تفسير المراغي/الجزء السابع والعشرون
[تتمة سورة الذاريات ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الذاريات (51): الآيات 31 الى 37]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
تفسير المفردات
الخطب: الشأن الخطير، أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة، إلى قوم مجرمين: هم قوم لوط، من طين: أي من طين متحجر وهو السجيل، مسومة: أي معلّمة من السّومة وهي العلامة، للمسرفين: أي المجاوزين الحد في الفجور، من المؤمنين: أي ممن آمن بلوط، غير بيت: أي غير أهل بيت، والمراد بهم لوط وابنتاه آية: أي علامة دالة على ما أصابهم من العذاب.
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا غير مرة إن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين نظروا إلى العدّ اللفظي ولم يعنوا بالنظر إلى الترتيب المعنوي، ومن ثم تجد جزءا قد انتهى وبدىء بآخر أثناء القصة كما هنا.
فبعد أن بشر الملائكة إبراهيم عليه السّلام بالغلام - سألهم ما شأنكم وما الذي جئتم لأجله؟ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط، لنهلكهم بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لإهلاكهم، ثم نأمر من كان فيها من المؤمنين بالخروج من القرية حتى لا يلحقهم العذاب الذي سيصيب الباقين، وسنترك فيها علامة تدل على ما أصابهم من الرجز، جزاء فسوقهم وخروجهم من طاعة ربهم.
الإيضاح
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي قال إبراهيم لهؤلاء الملائكة: ما شأنكم؟ وفيم أرسلتم؟ وجاء في سورة هود: « فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ».
فأجابوه عما سأل:
(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي قالوا له: إنا أرسلنا إلى قوم لوط بالعذاب لإجرامهم، وسنلقى عليهم حجارة من طين مطبوخ كالآجرّ وهي في الصلابة كالحجارة، وفيها علامات أعدت لهلاك المسرفين.
ولما أراد سبحانه أن يهلك المجرمين ميّز عنهم المؤمنين وأبعدهم منهم كما قال:
(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي بعد أن ذهبت رسلنا إلى قوم لوط ووقعت بينهم وبينهم محاورات لم يدع الحال إلى ذكرها هنا - أخرجوا من كان في القرى من المؤمنين تخليصا لهم من العذاب، ولم يجدوا فيها سوى بيت واحد أسلم وجهه لله ظاهرا وباطنا، وانقاد لأوامره واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط ابن أخي إبراهيم عليه السّلام.
عن سعيد بن جبير قال: كانوا ثلاثة عشر.
قال أبو مسلم الأصفهاني: الإسلام الاستسلام لأمر الله والانقياد لحكمه، فكل مؤمن مسلم، ومن ذلك قوله تعالى: « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ».
وقد أوضح الحديث الشريف الفرق بينهما، فجاء في الصحيحين وغيرهما من طرق عدة « أن رسول الله ﷺ سئل عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان. وسئل عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره ».
(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي وجعلناها عبرة بما أنزلنا بها من العذاب والنكال وحجارة السجيل، وخسف الأرض بهم حتى صارت قريتهم بحيرة منتنة خبيثة وهي بحيرة طبرية، لتكون ذكرى لن يخشى الله ويخاف عذابه.
وفي الآية إيماء إلى أن الكفر متى غلب، والفسق إذا انتشر، لا تنفع معه عبادة المؤمنين، أما إذا كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويفجرون، فإن الله لا يأخذ الكثرة الصالحة بذنب العدد القليل من الفاجرين.
[سورة الذاريات (51): الآيات 38 الى 46]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ (46)
تفسير المفردات
بسلطان مبين: أي بحجة واضحة هي معجزاته الظاهرة كاليد والعصا، والركن: ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به، والمراد هنا جنوده وأعوانه ووزراؤه كما جاء في سورة هود « أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ »، فأخذناه: أي أخذ غضب وانتقام، نبذناهم: أي طرحناهم، في اليمّ: أي في البحر، مليم: أي آت بما يلام عليه، والعقيم: أي التي لا خير فيها ولا بركة، فلا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، الرميم: البالي من عظم ونبات وغير ذلك، فعتوا: أي فاستكبروا عن الامتثال، والصاعقة: نار تنزل بالاحتكاكات الكهربية، منتصرين: أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم ممن أهلكهم، فاسقين: أي خارجين من طاعة الله، متجاوزين حدوده.
المعنى الجملي
بعد أن ذكرما كان من قوم لوط من الفسوق والعصيان، وما أصابهم من الهلاك جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات تسلية لرسوله على ما يرى من قومه - عطف على ذلك قصص جمع آخرين من الأنبياء لقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لقى هذا الرسول الكريم، فحقت على أقوامهم كلمة ربهم ونزل بهم عذاب الاستئصال وصاروا كأمس الدابر عبرة ومثلا للآخرين، فذكر أنه أرسل موسى إلى فرعون بشيرا ونذيرا فأبى واستكبر واعتزّ بقوته وجنده، وقال أنا ربكم الأعلى، فأغرق هو وقومه في البحر.
وأرسل شعيبا إلى عاد فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. وأرسل صالحا إلى ثمود فكذبوه فأخذتهم الصاعقة ولم تبق منهم أحدا، وبعث نوحا إلى قومه فلم يستجيبوا لدعوته فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.
الإيضاح
(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي وفى قصص موسى عبرة لقوم يعقلون، إذ أرسلناه إلى فرعون بحجج ظاهرة، وآيات باهرة، فأعرض ونأى، وكذب ما جاء به، معتزا بجنده وقوته وجبروته، وقال حينا تحقيرا لشأن موسى: « إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ » وقال حينا آخر: « إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ». وما مقصده من هذا إلا صرفهم عن النظر والتأمل فيما جاء به من الآيات، خوفا على ملكه أن ينهار، وعلى دولته أن يلحقها الدمار، وإبقاء على ما له من النفوذ والسلطان في البلاد.
ثم ذكر جزاءه هو وقومه على ما صنع فقال:
أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) أيفألقينا فرعون وجنوده في البحر وهو آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان.
وفي هذا إيماء إلى عظمة القدرة على إذلال الجبابرة وسوء عاقبتهم، جزاء عتوهم واستكبارهم وعصيانهم أمر خالقهم.
ثم ذكر قصص عاد فقال:
(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي وفى عاد آية لكل ذي لبّ، إذ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية لم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار، ولا تركت شيئا من الأبنية والعروش إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.
وبعدئذ ذكر قصص ثمود فقال:
(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ،... فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي وفى ثمود عظة لمن تدبر وفكر في آيات ربه، إذ قال لهم نبيهم: « تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » ثم يحل بكم من العذاب ما لا قبل لكم به، فكذبوه واستكبروا وعتوا عن أمر ربهم، فأرسل عليهم صاعقة من السماء أهلكتهم جميعا وهم ينظرون إليها - جزاء ما اكتسبت أيديهم من الآثام، وارتكاب الخطايا والأوزار.
(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي فما استطاعوا هربا ولم يجدوا مفرّا ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب الله.
ثم ذكر موجزا لقصص قوم نوح فقال:
(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ) أي وأهلكنا قوم نوح بالطوفان قبل هؤلاء، بسبب فسقهم وفجورهم وانتهاكهم حرمات الله.
[سورة الذاريات (51): الآيات 47 الى 51]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
تفسير المفردات
الأيد والآد: القوة، لموسعون: أي لذو سعة يخلقها وخلق غيرها من الوسع بمعنى الطاقة، فرشناها: أي بسطناها ومهدناها من مهدت الفراش إذا بسطته ووطّأته، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها، ومن كل شيء: أي ومن كل جنس من الحيوان، زوجين: أي ذكر وأنثى، ففروا إلى الله: أي اعتصموا بحبل الله وأقروا بوحدانيته، إني لكم منه نذير مبين: أي إني لكم من عقابه منذر ومخوّف.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت الحشر وأقام الأدلة على أنه كائن لا محالة - أرشد إلى وحدانية الله وعظيم قدرته، فبين أنه خلق السماء بغير عمد، وبسط الأرض ودحاها، لتصلح لسكنى الإنسان والحيوان، وخلق من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين ذكرا وأنثى، ليستمر بقاء الأنواع إلى أن يشاء الله فناء العالم، ثم أمرهم أن يعتصموا بحبل الله وأنذرهم شديد عقابه، وحذرهم أن يجعلوا مع الله ندّا وشريكا.
الإيضاح
(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي ولقد بنينا السماء ببديع قدرتنا، وعظيم سلطاننا، وإنا لقادرون على ذلك لا يمسنا نصب ولا لغوب.
وفي ذلك تعريض باليهود الذين قالوا: أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع مستلقيا على عرشه.
(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي ومهدنا الأرض، وجعلناها صالحة لسكنى الإنسان والحيوان، وجعلنا فيها الأرزاق والأقوات، من الحيوان والنبات وغيرهما مما يكفل بقاءهما إلى حين، ووضعنا فيها من المعادن في ظاهرها وباطنها ما فيه زينة لكم، فتبنون المساكن من حجارتها، وتتخذون الحلي من ذهبها وفضتها وأحجارها الكريمة، وتصنعون آلات الحرب والسفن والطائرات من حديدها ومعادنها الأخرى.
وفي الآية إشارة إلى أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون قبل الفرش، وهذا ما يثبته العلم الحديث الآن، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة.
ثم مدح سبحانه نفسه على ما صنع فقال:
(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي فنعم ما فعلنا، وما أجمل ما خلقنا، مما فيه عظة لمن يتذكر ويتدبر.
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي وإنا خلقنا لكل ما خلقنا من الخلق ثانيا له، مخالفا له في مبناه والمراد منه، وكل منهما زوج للآخر، فخلقنا السعادة والشقاوة، والهدى والضلال، والليل والنهار، والسماء والأرض، والسواد والبياض - لتتذكروا وتعتبروا فتعلموا أن الله ربكم الذي ينبغي لكم أن تعبدوه وحده لا شريك له - هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من كل شيء لا ما لا يقدر على ذلك.
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) أي فالجئوا إلى الله واعتمدوا عليه في جميع أموركم، واتبعوا أوامره، واعملوا على طاعته، ثم علل الأمر بالفرار إليه بقوله:
(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إني لكم نذير من الله أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم التي قص عليكم قصصها، وإني مبيّن لكم ما يجب عليكم أن تحذروه.
ثم ذكر أعظم ما يجب أن يفر المرء منه، وهو الشرك فقال:
(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ) أي ولا تجعلوا مع معبودكم الذي خلقكم معبودا آخر سواه، فإن العبادة لا تصلح لغيره.
ثم علل هذا النهى بقوله:
(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إني لكم نذير ومخوف من عقابه على عبادتكم غيره.
ونحو الآية قوله تعالى: « فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ».
[سورة الذاريات (51): الآيات 52 الى 60]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
تفسير المفردات
فتول عنهم: أي أعرض عن جدلهم، وذكّر: أي دم على التذكير والموعظة، إلا ليعبدون: أي إلا لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجى إليهم، المتين: أي الشديد القوة، ذنوبا: أي نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب: الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أصحابهم: أي نظرائهم، فويل للذين كفروا: أي هلاك لهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن هؤلاء المشركين في قول مختلف مضطرب لا يلتئم بعضه مع بعض فبينما هم يقولون: خالق السموات والأرض هو الله إذا بهم يعبدون الأصنام والأوثان، وطورا يقولون: محمد ساحر، وطورا آخر يقولون هو كاهن إلى نحو ذلك.
قفي على ذلك بأن ذكر أن قومه ليسوا بدعا في الأمم، فكما كذبت قريش نبيها فعلت الأمم التي كذبت رسلها، فأحل الله بهم نقمته كقوم نوح وعاد وثمود، ثم عجّب من حالهم وقال: أتواصى بعضهم مع بعض بذلك؟ ثم قال: لا بل هم قوم طغاة متعدّون حدود الله، لا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه، ثم أمر رسوله أن يعرض عن جدلهم ومرائهم، فإنه قد بلّغ ما أمر به ولم يقصّر فيه، فلا يلام على ذلك، وأن يذكّر من تنفعه الذكرى ولديه استعداد لقبول الإرشاد والهداية، ثم أردف هذا أن ذكر أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم ويكلفهم بعبادته، لا لاحتياجه إليهم في تحصيل رزق ولا إحضار طعام، فالله هو الرزاق ذو القوة. ثم ختم السورة بتهديد أهل مكة بأنه سيصيبهم من العذاب مثل ما أصاب من قبلهم من الأمم السالفة، فأولى لهم ألا يستعجلوه بقولهم: « مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »، فقد حقت عليهم كلمة ربك في اليوم الذي يوعدون، وسيقع عليهم من العذاب ما لا مردّ له، ولا يجدون له دافعا.
الإيضاح
(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي كما كذبك قومك من قريش وقالوا ساحر أو مجنون - فعلت الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم وقالوا مثل مقالتهم، فهم ليسوا ببدع في الأمم، ولا أنت ببدع في الرسل، فكلهم قد كذّبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله.
وفي هذا تسلية لرسوله ﷺ على احتمال الأذى والإعراض عن جدلهم، فإنهم قد أبطرتهم النعمة وغرّهم الإمهال، فلا تجدى فيهم العظة ولا تنفعهم الذكرى.
ثم تعجب من إجماعهم على إنكار نبوة محمد ﷺ فقال: (أَتَواصَوْا بِهِ؟) أي أأوصى أولهم آخرهم بتكذيب محمد ﷺ فقبلوا ذلك منهم؟
ثم عدل عن أنّ الذي جمعهم على هذا القول هو التواصي، إلى أن الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان فقال:
(بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان وتجاوز حدود الدين والعقل، فقال متأخرهم مثل مقالة متقدمهم.
ثم سلى رسوله بقوله:
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي فأعرض عنهم أيها الرسول، ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام فإنك لم تأل جهدا في الدعوة، وهم ما زادوا إلا عتوا واستكبارا، وطغيانا وإعراضا.
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي دم على العظة والنصح، فإن الذكرى تنفع من في قلوبهم استعداد للهداية والرشاد.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله وجهه قال: لما نزلت « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ » لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذ أمر النبي ﷺ أن يتولى عنا، فنزلت « وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » فطابت أنفسنا.
وبعد أن بين حالهم في التكذيب ذكر سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الذي خلقهم للعبادة بقوله:
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي وما خلقتهم إلا ليعرفونى، إذ لو لا خلقهم لم يعرفوا وجودى ولا توحيدى، يرشد إلى ذلك ما جاء في الحديث القدسي « كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبى عرفونى » قاله مجاهد، وروى عنه أيضا أن المعنى: إلا لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله: « وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » واختاره الزجاج، ويرى جمع من المفسرين أن المعنى: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته، منقاد لما قدره عليه، خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا ولا ضرا.
وهذه الجملة مؤكدة للأمر بالتذكير وفيها تعليل له، فإن خلقهم لما ذكر يدعوه إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ.
ثم ذكر أن شأنه مع عبيده ليس كشأن السادة مع عبيدهم فقال:
(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي إننى ما أريد أن أستعين بهم لجلب منفعة ولا دفع مضرة، فلا أصرّفهم في تحصيل الأرزاق والمطاعم كما يفعل الموالي مع عبيدهم.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي إنه تعالى غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، لأنه خالقهم ورازقهم، وهو ذو القدرة والقوة الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ « يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك ».
ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم - أخبر بإيقاع هذا الوعيد بهم يوم القيامة فقال:
(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة، وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله نصيبا من العذاب مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة التي كذبت رسلها.
(فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يطلبوا مني أن أعجل بالإتيان به، فإني لا أخاف الفوت، ولا يلحقنى عجز، وهذا جواب عن قولهم: « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ».
ونحو الآية قوله: « أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ».
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فويل لهم من حلول ذلك العذاب الذي وعدوه يوم القيامة حين لا تغنى نفس عن نفس شيئا ولا هم ينصرون.
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة
(1) دلائل البعث من العجائب الطبيعية والعلوم النفسية.
(2) جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة.
(3) أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها.
(4) تسلية النبي ﷺ على ما يلقاه من أذى قومه.
(5) الفرار إلى الله من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر.
(6) النهي عن الإشراك بالله.
(7) إخبار رسوله بأن قومه ليسوا ببدع في التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك.
(8) أمره ﷺ بالإعراض عنهم، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
(9) إخباره بأن الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.
(10) وعيد الكافرين بأن العذاب سيحل بهم يوم القيامة.
(11) إن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصيب نظرائهم من المكذبين.
سورة الطور
هي مكية وعدد آياتها تسع وأربعون، نزلت بعد السجدة.
عن أم سلمة « أنها سمعت رسول الله ﷺ يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور » أخرجه البخاري وغيره.
ومناسبتها لما قبلها:
(1) إن في ابتداء كل منهما وصف حال المتقين.
(2) إن في نهاية كل منهما وعيد للكافرين.
(3) إن كلا منهما بدئت بقسم بآية من آياته تعالى الكونية التي تتعلق بالمعاش أو المعاد، ففي الأولى أقسم بالرياح الذاريات التي تنفع الإنسان في معاشه، وهنا أقسم بالطور الذي أنزل فيه التوراة النافعة للناس في معادهم.
(4) في كل منهما أمر النبي بالتذكير والإعراض عما يقول الجاحدون من قول مختلف.
(5) تضمنت كلتاهما الحجاج على التوحيد والبعث، إلى نحو ذلك من المعاني المتشابهة في السورتين.
[سورة الطور (52): الآيات 1 الى 16]
بسم الله الرحمن الرحيم
والطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) والسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْرًا (9) وتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
تفسير المفردات
الطور بالسريانية: الجبل، والمراد به طور سينين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، والمراد بالكتاب هنا: ما كتب من الكتب السماوية كالقرآن والتوراة والإنجيل، والمسطور: أي المكتوب على طريق منظم، والسطر ترتيب الحروف المكتوبة، والرّق: (بالفتح والكسر) جلد رقيق يكتب فيه، والمنشور: المفتوح الذي لا ختم عليه، والبيت المعمور: هو الكعبة المعمورة بالحجاج والمجاورين، والسقف المرفوع: هو السماء، والمسجور: أي الموقد المحمى، من سجر النار أي أوقدها وعنى به باطن الأرض وهو الذي دل عليه الكشف الحديث ولم تعرفه الأمم قديما، وقد أشارت إليه الأحاديث، فعن عبد الله بن عمر: « لا يركبنّ رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا ».
وقد أثبت علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) أن الأرض كلها كبطيخة وقشرتها كقشرة البطيخة أي إن نسبة قشرة الأرض إلى النار التي في باطنها كنسبة قشرة البطيخة إلى باطنها الذي يؤكل، فنحن الآن فوق نار عظيمة: أي فوق بحر مملوء نارا، وهذا البحر مغطى من جميع جهاته بالقشرة الأرضية المحكمة السد عليه، ومن حين إلى آخر تتصاعد من ذلك البحر نار تظهر في الزلازل والبراكين كبركان فيزوف الذي هاج بإيطاليا سنة 1909 م وابتلع مدينة مسّينا، والزلزلة التي حدثت باليابان سنة 1925 م وخربت مدنا بأكملها.
وتمور: أي تضطرب وترتجّ وهي في مكانها، وأصل المور التردد في الذهاب والمجيء، وقد يطلق على السير مطلقا كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل
وأصل الخوض: السير في الماء ثم استعمل في الشروع في كل شيء وغلب في الخوض في الباطل، كالإحضار فإنه عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب، يدعّون: أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغلّ أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون إلى النار ويطرحون فيها.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بمخلوقاته العظيمة، الدالة على كمال قدرته، وبديع صنعته، وعدّ منها أماكن ثلاثة: الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور - لأنبياء ثلاثة كانوا ينفردون للخلوة بربهم، والخلاص من الخلق لمناجاة الخالق، فانتقل موسى إلى الطور وخاطب ربه وقال « أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا » وقال « رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ » وانتقل محمد إلى البيت المعمور وناجى ربه وقال « سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك »، وكلم يونس ربه في البحر وقال: « لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ».
وقرن الكتاب بالطور لأن موسى كان ينزل عليه الكتاب وهو به، وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد ﷺ، وأقسم بكل هذا على أن العذاب يوم القيامة نازل بأعدائه الذين يخوضون في الباطل ويتخذون الدين هزوا ولعبا، فيدفعون إلى النار دفعا عنيفا ويقال لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذبون، ادخلوها وقاسوا شدائدها، وسواء عليكم أجزعتم أم صبرتم مالكم منها مهرب ولا خلاص.
الإيضاح
(وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أقسم سبحانه بهذا الجبل العظيم الشأن الذي كلم فوقه موسى، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بنظام بديع، مرتب الحروف، في رق منشور، يسهل على كل أحد أن يطلع على ما فيها من حكم وأحكام، وآداب وأخلاق.
(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) أي والكعبة التي يعمرها عشرات الآلاف الذين يهرعون إليها كل عام من أرجاء المعمورة، وينسلون إليها من كل حدب، كما يعمرها المجاورون لها تبركا بالعبادة فيها، وطلبا لقبولها عند ربهم.
(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أي والعالم العلوي وما حوى من شموس وأقمار، وكواكب ثابتة وسيارات، وما فيه من عرشه وكرسيه وملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وما فيه من عوالم لا يحصى عدتها إلا هو، ومن جنود لا يعلم حقيقتها إلا من ذرأها كما قال « وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ».
(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي والبحر المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع ما على الأرض ولا يبقى ولا يذر من حيوان ونبات، فيفسد نظام العالم وتعدم الحكمة التي لأجلها خلق.
وقد يكون المعنى - والبحر الموقد في باطن الأرض بمنزلة التنّور المحمى، وقد بينا هذا فيما سبق.
ثم ذكر ما أقسم عليه فقال:
(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي إن عذاب يوم القيامة لمحيط بالكافرين المكذبين بالرسل، لا يدفعه عنهم دافع، ولا يجدون من دونه مهربا، جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من الشرك والآثام، ودسّوا به أرواحهم من التكذيب بالرسل واليوم الآخر.
(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْرًا) أي ليس للعذاب دافع في ذلك اليوم الذي ترتجّ فيه السماء وهي في أماكنها، وتتحققون أنه لا مانع من عذاب الله ولا مهرب منه.
(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْرًا) أي وتزول الجبال من أماكنها، وتسير عن مواضعها كسير السحاب، وتطير في الهواء ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل ثم تصير كالعهن (الصوف المندوف) ثم تطيرها الرياح فتكون هباء منثورا كما دل على ذلك ما جاء في سورة النمل والحكمة في مور السماء وسير الجبال - الإعلام والإنذار بأن لا رجوع ولا عودة إلى الدنيا لخرابها وعمارة الآخرة.
ثم بين من سيقع عليه العذاب حينئذ فقال:
(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي فإذا حدث ما ذكر من مور السماء وسير الجبال فهلاك يومئذ للمكذبين الذين يخوضون في الباطل، ويندفعون لاهين، لا يذكرون حسابا، ولا يخافون عقابا.
(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا.
فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها تقريعا وتوبيخا:
(هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي هذه النار التي تشاهدونها هي التي كنتم بها تكذبون في الدنيا، وتكذيبهم بها تكذيب للرسول الذي جاء بخبرها، وللوحى الناطق بها.
ثم تهكم بهم وأنّبهم فقال:
(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟) كان المشركون في الدنيا ينسبون إلى محمد ﷺ أنه يسحر العقول ويغطى الأبصار، فأنبهم على ما قالوا مستهزئا بهم وقال لهم: هل ما ترونه بأعينكم مما كنتم تنبئون به في الدنيا من العذاب - حق، أو سحرتم أيضا كما كان يفعل بكم محمد في الدنيا، أو قد غطّيت أبصاركم فلا ترى شيئا؟
بلى إنه لحق فلم تسحر أعينكم ولم تغطّ أبصاركم.
والخلاصة - هل في المرئي شك أو في أبصاركم علل؟ لا واحد منهما بموجود، فالذي ترونه حق.
(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي إذا لم يمكنكم إنكارها، وتحقق أنها ليست بسحر، ولا خلل في أبصاركم فاصلوها، وفى قوله: فاصبروا أو لا تصبروا بيان لعدم الخلاص، وانتفاء لعدم المناص فإن من لا يصبر على شيء يحاول دفعه عنه، إما بإبعاده عنه، وإما بمحقه وإزالته ولا شيء من ذلك بحاصل يوم القيامة - إلا أن عذاب الآخرة ليس كعذاب الدنيا، فإن المعذب فيها إن صبر انتفع بصبره إما بالجزاء في الآخرة وإما بالحمد في الدنيا فيقال ما أشجعه، وما أقوى قلبه، وإن جزع ذم وقيل فيه يجزع كالصبيان والنسوان، وأما في الآخرة فلا مدح ولا ثواب على الصبر.
ثم علل استواء الصبر وعدمه بقوله:
(إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنما تستوفون جزاء أعمالكم في الدنيا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر « ولا يظلم ربّك أحدا » بل يجازى كل أحد بعمله، وإذا كان الجزاء واقعا حتما كان الصبر وعدمه سواء.
والخلاصة - إن الجزاء محتم الوقوع، لسبق الوعيد به في الدنيا على ألسنة الرسل، ولقضاء الله به بمقتضى عدله، فالصبر وعدمه سيان حينئذ.
[سورة الطور (52): الآيات 17 الى 20]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
تفسير المفردات
فاكهين: أي طيبة نفوسهم، مسرورة بما هي فيه، وقاهم: أي حفظهم، والطعام الهنيء: ما لا يلحق المرء فيه مشقة ولا يعقبه تخمة ولا سقم، وزوّجناهم: أي قرنّاهم، والحور: واحدتهن حوراء، والحور: اسوداد المقلة، والعين: واحدتهن عيناء: أي واسعة العينين.
المعنى الجملي
بعد أن أبان ما يصيب الكافرين من العذاب الأليم الذي لا دافع له ولا مهرب منه - ذكر ما يتمتع به المؤمنون في ذلك اليوم من صنوف اللذات في المساكن والمآكل والمشارب والفرش والأزواج، بحسب سنن القرآن من ذكر الثواب بعد العقاب، ليتم أمر الترغيب بعد الترهيب حتى يكون المرء بين عاملين، عاملى الرهبة من بطش ربه، والرغبة في رحمته، وكلاهما لا غنى للمرء عنه، ليكمل صلاحه، ويرعوى عن غيه، ولا يقنط من رحمة ربه.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين خافوا ربهم وأخلصوا له العبادة في السر والعلن، وأدّوا فرائضه، وتحلّوا بآداب دينه، وانتهوا عن معاصيه، ولم يدنّسوا أنفسهم بالآثام، ولم يدسّوا أرواحهم بالذنوب، يجازيهم ربهم جزاء وفاقا بجنات يتنعمون فيها، ويجدون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال في الدنيا، وما حرموا منه أنفسهم من لذاتها، وما صبروا عليه من مكارهها، ابتغاء رضوانه. وهم فيها قرير والأعين طيبو النفوس، لا يشغلهم شاغل، ولا يجدون هما ولا نصبا، ولا يكدّر صفو عيشهم مكدر.
وقوله في جنات ونعيم لبيان أن حالهم كحال من يتمتع بالبستان، وكالناطور الذي يحرسه وقوله: فاكهين إشارة إلى أن قلوبهم لا يشغلها همّ ولا نصب، بل هم في لذة، وسرور، وفرح وحبور.
ثم ذكر أنهم تمتعوا بنعمة أخرى قبل هذه فقال:
(وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وقد نجاهم ربهم من عذاب النار، فلم يمسسهم لظاها، ولم يحسوا بأذاها، فهم قد لابسوا النعم، وجانبوا النقم، وذلك هو الفوز العظيم والنعيم المقيم.
ثم ذكر أنه يقال لهم حينئذ:
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي كلوا مما رزقكم ربكم من الطيبات، واشربوا مما لذ وطاب، هنيئا: أي لا تخافون أذى ولا غائلة كما تشاهدون مثل ذلك في طعام الدنيا وشرابها، كفاء ما قدمتم من صالح الأعمال، وآثرتم من تعب الدنيا لراحة الآخرة. قيل للربيع بن خيثم وقد صلى طوال الليل: أتبعت نفسك، فقال: راحتها أطلب.
ونحو الآية قوله تعالى: « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ».
وفي قوله (هنيئا) إشارة إلى خلوّ المآكل والمشارب مما ينغصهما، فإن الآكل قد يخاف المرض فلا يهنأ له الطعام، أو يخاف النفاد فيحرص عليه، أو يتعب في تحصيله وتهيئته بالطبخ والإنضاج، ولا يكون شيء من هذا في الآخرة.
وفي قوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إيماء إلى أن هذا إنجاز لما وعدهم ربهم به في الدنيا، فلا منّ عليهم فيه، بل كان المن عليهم في الدنيا، بهدايتهم للإيمان، وتوفيقهم لصالح الأعمال كما قال: « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ».
ثم ذكر ما يتمتعون به من الفرش فقال:
(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي يجلسون على سرر مصفوف بعضها بجوار بعض جلسة المتكئ الذي لا كلفة عليه، ولا تكلف لديه، فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس ولا يتكىء، ومن يكون في مهمّ لا يتفرغ للاتكاء، فحاله حال اطمئنان ورفع كلفة وخلوّ بال.
ونحو الآية قوله « عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ».
ثم ذكر ما يتمتعون به من الأزواج فقال:
(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حسانا واسعات العيون.
وهذا وصف يتمدح به العربي إذا ذكر جمال المرأة.
[سورة الطور (52): الآيات 21 الى 28]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
تفسير المفردات
ألتناهم: أي أنقصناهم، رهين: أي مرهون بعمله عند الله، والعمل الصالح يفكّه، والعمل الطالح يوبقه، وأمددناهم: أي زدناهم، مما يشتهون: أي من صنوف النعماء، وضروب الآلاء، يتنازعون: أي يتجاذبون تجاذب ملاعبة وسرور، والكأس: الإناء بما فيه من الشراب قاله الراغب، وقد يسمى كل منهما على انفراد كأسا، لا لغو فيها: أي في شرابها، فلا يتكلمون في أثناء الشراب بلغو الحديث وسقط الكلام، ولا تأثيم: أي ولا يفحشون في القول كما هو ديدن الندامى في الدنيا، فإنهم كثير واللغو فعالون للآثام، غلمان: أي مماليك مختصون بهم، مكنون: أي مصون في أصدافه لم تنله الأيدي فهو يكون أبيض صافى اللون، والسموم: النار، والبر: الواسع الإحسان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما يتمتع به أهل الجنة من المطاعم والمشارب والأزواج كرما منه وفضلا - أردف ذلك ذكر ما زاده لهم من الفضل والإكرام، وهو أن يلحق بهم ذريتهم المؤمنة في المنازل والدرجات، وإن لم تبلغ بهم أعمالهم ذلك، لتقرّبهم أعينهم إذا رأوهم في منازلهم على أحسن الأحوال، فيرفع الناقص في عمله إلى الكامل فيه، ولا ينقص من عمله هو ولا منزلته.
قال ابن عباس: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في المنزلة، لتقرّبهم عينه، وقرأ الآية، ثم وصف حالهم إذ ذاك في الطعام والشراب والفاكهة، فأبان أنه ما من فاكهة أو طعام يطلبونه إلا وجدوه ثم أتبع هذا ببيان عظيم حبورهم وسرورهم، فإنهم يتجاذبون الكؤوس، ويتندّرون بأطيب الأحاديث التي لا لغو فيها ولا يأثم بها قائلها لو كان في الدنيا، وتخدمهم مماليك غاية في الحسن والجمال، ويتحدثون بما كان لهم من شؤون وأحوال في الدنيا كما هو شأن ناعمى البال قريري الأعين.
ثم ذكر أن من أحاديثهم أنهم كانوا في دنياهم يخشون ربهم ويخافونه، ومن ثمّ وقاهم عذاب النار.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي إن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحقهم ربهم بآبائهم في المنزلة فضلا منه وكرما وإن لم يبلغوا بأعمالهم منزلتهم، لتقرّبهم أعينهم، ويكمل بهم فرحهم وحبورهم، لوجودهم بينهم.
روى ابن مردويه والطبراني عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: « إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال له إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ».
(وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ) أي وما أنقصنا مثوبات الآباء وحططنا درجاتهم بل رفعنا منزلة الأبناء تفضلا منا وإحسانا.
وبعد أن أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل لهم، أخبر عن مقام العدل وهو ألا يؤاخذ أحد بذنب أحد فقال:
(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي كل امرئ مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبا أو ابنا، وقد جعل العمل كأنه دين والمرء كأنه رهن به، والرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين، فإن كان العمل صالحا فقد أدى الدين، لأن العمل الصالح يقبله الله ويصعد إليه، وإن كان غير صالح فلا أداء ولا خلاص، إذ لا يصعد إليه غير الطيب.
ونحو الآية قوله « كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ » أي إن كل نفس رهن بعملها عند الله لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطاعوه من عملهم وكسبهم.
وبعد أن ذكر وجوه النعيم فيما سلف ذكر أنه يزيدهم على ذلك حينا فحينا مما يشتهون من قنون النعماء فقال:
(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وزدناهم على ما سلف فواكه ولحوما من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى، وإن لم يقترحوا ولم يطلبوا.
وذكر الفاكهة واللحم دون أنواع الطعام الأخرى، لأنهما طعام المترفين في الدنيا.
وبعد أن ذكر طعامهم أردفه ذكر شرابهم وسرورهم لدى احتسائهم له فقال:
(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي يتجاذبون الكؤوس في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل الندامى فيما بينهم لشدة سرورهم كما قال الأخطل:
نازعته طيّب الرّاح الشّمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وليس في الشراب في الآخرة ما فيه في الدنيا من اللغو بسبب زوال العقل، ومن الفحش في القول، كما يتكلم به الشّرب فيها، وقد أخبر سبحانه في موضع آخر عن حسن منظرها، وطيب مطعمها فقال « بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ » وقال: « لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ ».
ثم ذكر مالهم من خدم وحشم في الجنة فقال:
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي يطوف عليهم بالكؤوس مماليك لهم، يتصرفون فيهم بالأمر والنهي والاستخدام كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في الأصداف في الحسن والبهاء.
ونحو الآية قوله تعالى: « يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ».
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: « بلغني أنه قيل يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ».
وروى « إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه فيجىء ألف ببابه لبّيك لبّيك ».
ثم بين أنهم في الجنة يتذاكر بعضهم مع بعض في أحوال الدنيا فقال:
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبلوا يسأل بعضهم بعضا في الجنة عن حاله وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة، ثم يحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم وما كانوا فيه من الكدر والنكد لطلب المعاش وتحصيل الأرزاق وما وصلوا إليه، تلذذ بالنعمة واعترافا بها.
أخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ « إذا دخل أهل الجنة الجنة، اشتاقوا إلى الإخوان، فيجىء سرير هذا حتى يحاذى سرير هذا فيتحدثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان بما كانوا في الدنيا فيقول أحدهما لصاحبه يا فلان أتدرى أي يوم غفر الله لنا؟ اليوم الذي كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا ».
ثم فصل ما يجيب به بعضهم بعضا فقال:
(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي قالوا: إنا كنا في دار الدنيا ونحن بين أهلها خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه، فتفضل علينا وأجارنا مما نخاف.
والمقصود إثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى، فإن وجودهم بين أهليهم مظنّة الأمن، فإذا خافوا في تلك الحال فلأن يخافوا في غيرها بالأولى.
روي أن عائشة قالت: « لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها ».
ثم تمموا العلة في استحقاقهم للكرامة في تلك الدار بقولهم:
(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي إنا كنا نعبده ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجاب دعاءنا وأعطانا سؤلنا، لأنه هو المحسن الواسع الرحمة والفضل.
وكل من المؤمن والكافر لا ينسى ما كان له في الدنيا، وتزداد لذة المؤمن إذا رأى نفسه قد انتقلت من سجن الدنيا إلى نعيم الجنة، ومن الضيق إلى السعة وتزداد آلام الكافر إذا رأى نفسه انتقل من الترف إلى التلف، ومن النعيم إلى الجحيم.
[سورة الطور (52): الآيات 29 الى 34]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِن ْ كانُوا صادِقِينَ (34)
تفسير المفردات
فذكر: أي فاثبت على ما أنت عليه من التذكير، والكاهن: من يخبر بالأخبار الماضية الخفية بضرب من الظن، والعرّاف: من يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك قاله الراغب، ونتربص: أي ننتظر، والمنون: الدهر، وريبه: حوادثه وصروفه قال أبو ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال آخر:
تربّص بها ريب المنون لعلها تطلّق يوما أو يموت حليلها
الأحلام: العقول، والطغيان: تجاوز الحد في المكابرة والعناد، تقوّله: أي اختلقه من تلقاء نفسه، إذ التقول لا يستعمل غالبا إلا في الكذب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن العذاب واقع بالكافرين لا محالة، وأن الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيون بأعمالهم، وأن الرسول على الحق المبين الذي من كذبه باء بغضب من الله، ومن صدّقه استحق رضوانه ومغفرة من لدنه - أمر رسوله هنا بالثبات على التذكر والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد به أولئك الكائدون، فإنه هو الغالب حجة وسيفا في هذه الدار، ومنزلة ورفعة في دار القرار ثم ذكر تناقض أقوالهم لينبه إلى فساد آرائهم، وإلى أنهم ما أعرضوا عن الحق إلا اتباعا للهوى لا اتباعا للدليل والبرهان، وفى ذلك تسلية لرسوله ﷺ كما لا يخفى، إذ ما أبعد حال من كان أرجحهم عقلا، وأبينهم قولا، منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد، من الجنون والكهانة، إلى ما في هذا من التناقض والاضطراب، فإن الكهان كانوا من الكملة وكان قولهم مقنعا، فأين هذا من الجنون، ثم ترقّوا في نسبته إلى الكذاب، فقالوا إنه شاعر، وأعذب الشعر أكذبه، ثم قالوا فلنصبر عليه، ولنتربص به صروف الدهر وأحداثه، فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر، ثم أمره بتهديدهم بمثل صنيعهم بقوله: « قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ » ثم زاد في تسفيه أحلامهم بأن مصدر هذا التكذيب إما كتاب أنزل عليهم بذلك وإما أن عقولهم تأمرهم بما يقولون، لا بل الحق أنهم قوم طاغون يفترون ويقولون ما لا دليل عليه لا من كتاب ولا مقتضى له من عقل، ثم زادوا في الإنكار ونسبوه إلى التقول والافتراء، فإن صح ما يقولون فليأتوا بمثل أقصر سورة من مثل هذا المفترى إن كانوا صادقين، لا بل هم قوم جاحدون لا يؤمنون فليقولوا ما تسوّله لهم أنفسهم فإن الله قد أعمى بصائرهم، فهم لا أحلام لهم تميز الحق من الباطل، والغث من السمين فامض لشأنك، ولا تأبه لمقالهم فالله معك، ولن يترك شيئا من أعمالك.
الإيضاح
(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي فذكّر أيها الرسول من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم، وعظهم بالآيات والذكر الحكم، ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل، وقد انتفت عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك، وهذا كما يقول القائل: ما أنا بمعسر بحمد الله وغناه، والمراد بذلك الرد على القائلين بذلك وإبطاله، فإن ما أوتيه من رجاحة العقل، وعلو الهمة وكرم الفعال، وصدق النبوة، لكاف جد الكفاية في دحض هذا وأشباهه. وممن قال إنه كاهن شيبة بن ربيعة، وممن قال إنه مجنون عقبة بن أبي معيط.
ثم ذكر أنهم ترقّوا في الإنكار عليه فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي بل هم يقولون: هو شاعر نتربص به أحداث الدهر ونكباته من موت أو حادثة متلفة.
روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وذهبت مذاهب شتى في صدّ دعوته ﷺ ومقابلة هذا الخطر الداهم عليهم، وماذا يفعلون في الخلاص منه، فقال قائل من بنى عبد الدار: تربصوا به ريب المنون، فإنه شاعر وسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى، ثم افترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية.
وخلاصة هذا - إنا نبتعد من إيذائه، ونتقى لسانه، مخافة أن يغلبنا بقوة شعره، وإنما سبيلنا معه أن نصبر عليه ونتربص موته كما مات الشعراء من قبله.
فأمره الله أن يهددهم ويتهكم بهم بقوله:
(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي قل لهم: انتظروا وتمهّلوا في ريب المنون، فإني متربص معكم منتظر قضاء الله في وفيكم، وستعلمون لمن يكون حسن العاقبة، والظفر في الدنيا والآخرة.
(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) أي بل أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في القول، فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون، وفرق عظيم بين من زال عقله، ومن يقول الشعر الحكيم الرصين، ومن يجعل قوله حجة في معرفة أخبار الغيب، ويعتقد أن الجن توحى إليه بما يقول:
وقصارى هذا: إنهم لا أحلام لهم ولا عقول:
ثم ذكر السبب الحق في كل ما يعملون فقال:
(أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل الحق أن الذي حملهم على أن يقولوا ما قالوا، هو طغيانهم وعنادهم وضلالهم عن الحق.
(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي أيقولون كاهن أم يقولون شاعر أم يقولون إنه افترى القرآن واختلقه من تلقاء نفسه؟.
(بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن كفرهم هو الذي حملهم على هذه المطاعن وزين لهم أن أن يقولوا ما قالوا.
ثم رد عليهم جميع ما زعموا وتحداهم في دحض ما قالوا فقال:
(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي إن كان شاعرا فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهنا فلديكم الكهان الأذكياء، وإن كان قد تقوله فلديكم الخطباء الذين يحبّرون الخطب، ويجيدون القول في كل فنون الكلام، فهلمّ فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون، فإن أسباب القول متوافرة لديهم كما هي متوافرة لديه، بل فيهم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيام العرب ووقائعها أكثر من محمد ﷺ.
[سورة الطور (52): الآيات 35 الى 43]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
تفسير المفردات
من غير شيء: أي من غير خالق، خزائن ربك: أي خزائن رزقه، المسيطرون: أي القاهرون المسلطون عليها، من قولهم: سيطر على كذا. إذا راقبه وأقام عليه، سلّم: أي مرتقى إلى السماء، بسلطان مبين: أي بحجة واضحة تصدق استماعه، مغرم: أي التزام غرامة تطلبها منهم، مثقلون: أي محملون ثقلا، الغيب: أي علم الغيب، كيدا: أي شرا، المكيدون: أي الذين يحيق بهم الشر ويعود إليهم وباله.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت رسالة محمد ﷺ وردّ عليهم ما زعموه من أنه كاهن أو شاعر أو مجنون، وأمره أن يمضى لطيّته ويذكّر الناس ويبشرهم وينذرهم ولا يأبه لمقالتهم، فالله ناصره عليهم - انتقل إلى الرد عليهم في إنكارهم للخالق كما هو شأن الدهريين أو لادعائهم لله شريكا كما هو شأن كثير من العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وقالوا: ما نعبد الأوثان والأصنام إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
وبعد أن أقام عليهم الحجة في كل ذلك، وسد عليهم المسالك، طلب إليه أن يتوكل عليه، وأن يعلم أن كيدهم لا يضيره شيئا، فالله ناصره عليهم، وسيظهر دينه، ويتمّ له الغلبة والفلج عليهم.
الإيضاح
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ) أي كيف ينكرون الخالق الموجد؟، فهل هم خلقوا هذا الخلق البديع الصنع من غير خالق ولا موجد؟ والعقل يشهد بأن كل ما يوجد من العدم لا بد له من موجد.
(أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي بل أهم أوجدوا أنفسهم؟ والضرورة والعقل يكذبان ذلك، إذ يلزم من هذا أن الشيء يكون مقدما في الوجود على نفسه، فهم باعتبار أنهم خالقون مقدّمون على أنفسهم في الوجود باعتبار أنهم مخلوقون، وهذا بيّن البطلان.
(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي لو فرض أنهم خلقوا أنفسهم، فهل هم يجرءون ويقولون إنهم خلقوا هذه الأجرام العظيمة التي تتوقف عليها حياتهم، وفيها أسباب معاشهم وهي السموات والأرض؟ - أظن أنهم لا يدّعون ذلك.
(بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي ليس واحد مما تقدم يمكن أن يدّعوه، بل حقيقة أمرهم أنهم لا يوقنون بما يقولون إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ فقالوا الله، إذ لو أيقنوا بذلك ما أعرضوا عن عبادته.
(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي بل أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن؟ فيعطوا النبوة لمن يشاءون، ويصطفوا لها من يختارون.
(أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي أم هم الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر العالم ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم، والمراد أنه ليس الأمر كذلك، بل الله هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
روى البخاري عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: « سمعت النبي ﷺ يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: « أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ » كاد قلبي يطير، وكان جبير بن مطعم
قد قدم على النبي ﷺ بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركا، فكان سماعه هذه الآية من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي أم لهم مرتقى إلى السماء يستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب، فهم لذلك مستمسكون بما هم عليه، فإن كانوا يدّعون ذلك فليأتوا بحجة تبين أنهم على الحق، كما أتى محمد ﷺ بالبرهان الدالّ على صدق قوله فيما جاءهم به من عند ربه.
وبعد أن رد على الذين أنكروا الألوهية بتاتا ردّ على من قالوا: الملائكة بنات الله، وسفه أحلامهم إذ اختاروا له البنات ولأنفسهم البنين فقال:
(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي بل ألربكم البنات ولكم البنون؟ « تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى ».
وفي هذا إيماء إلى أن من كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت، وسماع كلام رب العزة والجبروت.
(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسأل هؤلاء المشركين الذين أرسلناك إليهم على ما تدعوهم إليه من توحيد الله وطاعته - أجرا تأخذه من أموالهم فهم من ثقل ما حملتهم من المغرم لا يقدرون على إجابتك إلى ما تدعوهم إليه؟.
(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟) أي أم عندهم علم فهم يكتبون ذلك للناس، فينبئونهم بما شاءوا ويخبرونهم بما أرادوا - ليس الأمر كذلك، إذ لا يعلم غيب السموات والأرض إلا الله.
قال قتادة: وهذا جواب لقولهم: نتربص به ريب المنون، فيقول الله: أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا ﷺ يموت قبلهم.
(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي بل يريد هؤلاء المشركون بقولهم هذا في الرسول وفى الدين غرور الناس وكيد الرسول، فإن كان هذا ما يريدون فكيدهم راجع إليهم ووباله على أنفسهم، فثق بالله وامض لما أمرك به.
قال في فتح البيان: والظاهر أنه من الإخبار بالغيب، فإن السورة مكية، وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة، ثم أهلكهم الله تعالى ببدر عند انتهاء سنين عدتها عدة ما هنا من كلمة (أم) وهي خمس عشرة، فإن بدرا كانت في الثانية من الهجرة وهي الخامسة عشرة من النبوة، وأذلهم في غير موطن، ومكر سبحانه بهم (وَمَكَرُوا، وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) اهـ.
(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي بل ألهم إله غير الله يعينهم ويحرسهم من عذاب الله؟ تنزه ربنا عن الشريك وعما يعبدونه سواه.
وفي هذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم للأصنام والأنداد مع الله تعالى.
[سورة الطور (52): الآيات 44 الى 49]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّماءِ ساقِطًا يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذابًا دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ومِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
تفسير المفردات
كسفا: أي قطعة، مركوم: أي متراكم ملقى بعضه على بعض، يصعقون: أي يقتلون، دون ذلك: أي قبله، وهو ما أصابهم من القحط سبع سنين، بأعيننا: أي في حفظنا وحراستنا، وإدبار النجوم: أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مزاعمهم في النبوة وبيّن فسادها بما لم يبق بعده وجه للعناد والمكابرة ثم أعقبه بالرد عليهم في جحودهم للألوهية إما بإنكارها بتاتا، وإما بادعاء الشريك لله، أو باتخاذه الولد، سبحانه وتعالى عما يصفون - أردف هذا بيان أن هؤلاء قوم بلغوا حدا في العناد أصبحوا به يكابرون في المحسات فضلا عن المعقولات، فدعهم وشأنهم حتى يأتي اليوم الذي لا مرد له، يوم لا تنفعهم حبائلهم وشراكهم التي كانوا ينصبون مثلها في الدنيا، ولا يجدون لهم إذ ذاك وليّا ولا نصيرا، وأن الله سيصيبهم بعذاب من عنده في الدنيا قبل ذلك اليوم، وأنه ناصرك عليهم وكالئك بعين رعايته، واذكر ربك حين تقوم من منامك، ومن مجلسك، وحين تغيب النجوم، ويصبح الصباح، وتغرّد الأطيار مسبّحة منزهة خالق السموات والأرض، قائلة: سبّوح قدّوس، ربّ الملائكة والرّوح.
الإيضاح
(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّماءِ ساقِطًا يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي إن هؤلاء قوم ديدنهم العناد والمكابرة، فلو رأوا بعض ما سألوا من الآيات، فعاينوا كسفا من السماء ساقطا - لكذبوا وقالوا: سحاب بعضه فوق بعض، لأن الله قد ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارهم، فأصبحوا ينكرون ما تبصره الأعين، وتسمعه الآذان.
ونحو الآية قوله: « وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ».
ثم أمر سبحانه رسوله ﷺ أن يتركهم وشأنهم فقال:
(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي فدعهم وشأنهم، ولا تكترث بهم حتى يأتي اليوم الذي يجازون فيه بسيئات أعمالهم وهو يوم بدر، قاله البقاعي وهو الظاهر في الآية.
(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي وفى هذا اليوم لا تنفعهم الحيل التي دبروها لمناصبته ﷺ العداء، ولا يجدون لهم نصيرا ولا معينا يدفع عنهم ما يحيق بهم من العذاب.
(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذابًا دُونَ ذلِكَ) أي وإن لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذابا بالقحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر لأنه كان في السنة الثانية للهجرة والقحط وقع لهم قبلها.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما سيصيرون إليه من عذاب الله، وما أعده لهم في الدنيا والآخرة، وإنا سنبتليهم بالمصائب، لعلهم يرجعون وينيبون إلينا.
ونحو الآية قوله: « وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ».
(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي واصبر على أذاهم ولا تبال بهم، وامض لأمر الله ونهيه، وبلّغ ما أرسلت به، فإنك بمرأى منا نراك ونرى أعمالك، ونحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك منهم أذى.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي ونزّه ربك عما لا يليق به لإنعامه عليك، واعبده بالتلاوة والصلاة حين تقوم من مجلسك، قال عطاء وسعيد وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول: سبحان الله وبحمده أو سبحانك اللهم وبحمدك عند قيامه من كل مجلس يجلسه.
وعن أبي برزة الأسلمى قال: « كان رسول الله ﷺ بآخر عمره إذا قام
من المجلس يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل يا رسول الله: إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى، قال كفارة لما يكون في المجلس » أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه وابن أبي شيبة.
وروى « أن جبريل علّم النبي ﷺ إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ».
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي وسبحه في صلاة الليل لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد من الرياء، وحين إدبار الليل بظهور ضوء الصبح، وقيل
المراد من التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء، ومن إدبار النجوم ركعتا الفجر.
وقد روى ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة والحسن رضي الله عنهم أجمعين.
ونحو الآية قوله: « وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا ».
خلاصة ما حوته السورة الكريمة
من العظات والزواجر (1) القسم بالعالم العلوي والسفلى أن العذاب آت لا محالة.
(2) وصف عذاب النار وما يلاقيه المكذبون حينئذ من الذلة والمهانة.
(3) وصف نعيم أهل الجنة وما يتمتعون به من اللذات في مساكنهم ومطاعمهم ومشاربهم وأزواجهم وخدمهم وحشمهم.
(4) أمر الرسول ﷺ بالثبات على تبليغ الرسالة والإعراض عن سفاهتهم من نحو قولهم: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، هو مفتر.
(5) إثبات الألوهية بالبراهين التي لا تقبل جدلا.
(6) النعي على المشركين في قولهم: الملائكة بنات الله.
(7) بيان أنهم بلغوا في عنادهم حدا ينكرون معه المحسوسات التي لا شك فيها.
(8) أمر الرسول ﷺ أن يتركهم وشأنهم حتى يأتي اليوم الذي كانوا يوعدون.
(9) الإخبار بأن الظالمين في كل أمة وكل جيل يعذبون في الدنيا قبل عذابهم في الآخرة.
(10) الإخبار بأن الله حارس نبيّه وكالئه، فلا يصل إليه أذى من خلقه كما قال سبحانه: « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ».
(11) أمره ﷺ بالذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار، وفى كل موطن ومجلس يقوم فيه.
سورة النجم
هي مكية إلا آية 32 فمدنية، نزلت بعد سورة الإخلاص، وآيها ثنتان وستون.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إن السورة قبلها ختمت بقوله: وإدبار النجوم، وبدئت هذه بقوله: والنجم إذا هوى.
(2) إن السورة قبلها ذكر فيها تقوّل القرآن وافتراؤه، وذكر هذا في مفتتح هذه السورة.
(3) إنه ذكر في التي قبلها أن ذرية المؤمنين تبع لآبائهم، وفى هذه ذكر ذرية اليهود في قوله: « هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ».
(4) إنه قال هناك في المؤمنين: « أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » وقال هنا في الكفار « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ».
وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي ﷺ قراءتها، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي « أن أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول الله ﷺ وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف ».
[سورة النجم (53): الآيات 1 الى 18]
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)
تفسير المفردات
المراد بالنجم: جنس النجوم إذا غربت أو صعدت، يقال هوى النجم هويّا (بالفتح) أي سقط وغرب، وهويا: (بالضم) إذا علا وصعد، ما ضلّ: أي ما حاد عن الطريق المستقيم، صاحبكم: أي مصاحبكم، والتعبير عنه ﷺ بعنوان المصاحبة لهم إيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم خبرا ببراءته مما نسب إليه، وباتصافه بالهدى والرشاد، فإن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم لشئونه العظيمة تقتضى ذلك، ففي هذا تأكيد لإقامة الحجة عليهم، وما غوى: أي وما اعتقد باطلا، والخطاب في هذا لقريش، وما ينطق عن الهوى: أي ما يتكلم بالباطل، والمراد بشديد القوى جبريل عليه السّلام، ذو مرة: أي ذو حصافة عقل وقوة عارضة، قال قطرب: العرب تقول لكل من هو جزل الرأي حصيف العقل: هو ذو مرة. من قولهم أمررت الحبل: أي أحكمت فتله، فاستوى: أي فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها عند حراء في مبادى النبوة، وهو بالأفق الأعلى: أي بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، ثم دنا: أي ثم قرب، فتدلى: أي فنزل من قولهم تدلت الثمرة، ومنه الدوالي وهي الثمر المعلق كعناقيد العنب، والقاب مقدار ما بين المقبض والسّية، ولكل قوس قابان، والعرب تقدر الأطوال بالقوس والرمح وبالذراع والباع والخطوة والشبر والإصبع، أو أدنى: أي أقرب من ذلك، والمراد بالفؤاد فؤاد محمد ﷺ، ما رأى أي ما رآه ببصره، أفتمارونه على ما يرى: أي أفتجادلونه على ما يراه معاينة، نزلة أخرى: أي مرة أخرى، سدرة المنتهى: هي شجرة نبق قالوا إنها في السماء السابعة عن يمين العرش، جنة المأوى: أي الجنة التي يأوى إليها المتقون يوم القيامة، يغشى: يغطى، ما زاغ البصر: أي ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومسكّن منها وما مال يمينا ولا شمالا، وما طغى: أي ما جاوز ما أمر به، آيات ربه الكبرى: أي عجائبه الملكية والملكوتية في ليلة المعراج.
المعنى الجملي
أقسم ربنا بخلق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتها إلا هو، وهي نجوم السماء التي تهدى الساري في الفلوات، وترشده إلى البعيد من المسافات - إن محمدا صاحبكم نبي حقا، وما ضلّ عن طريق الرشاد، ولا اتبع الباطل، ولا يتكلم إلا بوحي يوحيه الله إليه، ويعلمه إياه جبريل شديد القوى، ولقد رآه مرتين على صورته التي خلقه الله عليها بأجنحته وأوصافه الملكية: مرة بغار حراء في بدء النبوة، وأخرى ليلة المعراج حين عرج به إلى السماء، ورأى من عجائب صنع الله ما رأى، مما استطاع أن يخبركم به، ومما لم يستطع ذلك، فكيف بكم تجادلونه فيما أخبركم به، وتقولون طورا: إنه مجنون، وطورا آخر إنه كاهن، وطورا ثالثا إنه شاعر، وما كل هذا بالذي ينطبق على أوصافه، وهو صاحبكم وأنتم أعلم بحاله، فحق عليكم أن تسمعوا قوله، وأن تطيعوا أمره، فتفوزوا رضوان من ربه.
الإيضاح
(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) أي قسما بمخلوقاتى العظيمة وهي النجوم التي تسير في مداراتها، ولا تعدو أفلاكها، والتي تهتدون بها في الفيافي والقفار، في حلكم وترحالكم، في سفركم وحضركم، وفى البحار، ولها لديكم منزلة عظمى في حياتكم المعيشية - إن محمدا نبي حقا، وما حاد عن سبيل الحق، ولا سلك سبيل الباطل.
وقد خاطب سبحانه بهذا القسم العرب الذين يعرفون ما للنجوم من جزيل الفضل عليهم، في تعيين المواسم والفصول، ليستعدوا للنّجعة، ويرتادوا الكلأ بعد سقوط المطر، ويزرعوا ما يتسنى لهم أن يزرعوه، وهم يتيامنون ببعضها ويتشاءمون ببعض آخر.
إلى أن القسم بها ينبهنا إلى أن هناك عوالم وأجراما علويّة يجب علينا أن نتعرّف أمرها، لنستدل بها على عظيم قدرة مبدعها وبديع صنعه.
ولقد أثبت العلم حديثا ما يدعو إلى العجب من أحوال هذه الأجرام، وسرعة سيرها، وكبير حجمها، فقد علم أن سير نور الكوكب 300 ألف كيلوم في الثانية، ومثله سير الأمواج اللاسلكية، وكلاهما يجرى حول الأرض في سبع ثانية مرة واحدة، ويجرى حول الكون كله في نحو مائة مليون سنه، فنسبة محيط الكرة الأرضية إلى محيط ما عرف من الكون كنسبة سبع ثانية إلى مائة مليون سنة.
والنظام الشمسى يشتمل على الشمس وتسعة سيارات تدور حول أكثرها أقمار، وهذه الشمس وعالمها جزء من عالم المجرّة، والمجرّة فيها نجوم تبلغ نحو 30 ألف مليون نجم كلهن شموس كشمسنا أو أكبر أو أصغر. ويقدرون عمر الشمس بنحو خمسة ملايين مليون سنة، وعمر الأرض بنحو ألفى مليون سنة، وعمر المياه عليها بنحو 300 مليون سنة، وعمر الإنسان بنحو 300 ألف سنة.
وإن شمسنا التي تزيد على أرضنا ألف ألف مرة وثلاثمائة ألف مرة هي كوكب له توابع وسيارات، وهذا الكواكب وتوابعه واحد من ثلاثين ألف مليون شمس، وهذه كلها تكوّن مجرتنا، وهذه المجرة لها نظائر، فسبحان الخلاق العليم الذي لا يعلم جنوده إلا هو.
والخلاصة - إن الرسول ﷺ راشد مرشد تابع للحق، ليس بضالّ ولا هو بسالك للطريق بغير علم، ولا هو بغاو يعدل عن الحق قصدا إلى غيره، وبهذا نزه الله رسوله وشرعه عن مشايعة أهل الضلال من اليهود والنصارى الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، فهو في غاية الاستقامة والاعتدال والسّداد.
ثم بين السبب في عدم ضلاله وغوايته فقال:
(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي كيف يضل ويغوى، وهو لا ينطق عن الهوى، وإنما يضل من كان كذلك، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: « وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ».
ثم أكد هذا بقوله:
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي إنما يقول ما أمر أن يبلغه إلى الناس كاملا موفورا بلا زيادة ولا نقصان.
روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: « كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتنى قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ﷺ، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق ».
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « لا أقول إلا حقا » قال بعض أصحابه فإنك تداعبنا يا رسول الله، قال: « إني لا أقول إلا حقا ».
ويرى بعض المفسرين أن قوله: ما ضل صاحبكم - ردّ لقولهم: إنه مجنون، وقوله: وما غوى - ردّ لقولهم إنه شاعر: أي ليس بينه وبين الغواية تعلق وارتباط، وقوله: والشعراء يتبعهم الغاوون، وقوله: وما ينطق عن الهوى - ردّ لقولهم كاهن، وقوله: إن هو إلا وحي يوحى تأكيد لما تقدم، أي فلا هو بقول كاهن، ولا هو بقول شاعر.
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) أي علّم صاحبكم جبريل عليه السّلام وهو شديد القوى العلمية والعملية، فيعلم ويعمل، ولا شك أن مدح المعلّم مدح للمتعلم.
وفي هذا رد عليهم في قولهم: إن هو إلا أساطير الأولين، سمعها وقت سفره إلى الشام.
والخلاصة - إنه لم يعلمه أحد من الناس، بل علمه شديد القوى، والإنسان خلق ضعيفا لم يؤت من العلم إلا قليلا - إلى أنه موثوق بقوله، لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل، وكذلك هو موثوق بحفظه وأمانته، فلا ينسى ولا يحرّف.
(ذُو مِرَّةٍ) أي ذو حصافة في العقل، فالوصف الأول إشارة إلى قوة الفعل، وهذا وصف بقوة النظر وظهور الآثار البديعة منه.
والخلاصة - إنه يجمع بين القوى النظرية والقوى الجسمية كما روى أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحيه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود فأصبحوا جاثمين.
وإنا لنؤمن بهذا على أنه من عالم الغيب ونكتفى بما جاء في كتابه تعالى ولا نزيد عليه.
وإن علماء الأرواح في أوروبا الآن أصبحوا يؤمنون بقوى عالم الروح وبما لها من خوارق العادات بالنظر إلى عالمنا. قال أوليفر لودج: إني أصبحت موقنا بأنا محوطون بعالم نحن بالنسبة إليه كالنمل بالنسبة لنا، وهم يساعدوننا ويحافظون علينا، ثم قال: وقفت على هذا بطريق علمي (يريد تحضير الأرواح) ثم قال: فإذا ما قال القدّيسون إنهم رأوا الملائكة أو أنهم رأوا الله، فكل ذلك حق لا مرية فيه اهـ.
هذا ولا شك من عجائب القرآن، فإن ما جاء فيه مما يتعلق بعالم الأرواح أصبح علوما تدرس وتذاع بين الناس باعتبارها علوما روحية وكشفا حديثا، صدق ربنا « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ».
فالقوى الجسمية والعقلية للعالم الروحي ظهرت بطريق استحضار الأرواح والتنويم المغناطيسى، إذ فيه انخلاع للنفس عن البدن انخلاعا جزئيا أو كليا وهي مربوطة به ولها اتصال بالعوالم الروحية.
(فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي فاستقام جبريل على صورته التي خلقه الله عليها حين أحب رسوله ﷺ أن يراه كذلك، فظهر له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس، فملأه ثم أخذ يدنو من رسول الله ﷺ ويتدلى: أي يزيد في القرب والنزول حتى كان منه مقدار قوسين أو أقرب على تقديركم وعلى مقدار فهمكم، فأوحى إلى عبده ورسوله ما شاء أن يوحيه إليه من شئون الدين. ولا غرو فإن ظهور الأرواح في صورة مرئية أصبح الآن معروفا، وقد قص علماء الروح عجائب وغرائب وأصبح في طوقهم أن يظهروا الروح في صور بشرية وصور نورية وتخاطبهم حين التنويم المغناطيسى، وإذا صح ذلك للعلة فليكن ذلك للقدّيسين والأنبياء بالأولى بطريق يشاكل مقامهم، ولا تتجلى الأرواح إلا بالمناسبة بين المتجلّى والمتجلّى عليه، وظهوره في صورة مرئية يرجع إلى قوته وشدته، وقوله: فأوحى إلى عبده ما أوحى، يرجع إلى قوته العلمية.
ولما كان الإنسان كثيرا ما يظن أنه قد تخيل ما رآه ويكذب قلبه ما ظهر له، حتى قال علماء الأرواح: إنهم لما خاطبوا الأرواح قالت لهم، إنكم كثيرا ما يظهر لكم عجائب روحية فتظنونها من الوهم وتنسبونها إلى خداع الحواس - أعقب سبحانه هذا بما يدل على أنه ﷺ لم يقم بنفسه أن هذا تخيل ولا أنه وهم فقال:
(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما كذب فؤاده ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السّلام: أي إن فؤاده ﷺ ما قال لما رآه ببصره لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره.
والخلاصة - إنه لما قال: إن هو إلا وحي يوحى أكد هذا المعنى وفصله بقوله: علّمه شديد القوى، ليبين أنه ليس من الشعر ولا من الكهانة في شيء، ولما قال: فاستوى وذكر قيامه بصورته الحقيقية أكد أن مجيئه بصورة دحية الكلبي لا يعمّى وصفه، إذ قد عرفه بشكله الحقيقي من قبل، فلا يشتبه عليه، وقوله: ثم دنا فتدلى تتميم لحديث نزوله عليه السّلام وإتيانه بالمنزّل، وقوله: ما كذب الفؤاد ما رأى، بين به أنه لما عرفه وحققه لم يكذّبه فؤاده بعد ذلك في أنه جبريل، ولو تصور بغير تلك الصورة.
(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى؟) أي أفتكذبونه وتجادلونه فيما رآه بعينه من صورة جبريل عليه السّلام له.
(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي ولقد رأى النبي ﷺ جبريل في صورته التي خلقه الله عليها عند شجرة النبق التي ينتهى إليها علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله قاله ابن عباس.
وقد يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل أي سدرة الله الذي إليه المنتهى كما قال سبحانه « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى » وعند هذه السدرة الجنة التي يأوى إليها المتقون يوم القيامة قاله الحسن البصري.
وعلينا أن نؤمن بهذه الشجرة كما وصفها الله، ولا نعين مكانها ولا نصفها بأوصاف أكثر مما وصفها به الكتاب الكريم، إلا إذا ورد عن المعصوم ﷺ ما يبين ذلك ويثبت لدينا بالتواتر، لأن ذلك من علم الغيب الذي لم يؤذن لنا بعلمه.
روى أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم أنها في السماء السابعة، نبتها كقلال هجر، وأوراقها مثل آذان الفيلة، يسير الراكب في ظلها سبعين خريفا لا يقطعها.
والمشاهد في الدنيا أن النبات يعيش إذا وجد التراب والماء والهواء، ولكن لاعجب فالله يخلقه في أي مكان شاء، كما أخبر عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم.
وقصارى ما سلف - إن النبي ﷺ رأى جبريل في صورته الحقيقية مرتين: مرة وهو في غار حراء في بدء النبوة، والثانية في ليلة المعراج ولم يكن ذلك في الأرض بل كان عند شجرة نبق عن يمين العرش وهي في منتهى الجنة: أي آخرها، وعلم الملائكة ينتهى إليها.
وقد تقدم أن الصحيح أن الصعود إلى الملإ الأعلى كان روحيا لا جسمانيا كما روى عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم.
(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) أي رآه حين غطى السدرة ما غطاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله، ومن الإشراق والحسن، ومن الملائكة وقد أبهم ذلك الكتاب الكريم، فعلينا أن نكتفى بهذا الإبهام ولا نزيده إيضاحا بلا دليل قاطع، ولا حجة بينة، ولو علم الله الخير لنا في البيان لفعل.
(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) أي ما مال بصر رسول الله ﷺ عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكّن منها، وما جاوزها إلى رؤية ما لم يؤمر برؤيته.
والخلاصة - إنه رأى رؤية المستيقن المحقق لما رأى.
(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي ولقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه وعجائبه الملكوتية.
روى البخاري وابن جرير وابن المنذر في جماعة آخرين عن ابن مسعود أنه قال في الآية: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق، وعن ابن زيد أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها.
وعلينا ألا نحصر ما رآه في شيء بعينه بعد أن أبهمه القرآن، إذ هو قد رأى من الآيات الكبرى ما يجل عنه الحصر والاستقصاء.
[سورة النجم (53): الآيات 19 الى 26]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)
تفسير المفردات
اللات والعزى ومناة: أصنام كانت تعبدها العرب في جاهليتها، فاللات كانت لثقيف. وأصل ذلك أن رجلا كان يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه ثم صنعوا له صورة وعبدوها، والعزى: شجرة بغطفان كانوا يعبدونها، وبعث النبي ﷺ بعد الإسلام خالد بن الوليد ليقطعها، فجعل يضربها بفأسه ويقول:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك
ومناة: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وكانت دماء النسائك تمنى عندها: أي تراق، والأخرى: أي المتأخرة الوضيعة القدر كما جاء في قوله: « قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ »
أي وقال وضعاؤهم لأشرافهم ورؤسائهم، وقد جاء لفظ (الأخرى) بهذا المعنى بين المصريين فيقول: هو الآخر وهي الأخرى، يريدون الضعة وتأخر القدر والشرف، ضيزى: من ضزته حقه (بالضم والكسر) أي نقصته، والمراد أنها قسمة جائرة غير عادلة، قال امرؤ القيس:
ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يجعلون الرأس كالذنب
المعنى الجملي
بعد أن بين ما رآه محمد ﷺ من العجائب ليلة المعراج - قال للمشركين ماذا رأيتم في هذه الأصنام؟ وكيف تحصرون أنفسكم في العالم المادي وأصنامه، وتقطعون على أنفسكم طريق التقدم والارتقاء، وإن النفس لا ترقى إلا بما استعدت له، فإذا وقفت النفوس عند هذه المادة وتلك الأصنام لم يكن لها عروج إلى السماء، ولا سيما أن هذه الأصنام لا تشفع لهم عند ربهم ولا تجديهم نفعا.
الإيضاح
(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟) أي أفبعد أن سمعتم ما سمعتم من آثار كمال الله عز وجل وعظمته في ملكه وملكوته، وجلاله وجبروته، وأحكام قدرته ونفاذ أمره، وأن الملائكة على رفعة مقامهم وعلوّ قدرهم ينتهون إلى السدرة ويقفون عندها - تجعلون هذه الأصنام على حقارة شأنها شركاء لله مع ما علمتم من عظمته.
وفي هذا تقريع شديد، وتوبيخ عظيم، وتأنيب لا إلى غاية، وإن عاقلا لا ينبغي أن يخطر بباله مثل هذا، ويمتهن رأيه إلى هذا الحد.
روي أن أبا سفيان قال يوم أحد: لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول الله ﷺ: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
وبعد أن أنّبهم على سخف عقولهم، وسفاهة أحلامهم، بعبادتهم الأصنام التي كانوا يزعمون أنها هياكل للملائكة، والملائكة بنات الله - وبخهم على نسبة البنات إليه سبحانه وهم لا يرضونها لأنفسهم فقال:
(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟) أي أتجعلون له ولدا وتجعلون هذا الولد أنثى؟ وتختارون لأنفسكم الذكران، على علم منكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون، والله كامل العظمة، فكيف تنسبون إليه الناقص، وأنتم على نقصكم تنسبون إلى أنفسكم الكامل.
(تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى) أي تلك قسمة جائرة غير مستوية، ناقصة غير تامة، لأنكم جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم، وآثرتم أنفسكم بما ترضون لها.
ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذب والافتراء في عبادة الأصنام وتسميتها آلهة فقال:
(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي إن هذه الأصنام التي تسمونها آلهة - هي أسماء فحسب وليس لها مسميات هي آلهة البتة، كما تزعمون وتعتقدون أنها تستحق أن يعكف على عبادتها وتقديم القرابين إليها، وليس لكم من حجة ولا برهان تؤيدون به ما تقولون، وإنما قلّد فيها الآخر الأول، وتبع في ذلك الأبناء الآباء.
ولا يخفى ما في ذلك من التحقير، كما تقول: ما هو إلا اسم إذا لم يكن مشتملا على صفة معتبرة لها شأن وقدر.
ونحو الآية قوله تعالى « ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً » الآية.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظوظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين.
والخلاصة - إنكم تعبدون هذه الأصنام توهما منكم أن ما عليه آباؤكم حق، وإشباعا لشهوات أنفسكم.
ثم بين أنه ما كان ينبغي لهم ذلك، لأنه قد جاءهم ما ينبههم إلى سوء رأيهم وعظيم غفلتهم فقال:
(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي هم يتبعون ما كان عليه أسلافهم وينقادون إلى آرائهم، وقد أرسل الله إليهم الرسول بالحق المنير، والحجة الواضحة، وقد كان ينبغي أن يكون لهم في ذلك مزدجر، لكنهم أعرضوا عنه وتولوا « كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ».
وبعد أن بين أن جعلهم الأصنام شركاء لله لا يستند إلى دليل، بل لا يستند إلا إلى التشهي والهوى واتباع الظن - ذكر أنها مع هذا لا تجديهم نفعا، فهي لا تشفع لهم عند الله، ولا يظفرون منها بجدوى فقال:
(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي بل ألهم ما يتمنونه من شفاعة الآلهة يوم القيامة كلا إن هذا لن يكون، ولن يجديكم ذلك فتيلا ولا قطميرا، فإن كل ما في الدنيا والآخرة فهو ملك له تعالى، ولا دخل لهذه الأصنام في شيء منه.
وهذا تيئيس لهم من أن ينالوا خيرا من عبادتها والتقرب إليها، ولا تكون وسيلة لهم عند ربهم.
ثم حرمهم فائدة عبادتها من وجه آخر فقال:
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) أي وكثير من الملائكة لا تفيد شفاعتهم شيئا إلا إذا أذن بها ربهم لمن يشاء ويرضى عنهم ممن أخلصوا له في القول والعمل، وإذا كان هذا حال الملائكة وهم عالم روحى لهم القرب من ربهم والزلفى لديه، فما بالكم بأصنام أرضية ميتة لا روح فيها ولا حياة، فهي بعيدة كل البعد عن الذات الأقدس.
وخلاصة ذلك - إنه لا مطمع لهم في شفاعة هذه الأصنام، ولا تجديهم نفعا في هذا اليوم.
[سورة النجم (53): الآيات 27 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
المعنى الجملي
بعد أن عاب عليهم عبادتهم للأصنام والأوثان، وادعاءهم أن لله ولدا من الملائكة، ورد عليهم بأن هذه الأصنام التي جعلوها آلهة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، فما هي إلا أسماء ليس لها مسميات هي آلهة كما تدّعون، فلا هي تشفع لهم، ولا تجديهم فتيلا ولا قطميرا، فإن الملائكة الكرام لا يشفعون عند ربهم إلا إذا أذن لهم، ورضى عمن يشفعون له، فأجدر بمثل هؤلاء ألا يستطيعوا شفاعة عنده.
عاد فعاب عليهم هنة أخرى، وهي تسميتهم الملائكة بنات الله، وأبان لهم أن هذه مقالة شنعاء لا تصدر إلا عمن لا يؤمن بالآخرة والحساب والعقاب، فمن أين أتاهم أن لله أولادا هن ملائكته؟ والولد إنما يطلب للمساعدة وقت الحاجة، ولحسن الأحدوثة، ولحفظ الصيت، والله غني عن كل ذلك، ولو صح ما يقولون، فلم اختاروا له البنات دون البنين؟ أفلا يساوونه بأنفسهم ويجعلون له ولدا من الذكور لا من الإناث؟ فما هذا منهم إلا أباطيل لا تغنى عن الحق شيئا، وعليك أيها الرسول أن تعرض عن هؤلاء الذين لا همّ لهم إلا جمع حطام الدنيا، والتمتع بزخرفها، وإن ربك هو العليم بحالهم، وما تخفى صدورهم، وسيحاسبهم على النقير والقطمير، ويجازيهم بما يقولون ويعتقدون جزاء وفاقا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) أي إن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما بعده من أحوال الدار الآخرة على الوجه الذي بيّنته الرسل يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء وجهالة جهلاء وهي قولهم: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإنما جعلها مقالة من لا يؤمن، للاشارة إلى أنها بلغت من الفظاعة حدا لا يمكن معه أن تصدر من موقن بالجزاء والحساب، فقد اشتملت على جريمتين أولاهما نسبة الولد إلى الله، ثانيتهما أن الولد أنثى تفضيلا لأنفسهم على بارئهم وموجدهم من العدم.
(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي وليس لهم بذلك برهان، ولا أتى لهم به وحي حتى يقولوا ما قالوا.
ثم أكد نفى علمهم الحق بذلك فقال:
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) أي إن معرفة الشيء معرفة حقيقية يجب أن تكون عن يقين لا عن ظن وتوهم، وأنتم لا تتبعون فيما تقولون في هذه التسمية إلا الظن والتوهم، وليس هذا من سبيل العلم في شيء، وقد جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: « إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ».
ونحو الآية قوله تعالى: « وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ».
والخلاصة - إن مثل هذا الاعتقاد إما أن يكون عن دليل عقلى والعقل لا يركن إليه في مثل هذا، وإما عن وحي ولم يصل إليهم شيء منه يخبرهم بما يقولون.
ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم فقال:
(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فأعرض عن مثل هؤلاء الذين أعرضوا عن كتابنا ولم يأخذوا بما فيه مما يوصل إلى سعادتهم في المعاش والمعاد من المعتقدات الحقة وقصص الأولين المذكّرة بأمور الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو عذاب أليم، واقتصروا على شئون الدنيا ورضوا بزخرفها وجدّوا في بلوغ أسمى المراتب فيها كما فعل النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة وأضرابهما.
والخلاصة - لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في أمور الدنيا، وجعلها منتهى همته، وأقصى أمنيته، وقصارى سعيه، فلا سبيل إلى إيمان مثله، فلا تبخع نفسك على مثله أسفا وحزنا كما قال: « لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ».
ثم أكد ما مضى من أن همتهم مقصورة على الحياة الدنيا بقوله:
(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي إن منتهى علمهم أن يتفهموا شئون الحياة الدنيا، ويتمتعوا باللذات، ويتصرفوا في التجارات، ليحصلوا على ما يكون لهم فيها من بسطة في المال، وسعة في الرزق، ويكونوا ممن يشار إليهم بالبنان، وما به يذكرون لدى الناس، ولا يعنون بما وراء ذلك، فشئون الآخرة دبر أذنهم، ووراء ظهورهم، لا يعرفون منها قبيلا من دبير.
روى أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ « الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له »
وفي الدعاء المأثور « اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ».
ثم ذكر السبب في الأمر بالإعراض عنهم فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي إن ربك هو العليم بمن واصل ليله بنهاره، وصباحه بمسائه، مفكرا في آياته في الكون، وفيما جاء على ألسنة رسله، حتى اهتدى إلى الحق الذي ينجيه في آخرته، ويبلغه رضوان ربه، ويبلغه سعادة الدنيا بالسير على السنن التي وضعها في خليقته، فاحتذى حذوها، وسار على إثرها - وبمن حاد عن طريق النجاة وجعل إلهه هواه وركب رأسه، فلم يلو على شيء مما جاء به الداعي الناصح الأمين، وإنه لمجاز كلّا بما كسب واكتسب، وسيجزيه على الجليل والحقير، والصغير والكبير، بحسب ما أحاط به واسع علمه، وبمقدار فضله على من أخبت إليه كما قال: « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ » ونكاله بمن دسّى نفسه واجترح السيئات، مصداقا لقوله: « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ».
والخلاصة - إن هؤلاء قوم لا تجدى فيهم الذكرى، ولا تؤثر فيهم العظة، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون.
[سورة النجم (53): الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
تفسير المفردات
بما عملوا: أي بالعقاب على عملهم، بالحسنى: أي بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، كبائر الإثم: ما يكبر عقابه كالزنا وشرب الخمر، والفواحش: واحدها فاحشة وهي ما عظم قبحها من الكبائر، واللمم: ما صغر من الذنوب كالنظرة والقبلة، وهو في اللغة اسم لما قلّ قدره ومنه لمّة الشعر، وقيل اللمم: الدنو من الشيء دون ارتكابه من قولهم ألممت بكذا: أي قاربت منه، وعليه فالمراد به الهمّ بالذنب وحديث النفس دون حدوث فعل، ومن ثم قال سعيد بن المسيّب: هو ما خطر على القلب، والأجنة: واحدها جنين، وهو الولد ما دام في البطن.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه رسوله بالإعراض عن المشركين مع شدة ميله إلى إيمانهم، وتطلعه إلى هدايتهم، وتعلقه بصلاحهم وإرشادهم وهم قومه وعشيرته، وأبان له أن هؤلاء قوم انصرفوا عن النظر إلى الحق، ووجهوا همّهم إلى زخرف الدنيا، وأن منتهى علمهم التصرف في شئونها، فهي قبلتهم التي إليها يحجون، ومطمح أنظارهم الذي إليه يرنون، وذكر أنه هو العليم باستعدادهم، وأنهم قوم ضالون لا يصل الحق إلى شغاف قلوبهم، ولا يلتفتون إليه بعيونهم.
ذكر هنا أنه لا يهملهم، بل سيجزيهم بسوء صنيعهم، وهو العليم بما في السموات والأرض، فلا يترك عباده هملا، بل يجازيهم بعدله، فيثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء على سوء صنيعهم بما هو أهله، ثم أردف ذلك ذكر أوصاف المحسنين وأنهم هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ولا يقع منهم إلا اللمم من صغائر الذنوب الفينة بعد الفينة، ويتوبون منه ولا يصرّون عليه، ثم حذّر عباده بأنه لا تخفى عليه خافية من أمورهم من حين أن كانوا أجنة في بطون أمهاتهم إلى أن يموتوا، فيعلم المطيع من المعاصي، فلا حاجة للعبد إذا إلى مدح نفسه بفعل الطاعات، واجتناب السيئات.
الإيضاح
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن ما في السموات وما في الأرض تحت قبضته وسلطانه، وله التصرف فيه خلقا وملكا وتدبيرا، فهو العليم به لا تخفى عليه خافية من أمره، فلا تظنوا أنه يهمل أمركم، كلا، فإنه مجاز كل نفس بما كسبت من خير أو شر، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي فهو يجازى بحسب علمه المحيط بكل شيء - المحسن بالإحسان ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويمتعه بنعيم لا يخطر على قلب بشر، والمسيء بصنيع ما أساء، وبما دسّى به نفسه من ضروب الشرك والمعاصي، وبما ران على قلبه من كبائر الذنوب والآثام، وقد أضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة.
ثم ذكر أوصاف المحسنين فقال:
(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عما عظم شأنه من كبائر المعاصي كالشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله بغير حق والزنا، ولا تقع منهم إلا صغائرها، فيتوبون إلى ربهم ويندمون على ما فرط منهم.
ونحو الآية قوله: « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ».
والمشهور أن الكبائر سبع وروى ذلك عن علي كرم الله وجهه واستدلوا عليه بما روى في الصحيحين « اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ».
وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له: الكبائر سبع، فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار اهـ.
وقيل الكبيرة: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب أو حدّ في الدنيا، أو أقدم صاحبه عليه من غير استشعار خوف أو ندم، أو ترتب عليه مفاسد كبيرة، ولو كان في نظر الناس صغيرا، فمن أمسك إنسانا ليقتله ظالم، أو دل العدو على عورات البلاد فقد فعل أمرا عظيما، فيكون أكل مال اليتيم إذا قيس على هذين قليلا مع أنه من الكبائر.
ثم ذكر ما يدفع اليأس عن صاحب الكبيرة في غفران ذنبه فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فيغفر الصغائر باجتناب الكبائر، وله أن يغفر ما يشاء من الذنوب بعد التوبة الصادقة، والندم على ما فرط من مرتكبها إذا أخبت لربه وتجافى عن ذنبه.
ونحوه قوله تعالى: « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ».
ثم أكد ما قبله وقرره بقوله:
(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي هو بصير بأحوالكم، عليم بأقوالكم وأفعالكم حين ابتدأ خلقكم من التراب، وحين صوّركم في الأرحام، على أطوار مختلفة، وصور شتى.
(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي فإذا علمتم ذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة من المعاصي، أو بزكاة العمل وزيادة الخير، بل اشكروا لله على فضله ومغفرته، فهو العليم بمن اتقى المعاصي، ومن ولغ فيها ودنّس نفسه باجتراحها.
والنهي عن تزكية النفس إنما يكون إذا أريد بها الرياء أو الإعجاب بالعمل، وإلا فلا بأس بها ولا تكون منهيا عنها، ومن ثم قيل: المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر.
ونحو الآية قوله: « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ».
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبى سلمة أنها سمّيت (برّة) فقال رسول الله ﷺ: « لا تزكّوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرّ منكم، سمّوها زينب ».
[سورة النجم (53): الآيات 33 الى 54]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عادًا الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) والْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
تفسير المفردات
تولى: أي أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه، وأكدى: أي قطع العطاء من قولهم: حفر فأكدى. أي بلغ إلى كدية أي صخرة تمنعه من إتمام العمل، ينبأ: أي يخبر، وصحف موسى هي التوراة، وصحف إبراهيم ما نزل عليه من الشرائع، ووفّى: أي أتم ما أمر به، أن لا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، يرى: أي يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن، وتوبيخا للمسىء، يجزاه: أي يجزى سعيه يقال جزاه الله بعمله، وجزاه على عمله، وجزاه عمله، المنتهى: أي المعاد يوم القيامة والجزاء حين الحشر، تمنى: أي تدفع في الرحم من قولهم: أمنى الرجل ومنى: أي صبّ المني، والنشأة الأخرى: هي إعادة الأرواح إلى الأجساد حين البعث، أغنى وأقنى: أي أغنى من شاء وأفقر من شاء، والشعرى: هي الشعرى العبور وهي ذلك النجم الوضاء الذي يقال له مرزم الجوزاء وقد عبدته طائفة من العرب، وعاد الأولى: هم قوم هود وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى: من ولد عاد الأولى، والمؤتفكة هي قرى قوم لوط، سميت بذلك، لأنّها ائتفكت بأهلها: أي انقلبت بهم، ومنه الإفك لأنه قلب الحق، أهوى: أي أسقط في الأرض، غشاها: أي غطّاها.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه علمه وقدرته، وأن الجزاء واقع على الإساءة والإحسان، وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم، وهذا لا يعرف إلا بالوحي من الله تعالى. ذكر هنا أن من العجب العاجب بعد هذا أن يسمع سامع، ويرجو عاقل أن غيره يقوم مقامه في تحمل وزره ويعطيه جعلا، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى وقف عن العطاء، ومن ثم وبخه على ذلك، بأن علم هذا لا يكون إلا بوحي، فهل علم منه صحة ما اعتقد؟ كلا فجميع الشرائع المعروفة لكم كشريعة موسى وإبراهيم على غير هذا، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فمن أين وصل له أن ذلك مجز له.
قال مجاهد وابن زيد: إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد سمع قراءة رسول الله ﷺ وجلس إليه ووعظه فلان قلبه للإسلام فطمع فيه رسول الله ﷺ، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطينى كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما همّ به من الإسلام، وضل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح.
وقد ذكر سبحانه ما تضمنته صحف إبراهيم وموسى:
(1) ألا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره.
(2) ألا يثاب امرؤ إلا بعمله.
(3) إن العامل يرى عمله في ميزانه، خيرا كان أو شرا.
(4) إنه يجازى عليه الجزاء الأوفى فتضاعف له حسناته إلى سبعمائة ضعف، ويجازى بمثل سيئاته.
(5) إن الخلائق كلهم راجعون يوم المعاد إلى ربهم، ومجازون بأعمالهم.
(6) إنه تعالى خلق الضحك والبكاء والفرح والحزن.
(7) إنه سبحانه خلق الذكر والأنثى من نطفة تصب في الأرحام.
(8) إنه تعالى خلق الموت والحياة.
(9) إنه هو الذي أعطى الغنى والفقر، وكلاهما بيده وتحت قبضته.
(10) إنه هو رب الشعرى، وكانت خزاعة تعبدها (11) إنه أهلك عادا الأولى، وقد كانوا أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح.
(12) إنه أهلك ثمود فما أبقاهم، بل أخذهم بذنوبهم.
(13) إنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، وقد كانوا أظلم من الفريقين.
(14) إنه أهلك المؤتفكة وهي قرى قوم لوط وقد انقلبت بأهلها، وغطّاها بحجارة من سجيل.
الإيضاح
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى؟) أي أعلمت شأن هذا الكافر؟ وهل بلغك شأنه العجيب، فقد أشرف على الإيمان واتباع هدى الرسول، فوسوس له شيطان من شياطين الإنس بألا يقبل نصح الناصح، ويرجع إلى دين آبائه، ويتحمل ما عليه من وزر إذا هو أعطاه قليلا من المال، فقبل ذلك منه، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى امتنع من إعطائه شيئا بعد ذلك، أفعنده علم بأمور الغيب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ما يخاف من أوزاره يوم القيامة؟.
وقصارى ذلك - أخبرني بأمر هذا الكافر وحاله العجيبة، إذ قبل أن سواه يحمل أوزاره إذا أدّى له أجرا معلوما، أأنزل عليه وحي فرأى أن ما صنعه حق؟
ثم أكد هذا الإنكار فذكر أن الشرائع التي يعرفونها على غير هذا فقال:
(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي ألم يخبر بما نصت عليه التوراة، وما ذكر في شرائع إبراهيم الذي وفّى بما عاهد الله عليه، وأتم ما أمر به، وأدى رسالته على الوجه المرضى، يدل على ذلك قوله: « وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا ».
قال ابن عباس: وفّى بسهام الإسلام كلها وهي ثلاثون سهما لم يوفّها أحد غيره، منها عشرة في براءة « إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ » الآيات، وعشرة في الأحزاب « إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ » الآيات، وستة في « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ » الآيات، وأربعة في سأل سائل « وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ » الآيات.
وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لم يحتمل غيره، وفى قصة الذبح ما فيه الغناء في ذلك.
وإنما ذكر ما جاء في شريعتى هذين النبيين فحسب، لأن المشركين كانوا يدّعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم، وأهل الكتاب كانوا يدعون أنهم متبعون ما في التوراة وصحفها قريبة العهد منهم.
ثم فصل ما جاء في هاتين الشريعتين فقال:
(1) (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس ذنوب نفس أخرى، فكل نفس اكتسبت إثما بكفر أو معصية فعليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال: « وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى »، (2) (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي كما لا يحمل على الإنسان وزر غيره، لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب لنفسه، ومن هذا استنبط مالك والشافعي ومن تبعهما أن القراءة لا يصح إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، وهكذا جميع العبادات البدنية كالصلاة والحج والتلاوة، ومن ثم لم يندب إليها رسول الله ﷺ أمته ولا حثهم عليها ولا أرشدهم إليها بنص ولا إيماء، ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، أما الصدقة فإنها تقبل وما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة من قوله ﷺ « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية من بعده، وعلم ينتفع به » فهي في الحقيقة من سعيه وكدّه وعمله، كما جاء في الحديث: « إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولد الرجل من كسبه »
والصدقة الجارية كالوقف ونحوه على أعمال البرهى من آثار عمله، وقد قال تعالى: « إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ » الآية، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدوا به واتبعوه - هو من سعيه، فقد ثبت في الصحيح « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من اتبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ».
ومذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء أن ثواب القراءة يصل إلى الموتى إن لم تكن القراءة بأجر، أما إذا كانت به كما يفعله الناس اليوم من إعطاء الأجر للحفاظ للقراءة على المقابر وغيرها - فلا يصل إلى الميت ثوابها، إذ لا ثواب لها حتى يصل إليهم، لحرمة أخذ الأجر على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه.
(3) (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي إن عمله سيعرض يوم القيامة على أهل المحشر ويطلعون عليه، فيكون في ذلك إشادة بفضل المحسنين، وتوبيخ للمسيئين.
ونحو هذا قوله: « وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ».
(4) (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي ثم يجزى بعمله أوفى الجزاء وأوفره، فيضاعف الله له الحسنة ويبلغها سبعمائة ضعف، ويجازى بالسيئة مثلها أو يعفو عنها كما قال: « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ».
(5) (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي وأن مرجع الأمور يوم الميعاد إلى ربك، فيحاسبهم على النقير والقطمير، ويثيبهم أو يعاقبهم بالجنة أو النار.
وفي هذا تهديد بليغ للمسىء، وحث شديد للمحسن، وتسلية لقلبه ﷺ، كأنه يقول له: لا تحزن أيها الرسول، فإن المنتهى إلى الله.
ونحو الآية قوله: « فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ » إلى أن قال في آخر السورة « وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » وأمثال ذلك كثيرة في القرآن.
(6) (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي وأنه خلق في عباده الضحك والبكاء وسببهما، والمراد أنه خلق ما يسرّ وما يحزن من الأعمال الصالحة، والأعمال الطالحة.
(7) (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي وأنه خلق الموت والحياة كما جاء في قوله: « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ » فهو يميت من يشاء موته، ويحيى من يشاء حياته، فينفخ الروح في النطفة الميتة فيجعلها حية.
(8) (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي وأنه خلق الذكر والأنثى من الإنسان وغيره من الحيوان من المني الذي يدفق في الأرحام.
(9) (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي وأن عليه الإحياء بعد الإماتة، ليجازى كل من المحسن والمسيء على ما عمل.
(10) (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي وأنه تعالى يغنى من يشاء من عباده، ويفقر من يشاء بحسب ما يرى من استعداد كل منهما ومقدرته على كسب المال بحسب السنن المعروفة في هذه الحياة.
وفي هذا تنبيه إلى كمال القدرة، فإن النطفة جسم متناسب الأجزاء في الظاهر، ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة، وطباعا متباينة من ذكر وأنثى، ومن ثم لم يدّع أحد خلق ذلك، كما لم يدّع خلق السموات والأرض كما قال: « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ».
ونحو الآية قوله: « أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ ».
(11) (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) أي وأنه تعالى رب هذا الكوكب الوهاج الذي تطلع خلف الجوزاء في شدة الحر.
وإنما خصها بالذكر من بين الأجرام السماوية، وفيها ما هو أكبر منها جرما وأكثر ضوءا، لأنها عبدت من دون الله في الجاهلية، فقد عبدتها حمير وخزاعة، وأول من سن عبادتها أبو كبشة وكان من أشراف العرب، وكانت قريش تقول لرسول الله ﷺ ابن أبي كبشة تشبيها له به، لمخالفته دينهم كما خالفهم أبو كبشة، وكان من أجداد النبي ﷺ من قبل أمه، ومن ذلك قول أبي سفيان حين دخوله على هرقل: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. ومن العرب من كانوا يعظمونها، ويعتقدون أن لها تأثيرا في العالم ويتكلمون على المغيبات حين طلوعها. وهي شعريان إحداهما شامية، وثانيتهما يمانية وهي المرادة هنا وهي التي كانت تعبد من دون الله.
(12) (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عادًا الْأُولى) وهي قوم هود عليه السلام، وعاد الأخرى هي إرم بن سام بن نوح كما قال: « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟ » وقد كانوا من أشد الأمم وأقواهم وأعتاهم على الله ورسوله، فأهلكهم « بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا » أي متتابعة.
وقال المبرد: وعاد الأخرى هي ثمود، وقيل عاد الأخرى من ولد عاد الأولى.
(13) (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي وأهلك ثمود فما أبقى عليهم، بل أخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر.
ونحو الآية قوله: « فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ».
(14) (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود، وكانوا أظلم من هذين، لأنهم بدءوا بالظلم، و« من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها » وأطغى منهما وأكثر تجاوزا للحد، لأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم بقوله: « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا ».
وقد كان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه ويمشى إلى نوح يحذره منه ويقول يا بني إن أبى مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ، فإياك أن تصدّقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه، لا يتأثر من دعائه له.
(15) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي وأهلك قوم لوط بانقلاب قريتهم عليهم وجعل عاليها سافلها ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود كما قال: « وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ » وهذا ما عناه سبحانه بقوله: فغشاها ما غشى.
وفي هذا الأسلوب تهويل للأمر الذي غشاها به، وتعظيم له.
[سورة النجم (53): الآيات 55 الى 62]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
تفسير المفردات
الآلاء: النعم واحدها ألى (بالفتح والكسر) وتتمارى: تمترى وتشك، والخطاب للانسان، هذا نذير من النذر: أي إن محمدا بعض من أنذر، أزفت: قربت، والآزفة: الساعة، وسميت بذلك لقرب قيامها، أو لدنوها من الناس كما جاء في قوله: « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ » من دون الله: أي من غيره، كاشفة: أي نفس تكشف وقت وقوعها وتبينه، لأنها من أخفى المغيبات، والحديث: القرآن، سامدون: أي لاهون غافلون من سمد البعير في سيره إذا رفع رأسه، فاسجدوا: أي اشكروا على الهداية، واعبدوا: أي اشتغلوا بالعبادة والطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قبل ما جاء في صحف موسى وإبراهيم، من أن الإحياء والإماتة بيد الله، وأنه هو الذي يصرّف أمور العالم خلقا وتدبيرا وملكا، فيفقر قوما ويغنى آخرين، وأن أمر المعاد تحت قبضته، وأن الخلق إذ ذاك يرجعون إليه، وأن بعض الأمم كذبت رسلها وأنكرت الخالق فأصابها ما أصابها - قفى على هذا بالتعجيب من أمر الإنسان، وأنه كيف يتشكك في هذا ويجادل فيه منكرا له، وقد جاء النذير به، فعليكم أن تصدّقوه وتؤمنوا به قبل أن يحل بكم عذاب يوم عظيم قد أزف، ولا يقدر على كشفه أحد إلا هو، فلا تعجبوا من القرآن منكرين، ولا تضحكوا منه مستهزئين، وابكوا حزنا على ما فرّطتم في جنب الله، وعلى غفلتكم عن مواعظه وحكمه التي فيها سعادتكم في دنياكم وآخرتكم، واسجدوا شكرا لبارئ النسم، الذي أوجدها من العدم، واعبدوه بكرة وعشيا شكرا على آلائه، وتقلبكم في نعمائه.
الإيضاح
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي فبأي نعم ربك عليك أيها الإنسان تمترى وتشك؟
ونحو الآية قوله: « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ » وقوله: « وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا » وقوله: « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ».
والمراد بالنعم ما عدده من قبل، وجعلت كلها نعما، وبعضها نقم، لما في النقم من المواعظ والعبر للمعتبرين، من الأنبياء والمؤمنين.
والخلاصة - إنها كلها دالة على وحدانية ربك وربوبيته، ففي أيها تتشكك على وضوحها للناظرين، ووجوه دلالتها للمعتبرين؟.
(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي إن محمدا ﷺ منذر من حاد عن طريق الهدى، وسلك طريق الضلال والهوى، بسىء العواقب، في العاجل والآجل، وهو كمن قبله من الرسل الذين أرسلهم ربهم لهداية خلقه، فكذبوهم فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وحل بهم البوار والنكال، كفاء تكذيبهم وجحودهم آلاء ربهم، ونعمه التي تترى عليهم.
ونحو الآية قوله: « إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ » وقوله ﷺ « أنا النذير العريان » أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا، وبادر إلى إنذار قومه وجاءهم مسرعا.
(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت الساعة، ونصب الميزان، وستجازى كل نفس بما عملت من خير أو شر، فاحذروا أن تكونوا من الهالكين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
ونحو الآية قوله: « إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ » وفي الحديث « مثلى ومثل الساعة كهاتين » وفرق بين إصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام.
(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ) أي ليس هناك من يعرف وقت حلول الآزفة إلا هو، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تأخذكم الساعة بغتة وأنتم لا تشعرون، فتندموا ولات ساعة مندم، وجدّوا للعمل قبل حلول الأجل.
وقد أشار في هذه الآيات إلى أصول الدين الثلاثة.
(1) وحدانية الله بقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى؟).
(2) إثبات نبوة محمد ﷺ بقوله: (هذا نذير) (3) إثبات الحشر والبعث بقوله: (أزفت الآزفة).
ثم أنكر على المشركين تعجبهم من القرآن واستهزاءهم به وإعراضهم عنه فقال:
(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي أفينبغي لكم بعد ذلك أن تعجبوا من هذا القرآن وقد جاءكم بما فيه هدايتكم إلى سواء السبيل، وإرشادكم إلى الطريق المستقيم، وكيف تسخرون منه وتستهزئون به، ولا تكونوا كالموقنين الذين وصفهم الله بقوله: « وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا » وكيف تلهون عن استماع عبره، وتغفلون عن مواعظه، وتتلقونها تلقى اللاهي الساهي المعرض عما يسمع، غير المكترث بما يلقى إليه.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: لما نزلت « أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ » الآية بكى أصحاب الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله ﷺ حنينهم بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال عليه الصلاة والسلام: « لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم »
ثم بيّن ما يجب عند سماع القرآن من الإجلال والتعظيم فقال:
(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي فاخضعوا وأخلصوا له العمل حنفاء غير مشركين به، فهو الذي أنزله على عبده ورسوله هاديا وبشيرا لكم لعلكم ترحمون، ودعوا ما أنتم فيه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تغنى عنكم شيئا، فلا تدفع عنكم ضرّا، ولا تجديكم نفعا كما قال آمرا رسوله أن يقول لهم: « قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ؟ ».
ما تضمنته السورة الكريمة من الأسرار والأحكام
(1) إنزال الوحي على رسوله.
(2) إن الذي علمه إياه هو جبريل شديد القوى.
(3) قرب رسوله من ربه.
(4) إن النبي ﷺ رأى جبريل على صورته الملكية مرتين.
(5) تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام.
(6) توبيخهم على جعل الملائكة إناثا وتسميتهم إياهم بنات الله.
(7) مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله.
(8) أوصاف المحسنين.
(9) إحاطة علمه تعالى بما في السموات والأرض.
(10) النهي عن تزكية المرء نفسه.
(11) الوصايا التي جاءت في صحف إبراهيم وموسى.
(12) النعي على المشركين في إنكارهم الوحدانية والرسالة والبعث والنشور.
(13) التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه، وغفلتهم عن مواعظه.
(14) أمر المؤمنين بالخضوع لله والإخلاص له في العمل.
سورة القمر
هي مكية إلا قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) فمدنية.
وآيها خمس وخمسون، نزلت بعد الطارق.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) مشاكلة آخر السورة السابقة لأول هذه فقد قال هناك: أزفت الآزفة، وقال هنا: اقتربت الساعة.
(2) حسن التناسق بين النجم والقمر.
(3) إن هذه قد فصلت ما جاء في سابقتها، ففيها إيضاح أحوال الأمم التي كذبت رسلها، وتفصيل هلاكهم الذي أشار إليه في السابقة بقوله: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عادًا الْأُولى. وَثَمُودَ فَما أَبْقى. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) فما أشبهها مع سابقتها بالأعراف بعد الأنعام، والشعراء بعد الفرقان.
[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 8]
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
تفسير المفردات
اقتربت: أي دنت وقربت، وانشق القمر: أي انفصل بعضه من بعض وصار فرقتين، آية: أي دليلا على نبوتك، مستمر: أي مطرد دائم، أهواءهم: أي ما زينه لهم الشيطان من الوساوس والأوهام، مستقر: أي منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة، الأنباء أخبار القرون الماضية وما حاق بهم من العذاب جزاء تكذيبهم للرسل، واحدها نبأ، بالغة: أي واصلة غاية الإحكام والإبداع، تغنى: أي تفيد وتنفع، والنذر: واحدهم نذير بمعنى منذر، فتولّ عنهم: أي لا تجادلهم ولا تحاجهم، نكر: أي أمر تنكره النفوس إذ لا عهد لها بمثله، خشعا: واحدهم خاشع: أي ذليل، والأجداث: القبور، مهطعين: أي مسرعين منقادين، عسر: أي صعب شديد الهول.
المعنى الجملي
يخبر سبحانه باقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها وأن الأجرام العلوية يختل نظامها على نحو ما جاء في قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)
روي أنس « أن النبي ﷺ خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا سفّ يسير، فقال: والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه ».
وروى أحمد عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (بعثت أنا والساعة هكذا، وأشار بإصبعيه السبّابة والوسطى).
ثم ذكر أن الكافرين كلما رأوا علامة من علامات نبوتك أعرضوا وكذبوا بها وقالوا إن هذا إلا سحر منك يتلو بعضه بعضا ثم أخبر أن أمرهم سينتهي بعد حين وسيستقر أمرك، وسينصرك الله عليهم نصرا مؤزّرا، ثم أعقب هذا بأن عبر الماضين وإهلاك الله لهم بعد تكذيبهم أنبياءهم كانت جدّ كافية لهم لو أن لهم عقولا يفكرون بها فيما هم قادمون عليه، ولكن أنّى تغنى الآيات والنذر عن قوم قد أضلهم الله على علم وختم على قلوبهم وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة؟. ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم وسيخرجون من قبورهم أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين إلى إجابة الداعي، يقول الكافرون منهم هذا يوم شديد حسابه، عسر عقابه.
الإيضاح
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة، وقرب انتهاء الدنيا وهذا كقوله: « أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ » وقوله: « اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ».
(وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وسينشق القمر وينفصل بعضه من بعض حين يختل نظام هذا العالم وتبدل الأرض غير الأرض، ونحو هذا قوله: « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ » وقوله: « إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ » وكثير غيرهما من الآيات الدالة على الأحداث الكبرى التي تكون حين خراب هذا العالم وقرب قيام الساعة.
ويرى جمع من المفسرين أن هذا حدث قد حصل، وأن القمر صار فرقتين على عهد رسول الله ﷺ قبل الهجرة بنحو خمس سنين، فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء (جبل بمكة) بينهما، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود: « انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقتين، فرقة على الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله ﷺ اشهدوا ».
وجاء عنه أيضا: « انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فقالت قريش: هذا سحر بن أبي كبشة، فقال رجل انتظروا ما يأتيكم به السفّار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس، فجاء السفار فأخبروهم بذلك » رواه أبو داود والطيالسي، وفي رواية البيهقي « فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا رأيناه، فأنزل الله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر ».
والذي يدل على أن هذا إخبار عن حدث مستقبل لا عن انشقاق ماض - أمور:
(1) إن الإخبار بالانشقاق أتى إثر الكلام على قرب مجىء الساعة، والظاهر تجانس الخبرين وأنهما خبران عن مستقبل لا عن ماض.
(2) إن انشقاق القمر من الأحداث الكونية الهامة التي لو حصلت لرآها من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم، ولبلع حدا لا يمكن أحدا أن ينكره، وصار من المحسوسات التي لا تدفع، ولصار من المعجزات التي لا يسع مسلما ولا غيره إنكارها.
(3) ما ادعى أحد من المسلمين إلا من شذ أن هذه معجزة بلغت حد التواتر، ولو كان قد حصل ذلك ما كان رواته آحادا، بل كانوا لا يعدّون كثرة.
(4) إن حذيفة بن اليمان وهو ذلكم الصحابي الجليل خطب الناس يوم الجمعة في المدائن حين فتح الله فارس فقال: ألا إن لله تبارك وتعالى يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة، فهذا الكلام من حذيفة في معرض قرب مجىء الساعة وتوقع أحداثها، لا في كلام عن أحداث قد حصلت تأييدا للرسول وإثباتا لنبوته، لأن ذلك كان في معرض العظة والاعتبار.
وبعد أن ذكر قرب مجىء الساعة وكان ذلك مما يستدعى انتباههم من غفلتهم، والتفكير في مصيرهم، والنظر فيما جاءهم به الرسول من الأدلة المثبتة لنبوته، والمؤيدة لصدقه، لكنهم مع كل هذا ما التفتوا إلى الداعي لهم إلى الرشاد، والهادي لهم إلى سواء السبيل، بل أعرضوا وتولوا مستكبرين كما قال:
(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي وإن ير المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوتك، وترشدهم إلى صدق ما جئت به من عند ربك، يعرضوا عنها ويولوا مكذبين بها، منكرين أن يكون ذلك حقا، ويقولوا تكذيبا منهم بها: هذا سحر سحرنا به محمد، وهو يفعل ذلك على مرّ الأيام.
وفي هذا إيماء إلى ترادف الآيات، وتتابع المعجزات.
وقال الكسائي والفرّاء واختاره النحاس: إن المراد بالمستمر الذاهب الزائل عن قرب، إذ هم قد عللوا أنفسهم ومنّوها بالأماني الفارغة، وكأنهم قالوا: إن حاله عليه السلام وما ظهر من معجزاته إن هي إلا سحابة صيف عن قريب تقشع، ولكن أيهات أيهات، فقد غرّتهم الأماني: « وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ».
ثم أكد ما سبق بقوله:
(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به أهواؤهم، لجهلهم وسخف عقولهم.
والخلاصة - إنهم كذبوا النبي ﷺ وتركوا حججه وقالوا: هو كاهن يقول عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال، وساحر يسترهب الناس بسحره، إلى أشباه هذا من مقالاتهم التي تدل على العناد وعدم قبول الحق.
ثم سلّى رسوله وهدد المشركين بقوله:
(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي وكل شيء ينتهى إلى غاية تشاكله، فأمرهم سينتهى إلى الخذلان في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة، وأمرك سينتهى إلى النصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
وهذه قاعدة عامة تنضوى تحتها حركات الكواكب والأفلاك ونظم العمران وأعمال الأفراد والأمم.
وقصارى ذلك - إن أمر محمد ﷺ سيصل إلى غاية يتبين عندها أنه الحق، وأن ما سواه هو الباطل، فقد جرت سنة الله بأن الحق يثبت، والباطل يزهق بحسب ما وضعه في نظم الخليقة (البقاء للأصلح).
ثم ذكر أنهم في ضلال بعيد، فإن ما جاء في القرآن من أخبار الماضين قد كان فيه مزدجر لهم لو كانوا يعقلون، قال:
(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ولقد جاء هؤلاء المشركين الذين كذبوا بك واتبعوا أهواءهم - من الأخبار عن الماضين الذين كذبوا الرسل فأحل الله بهم من العقوبات ما قصه في كتابه - ما يردعهم ويزجرهم عما هم فيه من القبائح، إذ أبادهم في الدنيا وسيعذبهم يوم الدين جزاء وفاقا لما دنسوا به أنفسهم من الشرك بربهم وعصيان رسله، واجتراحهم للسيئات.
ثم بين الذي جاءهم به فقال:
(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي هذه الأنباء غاية الحكمة في الهداية والإرشاد إلى طريق الحق لمن اتبع عقله وعصى هواه.
(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أي إن النذر لم يبعثوا ليلجئوا الناس إلى قبول الحق، وإنما أرسلوا مبلغين فحسب فليس عليك ولا على الأنبياء قبلك الإغناء والإلجاء إلى اتباع سبيل الهدى، فإذا بلّغت فقد أتيت بما عليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها في نحو قوله « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » وتول عنهم بعدئذ.
ونحو الآية قوله « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ».
ثم أمر رسوله ألا يجادلهم ولا يناظرهم فإن ذلك لا يجدى نفعا فقال:
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين المكذبين ولا تحاجهم، فإنهم قد بلغوا حدا لا يقنعون معه بحجة ولا برهان، فأحرى بك ألا تلتفت إلى نصحهم وإرشادهم، فقد عييت بأمرهم، وبرمت بعنادهم.
(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي واذكر حين ينادى الداعي إلى شيء فظيع تنكره نفوسهم، إذ لا عهد لها بمثله، وهو موقف الحساب وما فيه من أهوال.
وقد جرت العادة أن من ينصح شخصا لا يؤثر فيه النصح أن يعرض عنه ويقول لسواه ما فيه نصح للمعرض عنه، وهدايته وإرشاده لو أراد.
ثم ذكر حال الكافرين في هذا اليوم فقال:
(خُشَّعًا أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي يخرجون من قبورهم ذليلة أبصارهم من هول ما يرون، كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعى - جراد قد انتشر في الآفاق.
وجاء تشبيهم في الآية الأخرى بالفراش في قوله « يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ».
وهم يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين، لا يهتدون أين يتوجهون، لأن الفراش لا جهة لها تقصدها، ثم يكونون كالجراد المنتشر إذا توجهوا للحشر، فهما تشبيهان باعتبار وقتين، وحكى ذلك عن مكى بن أبي طالب.
(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي مسرعين إلى الداعي لا يخالفون ولا يتأخرون، ويقولون هذا يوم شديد الهول سيىء المنقلب.
ونحو الآية قوله: « فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ».
وفي هذا إيماء إلى أنه هين على المؤمن لا عسر فيه ولا مشقة.
قصص بعض الأنبياء مع أممهم
(1) قصص قوم نوح
[سورة القمر (54): الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
تفسير المفردات
وازدجر: أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذى والتخويف، فانتصر: أي فانتقم لي منهم، منهمر: أي كثير كما قال:
أعيناى جودا بالدموع الهوامر على خير باد من معدّ وحاضر
فالتقى الماء: أي ماء السماء وماء الأرض، على أمر: أي على حال، قد قدر: أي قد قدّره الله في الأزل، ذات ألواح: أي ذات خشب عريضة، دسر: أي مسامير واحدها دسار ككتب وكتاب، بأعيننا: أي بمرأى منه والمراد بحراستنا وحفظنا، كفر: أي جحد به وهو نوح عليه السلام، تركناها: أي أبقينا السفينة، آية: أي علامة ودليلا، مدكر: أي متذكر ومعتبر، ونذر: واحدها نذير بمعنى إنذار، يسرنا: أي سهلنا، للذكر: أي للعظة والاعتبار، مدكر: أي متعظ بمواعظه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجر لهم لو تذكروا لكن لم تغنهم تلك الزواجر شيئا - أردف هذا ذكر قصص من قبلهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود، ليبين لرسوله أنهم ليسوا ببدع في الأمم، بل كثير منهم فعلوا فعلهم بل كانوا أشد منهم عتوا واستكبارا، وأن الأنبياء قبله قد لاقوا منهم من البلاء ما لا قيت، فلا تأس على ما فرط منهم، ولا تبتئس بما كانوا يفعلون كما جاء في قوله سبحانه: « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ».
وفي هذا وعيد للمشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم فسيحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم، وينجّى نبيه والمؤمنين كما نجّى من قبله من الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلها بأممهم.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قبل قومك قوم نوح فكانوا أسوة لمن بعدهم من المكذبين للرسل.
ثم فصّل هذا التكذيب بقوله:
(فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) أي فكذبوا عبدنا نوحا ونسبوه إلى الجنون، وزجروه وتوعدوه، لئن لم ينته ليكونن من المرجومين.
وأضاف العبد إليه في قوله « عبدنا » للاشارة إلى أنه لم يعبد سواه، فهو في جميع أفعاله لله وإلى أنه صادق في دعواه النبوة، فهو لا ينطق عن الهوى، فتكذيبهم له قبيح غاية القبح، بالغ نهاية العتوّ والإنكار.
ثم بين أنه عيل بهم صبرا، وضاق بهم ذرعا فدعا عليهم فقال:
(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي فدعا نوح ربه قائلا إن قومي قد غلبونى لتمردهم وعتوهم، ولا طاقة لي بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.
وقصارى ذلك - انتصر لك ولدينك، فإني قد غلبت وعجزت عن الانتصار لهما.
ثم أخبر سبحانه أنه قد أجاب دعاءه فقال:
(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي فصببنا عليهم ماء ثجاجا من السماء، وتقول العرب في المطر الوابل: جرت ميازيب السماء. روى أنهم طلبوا المطر سنين فأهلكهم الله بما طلبوا.
وفي الآية إيماء إلى أن الله انتصر منهم، وانتقم بماء لا بجند أنزله.
(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا) أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة.
(فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي فالتقى الماء أي ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وهو هلاكهم بالطوفان.
والخلاصة - إن الله أرسل ماء السحاب مدرارا، وأخرج من الأرض ماء ثجاجا فالتقى الماءان فأحدثا طوفانا على وجه الأرض، فأغرق به قوم نوح، ونجا نوح بركوب سفينته التي بناها كما أشار إلى ذلك في هود بالتفصيل وأشار إليه هنا بقوله:
(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي وأنقذناه من الطوفان، فحملناه على سفينة ذات خشب ومسامير.
وجاء في سورة العنكبوت « فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ».
وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى يوجد الأسباب لتحقيق ما يريد من المسببات، بحسب السنن التي وضعها في الخليقة، وأنه يمهل الظالمين، ولا يهملهم كما جاء في الحديث « إن ربك لا يهمل ولكن يمهل ».
ثم أشار إلى أنه كان محروسا بعناية الله وكلاءته فقال:
(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي تجرى محفوظة بحراستنا، فقد كانت بمرأى منافنحن نكلؤها ونرعاها، كما يرعى المرء ما يراه بعينه، ويقع تحت سمعه وبصره، ويقول القائل إذا وصّى آخر بأمر وشدد عليه: اجعله نصب عينيك أي اهتمّ به، ولا تهمله.
ثم بين أن هذا هو الجزاء العادل على سوء صنيعهم، وكفرهم بربهم فقال:
(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي فعلنا ذلك بهم جزاء كفرهم بآياتنا، وجحودهم بنعمائنا، وتكذيبهم برسولنا.
ثم ذكر أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم على كر الدهور والأعوام فقال:
(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي ولقد جعلنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن معه - عبرة لمن بعده من الأمم، ليدبروا ويتعظوا، ويرعووا أن يسلكوا مسلكهم وينهجوا نهجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة وقد رووا أن الله حفظها آمادا طويلة بأرض الجزيرة على جبل الجودي. وقال قتادة: أبقاها الله بباقر دى من أرض الجزيرة حتى أدركتها أوائل هذه الأمة.
ونحو الآية قوله تعالى: « إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ».
(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي فهل من معتبر بتلك الآية الحريّة بالاعتبار، الجديرة بطويل التفكير والتأمل في عواقب المكذبين برسل الله، الجاحدين بوحدانيته، المتخذين له الأنداد والأوثان.
ثم بين سبحانه شديد نكاله وعقابه فقال:
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) أي ما أشد ما أنزلته بهم من البوار والهلاك، وما أفظع إنذاري لهم بما أحللته بهم من النقمة بعد النعمة، وهكذا عاقبة كل مكذب جبار.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد، وعظيم التهديد، لكل باغ عنيد، ساخط على الرسل، مكذب بربه.
والخلاصة - انظر كيف كان عذابى لمن كفر بي، وكذب رسلي، وكيف انتصرت لهم، وأخذت أعداءهم بما يستحقون؟.
ثم ذكر أن هذا القصص وأمثاله إنما ذكر في القرآن للعبرة، لا ليكون قصصا تاريخيا يتلى، فقال:
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي ولقد سهلنا لفظه، ويسرنا معناه، وملأناه بأنواع العبر والمواعظ، ليتعظ به من شاء، ويتدبر من أراد « وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ».
ونحو الآية قوله: « كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ » وقوله: « فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا » روى الضحاك عن ابن عباس قال: لو لا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل.
(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من متعظ به، مزدجر عن معاصيه، أي ما أقل من تذكر به، واتعظ بأمره ونهيه.
(2) قصص عاد قوم هود
[سورة القمر (54): الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
تفسير المفردات
الريح الصرصر: الباردة أشد البرد، والنحس: الشؤم، منقعر: أي مقتلع من أصوله يقال قعرت النخلة: أي قلعتها من أصلها فانقعرت.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص قوم نوح وما فيه من العبرة لمن تدبر وفكر، أعقبه بقصص عاد قوم هود، ليبين للمكذبين أن عاقبة كل مكذب الهلاك والبوار وإن تعددت أسبابه.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
فقد أرسل الله عليهم ريحا عاصفا، لصوتها صرير حين هبوطها في يوم شؤم عليهم، واستمر بهم البلاء حتى حل بهم الدمار، وكانت الريح لشدتها تقتلع الناس من الأرض وترفعهم إلى السماء ثم ترمى بهم على رءوسهم، فتندقّ رقابهم، وتبين من أجسامهم، فانظروا أيها المكذبون إلى ما حل بهم من العذاب جزاء تكذيبهم لرسوله، كما هي سنة الله في أمثالهم من المكذبين.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ عادٌ) أي كذبت عاد نبيهم هودا فيما أتاهم به عن الله، كما كذبت قوم نوح من قبلهم نبيهم.
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا معشر قريش، كيف كان عذابى إياهم، وعقابي لهم على كفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله هودا، وإنذاري من سلك سبيلهم وتمادى في الغي والضلال بحلول مثل ذلك العقاب به.
وفي هذا توجيه لقلوب السامعين إلى الإصغاء لما يلقى عليهم قبل ذكره، وتعجيب من حالهم بعد بيانه، كأنه قيل: كذبت عاد فانظروا كيف كان عذابى وإنذاري لهم به قبل نزوله.
ثم فصّل ما أجمله أولا فقال:
(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي إنا بعثنا إلى عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بربهم ريحا شديدة العصوف في برد، لصوتها صرير، في زمن شؤم ونحس عليهم، إذ ما زالت مستمرة حتى أهلكتهم.
ونحو الآية قوله: « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ » وقوله: « سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا » أي متتابعة. وما روى من شؤم بعض الأيام فلا يصح شيء منه، فالأيام كلها لله، لا ضرر فيها لذاتها، ولا محذور منها، ولا سعد فيها ولا نحس، فما من يوم يمر إلا وهو سعد على قوم ونحس على آخرين، باعتبار ما يحدثه الله فيه من الخير والشر لهم، فكل منها يتصف بالأمرين:
ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات
وتخصيص كل يوم بعمل كما يزعم بعض الناس وينسبون في ذلك أبياتا إلى علي كرم الله وجهه، لا يصح منه شيء، وإنما هو نزغات شيعيّة لا تستند إلى ركن من الدين ركين.
(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي تقتلعهم حتى يصيروا كأنهم أعجاز نخل قد انقلع من مغارسه في الأرض.
وفي الآية إيماء إلى أن الريح كانت تقتلع رءوسهم فتبقى الأجسام ولا رءوس لها، وإلى أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال كالنخل، وإلى أنهم أعملوا أرجلهم في الأرض وقصدوا بذلك مقاومة الريح، وإلى أن الريح جعلتهم كأنهم خشب يابسة لشدة بردها.
ثم هوّل من أمر العذاب والإنذار بعد بيانهما فقال:
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا كيف كان عذابى وإنذاري، وقد كرره تعظيما لشأنه، وهذه سنة في بليغ الكلام، في باب النصح والإرشاد، وباب التهديد والوعيد، وقد يكون الأول إشارة إلى عذاب الدنيا، والثاني إلى عذاب الآخرة كما جاء في قصصهم في آية أخرى « لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ».
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الكلام فيه كسابقه فلا نعيده.
(3) قصص ثمود
[سورة القمر (54): الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَرًا مِنَّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) ونَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
تفسير المفردات
بالنذر: أي بالرسل، وتكذيب صالح تكذيب لهم جميعا لاتفاقهم على أصول الشرائع، وسعر: أي جنون، ومنه ناقة مسعورة: إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة، والذكر: الوحي والمراد بالغد وقت نزول العذاب بهم، والأشر: شديد البطر، والبطر: دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، فتنة: أي امتحانا واختبارا، فارتقبهم: أي فانتظرهم، واصطبر: أي واصبر على أذاهم، والشرب: النصيب، محتضر: أي يحضره صاحبه في نوبته، فتحضر الناقة مرة ويحضرون أخرى، صاحبهم: هو قدار بن سالف أحيمر ثمود، فتعاطى: أي فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث به، فعقر: أي فضرب قوائم الناقة بالسيف، صيحة واحدة: هي صيحة صاحها جبريل عليه السلام، والهشيم: ما تهشم وتفتت من الشجر، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة فتتساقط منه بعض أجزاء وتتفتت حال العمل.
المعنى الجملي
قص الله علينا قصص ثمود مع نبيها صالح، إذ قالوا: أنحن العدد الجمّ، والكثرة الساحقة، نتبع واحدا منا لا امتياز له عنا؟ إنا إذا فعلنا ذلك لفى ضلال وبعد عن محجة الصواب، وإنه لكاذب فيما يدّعيه من الوحي عن ربه، وما هو إلا بشر وليس بملك، فقال لهم ربهم، ستعلمون بعد حين قريب من الكذاب البطر؟ وقد جعلنا ناقته فتنة واختبارا لهم، فأمرناه أن يخبرهم بأن ماء البئر يقسم بينها وبينهم، فلها يوم ولهم آخر، فما ارتضوا هذا وقام فاسقهم قدا وعقر الناقة فخرت صريعة، فجازاهم الله فأرسل عليهم العذاب فصاروا كالهشيم الذي يتفتت حين بناء حظيرة الماشية.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي كذبت ثمود بنذر الله ورسله الذين بعثهم لخلقه، وهم وإن كذبوا صالحا فحسب، فإن تكذيبه تكذيب لهم جميعا، لاتفاقهم على الأصول العامة للتشريع، وهي التوحيد ومجىء الرسل واليوم الآخر.
ثم فصل تكذيبهم وحكى عنهم مقالهم فقال:
(فَقالُوا أَبَشَرًا مِنَّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ؟) أي أنتبع واحدا من الدهماء، لا من علية القوم ولا من أشرافهم، وليس له ميزة عن امرئ منا بعلم ظاهر، ولا ثروة وغنى، تجعله يدّعى أن يكون الزعيم لنا.
ثم ذكروا وجه إصرارهم على تكذيبه بقولهم:
(إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إنا لو اتبعناه نكون قد ضللنا الصراط السوي، وجانبنا الصواب، وصرنا لا محالة إلى الجنون الذي لا يرضى به عاقل لنفسه.
روي أن صالحا كان يقول لهم: إن لم تتبعونى كنتم في ضلال عن الحق وسعر، فعكسوا عليه مقاله بعتوّهم واستكبارهم فقالوا: إنا إن اتبعناك كنا كما تقول.
ثم بالغوا في العتو والإنكار وتعجبوا من أمره ونسبوه إلى الاختلاق والكذب فقالوا:
(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وأوتى النبوة وهو واحد منا؟ ولم اختصه الله بإنزال الشرائع عليه وهو ليس بملك مكرّم؟ الحق إنه لكذاب متجبر، يريد أن تكون له السيطرة والسلطان علينا، ويودّ أن يكون الرئيس المطاع، وما ذاك إلا بما زينته له نفسه، وأغواه به الشيطان، ولا يستند إلى وحي سماوي، ولا أمر إلهي.
ثم حكى سبحانه ما قاله لصالح وعدا له ووعيدا لقومه فقالوا:
(سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ؟) أي سيعلمون عن قريب حين يحل بهم الهلاك الدنيوي - من الكذاب البطر الذي حمله بطره على ما فعل، أصالح في دعواه الرسالة من ربه، وأنه أمره بالتبليغ لهداية قومه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، أم هم في تكذيبهم إياه ودعواهم عليه الاختلاق والكذب؟.
وقصارى ذلك - سيتبين لهم أنهم هم الكذابون الأشرون.
وأورد الكلام على طريق الإبهام للإشارة إلى أنه مما لا يخفى، جريا على أساليبهم كقوله تعالى آمرا رسوله أن يقول للمشركين: « وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » وقوله:
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيّي وأيك فارس الأحزاب
ثم ذكر مقدمات العذاب الموعود به فقال:
(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي إنا مخرجو الناقة من الهضبة التي طلبوا من نبيهم بعثها منها، لتكون آية لهم، وحجة على صدقه في ادعائه النبوة، وتكون فتنة واختبارا لهم، أيؤمنون بالله ويتبعونه فيما أمرهم به من توحيد، أم يكذبونه ويكفرون به؟.
(فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي فانتظر ماذا يفعلون؟ وأبصر ماذا يصنعون؟ واصبر على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله، فإن الله ناصرك، ومهلك عدوك.
(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي وأخبرهم أن ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، وكل حصة منه يحضر صاحبها ليأخذها في نوبته، فتحضر الناقة تارة، ويحضرون هم أخرى.
وقد جعلت القسمة على هذا الوجه لمنع الضرر، لأن حيوان القوم كانت تنفر منها، ولا ترد الماء وهي عليه، فصعب ذلك عليهم.
(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) أي فملّت ثمود هذه القسمة، وأرادوا الخلاص منها، فنادوا قدار بن سالف وكان أشقاهم ليعقرها وحضّوه على ذلك، فلبّى طلبهم وتناولها بيده وأهوى بالسيف ضربا على قوائمها، فخرت صريعة.
ثم ذكر عقابهم الفظيع فقال:
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) قد سبق تفسير هذا.
ثم فصل هذا العذاب بقوله:
(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي إنا أرسلنا جبريل فصاح بهم صيحة فصاروا كالحشيش البالي الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، وكأنهم هلكوا من أمد بعيد.
وقصارى ذلك - إنهم بادوا عن آخرهم ولم تبق منهم باقية، وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات.
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) مرّ بيان هذا.
(4) قصص قوم لوط
[سورة القمر (54): الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) ولَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
تفسير المفردات
حاصبا: أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصا، قال في الصحاح: الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء، والحصب (بفتحتين) ما تحصب به النار: أي ترمى، وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به، والسحر: السدس الأخير من الليل، وقال الراغب: السحر والسّحرة: اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار، والبطش: الأخذ الشديد بالعذاب، فتماروا بالنذر: أي فشكوا في الإنذارات ولم يصدقوها، راودوه عن ضيفه: أي صرفوه عن رأيه فيهم فطلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه ليفجروا بهم، فطمسنا أعينهم: أي فحجبناها عن الأبصار فلم تر شيئا، بكرة: أي أول النهار، مستقرّ: أي دائب بهم إلى أن يهلكوا.
المعنى الجملي
ذكر هنا تكذيب قوم لوط لنبيهم ومخالفتهم إياه، واجتراحهم من السيئات ما لم يسبقهم به أحد من العالمين، بإتيانهم الذكران دون النساء، ثم أردفه ذكر عذابهم بإرسال حجارة من سجيل عليهم إلا من آمن منهم، فقد نجاهم بسحر، وما أهلكهم إلا بعد أن أنذرهم عذابه على لسان رسوله فكذبوه.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) أي كذبت قوم لوط بآيات الله التي أنذرهم بها.
ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب ونجاة من آمن منهم فقال:
(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي إنا عاقبناهم بإرسال ريح تحمل الحصباء، وما زالت بهم حتى دمرتهم، إلا من آمن منهم، فإنا أمرناهم بالخروج آخر الليل لينجوا من الهلاك.
ثم بين أن سبب إنجاء المؤمنين هو شكرانهم للنعمة فقال:
(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي أنعمنا عليهم بالنجاة كرامة لهم منا، وهكذا نجزى من شكرنا على نعمتنا وأطاعنا فائتمر بأمرنا، وانتهى عما نهينا عنه.
ثم ذكر أنه ما أهلك من أهلك إلا بعد أن أنذرهم عذابه وخوفهم بأسه فقال:
(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي ولقد أنذرهم نبيهم بأس الله وعذابه، قبل حلوله بهم، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه، بل شكّوا فيه وتماروا به.
ثم بين جرمهم الذي استحقوا به العذاب فقال:
(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا منه ضيوفه وهم الملائكة الذين جاءوا في صورة شباب مرد حسان، محنة من الله لهم، إذ قد بعثت إليهم امرأته العجوز السوء فأعلمتهم بأضيافه، فأقبلوا إليه يهرعون من كل مكان، فأغلق لوط عليهم الباب، فجعلوا يعالجونه ليكسروه، وهو يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم: هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم، فقالوا له: لقد علمت مالنا في بناتك من أرب، وإنك لتعلم ما نريد، فلما اشتد بينهم الصراع وأبوا إلا الدخول - طمس الله أبصارهم فلم يروا شيئا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فجعل بعضهم يجول في بعض ولا يرون شيئا، ويقولون:
أين ضيوفك؟ وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود.
(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلنا لهم على ألسنة ملائكتنا: ذوقوا هذا العذاب عذاب طمس الأعين وما بعده بعد أن أنذرتكم على سوء أفعالكم، وقبيح خلالكم.
ثم بين وقت مجىء العذاب فقال:
(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي ولقد نزل بهم العذاب وقت البكور وما زال ملحّا عليهم حتى أخمدهم، وبلغ غايته في دمارهم وهلاكهم.
ثم حكى ما قيل لهم بعد التصبيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب فقال:
(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فذوقوا جزاء أفعالكم من عذاب عاجل، وما لزم من إنذاركم من عذاب آجل.
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) هذه الجملة القسمية وردت في آخر كل قصة من القصص الأربع، تقريرا لمضمون ما سبق من قوله: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وتنبيها إلى أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادّكار، كافية في الازدجار، ولم يحصل بها مع هذا عظة واعتبار.
وقد جاء هذا التكرير فيما سيأتي في سورة الرحمن من قوله: « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » وقوله في سورة المرسلات: « فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ».
وهذا كثير في كلام العرب إذا أرادوا العناية بما فيه من هامّ الأمور، كقول مهلهل في رثاء أخيه كليب حين قتل:
قرّبا مربط النعامة منّى لقحت حرب وائل عن حيالى
قرّبا مربط النعامة منّى شاب رأسى وأنكرتنى عيالى
وهي طويلة جارية على هذا السنن، والنعامة فرسه، ولقحت: أي حملت.
(5) قصص آل فرعون
[سورة القمر (54): الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
تفسير المفردات
النذر: واحدها نذير بمعنى إنذار وهي الآيات التسع التي أنذرهم بها موسى صلوات الله عليه، عزيز: أي لا يغالب ولا يغلب، مقتدر: أي لا يعجزه شيء.
الإيضاح
(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) أي تالله لقد توالت عليهم الإنذارات، وجاءتهم الآية تلو الآية فكذبوا بها.
ثم أبان ما فعلوه على توالى النذر فقال:
(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) أي كذبوا بأدلتنا وبرهاناتنا التي أرسلناها إلى موسى، وقد تقدم ذكرها في سورة الأعراف.
ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال:
(فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) أي فعاقبناهم بكفرهم بالله - عقوبة مقتدر على ما يشاء غير عاجز ولا ضعيف.
توبيخ قريش على كفرهم بربهم
[سورة القمر (54): الآيات 43 الى 46]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
تفسير المفردات
براءة: أي صك مكتوب بالنجاة من العذاب، والزبر: الكتب السماوية واحدها زبور، يولون: أي يرجعون، والدبر: أي الأدبار هار بين منهزمين، والساعة: هي القيامة، موعدهم: أي موعد عذابهم، أدهى: أي أعظم داهية وهي الأمر الفظيع الذي لا يهتدى الخلاص منه، يقال دهاه أمر كذا: أي أصابه، وأمرّ: أي أشد مرارة في الذوق والمراد الشدة والهول.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون، وفصّل ما أصيبوا به من عذاب الله الذي لا مرد له، بسبب كفرهم بآياته وتكذيبهم لرسله - أعقب هذا بتنبيه كفار قريش إلى أنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم فستحل بهم سنتنا، ويحيق بهم من البلاء مثل ما حل بأضرابهم من المكذبين من قبلهم، ولا يجدون عنه محيصا ولا مهربا، ثم خاطبهم خطاب إنكار وتوبيخ فقال لهم: علام تتكلون، وما ذا تظنون؟ أأنتم خير ممن سبقكم عددا وكثرة مال وبطشا وقوة، أم لديكم صكّ من ربكم بأنه لن يعذبكم مهما أشركتم واجترحتم من السيئات؟ أم أنكم تظنون أنكم جمع كثير لا يمكن أن ينال بسوء، ولا تصل إلى أذاكم يد مهما أوتيت من القوة؟ كلا إن شيئا من هذا ليس بكائن، وإنكم ستهزمون وتولون الأدبار في الدنيا وسيحل بكم قضاء الله الذي لا مفر منه، وما سترونه في الآخرة أشد نكالا، وأعظم وبالا، فأفيقوا من غفلتكم، وأنيبوا إلى ربكم، عسى أن يرحمكم.
الإيضاح
(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي أكفاركم يا معشر قريش خير من أولئكم الذين أحللت بهم نقمى من قوم نوح وعاد وثمود؟ فيأملوا أن ينجوا من عذابى ونقمتى، على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي.
وتلخيص المعنى - ما كفاركم خير ممن سبقهم، فهم ليسوا بأكثر منهم قوة، ولا أوفر عددا، ولا ألين شكيمة في الكفر والعصيان والضلال والطغيان، وقد أصاب من هم خير منهم ما أصابهم، فكيف يطمعون في المهرب من مثل ذلك، فليثوبوا إلى رشدهم، وليرجعوا عن غيّهم قبل أن يندموا ولات ساعة مندم.
ثم انتقل من توبيخهم الأول إلى توبيخ أشد منه فقال:
(أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي أم لكم صك بالبراءة من تبعات ما تجترحون من السيئات، وأن ربكم لن يعاقبكم على ما تدسّون به أنفسكم من الشرور والآثام؟ فأنتم على هذا الصك تعتمدون، وبهذا الوعد آمنون، حقا إنكم لتطمعون في غير مطمع، وليس بين أيديكم ولا قلامة ظفر من هذا - فعلام تتكلون؟ وإلام تستندون؟
(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي بل هم يقولون نحن واثقون بشوكتنا، فنحن قوم أمرنا مجتمع، لا نرام ولا نضام، وإنا منصورون على من قصدنا بسوء، أو أراد حربنا وتفريق جمعنا.
وجماع القول - إنه تعالى سدّ عليهم المسالك، ونقض جميع المعاذير التي ربما تعللوا بها في عدم تصديقهم بالرسول، وفى كفرهم بآيات ربهم، فقال لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم؟ أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم، فيكون ذلك سبب الأمن من حلول مثل عذابهم بكم؟ أم أعطاكم الله براءة من عذابه؟ أم أنتم أعز منهم جندا فأنتم تنتصرون على جند الله؟
ثم رد عليهم مقالهم وأبان لهم أنهم يعيشون في بحر من الأوهام، وأن قضاء الله سيحل بهم، وسيهزمون ويولون الأدبار متى جاء قضاؤه فقال:
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق شملهم ويغلبون حين يلتقى جيشهم وجيش المؤمنين، وقد صدق الله وعده، فانهزموا وولوا الأدبار يوم بدر، وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فإن الآية نزلت بمكة ولم يكن له ﷺ يومئذ جيش، بل كان أتباعه مشرّدين في الآفاق، يلاقون العذاب من المشركين في كل صوب، حتى لقد قال عمر رضي الله عنه: لما نزلت لم أعلم ما هي؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ﷺ يلبس الدرع ويقول: سيهزم الجمع فعلمته - ثم استمر انهزامهم بعد.
روى البخاري عن ابن عباس: « أن النبي ﷺ قال وهو في قبّة له يوم بدر: أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع ويقول: « (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) ».
ثم بين أن هذا عذاب الدنيا وسيلاقون يوم القيامة ما هو أشد منه نكالا فقال:
(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي إن ما سيلاقونه من العذاب في الدنيا من الهزيمة والقتل والأسر - هيّن إذا قيس على ما سيلاقونه من العذاب في الآخرة، فإن ذا أشد وآلم، فهو عذاب خالد دائم، وسيأتي بعد وصف ما فيه من فظاعة ونكر.
[سورة القمر (54): الآيات 47 الى 55]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
تفسير المفردات
المراد بالمجرمين: المشركون كما جاء في قوله: « يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ». في ضلال: أي في الدنيا عن الحق، وسعر: أي نيران واحدها سعير، يسحبون: أي يجرّون، سقر: اسم لجهنم، ومسها: حرها، بقدر: أي مقدر مكتوب في اللوح المحفوظ، أمرنا: أي شأننا، واحدة: أي كلمة واحدة وهي قوله (كن) كلمح البصر: أي في اليسر والسرعة، أشياعكم: أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة، واحدهم شيعة، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع، مدكر: أي متعظ، في الزبر: أي في كتب الحفظة، مستطر: أي مسطور مكتوب في اللوح بتفاصيله، نهر: أي أنهار، في مقعد صدق: أي في مكان مرضى، عند مليك مقتدر: أي عند ملك عظيم القدرة واسع السلطان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تكذيب الأمم الماضية لرسلها كما كذبت قريش نبيها، وأعقبه بذكر ما أصابهم في الدنيا من العذاب والهوان - أردف ذلك ذكر ما سينالهم من النكال والوبال في الآخرة، فبين أنهم سيساقون على وجوههم إلى جهنم سوقا، إهانة وتحقيرا لهم، ويقال لهم حينئذ توبيخا وتعنيفا: ذوقوا عذاب النار وشديد حرها. ثم أعقبه ببيان أن كل شيء فهو بقضاء الله وقدره، وإذا أراد الله أمرا فإنما يقول له كن فيكون، ثم نبههم إلى ما كان يجب عليهم أن يتنبهوا له من هلاك أمثالهم من الأمم التي كذبت رسلها من قبل، وفعلت فعلها فأخذها أخذ عزيز مقتدر ثم ختم السورة بذكر ما يتمتع به المتقون في جنات النعيم، من إجلال وتعظيم، ويرون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إن المشركين بالله المكذبين لرسله - في ضلال عن الصراط المستقيم، وعماية عن الهدى في الدنيا، وعذاب أليم في نار جهنم يوم القيامة.
ثم بين ما يلحقهم من الإهانة والإذلال حينئذ فقال:
(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يعذبون ويهانون يوم يجرّون على وجوههم في النار، ويقال لهم إيلاما وتعنيفا: ذوقوا حر النار وآلامها جزاء وفاقا لتكذيبكم رسل ربكم في كل ما جاءوا به من الإنذار بهذا اليوم، والتحذير مما يقع فيه للكافرين من العذاب، والتبشير بما للمتقين فيه من ثواب.
ثم بين أن كل ما يوجد في هذه الحياة فهو لا يحدث اتفاقا، وإنما يحصل بقضاء الله وقدره فقال:
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي إن كل كائن في هذه الحياة، فهو بتقدير الله وتكوينه على مقتضى الحكمة البالغة والنظام الشامل، وبحسب السنن التي وضعها في الخليقة.
ونحو الآية قوله: « وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا » وقوله: « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى »
وفي الحديث الصحيح « استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو إني فعلت لكان كذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان »
وفي حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال له: «... واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، جفت الأقلام، وطويت الصحف ».
وبعد أن بين نفاذ قدره في خلقه بين نفاذ مشيئته فيهم فقال:
(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي إنا إذا أردنا أمرا قلنا له كن فإذا هو كائن ولا يحتاج إلى تأكيد الأمر بثانية ولا ثالثة، ولله در القائل:
إذا أراد الله أمرا فإنما يقول له (كن) قولة فيكون
وهذا تمثيل لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الخلق، فهي كلمح البصر أو هي أقرب.
وجماع القول - ما أمرنا للشىء إذا أردنا إيجاده إلا قولة واحدة (كن) فيكون لا مراجعة فيها ولا ردّ، فهي في السرعة كلمح البصر لا إبطاء ولا تأخير.
ثم أنبهم على ما هم فيه من غفلة وعماية عن الحق بعد وضوحه فقال:
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي ولقد أهلكنا أشباهكم يا معشر قريش من المكذبين لأنبيائهم من الأمم الخالية، واستأصلنا شأفتهم بحسب سنتنا في أمثالهم، بشتى العقوبات، ومختلف الوسائل « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ » أفما كان لكم في ذلك مزدجر تعتبرون به، فتنيبوا إلى ربكم وتسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون؟
ونحو الآية قوله: « وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ » ثم بين لهم أن كل أعمالهم محصاة عليهم وسيحاسبون على النقير والقطمير فقال:
(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي وكل شيء يفعلونه، فيدسون به أنفسهم من الكفر والمعاصي، ويدنسونها به من الأرجاس والآثام فهو مقيّد لدى الكرام الكاتبين كما قال: « ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ » فما من صغيرة ولا كبيرة إلا وهي مسطورة في دواوينهم، وصحائف أعمالهم، فليحذروا ما هم عليه قادمون من الحساب العسير على الجليل والحقير، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
روى الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يقول: « يا عائشة إياك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا ».
وقيل:
لا تحقرنّ من الذنوب صغيرا إن الصغير غدا يعود كبيرا
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطّر تسطيرا
فاسأل هدايتك الإله فتتئد فكفى بربك هاديا ونصيرا
وبعد أن ألمع إلى ما يصيب الكافرين من الإهانة في ذلك اليوم - أردفه ما يناله المتقون من الكرامة عند ربهم، وما يحظون به من الشرف والزلفى، بحسب سنة القرآن من ذكر الثواب إثر العقاب والعكس بالعكس فقال:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي إن الذين اتقوا عقاب ربهم فأطاعوه، وأدوا فرائضه واجتنبوا معاصيه، وأخلصوا له العمل في السر والعلن، يثبهم بما عملوا جنات تجرى من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب، ويجلسون على فرش بطائنها من إستبرق، ويجدون فيها من النعيم ما لا يخطر على قلب بشر، كفاء ما بذلوا من الصبر على شاقّ الطاعات، وحرموا منه أنفسهم من اللذات، كما قيل للربيع بن خيثم وقد صلّى حتى ورمت قدماه، وتهجد حتى غارت عيناه: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب.
كما ينالون الزلفى عند ربهم القادر على جزائهم بإحسانه وجوده، وفضله ومنته فكل شيء تحت قبضته وسلطانه، لا يمانع ولا يغالب، وهو العزيز الحكيم.
اللهم احشرنا في زمرتهم واجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، إنك أنت السميع المجيب، ذو الطّول العظيم.
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) الإخبار بقرب مجىء الساعة.
(2) تكذيب المشركين للرسول وقولهم في معجزاته: إنها سحر مفترى.
(3) غفلتهم عما في القرآن من الزواجر.
(4) أمر الرسول ﷺ بالإعراض عنهم حتى يأتي قضاء الله فيهم.
(5) إنذارهم بأنهم سيحشرون أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين كأنهم جراد منتشر.
(6) قصص المكذبين من سالفى الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون، وما لا قوه من الجزاء على تكذيبهم.
(7) توبيخ المشركين على ما هم فيه من الغفلة عن الاعتبار بهذه النذر.
(8) ما يلاقونه من الجزاء في الآخرة إهانة وتحقيرا لهم.
(9) بيان أن كل ما في الوجود فهو بقضاء الله وقدره.
(10) نفاذ مشيئة الله وسلطانه في الكون.
(11) بيان أنّ كل أعمال المرء في كتاب قد خطه الكرام الكاتبون.
(12) ما أوتيه المتقون من الكرامة عند ربهم وما لهم من الزلفى لديه.
سورة الرحمن جل وعلا
هي مكية وآيها ثمان وسبعون، نزلت بعد سورة الرعد.
ووجه صلتها بما قبلها:
(1) إن فيها تفصيل أحوال المجرمين والمتقين التي أشير إليها في السورة السابقة إجمالا في قوله: « إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ » وقوله: « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ » (2) إنه عدّد في السورة السابقة ما نزل بالأمم التي قد خلت من ضروب النقم وبين عقب كل ضرب منها أن القرآن قد يسّر لتذكر الناس وإيقاظهم، ثم نعى عليهم إعراضهم - وهنا عدد ما أفاض الله على عباده من ضروب النعم الدينية والدنيوية في الأنفس والآفاق، وأنكر عليهم إثر كل فن منها إخلالهم بموجب شكرها.
(3) إن قوله: « الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ » كأنه جواب سائل يقول: ما ذا صنع المليك المقتدر، وما أفاد برحمته أهل الأرض؟.
[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]
بسم الله الرحمن الرحيم
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) والْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
تفسير المفردات
الرحمن: اسم من أسماء الله الحسنى، والإنسان هو هذا النوع، البيان: تعبير الإنسان عما في ضميره وإفهامه لغيره، بحسبان: أي بحساب دقيق منظم، والنجم: ما لا ساق له من النبات كالحنطة والفول، والشجر: ما له ساق كالنخل والبرتقال، يسجدان: أي ينقادان لله طبعا كما ينقاد المكلفون اختيارا، رفعها: أي خلقها مرفوعة المحل والمرتبة، والميزان: العدل والنظام، وأقيموا الوزن بالقسط: أي قوّموا وزنكم بالعدل، ولا تخسروا الميزان: أي لا تنقصوه، للأنام: أي للخلق، والأكمام: واحدها كمّ (بالكسر) وعاء الثمر، والعصف: ورق النبات الذي على السنبلة، والريحان: كل مشموم طيب الرائحة من النبات، والآلاء: النعم واحدها إلى (بفتح الهمزة وكسرها) وإلى وإلو.
المعنى الجملي
بين سبحانه ما صنعه المليك المقتدر من النعم لعباده، رحمة بهم فأفاد:
(1) أنه علم القرآن وأحكام الشرائع لهداية الخلق وإتمام سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
(2) أنه خلق الإنسان على أحسن تقويم وكمله بالعقل والمعرفة.
(3) أنه علمه النطق وإفهام غيره، ولا يتم هذا إلا بنفس وعقل.
(4) أنه سخر له الشمس والقمر والنجوم على نظام بديع ووضع أنيق لحاجته إليها في دنياه ودينه.
(5) أنه سخر له النجم والشجر ليقتات منهما.
(6) أنه رفع السماء وأقامها بالحكمة والنظام.
(7) أنه أوجد الأرض وما فيها من نخل وفاكهة وحب ذي عصف وريحان.
الإيضاح
(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي الله سبحانه علم محمدا ﷺ القرآن، ومحمد علمه أمته.
وهذه الآية نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: « إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ».
ولما كانت هذه السورة لتعديد نعمه التي أنعم بها على عباده - قدّم النعمة التي هي أجلّها قدرا وأكثرها نفعا، وأتمها فائدة، وهي نعمة تعليم القرآن الكريم، فباتباعه تكون سعادة الدارين، وبالسير على نهجه تنال الرغائب فيهما وهو سنام الكتب السماوية، وقد نزل على خير البرية.
ثم امتنّ بعد هذه النعم بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور ومرجع جميع الأشياء فقال:
(خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي خلق هذا الجنس وعلمه التعبير عما يختلج بخاطره ويدور بخلده، ولو لا ذلك ما علم محمد القرآن لأمته.
ولما كان الإنسان مدنيا بطبعه لا يعيش إلا مجتمعا بسواه - كان لا بد له من لغة يتفاهم بها مع سواه من أبناء جنسه ويكتب إليه في الأقطار النائية، والبلاد النازحة، ويحفظ علوم السلف، لينتفع بها الخلف، ويزيد فيها اللاحق، على ما فعل السابق.
وهذه منة روحية كبرى لا تعدلها منة أخرى في هذه الحياة، ومن ثم قدمها على النعم الأخرى الآتية.
وقد بدأ أوّلا بما يتعلّم وهو القرآن الذي به السعادة، ثم ثنى بالتعلم، ثم ثلث بطريق التعلم وكيفيته، ثم انتقل إلى ذكر الأجرام العلوية التي ينتفع بها الناس في معاشهم فقال:
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي إن الشمس والقمر وهما من أعظم الأجرام يجريان في بروجهما ومنازلهما بحساب مقدر معلوم، وبهما تنتظم أمور المخلوقات الأرضية، وتختلف الفصول، وبهذا الحسبان انتفع بهما الناس في شئون الزراعات كمواعيد البذر والحصاد، وما ينفع منها في كل فصل من الفصول، وفى الأمور المالية من بيع وشراء لآجال محدودة من شهور وسنين، وفى تقدير الأعمار والآجال التي تقدمت، وجاءت في أخبار الماضين، والتي ستكون للحاضرين.
وبعد أن ذكر أن الشمس والقمر طوع قدرته وقد جعل لهما النظم الدقيقة في الحسبان - أردفه انقياد العوالم الأرضية له فقال:
(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) أي والزرع والشجر ينقادان لله فيما أراد بهما طبعا كما ينقاد المكلف اختيارا، فما اختلاف ثمرهما في الشكل والهيئة واللون والمقدار والطعم والرائحة، إلا انقياد للقدرة التي أرادت ذلك.
(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي وجعل العالم العلوي رفيع القدر، إذ هو مبتدأ أحكامه، ومتنزّل أوامره ونواهيه لعباده، وسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، وجعل نظم العالم الأرضى تسير على نهج العدل، فعدل في الاعتقاد كالتوحيد، إذ هو وسط بين إنكار الإله والشرك به، وعدل في العبادات والفضائل والآداب، وعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر عباده بتزكية نفوسهم وأباح لهم كثيرا من الطيبات لحفظ البدن، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا، وهكذا ترى أن عدله شامل لكل ما في هذا العالم لا يغادر الصغير ولا الكبير منه.
(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي فعل ذلك لئلا تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي من العدل والنّصفة وجرى الأمور وفق ما وضع لكم من سنن الميزان في كل أمر، فترقى شئونكم، وتنتظم أعمالكم وأخلاقكم.
ثم أكد هذا بقوله:
(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي وقوّموا وزنكم بالعدل، ولا تنقصوه شيئا وفى هذا إشارة إلى مراعاته في جميع أعمال الإنسان وأقواله.
والتكرير للتوصية به، وتأكيد الأمر باستعماله والحث عليه، وقد أمر سبحانه أوّلا بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحد، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس.
وقال قتادة في الآية: اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن في العدل صلاح الناس.
وبعد أن ذكر نعمه الدالة على قدرته برفع السماءذكر مقابلها وهو الأرض فقال:
(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي والأرض بسطها لسكنى الحيوان من كل ما له روح وفيه حياة، لينتفع بما في ظاهرها وما في باطنها في معايشه على ضروب مختلفة وأشكال لا حصر لها.
ثم فصل ما تقدم بقوله:
(فِيها فاكِهَةٌ) أي فيها ما يتفكه به من ألوان الثمار طازجة ومطبوخة ومجففة على شتى الأشكال وضروب الألوان.
(وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي والنخل ذات الأوعية لثمرها حين ظهوره.
وأفردها بالذكر لكثرتها بالبلاد العربية، وكثرة فوائدها، لأنه ينتفع بثمارها رطبة ويابسة، وينتفع بجميع أجزائها، فيتخذ من خوصها السلال والزنابيل، ومن ليفها الحبال، ومن جريدها سقف البيوت، ويؤكل جمّارها، ومن ثم ذكرها باسمها، وذكر الفاكهة دون أشجارها.
(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) أي وجميع الحبوب التي يقتات بها كالحنطة والشعير، ولها عصف من الورق على سنابلها، وكل مشموم من النبات تطيب رائحته.
وذكر أولا الفاكهة، لأنها للتفكهة فحسب، ثم النخل لأن ثمرها فاكهة وغذاء ثم الحب الذي عليه المعول في الغذاء في جميع البلاد، فهو أتم نعمة لموافقته لمزاج الإنسان، ومن ثم خلقه الله في سائر البلاد، وجعل النخل في البلاد الحارة دون غيرها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي النعم المتقدمة يا معشر الثقلين من الجن والإنس تكذبان؟ والمراد من تكذيب آلائه كفرهم بربهم، لأن إشراكهم آلهتهم به في العبادة دليل على كفرانهم بها، إذ من حق النعم أن تشكر، والشكر إنما يكون بعبادة من أسداها إليهم.
والتعبير (بالرب) للاشارة إلى أنها نعم صادرة من المالك المربّى لهما الذي ينميهما أجساما وعقولا، فهو الحقيق بالحمد والشكر على ما أولى وأنعم، والعبادة له دون سواه.
وقد كررت هذه الآية في واحد وثلاثين موضعا من السورة تقريرا للنعمة، وتأكيدا للتذكير بها، فتراه عدّد نعمه على الخلق وفصل بين كل نعمتين بما يذكرهم ويقررهم بها.
وهذا أسلوب كثير الاستعمال في كلام العرب، فترى الرجل يقول لمن أحسن إليه بنعمة وهو يكفر بها: ألم تكن فقيرا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك؟ أفتنكر هذا، ألم تكن خاملا فرفعت قدرك، أفتنكر هذا؟.
فكأنه سبحانه قال: ألم أخلق الإنسان. وأعلمه البيان. وأجعل الشمس والقمر بحسبان. وأنوّع الشجر. وأبدع الثمر. وأعممها في البدو والحضر، لمن آمن بي وكفر. وأسقيها حينا بالمطر، وآونة بالجداول والنّهر. أفتنكران ذلك أيها الإنس والجن؟.
وقد جاء مثل هذا في أشعارهم: انظر قول مهلهل يرثي أخاه كليبا:
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبّأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جأش المستجير
وهي قصيدة طويلة على هذا النسق، ولها نظائر أيضا في رثائه، ولو لا خشية التطويل لأوردنا شيئا منها. وعدلا أي مثلا ونظيرا.
[سورة الرحمن (55): الآيات 14 الى 25]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) ولَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
تفسير المفردات
الصلصال: الطين اليابس الذي له صلصلة وصوت إذا نقر، والفخار: الخزف وهو الطين المطبوخ، والجان: نوع من الجن، والمارج: اللهب الخالص الذي لا دخان فيه، رب المشرقين: أي مشرقى الشمس صيفا وشتاء، ورب المغربين: أي مغربيهما كذلك، مرج البحرين: أي أرسلهما وأجراهما من قولك مرجت الدابة في المرعى: أي أرسلتها فيه، يلتقيان: أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في رأي العين، برزخ: أي حاجز، لا يبغيان: أي لا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال خاصته، واللؤلؤ: الدر المخلوق في الأصداف، والمرجان: الخرز الأحمر، الجواري: السفن الكبار، المنشئات: أي المصنوعات، والأعلام: الجبال واحدها علم وهو الجبل العالي.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه كثيرا من النعم وكان بعضها يحتاج إلى زيادة إيضاح وبيان كخلق الإنسان، وحساب الشمس والقمر، وأسباب نمو الزرع والشجر - فصل أحوالها على الترتيب السابق.
الإيضاح
(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) أي خلق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام من طين يابس له صلصلة إذا نقر، وهو كالخزف المطبوخ في صلابته.
إيضاح هذا أن الطين المطبوخ مركب من الطين والحرارة التي أنضجته وسوّته لتحفظ كيانه وهكذا الإنسان له شهوة الطعام والشراب والتزاوج، لتبقى بنيته وتدوم حياته بالمادة الأرضية التي اجتذبها النبات من الأرض، وله قوة غضبية تورثه الشجاعة والقوة، ليحافظ على بقائه وحياته، ويمنع عن نفسه عاديات الكواسر، ومهاجمات الجيوش والأعداء المحيطة به من كل جانب، وهذه القوة في الإنسان تقابل طبخ الطعام ليصير فخارا، فتتماسك أجزاؤه، ولولاها لما استطاع المحافظة على هيكله المنصوب، وجسمه المحبوب، من الكواسر وأهل القسوة من بنى الإنسان، ولأصبح قتيلا في الفلوات تأكله الطير، أو تهوى بأجزائه الريح في مكان سحيق، كما أن الطين إذا لم يطبخ يتفتت وتذروه الرياح أو يذوب في أجزاء الأرض.
وقد جاء في الكتاب الكريم عبارات مختلفة في خلق الإنسان باعتبار مراتب الخلق، فمرة قال إنه خلقه من تراب وأخرى قال إنه من طين لازب: أي لاصق باليد لما اختلط به من الماء، وهنا قال من صلصال.
(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي وخلق الجن من النار الصافية المختلط بعضها ببعض، فمن لهب أصفر إلى أحمر إلى مشوب بالخضرة، فكما أن الإنسان من عناصر مختلفات، فالجانّ من أنواع من اللهب مختلطات.
ولقد أظهر الكشف الحديث أن الضوء مركب من ألوان سبعة، ولفظ (المارج) يشير إلى ذلك، وإلى أن اللهب مضطرب دائما.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم.
روى نافع عن ابن عمر قال: « إن رسول الله ﷺ قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال: مالى أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال ما أتيت على قول الله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالت الجن: لا بشىء من نعمة ربنا نكذب ».
ولما فرغ من إيضاح خلق الإنسان شرع يوضح خلق الشمس والقمر بحسبان قال:
(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي رب مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما، اللذين يترتب عليهما تقلب الفصول الأربعة، وتقلب الهواء وتنوعه، وما يلي ذلك من الأمطار والشجر والنبات والأنهار الجاريات.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعمة من هذه النعم تكذبان؟ أفتنكران الأمطار وفوائدها؟ أم تنكران ما لاختلاف الفصول من منافع، فبها تختلف صنوف المزروعات من صيفية إلى شتوية، أم تنكران ما لاختلاف الأجواء من مزايا في تنظيم مزاج الإنسان والحيوان.
ولما ذكر نعمه التي تترى على عباده في البر أعقبها بنعمه عليهم في البحر فقال:
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا يبغى أحدهما على الآخر، فلا الملح يطغى على العذب فيجعله ملحا، ولا العذب يجعل البحر الملح مثله، فقد حجز بينهما ربهما بحاجز من قدرته، أو بحاجز من الأجرام الأرضية، فترى نهر النيل بمصر يخرج من جبال الحبشة، ويجرى شمالا ختى يصب في البحر الأبيض المتوسط، ولا يبغى أحدهما على الآخر.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي هذه المنافع تكذبان؟ إذ لو بغى الملح على العذب لم نجد ماء للشرب ولا لسقى الحيوان والنبات ولم نجد ما نقتات به فنهلك جوعا، ولو بغى العذب على الملح لم نجد ما يصلح الهواء ويمنع عاديات الجراثيم التي فيه.
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وقد ثبت في الكشف الحديث أن اللؤلؤ كما يستخرج من البحر الملح يستخرج من البحر العذب، وكذلك المرجان وإن كان الغالب أنه لا يستخرج إلا من الماء الملح.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان؟
(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي وله السفن الكبار التي رفعت شرعها في الهواء كالجبال الشاهفة، تجرى في البحر بما ينفع الناس، فتنقل المتاجر من بلد إلى آخر، والأقوات من إقليم هي كثيرة فيه إلى آخر هو محروم منها، وبذا يتمّ تبادل السلع، وسدّ حاجات الأمم في أقواتها ومشاربها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان - أبخلق موادّ السفن أم بكيفية تركيبها، أم بإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر عليها غيره سبحانه.
أي عبادي، هل ظننتم أن مجرد الإيمان كاف لكم في شكر هذه النعم، فهل خلقت الشمس والقمر والنجم والشجر والزرع والحب، والأنهار والبحار، والدّر والمرجان لقوم لا يعقلون، أو خلقتها لقوم يقبلون مني النعمة، وكيف يقبلونها دون أن يعرفوها؟
[سورة الرحمن (55): الآيات 26 الى 30]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
تفسير المفردات
فان: أي هالك، وجه ربك: أي ذاته، ذو الجلال والإكرام: أي ذو العظمة والكبرياء، يسأله من في السموات والأرض: أي يطلبون منه ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثا وبقاء وفى سائر أحوالهم بلسان المقال أو بلسان الحال، هو في شأن: أي في أمر من الأمور، فيحدث أشخاصا ويجدد أحوالا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر النعم التي أنعم بها على عباده في البر والبحر، في السماء والأرض ردف ذلك بيان أن هذه النعم تفنى ولا تبقى، فكل شيء يفنى إلا ذاته تعالى، وكل من في الوجود مفتقر إليه، فهو المدبر أمره، والمتصرف فيه، فهو يحيى قوما ويميت آخرين، ويرفع قوما ويخفض آخرين.
الإيضاح
(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي إن جميع أهل الأرض يذهبون ويموتون، وكذلك أهل السموات، ولا يبقى سوى وجه ربك الكريم، فإنه الحي الذي لا يموت أبدا.
قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فان، وقد ورد في الدعاء المأثور يا حي يا قيّوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.
ثم وصف سبحانه نفسه بالاستغناء المطلق، والفضل العام، وأنه ذو الجود والكبرياء، يعطى خلقه من النعم والإكرام ما يليق بحالهم، ولا يحجب فضله عن مخلوق خلقه.
انظر إلى هذه النجوم الثواقب في ظلمات الليل، ترها مشرقة ساطعة تتلألأ نورا تنشرح له الصدور، وتقرّ به العيون، فتتجلى لك عظمة الخالق وكبرياؤه، تموت الأحياء وتلك النجوم باقية، والأرض لم تتغير على ما نشاهد، وهذا مظهر الجلال والعظمة، جمال في النجوم، بهجة في الإشراق، مناظر باهرة، أنوار ساطعة، أجسام عظيمة أحوال تتقلب، وأهوال تتعاقب، والناس من بينها يخرون صعقين، فهذا لعمرك هو الجلال والعظمة، فسبحان الخلاق العظيم.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان؟ فالفناء باب للبقاء وللحياة الأبدية، والنعم السرمدية، ولو لا تحليل أجسامنا بالموت لتعطلت الحياة، إذ المادة الأرضية إذا بقيت على حال واحدة كانت قواها محدودة، لكن انبعاث الصور الكثيرة وتعاقبها جيلا بعد جيل يلبس المادة جميع الصور والأشكال ويجعل العالم في تجدد مستمر.
انظر إلى بنى الإنسان مثلا إذا توالدوا جيلا بعد جيل ولم يمت منهم أحد، فلا تمضى إلا أجيال معدودة حتى يكون على القدم ألف قدم، وتمتلئ الأرض بالآدميين، فلا يكفيهم حيوان أرضى ولا نبات مأكول ولا يجدون وسيلة للعيش إلا أن يأكل بعضهم بعضا، وتمتلىء الأرض رمما آدمية من السغب والمخمصة.
والخلاصة - إن في الفناء نعمتين: نعمة الرحمة بتعاقب الأجيال، ونعمة الخروج من سجن المادة إلى فسيح العالم الروحي وإلى التمتع بنعيم آخر بعد الموت.
ولما كان ما ذكر يتضمن الافتقار المتجدد إليه تعالى أوضحه بقوله:
(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن المادة دائما تلبس جديدا وتخلع قديما، فأجسامنا وأجسام الحيوان على هذا المنوال، فهما في حاجة إلى بقاء الأجسام وتغذيتها وإذا انحل جسم افتقر إلى شيء يعوّض ما ذهب، فالتغيرات المستمرة افتقار، وهذا الافتقار مستمر في كل لحظة، وذلك يدعو إلى السؤال من الواهب المعطى إما بالنطق وإما بتوجه النفس وطلبها العون والمدد والفيض من فضله.
وجماع القول - أن المادة مفتقرة إلى بقاء ما يناسبها، فالنبات في كل لحظة مفتقر إلى ما يبقيه من ماء وهواء وموادّ أخرى، والحيوان يطلب ما يحتاج إليه، والإنسان يسأل ما هو في حاجة إليه: إما سؤال حال، وإما سؤال مقال في كل وقت وآن.
(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فمن شئونه أنه يحيى ويميت ويرزق، ويعزّ ويذل، ويمرض ويشفى، ويعطى ويمنع، ويغفر ويعاقب، ويرحم ويغضب، إلى نحو أولئك.
ومن شئونه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبون منه على اختلاف حاجاتهم وتباين أغراضهم.
عن عبد الله بن منيب قال: « تلا علينا رسول الله ﷺ هذه الآية فقلنا يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: أن يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين » أخرجه الحسن بن سفيان والبزار وابن جرير والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر.
وقال ابن عيينة: الدهر عند الله يومان: يوم الدنيا وشأنه فيه الأمر والنهي، والإماتة والإحياء. ويوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية، وما صح من
قوله ﷺ « جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة » فقال: شئون يبديها، لا شئون يبتديها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان؟ فكم من سؤال أجبته، وكم من جديد أحدثته، وكم من ضعيف في الحياة أرحته، إما بصحة تسعده، أو بموت من سجن المادة يخرجه.
[سورة الرحمن (55): الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
تفسير المفردات
سنفرغ لكم: أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، والمراد التوفر على الجزاء والانتقام منهما. قال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما الفراغ من الشغل، والآخر القصد للشىء والإقبال عليه كما هنا اهـ.
والثقلان: الجن والإنس كما علمت، أن تنفذوا: أي تخرجوا، والأقطار: الجوانب واحدها قطر، والسلطان: القوة والقهر، والشواظ: اللهب الخالص، والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه، قال النابغة الذبياني:
تضىء كضوء السراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا
فلا تنتصران: أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكما منه ناصر.
المعنى الجملي
بعد أن عدّد سبحانه نعماءه على عباده في البر والبحر وفى الأرض والسماء، ليشكروه على ما أنعم، ويعبدوه وحده على ما أعطى وتمم، وذكر أنهم مفتقرون إليه آناء الليل وأطراف النهار، ثم أرشد إلى أن هذه النعم لا تدوم، بل هي إلى زوال، فكل ما على وجه الأرض سيفنى، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات نبههم إلى أنه في يوم القيامة سيلقى كل عامل جزاء ما عمل، وثواب ما اكتسب، ولا مهرب حينئذ من العقاب، ولا سبيل إلى الامتناع منه، وسيكون جزاء المشركين به العاصين لأوامره، نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كفر بربه وكذب برسله، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تندموا، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنقصد لحسابكم ومجازاتكم على أعمالكم، وهذا وعيد شديد وتهديد من الله لعباده، كما يقول القائل لمن يهدده: إذا أتفرغ لك: أي أقصد قصدك.
هذا، وإن شأن الآخرة ما هو إلا شأن من الشئون، فلا يشغله شأن عن شأن وهو القائل: « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » والقائل: « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ».
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم ربكما تكذبان يا معشر الثقلين، ومن جملتها التنبيه إلى ما ستلقونه من الجزاء في هذا اليوم، تحذيرا مما سيؤدى إلى سوء الحساب، وشديد العقاب.
ثم ذكر أنه لا مهرب في هذا اليوم من جزاء كل عامل على عمله فقال:
(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من عقاب الله، فارّين من عذابه فافعلوا، والمراد أنكم لا تستطيعون ذلك، فهو محيط بكم لا تقدرون على الخلاص منه، فأينما ذهبتم أحيط بكم.
ثم بين السبب في عدم إمكان المهرب فقال:
(لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي إن المهرب إنما يكون بالقوة والقهر، وأنّى لكم بهما؟ وممن تستمدونهما وأنتم لا تجدون إذ ذاك حولا ولا طولا؟
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ومن جملتها النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد، فإنها تزيد المحسن إحسانا، وتكف المسيء عن إساءته، مع أن من حذّركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم دون مهلة، والعفو عن المذنب مع كمال القدرة عليه من أجلّ النعم التي يسديها الله إلى عباده.
ثم بين السبب في طلب المهرب فقال:
(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) أي يصب عليكما ألوان من النيران، فمن لهب خالص يضىء كضوء السراج، إلى نار مختلطة بالدخان، فلا تستطيعان المهرب منها، بل يسوقكم إلى الحشر سوقا.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي هذه النعم تكذبان، فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالإنعام على الأول والانتقام من الثاني، من أجلّ نعم الإله القادر على جزاء عباده.
[سورة الرحمن (55): الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
تفسير المفردات
انشقت: تصدعت، وردة: أي كالوردة في الحمرة، والدهان: ما يدهن به: أي كانت مذابة كالدهان، والسيما: العلامة، والنواصي: واحدها ناصية وهي مقدم الرأس، والأقدام: واحدها قدم، وهي قدم الرجل المعروفة، والحميم: الماء الحارّ، وآن: أي متناه في الحرارة لا يستطاع شر به من شدة حرارته.
المعنى الجملي
بعد أن عدد عزت قدرته نعماءه على عباده، وما يجب من شكرهم عليها، ثم أرشدهم إلى أن هذه النعم لا بقاء لها ولا ثبات، ثم ذكر أن الناس محاسبون على الصغير والكبير من أعمالهم، وسيلقون الجزاء عليها، ولا مهرب حينئذ منها، ولا نصير لهم ينقذهم مما سيحل بهم من العذاب - ذكر هنا أنه إذا جاء ذلك اليوم اختل نظام العالم، فتتصدع السموات، ويحمر لونها، وتصير مذابة غير متماسكة، كالزيت ونحوه مما يدّهن به، ويكون للمجرمين حينئذ علامات يمتازون بها عن سواهم، فيتعرفهم الرائي لهم دون حاجة إلى سؤال نكالا وخزيا لهم، ثم يجرّون إلى جهنم من نواصيهم وأرجلهم، ويقال لهم توبيخا وتقريعا: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها، وينتقل بهم من جهنم إلى ماء حار كالمهل يشوى الوجوه ومن عذاب إلى ما هو أشد منه.
الإيضاح
(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) أي فإذا جاء يوم القيامة تصدعت السموات واختلت نظمها، وتبعثرت أجرامها وكواكبها عن مداراتها، واحمر لونها وأذيبت حتى صارت كأنها الزيت ونحوه مما يدّهن به.
ونحو الآية قوله: « إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ». وقوله: « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ » وقوله: « وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ».
والخلاصة - إنها تذوب كما يذوب دردئ الزيت والفضة حين السبك، وتتلوّن كما تتلون الأصباغ التي يدّهن بها، فتارة تكون حمراء وأخرى صفراء وثالثة زرقاء.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر، فهو لطف أي لطف، ونعمة أيّما نعمة.
(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) لأنهم يعرفون بسيماهم حينما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف.
ونحو الآية قوله تعالى: « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » ثم يسألون بعدئذ كما يدل على ذلك قوله: « فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ».
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي هذه النعم تكذبان، فإن تخويف المجرم نعمة عليه، حتى يرتدع عن ذنبه، ويثوب إلى رشده، ويتوب إلى ربه.
ثم ذكر السبب في عدم سؤال الإنس والجان عن ذنوبهم فقال:
(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يعرف المجرمون حينئذ بعلامات يمتازون بها عن سواهم، فلا حاجة حينئذ إلى السؤال والجواب، لأن السيما ميزت كل مجرم بنوع جرمه.
ولقد اهتدى الإنسان بعقله إلى فوائد هذه العلامات في الدنيا، فأنشأت الحكومات إدارات خاصة لعلامات المشتبه في سلوكهم ومعتادى الأجرام، فتأخذ إبهاماتهم وتحفظها في أضابير خصّيصى بهم، ولكل امرئ خطوط في إبهامه لا تشابه خطوط غيره فيه ولا يحصل فيها التباس، فمتى أحدث أحدهم حدثا وجاء بجرم روجع ملفّه الخاص، واستخرجت صورة إبهامه من ملفه، وطبقت على الصورة الخارجية ولاقى في المحاكم ما يستحقه من عقاب.
والخلاصة - إن لكل امرئ أحوالا تخصه في جسمه وعقله وأخلاقه، يعرف الناس منها الآن قليلا، وبقية علمها عند الله يعلمها ملائكته يوم القيامة فيعرفون المجرمين بها.
ثم تسحبهم الملائكة تارة بأخذ النواصي، وأخرى بأخذ الأقدام، روى عن الضحاك « أن الملك يجمع بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره، ثم يكسر ظهره ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية، وبعضهم سحبا بالقدم، ولا نجزم بشىء من ذلك إلا بالنص القاطع.
وهذا الوضع معهم سبيل من سبل الإهانة والإذلال والنكال.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما سلف حذو القذّة بالقذّة.
(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، فهأنتم الآن قد شاهدتموها ورأيتموها رأي العين، فذوقوا عذابها واشربوا من الحميم الذي يقطّع الأمعاء والأحشاء فأنتم بين الجحيم والحميم.
والخلاصة - إنهم إذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي صار كالمهل (دردىء الزيت: أي عكره).
ونحو الآية قوله: « إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ».
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما قيل فيما سلف.
[سورة الرحمن (55): الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
تفسير المفردات
الخوف في الأصل: توقع المكروه عند ظهور أمارة مظنونة أو محققة، وضده الأمن ويراد به هنا الكفّ عن المعاصي مع فعل الطاعات، ومقام ربه: أي قيامه عليه واطلاعه على أعماله، جنتان: أي جنة روحية لقلبه، وجنة جسمانية على شاكلة ما عمل في الدنيا، وقيل إنهما منزلان ينتقل بينهما لتتوافر دواعى لذته، وتظهر آثار كرامته، ذواتا: مثنى ذات بمعنى صاحبة، والأفنان: الأنواع واحدها فنّ: أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، زوجان: أي صنفان رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، والفرش: واحدها فراش، والبطائن: واحدها بطانة، والإستبرق: الديباج أي الحرير الثخين، والجنى: الثمر، دان: أي قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع، قاصرات الطرف: أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، لم يطمثهن: أي لم يمسسهن، وأصل الطمث: خروج الدم، ويراد به قربان النساء، كأنهن الياقوت: أي في الصفاء، والمرجان: أي صغار اللؤلؤ في البياض.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما يراه المشركون بربهم، والعاصون لأوامره ونواهيه من الأهوال، من إرسال الشواظ من النار عليهم، ومن أخذهم بالنواصي والأقدام، إهانة لهم واحتقارا ومن التنقل بهم بين النار والحميم الآني الذي يشوى الوجوه - ذكر هنا ما أعده من النعيم الروحي والجسماني لمن خشى ربه، وراقبه في السر والعلن، فمن جنات متشابهة الثمار والفواكه تجرى من تحتها الأنهار، جناها دان لمن طلبه وأحب نيله، يجلس فيها على فرش بطائنها من الديباج، ومن نساء حسان لم يقرب منهن أحد لا من الإنس ولا من الجن، وهن كالياقوت صفاء واللؤلؤ بياضا، وذلك كفاء ما قدموا من صالح العمل، وما أسلفوا في الأيام الخالية، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.
الإيضاح
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي ولمن خشى ربه وراقبه في أعماله، وأيقن بأنه مجازيه عليها يوم العرض والحساب، يوم تجزى كل نفس بما كسبت، فإذا هو همّ بمعصية ذكر الله وأنه عليم بسره ونجواه، فتركها مخافة عقابه، وشديد حسابه، ففعل الخير وأحب الخير للناس - جنتان: جنة روحية تصل به إلى حظيرة القدس، وجمال الملكوت ورضا الله عنه « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » وجنة جسمانية بمقدار ما عمل في الدنيا من خير، وقدم من صالح عمل، فبأي نعم ربكما أيها الثقلان تكذبان، فإثابته المحسن منكم بما وصف، وعقابه العاصي بما عاقب من النعم العظمى، والمنن الكبرى.
(ذَواتا أَفْنانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ذواتا أنواع وألوان من الأشجار والثمار من قولهم « افتن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب مختلفة، والمتنوقون في الدنيا يتنقلون من فاكهة إلى أخرى فيكون ذلك أدعى إلى زيادة اللذة، وأكثر شهوة للطعام، كما قال قائلهم:
ومن كل أفنان اللذاذة والصّبا لهوت به والعيش أخضر ناضر
(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما عينان تسرحان وتسقيان تلك الأشجار والأغصان، إحداهما يقال لها التسنيم، والأخرى السلسبيل قاله الحسن البصري. وقال أبو بكر الوراق: تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل، فتجريان في كل مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه، كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها وإن زاد علوها.
(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما من كل فاكهة صنفان: رطب ويابس، لا ينقص أحدهما عن الآخر لذة وطيبا، بخلاف ثمار الدنيا فإن الطازج فيها ألذ طعما وأشهى مأكلا.
وبعد أن ذكر طعامهم ذكر فراشهم فقال:
(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي مضطجعين على فرش بطائنها من الديباج الغليظ، وإذا كانت هذه حال البطائن فما ظنكم بالظهائر؟ ومن ثم روى عن ابن مسعود أنه قال: أخبرتم بالبطائن، فكيف لو أخبرتم بالظهائر؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله فيه « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » وبمثله قال ابن عباس.
وفي هذا دليل على شرف هذه الفرش، وتمتع أهلها بالثواب العظيم، والنعيم المقيم.
وإنما ذكر الاتكاء، لأنه هيئة تدل على صحة الجسم، وفراغ القلب، إذ العليل لا يستطيع أن يستلقى أو يستند إلى شيء، وهو مشغول القلب يتحرك تحرك المحضر للعقاب.
(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وثمرهما قريب منهم متى شاءوا، ونحو الآية قوله: « قُطُوفُها دانِيَةٌ » وقوله: « وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا » فهي لا تمتنع ممن أرادها، بل تنحط إليه من أغصانها.
ثم ذكر أوصاف النساء اللواتى يمتعون بهنّ فقال:
(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في تلك الجنات نساء غضيضات الطرف عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا فيها أحسن منهم، وهن أبكار لم يمسسهن أحد قبل أزواجهن لا من الجن ولا من الإنس.
(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي كأنهن الياقوت صفاء وصغار اللؤلؤ بياضا.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية: في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ.
ثم بين السبب في هذا الجزاء فقال:
(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في المثوبة.
ونحو الآية قوله: « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ».
وعن أنس بن مالك قال: « قرأ رسول الله ﷺ: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وقال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة » أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي. وروى عن ابن عباس « هل جزاء من قال: لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة؟ ».
[سورة الرحمن (55): الآيات 62 الى 78]
ومِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
تفسير المفردات
ومن دونهما: أي من ورائهما وأقل منهما، مدهامتان: أي خضراوان بسواد لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري بالماء ونحوه، نضاختان: أي فوارتان بالماء، والنضخ: فوران الماء، حور واحدتهن حوراء: أي بيضاء.
قال ابن الأثير: الحوراء هي الشديدة بياض العين والشديدة سوادها، خيرات: أي خيّرات بالتشديد فخفف كما جاء في الحديث « هينون لينون »
، مقصورات في الخيام: أي مخدّرات، يقال امرأة قصيرة ومقصورة: أي مخدرة ملازمة بيتها لا تطوف في الطرق. قال قيس بن الأسلت:
وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتعتلّ من إتيانهن فتعذر
والخيام: واحدها خيمة وهي أربعة أعواد تنصب وتسقف بشىء من نبات الأرض، وما يتخذ من شعر أو وبر فهو خباء، والرفرف واحده رفرفة: وهي الوسادة (المخدّة) أو ما تدلّى من الأسرّة من غالى الثياب، والعبقري: منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد يسكنه الجن ويسندون إليه كل شيء عجيب، والمراد العجيب النادر الموشى من البسط، تبارك اسم ربك: أي تقدس وتنزه ربنا الذي أفاض على عباده نعمه.
المعنى الجملي
هذا تتميم لوصف الجنات بما يشوق الراغبين فيها، ليعملوا ما يوصلهم إليها، ويرضى ربهم عنهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الإيضاح
(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُدْهامَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ومن وراء هاتين الجنتين وأقل منهما فضلا جنتان تنبتان النبات والرياحين الخضراء التي تضرب إلى السواد من شدة خضرتها، لكثرة الري، وأما الجنتان السابقتان ففيهما أشجار وفواكه، وفرق ما بين الحالين، فبأي هذه النعم تكذبان وهي نعم واضحة لا تجحد ولا تنكر.
قال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين لهم.
وعن أبي أيوب الأنصاري قال: « سألت النبي ﷺ عن قوله مدهامتان؟ قال: خضراوان » أخرجه الطبراني وابن مردويه.
(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) النضح كالرش فهو دون الجري، ومن ثم قال البراء بن عازب فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم: « العينان اللتان تجريان خير من النضاختين ». أي فيهما عينان تفوران بالماء. وقال مجاهد: نضاختان بالخير والبركة.
(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خص النخل والرمان مع دخولهما في الفاكهة، تنبيها إلى ما لهما من ميزة عن غيرهما من الفواكه، لأنهما يوجدان في الخريف والشتاء، ولأنهما فاكهة وإدام، وقد جاء مثل هذا في قوله تعالى: « حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى » وقوله: « وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ».
(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في تلك الجنات نساء خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه.
روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: « قلت لرسول الله ﷺ: يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى خيرات حسان؟ قال: خيّرات الأخلاق حسان الوجوه ».
وقال الرازي: في باطنهن الخير، وفى ظاهرهن الحسن. وروي أن الحور يغنّين:
نحن الخيّرات الحسان، خلقن لأزواج كرام.
(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهؤلاء الخيّرات الحسان واسعات العيون مع صفاء البياض حول السواد، محبوسات في الحجال، فلسن بطوّافات في الطرقات، والعرب يمدحون النساء الملازمات للبيوت للدلالة على شدة الصيانة.
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم الكلام في نظيره قبل.
(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهم يتكئون على ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج، ووسائد عظيمة، وبسط لها أطراف فاخرة، غاية في كمال الصنعة وحسن المنظر.
(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تعالى ربك ذو الجلال والعظمة والتكريم على ما أنعم به وتفضل من نعم غوال، ومنن عظام.
وهذا تعليم منه لعباده بأن كل هذا من رحمته، فهو قد خلق السماء والأرض والجنة والنار، وعذّب العاصين، وأثاب المطيعين، وآتاهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
سورة الواقعة
هي مكية إلا قوله: « أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ » فمدنية، وآيها ست وتسعون، نزلت بعد طه.
ووجه مناسبتها ما قبلها:
(1) أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار.
(2) أنه ذكر في السورة السابقة عذاب المجرمين ونعيم المتقين، وفاضل بين جنتى بعض المؤمنين وجنتى بعض آخر منهم، وبين هنا انقسام المكلفين إذ ذاك إلى أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين.
(3) أنه ذكر في سورة الرحمن انشقاق السماء، وذكر هنا رجّ الأرض، فكأنّ السورتين لتلازمهما واتحادهما موضوعا سورة واحدة مع عكس في الترتيب، فقد ذكر في أول هذه ما في آخر تلك، وفى آخر هذه ما في أول تلك.
[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 12]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
تفسير المفردات
وقعت: حدثت، والواقعة القيامة، لوقعتها: أي لوقوعها، كاذبة: أي كذب، ورجت: زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبال، وبست: أي فتتت وصارت كالسويق الملتوت، من قولهم بس فلان السويق: أي لتّه، وهباء: أي غبارا، منبثا: أي متفرقا، أزواجا: أي أصنافا. قال الراغب: الزوج يكون لكل من القرينين الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة، ولكل قرينين منها ومن غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا اه والميمنة ناحية اليمين، والمشأمة ناحية الشمال والعرب يتيمنون بالميامن ويتشاءمون بالشمائل، والمراد أصحاب المرتبة السنية الرفيعة القدر، والسابقون: هم الذين سبقوا إلى الخيرات في الدنيا، والمقربون: هم أرباب الحظوة والكرامة عند ربهم.
المعنى الجملي
حين تقع الواقعة ويجىء يوم القيامة لا تكذب نفس على الله فتنكره، إذ تحقق بالمعاينة وشهده كل أحد، أما في الدنيا فما أكثر النفوس المكذبة به، المنكرة له.
لأنهم لم يذوقوا العذاب كما عاينه المعذبون في الآخرة.
ثم وصف هذه الواقعة بأنها تخفض أقواما وترفع آخرين، وأن الأرض حينئذ تزلزل فيندك ما عليها من جبال وأبنية، وأن الجبال تتفتت وتصير كالغبار المنتشر في الجو، وأن الناس إذ ذاك ينقسمون أفواجا ثلاثة: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون.
الإيضاح
(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي إذا قامت القيامة لا يكون لوقعتها ارتداد ولا رجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهر قاله الحسن وقتادة وقد يكون المعنى - ليس في وقت وقوعها كذب، لأنه حق لا شبهة فيه.
ثم هوّل شأنها وعظم أمرها فقال:
(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي هي خافضة لأقوام ورافعة لآخرين قاله ابن عباس، إذ الوقائع العظيمة شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول من ذل الأعزة وعزّ الأذلة.
وفي هذا إيماء إلى ما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات، ورفع السعداء إلى درجات الجنات، ومن ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياءه إلى الحنة.
(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي إذا وقعت الواقعة تزلزل الأرض زلزالا وتضطرب اضطرابا شديدا طولا وعرضا، فتندكّ الحصون والجبال، وتهدم البيوت والصياصي.
قال الربيع بن أنس: ترجّ بما فيها كرجّ الغربال بما فيه.
ونحو الآية قوله تعالى: « إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها » وقوله: « يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ».
(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي وتفتت الجبال تفتتا، وصارت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة.
(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي فصارت كالهباء المنبث الذي ذرته الريح وفرقته. وقال قتادة: صارت كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح.
والخلاصة - إن الجبال تزول عن أماكنها حينئذ، وتنسف نسفا، وتكون كالعهن المنفوش.
(وَكُنْتُمْ أَزْواجًا ثَلاثَةً) أي وصرتم أصنافا ثلاثة، وكل صنف يذكر أو يوجد مع صنف آخر يسمى زوجا كالعينين والرجلين، فكل منهما يسمى زوجا، وهما معا زوجان، فهاهنا أزواج ثلاثة لا زوجان.
ثم فصل هذه الأزواج فقال:
(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي فأصحاب الميمنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، أي شيء هم في حالهم وصفتهم وسعادتهم؟ والمراد أنهم في حال هي الغاية في الحسن والكمال.
ولا يخفى ما في هذا من تفخيم شأنهم، وتعظيم أمرهم، وأنهم بلغوا حدا لا يقدر قدره من السعادة.
(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي وأصحاب المشأمة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، أي شيء هم في حالهم؟ والمراد أنهم بلغوا الغاية في سوء الحال.
وقال المبرد: أصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر، والعرب تقول اجعلنى في يمينك، ولا تجعلنى في شمالك، أي اجعلنى من المتقدمين ولا تجعلنى من المتأخرين اهـ.
أخرج أحمد عن معاذ بن جبل « أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية ثم قبض بيديه قبضتين وقال هذه في الجنة ولا أبالى وهذه في النار ولا أبالى ».
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي والسابقون الذين يتقدمون غيرهم إلى الطاعات - هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت فخامة أمورهم، وقد يكون المعنى والسابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمته سبحانه، فمن سبق في هذه الدنيا إلى فعل الخير كان في الآخرة من السابقين إلى دار الكرامة، فالجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: « أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم » أخرجه أحمد.
(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي أولئك المتصفون بذلك الوصف الجليل (السبق) هم الذين نالوا حظوة عند ربهم، وهم في جنات النعيم، يتمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الواقعة (56): الآيات 13 الى 26]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا (26)
تفسير المفردات
الثلة: الجماعة قلّت أو كثرت، وقيل الجماعة الكثيرة من الناس كما قال:
وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة بجيش كتيّار من السيل مزبد
موضونة من الوضن وهو: النسج، والولدان: واحدهم ولد، مخلدون: أي مبقون أبدا على هذه الصفة، أكواب: أي آنية لا عرا لها ولا خراطيم، أباريق: واحدها إبريق وهو إناء له خرطوم. قال عدي بن الرقاع:
ودعوا بالصّبوح يوما فجاءت به قينة في يمينها إبريق
كأس من معين: أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة، والمراد أنها لم تعصر كخمر الدنيا، لا يصدّعون عنها، أي لا يلحقهم صداع بسببها كما يحدث ذلك في خمر الدنيا، ولا ينزفون: أي ولا تذهب عقولهم بالسكر منها، يقال نزف الشارب إذا ذهب عقله، ويقال للسكران نزيف ومنزوف، يتخيرون: أي يختارون ويرضون، حور: واحدتهن حوراء: أي بيضاء، عين: واحدتهن عيناء: أي واسعة العينين، المكنون: المصون الذي لم تمسسه الأيدي وهو أصفى وأبعد من التغير قال:
قامت تراءي بين سجفي كلّة كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درّة صدفيّة غوّاصها بهج متى يرها يهلّ ويسجد
لغوا: أي هزاء لا خير فيه، ولا تأثيما: أي ما يقال حين سماعه وقعتم في الإثم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الناس يوم القيامة أصناف ثلاثة: سابقون وأصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة - أعقب ذلك بذكر ما يتمتع به السابقون من النعيم في فرشهم وطعامهم وشرابهم ونسائهم وأحاديثهم التي تدل على صفاء النفس، وأدب الخلق، وسمو العقل.
الإيضاح
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي هم جماعة كثيرة من سالفى الأمم وقليل من أمة محمد ﷺ، ويستأنس لهذا بقوله ﷺ: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ».
(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي على سرر منسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت، قال الأعشى في وصف الدرع:
ومن نسج داود موضونة تسير مع الحي عيرا فعيرا
(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) أي متكئين على السرر ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، فهم في صفاء وعيش رغد وحسن معاشرة، لا يوجد في نفوسهم من الشحناء والبغضاء ما يوجب الافتراق.
ثم ذكر ما هم فيه من ترف ونعيم، وأنهم مخدومون في شرابهم وطعامهم، مكفيون مئونة ما يريدون فقال:
(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف عليهم غلمان وخدم على صفة واحدة لا يكبرون ولا يتغيرون، فهم دائما على الصفة التي تسر المخدوم إذا رأى الخادم.
(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي يطوفون عليهم بأداة الشراب كاملة من أكواب وأباريق وخمر تجرى من العيون ولا تعصر عصرا فهي صافية نقية لا تنقطع أبدا، وهم يطلبون منها ما يريدون، ولا صداع في شرابها، ولا ذهاب منها للعقل كما في خمور الدنيا.
روي عن ابن عباس أن في خمر الدنيا أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، نزه الله خمر الجنة عنها ».
وبعد أن وصف الشراب وصف الطعام فقال:
(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ويطوفون بألوان من الفاكهة المختلفة المطاعم، يختارون منها ما تميل إليه نفوسهم، وبأنواع من لحوم الطير مما لذّ وطاب، فيأخذون منها ما يشتهون، وفيه يرغبون.
وبعد أن ذكر طعامهم وشرابهم أعقبه بذكر نسائهم فقال:
(وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي ويتمتعون بنساء بيض مشرقات الوجوه تبدو عليهم نضرة النعيم، وكأنهن اللآلئ صفاء وبهجة.
ثم ذكر السبب في متعتهم بكل هذا النعيم فقال:
(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جازاهم ربهم على ما عملوا، وأثابهم بما كسبوا في الدنيا، وزكّوا به أنفسهم من صالح الأعمال، ونصبوا له بأداء فروض دينهم على أتم الوجوه وأكملها، فهم كانوا قوّامين لليل، صوّامين للنهار « كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ » وبعد أن وصف النساء وصف حديثهم حينئذ فقال:
(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا) أي لا يسمعون اللغو الهراء من الحديث، ولا هجر القول وما تتقزز منه النفوس الراقية، ذات الأخلاق العالية، ولكن يسمعون أطيب السلام، وسامى الكلام، مما يستساغ كما قال سبحانه: « تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ».
[سورة الواقعة (56): الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكارًا (36) عُرُبًا أَتْرابًا (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
تفسير المفردات
السدر: شجر النبق، مخضود: أي خضد شوكه أي قطع، والطلح: شجر الموز، منضود: أي نضد حمله من أسفله إلى أعلاه فليست له سوق بارزة، ممدود: أي منبسط ممتد لا يتقلص ولا يتفاوت، مسكوب: أي مصبوب يسكب لهم كما يشاءون بلا نصب ولا تعب، فرش: واحدها فراش كسرج وسراج، مرفوعة: أي عالية منضدة، عربا: واحدتهنّ عروب كصبر وصبور، أترابا: أي متساويات في السن واحدتهن ترب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال السابقين وبين مالهم من نعيم مقيم، في جنات النعيم - أردف ذلك ذكر حال أصحاب اليمين، فبين أنهم في جنات يتخللها السدر المخضود، والموز المنضّد بعضه فوق بعض، والفاكهة الكثيرة التي لا تنقطع أبدا، ولا تمتنع عنهم متى شاءوا، وفيها فرش وثيرة مرتفعة عالية، ونساء حسان أبكار في سن واحدة.
الإيضاح
(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي وأصحاب اليمين هم الغاية في فخامة شأنهم، ورفعة قدرهم، وعلوّ منزلتهم.
وقد جاء هذا الأسلوب في كلام العرب لإفادة المبالغة في مدح أو ذم فيقولون فلان ما فلان.
ثم فصل ما أبهم من حالهم بقوله:
(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي هم يتمتعون بجنات فيها السدر الذي قطع شوكه لا كسدر البرية في الدنيا، وفيها الموز الذي مليء ثمرا، فلا تظهر له سيقان، وفيها ظل ظليل يقيهم شديد الحر ووهج الشمس، وفيها ماء مصبوب لا يحتاج أهلها إلى تعب ونصب للحصول عليه، وفيها ضروب من الفاكهة التي لا تنقطع أبدا، ولا تمتنع عنهم في وقت، فهم يجدونها متى شاءوا وأحبوا.
ثم ذكر ما يمتعون به من الفرش فقال:
(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي وهم يجلسون على فرش وثيرة عالية وطيئة لا تتعب الجالس عليها.
وبعدئذ ذكر ما يمتعون به من النساء فقال:
(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكارًا. عُرُبًا أَتْرابًا. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي إنا أعددناهن نساء أبكارا متحببات إلى أزواجهن، إذ هنّ يحسنّ التبعّل، كلهن في سن واحدة، لا تمتاز واحدة عن أخرى، وأعطيناهن لأصحاب اليمين.
وأعاد ذكر (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) للتأكيد والتحقيق.
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي أصحاب اليمين جماعة من مؤمنى الأمم السالفة، وجماعة من مؤمنى أمة محمد ﷺ وإنما لم يقل في حق هؤلاء جزاء بما كانوا يعملون كما قال ذلك في حق السابقين إشارة إلى أن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره.
[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
تفسير المفردات
السموم: حر نار ينفذ في المسامّ، والحميم: الماء الشديد الحرارة، واليحموم: دخان أسود كما قال ابن عباس وابن زيد، لا بارد ولا كريم: أي لا هو بارد كسائر الظلال، ولا دافع أذى الحر لمن يأوى إليه، مترفين: أي منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون على شيء مما جاء به الرسل، يصرون: أي يقيمون ولا يقلعون، والحنث العظيم: أي الذنب العظيم وهو الشرك بالله وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون الله، والميقات: ما وقت به الشيء والمراد به يوم القيامة، وسمى به لأنه وقتت به الدنيا، وشجر الزقوم: شجر ينبت في أصل الجحيم، والهيم: واحدها أهيم وهو الجمل الذي يصيبه الهيام (بالضم) وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، والنزل: ما يقدم للضيف إذا نزل تكرمة له، ويوم الدين: يوم الجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر زوجين من الأزواج الثلاثة، وبين ما يلقاه كل منهم من عز مقيم، وشرف عظيم، في جنات ونعيم، في جملة شئونهم، في مآكلهم ومشاربهم وفرشهم وأزواجهم - أردف ذلك ذكر الزوج الثالث، وبين ما يلقاه من النكال والوبال وسوء الحال، فهو يتظلى في السموم، ويشرب ماء كالمهل يشوى الوجوه، ثم أعقبه بذكر السبب في هذا، بأنهم كانوا في دنياهم مترفين غارقين في ذنوبهم، منكرين هذا اليوم يوم الجزاء ثم أمره أن يخبرهم بأن هذا اليوم واقع حتما وأن مأكلهم سيكون من شجر الزقوم يملئون منه بطونهم، ثم يشربون ولا يرتوون كالإبل الهيم، وهذا ما أعد لهم من كرم وحسن وفادة في هذا اليوم.
الإيضاح
(وَأَصْحابُ الشِّمالِ، ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي أصحاب الشمال في حال لا يستطاع وصفها، ولا يقدر قدرها من نكال ووبال وسوء منقلب.
ثم فسر هذا المبهم بقوله:
(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي هم في حرّ ينفذ في المسامّ، وماء متناه في الحرارة، وظل من دخان أسود، ليس بطيّب الهبوب، ولا حسن المنظر، لأنه دخان من سعير جهنم يؤلم من يستظل به.
قال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة (الكريم) في النفي فيقولون هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم، وهذا اللحم ليس بسمين ولا كريم، وهذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة اهـ.
وذكر السموم والحميم ولم يذكر النار، إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فإن هواءهم إذا كان سموما، وماءهم الذي يستغيثون به حميما، مع أن الهواء والماء من أبرد الأشياء وأنفعها، فما ظنك بنارهم، فكأنه قال: إن أبرد الأشياء لديهم أحرها، فما بالك بحالهم مع أحرّها؟.
ونحو الآية قوله تعالى: « انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ».
والخلاصة - إن السموم تضربهم فيعطشون، وتلتهم تارة أحشاءهم، فيشربون الماء فيقطّع أمعاءهم، ويريدون الاستظلال بظل، فيكون ظل اليحموم.
ثم ذكر السبب في تعذيبهم فقال:
(إِنَّهُمْ كانُواقَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أيإنهم كانوا في الدنيا منعمين بألوان من المآكل والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، مهمكين في الشهوات، فلا جرم عذّبوا بنقائضها، إلى أنهم كانوا ينكرون هذا اليوم ويقولون: أنبعث نحن وآباؤنا الأولون ونعود كرّة أخرى، وقد صرنا أجسادا بالية، وعظاما نخرة؟.
والخلاصة - إنهم كانوا يمتّعون بوافر النّعم وجزيل المنن، وهم مع ذلك أصروا على كفرانهم، ولم يشكروا أنعم الله عليهم، فاستحقوا عقاب ربهم، وكانوا مكذبين بهذا اليوم، مستبعدين وقوعه، وركبوا رءوسهم فلم يلووا على شيء، وهاموا في أودية الضلالة، وساروا في سبيل الغواية، لا رقيب ولا حسيب.
وقد جرت سنة القرآن أن يذكر أسباب العقاب، ولا يذكر أسباب الثواب، لأن الثواب فضل، والعقاب عدل، والفضل إن ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص ولا ظلم، أما العدل فإن لم يعلم سببه فربما يظن أنه ضرب من الظلم.
وقد ذكروا لاستبعاد هذا البعث أسبابا:
(1) الحياة بعد الموت.
(2) طول العهد بعد الموت حتى صارت اللحوم ترابا والعظام رفاتا.
(3) بلغ الأمر منهم أن قالوا متعجبين: أو يبعث آباؤنا الأولون؟
فرد الله عليهم كل هذا وأمر رسوله أن يجيبهم.
(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي أجبهم أيها الرسول الكريم قائلا لهم: إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم أشد الاستبعاد، والآخرين الذين تظنون أن لن يبعثوا - ليجمعون في صعيد واحد في ذلك اليوم المعلوم، ولا شك أن اجتماع عدد لا يحصى كثرة أعجب من البعث نفسه.
ونحو الآية قوله في سورة الصافات: « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ».
ثم بين ما يلقاه أولئك المكذبون من الجزاء في مآكلهم ومشاربهم فقال:
(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي أيها الذين ضللتم فأصررتم على الذنب العظيم، إذ لم توحّدوا الله ولم تفعلوا ما يوجب تعظيمه، ثم كذبتم رسله، فأنكرتم البعث والجزاء في هذا اليوم - إنكم لآكلون من شجر الزقوم، فمالئون منها بطونكم، فشاربون بعد ذلك من ماء حارّ لغلبة العطش عليكم، ولكنه شرب لا يشفى الغليل، ومن ثم تشربون ولا ترتوون، فكأنكم الإبل التي أصيبت بداء الهيام، فلا يروى لها الماء غليلا.
وخلاصة ذلك - إنه لزيادة العذاب لا ترتوون من شرب هذا الماء المنتن الحار فلا تمسكوا عنه، بل يكون شربكم كشرب الإبل التي تشرب ولا تروى.
ثم بين أنه ليس هذا كل العذاب بل هو أوله وقطعة منه فقال:
(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الزقوم المأكول، والحميم المشروب، أول الضيافة التي تقدم لهم كما يقدم للنازل مما حضر، فما بالك بهم بعد ما يستقر بهم المقام في النار؟.
ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم، والتوبيخ لهم كما قال:
وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
[سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 74]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
تفسير المفردات
تمنون: أي تقذفونه في الأرحام من النطف، تخلقونه أي تقدرونه وتصوّرونه بشرا سويا تام الخلق، قدرنا: أي قسمنا ووقتنا موت كل أحد بوقت، نبدل أمثالكم: أي نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم، فيما لا تعلمون: أي من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها، فلو لا تذكرون: أي فهلا تتذكرون ذلك، تحرثون: أي تبذرون حبه، وتعملون في أرضه، تزرعونه: أي تنبتونه وتجعلونه نباتا يرفّ، حطاما: أي هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعد ما أنبتناه، تفكهون: أي تتعجبون من سوء حاله، مغرمون: أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال:
إن يعذّب يكن غراما وإن يقسط جزيلا فإنه لا يبالي
محرومون: أي غير مجدودين، فليس لنا جدّ وحظ، المزن: السحاب واحدته مزنة، أجاجا: أي ملحا زعاقا لا يصلح لشرب ولا في زرع، لو لا: بمعنى هلا، وهي كلمة تفيد الحث على فعل ما بعدها، تورون: أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، تذكرة: تذكيرا بالبعث، ومتاعا: أي منفعة، للمقوين: أي للمسافرين الذين يسكنون القواء: أي القفر والمفاوز، فسبح: أي تعجب من أمرهم، وقل: سبحان الله العظيم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأزواج الثلاثة، وبين مآل كل منها، وفصل ما يلقاه السابقون وأصحاب الميمنة من نعيم مقيم، وذكر ما يلقاه أصحاب المشأمة من عذاب لازب في حميم وغساق، وذكر أن ذلك إنما نالهم، لأنهم أشركوا بربهم وعبدوا معه غيره وكذبوا رسله، وأنكروا البعث والجزاء - أردف ذلك إقامة الأدلة على الألوهية من خلق ورزق لطعام وشراب، وأقام الدليل على البعث والجزاء، ثم أثبت الأصل الثالث وهو النبوة فيما بعد.
الإيضاح
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي نحن بدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى؟ فهلا تصدقون بالبعث. وفي هذا تقرير للمعاد، ورد على المكذبين به، المستبعدين له من أهل الزيغ والإلحاد، الذين قالوا: « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ ».
ثم أعاد الدليل فقال:
(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟) أي أخبروني عما قذفتم به في الأرحام من النطف:ء أنتم تقدرونه بشرا سويا تام الخلق أم الله الخالق لذلك؟.
ولا شك أنهم لا يجدون إلا جوابا واحدا لا ثاني له.
والخلاصة - أخبروني أيها المنكرون قدرة الله على إحيائكم بعد مماتكم - عن النطف التي تمنون في أرحام نسائكم،ء أنتم تخلقونها أم نحن الخالقون لها؟.
(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نحن قسمنا الموت بينكم، ووقتنا موت كل واحد بميقات معيّن لا يعدوه بحسب ما اقتضته مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وما نحن بعاجزين عن أن نذهبكم ونأتى بأشباهكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من الأطوار والأحوال التي لا تعهدونها.
والخلاصة - نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم، ونجىء بآخرين من جنسكم، فنجن نميت طائفة ونبدلها بطائفة أخرى قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل.
ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال:
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي لقد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداية قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى كما قال: « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » وقال: « أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ ».
وفي الحديث « عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور ».
ثم أردف ذلك دليلا آخر في الرزق في المطعوم فقال:
(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي أخبروني عن الحرث الذي تحرثونه،ء أنتم تنبتونه أم نحن الذين ننبته؟ أيء أنتم تصيرونه زرعا أم نحن الذين نصيّره كذلك؟.
وروي عن حجر المنذرى أنه كان إذا قرأ (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول: بل أنت يا رب.
(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم، ولو شئنا لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده، فأصبح لا ينتفع به في مطعم ولا في غذاء، فصرتم تعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتم فيه من الخضرة والنضرة والبهجة والرّواء، وتقولون: حقا إنا لمعذبون مهلكون لهلاك أرزاقنا، لا بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا، وسوء حظنا.
والخلاصة - لو نشاء لجعلناه هشيما متكسرا لشدة يبسه، فأقمتم تعجبون مما نزل بكم، ويعجّب بعضكم بعضا لذلك وتقولون إنا لمعذبون، لا بل نحن محرمون غير مجدودين، لنحس طالعنا، وسوء حظنا.
ثم أعقبه بدليل آخر في المشروب فقال:
(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) أي أفرأيتم أيها الناس الماء العذب الذي تشربونه،ء أنتم أنزلتموه من السحاب الذي فوقكم إلى قرار الأرض أم نحن منزلوه لكم؟.
(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي لو نشاء لجعلناه ملحا زعاقا لا تنتفعون به في شرب ولا غرس ولا زرع، فهلا تشكرون ربكم على إنزاله المطر عذبا زلالا؟ « لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ».
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله عنه « أن النبي ﷺ كان إذا شرب الماء قال: الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا ».
(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي أفرأيتم النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد،ء أنتم أنشأتم شجرتها التي منها الزناد أم نحن المنشئون لها بقدرتنا؟.
وكانت العرب توقد النار بطريق احتكاك المرخ بالعفار (نوعان من الشجر) فيأتون بعود من العفار وبقطعة عريضة من المرخ يحفرون في وسطها حفرة ثم يضعون عود العفار في هذه الفجوة، ويأتي فتى من فتيان القبيلة ويحرك عود العفار فيها بالتوالي، ويأتي بعده آخر ويصنع صنيع سابقه، ولا يزالون يفعلون هكذا حتى تشتعل النار من كثرة الاحتكاك.
وهذه عملية شاقة عسرة، ومن ثم كان البيت في القبيلة إذا رأى النار موقدة استعار جذوة منها، وإلى هذا أشار في قوله سبحانه في قصص موسى « إِنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ».
ثم بين منافع هذه النار فقال:
(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعًا لِلْمُقْوِينَ) أي نحن جعلنا النار تبصرة في أمر البعث حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها، ويذكروا بها ما أوعدوا به لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضادّ لها فهو قادر على إعادة ما تفرقت مواده، ومنفعة لمن ينزلون القواء والمفاوز من المسافرين، فكم من قوم سافروا ثم أرملوا فأجّجوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها، وقد كان من لطف الله أن أودعها الأحجار، وخالص الحديد، فيتمكن المسافر من حملها في متاعه وبين ثيابه، وإذا احتاج إليها في منزله أخرج زنده وأورى، وأوقد نارا فطبخ بها واصطلى، واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها في وجوه المنافع المختلفة.
وفي الحديث « المسلمون شركاء في ثلاثة: النار والكلإ والماء ».
وقد يكون المعنى: وجعلناها تذكرة وأنموذجا من نار جهنم لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أنه ﷺ قال: « ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ».
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الذي خلق هذه الأشياء بقدرته، فخلق الماء العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا كالبحار والمحيطات، وخلق النار وجعل فيها منافع للناس في معايشهم، وجعلها تبصرة لهم في معادهم.
[سورة الواقعة (56): الآيات 75 الى 82]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
تفسير المفردات
لا أقسم: هذا قسم تستعمله العرب في كلامها، ولا مزيدة للتأكيد مثلها في قوله: « لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ »، ومواقع النجوم: مساقط كواكب السماء ومغاربها، مكنون: أي مصون عن التغيير والتبديل، المطهرون: أي المنزهون عن دنس الحظوظ النفسية، مدهنون: أي متهاونون كمن يدهن في الأمر: أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على الألوهية والبعث والجزاء - أعقب هذا بذكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم، وأقسم على هذا بما يرونه في مشاهداتهم من مساقط النجوم، إنه لكتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون، وأنه نزل من لدن حضرة القدس على يد جبريل عليه السلام، فكيف تتهاونون في اتباع أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتجعلون شكركم على هذا تكذيبكم بنعم الله وجزيل فضله عليكم؟.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي أقسم بمساقط النجوم ومغاربها، وإنما خص القسم بهذه الحال، لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم، ومن ثم استدل إبراهيم عليه السلام بالأفول على وجود الإله جلت قدرته.
وقد أقسم سبحانه بكثير من مخلوقاته العظيمة، دلالة على عظم مبدعها، فأقسم بالشمس والقمر، والليل والنهار، ويوم القيامة، والتين والزيتون، كما أقسم بالأمكنة فأقسم بطور سينين ومكة المكرمة.
ويرى أبو مسلم الأصفهاني وشرذمة من المفسرين: أنّ لا ليست مزيدة والكلام على ظاهره المتبادر منه، والمعنى: لا أقسم بهذه: إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما، فضلا عن هذا القسم العظيم.
(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك.
وفي هذا تفخيم للمقسم به، لما فيه من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته، ألا يترك عباده سدى.
ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال:
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي إن هذا القرآن جم المنافع، كثير الفوائد، فقد اشتمل على ما فيه صلاح البشر في دنياهم وآخرتهم.
قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم يحمد، لما فيه من الهدى والبينات، والعلم والحكمة، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه، والحكيم يستمد منه ويحتج به، والأديب يستفيد منه ويتقوى به، فكل عالم يطلب أصل علمه منه اهـ.
(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي في لوح محفوظ مصون عن غير المقرّبين من الملائكة الكرام.
(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي لا يمس هذا اللوح إلا المنزهون عن دنس الأرجاس والحظوظ النفسية وقد يكون المراد: لا ينزل به إلا المطهرون وهم الملائكة الكرام، أو لا يمس هذا القرآن إلا المطهرون من الحدث الأصغر والحدث الأكبر، والمراد بذلك النهى: أي لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة.
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان الفارسي فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ثم خرج إلينا، فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن، فقال: سلونى فإني لست أمسه، إنما يمسه المطهرون، ثم تلا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).
وقد ذهب جمهور العلماء إلى منع المحدث عن مس المصحف، وبذلك قال على وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي.
وروي عن ابن عباس والشعبي في جماعة منهم أبو حنيفة أنه يجوز للمحدث مسه، يراجع شرح المنتقى للشوكاني.
وقال الحسين بن الفضل: المراد أنه لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق.
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وهو منزل نجوما من لدن رب العالمين، فليس بالسحر ولا الكهانة ولا الشعر، وهو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه شيء نافع.
وبعد أن بين مزاياه وأنه من لدن عليم خبير ذكر أنه لا ينبغي التهاون في أوامره ونواهيه، بل ينبغي التمسك به فقال:
(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي أفبهذا القرآن تتهاونون، وتمالثون من يتكلم منه، ولا تظهرون له المخالفة وعدم الرضا؟.
قال البقاعي: فهو على هذا إنكار على من سمع أحدا يتكلم في القرآن بما لا يليق به، ثم لا يجاهره بالعداوة. وابن العربي الطائي صاحب كتاب الفصوص، وابن الفارض صاحب التائية أول من صوّبت إليهما هذه الآية، فإنهما تكلما في القرآن على وجه يبطل الدين أصلا ورأسا ويحلّه عروة عروة، فهما من أضر الناس على هذا الدين، ومن يتأول لهما أو ينافح عنهما أو يعتذر لهما أو يحسن الظن بهما مخالفا إجماع الأمة - فهو أعجب حالا منهما، فإن مراده إبقاء كلامهما الذي لا أفسد للاسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه اه بتصرف.
(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون الشكر على هذا أنكم تكذبون بمن منح هذا الرزق، فتنسبونه إلى الأنواء وتقولون مطرنا بنوء كذا، دون أن تقولوا أفاض الله علينا الرزق من لدنه، ومنحنا الفضل برحمته.
والخلاصة - إنكم تضعون الكذب مكان الشكر، وهذا على نحو ما جاء في قوله تعالى: « وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً » أي لم يكونوا يصلون، لكنهم كانوا يصفرون ويصفّقون مكان الصلاة.
قال القرطبي: وفى هذا بيان لأن ما يصيب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بالشكر إن كان نعمة، وبالصبر إن كان مكروها، تعبدا له وتذللا اهـ.
[سورة الواقعة (56): الآيات 83 الى 96]
فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
تفسير المفردات
لو لا: حرف يفيد الحث على حصول ما بعده على سبيل الاستحسان أو الوجوب، والحلقوم: مجرى الطعام، ونحن أقرب إليه منكم: أي علما وقدرة، مدينين: أي محاسبين مجزيين، أو مملوكين مقهورين من قولهم دان السلطان الرعية إذا استذلهم واستعبدهم، والروح: الاستراحة، ريحان: أي رزق، من المكذبين الضالين: هم أصحاب الشمال، فنزل: أي فجزاؤه نزل، وتصلية جحيم: أي إدخال في النار، حق اليقين: أي حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه جحود الكافرين بآياته وتكذيبهم رسوله وكتابه، وقولهم فيه: إنه سحر أو افتراء، واعتقادهم أن رزقهم من الأنواء - أردف ذلك توبيخهم على ما يعتقدون، فإنه إذا كان لا بد للفعل من فاعل، وقد جحدتم الله وكذبتم رسوله فالفاعل لهذا كله أنتم، لأن الخالق إما الله وإما أنتم، فإذا نفيتم الله فأنتم الخالقون، وإذا فلما ذا لا ترجعون الروح لميتكم وهو يعالج سكرات الموت، فإن كنتم صادقين فارجعوها، الحق أنكم لا تعقلون الدليل والبرهان، بل لا تفهمون إلا المحسوسات، فلمّا لم تروا الفاعل كذبتم به، وهذا من شيمة الجهال، إذ للعلم وسائل عديدة، فليس عدم رؤية الشيء دليلا على عدم وجوده.
ثم بين حال المتوفى، ومن أي الأزواج الثلاثة هو، فإن كان من السابقين فله روح واطمئنان نفس، علما منه بما سيلقاه من الجزاء، ورزق طيب في جنات النعيم فيرى فيها ما تلذ الأنفس، وتقرّ به الأعين، وإن كان من أصحاب اليمين فتسلم عليه الملائكة، وتعطيه أمانا من ربه، وإن كان من أصحاب الشمال فضيافته ماء حميم وعذاب في النار أبدا.
ثم بين لرسوله ﷺ أن الخبر الذي أخبر به هو الحق اليقين، وعليه أن ينزّه ربه العظيم عن كل ما لا يليق به.
الإيضاح
(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجساد موتاكم حلا قيمهم وأنتم ومن حضركم من أهليكم تنظرون إليهم، ورسلنا الذين يقبضون أرواحهم أقرب إليهم منكم ولكن لا تبصرون - وجواب لو لا هو ما سيأتي بعد وهو (ترجعونها).
وخلاصة المعنى - إذا لم يكن لكم خالق وأنتم الخالقون، فهلا ترجعون النفوس إلى أجسادها حين خروجها من حلاقيمها؟
ثم كرر الحث والتحضيض مرة أخرى فقال:
(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فهلا ترجعون النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد، إن كنتم غير مصدقين أنكم تبعثون وتحاسبون وتجزون.
وبعد أن ذكر حال المحتضرين في الدنيا أردفها ذكر حالهم بعد الوفاة وقسمهم أزواجا ثلاثة فقال:
(1) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي فإن كان المتوفّى من الذين قرّبهم ربهم من جواره في جناته، لفعله ما أمر به، وتركه ما نهى عنه، فراحة واطمئنان لنفسه، ورزق واسع من عنده، وتبشره الملائكة بجنات النعيم، وقد جاء في حديث البراء بن عازب: « إن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب، كنت تعمرينه، فاخرجى إلى روح وريحان، ورب غير غضبان ».
(2) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وإن كان المتوفّى من أصحاب اليمين فتبشره الملائكة وتقول له: سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين.
ونحو الآية قوله: « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ».
(3) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وإن كان المتوفى من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى، فيقدم ضيافة له ماء حميم يصهر به ما في بطنه والجلود، ويدخل في النار التي تغمره من جميع جهاته.
(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به، ومن قيام الأدلة عليه، ومن حال المقربين وأصحاب اليمين، وحال المكذبين الضالين - لهو حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه، لتظاهر الأدلة القاطعة عليه، كأنه مشاهد رأي العين.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فبعد أن استبان لك الحق، وظهر لك اليقين، فنزه ربك عما لا يليق به، مما ينسبه الكفار إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني قال: « لما نزلت على رسول الله ﷺ فسبّح باسم ربّك العظيم » قال اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » قال اجعلوها في سجودكم ».
والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
خلاصة موضوعات هذه السورة
(1) اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة.
(2) إن الناس عند الحساب أزواج ثلاثة، وذكر مآل كل زوج منها.
(3) اجتماع الأولين والآخرين في هذا اليوم.
(4) إقامة الأدلة على وجود الخالق.
(5) إقامة البرهانات على البعث والنشور والحساب.
(6) إثبات أن هذه الأخبار حق لا شك فيها.
(7) تبكيت المكذبين على إنكار الخالق.
سورة الحديد
هذه السورة مدنية، وآيها تسع وعشرون، نزلت بعد الزلزلة.
ووجه مناسبتها لما قبلها:
(1) إن هذه بدئت بالتسبيح، وتلك ختمت به.
(2) إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح فكأنه قيل: سبح باسم ربك العظيم، لأنه سبح له ما في السموات والأرض.
[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
تفسير المفردات
جاء في الكتاب الكريم سبّح ويسبّح وسبّح، ويقال: سبّحته وسبّحت له كما يقال: نصحته ونصحت له، وتسبيح العقلاء أن يقولوا ما يدل على تنزيهه من كل نقص، وإبعاده عما لا يليق به من صفات المحدثات، كإثبات شريك له أو ندّ، وكون الملائكة بنات له، وكون عيسى ابنا له، وتسبيح غيرهم دلالة وجوده على عظم خالقه، وانقياده له في كل آن.
وما مثل هذا إلا مثل إشارتك لصاحبك على وضع خاص يفهم منها تأنّ واصبر، وإشارتك له على هيئة أخرى يفهم منها أنك لا تفعل هذا.
فهذه الدلالة في الحالين أفهمت صاحبك إفهاما كإفهام الكلام، بل أقوى وأبلغ أثرا، وكم للانسان في حركاته من معان يفهمها الآخرون بطريق لا لبس فيها.
وإذا كان هذا حال الإنسان المحدود العلم والإدراك، فما بالك بما أطلعنا الله عليه من بدائع القدرة والعلم والحكمة، وقد فهمنا منها ما لا نفهم بالقول، فلو أنك وقفت في الخلوات، وراقبت المزارع والجنات، والأشجار مترنحات، وأنواع الكلأ متحركات، والأوراق تغنّى بموزون الأصوات، وقد أرخى الليل سدوله، وأرسل من الخافقين جحافل جنوده، تلمع من بينها الكواكب، فتضىء من بينها السباسب لتجلت لك العبر، وقرأت علوم المبتدإ والخبر، ولعلمت أنها تحت قبضة ذي الملك والملكوت، الحي الذي لا يموت، الفرد الصمد، المنزّه عن الصاحبة والولد، سبّوح قدوس، رب الملائكة والروح.
العزيز: أي الذي لا ينازعه في ملكه شيء، الحكيم: أي الذي يفعل أفعاله وفق الحكمة والصواب، يحيى ويميت: أي يحيى النطف فيجعلها أشخاصا عقلاء فاهمين ناطقين، ويميت الأحياء، وهو على كل من الإحياء والإماتة قدير، وهو الأول: أي السابق على سائر الموجودات، والآخر: أي الباقي بعد فنائها، والظاهر والباطن: أي وهو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت، وخفيت عنا ذاته فلم ترها العيون، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بذاته، ومشرق بجماله وكماله، وهو ظاهر بغلبته على مخلوقاته وتسخيرها لإرادته وباطن بعلمه بما خفي منها، فلا تخفى عليه خافية، والمراد بستة الأيام ستة الأطوار، كما تقدم ذلك في سورة الأعراف، والاستواء على العرش تقدم تفسيره في سورتى يونس وهود، يلج في الأرض: أي يدخل فيها من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها: كالزرع والمعادن لمنفعة الناس، وما ينزل من السماء: كالمطر والملائكة ونحوهما، وما يعرج فيها: كالأبخرة المتصاعدة والأعمال والدعوات، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل تقدم تفسير هذا فيما تقدم، ذات الصدور: أي مكنونات النفوس وخفيات السرائر.
الإيضاح
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن ما دونه من خلقه ينزّه عن كلّ نقص، تعظيما له وإقرارا بربوبيته، وإذعانا لطاعته كما قال: « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا ».
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو القادر الغالب الذي لا ينازعه شيء، الحكيم في تدبير أمور خلقه، وتصريفها فيما شاء وأحب.
(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف والسلطان فيهما، وهو نافذ الأمر، ماضي الحكم، فلا شيء فيهن يمتنع منه.
(يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيى ما يشاء من الخلق كيف شاء، فيحدث من النطفة الميتة حيوانا ينفخ فيه الروح، ويميت ما يشاء من الأحياء حين بلوغ أجله.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وهو ذو قدرة لا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء وإماتة، وإعزاز وإذلال إلى نحو أولئك.
(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) أي هو الأول قبل كل شيء بغير حدّ كما جاء في الحديث القدسي: « كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى »
وهو الآخر بعد كل شيء بغير نهاية كما قال: « كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ».
(وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أي وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه، وهو الباطن بذاته، فلا تحوم حوله الظنون، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بعلمه بما بطن وخفى، فلا شيء إليه أقرب من شيء كما قال: « وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ».
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي وهو ذو علم تام بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهن وما فيهن في ستة أطوار مختلفات، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه.
(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل في الأرض من خلقه، فلا تخفى عليه خافية منه، وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن كما قال: « وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ».
(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من شيء كالمطر والملائكة.
(وَما يَعْرُجُ فِيها) أي وما يصعد إليها من الأرض كالأبخرة المتصاعدة، والأعمال الصالحة كما قال: « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ».
(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي وهو مطلع على أعمالكم أينما كنتم، ويعلم متقلبكم ومثواكم.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو رقيب عليكم، سميع لكلامكم، يعلم سركم ونجواكم كما قال: « سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ »
وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال لجبريل لما سأله عن الإحسان « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
وقال عمر: « جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: زوّدنى حكمة أعيش بها، فقال: استح الله كما تستحى رجلا من صالحي عشيرتك لا يفارقك ».
وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ولا أنّ ما تخفي عليه يغيب
(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي هو المالك لما فيهما، والمدبر لأمورهما، والنافذ حكمه فيهما، وإليه مصير جميع خلقه، فيقضى بينهم بحكمه كما قال « وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى » وقال: « وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ».
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يقلب الليل والنهار ويقدّرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطوّل الليل ويقصر النهار والعكس بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وحينا يجعل الفصل شتاء أو ربيعا أو قيظا أو خريفا، وكل ذلك بتدبيره وفائدة خلقه.
(وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي وهو عليم بالسرائر وإن دقت وخفيت، فهو يعلم نوايا خلقه كما يعلم ظواهر أعمالهم من خير أو شر. وفي ذلك حث لنا على النظر والتأمل ثم الشكر على ما أولى وأنعم.
[سورة الحديد (57): الآيات 7 الى 11]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
تفسير المفردات
مستخلفين فيه: أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه في التصرف من غير أن تملكوه أخذ الميثاق: نصب الأدلة في الأنفس والآفاق والتمكين من النظر فيها، والآيات البينات: هي القرآن، والفتح: هو فتح مكة، والحسنى: أي المثوبة الحسنى، وهي النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة، يقرض الله: أي ينفق ماله في سبيله رجاء ثوابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنواعا من الأدلة تثبت وحدانيته وعلمه وقدرته، فبين أن كل ما في السموات والأرض فهو في قبضته يصرّفه كما يشاء على ما تقتضيه حكمته، ثم ذكر أنواعا من الظواهر في الأنفس ترشد إلى هذا وأومأ إلى النظر والتأمل فيها، أعقب هذا بذكر التكاليف الدينية، فأمر بدوام الإيمان الكامل الذي له آثاره العملية من إخبات النفس لله، وإخلاص العمل له، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم طلب إنفاق المال في سبيله، وأبان أن المال عارية مستردّة فهو ملك له وأنتم خلفاؤه في تثميره في الوجوه التي فيها خير لكم ولأمتكم ولدينكم، ولكم على ذلك الأجر الجزيل الذي يضاعفه إلى سبعمائة ضعف، ثم حث على ذلك بأن جعل هذا صفوة دعوة الرسول وقد أخذ عليكم العهد به، وآيات كتابه هادية لكم تخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، والله رءوف بكم إذ أنقذكم من هاوية الشرك وهداكم إلى طاعته، ثم ذكر فضل السابقين الأولين الذين أسلموا قبل فتح مكة، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إعلاء كلمة الله حين عز النصير وقلّ المعين، فهؤلاء لا يستوون مع من فعل ذلك بعد الفتح وبعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، وهؤلاء وأولئك لهم المثوبة الحسنى والأحر الكريم عند ربهم ثم حث على الإنفاق مرة أخرى وسماه قرضا له، وأنه سيردّ هذا القرض ويجازى به أجمل الأجر يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه.
الإيضاح
(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسوله فيما جاءكم به عن ربكم - تنالوا الفوز برضوانه، وتدخلوا فراديس جناته، وتسعدوا بما لم يدر لكم بخلد، ولم يخطر لكم ببال.
(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي وأنفقوا مما هو معكم من المال على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، واستعملوه في طاعته وإلا حاسبكم على ذلك حسابا عسيرا، ولله درّ لبيد إذ يقول:
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن تردّ الودائع
وفي هذا ترغيب أيّما ترغيب في الإنفاق، لأن من علم أن المال لم يبق لمن قبله وانتقل إليه - علم أنه لا يدوم له بل ينتقل إلى غيره، وبذا يسهل عليه إنفاقه.
قال شعبة: سمعت عن قتادة يحدّث عن مطرّف بن عبد الله عن أبيه قال: « انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يقول: « أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ » يقول ابن آدم مالى مالى، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » رواه مسلم.
ثم حث على ما تقدم من الإيمان والإنفاق في سبيل الله فقال:
(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي فالذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله منكم، وأنفقوا مما خوّلهم الله عمن قبلهم - في سبيل الله، لهم الثواب العظيم عند ربهم، وهناك يرون من الكرامة والمثوبة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثم وبخهم على ترك الإيمان الذي أمروا به، وأبان أنه ليس لهم في ذلك من عذر فقال:
(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ؟) أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به؟.
روى البخاري « أن رسول الله ﷺ قال يوما لأصحابه: أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا الملائكة، قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم، قالوا فالأنبياء، قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم، قالوا فنحن: قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها ».
(وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وقد أخذ الله عليكم الميثاق بما نصب لكم من الأدلة على وحدانيته في الكون، أرضه وسمائه، برّه وبحره، وفى الأنفس بما تشاهدون فيها من بديع صنعها، وعظيم خلقها، إن كنتم تؤمنون بالدليل العقلي والنقلى وصفوة القول: إن الأدلة تظاهرت على وجوب الإيمان بالله ورسوله، فقد نصب في الكون ما يرشد إلى وجوده، وأرسل الرسل يدعون إلى ذلك، وأقاموا البراهين على صدق ما يقولون، فما عذركم، وإلام تستندون في رد هذا؟ الآن قد تبين الرشد من الغي، وأفصح الصبح لذي عينين، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فهل من مدّكر؟
ثم قطع عليهم الحجة وأزال معذرتهم فقال:
(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو الذي ينزل على رسوله دلائل واضحات، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى، ولرأفته بكم مكّن لكم من النظر في الأنفس والآفاق، لتهتدوا إلى معرفته على أتم وجه، وأهون سبيل.
وبعد أن وبخهم على ترك الإيمان، وبخهم على ترك الإنفاق، وأبان أنه لا معذرة لهم في ذلك فقال:
(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وما لكم أيها الناس لا تنفقون مما رزقكم الله في سبيله؟ وأموالكم صائرة إليه إن لم تنفقوها في حياتكم، لأن له ما في السموات والأرض ميراثا.
والخلاصة - أنفقوا أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض.
ثم بين تفاوت درجات المنفقين بحسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق فقال:
(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا يستوي من آمن وهاجر وأنفق ماله في سبيل الله قبل فتح مكة، ومن أنفق من بعد الفتح - ذاك أنه قبل فتحها كان الناس في جهد وضيق ولم يؤمن إذ ذاك إلا الصديقون، أما بعد الفتح فقد انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، ومن ثم قال:
(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا). قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.
(وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) أي وكل من المنفقين قبل الفتح وبعده لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في مقدار الجزاء كما قال في آية أخرى: « لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ».
أخرج أحمد عن أنس قال: « كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه ».
ثم وعد وأوعد فقال:
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله عليم بظواهر أحوالكم وبواطنها، فيجازيكم بذلك، ولخبرته تعالى بكم فضّل أعمال من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق بعده وقاتل، وما ذاك إلا لعلمه بإخلاص الأول في إنفاقه في حال الجهد والضيق.
ولأبي بكر الصديق الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيد من عمل بها، إذا أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله، ولم يكن لأحد عنده من نعمة يجزيه بها.
ثم ندب إلى الإنفاق في سبيله، ووبخ على تركه فقال:
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي من هذا الذي ينفق أمواله في سبيل الله محتسبا أجره عند ربه، فيضاعف له ذلك القرض، فيجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة، وله بعد ذلك جزاء كريم بمثوبته بالجنة؟.
وعن ابن مسعود قال « لما نزلت هذه الآية: « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ؟ » قال أبو الدّحداح الأنصاري يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال نعم يا أبا الدحداح، قال: أرنى يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: إني أقرضت ربى حائطى (بستانى) وكان له حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح، قالت لبيك، قال اخرجى فقد أقرضته ربي عز وجل، قالت له: ريح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها فقال رسول الله: كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح »
وهذا الأسلوب يستعمل في الأمر العزيز النادر فيقال: من ذا الذي يفعل كذا، إذا كان أمرا عظيما، وعلى هذا جاء قوله: « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ».
[سورة الحديد (57): الآيات 12 الى 15]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
تفسير المفردات
المراد بالنور هنا: ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة من علم وعمل، بشراكم: أي ما تبشرون به، انظرونا: أي انتظرونا، وأصل الاقتباس طلب القبس: أي الجذوة من النار، والسور: الحاجز، من قبله: أي من جهته، بلى: أي كنتم معنا، فتنتم أنفسكم: أي أهلكتموها بالمعاصي والشهوات، وتربصتم: أي انتظرتم بالمؤمنين مصايب الزمان، وارتبتم: أي شككتم في أمر البعث، والأماني: الأباطيل من طول الآمال والطمع في انتكاس الإسلام واحدها أمنية، والغرور (بالفتح) الشيطان، والفدية والفداء: ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك، مأواكم: أي منزلكم الذي تأوون إليه، مولاكم: أي أولى بكم، والمصير: المآل والعاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بالإيمان والإنفاق في سبيل الله، وحث على كل منهما بوجود موجباته فحث على الإيمان بوجود الأسباب التي تساعد عليه وهي وجود الرسول بين أظهرهم، وكتابه الذي يتلى بين أيديهم، وحث على الإنفاق فأبان أن المال مال الله وهو عارية بين أيديهم ثم يردّ إليه، وأنهم ينالون على إنفاقه الأجر العظيم في جنات النعيم، ثم ذكر أن المنفقين أول الإسلام لهم من الأجر أكثر ممن أنفقوا من بعد حين كثر النصير والمعين - ذكر هنا حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة، فبين أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة، وأنهم يبشرون بجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ثم أردفه ذكر حال المنافقين إذ ذاك، وأنهم يطلبون من المؤمنين
شيئا من الضوء يستنيرون به ليهديهم سواء السبيل، فيتهكم بهم المؤمنون ويخيّبون آمالهم ويقولون لهم: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل العلوم والمعارف، فلا نور إلا منها ثم أرشد إلى أنه يضرب بين الفريقين حاجز باطنه مما يلي المؤمنين فيه الرحمة، ومما يلي المنافقين فيه العذاب، لأنه في النار، ثم ذكر السبب فيما صاروا إليه، وهو أنهم أهلكوا أنفسهم بالنفاق والمعاصي، وانتظروا أن تدور على المؤمنين الدوائر، فينطفئ نور الإيمان، وشكّوا في أمر البعث وغرهم الشيطان فأوقعهم في مهاوى الردى، ثم أعقبه ببيان أنه لا أمل في النجاة لهم إذ ذاك، فلا تجدى الفدية كما كانت تنفع في الدنيا، فلا مأوى لهم إلا النار وبئس القرار.
الإيضاح
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي لهم الأجر الكريم حين ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى بين أيديهم ما يكون السبب في نجاتهم وهدايتهم إلى سبيل الجنة من العلوم التي كملوا بها أنفسهم في الدنيا كالاعتقاد بالتوحيد وخلع الأنداد والأوثان، والأعمال الصالحة التي زكوا بها أنفسهم، وبها أخبتوا لربهم وأنابوا إليه مخلصين له الدين، وبأيمانهم تكون كتبهم كما جاء في آية أخرى: « فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ».
(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وتقول لهم الملائكة: أبشروا بجنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال، وجاهدتم به أنفسكم في ترك الشرك والآثام، وكنتم تذكرون الله بالليل والناس نيام، فطوبى لكم وهنيئا بما عملتم.
ونحو الآية قوله: « وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ».
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الخلود في الجنات التي سمعتم أوصافها هو النجح العظيم الذي كنتم تطلبونه بعد النجاة من عقاب الله.
وبعد أن ذكر حال المؤمنين في موقف القيامة أتبعه ببيان حال المنافقين فقال:
(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي في هذا اليوم يقول المنافقون والمنافقات: أيها الذين نجوتم بإيمانكم بربكم وفزتم برضوانه حتى دخلتم فسيح جناته، انتظروا نلحق بكم ونقتبس من نوركم حتى نخرج من ذلك الظلام الدامس، والعذاب الأليم الذي نحن مقبلون عليه، فيجابون بما يخيّب آمالهم ويلحق بهم الحسرة والندامة كما قال:
(قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) أي ارجعوا من حيث أتيتم، واطلبوا لأنفسكم هناك نورا، فإنه لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا الذي كان بما قدمنا لأنفسنا وادّخرنا لها من عمل صالح، فأيهات أيهات أن تنالوا نورا، إذ لا ينفع المرء حينئذ إلا عمله، ولله در القائل:
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب
ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم، والاستهزاء بطلبهم، كما استهزءوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا آمنا، وما هم بمؤمنين، وذلك ما عناه سبحانه بقوله: « اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ » أي حين يقال لهم: « ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ».
ثم ذكر ما يكون بعد هذه المقالة فقال:
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي فضرب بين الفريقين حاجز جانبه الذي يلي مكان المؤمنين وهو الجنة فيه الرحمة، وجانبه الذي يلي المنافقين وهو النار فيه العذاب.
ثم أرشد إلى ما يكون من المنافقين حينئذ فقال:
(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي ينادى المنافقون المؤمنين: أما كنا معكم في الدار الدنيا نصلى معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات، ونؤدى معكم سائر الواجبات؟ فيجيبهم المؤمنون قائلين لهم: بلى كنتم معنا، ولكنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي، وأخرتم التوبة، وشككتم في أمر البعث بعد الموت، وغرتكم الأماني، فقلتم سيغفر لنا، وما زلتم كذلك حتى حضركم الموت، وغركم الشيطان فقال لكم: إن الله عفوّ كريم لا يعذبكم.
والخلاصة - إنكم كنتم معنا بأبدانكم لا بقلوبكم، وكنتم في حيرة من أمركم، فلا تذكرون الله إلا قليلا.
ثم أيأسوهم من عاقبة أمرهم، وأنهم هالكون لا محالة ولا سبيل إلى الخلاص من النار فقال:
(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي فاليوم لو جاء أحدكم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدى به من عذاب الله ما قبل منه، فمصيركم إلى النار، وإليها متقلبكم ومثواكم، وهي أولى بكم من كل منزل آخر، لكفركم وارتيابكم، وساءت مصيرا ومآلا.
والخلاصة - إنه لا مناص من النار، فلا فداء ولا فكاك منها.
[سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 17]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
تفسير المفردات
ألم يأن: ألم يجىء وقت ذلك من قولهم إني الأمر أنيا وأناء وإناء إذا جاء أناه أي وقته، والخشوع: الخشية والخوف، وذكر الله: مواعظه، والحق: هو القرآن، والذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، والأمد: الزمان، وطال عليهم الأمد: أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم: أي صلبت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة، فاسقون: أي خارجون عن حدود دينهم، رافضون لما جاء فيه من أوامر ونواه، والأرض الميتة: هي التي لا تنبت شيئا، والآيات: هي البينات والحجج، تعقلون: أي تتدبرون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، وأن الأولين لهم نور يهديهم إلى طريق الجنة، وأن الآخرين يطلبون منهم أن يأتوهم قبسا من نورهم يهديهم إلى سبيل النجاة، فيردونهم خائبين، ويقولون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا - أردف هذا عتاب قوم من المؤمنين فترت هممهم عن القيام بما ندبوا له من الخشوع، ورقة القلوب بسماع المواعظ وسماع القرآن، ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب الذين طال العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه، ثم أبان لهم بضرب المثل أن القلوب القاسية تحيا بالذكر وتلاوة القرآن كما تحيا الأرض الميتة بالغيث والمطر.
روي عن ابن مسعود أنه قال: « لما قدم أصحاب رسول الله ﷺ المدينة، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد أن كانوا في جهد جهيد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت الآية ».
وعن ابن عباس أنه قال: « إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا » الآية.
الإيضاح
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) أي أما آن للمؤمنين أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن والمواعظ، فتفهمه وتنقاد له، وتطيع أوامره، وتنتهى عن نواهيه؟.
وإذا كان المؤمنون قد أصابهم الوهن ولم يمض على الإسلام أكثر من ثلاث عشرة سنة كما قال ابن عباس، فما بالهم اليوم وقد مضى عليهم أكثر من ثلاثة عشر قرنا، فتعبير الآية عن حالهم الآن بالأولى، فالوهن الآن أضعاف مضاعفة عما كان في تلك الحقبة، ومن ثم أفرط الفرنجة في إذلالهم واستعبادهم، وصاروا غرباء في ديارهم، والأمر والنهي فيها لسواهم:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب قبلهم فقال:
(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي لا يتشبهوا بالذين حمّلوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى حين طال الأمد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم ولم تقبل موعظة ولم يؤثر فيها وعد ولا وعيد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا في دين دون دليل ولا برهان، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وكثير منهم خرج عن أوامر الدين في الأعمال والأقوال كما قال: « فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ».
أي فسدت قلوبهم فقست وصار سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، فتركوا الأعمال التي أمروا بها، واجترحوا ما نهوا عنه.
والخلاصة - إن الله نهى المؤمنين أن يكونوا حين سماع القرآن غير متدبرين مواعظه كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم، لما طال العهد بينهم وبين أنبيائهم.
ثم ضرب المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن في القلوب فقال:
(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدى النفوس الحيارى بعد ضلّتها، ويفرّج الكروب بعد شدتها، ببراهين القرآن ودلائله، وبالمواعظ والنصائح التي تلين الصخر الأصم، ويحييها بعد موتها كما يحيى الأرض الهامدة المجدبة بالغيث الوابل الهتّان، وقد ضرب لكم الأمثال كى تتدبروا وتكمل عقولكم فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، وهو الفعال لما يشاء الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير المتعال.
[سورة الحديد (57): الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
تفسير المفردات
المصدقين: أي المتصدقين بأموالهم على البائسين وذوي الحاجة، والقرض الحسن: هو الدفع بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه، يضاعف لهم: أي يضاعف الله لهم ثواب أعمالهم، والصدّيق: من كثر منه الصدق وصار سجية له، والشهداء من قتلوا في سبيل الله، واحدهم شهيد.
المعنى الجملي
بعد أن وازن بين المؤمنين والمنافقين فيما مضى، وأبان ما يكون بينهما من فارق يوم القيامة - ذكر هنا التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون جزاء ولا شكورا - يضاعف لهم ربهم ثواب إنفاقهم، فيقابل الحسنة الواحدة بعشر أمثالها، ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، ولهم ثواب جزيل، ومرجع صالح.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي والذين أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسله، وآمنوا بما جاءوهم به من عند ربهم، أولئك هم في حكم الله بمنزلة الصديقين.
(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي والذين استشهدوا في سبيل الله لهم أجر جزيل، ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم يتفاوتون في ذلك بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال والخلاصة - إن العاملين أقسام: فمنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى: « وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ».
ولما ذكر السعداء ومآلهم أردف ذلك ذكر حال الأشقياء فقال:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين كفروا بالله وكذبوا بحججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وصدق رسله أولئك هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا لا يفارقونها.
[سورة الحديد (57): الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
تفسير المفردات
اللعب: ما لا ثمرة له كلعب الصبيان، واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، وزينة: أي كالملابس الفاخرة، وتفاخر: أي بالأنساب والعظام البالية، وتكاثر في الأموال والأولاد: أي مباهاة بكثرة العدد والعدد، والغيث: المطر، والكفار: الزراع، يهيج: أي يبتدئ في اليبس والجفاف بعد أن كان أخضر ناضرا، حطاما: أي هشيما متكسرا من يبسه، والغرور: الخديعة.
المعنى الجملي
بعد أن بشر المؤمنين بأن نورهم يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وحثهم على بذل الجهد وترك الغفلة، وذكر ثواب المتصدقين والمتصدقات - أردف ذلك وصف حال الدنيا وسرعة زوالها وتقضيها، وضرب لذلك مثل الأرض ينزل عليها المطر فتنبت الزرع البهيج الناضر الذي يعجب الزراع لنمائه وجودة غلته، وبينا هو على تلك الحال، إذا به يصفرّ بعد النضرة والخضرة ويجف ثم يتكسر ويتفتت، وما الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة، فمن أجاد زرعه حصد وربح، ومن توان وكسل ندم ولات ساعة مندم.
قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
ثم حث على عمل ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه، ويمهد إلى الدخول في جنات عرضها السموات والأرض، أعدها لمن آمن به وبرسله فضلا منه ورحمة وهو المنعم عظيم الفضل.
الإيضاح
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي اعلموا أيها الناس أن متاع الدنيا ما هو إلا لعب ولهو تتفكهون به، وزينة تتزينون بها، وبها يفخر بعضكم على بعض، وتتباهون فيها بكثرة الأموال والأولاد.
ثم ضرب مثلا يبين أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة فقال:
(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا) أي ما مثل هذه الحياة في سرعة فنائها وانقضائها على عجل إلا مثل أرض أصابها مطر وابل، فأنبتت من النبات ما أعجب الزراع وجعلهم في غبطة وحبور، وبهجة وسرور، وبينا هو على تلك الحال إذا هو يصوح ويأخذ في الجفاف واليبس، ثم يكون هشيما تذروه الرياح.
ونحو الآية قوله: « إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ».
ثم ذكر عاقبة المنهمكين فيها، الطالبين لتحصيل لذاتها، المتهالكين في جمع حطامها والمعرضين عنها الطالبين لرضوان ربهم فقال:
(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ) أي وفى الآخرة إما عذاب شديد دائم لمن انهمك في لذاتها، وأعرض عن صالح الأعمال، ودسّى نفسه بالشرك والآثام، وإما مغفرة من الله ورضوان من لدنه لمن زكّى نفسه وأخبت لربه وأناب إليه:
قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرّة زلجا
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وما هذه الحياة الدنيا إلا متاع فان زائل خادع، من ركن إليه، واغترّ به وأعجبه، حتى اعتقد أن لا دار سواها، ولا معاد وراءها.
ولما أبان أن الآخرة قريبة، وفيها العذاب الأليم، والنعيم المقيم - حث على المبادرة إلى فعل الخيرات فقال:
(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي سابقوا أقرانكم في مضمار الأعمال الصالحة، وأدّوا ما كلفتم به من أوامر الشريعة، واتركوا نواهيها - يدخلكم ربكم بما قدّمتم لأنفسكم، جنة سعتها كسعة السموات والأرض.
ثم بين المستحقين لها فقال:
(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أي هيئت للذين اعترفوا بوحدانية الله وصدقوا رسله.
ثم بين أن هذا فضل منه ورحمة فقال:
(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي هذا الذي أعده الله لهم هو من فضله ورحمته ومنته عليهم.
وفي الصحيح « أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدّثور (الأموال) بالأجور، والدرجات العلى، والنعيم المقيم، قال وما ذاك؟ قالوا يصلون كما نصلى، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال:
أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، قال: فرجعوا فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ».
(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي والله واسع العطاء، عظيم الفضل، فيعطى من يشاء ما شاء كرما منه وفضلا، ويبسط له الرزق في الدنيا، ويهب لهم النعم، ويعرّفهم مواضع الشكر، ثم يجزيهم في الآخرة ما أعده لهم مما وصفه قبل.
[سورة الحديد (57): الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
تفسير المفردات
في الأرض: أي كالجدب والفاقة، واحتلال الأجانب الظالمين، واستيلاء الحكام الفاسقين، في أنفسكم: أي كالمرض والفاقة، في كتاب: هو اللوح المحفوظ، نبرأها: أي نخلقها، وتأسوا: أي تحزنوا، ما فاتكم: أي من نعيم الدنيا، ما آتاكم: أي ما أعطاكم، والمختال: المتكبر بسبب فضيلة تراءت له من نفسه، والفخور: هو المباهي بالأشياء العارضة كالمال والجاه.
المعنى الجملي
بعد أن أبان أن متاع هذه الدنيا زائل فان، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم - أردف ذلك تهوين المصايب على المؤمنين، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها، وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية.
ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوي الحاجة والبائسين، ويأمرون الناس بذلك، ويعرضون عن الإنفاق لا يجننّ إلا على أنفسهم، والله غني عنهم، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد.
الإيضاح
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي ما أصابكم أيها الناس من مصايب في آفاق الأرض كقحط وجدب وفساد زرع، أو في أنفسكم من أوصاب وأسقام - إلا في أم الكتاب من قبل أن نبرأ هذه الخليقة.
(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن علمه بالأشياء قبل وجودها، وكتابته لها طبق ما توجد في حينها - يسير عليه، لأنه يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون.
أخرج الحاكم وصححه عن أبي حسان: أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها فقالا إن أبا هريرة يحدّث أن النبي ﷺ كان يقول: إنما الطّيرة في المرأة والدابة والدار، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبى القاسم ﷺ ما هكذا كان يقول، كان يقول « كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار، ثم قرأ: وما أصابكم من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ».
(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا بآت.
والخلاصة - إن كل شيء قدّر في الكتاب، فكيف نفرح أو نحزن؟
قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح، ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا.
وقال حكيم: الصبر مخرج من الشقاء، فلا سعادة إلا بالصبر، ووصول النفس إلى كمالها الخلقي، بحيث يمر المال والولد والقوة والعلم عليها، فيصيبها مرة ويخطئها أخرى وهي مطمئنة، لا يدخلها زهو ولا إعجاب بما نالت، ولا حزن على ما فاتها اهـ.
وعلى الجملة فالحزن المذموم هو ما يخرج بصاحبه إلى ما يذهب عنه الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء الثواب، والفرح المنهي عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويلهيه عن الشكر.
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن المختال الفخور يبغضه الله ولا يرضى عنه.
ثم بين أوصاف المختالين الفخورين فقال:
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي إن المختالين بما أوتوا من المال يضنّون به لأنهم يرون عزتهم في وجوده، ويعدهم الشيطان بالفقر إذا هم أنفقوه، وقد يبلغ الأمر بهم أن يأمروا سواهم بالبخل ويبدوا لهم النصائح التي تجعلهم يضنون به مدعين أن ذلك إشفاق عليهم ونصح لهم.
(وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي ومن يعرض عن الإنفاق فلا يضرّن بذلك إلا نفسه، فالله غني عن ماله وعن نفقته، محمود إلى خلقه بما أنعم به عليهم من نعمه، ولا يضيره الإعراض عن شكره كما قال موسى عليه السلام لقومه: « إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ».
[سورة الحديد (57): آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
تفسير المفردات
البينات: المعجزات والحجج، والكتاب: أي كتب التشريع، والميزان: العدل، والقسط: الحق، وأنزلنا الحديد: أي خلقناه، والبأس: القوة، وليعلم الله: أي ليعلمه علم مشاهدة ووجود في الخارج.
الإيضاح
(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ولقد أرسلنا الأنبياء إلى أممهم ومعهم البراهين الدالة على صدقهم، المؤيدة لبعثهم من عند ربهم، ومعهم كتب الشرائع التي فيها هداية البشر وصلاحهم في دينهم ودنياهم، وأمرناهم بالعدل ليعملوا به فيما بينهم، ولا يظلم بعضهم بعضا.
ولما كان الناس فريقين فريقا يقوده العلم والحكمة، وفريقا يقوده السيف والعصا، ولما كان ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن، وكان العدل والقانون لا بد له من حام يحميه وهو الدولة والملك وأعوانه والجند، وهؤلاء لا بد لهم من عدّة يحمون بها القانون والعدل في داخل البلاد وفى خارجها أعقب هذا بقوله:
(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي وخلقنا الحديد لتكون منه السيوف والرماح والدروع والسفن البحرية وما أشبه ذلك، وفيها القوة التي ترغم أنف الظالم، وتحمى المظلوم، وفيه منافع للناس في حاجاتهم في معايشهم كأدوات الصناعات، وحاجات البيوت، وقطر السكك الجديدية ونحوها.
(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وإنما فعل ذلك ليراكم ناصرى دينه باستعمال السلاح والكراع لمجاهدة أعدائه، وناصرى رسله وهم غائبون عنكم لا يبصرونكم.
روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: « بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رمحى، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ».
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته، وهو غالب على أمره، لا يقدر أحد على دفع العقوبة متى أحلها بأحد من خلقه.
[سورة الحديد (57): الآيات 26 الى 27]
ولَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
تفسير المفردات
قفاه: اتبعه بعد أن مضى، والإنجيل: الكتاب الذي أنزل على عيسى وفيه شريعته، والمراد من الرأفة: دفع الشر، ومن الرحمة: جلب الخير، وبذا يكون بينهم مودة، والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارّين بدينهم من الفتنة، مخلصين أنفسهم للعبادة، محتملين المشاق من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف، وقوله ابتدعوها: استحدثوها ولم تكن في دينهم، ابتغاء رضوان الله: أي طلبا لرضاه ومحبته، فما رعوها: أي ما حافظوا عليها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأنه أنزل الميزان والحديد، وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرة رسله - أتبع ذلك ببيان ما أنعم به على أنبيائه من النعم الجسام، فذكر أنه شرّف نوحا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة، ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فما جاء أحد بعدهما بالنبوة إلا كان من سلائلهما.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي ولقد بعثنا نوحا إلى طائفة من خلقنا، ثم بعثنا إبراهيم من بعده لقوم آخرين، ولم نرسل بعدهما رسلا بشرائع إلا من ذريتهما.
ثم بين أن هذه الذرية افترقت فرقتين فقال:
(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فمن ذريتهما مهتد إلى الحق مستبصر، وكثير منهم ضلّال خارجون عن طاعة الله ذاهبون إلى طاعة الشيطان، مدسّون أنفسهم باجتراح الآثام.
وفي الآية إيماء إلى أنهم خرجوا عن الطريق المستقيم بعد أن تمكنوا من الوصول إليه، وبعد أن عرفوه حق المعرفة، وهذا أبلغ في الذم وأشد في الاستهجان لعملهم.
(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم بعثنا بعدهم رسولا بعد رسول على توالى العصور ولأيام.
ثم خص من أولئك الرسل عيسى لشهرة شريعته في عصر التنزيل ولوجود أتباعه في جزيرة العرب وغيرها فقال:
(وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي ثم أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل الذي أوحيناه إليه، وفيه شريعته ووصاياه، وقد جاء ما فيه مكملا لما في التوراة ومخففا بعض أحكامها التي شرعت تغليظا على بني إسرائيل، لنقضهم العهد والميثاق كما جاء في قوله: « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ».
ثم بين صفات أتباع عيسى فقال:
(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أي إن أتباعه الذين ساروا على نهجه وشريعته اتصفوا بما يأتي:
(1) الرأفة بين بعضهم وبعض، فيدفعون الشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ويصلحون ما فسد من أمورهم.
(2) الرحمة فيجلب بعضهم الخير لبعض كما قال في حق أصحاب النبي ﷺ: « رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ».
(3) الرهبانية المبتدعة، فقد انقطعوا عن الناس في الفلوات والصوامع معتزلين الخلق وحرّموا على أنفسهم النساء ولبسوا الملابس الخشنة، تبتلا إلى الله وإخباتا له.
(ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) أي ما فرضنا عليهم هذه الرهبانية، ولكنهم استحدثوها طلبا لمرضاة الله والزلفى إليه.
ثم ذكر أنهم ما حافظوا عليها كما قال:
(فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فما حافظوا على هذه الرهبانية المبتدعة، وما قاموا مما التزموه حق القيام، بل ضيّعوها، وكفروا بدين عيسى بن مريم، فضموا إليه التثليث ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا.
وفي هذا ذم لهم من وجهين:
(1) أنهم ابتدعوا في دين الله ما لم يأمر به.
(2) أنهم لم يقوموا بما فرضوه على أنفسهم مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى ربهم، وقد كان ذلك كالنذر الذي يجب رعايته، والعهد الذي يجب الوفاء به.
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: « قال لي رسول الله ﷺ يا ابن مسعود، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم، فرقة من الثلاث وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى بن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم صلوات الله عليه، فقتلتهم الملوك بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى صلوات الله عليه، فلحقوا بالبراري والجبال فترهبوا فيها فهو قول الله عز وجل « وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ » الآية، فمن آمن بي واتبعني وصدقنى فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون ».
(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا طبعت آثاره في أعمالهم، فزكّوا أنفسهم، وأخبتوا لربهم، وأدّوا فرائضه - أجورهم التي استحقوها كفاء ما عملوا، وكثير منهم فسقوا عن أمر الله، وو اجترحوا الشرور والآثام، وظهر فسادهم في البر والبحر بما كسبت أيديهم، فكبكبوا في النار، وباءوا بغضب من الله، ولهم عذاب عظيم
[سورة الحديد (57): الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
تفسير المفردات
قال المؤرّج السدوسي: الكفل: النصيب بلغة هذيل، وقال غيره بل بلغة الحبشة، وقال المفضل الضبي: أصل الكفل كساء يديره الراكب حول سنام البعير ليتمكن من القعود عليه، لئلا يعلم: أي لكي يعلم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من آمنوا من أهل الكتاب إيمانا صحيحا لهم أجرهم عند ربهم - ذكر هنا أن من آمنوا منهم بعيسى أولا وبمحمد ﷺ ثانيا يؤتيهم أجرهم مرتين، لإيمانهم بنبيهم، ثم بمحمد من بعده، ثم ذكر أن النبوة فضل من الله ورحمة منه لا يخص به قوما دون قوم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، لا كما يقول اليهود: إن الوحي والرسالة فينا لا تعدونا إلى سوانا، فنحن شعب الله المختار، ونحن أبناء الله وأحباؤه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين التوراة والإنجيل - خافوا الله بأداء طاعته واجتناب معاصيه وآمنوا بمحمد ﷺ - يعطكم ضعفين من الأجر، لإيمانكم بعيسى والأنبياء قبل محمد ﷺ ثم بإيمانكم بمحمد بعد أن بعث نبيا، ويجعل لكم هدى تستبصرون به من العمى والجهالة، ويغفر لكم ما أسلفتم من الذنوب وما فرطتم في جنب الله، والله واسع المغفرة لمن يشاء، رحيم بعباده يقبل توبتهم - متى أنابوا إليه، وخشعت له قلوبهم.
والخلاصة - إنه تعالى وعد المؤمنين برسوله بعد إيمانهم بالأنبياء قبله بأمور ثلاثة:
(1) أنه يضاعف لهم الأجر والثواب.
(2) أن يجعل لهم نورا بين أيديهم وعن شمائلهم يوم القيامه يهديهم إلى الصراط السوي ويوصلهم إلى الجنة.
(3) أن يغفر لهم ما اجترحوا من الذنوب والآثام.
روى الشعبي عن أبي بردة عن أبيه أبى موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ». رواه البخاري ومسلم.
ثم رد على أهل الكتاب الذين خصوا فضل الرسالة بهم فقال:
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي فعلنا ذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله من الأجرين ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد ﷺ.
وخلاصة ذلك - إن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي ﷺ.
أخرج ابن أبي حاتم قال لما نزلت « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا » فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي ﷺ فقالوا: لما أجران ولكم أجر، فاشتد ذلك على أصحابه فأنزل الله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور.
(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي والله واسع الفضل كثير العطاء، يمنحه من شاء من عباده لا يخص به قوما دون آخرين ولا شعبا دون آخر.
سبحانك قسمت حظوظك بين عبادك بمقتضى عدلك وفضلك، وآتيتهم فوق ما يستحقون بجودك وكرمك. فاللهم آتنا من لدنك الرشد والتوفيق، واهدنا لأقوم طريق.
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) صفات الله وأسماؤه الحسنى، وظهور آثاره في بدائع خلقه.
(2) الحض على الإنفاق.
(3) بشرى المؤمنين بالنور يوم القيامة.
(4) ثواب المتصدقين الذين أقرضوا الله قرضا حسنا.
(5) ذم الدنيا وأنها لهو ولعب.
(6) الترغيب في الآخرة وتشمير العزيمة للعمل لها.
(7) التسلية على المصايب.
(8) ذم الاختيال والفخر والبخل.
(9) الحث على العدل.
(10) الاعتبار بالأمم السالفة.
(11) قصص نوح وإبراهيم.
(12) إن أهل الكتاب الذين آمنوا برسلهم وآمنوا بمحمد ﷺ يضاعف لهم الأجر عند ربهم.
(13) الله يصطفى من رسله من يشاء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية في صبيحة يوم الجمعة لتسع بقين من رجب الأصم من سنة خمس وستين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة سيد ولد عدنان، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث
5 الفرق بين الإسلام والإيمان
12 أمر الرسول ﷺ أن يعرض عن جدل المشركين ومرامهم
17 ما أثبته علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) حديثا
20 الحكمة في مور السماء وسير الجبال
24 محاسن المرأة التي يتمدح بها العرب
28 ما قالته عائشة في وصف عذاب النار
32 تحدي العرب في الإتيان بمثل القرآن
35 أمر المشركين بإقامة الحجة على ما يدعون
44 ما أثبته علماء الفلك في النجوم حديثا
45 كان رسول الله ﷺ يمزح ولا يقول إلا حقا
46 علينا أن نؤمن بما جاء في القرآن عن عالم الأرواح
52 توبيخ المشركين على نسبة البنات إلى الله
59 المشهور أن الكبائر سبع
61 النهي عن تزكية النفس حين قصد الرياء
63 ما تضمنته صحف إبراهيم وموسى
65 يرى مالك والشافعي أنه لا يصح إهداء ثواب القراءة إلى الموتى
68 سبب تخصيص الشعرى بالذكر من بين الكواكب
73 ما تضمنته سورة النجم من الأسرار والأحكام
76 هل انشقاق القمر حدث أو سيحدث؟
84 يقولون إن سفينة نوح لا تزال باقية إلى الآن في موضعها
87 ما روى من شؤم بعض الأيام لا يصح منه شيء
89 كانت ناقة صالح فتنة لقومه
91 اتبع صالح مع قومه طريق المناوبة لناقته في شرب ماء البئر
98 دعاء النبي ﷺ على المشركين يوم بدر
102 في الحديث: يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا
103 خلاصة موضوعات سورة القمر الكريمة
106 منة الله على عباده بالبيان والتبيين عما يجول في النفس
109 حكمة تكرار (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)
111 كيف خلق الإنسان الأول
116 الدهر عند الله يومان
132 إذا وقعت الواقعة لا تكذب نفس على الله
133 ينقسم الناس يوم القيامة أزواجا ثلاثة
151 آراء العلماء في تفسير قوله: لا يمسه إلا المطهرون
152 ابن العربي وابن الفارض أتيا بما هو بدع في الدين فرده العلماء
161 فائدة اختلاف الفصول وتوالى الليل والنهار
172 عتاب المؤمنين الذين فترت هممهم عن القيام بشعائر الدين
179 ذهب أهل الدثور بالأجور - الحديث
184 ما أنعم الله به على أنبيائه من النعم الجسام
187 من آمن بعيسى ثم بمحمد يؤتهم أجرهم مرتين
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |