذ بين مآلهم في الآخرة فقال:
(وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي كما أنا سنضيّق عليهم في الدنيا وننكّل بهم، ولا يفلتون من عذابنا - سنجعل عاقبة أمرهم نارا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى.
والخلاصة - إنه سيلحقهم سخطنا في الدنيا، وسينالهم الذل والصغار، وسيكون مصيرهم في الآخرة سعيرا وحميما وغساقا، جزاء وفاقا، إنهم كذبوا بآياتنا كذابا.
[سورة النور (24): الآيات 58 الى 60]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
تفسير المفردات
ما ملكت أيمانكم: يشمل العبيد والإماء أي الذكران والإناث، الحلم: بسكون اللام وضمها أي وقت البلوغ إما بالاحتلام، وإما ببلوغ الخامسة عشرة سنة من حلم بفتح اللام، تضعون: أي تخلعون، الظهيرة: وقت اشتداد الحرّ حين منتصف النهار، والعورات: أي الأوقات التي يختل فيها تستركم، من قولهم: أعور الفارس: إذا اختلت حاله. جناح: أي إثم وذنب، طوافون عليكم: أي يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية، القواعد: واحدها قاعد، وهي العجوز، لا يرجون نكاحا: أي لا يطمعن فيه لكبر سنهن، والتبرج: التكلف في إظهار ما يخفى من الزينة، من قولهم: سفينة بارج، إذا كان لا غطاء عليها.
المعنى الجملي
بعد أن نهى فيما سلف عن دخول الأجانب في البيوت إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن في ذلك الخير كل الخير لهم، فإن لم يجدوا فيها أحدا رجعوا لما لذلك من كبير الأثر في المجتمع الإسلامي، بصيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والأنساب؛ استثنى في هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، وبين أن الاستئذان لا يكون في جميع الأوقات، بل في ثلاث أوقات هي عورات لأرباب البيوت، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ في الستر، ثم ذكر أن النساء الطاعنات في السن إذا لم يطمعن في الزواج فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة.
روي أن سبب نزول الآية « أن رسول الله ﷺ بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج، وكان عمر نائما فدقّ عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس، فانكشف منه شيء، فقال: لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله ﷺ فوجد الآية قد نزلت فخرّ ساجدا » وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله عنه للوحي.
وقيل إن السبب ما روي من أن أسماء بنت أبى مرشد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله ﷺ فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) أيلا يدخل أيها المؤمنون في بيوتكم عبيدكم وإماؤكم ثلاث مرات في ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن: قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم وليس ثياب اليقظة، وكل ذلك مظنة انكشاف العورة، وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، لأنه وقت خلع ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم.
وخص هذه الأوقات الثلاثة، لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب والالتحاف باللحاف.
وهكذا حكم حال الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم.
ثم علل طلب الاستئذان بقوله:
(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي لأن هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم يختل فيها التستر عادة.
وبعد أن بين حكم هذه الأوقات الثلاث بين حكم ما عدا ذلك فقال:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ) أي ليس عليكم معشر - أرباب البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء ولا على الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم - حرج ولا إثم في غير هذه العورات الثلاث.
والخلاصة - لا حرج ولا إثم على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاث - أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.
ثم علل الإباحة في غيرها بقوله:
(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي هؤلاء المماليك والصبيان الصغار يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن، لأنهم يخدمونهم، أو لاحتياج الأقارب إليهم، كما أن السادة والأقارب يطوفون على ذوي قرابتهم ومماليكهم إذا عرضت لهم حاجة إليهم.
ثم بين فضله على عباده في بيان أحكام دينهم لهم فقال:
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ومثل هذا التبيين لتلك الأحكام يبين لكم شرائع دينكم وأحكامه، والله عليم بما يصلح أحوال عباده، حكيم في تدبير أمورهم، فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم في المعاش والمعاد.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » الآية، وقوله في النساء: « وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى » الآية، وقوله في الحجرات: « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ».
وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في العورات الثلاث التي أمر الله بها في القرآن فقال: إن الله ستّير يحب الستر، كأن الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات، ثم بسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الجبال فرأوا أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به اهـ.
ولما بين الله حكم الأرقاء والصبيان الذين هم أطوع للأمر وأقبل لكل خير - أتبعه بحكم البالغين الأحرار بقوله:
(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وإذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم الأحرار سنّ الاحتلام وهو خمس عشرة سنة فلا يدخلوا عليكم في كل حين إلا بإذن لا في أوقات العورات الثلاث ولا في غيرها، كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.
وذكر الله في هذه الآية حكم الأطفال إذا بلغوا ولم يذكر حكم ما ملكت أيماننا مع أن ما قبلها فيه ذكر المماليك والأطفال - لأن حكم ما ملكت اليمين وحد كبارهم، صغارهم، وهو الاستئذان في الساعات الثلاث التي ذكرت في الآية قبل.
ثم أكد نعمه عليهم ببيان أحكام دينهم بقوله:
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي كما بين لكم ما ذكر غاية البيان، يبين لكم ما فيه سعادتكم في دنياكم وآخرتكم، وهو العليم بأحوال خلقه، الحكيم فيما يدبر لهم.
ولما بين سبحانه حكم الحجاب حين إقبال الشباب أتبعه بحكمه حين إدباره فقال:
(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي والنّساء اللواتى قعدن عن الولد كبرا، وقد يئسن من التبعل فلا يطمعن في الأزواج، فليس عليهن إثم ولا حرج أن يخلعن ثيابهن الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار إذا كنّ لا يبدين زينة خفية كشعر ونحر وساق لدى المحارم وغير المحارم من الغرباء.
وخلاصة ذلك - لا جناح على القواعد من النساء أن يجلسن في بيوتهن بدرع وخمار ويضعن الجلباب، ما لم يقصدن بذلك الزينة وإظهار ما يجب إخفاؤه - هذا إذا لم يكن فيهن بقية من جمال تورث الشهوة، فإن كان فيهن ذلك فلا يدخلن في حكم الآية.
(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) أي وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فلبسنها كان ذلك خيرا لهن من خلعها، لتباعدهن حينئذ عن التّهمة، ولقد قالوا: لكل ساقطة في الحي لاقطة.
ثم توعد من يخالف تلك الأوامر فقال:
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع بما يجرى بينهن وبين الرجال من الأحاديث، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن، فاحذروا أن يسوّل لكم الشيطان مخالفة ما به أمر، وعنه نهى.
[سورة النور (24): آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
تفسير المفردات
الحرج لغة: الضيق، ويراد به في الدين الإثم، ما ملكتم مفاتحه: أي ما كان تحت تصرفكم من بستان أو ماشية بطريق الوكالة أو الحفظ، والصديق: يطلق على الواحد والجمع كالخليط والعدو، جميعا: أي مجتمعين، أشتاتا: أي متفرقين، واحدهم شتيت، على أنفسكم: أي على أهل البيوت، طيّبة: أي تطيب بها نفس المستمع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن للمماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث بلا استئذان ولا إذن من أهل البيت - ذكر هنا أنه لا حرج على أهل هذه الأعذار الثلاثة في تركهم للجهاد وما يشبهه، وذلك يستلزم عدم الاستئذان منه ﷺ فلهم القعود من غير استئذان ولا إذن، كما لا حرج عمن ذكروا بعدهم في الأكل من البيوت المذكورة في الآية.
قال صاحب الكشاف: والكلام على هذا التفسير صحيح لالتقاء الطائفتين في أن كلا منهما منفى عنه الحرج، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار في رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاجّ أن تقدّم الحلق على النحر اهـ.
قال الحسن: أنزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد وكان أعمى.
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عمرو، وكان قد خرج مع رسول الله ﷺ غازيا وخلف مالك بن يزيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك.
الإيضاح
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم: قاله عطاء وزيد بن أسلم.
ونحو الآية قوله في سورة براءة: « لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد من الحرج المنفي في الآية الحرج في الأكل ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: « وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام. فأنزل الله هذه الآية. والمعنى على هذه الرواية: ليس في مؤاكلة الأعمى ولا ما بعده حرج.
(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، ويشمل ذلك بيوت الأولاد، لأن بيت الولد كبيته لقوله ﷺ « أنت ومالك لأبيك »
وقوله « إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه ».
وفائدة ذكر قوله: (عَلى أَنْفُسِكُمْ) الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن، فقد كثر إقحام (النفس) في ذوي القدر كقوله: « كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » ولم يقل: كتب ربكم عليه الرحمة، وقوله في الحديث القدسي « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي » ولم يقل: حرمت الظلم علي وذكر هذا الحكم وهو معلوم، ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساويه ما بعده في الحكم.
(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) لما علم بالعادة أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب.
(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته، فلا حرج عليه أن يأكل من ثمر الضيعة ويشرب من لبن الماشية، ولكن لا يحمل ولا يدّخر، وهذا إذا لم يجعل له أجرا على ذلك، فإن جعل له أجرا فلا يحل له أكل شيء منها.
(أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي أو بيوت أصدقائكم الذين يصدقونكم المودة وتصدقونهم، هذا إذا علم رضاهم بذلك بالإذن أو بشاهد الحال، ولا فرق بينهم وبين غيرهم إذا وجد الإذن.
قال ابن زيد: هذا شيء قد انقطع، إنما كان في أوّله ولم يكن لهم ستور أبواب، أو كانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، وربما وجد الطعام وهو جائع، فسوّغ له أن يأكل منه، ثم قال ذهب ذلك اليوم، البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا اهـ.
وعلى هذا، فالمعنى يجوز الأكل من بيوت هؤلاء وإن لم يحضروا إذا علم رضاهم به بصريح اللفظ أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة.
وإنما خص هؤلاء بالذكر، لأنهم اعتادوا التبسط بينهم، والرضا فيهم محقق غالبا.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه. من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ.
وقيل لأفلاطون: من أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال لا أحب أخي إلا إذا كان صديقى، ولكن إني هو؟ فقد أثر عن هشام بن عبد الملك أنه قال: نلت مانلت حتى الخلافة، وأعوزنى صديق لا أحتشم منه.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا) أي لا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، روى عن ابن عباس والضحاك وقتادة أنها نزلت في بنى ليث ابن عمرو بن كنانة تحرّجوا أن يأكلوا طعامهم متفرقين، وكان الرجل منهم يمكث طوال يومه لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله إلى الرواح، وقد تكون معه الإبل الحفّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، وفى مثل هذا يقول حاتم:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي
وفي الحديث: « شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده »
وإنما ذمّ هذا لأنه بخل بالقرى.
ثم شرع سبحانه يبين ما ينبغي رعايته حين دخول البيوت بعد أن ذكر الرخصة فيه فقال:
(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت فليسلم بعضكم على بعض.
وفي التعبير عن أهل تلك البيوتات (بأنفسكم) إيماء إلى السبب الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت، وأنه إنما كان لأن الداخل فيها كأنه داخل في بيته، لما بينهما من قرابة أو نحوها.
(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) أي حيّوا تحية ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه، يرجى بها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع.
وعن جابر بن عبد الله قال: « إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة » أخرجه البخاري وغيره.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: أوصاني النبي ﷺ بخمس خصال قال: « يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وسلّم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت (يعنى بيتك) فسلم على أهلك يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأوّابين قبلك، يا أنس، ارحم الصغير، ووقّر الكبير، تكن من رفقائى يوم القيامة ».
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هكذا يفصّل الله لكم معالم دينكم، كما فصّل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه، لكي تفقهوا أمره ونهيه وأدبه، وبذا تفوزون بسعادة الدارين، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم.
[سورة النور (24): الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
تفسير المفردات
أمر جامع: أي خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب والآراء كقتال عدو أو تشاور في حادث قد عرض، والتسلل: الخروج من البيت تدريجا وخفية، واللواد والملاوذة: التستر، يقال لاذ فلان بكذا، إذا استتر به، والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله، فتنة: أي بلاء وامتحان في الدنيا، عذاب أليم: أي عذاب مؤلم موجع في الآخرة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول أمرهم بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول ﷺ كتشاور في قتال أحد أو في حادث عرض، وبيّن أن من يفعل ذلك فهو من كاملى الإيمان، ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه، ثم أمر المؤمنين أن يبجّلوا نبيهم ولا يسموه باسمه بل يقولوا يا نبي الله، ويا رسول الله، وليحذروا أن يخالفوا أمره وسنته وشريعته، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي ﷺ قال: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ».
الإيضاح
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي ما المؤمنون حق الإيمان إلا الذين صدقوا الله ورسوله، وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر قد نزل، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له حتى يستأذنوا الرسول ﷺ وهذا أدب على نهج سابقه، فكما أرشدهم من قبل إلى الاستئذان حين الدخول، أمرهم بالاستئذان حين الانصراف، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع.
روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة ».
ولما كان الإذن كالدليل على كمال الإيمان والمميّز للمخلص من غيره أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إن الذين لا ينصرفون إذا كانوا معك أيها الرسول في أمر جامع إلا بإذنك لهم، طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما أتيتهم به من عنده - أولئك هم المؤمنون حقا.
ولما ذكر ما يلزم المؤمن من الاستئذان أعقبه بما يفعله الرسول حينئذ فقال:
(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) أي فإذا استأذنوك لبعض ما يعرض لهم من مهامّ أمورهم فأذن لمن شئت منهم أن ينصرف لقضاء ما عرض له، بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها، كما وقع لعمر رضي الله عنه حين خرج مع النبي ﷺ في غزوة تبوك، حيث استأذن في الرجوع إلى أهله فأذن له ﷺ وقال له: ارجع فلست بمنافق.
(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وادع الله أن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم، إنه غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
وفي هذا إيماء إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر قوي - فيه بعض الملامة لما فيه من تقديم شئون الدنيا على أمور الآخرة، كما أن فيه احتفالا برسوله ﷺ إذ جعل الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا إلى الاستغفار، فضلا عن الذهاب بلا إذن، ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان لأي أمر مهما كان، مهمّا كان أو غير مهمّ، على أنه علق الإذن بالمشيئة.
وبعد أن ظهر في هذه السورة شرف الرسول، ولا سيما في هذه الآية التي بهرت العقول - أردف هذا ما يؤكده فقال:
(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) أي لا تقيسوا أيها المؤمنون دعاءه عليه السلام إياكم بدعاء بعضكم بعضا في المساهلة والرجوع من مجلسه بغير ستئذان، فإن هذا محرم عليكم.
ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان فقال:
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذًا) أي قد يعلم الله الذين يخرجون متسللين من المسجد في الخطبة واحدا بعد واحد من غير استئذان خفية مستترين بشىء، وإن عملهم هذا إن خفي على الرسول ﷺ فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك، ولديه الجزاء على ما يفعلون.
روى أبو داود أنه كان من المنافقين من يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس في المسجد فإذا استأذن أحد من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به فأنزل الله الآية.
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فليتق الله من يفعلون ذلك منكم، فينصرفون عن رسول الله بغير إذنه، أن تصيبهم محنة وبلاء في الدنيا أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع في الآخرة، بأن يطبع الله على قلوبهم، فيتمادوا في العصيان ومخالفة أمر الرسول، فيدخلهم النار وبئس القرار.
والآية تعم كل من خالف أمر الله وأمر رسوله وجمد على التقليد من بعد ما تبين له الهدى، وظهر له الصواب من الخطأ.
وبعد أن أقام الأدلة على أنه نور السموات والأرض، ثم حذر كل مخالف لرسوله ﷺ - ختم السورة ببيان أنه المالك للموجودات بأسرها، خلقا وملكا، وتصرفا وإيجادا، وإعداما بدءا وإعادة، فقال:
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وإنه عالم بما يعمل العباد كما قال: « وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » وقال تعالى: « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ؟ ».
ثم هدّد وتوعد فقال:
(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي ويوم يرجع الخلائق إلى ربهم حين العرض والحساب يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير، وكبير وصغير كما قال: « يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ »
وقال: « وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا » وبعدئذ ذكر ما هو كالدليل على ما سلف بقوله:
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه سينبئهم بما عملوا في حياتهم الأولى، لأنه ذو علم بكل شيء وإحاطة به وهو موف كل عامل أجر عمله، يوم يرجعون إلى حكمه، إذ لا حكم يومئذ إلا هو.
عن عقبة بن عامر قال: « رأيت رسول الله ﷺ وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة النور، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول بكل شيء بصير » أخرجه الطبراني وغيره، قال السيوطي بسند حسن.
وصلّ ربنا على محمد النبي الأمي وعلى آله.
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
(1) عقوبة الزاني والزانية.
(2) عقوبة قاذفى المحصنات الغافلات المؤمنات.
(3) حكم قذف الزوجات.
(4) قصص الإفك وبراءة أم المؤمنين عائشة.
(5) آداب الزيارة.
(6) أمر المؤمنين بغضّ الأبصار وحفظ الفروج.
(7) نهى النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ.
(8) أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء، فالمجتمع الإسلامي كأنه أسرة واحدة.
(9) أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح لعدم وجود المال أو سواه بالعفة حتى يغنيه الله.
(10) بيان أن الأعمال الصالحة التي يعملها الكافرون في الدنيا لا تجدى عنهم نفعا يوم القيامة، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (11) الأدلة التي نصبها الله في الأكوان علويها وسفليها شاهدة بوحدانيته.
(12) المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
(13) وصف المؤمنين الصادقين.
(14) وعد الله عباده المؤمنين بأنه سيستخلفهم في الأرض وينشر دينهم الذي ارتضى لهم.
(15) استئذان الموالي والأطفال في أوقات ثلاث إذا أرادوا الدخول على أهليهم
(16) رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في الجهاد.
(17) لا حرج في الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ بلا إذن.
(18) نهى المؤمنين عن الانصراف من مجلس رسول الله ﷺ إذا كانوا معه في أمر جامع.
(19) إباحة إذنه لهم إن شاء حين الطلب.
(20) بيان أن مجلس الرسول مبجّل موقر وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض.
سورة الفرقان
هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي 68، 69، 70، وآيها سبع وسبعون نزلت بعد سورة يس.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه سبحانه اختتم السورة السابقة بكونه مالكا لما في السموات والأرض مصرّفا له على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة مع النظام البديع والوضع الأنيق، وأنه سيحاسب عباده يوم القيامة على ما قدموا من العمل خيرا كان أو شرا، وافتتح هذه بما يدل على تعاليه في ذاته وصفاته وأفعاله وعلى حبه لخير عباده بإنزال القرآن لهم هاديا وسراجا منيرا.
(2) اختتم السورة السالفة بوجوب متابعة المؤمنين للرسول ﷺ مع مدحهم على ذلك وتحذيرهم من مخالفة أمره خوف الفتنة والعذاب الأليم، وافتتح هذه بمدح الرسول وإنزال الكتاب عليه لإرشادهم إلى سبيل الرشاد، وذمّ الجاحدين لنبوته بقولهم: إنه رجل مسحور، وإنه يأكل الطعام ويمشى في الأسواق إلى آخر ما قالوا.
(3) في كل من السورتين وصف السحاب وإنزال الأمطار وإحياء الأرض الجرز فقال في السالفة: « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا » إلخ وقال في هذه: « وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْرًا » إلخ.
(4) ذكر في كل منهما وصف أعمال الكافرين يوم القيامة وأنها لا تجزيهم فتيلا ولا قطميرا فقال في الأولى: « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ » إلخ وقال في هذه: « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا ».
(5) وصف النشأة الأولى للإنسان في أثنائهما فقال في الأولى: « وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ » وفى الثانية: « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا »
[سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
تفسير المفردات
تبارك: من البركة، وهي كثرة الخير لعباده، بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم كما قال « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها » والفرقان: هو القرآن، سمى بذلك لأنه فرّق في الإنزال كما قال: « وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ » على عبده: أي على رسوله ﷺ، ووصفه بذلك تشريفا له بكونه في أقصى مراتب العبودية، وتنبيها إلى أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل، وفيه ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه السلام، للعالمين: أي الثقلين من الإنس والجن، فقدره: أي هيّأه لما أعدّه له من الخصائص والأفعال.
المعنى الجملي
حوت هذه السورة توحيد الله وإثبات نبوة محمد ﷺ، وبيان صفات النبي، والرد على من أنكروا نبوته ﷺ، ثم بيان أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من الأهوال، ثم ختمت بأوصاف عباده المخلصين الذين يمشون على الأرض هونا، ثم ذكر جلال الله، وتصرفه في خلقه، وتفرده بالخلق والتقدير.
الإيضاح
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا) حمد سبحانه نفسه على ما نزّله على رسوله من القرآن الكريم، لينذر به الثقلين الجن والإنس ويخوفهم بأسه، وإنما ذكر الإنذار ولم يذكر التبشير مع أن الرسول مرسل بهما، من قبل أن السورة بصدد بيان حال المعاندين المتخذين لله ولدا والطاعنين في كتبه ورسله واليوم الآخر.
وخلاصة ذلك - تعالى الله عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن المعجز الناطق بعلوّ شأنه، وسمو صفاته، وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح، على عبده محمد ﷺ، لينذر به الناس ويخوفهم بأسه، ووقائعه بمن خلا قبلهم من الأمم.
ونحو الآية قوله: « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ».
ثم وصف سبحانه نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء:
(1) (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان القاهر عليهما، فله القدرة التامة فيهما وفيما حوياه إيجادا وإعداما وأمرا ونهيا بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
(2) (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) أي ولم يكن له ولد كما زعم الذين قالوا ذلك للمسيح وعزير والملائكة، كما حكى الله عنهم في قوله: « وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ » وقوله: « أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ » (3) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي وما كان لله شريك في ملكه وسلطانه يصلح أن يعبد من دونه، فأفردوا له العبادة وأخلصوها له دون كل ما تعبدون من دونه من الآلهة والملائكة والجن والإنس.
وفي هذا ردّ على مشركي الع رب الذين كانوا يقولون في تلبيتهم للحج: « لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك ».
(4) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) أي وأوجد كل شيء بحسب ما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة، وهيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال التي تليق به، فأعدّ الإنسان للإدراك والفهم، والتدبر في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصناعات المختلفة، والانتفاع بما في ظاهر الأرض وباطنها، وأعدّ صنوف الحيوان للقيام بأعمال مختلفة تليق بها وبإدراكها.
والخلاصة - إن كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره، وتسخيره وتقديره، ومن كان كذلك فكيف يخطر بالبال أو يدور في الخلد كونه سبحانه والدا له أو شريكا له في ملكه كما قال: « بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ » الآية.
[سورة الفرقان (25): آية 3]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَياةً وَلا نُشُورًا (3)
الإيضاح
بعد أن وصف سبحانه نفسه بصفات العزة والجلال، وبيّن وجه الحق في ذلك أردفه حكاية أباطيل عبدة الأوثان الذين اتخذوا من دونه آلهة، تعجيبا لأولى النّهى من حالهم، وتنبيها إلى خطأ أفعالهم، وتسفيها لأحلامهم، فقد انحرفوا عن منهج الحق وركبوا المركب الذي لا يركبه إلا كل آفن الرأي، مسلوب العقل.
وقد أبان سبحانه ما بها من النقص من وجوه متعددة:
(1) إنها لا تخلق شيئا، والإله يكون قادرا على الخلق والإيجاد.
(2) إنها مخلوقة، والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه.
(3) إنها لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها، ومن كان كذلك فلا فائدة في عبادته وإجلاله وتعظيمه.
(4) إنها لا تقدر على التصرف في شيء ما، فلا تستطيع إماتة الأحياء، ولا إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم، ومن كان كذلك فكيف يسمى إلها، وتعطى له خصائص الآلهة من الخضوع لعظمته والإخبات لجلاله؟.
وعلى الجملة فعبدة الأصنام قد تركوا عبادة الخالق المالك لكل شيء، المتصرف فيه بقدرته وسلطانه، وعبدوا ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وليس بعد هذا من حماقة، ولا يرضى بمثله من له مسكة من عقل، ولا أثارة من علم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 4 الى 6]
وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
تفسير المفردات
الافتراء: الاختلاق والكذب، من قولهم: افتريت الأديم - الجلد - إذا قطّعته للإفساد، جاءوا: أي أتوا، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، إذ هم قد نسبوا القبيح إلى من كان مبرأ منه، والزور: الكذب، والأساطير: واحدها أسطار أو أسطورة كأحدوثة، وهو ما سطّره المتقدمون، اكتتبها: أي أمر بكتابتها، تملى عليه: أي تلقى عليه بعد اكتتابها ليحفظها، بكرة وأصيلا: أي صباحا ومساء، والمراد دائما.
المعنى الجملي
بعد أن تكلم أوّلا في التوحيد، ثم في الرد على عبدة الأوثان - أردف ذلك الرد على الطاعنين في نبوة محمد ﷺ، وقد قسموا مطاعنهم قسمين: مطاعن في القرآن، ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن. روي أن هذه الآيات نزلت في النضر بن الحرث إذ هو الذي قال هذه المقالة، وعنى بالقوم الآخرين عدّاسا مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسارا مولى العلاء بن الحضرمي، وأبا فكيهة الرومي، وكانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة ويحدّثون أحاديث منها، فأسلموا، وكان النبي يتعهدهم ويختلف إليهم، فمن ثم قال النضر ما قال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي وقال الكافرون: إن هذا القرآن ليس من عند الله، بل اختلقه محمد، وأعانه على ذلك جماعة من أهل الكتاب ممن أسلموا، وكان يتعهدهم ويختلف إليهم: « تقدم ذكر أسمائهم » فيلقون إليه أخبار الأمم الغابرة، وهو يصوغها بلغته وأسلوبه الخاص.
فرد الله عليهم مقالهم فقال:
(فَقَدْ جاؤُ ظُلْمًا وَزُورًا) أي فقد وضعوا الأشياء في غير مواضعها، وكذبوا على ربهم، إذ جعلوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - إفكا مفترى من قبل البشر، وكيف يتقوّلون ذلك على الرسول وقد تحداهم أن يأتوا بمثله، وهم ذوو اللسن والفصاحة والغاية في البلاغة، فعجزوا أن يأتوا بمثله، ولو كان ذلك في مكنتهم ما ادّخروا وسعا في معارضته، وقد ركبوا الصعب والذلول ليدحضوا حجته، ويبطلوا دعوته، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو كان محمد ﷺ قد استعان في ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا هم بغيرهم، فما مثله في اللغة إلا مثلهم فلما لم يفعلوا علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى وانتهى إلى حد الإعجاز - إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر في معاشهم ومعادهم، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم.
وبعد أن حكى عنهم قولهم في الافتراء بإعانة قوم آخرين عليه - حكى عنهم طريق تلك الإعانة.
(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي وقال المشركون الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى: أي ما هذا إلا أحاديث الأولين الذين كانوا يسطرونها في كتبهم من نحو أحاديث رستم وإسفنديار - اكتتبها من اليهود فهي تستنسخ منهم وتقرأ عليه، ليحفظها غدوة وعشيا: أي قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم، وقد عنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جرأة عظيمة منهم، قاتلهم الله إني يؤفكون، وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائما.
ثم أمره الله تعالى بإجابتهم عما قالوا بقوله:
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل لهم ردّا وتحقيقا للحق: ليس ذلك كما تزعمون، بل هو أمر سماوي أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفكار، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته، كما أخبركم فيه بمغيّبات مستقبلة، وأمور مكنونة، لا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير.
وقد وصف سبحانه نفسه بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية، فالجلية المعلومة من باب أولى، إيذانا بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر.
(إِنَّهُ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا) أي إنكم استوجبتم العذاب بمكايدتكم لرسوله، لكنه لم يعجله لكم رحمة بكم، رجاء توبتكم وغفران ذنوبكم، ولو لا ذلك لصبّ عليكم العذاب صبّا.
وفي هذا إيماء إلى أن هذه الذنوب مع بلوغها الغاية في العظم - مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها، فلا ييأسوا منها بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من معاداة الرسول ومخاصمته.
[سورة الفرقان (25): الآيات 7 الى 16]
وقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُلًا (16)
تفسير المفردات
مسحورا: أي سحر فاختلّ عقله، الأمثال: أي الأقاويل العجيبة الجارية لغرابتها مجرى الأمثال، فضلوا: أي فبقوا متحيرين في ضلالهم، أعتدنا: أي هيأنا والسعير: النار الشديدة الاشتعال، رأتهم: أي إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد، من قولهم: دور تتراءى أي تتناظر، ومنه قوله ﷺ: « إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما » أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى، إذ يجب على المؤمن مجانبة الكافر والمشرك في أمور الدين، والتغيظ: إظهار الغيظ، والمراد صوت التغيظ، والزفير: إخراج النفس بعد مده، مقرنين: أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في السلاسل، والثبور: الهلاك، وجنة الخلد: هي التي لا ينقطع نعيمها، مسئولا: أي جديرا أن يسأل ويطلب، لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه شبهتهم فيما يتعلق بالمنزّل وهو القرآن - ساق شبهتهم في المنزّل عليه، وهو الرسول على الوجه الذي ذكره ثم فنّد تلك الشبه وبين سخفها وأنها لا تصلح مطعنا في النبي، ثم حكى عنهم نوعا ثالثا من أباطيلهم وهو تكذيبهم بيوم القيامة، ثم وصف ما أعد للكافرين فيه مما يشيب من هوله الولدان من نار تلظى يسمعون لها تغيظا وزفيرا، ووضعهم فيها مقرنين في الأصفاد، وندائهم إذ ذاك بقولهم يا ثبوراه، ثم أتبع ذلك بما يؤكد حسرتهم وندامتهم بوصف ما يلقاه المتقون في جنات النعيم: مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن هذا ما وعدهم به ربهم الذي لا خلف لوعده.
الإيضاح
حكى الله هنا أن المشركين ذكروا خمس صفات للنبي تمنع النبوة في زعمهم:
(1) (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ؟) أي أي شيء ميّزه عنا وجعله يدعي النبوة مع أنه يأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب؟
(2) (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لابتغاء الرزق كما نفعل فهو مثلنا، فمن أين له الفضل علينا؟ وهم يقصدون بذلك استبعاد الرسالة عنه، لمنافاتها للأكل والشرب وطلب المعاش، وكأنهم قالوا: إن صح ما يدعيه، فما باله لم يخالف حاله حالنا ولم يؤت ميزة دوننا؟ وما هذا منهم إلا لضعف عقولهم وقصور إدراكهم، فإن الرسل لم يمتازوا بأمور حسية، بل بصفات روحية، وفضائل نفسية، فطرهم الله عليها توجب صفاء عقولهم وطهارة نفوسهم، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ».
(3) (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) أي فهلا أنزل إليه ملك من عند الله يكون شاهدا على صدق ما يدعيه، ويردّ على من يخالفه، وشبيه بهذا ما قال فرعون عن موسى: « فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ».
(4) (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي وهلا أنزل عليه كنز من السماء ينفق منه حتى لا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش.
(5) (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي وهلا كان له بستان يعيش من غلته كما يعيش المياسير من الناس.
قال صاحب الكشاف: إنهم طلبوا أن يكون الرسول ملكا، ثم زلوا عن ملكيّته إلى صحبة ملك يعينه، ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل ويرزق منه اهـ.
وعن ابن عباس قال: إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومنبّه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، قال فجاءهم رسول الله ﷺ. فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسودّك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك؟ فقال رسول الله ﷺ ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن بعثني إليكم رسولا، وأنزل على كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم، قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فسل لربك، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فأنزل الله في ذلك هذه الآية.
أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر.
وبعد أن حكى عنهم أوّلا أنهم يثبتون له كمال العقل ولكنهم ينتقصونه بصفات في شئون الدنيا - حكى عنهم ثانيا أنهم نفوا عنه العقل بتاتا وادّعوا أنه مختلّ الشعور والإدراك، وإلى هذا أشار بقوله:
(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) أي وقال الكافرون الظالمون لأنفسهم بنسبتهم إلى الرسول ﷺ ما هو منه براء، وما يدل العقل والمشاهد على نفيه عنه: ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختلّ عقله فهو لا يعى ما يقول، ومثله لا يطاع له رأى، وهذا منهم ترقّ في انتقاصه، وأنه لا يصلح للنبوة بحال.
ولما ذكر ضلالاتهم التفت إلى رسوله ﷺ مسليا له بقوله:
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي انظر واعجب لهم: كيف جرءوا على التفوّه بتلك الأقاويل العجيبة، فاخترعوا لك صفات وأحوالا بعيدة كل البعد عن صفاتك التي أنت عليها، فضلوا بذلك عن طريق الهدى وصاروا حائرين لا يدرون ماذا يقولون ولا ما يقدحون به في نبوتك إلا مثل ذلك السّخف والهذر.
والخلاصة - إن ما أتوا به لا يصلح أن يكون قادحا في نبوتك ولا مطعنا فيك، فإن كان لهم مطعن في المعجزات التي أتيت بها فليفعلوا، ولكن أنّى لهم ذلك؟
ثم رد على ما اقترحوه من الجنة والكنز بقوله:
(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) أي كثر خير ربك، فإن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما اقترحوا فإن أراد جعل لك في الدنيا مثل ما وعدك به في الآخرة، فأعطاك جنات تجرى من تحتها الأنهار، وآتاك القصور الشامخة والصياصي التي لا يصل إلى مثلها أكثرهم مالا وأعزهم نفرا، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنه أراد أن يكون عطاؤه لك في الدار الباقية الدائمة، لا في الدار الزائلة للفانية، وإنما كانت مما ذكروا: لكثرتها وجريلن الأنهار من تحت أشجارها وبناء المساكن الرفيعة فيها، والعرب تسمى كل بيت مشيد قصرا.
ثم انتقل من ذلك إلى كلامهم في البعث وأمر الساعة مبينا بذلك السبب في عدم تصديقهم برسوله فقال:
(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي ما أنكر هؤلاء المشركون ما جئتهم به من الحق، وتقوّلوا عليك ما تقوّلوا، إلا من قبل أنهم لا يوقنون بالبعث، ولا يصدقون بالثواب والعقاب.
والخلاصة - إنهم أتوا بأعجب من هذا كله، وهو تكذيبهم بالساعة، ومن ثمّ فهم لا ينتفعون بالدلائل، ولا يتأملون فيها.
ثم توعدهم وبين عاقبة أمرهم وما كتب لمثلهم من الخيبة والخذلان فقال:
(وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) أيإنا أعددنا لمن كذب بالبعث والحشر، والنشر والحساب والجزاء نارا تسعر وتتقد عليهم، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ لشدة توقدها، وصوت الزفير الذي يخرج من فم الحزين المتهالك حسرة وألما.
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال « إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا ترعد فرائصه، حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه فيقول: رب لا أسألك اليوم إلا نفسي ».
وإذا ألقوا منها في مكان ضيق قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل، استغاثوا وقالوا يا ثبوراه: أي باهلاكنا احضر فهذا وقتك، فيقال لهم: لا تنادوا هلاكا واحدا وادعوا هلاكا كثيرا: أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحدا، إنما ثبوركم منه كثير، لأن العذاب ألوان وأنواع، ولكل منها ثبور لشدته وفظاعته.
وخلاصة ذلك - إن الله قد أعدّ لمن كذب بالقيامة نارا مستعرة، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها، وإذا طرحوا منها في مكان ضيق وهم مقرنون في السلاسل والأغلال تمنوا الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل: (أشد من الموت ما يتمنى معه الموت) فيقال لهم حينئذ: لا تدعوا هلاكا واحدا فإنه لا يخلّصكم، بل اطلبوا هلاكا كثيرا لتخلصوا به - والمقصد من ذلك تيئيسهم مما علّقوا به أطماعهم من الهلاك، وتنبيه إلى أن عذابهم أبدى لاخلاص لهم منه.
وبعد أن وصف عقاب المكذبين بالساعة، أردفه ما يؤكد حسرتهم وندامتهم فقال:
(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ؟) أي قل لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم على مافاتهم: أهذه النار التي وصفت لكم خير أم جنة الخلد التي يدوم نعيمها ولا يبيد، وقد وعدها من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما به أمره ونهاه؟
ثم حقق أمرها تأكيدا للبشارة بقوله:
(كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيرًا) أي كانت هذه الجنة لهم جزاء أعمالهم في الدنيا بطاعته، وثوابا لهم على تقواه، ومرجعا لهم ينتقلون إليه في الآخرة.
ثم وصف مقدار تنعمهم فيها بقوله:
(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) أي لهم في جنة الخلد ما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ونحو ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهم فيها خالدون أبدا بلا انقطاع ولا زوال.
(كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُلًا) أي وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم حين سألوه بقولهم: « رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ »
[سورة الفرقان (25): الآيات 17 الى 19]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذابًا كَبِيرًا (19)
تفسير المفردات
ضل السبيل: فقده وخرج عنه، والذكر: ما ذكّر به الناس على ألسنة أنبيائهم، بورا: أي هالكين وهو لفظ يستوى فيه الواحد والجمع، صرفا: أي دفعا للعذاب، يظلم: أي يكفر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أعدّ لأولئك المكذبين بيوم القيامة من الشدائد والأهوال في النار ودعائهم على أنفسهم بالويل والثبور - أردفه ذكر أحوالهم مع معبوداتهم من دون الله وتوبيخهم على عبادة من عبدوا من الملائكة وغيرهم، ثم ذكر أن معبوداتهم تكذبهم فيما نسبوه إليهم، ثم بين أن العابدين لا يستطيعون دفع العذاب عن أنفسهم ولا يجدون من يستنصرون به.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟) أي واذكر لقومك تخويفا وتحذيرا يوم يحشر عابدو الأصنام والملائكة عيسى وعزير وأضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون الله، ثم يقال لأولئك المعبودين:ء أنتم دعوتم عبادي إلى الغي والضلال حتى دسّوا أنفسهم وهلكوا، أم هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحق، وسلكوا سبيل الهلاك بإعراضهم عن اتباع الرسول؟ فأجاب المعبودون:
(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْمًا بُورًا) أي قال المعبودون على طريق التعجب مما قيل لهم، لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال: تنزهت ربنا مما نسب إليك هؤلاء المشركون، ما كان يليق بنا ونحن لا نتخذ من دونك أولياء أن ندعو غيرنا إلى ذلك، ولكنك ربنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم نعمك ليعرفوا حقها ويشكروك، فاستغرقوا في الشهوات، وانهمكوا في اللذات وغفلوا عن ذكرك والإيمان بك، فكانوا من الهالكين، فحينئذ يقال لأولئك العابدين.
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا) أي فقد كذبكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم ودعوكم إلى عبادتهم - فيما تقولون، فما تستطيعون صرف العذاب عن أنفسكم ولا تجدون من ينصركم ويدفع عقاب الله عنكم والخلاصة - إنكم لا تستطيعون النجاة، لا بالهرب ولا بالانتصار لأنفسكم، فأنتم معذبون لا محالة.
ثم عمم سبحانه الحكم وخاطب جميع المكلفين فقال:
(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذابًا كَبِيرًا) أي ومن يكفر منكم أيها المكلفون فيعبد الله إلها غيره كهؤلاء الذين كذبوا بيوم القيامة - نذقه في الآخرة عذابا كبيرا بقدر قدره، ولا تصل العقول إلى معرفة كنهه.
[سورة الفرقان (25): آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالتهم التي طعنوا فيها على رسوله بقولهم: « ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ » زاعمين أن هذا مما لا ينبغي للرسول أن يفعل مثله - أردن ذلك الاحتجاج عليهم بأن محمدا ليس بدعا في الرسل، فكلهم كانوا يفعلون فعله.
وفي هذا تسلية للرسول ﷺ وتصبير له على أذاهم.
ثم بين أن سنته أن يبتلى بعض الناس بعض، فيبتلى الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، فيناصبوهم العداء وعودهم، ليعلم أيّهم يصبر وأيهم يجزع؟ وهو البصير بحال الصابرين وحال الجازعين
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي إن جميع من سبقك من الرسل كانوا يأكلون الطعام للتغذى به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، ولم يقل أحد إن ذلك نقص لهم يغضّ من كرامتهم ويزرى بهم، ولم يكن لهم امتياز عن سواهم في هذا، وإنما امتازوا بصفاتهم الفاضلة، وخصائصهم السامية، وآدابهم العالية، وبما ظهر على أيديهم من خوارق العادات، وباهر المعجزات، مما يستدلّ به كل ذي لب سليم وبصيرة نافذة على صدق ما جاءوا به من عند ربهم - فمحمد ﷺ ليس بدعا من الرسل، إذ يأكل ويمشى في الأسواق، وليس هذا بذم له ولا مطعن في صدق رسالته كما تزعمون.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى » وقوله: « وَما جَعَلْناهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ».
ثم سلى رسوله على قولهم: « أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها » بقوله.
(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ؟) أي وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، فجعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة، وهذا ملكا وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيرا وحرمناه من لذات الحياة ونعيمها، لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنى، والملك بصبره على ما أوتيه الرسول من الكرامة، وكيف يكون رضى كل منهم بما أعطى وقسم له، وطاعته ربه على حرمانه مما أعطى سواه - ومن جرّاء هذا لم أعط محمدا الدنيا وجعلته بمشى في الأسواق يطلب المعاش، لأبتليكم وأختبر طاعتكم وإجابتكم إياه إلى ما دعاكم إليه وهو لم يرج منكم عرضا من أعراض الدنيا، ولو أعطيتها إياه لسارع كثير منكم إلى اتباعه، طمعا في أن ينال شيئا من دنياه.
والخلاصة - لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي حتى لا يخالفوا لفعلت، لكني أردت أن أبتلى العباد بهم، وأبتليهم بالعباد، فينالهم منهم الأذى، ويناصبوهم العداء، فاصبروا على البلاء، فقد علمتم ما وعد الله به الصابرين.
(وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) أي وربك أيها الرسول بصير بمن يجزع، وبمن يصبر على ما امتحن به من المحن، ويجازى كلا بما يستحق من عقاب أو ثواب.
روى مسلم أن النبي ﷺ قال: « انظروا إلى أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هم فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ».
اللهم اجعلنا من الصابرين على أذى السفهاء، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وارزقنا من لدنك قناعة وغنى نربأ بهما عما في أيدي الناس، وثبت أقدامنا في فهم كتابك، وبلغنا ما نرجوه من إرشاد عبادك بما نقدّم لهم من نور يهتدون به إلى صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصل ربنا على محمد وآله.
ثم تفسير هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية، لثلاث خلون من صفر سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، ولله الحمد أولا وآخرا.
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث
5 المؤمن المفلح هو الجامع لخصال سبع من خصال الخير
7 أطوار خلق الإنسان
9 قال عمر: وافقت ربي في أربع إلخ
12 ما يحتاج إليه الإنسان في معيشته
14 ما في السماء من منافع للإنسان
15 النعم التي سخرها الله لنا من خلق الحيوان
16 قصص نوح عليه السلام مع قومه وما فيه من عبرة
21 قصص هود عليه السلام مع قومه
24 قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام
25 قصص موسى وهرون عليهما السلام
27 قصص عيسى عليه السلام إجمالا
28 الرسل جميعا أمروا أن يأكلوا من الحلال الطيب
29 في الحديث: إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا
30 دين الأنبياء دين واحد وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده، واختلاف الشرائع لا يسمى اختلافا في الدين
31 كثرة المال والبنين ليست كرامة من الله لعباده
32 صفات المسارعين في الخيرات
35 لا يكلف العبد إلا بما في وسعه وهو في كتاب محفوظ عليه
38 المشركون في عمى بين في القرآن
39 لا ينفع المشركين يوم القيامة الصريح والعويل
40 الأسباب التي ركن إليها المشركون في إنكارهم لهذا الدين
41 لو جاء التشريع بحسب الهوى لاختل نظام العالم
42 ما أنت أيها الرسول بطالب أجرا على هدايتهم
45 ما امتنّ به سبحانه على عباده
46 المشركون أنكروا البعث تقليدا لمن سبقهم
48 إثبات البعث ببرهانات ثلاثة
50 كذب المشركون في ادعائهم اتخاذ الله للولد واتخاذ الشريك
51 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكمال
52 أمر الله رسوله أن يدعوه ألا يجعله قرينا للمشركين في العذاب
53 أمر الرسول بالدفع بالحسنى
54 كان الرسول ﷺ يعلم صحبه كلمات يقولونها عند النوم
55 طلب المشركين الرجوع إلى الدنيا عند معاينة العذاب
57 أهوال يوم القيامة
58 أحوال الأشقياء يومئذ
62 يسأل المجرمون توبيخا لهم عن مده لبثهم في الأرض
63 تنزيه الله نفسه عما يصفه به المشركون
68 عقوبة الزنا الدنيوية لنير المحصن
68 طريق إثبات الزنا
69 العقوبة الأخروية
70 الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة
71 حكم قذف غير الزوجة من النساء
73 حكم قذف الرجل زوجه
74 ما ورد في ذلك من الآثار
77 حديث الإفك على أم المؤمنين عائشه رضي الله عنها
79 من هلك بسببه من المؤمنين
83 وعيد من أشاع هذا الحديث
84 عتاب الله للمؤمنين على ما وقر في نفوسهم من إرجاف المرجفين
85 ارتكاب المرجفين ثلاثة آثام
86 تحذير المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا
87 جزاء من يحب إشاعة الفاحشة في المؤمنين
90 من اتهم محصنة غافلة بالخنا والفجور فهو مطرود من رحمة الله
90 شهادة الأيدي والأرجل والألسنة
92 الأدلة على براءة عائشة
93 الإنسان لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة
94 دخول المرء بيت غيره لا بد فيه من الإذن
95 من قيل للداخل ارجع وجب أن يرجع
96 حكم دخول البيوت غير المسكونة سكنى خاصة
96 الأمر بغض البصر وحفظ التزوج سدّ الباب الشر ومنعا
99 الأمر بضرب الخمر على الجيوب لارتكاب الآثام
100 النهي عن إبداء الزينة إلا للبعولة أو آباء البعولة إلخ
101 الأمر بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء حفظا للأنساب
104 ثلاثة حق على الله عونهم وبقاء للنوع
106 مثل نور الله في السموات والأرض
108 فوائد ضرب الأمثال في القرآن
110 المساجد بيوت الله، وحق على الله أن يكرم من زاره فيها
111 أعددت لعبادي الصالحين - الحديث
112 مثل أعمال الكافرين في الآخرة
115 ذكر دلائل التوحيد
119 المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
122 المنافقون يعرضون عن التحاكم إلى الرسول
123 طاعة الله ورسوله توجب الفوز والنجاة
124 نهى المنافقين عن الحلف
126 وعد المؤمنين بالاستخلاف في الأرض
127 الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
129 الأمر بالاستئذان في العورات الثلاث
130 سبب نزول آية الاستئذان
133 لا حرج على النساء اللاتي لا يرجون نكاحا في ترك الزينة
134 الأمر بالسلام عند دخول البيوت
135 لا حرج على الأعمى ولا على المريض ولا على الأعرج في ترك الجهاد
138 الأمر بالاستئذان حين الانصراف عن مجلس رسول الله ﷺ
141 النهي عن الانصراف خفية من مجلسه
142 علم الله محيط بكل شيء
147 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكبرياء
148 ما في الأصنام من صفات النقص
150 الرد على الطاعنين في نبوة محمد ﷺ
151 قال المشركون إن
محمدا اكتتب أساطير الأولين
153 الصفات التي تمنع نبوة النبي ﷺ في زعمهم
155 ادعى المشركون أن محمدا رجل مسحور
156 تكذيب المشركين بيوم القيامة
160 الرسل جميعا كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق
162 لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي لفعلت
هامش
- ↑ حصان: عفيفة، ورزان: حصيفة الرأي، وتزن: تتهم، وريبة: أي شك في عرضها، وغرثى: جائعة، والمراد أنها لا تغتاب النساء كما هو شأن المرأة.
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |