تفسير المراغي/الجزء السادس والعشرون

ملاحظات:


بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأحقاف

هي مكية إلا ثلاث آيات: 10، 15، 35 فمدنية.

وآياتها خمس وثلاثون، نزلت بعد الجاثية.

ووجه اتصالها بما قبلها - أنه تعالى ختم السورة السالفة بالتوحيد، وذمّ أهل الشرك وتوعدهم عليه، وافتتح هذه بالتوحيد وتوبيخ المشركين على شركهم أيضا.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 6]

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)

تفسير المفردات

أجل مسمى: هو يوم القيامة، أنذروا: أي خوّفوا، معرضون: أي مولّون لاهون، تدعون: أي تعبدون، شرك: أي نصيب، أثارة: أي بقية، ومثلها الأثرة (بالتحريك) يقال (سمنت الإبل على أثارة) أي بقية شحم كان قبل ذلك، حشر: أي جمع، كافرين: أي مكذبين.

المعنى الجملي

بدأ سبحانه السورة بإثبات أن هذا القرآن من عند الله، لا من عند محمد كما تدّعون ثم ذكر أن خلق السموات والأرض مصحوب بالحق قائم بالعدل والنظام، ومن النظام أن تكون الآجال مقدرة معلومة لكل شيء، إذ لا شيء في الدنيا بدائم، ولا بد من يوم يجتمع الناس فيه للحساب، حتى لا يستوي المحسن والمسيء، ولكن الذين كفروا أعرضوا عن إنذار الكتاب ولم يفكروا فيما شاهدوا في العالم من النظام والحكمة، فلا هم بسماع الوحي متعظون، ولا هم بالنظر في العالم المشاهد يعتبرون ثم نعى على المشركين حال آلهتهم وأمر رسوله أن يقول لهم: أخبروني ماذا خلق آلهتكم من الأرض، أم لهم شركة في خلق السموات حتى يستحقون العبادة؟ فإن كان لهم ما تدّعون فهاتوا دليلا على هذا الشرك المدّعى بكتاب موحى به من قبل القرآن أو ببقية من علوم الأولين، وكيف خطر على بالكم أن تعبدوها وهي لا تستجيب لكم دعاء إلى يوم القيامة وهي غافلة عنكم، وفى الدار الآخرة تكون لكم أعداء وتجحد عبادتكم لها.

الإيضاح

(حم) الكلام في مثلها قد تقدم من قبل.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) اعلم أنّ نظم أول هذه السور كنظم أول سورة الجاثية وقد تقدم إيضاحه وتفسيره.

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالعدل، وبتقدير أجل مسمى لكل مخلوق، إليه ينتهى بقاؤه في هذه الحياة الدنيا، وهذا يستدعى أن يكون خلقه لحكمة وغاية، وأن يكون هناك يوم معلوم للحساب والجزاء، لئلا يتساوى من أحسن في الدار الأولى ومن أساء فيها، ومن أطاع ربه واتبع أوامره ونواهيه، ومن دسّى نفسه، وركب رأسه، واتبع شيطانه وهواه، وسلك سبل الغواية فلم يترك منها طريقا إلا سلكه، ولا بابا إلا ولجه.

ثم بين غفلة المشركين وإعراضهم عما أنذروا به فقال:

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي مع ما نصبنا من الأدلة، وأرسلنا من الرسل، وأنزلنا من الكتب - بقي هؤلاء الكفار معرضين عنه، غير ملتفتين إليه، فلا هم بما أنزلنا من الكتب اتعظوا، ولا بما شاهدوا من أدلة الكون اعتبروا، وأنّى لهم ذلك؟ فهم صم بكم عمى لا يعقلون.

وبعد أن أثبت لنفسه الألوهية، وأنه رحيم عادل، وأثبت البعث والجزاء يوم القيامة، ردّ على عبدة الأصنام فقال:

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي قل لهم أيها الرسول: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمل في خلق السموات والأرض وما بينهما، والنظام القائم فيهما، المبنى على الحكمة ودقة الصنع، والإبداع في التكوين: هل تعقلون لهم مدخلا في خلق جزء من هذا العالم السفلى، فيستحقوا لأجله العبادة؟ ولو كان لهم ذلك لظهر التفاوت في هذا النظام، والمشاهد أنه على حال واحدة يستمد أدناه من أعلاه، ويرتبط بعضه ببعض، وكل فرد في الأرض مخدوم بجميع الأفراد فيها، أم هل تظنون أن لهم شركة في خلق العالم العلوي شموسه وأقماره، كواكبه ونجومه، سياراتها وثوابتها.

وقصارى ذلك - نفى استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتمّ وجه، فقد نفى أن لها دخلا في خلق شيء من أجزاء العالم السفلى استقلالا، ونفى ثانيا أن لها دخلا على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلوي، ونفى ذلك يستلزم نفى استحقاق المعبودية أيضا.

وتخصيص الشركة في النظم الجليل بقوله سبحانه « في السّموات » مع أنه لا شركة فيها ولا في الأرض أيضا - لأن الغرض إلزامهم بما هو مسلّم لهم، ظاهر لكل أحد، والشركة في الحوادث السفلية ليست كذلك، لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة.

وبعد أن بكّتهم وعجّزهم عن الإتيان بسند عقلى، عجزهم وبكتهم عن الإتيان بسند نقلى فقال:

(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان ما تقولونه حقا فائتونى أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب كالتوراة والإنجيل يشهد بصحة ما تدّعون لآلهتكم، أو ببقية بقيت عندكم من علم الأولين المفكرين في خلق السموات والأرض ترشد إلى استحقاق الأصنام والأوثان للعبادة. وتدل على صحة المسلك الذي سلكتموه.

والخلاصة - إن الدليل: إما وحي من الله، أو بقية من كلام الأوائل، وإما إرشاد من العقل، فإن كان الأول فأين الكتاب الذي يدل على أنهم شركاء؟ وإن كان الثاني فأين هو؟

وبعد أن أبطل شركة الأصنام في الخلق بعدم قدرتها على ذلك - أتبعه إبطاله بعدم علمها بالعبادة فقال:

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي لا أضل ممن يعبد من دون الله أصناما ويتخذهم آلهة، وهم إذا دعوا لا يسمعون ولا يجيبون إلى يوم القيامة أي لا يجيبون أبدا ماداموا في الدنيا، إذ هم في غفلة عن دعائهم، لأنهم أحجار، فهم صم بكم لا يسمعون ولا يتكلمون.

وما أنكى هذا التوبيخ وما أمضّ ألمه لهؤلاء المشركين على سوء رأيهم وقبح اختيارهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئا ولا يفهم، وتركهم عبادة من بيده جميع نعمهم، ومن به إغاثتهم حين تنزل بهم الجوائح والمصايب.

وبعد أن أبان أنهم لا ينفعونهم في الدنيا ولا يستجيبون لهم دعاء - أبان حالهم في الآخرة فقال:

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) أي وإذا جمع الناس لموقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يعبدونها في الدنيا أعداء لهم، إذ يتبرءون منهم، وكانوا بعبادتهم كافرين، فهم يقولون: ما أمرناهم بعبادتنا ولا شعرنا بهم، تبرأنا إليك ربنا منها.

ونحو الآية قوله تعالى: « وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا » وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام « وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ».

[سورة الأحقاف (46): الآيات 7 الى 9]

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

تفسير المفردات

المراد بالحق آيات القرآن، افتراه: كذب عليه عمدا، فلا تملكون لي من الله شيئا: أي لا تغنون عنى من الله شيئا إن أراد عقابي، تفيضون فيه: أي تخوضون فيه من تكذيب القرآن، يقال أفاض القوم في الحديث: أي اندفعوا فيه، والبدع والبديع من كل شيء: المبتدع المحدث دون سابقة له.

المعنى الجملي

بعد أن تكلم في تقرير التوحيد ونفى الأضداد والأنداد - أعقب هذا بالكلام في النبوة، وبين أنه كلما تلا عليهم الرسول شيئا من القرآن قالوا إنه سحر، بل زادوا في الشناعة وقالوا: إنه مفترى، فرد عليهم بأنه لو افتراه على الله فمن يمنعه من عقابه لو عاجله به؟ وهو العليم بما تندفعون فيه من الطعن في نبوّتى، ويشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والجحود.

ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إني لست بأول الرسل حتى تنكروا دعائى لكم إلى التوحيد، ونهى لكم عن عبادة الأصنام، وما أدرى ما يفعل بي في الدنيا؟ أأموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي، ولا ما يفعل بكم، أترمون بالحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض، أم يفعل بكم غير ذلك مما عمل مع سائر المكذبين للرسل؟ وإني لا أعمل عملا ولا أقول قولا إلا بوحي من ربى، وما أنا إلا نذير، لا أستطيع أن آتى بالمعجزات والأخبار الغيبية، فالقادر على ذلك هو الله تعالى.

الإيضاح

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين حججنا التي أودعناها كتابنا الذي أنزلناه عليك قالوا: هذا خداع وتمويه يفعل فعل السحر في قلب من سمعه.

ثم انتقل من هذه المقالة الشنعاء إلى ما هو أشنع منها فقال:

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي دع هذا واسمع القول المنكر العجيب: إنهم يقولون إن محمدا افتراه على الله عمدا، واختلقه عليه اختلاقا.

وقد أمر الله رسوله أن يبطل شبهتهم بقوله:

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي قل لهم: لو كذبت على الله، وزعمت أنه أرسلنى إليكم، ولم يكن الأمر كذلك لعاقبنى أشد العقاب، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرنى منه، فكيف أقدم على هذه الفرية وأعرّض نفسي لعقابه، فالملوك لا يتركون من كذب عليهم دون أن ينتقموا منه، فما بالكم بمن يتعمد الكذب على الله في الرسالة، وهي الجامعة لأمور عظيمة، ففيها الإخبار عن تكليف الناس بما يصلح شأنهم في دينهم ودنياهم.

ونحو الآية قوله: « قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ » وقوله: « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ».

ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام منهم بقوله:

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه، من التكذيب بالقرآن، والطعن في آياته، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى.

ثم أكد صدق ما يقول بنسبة علم ذلك إلى الله فقال:

(كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو يشهد لي بالصدق في البلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود.

ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الشديد على إفاضتهم في الطعن في الآيات.

ثم فتح لهم باب الرحمة بعد الإنذار السابق لعلهم يتوبون ويثوبون إلى الحق فقال:

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي ومع كل ما صدر منكم من تلك المطاعن الشنعاء، إن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وصح عزمكم على الرجوع عما أنتم عليه، تاب عليكم، وعفا عنكم، وغفر لكم ورحمكم.

وبعد أن حكى عنهم طعنهم في القرآن - أمر رسوله أن يرد عليهم مقترحاتهم العجيبة، وهي طلبهم من الرسول أن يأتيهم بمعجزات بحسب ما يريدون ويشتهون، وكلها تدور حول الإخبار بشئون الغيب فقال:

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) أي قل لهم: لست بأول رسول بلّغ عن ربه، بل قد جاءت رسل من قبلي، فما أنا بالفذّ الذي لم يعهد له نظير حتى تستنكرونى وتستبعدون رسالتي إليكم، وما أنا بالذي يستطيع أن يأتي بالمعجزات متى شاء، بل ذلك باذنه تعالى وتحت قبضته وسلطانه، وليس لي من الأمر شيء، وإلى ذلك أشار بقوله:

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ولا أعلم ما يفعل بي في الدنيا، أأخرج من بلدي كما أخرجت أنبياء من قبلي، أم أقتل كما قتل منهم من قتل؟ ولا ما يفعل بكم أيها المكذبون، أترمون بحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض؟ كل هذا علمه عند ربي.

وفي صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء أنها قالت: « لما مات عثمان ابن مظعون رضي الله عنه، قلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب، لقد أكرمك الله تعالى، فقال رسول الله : وما يدريك أن الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدرى - وأنا رسول الله - ما يفعل بي ولا بكم، قالت أمّ العلاء فوالله ما أزكى بعده أبدا ».

وفي رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس « أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول الله نظر مغضب وقال: وما يدريك؟ والله إني لرسول الله، وما أدرى ما يفعل الله بي، فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه ».

ومن هذا يعلم أن ما ينسب إلى بعض الأولياء من العلم بشئون الغيب، فهو فرية على الله ورسوله، وكفى بما سلف ردّا عليهم.

ثم أكد ما سلف وقرره بقوله:

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع شيئا من عندي.

ثم زاد الأمر توكيدا فقال:

(وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وما أنا إلا نذير، أنذركم عقاب الله، وأخوّفكم عذابه، وآتيكم بالشواهد الواضحة على صدق رسالتي، ولست أقدر على شيء من الأعمال الخارجة عن قدرة البشر.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 10 الى 14]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)

المعنى الجملي

لا يزال الكلام موصولا بسابقه، فبعد أن نعى عليهم استهزاءهم بكتابه وقولهم فيه: إنه سحر مفترى وردّ الرسول عليهم بأنه ليس بأول رسول حتى يستنكرون نبوته ويطلبون منه ما لا قبل له به من المعجزات التي أمرها بيد الله لا بيده - أردف هذا أمر رسوله أن يقول لهم: ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله الله علي لأبلغكموه فكفرتم به وكذبتموه؟ وقد شهد شاهد من بني إسرائيل الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل ما قلت، فآمن واستكبرتم؟ ثم حكى عنهم شبهة أخرى بشأن إيمان من آمن منهم من الفقراء كعمار وصهيب وابن مسعود فقالوا: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء، ثم ذكر أنهم حين لم يهتدوا به قالوا: إنه من أساطير الأولين، ثم ذكر أن مما يدل على صدق القرآن أن التوراة وهي الإمام المقتدى به، بشرت بمقدم محمد فاقبلوا حكمها في أنه رسول حقا من عند الله، ثم أعقب هذا ببيان أن من آمنوا بالله وعملوا صالحا لا يخافون مكروها، ولا يحزنون لفوات محبوب، وأولئك هم أهل الجنة، جزاء ما عملوا من عمل صالح، وما أخبتوا لربهم، وانقادوا لأمره ونهيه.

الإيضاح

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي قل لهم: أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله لعجز الخلق عن معارضته، لا أنه سحر ولا مفترى كما تزعمون، ثم كذبتم به وشهد أعلم بني إسرائيل بكونه من عند الله فآمن واستكبرتم - أفلستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟.

والخلاصة - أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، وشهادة منصف من بني إسرائيل عارف بالتوراة على مثل ما قلت فآمن به مع استكباركم - أفلا تكونون ظالمين لأنفسكم؟

وهذا الشاهد هو عبد الله بن سلام -

فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: « ما سمعت رسول الله يقول لأحد يمشى على وجه الأرض: إنه من أهل لجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه، نزلت: (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) ».

وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: نزل في آيات من كتاب الله، نزلت في (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) ونزل في: (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

ثم ذكر أن في استكبارهم عن الإيمان ظلما لأنفسهم وكفرا بآيات ربهم فقال:

(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفق لإصابة الحق وهدى الصراط المستقيم من ظلموا أنفسهم باستحقاقهم سخط الله لكفرهم به بعد قيام الحجة الظاهرة عليهم.

عن عوف بن مالك الأشجعى قال « انطلق النبي وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله : يا معشر اليهود أرونى اثنى عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحطّ الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا، فقال: أبيتم، فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفّى، آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا تخرج، فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونى فيكم يا معشر اليهود، فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك، فقال فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردوا عليه وقالوا شرّا، فقال رسول الله : كذبتم لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله وأنا وعبد الله ابن سلام فأنزل الله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - إلى قوله - إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

أخرجه أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه السيوطي.

ثم حكى نوعا آخر من أقاويلهم الباطلة في القرآن العظيم والمؤمنين به فقال:

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي وقال كفار مكة لأجل إيمان من آمن من فقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود ومن لفّ لفّهم:

لو كان ما أتى به محمد خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء، فإن معالى الأمور لا تنالها أيدي الأراذل، وهؤلاء سقّاط الناس ورعاة الإبل والشاء، وقد قالوا ذلك زعما منهم أنهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، وأن الرياسة الدينية مما تنال بأسباب دنيوية، وقد غاب عنهم أنها منوطة بكمالات نفسية وملكات روحية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية والإقبال على الآخرة، وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها، ومن حرمها فما له فيها من خلاق، ولم يعلموا أن الله يختص برحمته من يشاء ويصطفى لدينه من يشاء.

وعن قتادة: قال ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان فنزلت هذه الآية.

وروي أنه لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأشجع وأسد: لو كان هذا خيرا ما سبقتنا إليه رعاء البهم والشاء.

فأجابهم الله عن هذا بقولهم:

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي وقد ظهر عنادهم واستكبارهم إذ لم يهتدوا به، وسيقولون الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين: هذا كذب مأثور عن الأقدمين، انتقاصا له ولأهله، واستكبارا عن اتباع الحق.

قال رسول الله « الكبر بطر الحق وغمص (احتقار) الناس ».

ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: « وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ».

ثم رد عليهم طعنهم في القرآن وأثبت صحته فقال:

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي ومما يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون في أن الله أنزل التوراة على موسى وجعلها إماما لبني إسرائيل ورحمة لهم، وهي قد اشتملت على البشارة بمقدم محمد فلا بد أن يكون محمد صادقا في رسالته، وأن يكون القرآن من عند الله، وقد جاء بلسان عربي لينذر الذين ظلموا أنفسهم وهم مشركو مكة وهو بشرى لمن أحسن عملا.

والخلاصة - كيف يكون إفكا قديما وهو مصدق لكتاب موسى الذي تعترفون بصدقه، وهو بلسان عربي، والتوراة بلسان عبرى، فتصديق الأول للثاني دليل على اتحادهما صدقا - فبطل كونه إفكا قديما وثبت الصدق القديم.

وبعد أن ذكر طريق المبطلين أرشد إلى طريق المحقين وذكر جزاءهم فقال:

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين قالوا ربنا الله، لا إله غيره، ثم استقاموا على تصديقهم بذلك، ولم يخلطوه بشرك ولم يخالفوا الله في أمر ولا نهى - فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم بعد مماتهم.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين قالوا هذا القول واستقاموا - هم أهل الجنة ماكثين فيها أبدا ثوابا منا لهم كفاء ما قدموا من صالح الأعمال في الدنيا.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 15 الى 16]

ووَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)

تفسير المفردات

الإيصاء والوصية: بيان الطريق القويم لغيرك ليسلكه، والإحسان: خلاف الإساءة، والحسن: خلاف القبح، والمراد أنه يفعل معهما فعلا ذا حسن، والكره (بالضم والفتح) كالضعف والضعف: المشقة، وحمله: أي مدة حمله، وفصاله: فطامه والمراد به الرضاع التام المنتهى بالفطام، والأشد: استحكام القوة والعقل، أوزعنى: أي رغبنى ووفقني، من أوزعته بكذا: أي جعلته مولعا به راغبا في تحصيله، والقبول: هو الرضا بالعمل والإثابة عليه، في أصحاب الجنة: أي منتظمين في سلكهم كما تقول أكرمنى الأمير في أصحابه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر في سابق الآيات توحيده سبحانه وإخلاص العبادة له والاستقامة في العمل - أردف هذا الوصية بالوالدين، وقد فعل هذا في غير موضع من القرآن الكريم كقوله: « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا » وقوله: « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ».

روي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر إذ أسلم والداه ولم يتفق ذلك لأحد من الصحابة، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أمّ الخير بنت صخر بن عمرو.

الإيضاح

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسانًا) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنوّ عليهما، والبر بهما في حياتهما وبعد مماتهما، وجعلنا البر بهما من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

ثم ذكر سبب التوصية وخص الكلام بالأم لأنها أضعف وأولى بالرعاية، وفضلها أعظم كما ورد في صحيح الأحاديث ومن ثم كان لها ثلثا البر فقال:

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) أي إنها قاست في حمله مشقة وتعبا من وحم وغثيان وثقل إلى نحو أولئك مما ينال الحوامل، وقاست في وضعه مشقة من تعب الطلق وألم الوضع، وكل هذا يستدعى البر بها واستحقاقها للكرامة وجميل الصحبة.

ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال:

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) أي ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا تكابد الأمّ فيها الآلام الجسمية والنفسية، فتسير الليالي ذوات العدد إذا مرض، وتقوم بغذائه وتنظيفه وكل شئونه بلا ضجر ولا ملل، وتحزن إذا اعتل جسمه أو ناله مكروه يؤثّر في نموّه وحسن صحته.

وفي الآية إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن أكثر مدة الإرضاع حولان كاملان لقوله تعالى: « وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر، وبذلك يعرف أقل الحمل وأكثر الإرضاع.

وأول من استنبط هذا الحكم منها علي كرم الله وجهه ووافقه عليه عثمان وجمع من الصحابة رضي الله عنهم.

روى محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج منا رجل من امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت لها: وما يبكيك؟ فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضى الله في ما شاء، فلما أتى بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال ما تصنع؟ قال ولدت لتمام ستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علي: أما تقرأ القرآن؟ قال بلى، قال: أما سمعت الله عز وجل يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) وقال: « حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ » فلم تجده أبقى إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، علي بالمرأة، فوجدها قد فرغ منها، قال معمر فوالله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه.

وعن ابن عباس أنه كان يقول: إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا ولدت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله يقول: (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا).

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي حتى إذا اكتهل واستوفى السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وهي فيما بين الثلاثين والأربعين.

(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وهذا نهاية استحصاد العقل واستكماله، ومن ثم روى عن ابن عباس: من أتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ولهذا قيل:

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه فلا تنفس عليه الذي مضى وإن جرّ أسباب الحياة له العمر

قال المفسرون: لم يبعث الله نبيا قط قيل الأربعين إلا ابني الخالة « عيسى ويحيى » (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أي رب وفقني لشكر نعمك التي غمرتنى بها في ديني ودنياى، بما أتمتع به من سعة في العيش، وصحة في الجسم، وأمن ودعة، للإخلاص لك، واتباع أوامرك، وترك نواهيك، وأنعمت بها على والدي من تحننهما علي حين ربياني صغيرا.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ) أي واجعل عملي وفق رضاك لأنال مثوبتك.

(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي واجعل الصلاح ساريا في ذريتى، متمكنا من نفوسهم، راسخا في قلوبهم.

قال ابن عباس: أجاب الله دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه عليه، ودعا فقال: أصلح لي في ذريتى، فأجابه الله تعالى، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي وآمنوا به، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي إني تبت إليك من ذنوبى التي فرطت مني في أيامي الخوالي، وإني من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.

روى أبو داود في سننه « أن رسول الله كان يعلّمهم أن يقولوا في التشهد: اللهم ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجّنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، وأتمها علينا ».

ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة فقال:

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالح الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم في الدنيا لماما ولم تكن عادة لهم، بل جاءت بحافز من القوة الشهوانية، أو القوة الغضبية، فلا يعاقبهم عليها، وهم منتظمون في سلك أصحاب الجنة، داخلون في عدادهم.

ثم أكد الوعد السابق بقوله:

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله الوعد الحق الذي لا شك فيه، وأنه موفّ به.

وهذه الآية كما تنطبق على سعد بن أبي وقاص وعلى أبي بكر الصديق اللذين قيل في كل منهما إن الآية نزلت فيه تنطبق على كل مؤمن، فهو موصّى بوالديه، مأمور أن يشكر نعمة الله عليه وعلى والديه، وأن يعمل صالحا، وأن يسعى في إصلاح ذريته، ويدعو الله أن يوفقه لعمل أهل الجنة.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 17 الى 20]

والَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

تفسير المفردات

أفّ: صوت يصدر من الإنسان حين تضجره، أخرج: أي أبعث من القبر للحساب، خلت القرون من قبلي: أي مضت ولم يخرج منها أحد، يستغيثان الله: أي يقولان الغياث بالله منك، يقال استغاث الله واستغاث بالله، والمراد أنهما يستغيثان بالله من كفره، إنكارا واستعظاما له، حتى لجأ إلى الله في دفعه كما يقال العياذ بالله من كذا، ويلك: دعاء عليه بالثبور والهلاك، ويراد به الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن مرتكبه حقيق بأن يهلك، فإذا سمع ذلك ارعوى عن غيّه وترك ما هو فيه وأخذ بما ينجيه، أساطير الأولين: أي أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة، حق عليهم القول: أي وجب عليهم قوله لإبليس « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ »

من الخاسرين: أي الذين ضيعوا نظرهم الشبيه برءوس الأموال باتباعهم همزات الشياطين، والدرجات: المنازل واحدها درجة، وهي المنزلة، ويقال لها منزلة إذا اعتبرت صعودا، ودركة إذا اعتبرت حدورا، ومن ثم يقال درجات الجنة، ودركات النار، فالتعبير بالدرجات هنا على سبيل التغليب، طيباتكم: أي شبابكم وقوتكم يقولون ذهب أطيباه أي شبابه وقوته، الهون: أي الهوان والذل، تفسقون: أي تخرجون من طاعة الله.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه حال الداعين للوالدين، البررة بهما، ثم ذكر ما أعد لهما من الفوز والنجاة في الدار الآخرة - أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقّين للوالدين، المنكرين للبعث والحساب، المحتجين بأن القرون الخوالى لم تبعث، ثم رد الآباء عليهم بأن هذا اليوم حق لا شك فيه، ثم بإجابة الأبناء لهم بأن هذه أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم ذكر أن أمثال هؤلاء ممن حق عليهم القول بأن مصيرهم إلى النار.

ثم أردف هذا أن لكل من البررة والكفرة منازل عند ربهم كفاء ما قدموا من عمل وسيجزون عليها الجزاء الأوفى، ثم أخبر بأنه يقال للكفار حين عرضهم على النار: أنتم قد تمتعتم في الحياة الدنيا، واستكبرتم عن اتباع الحق، وتعاطيتم الفسوق والمعاصي، فجازاكم الله بالإهانة والخزي والآلام الموجبة للحسرات المتتابعة في دركات النار.

الإيضاح

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي؟) أي والذي قال لوالديه أن دعواه إلى الإيمان والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم ومجازاته إياهم بأعمالهم: أفّ لكما: إني لضجر منكما، أتقولان إني أبعث من قبرى حيا بعد موتى وفنائى، وما لحقنى من بلى وتفتت عظام؟ إن هذا لعجب عاجب فها هي ذي قرون مضت، وأمم قد خلت من قبلي كعاد وثمود ولم يبعث منهم أحد، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان لبعث من قبلي من القرون الغابرة ألا ترى إلى قول من قال:

ما جاءنا أحد يخبّر أنه في جنة لمّا مضى أو نار

وزعم مروان بن الحكم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد ردت عليه عائشة رضي الله عنها. أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال: إني لفى المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد رأى لأمير المؤمنين (يعنى معاوية) في يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر 1 إن أبا بكر رضي الله عنه ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست « الّذى قال لوالديه أفّ لكما » فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله أباك، فسمعت عائشة فقالت لمروان: أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا، كذبت والله ما فيه نزلت، نزلت في فلان بن فلان.

والحق أن الآية لم ترد في شخص معين، بل المراد كل شخص يقول أمثال هذه المقالة فيدعوه أبواه إلى الإيمان بالبعث وإلى الدين الصحيح فيأبى وينكر.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث، ويقولان له حثا وتحريضا: هلاكا لك، صدّق بوعد الله، وأنك مبعوث بعد وفاتك، إن وعد الله الذي وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه.

والخلاصة - إنهما يستعظمان قوله، ويلجآن إلى الله في دفعه، ويدعوان عليه بالويل والثبور، ليستحثاه على ترك ما هو فيه، ويشعراه بأن ما يرتكبه جدير بأن يهلك فاعله.

ثم ذكر ردّه عليهما مع الاستهزاء بهما والتعجيب من حالهما.

(فَيَقُولُ: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي فيقول مجيبا والديه، رادّا عليهما نصحهما، مكذبا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لي، وتدعوان إليه، إلا ما سطره الأولون من الأباطيل، فأصبتماه أنتما وصدقتما به، ولا ظلّ له من الحقيقة.

ثم ذكر سبحانه جزاء هؤلاء على ما قالوا واعتقدوا فقال:

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي هؤلاء الذين هذه أوصافهم هم الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلت عليهم عقوبته وسخطه، فيمن حل به العذاب من الأمم الذين قد مضوا من قبلهم من الجن والإنس ممن كذّبوا الرسل، وعتوا عن أمر ربهم.

وفي الآية إيماء إلى أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. قال أبو حيان في البحر: قال الحسن البصري في بعض مجالسه: الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بالآية فسكت.

وفيها ردّ أيضا على من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، لأنه رضي الله عنه أسلم وجبّ عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة، أما من حق عليه القول فهو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا.

ثم ذكر العلة في هذا العذاب المهين فقال:

(إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنهم ضيعوا فطرهم التي فطرهم الله عليها واتبعوا الشيطان، فغبنوا ببيعهم الهدى بالضلال، والنعيم بالعذاب.

ثم ذكر أن لكل من الفريقين الذين قالوا ربنا الله، والذي قال لوالديه مراتب متفاوتة فقال:

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ولكل من الأبرار والفجار من الإنس والجن مراتب عند الله يوم القيامة بحسب أعمالهم من خير أو شر في الدنيا، وليوفيهم أجور أعمالهم، المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، وهم لا يظلمون شيئا، فلا يعاقب المسيء إلا بعقوبة ذنبه، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن منهم ثواب إحسانه.

وبعد أن بين سبحانه أنه يعطى كل ذي حق حقه - بين الأهوال التي يلاقيها الكافرون فقال:

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي واذكر لقومك حال الذين كفروا حين يعذبون في النار، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: إن كل ما قدر لكم من اللذات والنعيم قد استوفيتموه في الدنيا ونلتموه ولم يبق لكم منه شيء، ولكن بقيت لكم الإهانة والخزي جزاء استكباركم وفسوقكم عن أمر ربكم وخروجكم من طاعته.

وفي هذا تحريض على التقلل من زخرف الدنيا وزينتها والأخذ بالتقشف فيها.

أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟ قال أريد أن أشترى به لأهلي لحما قرموا إليه، فقال: أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية: « أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها » وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء 2 وصنابا وصلائق ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال: « أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ».

وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان رضي الله عنه قال: « كان رسول الله إذا سافر كان آخر عهده من أهله بفاطمة، وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضي الله عنها، فقدم من غزاة فأتاها فإذا بمسح (بكسر فسكون، وهو ثوب من شعر غليظ) على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين (مثنى قلب بضم فسكون: السوار) من فضة فرجع ولم يدخل عليها، فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا، فقسمت ذلك بينهما، فانطلقا إلى رسول الله وهما يبكيان، فأخذ ذلك رسول الله منهما، وقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بنى فلان (أهل بيت بالمدينة) واشتر لفاطمة قلادة من عصب (بفتح فسكون خرز أبيض) وسوارين من عاج، فإن هؤلاء أهل بيتي: ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ».

وقد كان السلف الصالح يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لا أن التمتع بزخارف الدنيا مما يمتنع، بدليل قوله تعالى « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ».

نعم إن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت ذلك وألفته صعب عليها تركه والاكتفاء بما دونه، ولله درّ البوصيري إذ يقول:

والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: أن على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا (الطعام بلا أدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمده أصلا، ولا يجعله ديدنا له.

قصص هود عليه السلام مع قومه عاد

[سورة الأحقاف (46): الآيات 21 الى 28]

وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) ولَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصارًا وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

تفسير المفردات

أخا عاد: هو هود عليه السلام، والأحقاف: واحدها حقف (بالكسر والسكون) وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، سمى به واد بين عمّان ومهرة كانت تسكنه عاد، وكانوا أهل عمل، سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وهم من قبيلة إرم، والنذر: واحدهم نذير أي منذر، من بين يديه: أي من قبله، ومن خلفه: أي من بعده، لتأفكنا: أي لتصرفنا، عن آلهتنا: أي عن عبادتها، بما تعدنا: أي من معاجلة العذاب على الشرك: إنما العلم عند الله، أي العلم بوقت نزوله عند الله، والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء قال الأعشى:

يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه كأنما البرق في حافاته الشّعل

مستقبل أوديتهم: أي متجها إليها، تدمّر: أي تهلك، حاق: أي نزل، صرفنا: أي بيّنا ونوّعنا، الآيات: الحجج والعبر، فلو لا: أي فهلا، نصرهم: أي منعهم، قربانا: أي متقربا بها إلى الله، ضلوا عنهم: أي غابوا عنهم، إفكهم: أي أثر إفكهم وصرفهم عن الحق، وما كانوا يفترون أي وأثر افترائهم وكذبهم.

المعنى الجملي

بعد أن أورد سبحانه الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة التي أعرض عنها أهل مكة ولم يلتفتوا إليها ولم تجدهم فتيلا ولا قطميرا، لاستغراقهم في الدنيا واشتغالهم بطلبها - أردف هذا ذكر قصص عاد وما حدث منهم مع نبيهم هود عليه السلام وضرب لهم به المثل ليعتبروا فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا، ويقبلوا على طاعة الله، فقد كانوا أكثر منهم أموالا وأقوى منهم جندا، فسلط الله عليهم العذاب بسبب كفرهم، ولم يغن عنهم مالهم من الله شيئا.

الإيضاح

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك المكذبين ما جئتهم به من الحق - هودا أخا عاد، فقد كذبه قومه بالأحقاف حين أنذرهم بأس الله وشديد عذابه، وقد مضت رسل من قبله ومن بعده منذرة أممها ألا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه، بل أخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهة، وقد كانوا أهل أوثان يعبدونها من دون الله، فقال لهم ناصحا: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول « يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ».

وحين نصحهم بذلك أجابوه:

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، وإلى اتباعك فيما تقول؟ هلمّ فهات ما تعدنا به من العذاب على عبادة ما نعبد من الآلهة إن كنت صادقا في قولك وعدتك.

والخلاصة - أتزيلنا بضروب من الكذب عن آلهتنا وعبادتها؟ فأتنا بما تعدنا من معالجة العذاب على الشرك إن كنت صادقا في وعيدك، وقد استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادا منهم لوقوعه كما قال تعالى. « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ».

فردّ هود عليهم مقالهم:

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال: إنما العلم بوقت نزوله عند الله وحده لا عندي، فلا أستطيع تعجيله ولا أقدر عليه، ثم بين وظيفته فقال:

(وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، لا أن آتى بالعذاب، فليس ذلك من مقدورى، بل هو من مقدورات ربي.

ثم بين لهم أنهم جاهلون بوظيفة الرسل فقال:

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أي وإني لأعتقد فيكم الجهل، ومن ثم بقيتم مصرّين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم علي ما ليس من شأن الرسل، وهو الإتيان بالعذاب.

ثم ذكر مجىء العذاب إليهم وانتقامه منهم واستئصال شأفتهم فقال:

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوا سحابا يعرض في أفق السماء متجها إلى أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، ظنا منهم أن غيثا قد أتاهم وفيه حياتهم.

روي أنه قد حبس عنهم المطر أياما، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المعتّب، فلما رأوها تستقبل أوديتهم استبشروا بها خيرا.

ولما سمع هود مقالهم وشام العارض مليا قال:

(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب إذ قلتم « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ».

ثم فسر هذا العارض وبين حقيقته فقال:

(رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي بل هو ريح فيها عذاب يهلككم ويجعلكم كأمس الدابر.

ثم وصف هذه الريح فقال:

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شيء مرت به من نفوس عاد وأموالها بإذن ربها.

ونحو الآية قوله تعالى: « ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ » أي كالشيء البالي الخلق.

ثم ذكر مآل أمرهم بعدها فقال:

(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي فجاءتهم الريح فدمرتهم، فصاروا بعد الهلاك لا يرى إلا آثار مساكنهم، إذ قد اجتاحت الأموال، وأذهبت الأنفس، وجعلتها أثرا بعد عين.

روي عن ابن عباس: أن أول ما عرفوا أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلّقوا أبوابهم، فقلعتها الريح وصرعتهم: وأحال الله عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، ثم كشفت الريح عنهم الرمال فاحتملتهم فطرحتهم في البحر.

أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان رسول الله إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فإذا أخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّى عنه، فسألته فقال عليه السلام لا أدرى لعلّه كما قال قوم عاد (هذا عارض ممطرنا) ».

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: « ما رأيت رسول الله مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته 3 وإنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيما وريحا عرف ذلك في وجهه، قلت يا رسول الله: الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، قال: يا عائشة وما يؤمّننى أن يكون فيه عذاب، عذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ».

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي قال « نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور. »4

قال شاعرهم يحكى هذا القصص فيما رواه ابن الكلبي:

فدعا هود عليهم دعوة أضحوا همودا

عصفت ريح عليهم تركت عادا خمودا

سخّرت سبع ليال لم تدع في الأرض عودا

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جازينا عادا بكفرهم بالله ذلك العقاب في الدنيا، فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزى كل مجرم كافر بالله متماد في غيّه.

ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد.

ثم أخبر سبحانه عن قوة عاد بقوله:

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ولقد مكنا عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه، من الأموال الكثيرة، وبسطة الأجسام، وقوة الأبدان - وهم على ذلك ما نجوا من عقاب الله، فتدبروا أمركم، وفكروا فيما تعملون قبل أن يحل بكم العذاب، ولا تجدون منه مهربا.

ونحو الآية قوله « كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ ».

(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصارًا وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ) أي إنا فتحنا عليهم أبواب نعمنا، فأعطيناهم سمعا فما استعملوه في سماع الأدلة والحجج ليعتبروا ويتذكروا، وأعطيناهم أبصارا ليروا ما نصبناه من الشواهد الدالة على وجودنا فما انتفعوا بها، وأعطيناهم قلوبا تفقه حكمة الله في خلق الأكوان فما استفادوا منها ما يفيدهم في آخرتهم ويقرّبهم من جوار ربهم، بل صرفوها في طلب الدنيا ولذاتها، لا جرم لم ينفعهم ما أعطيناهم من السمع والأبصار والأفئدة، إذ لم يستعملوها فيما خلقت له من شكر من أنعم بها ودوام عبادته.

ثم بين العلة في عدم إغناء ذلك عنهم فقال:

(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي لأنهم كانوا يكذبون رسل الله، وينكرون معجزاتهم.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ونزل بهم ما سخروا به فاستعجلوه من العذاب.

وفي هذا تخويف لأهل مكة حتى يحذروا من عذاب الله، ويخافوا عقابه، فإنّ عادا لما اغتروا بدنياهم، وأعرضوا عن قول الحق - نزل بهم العذاب، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم شيئا - فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى.

ولما أخبر بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة، ليتعظ بهم من سمع أمرهم، أتبعه بذكر من كان مشاركا لهم في التكذيب، فأدركه سوء العذاب كما أدركهم فقال:

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) أي ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حول قريتكم من القرى المكذبة للرسل كعاد، وقد كانوا بالأحقاف بحضرموت، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وسبإ باليمن، ومدين، وكانت في طريقهم في رحلاتهم صيفا وشتاء، بعد أن أنذرناهم بالمثلات، فلم يغن ذلك عنهم شيئا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر.

(وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وبيّنا لهم دلائل قدرتنا، وبديع حججنا ليرجعوا عن غيّهم الذي استمسكوا به لمحض التقليد، أو لشبهة عرضت لهم، فحلّ بهم سوء العذاب ولم يجدوا لهم نصيرا ولا دافعا لعذاب الله، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي فهلا نصرهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتهم قربانا يتقربون به إلى ربهم فيما زعموا، حين جاءهم بأسه فأنقذوهم من عذابه إن كانوا يشفعون عنده، لكنهم غابوا عنهم ولم يفيدوهم شيئا.

وفي هذا تقريع لأهل مكة وتأنيب لهم على أنه لو كانت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تغنى عنهم شيئا، أو تنفعهم عنده - لأغنت عمن كان قبلهم من الأمم الذين أهلكوا بعبادتهم لها، فدفعت عنهم العذاب إذ نزل بهم، أو لشفعت لهم عند ربهم، لكنها أضرّتهم ولم تنفعهم، وغابت عنهم أحوج ما كانوا إليها، فما أحراهم أن يتنبهوا لما هم فيه من خطل الرأي وسوء التقدير للأمور.

(وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وامتناع نصرة آلهتهم لهم وصلالهم عنهم - أثر من آثار إفكهم الذي هو اتخاذهم إياهم آلهة، وثمرة افترائهم على الله الكذب.

استماع الجن للقرآن

[سورة الأحقاف (46): الآيات 29 الى 32]

وإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)

تفسير المفردات

صرفنا: أي وجهنا، والنفر: ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال، سموا بذلك لأنهم ينفرون إذا حزبهم أمر لكفايته، أنصتوا: أي اسكتوا، قضى: أي فرغ من تلاوته، ولّوا: أي رجعوا، منذرين: أي مخوّفين لهم عواقب الضلال. روى أن هؤلاء الجن كانوا من جنّ نصيبين من دياربكر قريبة من الشام، أو من نينوى بالموصل، وكان الاجتماع بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة، وقد أمر الرسول أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا منهم فاستمعوا منه، حتى إذا انقضى من تلاوته رجعوا إلى قومهم منذريهم عقاب الله إذا هم استمروا على الضلال. أجاره من كذا: أنقذه منه، وداعى الله: هو الرسول ، فليس بمعجز في الأرض: أي لا ينجو منه هارب، ولا يسبق قضاءه سابق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن في الإنس من آمن ومنهم من كفر - أعقب هذا ببيان أن الجن كذلك، فمنهم من آمن ومنهم من كفر وأن مؤمنهم معرّض للثواب، وكافرهم معرض للعقاب، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كما أرسل إلى الإنس أرسل إلى الجن.

واعلم أن عالم الملائكة وعالم الجن لا يقوم عليهما دليل من العقل فهما بمعزل عن ذلك، وإنما دليلهما السمع وإخبار الأنبياء بذلك فقط، فعلينا أن نؤمن بما جاء به فحسب ولا نزيد على ذلك شيئا، ولا نتوسع في بحثه وتأويله وتفصيله، فإن ذلك من عالم الغيب الذي لم نؤت من علمه كثيرا ولا قليلا، فعلينا أن نؤمن بأن اتصالا قد تمّ بين النبي وعالم الملائكة، وبه تلقّى الوحي على أيديهم، وأنه اتصل بعالم الجن، فعلّمهم وبشرهم وأنذرهم، لكنا لا ندري كيف كان الاتصال ولا كيف تلقّوا عنه القرآن، ولعل تقدم العلوم في مستأنف الأيام يلقى علينا ضواءا من هذه المعرفة، أو لعل قراءة علم الروح والتوسع في دراسته ينير لنا بعض السر في ذلك ففي هذه الدراسة معرفة شيء من أحوالنا في الحياة الأخرى بعد هذه الحياة وسيأتي تفصيل لهذا القصص في سورة الجن.

الإيضاح

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أيواذكر أيها الرسول لقومك موبخا لهم على كفرهم بما آمنت به الجن، لعلهم يتنبهون لجهلهم، ويرعوون عن غيّهم وقبح ما هم فيه من كفر بالقرآن وإعراض عنه، مع أنهم أهل اللسان الذي به نزل، ومن جنس الرسول الذي جاء به، وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عند الله وآمنوا به، وليسوا من أهل لسانه، ولا من جنس رسوله - في ذلك الوقت الذي وجه الله إليه جماعة من الجن، ليستمعوا القرآن ويتعظوا بما فيه من عبر وعظات، فلما حضروا الرسول قال بعضهم لبعض: أنصتوا مستمعين، فلما فرغ من تلاوته رجعوا إلى قومهم لينذروهم بأس الله وشديد عذابه.

وذكر الوقت ذكر لما فيه من الأحداث التي يراد إخبار السامع بها، لما لها من خطر جليل وشأن عظيم، فيراد علمه بها ليكون لها في نفسه الأثر الذي يقصد منها من ترغيب أو ترهيب، ومسرة أو حزن إلى نحو أولئك من أغراض الكلام ومقاصده.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي بالجن ليلة استمعوا القرآن، قال آذنته بهم الشجرة.

وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله منكم أحد ليلة الجن؟ قال ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل. استطير. ما فعل؟ قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجىء من قبل حراء فأخبرناه فقال: إنه أتاني داعي الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.

وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله مرة بعد مرة، وأخذت عنه الشرائع والأحكام الدينية.

ثم فصل ما قالوه لهم في إنذارهم.

(قالُوا: يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قالوا لهم يا قومنا من الجن: إنا سمعنا كتابا أنزله الله من بعد توراة موسى، يصدّق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله، ويرشد إلى سبيل الحق، وإلى ما فيه لله رضا، وإلى الطريق الذي لا عوج فيه.

وخصوا التوراة بالذكر لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين. وقال عطاء لأنهم كانوا على اليهودية، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله، وصدقوه فيما جاء به من أمر الله ونهيه - يغفر لكم بعض ذنوبكم ويسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته لكم عليها، وينقذكم من عذاب موجع، إذا أنتم تبتم من ذنوبكم وأنبتم إلى ربكم، وأخلصتم له العبادة.

وفي الآية إيماء إلى أن حكم الجن حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي.

ثم حذروا قومهم وتوعدوهم وأوجبوا إجابتهم داعي الله بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب فقالوا:

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي ومن لا يجب رسول الله محمدا إلى مادعا إليه من التوحيد والعمل بطاعته، فلا يفوت ربه ولا يسبقه هربا إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه، ولا يجد له نصراء ينصرونه ويدفعون عنه عذابه.

ثم بيّن أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية في الضلال، والبعد عن الصراط السوي فقال:

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وأولئك الذين يفعلون ذلك يكونون في ضلال بيّن، وجور عن قصد السبيل، لأن طريق الحق واضحة وأعلامه منصوبة، والوصول إليه ميسور، فمن جانفه وأعرض عنه فقد أجرم واستحق الجزاء الذي هو له أهل.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 33 الى 35]

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

تفسير المفردات

لم يعى: أي لم يعجز، قال الكسائي: يقال أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز، قال عبيد بن الأبرص:

عيّوا بأمرهم كما عيّت ببيضتها الحمامة

أولو العزم: أي ذوو الحزم والصبر، قال مجاهد: هم خمسة نظمهم الشاعر في قوله:

أولو العزم نوح والخليل الممجّد وموسى وعيسى والحبيب محمد

بلاغ: أي كفاية في الموعظة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر في أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم، وأبطل قول عبدة الأصنام، ثم ثنى بإثبات النبوة وذكر شبهاتهم في الطعن فيها وأجاب عنها - أردف ذلك إثبات البعث وأقام الدليل عليه، فذكر أن من خلق السموات والأرض على عظمهن فهو قادر على أن يحيى الموتى، ثم أعقب هذا بما يجرى مجرى العظة والنصيحة لرسوله بالصبر على أذى قومه كما صبر من قبله أولو العزم من الرسل، وبعدم استعجال العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وحين نزوله بهم سيستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار لهول ما عاينوا، ثم ختم السورة بأن في هذه العظات كفاية أيّما كفاية، وما يهلك إلا من خرج عن طاعة ربه، ولم ينقد لأمره ونهيه.

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الخلق بعد وفاتهم، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلاهم، فيعلموا أن الذي خلق السموات والسبع والأرض فابتدعهن من غير شيء، ولم يعى في إنشائهن - بقادر على أن يحيى الموتى فيخرجهم من بعد بلاهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم؟.

ونحو الآية قوله عز وجل: « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ».

والخلاصة - إن من قال للسموات والأرض كونى فكانت لا ممانعة ولا مخالفة، طائعة خائفة وجلة - أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى؟

ثم أجاب عن ذلك مقرّرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود فقال:

(بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي بلى إن الذي خلق ذلك - ذو قدرة على كل شيء أراد خلقه، ولا يعجزه شيء أراد فعله.

وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال لوضوح الجواب إذ لا يختلف فيه أحد، ولا يعارض فيه ذو لبّ.

ولما أثبت البعث بما أقام من الأدلة ذكر ما يحدث حينئذ من الأهوال فقال:

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي ويوم يعرض هؤلاء المكذبون بالبعث وبثواب الله لعباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة - على نار جهنم يقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم وقد كنتم تكذبون به في الدنيا - بالحق الذي لا شك فيه؟

قالوا من فورهم: بلى وربنا إنه لحق.

(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي قال آمرا لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار الآن جزاء جحودكم به في الدنيا، وإبائكم الاعتراف به إذا دعيتم للتصديق به.

ولما قرر التوحيد والنبوة والبعث وأجاب عن شبهاتهم - أردف ذلك ما يجرى مجرى العظة والنصيحة لنبيّه، لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوغرون صدره فقال:

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي فاصبر أيها الرسول على ما أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم منذرا، كما صبر أولو العزم من الرسل على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته.

والخلاصة - اصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك.

وعن عائشة قالت: ظلّ رسول الله صائما ثم طوى، ثم ظلّ صائما ثم طوى، ثم ظل صائما قال يا عائشة: « إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفنى ما كلفهم فقال: « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله » أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي.

ولما أمره بالصبر، وهو أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة وهي أخسّ الرذائل فقال:

(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي ولا تعجل بمسألة ربك العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة.

ونحو الآية قوله تعالى: « وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا » وقوله: « فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ».

ثم أخبر بأن العذاب إذا نزل بالكافرين استقصروا مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال:

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي كأنهم حين يرون عذاب الله الذي أوعدهم بأنه نازل بهم - لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار - لأن شدة ما ينزل بهم منه ينسيهم قدر ما مكثوا في الدنيا من السنين والأعوام، فيظنونها ساعة من نهار.

ونحو الآية قوله: « كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟. قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ » وقوله: « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ».

(بلاغ) أي هذا القرآن بلاغ لهم، وكفاية إن فكروا واعتبروا، ودليله قوله تعالى: « هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ » وقوله: « إِنَّ فِي هذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ ».

ثم أوعد وأنذر فقال:

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟) أي وما يهلك بالعذاب إلا الخارجون عن طاعة الله، المخالفون لأمره ونهيه إذ لا يعذب إلا من يستحق العذاب.

قال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مشرك، وهذه الآية أقوى آية في الرجاء ومن ثم قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، وهذا تطميع في سعة فضل الله سبحانه وتعالى.

أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس أن النبي كان يدعو: « اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين ».

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة

(1) إقامة الأدلة على التوحيد والرد على عبدة الأصنام والأوثان.

(2) المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة والإجابة عنها وبيان فسادها.

(3) ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحدوا الله وصدقوا أنبياءه، وبيان أن جزاءهم الجنة.

(4) ذكر وصايا للمؤمنين من إكرام الوالدين وعمل ما يرضى الله.

(5) بيان حال من انهمكوا في الدنيا ولذاتها.

(6) قصص عاد، وفيه بيان أن صرف النعم في غير وجهها يورث الهلاك.

(7) استماع الجن للرسول وتبليغهم قومهم ما سمعوه.

(8) عظة للنبي والمؤمنين من أمته.

(9) بيان أن القرآن فيه البلاغ والكفاية في الإنذار.

(10) من عدل الله ورحمته ألا يعذب إلا من خرج من طاعته ولم يعمل بأمره ونهيه.

سورة محمد

وتسمى سورة القتال هي مدنية إلا آية 13 فقد نزلت في الطريق أثناء الهجرة.

وآيها ثمان وثلاثون آية. نزلت بعد الحديد.

ولا تخفى قوة ارتباطها بما قبلها، فإن أولها متلاحم بآخر السورة السابقة، حتى لو أسقطت البسملة من البين لكان الكلام متصلا بسابقه لا تنافر فيه، ولكان بعضه آخذا بحجز بعض.

أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي كان يقرؤها في صلاة المغرب.

[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 3]

بسم الله الرحمن الرحيم

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)

تفسير المفردات

صدوا عن سبيل الله: أي صرفوا الناس عن الدخول في الإسلام، وذلك يستلزم أنهم منعوا أنفسهم عن الدخول فيه، أضل أعمالهم: أي أبطلها، وهو الحق من ربهم: أي وهو الحق الثابت الذي لا مرية فيه، بالهم: أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق لصالح الأعمال، وأصل البال: الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال ما باليت به: أي ما اكترثت به، ومنه قوله « كل أمر ذي بال » الحديث. يضرب الله للناس أمثالهم: أي يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه في معادهم.

المعنى الجملي

قسم سبحانه الناس فريقين: أهل الكفر الذين صدوا الناس عن سبيل الله، وهؤلاء يبطل أعمالهم سواء كانت حسنة كصلة الأرحام وإطعام الطعام، أو سيئة كالكيد لرسول الله والصدّ عن سبيل الله، فالأولى يبطل ثوابها، والثانية يمحو أثرها، وهكذا كل من قاوم عملا شريفا فإن مآله الخذلان.

وأهل الإيمان بالله ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم، وأولئك يغفر الله لهم سيئات أعمالهم ويوفقهم في الدين والدنيا، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها.

ثم علل ما سلف بأن أعمال الفريقين جرت على ما سنه الله في الخليقة: بأن الحق منصور، وأن الباطل مخذول سواء كان في أمور الدين أم في أمور الدنيا، فالصناعات المحكمة إنما يقبل الناس عليها ويؤثرونها، لأنها جارية على الطريق القويم والنسق الحق، وهكذا الشأن في المزروعات والمصنوعات المتقنة الجيدة، والسياسات الحكيمة.

والصناعات المرذولة والسلع المزجاة لن يكون حظها إلا الكساد والبوار، لأن الباطل لا ثبات له، والحق هو الثابت، والله هو الحق فينصر الحق، والعلم الصحيح والدين الصحيح والصناعات الجيدة والآراء الصادقة نتائجها السعادة، وضدها عاقبته الشقاء والبوار.

وقصارى ذلك - إن الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق وعلى قوانين ثابتة منظمة، فكل ما قرب من الحق كان باقيا، وكل ما ابتعد عنه كان هالكا، فرجال الجدّ والنشاط مؤيدون، ورجال الكسل والتواكل مخذولون، والمحققون في كل شيء محبوبون منصورون.

الإيضاح

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي الذين جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره، وصدوا من أراد عبادته والإقرار بوحدانيته وتصديق نبيّه عما أراد - جعل الله أعمالهم تسير على غير هدى، لأنها عملت في سبيل الشيطان لا في سبيل الرحمن، وما عمل للشيطان فمآله الخسران.

فما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق: من صلة الأرحام وفك الأسارى وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام وإجارة المستجير وقرى الأضياف ونحو ذلك - حكم الله ببطلانه، فلا يرون له في الآخرة ثوابا، ويجزون به في الدنيا من فضله تعالى.

ونحو الآية قوله: « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا ».

قال ابن عباس: نزلت الآية في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبي، وأمية ابنا خلف، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل.

ولما ذكر سبحانه جزاء أهل الكفر، أتبعهم بثواب أهل الإيمان فقال:

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي والذين صدقوا الله، وعملوا بطاعته، واتبعوا أمره ونهيه، وصدقوا بالكتاب الذي نزل على محمد، هو الحق من ربهم - محا الله بفعلهم سيىء ما عملوا فلم يؤاخذهم به، وأصلح شأنهم في الدنيا بتوفيقهم لسبل السعادة، وأصلح شأنهم في الآخرة بأن يورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جناته.

قال ابن عباس نزلت الآية في الأنصار.

ثم بين سبب الإضلال، وإصلاح البال فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وإنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شئونهم، لأن الذين كفروا اختاروا الباطل على الحق بما وسوس إليهم به الشيطان، ولأن الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم، فأنار بصائرهم وهداهم إلى سبل الرشاد.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي كما بينت لكم فعلى بفريقى الكفار والمؤمنين. كذلك نمثل للناس الأمثال، ونشبّه لهم الأشباه، فنلحق بالأشياء أمثالها وأشكالها.

والخلاصة - إنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار، وإضلال أعمالهم مثلا لخيبتهم، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، وتكفير سيئاتهم مثلا لفوزهم، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال كما ضرب المثل بالنخل والحنظل في سورة أخرى.

[سورة محمد (47): الآيات 4 الى 9]

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)

تفسير المفردات

لقيتم من اللقاء: وهو الحرب، فضرب الرقاب: أي فالقتل، وعبر به عنه تصويرا له بأشنع صورة وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجه أعضائه ومجمع حواسه، وبقاء البدن ملقى على هيئة مستبشعة، وفى ذلك من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، وأثخنتموهم: أي أكثرتم القتل فيهم، فشدّوا الوثاق: أي فأسروهم، والوثاق: (بالفتح والكسر): ما يوثق به، منّا: أي إطلاقا من الأسر بالمجّان، فداء: أي إطلاقا في مقابلة مال أو غيره، والأوزار في الأصل: الأحمال ويراد بها آلات الحرب وأثقالها من السلاح والكراع، قال الأعشى:

وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا

ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيرا فعيرا

انتصر: أي انتقم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق، ليبلو: أي ليختبر، يضلّ: أي يضيع، بالهم. أي شأنهم وحالهم، عرّفها. أي بينها وأعلمها، إن تنصروا الله: أي تنصروا دينه، يثبت أقدامكم: أي يوفقكم للدوام على طاعته، فتعسا لهم، من قولهم: تعس (بفتح العين) الرجل تعسا: أي سقط على وجهه، وضده انتعش: أي قام من سقوطه، ويقال تعسا ونكسا (بضم النون): أي سقوطا على الوجه وسقوطا على الرأس، أحبط أعمالهم: أي أبطلها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس فريقان: أحدهما متبع للباطل، وهو حزب الشيطان، وثانيهما متبع للحق، وهو حزب الرحمن - ذكر هنا وجوب قتال الفريق الأول حتى يفىء إلى أمر الله، ويرجع عن غيّه، وتخضد شوكته.

الإيضاح

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي فإذا واجهتم المشركين في القتال فاحصدوهم حصدا بالسيوف حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقابهم وصاروا في أيديكم أسرى فشدوهم في الوثاق، كى لا يقاتلوكم أو يهربوا منكم، ثم أنتم بعد إنهاء الحرب وانتهاء المعارك - بالخيار في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتموهم بلا عوض من مال أو غيره، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه - حتى لا يكون حرب مع المشركين ولا قتال، بزوال شوكتهم.

ونحو الآية قوله تعالى: « وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ».

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وكان عليه عمل رسول الله والخلفاء من بعده.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « بعث النبي خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بنى حنيفة، يقال له ثمامة ابن أثال، فربطوه في سارية من سوارى المسجد، فخرج إليه رسول الله ، فقال ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير، إن تقتلنى تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له : ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلي وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال لا ولكن أسامت مع محمد .

وعن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله رجلا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي ففداه رسول الله بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.

واعلم أن للحرب فوائد، وللسلم أخرى، فالأمم في حال الطفولة عقولها أشبه بعقول الشاب المراهق الذي لم يبلغ الحلم، تراه يقاتل الصبيان ويشاجرهم ويوقع الأذى بهم وهم يزيدون في أذاه، وينكلون به، وهذه هي حال الأمم اليوم.

ألا إن الحرب تقوي الأبدان، وترقى الصناعات، وتجعل الأمم تنمو، وتوقظ الشعور، وتفتح المغلق، وتيسر العسير، قال أرسطو للاسكندر: إن الراحة مضرة للأمم، ومن ثم قيل: إذا أردت رقي أمة فاجعلها تخوض الحروب فذلك يفتح لها باب السعادة والأمم النائمة على فراش الراحة الوثير معرّضة للزوال فإذا كملت أخلاق الأمم ومواهبها، فإن نتائج السلم عندها ستكون كنتائج الحرب لدى من قبلها، فكما يفرح الرجل في الأمم الحاضرة بغلبة الأعداء وشفاء الغليل وجمع الرجال والسلاح والكراع، فسيكون فرح الأمم فيما بعد بمساعدة غيرها وانشراح صدورها بظهور أمم أخرى تكافح معها في ميدان الحياة، ويكون كل فرد في الأمم المقبلة أشبه بالأب يكدح لمساعدة أبنائه، وهذا الكدح والجد في العمل لفائدة الجميع بحد فيه العامل لذة وفرحا أشد من فرح المنتصر في ميادين القتال.

وإن الأمم لا تزال في الطور الأول، فهي تسعى لإسعاد نفسها بإهلاك سواها، وسيأتي حين تسعى فيه لإسعاد الجميع، ويكون فرحها بهذا المسعى أشد من فرحها بهزيمة الأعداء ويكون الناس جميعا بعضهم لبعض كالآباء والأبناء.

وإلى حال الكمال أشار سبحانه بقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وإلى حال النقص أشار سبحانه بقوله:

(ذلِكَ) أي هذا الذي أمرتكم به من قتل المشركين إن لقيتموهم في حرب، وشدّ وثاقهم في أسرهم، والمنّ والفداء حتى تضع الحرب أوزارها - هو الحق الذي أمركم به ربكم، وهو السنة التي جرى عليها لإصلاح حال عباده، وهي التي ستبقى السنة الطبيعية بين الأمم ما دامت في طور طفولتها، حتى يتم نضجها العقلي والخلقي فتضع الحرب أوزارها، إذ لا يكون هناك حاجة إليها، لأن العالم كله يكون كأسرة واحدة، سعادته بسعادة أفراده جميعا، وشقاؤه بشقائهم.

ثم بين أن هذه هي السنة التي أرادها الله من حرب المشركين، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، فقال:

(وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولو يشاء ربكم لانتصر من هؤلاء المشركين بعقوبة عاجلة، وكفاكم أمرهم، ولكنه أراد أن يبلو بعضكم ببعض فيختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء، ويتعظ منهم من شاء بمن أهلك بأيديكم حتى ينيب إلى الحق.

وفي الجهاد تقوية لأبدانكم، ورقي لعقولكم، ونفاذ لكلمتكم، وجمع لشملكم بما ترون من اتحاد عدوكم، وبه ترقى الزراعة والتجارة والصناعة وجميع العلوم إذ لا يتم حرب ولا غلبة إلا بها، وهكذا ترتقى حال الأعداء، فيتسع العمران، وتعم المدنية، ويرقى النوع الإنساني، ولا يعيش في هذا الوسط الصاحب إلا الصالح للبقاء والضعيف من الطرفين هالك، وهذه هي سنة الله في الكون.

ثم ذكر جزاء المجاهدين في سبيل الله فقال:

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين جاهدوا أعداء الله في دين الله وفى نصرة ما بعث الله به رسوله من الهدى، فلن يجعل أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضائعة سدى كما أذهب أعمال الكافرين وجعلها عديمة الجدوى.

روى أحمد أن رسول الله قال: « يعطى الشهيد ستّ خصال.

عند أول قطرة من دمه تكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلّى حلة الإيمان ».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: « ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، ورسول الله في الشّعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ. وقال المشركون: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي : قولوا لاسواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون، فقال المشركون: إن لنا العزى ولا عزّى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم ».

ثم فسر ما سلف بقوله:

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي سيوفقهم الله للعمل بما يرضيه ويحبه، ويصونهم مما يورث الضلال، ويصلح شأنهم في العقبى، ويتقبل أعمالهم، ويجعل لكل منهم مقرّا في الجنة لا يضل في طلبه.

لا جرم أن لكل امرئ في الحياة عملا يستوجب حالا في الآخرة لا يتعداها، كما يحصل كل من نال إجازة في علم أو صناعة على عمل يشاكل إجازته في قوانين الدولة.

والناس في الآخرة أشبه بأنواع السمك في البحر الملح وأنواع الطير في جوّ السماء لكل منها جوّ لاتتعداه، هكذا لكل من الصالحين درجة في الآخرة لا يتعداها، بل يجد نفسه مقهورا على البقاء فيها كما أن السمك منه ما هو قريب من سطح الماء، ومنه ما يوجد تحت سطح الماء بمئات الأمتار وآلافها، وإلى ذلك يشير قوله تعالى « وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ».

أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها.

وفي الخبر: « لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا ».

ثم وعدهم سبحانه بنصرهم على أعدائهم إذا نصروا دينه بقوله:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي إن تنصروا دين الله ينصركم على عدوكم، ويثبت أقدامكم في القيام بحقوق الإسلام ومجاهدة الكفار، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين هي السفلى.

وبعد أن ذكر جزاء المجاهدين أعقبه بجزاء الكافرين فقال:

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين كفروا بالله وجحدوا توحيده فخزيا لهم وشقاء، وأبطل الله أعمالهم وجعلها على غير هدى واستقامة، لأنها عملت للشيطان، لا طاعة للرحمن.

ثم بين سبب ذلك الإضلال فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الذي فعلنا بهم من التعس وإضلال الأعمال، من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه على نبينا محمد فكذبوا به وقالوا هو سحر مبين، فمن ثم أحبط أعمالهم التي عملوها في الدنيا وأصلاهم سعيرا.

وقصارى ذلك - إن كل ما عملوه في الدنيا من صالح الأعمال فهو باطل، لعدم الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال.

[سورة محمد (47): الآيات 10 الى 14]

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)

المعنى الجملي

بعد أن نعى سبحانه على الكافرين مغبّة أعمالهم، وأن النار مثوى لهم - أردف هذا أمرهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة ورؤية آثارهم، لما للمشاهدات الحسية من آثار في النفوس، ونتائج لدى ذوي العقول، إذا تدبروها واعتبروا بها.

الإيضاح

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أفلم يسر هؤلاء المكذّبون بمحمد ، المنكرون ما أنزلنا عليه من الكتاب - في الأرض فيروا نقمة الله التي أحلها بالأمم الغابرة، والقرون الخالية، حين كذبوا رسلهم كعاد وثمود، ويتعظوا بذلك، ويحذروا أن نفعل بهم كما فعلنا بمن قبلهم.

ثم ذكر ما فعله بهم فقال:

(دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يقال دمّره: أهلكه، ودمّر عليه: أهلك ما يختص به، أي أهلك ما يختص بهم من الأهل والولد والمال، أفلا يعتبر هؤلاء بما حل بمن قبلهم فيعلموا أن ما حاق بهم من سوء المنقلب - لا بد أن يحل بهم مثله بحسب ما وضعه سبحانه من السنن في الأمم المكذبة لرسلها، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:

(وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي ولهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أمثال هذه العاقبة التي ترون آثارها.

ثم بيّن السبب في حلول أمثال هذه العاقبة بهم فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي هذا الذي فعله بهم من التدمير والهلاك، ونصر المؤمنين وإظهارهم عليهم بسبب أن الله ولي من آمن به وأطاع رسوله، وأن الكافرين لا ناضر لهم، فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب.

ونفى المولى عنهم هنا لا يخالف إثباته في قوله: « ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ » لأن المراد به هناك المالك لأمورهم، المتصرف في شئونهم.

قال قتادة: نزلت يوم أحد والنبي في الشّعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النبي « قولوا الله مولانا ولا مولى لكم »

وقد تقدم هذا برواية أخرى.

وبعد أن بين حالى المؤمنين والكافرين في الدنيا، بيّن حاليهم في الآخرة فقال:

(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله ذا الجلال والكمال يدخل يوم القيامة من آمنوا به وصدقوا رسوله وعملوا صالح الأعمال - بساتين تجرى من تحت قصورها الأنهار كرامة لهم على إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي والذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسوله يتمتعون في هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية، ويأكلون فيها غير مفكرين في عواقبهم ومنتهى أمورهم، ولا معتبرين بما نصب الله لخلقه في الآفاق والأنفس من الحجج المؤدية إلى معرفة توحيده وصدق رسوله، فمثلهم مثل البهائم تأكل في معالفها ومسارحها، وهي غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، فكذلك هؤلاء يأكلون ويتلذذون وهم ساهون لاهون عن عذاب السعير.

(وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي ونار جهنم مسكن ومأوى لهم يصيرون إليها بعد مماتهم والخلاصة - إن المؤمنين عرفوا أن نعيم الدنيا ظل زائل فتركوا الشهوات، وتفرغوا للصالحات، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم، وإن الكافرين غفلوا عن ذلك فرتعوا في الدّمن كالبهائم حتى ساقهم الخذلان، إلى مقرهم من درك النيران، أعاذنا الله منها.

وبعد أن ضرب لهم المثل بقوله: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » ولم يعتبروا به وذكر لهم ما تقدم من الأدلة على وحدانيته - ضرب المثل لنبيّه تسلية له على ما يلاقي من عنت قومه وجحودهم فقال:

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي وكثير من الأمم التي كان أهلها أشد بأسا وأكثر جمعا، وأعدّ عديدا من أهل مكة الذين أخرجوك - أهلكناهم بأنواع العذاب ولم يجدوا ناصرا ولا معينا يدفع عنهم بأسنا وعذابنا، فاصبر كما صبر قبلك أولو العزم من الرسل، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات، فالله مظهرك عليهم، ومهلكهم كما أهلك من قبلهم إن لم ينيبوا إلى ربهم، ويثوبوا إلى رشدهم.

وغير خاف ما في هذا من التهديد الشديد، والوعيد الأكيد لأهل مكة.

أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس « أنّ النبي لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: أنت أحبّ بلاد الله إلي، وأنت أحب بلاد الله إلي. ولو لا أن أهلك أخرجونى لم أخرج منك، وأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول (ثارات) الجاهلية فأنزل الله سبحانه على نبيّه (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) » الآية.

ثم ذكر الفارق بين حالى المؤمنين والكافرين والسبب في كون هؤلاء في أعلى عليين وأولئك في أسفل سافلين، فقال:

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟) أي أفمن كان على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه بما أنزله في كتابه من الهدى والعلم، وبما فطره الله عليه من الفطرة السليمة، فهو على علم بأن له ربّا يجازيه على طاعته إياه بالجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه بالنار - كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله، وأراه إياه جميلا فهو على العمل به مقيم، وعلى السير على نهجه دائب، واتبع هواه وجمحت به شهواته فطفق يعدو في المعاصي، ويخبّ فيها ويضع، غير ملتفت إلى واعظ أو زاجر؟

والخلاصة - أيستوى الفريقان: من كان ثابتا على حجة بينة من عند ربه وهي كتابه الذي أنزله على رسوله وسائر الحجج التي أقامها في الآفاق والأنفس. ومن زين له الشيطان سيىء أعماله من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك، واتباع هواه من غير أن يكون له شبهة يركن إليها تعاضد ما يدعيه، وتطمئن إليها نفسه في الدفاع عما يدين به؟ كلا، هما لا يستويان.

ونحو الآية قوله: « أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى » وقوله: « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ».

[سورة محمد (47): آية 15]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)

تفسير المفردات

مثل الجنة: أي صفتها، آسن: أي متغير الطعم والريح لطول مكثه، وفعله أسن (بالفتح من بابى ضرب ونصر، وبالكسر من باب علم) لذة تأنيث لذّ، وهو اللذيذ، مصفى: أي لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل ولم يمت فيه بعض نحله كعسل الدنيا، حميما: أي حارّا، والأمعاء: واحدها معى (بالفتح والكسر) وهو ما في البطون من الحوايا.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الفارق بين الفريقين في الاهتداء والضلال - ذكر الفارق بينهما في مرجعهما ومآلهما، فذكر ما للأولين من النعيم المقيم واللذات التي لا يدركها الإحصاء، وما للآخرين من العذاب اللازب في النار وشرب الماء الحارّ الذي يقطّع الأمعاء.

الإيضاح

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفة الجنة التي وعدها الله من اتقى عقابه، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه - ما ستسمعونه بعد.

ثم فسر هذه الصفة بقوله:

(1) (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي فيها أنهار جارية من مياه غير متغيرة الطعم والريح، لطول مكثها وركودها.

(2) (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حازرا كألبان الدنيا، وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم.

(3) (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي وفيها أنهار من خمر لذيذة لهم، إذ لم تدنسها الأرجل، ولم ترنّقها (تكدرها) الأيدي كخمر الدنيا، وليس فيها كراهة طعم وريح، ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا، فلا يتكرّهها الشاربون.

(4) (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي وفيها أنهار من عسل قد صفّى من القذى وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية من الشمع وفضالات النحل وغيرها.

وبدىء بالماء لأنه لا يستغنى عنه في الدنيا، ثم باللبن لأنه يجرى مجرى المطعوم لكثير من العرب في غالب أوقاتهم، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والشبع تشوفت النفس لما يستلذ به، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم.

أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن معاوية ابن حيدة قال: سمعت رسول الله يقول: « في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار منها بعد ».

(5) (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ولهم فيها أنواع من الثمار المختلفة الطعوم والروائح والأشكال.

(6) (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فهو يرضى عنهم بما أسلفوا من عمل، ويتجاوز عن هفواتهم التي اقترفوها في الدنيا.

وبعد أن ذكر ما وعد به المتقين من النعيم - ذكر ما أوعد به الكافرين من العذاب الأليم فقال:

(1) (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي أم من هو خالد في الجنة بحسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به الكتاب في قوله: « وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ » أي ليس هؤلاء كأولئك فليس من هو في الدرجات العلى، كمن هو في الدركات السفلى.

(2) (وَسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي وسقوا ماء حارّا لايستساغ، وإذا دنوا منه شوى وجوههم وقطّع أمعاءهم.

[سورة محمد (47): الآيات 16 الى 19]

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفًا أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)

تفسير المفردات

آنفا: أي قبيل هذا الوقت، مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه، وأصل ذلك الأنف بمعنى الجارحة ثم سمى به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه، آتاهم: أي ألهمهم، بغتة: أي فجأة، والأشراط: العلامات، واحدها شرط (بالسكون والفتح) ومنه أشراط الساعة، قال أبو الأسود الدؤلي:

فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا فقد جعلت أشراط أوله تبد

وفإني لهم: أي كيف لهم، ذكراهم: أي تذكرهم، متقلبكم: أي تقلبكم لأشغالكم في الدنيا، ومثواكم: أي مأواكم في الجنة أو النار.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال المشركين وبين سوء مغبتهم - أردف هذا بيان أحوال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله فيسمعون كلامه ولا يعونه تهاونا واستهزاء به، حتى إذا خرجوا من عنده قالوا للواعين من الصحابة: ما ذا قال قبل افتراقنا وخروجنا من عنده؟ - وهؤلاء قد طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم، ومن ثم تشاغلوا عن سماع كلامه وأقبلوا على جمع حطام الدنيا، ثم أعقبه بذكر حال من اهتدوا، وألهمهم ربهم ما يتقون به النار، ثم عنّف أولئك المكذبين وذكر أن عليهم أن يرعووا قبل أن تجىء الساعة التي بدت علاماتها بمبعث محمد والذكرى لا تنفع حينئذ، ثم أمر رسوله بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، والله هو العليم بمتصرفكم في الدنيا ومصيركم إلى الجنة أو إلى النار في الآخرة.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفًا؟) أي ومن الناس منافقون يستمعون فلا يعون ما تقول، ولا يفهمون ما تتلو عليهم من كتاب ربك، تغافلا عما تدعو إليه من الإيمان، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا لمن حضر مجلسك من أهل العلم بكتاب الله: ماذا قال محمد قبل أن نفارق مجلسه؟ وما مقصدهم من ذلك إلا السخرية والاستهزاء بما يقول، وأنه مما لا ينبغي أن يؤبه به، أو يلقى لمثله سمع.

روى مقاتل أن النبي كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله ابن مسعود، استهزاء: ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.

ثم بين سبب استهزائهم وتهاونهم بما سمعوا فقال:

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي هؤلاء الذين هذه صفتهم - هم الذين ختم الله على قلوبهم، فلا يهتدون للحق الذي بعث الله به رسوله ، واتبعوا شهواتهم وما دعتهم إليه أنفسهم، فلا يرجعون إلى حجة ولا برهان.

ثم ذكر سبحانه أضداد هؤلاء بقوله:

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ) أي والذين اهتدوا بالإيمان واستماع القرآن زادهم الله بصيرة وعلما وشرح صدورهم وألهمهم رشدهم وأعانهم على تقواه.

ثم بيّن أنهم في غفلة عن النظر والتأمل في عاقبة أمرهم فقال:

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي إنه بعد أن قامت الأدلة على وحدانية الله وصدق نبوّة رسوله وأن البعث حق، وأن الله يهلك من كذب رسله ويحل بهم الوبال والنكال كما شاهدوا ذلك فيمن حولهم من الأمم التي أهلكها الله لتكذيبها رسلها، ولم يبق منها إلا آثارها، ولم يفدهم كل ذلك شيئا ولم يتعظوا ولم يؤمنوا - فماذا ينتظرون للعظة والاعتبار؟ لا ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة إذ جاءت علامتها، ولم يبق من الأمور الموجبة للتذكر والعظة للإيمان بالله سوى ذلك.

والخلاصة - إن البراهين قد نصبت، والأدلة قد وضحت على وجوب الإيمان بالله، وصدق رسوله، والبعث والنشور، وهم لم يؤمنوا - فلا يتوقع منهم إيمان بعدئذ إلا حين مجىء الساعة بغتة، وهاهى ذي أشراطها قد ظهرت، ومقدماتها قد بدأت، ولم يأبهوا بها، ولا فكروا في أمرها، والمراد بيان أنهم بلغوا الغاية في العناد، والنهاية في الاستكبار.

ثم أظهر خطأهم، وحكم بأن رأيهم آفن في تأخيرهم التذكر إلى قيام الساعة، ببيان أن التذكر لا يجدى نفعا حينئذ فقال:

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ؟) أي فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟ فإن الذكرى لا تنفع حينئذ، ولا تقبل التوبة، ولا ينفع الإيمان.

ونحو الآية قوله: « يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ».

وبعد أن أبان أن الذكرى لا تنفع إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل - أمر رسوله بالثبات على ما هو عليه، والاستغفار لأتباعه، فقال:

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي إذا علمت سعادة المؤمنين وعذاب الكافرين، فاستمسك بما أنت عليه من موجبات السعادة، واستكمل حظوظ نفسك بالاستغفار من ذنبك (وذنوب الأنبياء أن يتركوا ما هو الأولى بمنصبهم الجليل) وتوجّه بالدعاء والاستغفار لأتباعك من المؤمنين والمؤمنات.

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله كان يقول: « اللهم اغفر لي خطيئتى وجهلى وإسرافى في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلى وجدّى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندي ».

وثبت أنه كان يقول في آخر الصلاة: « اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت ».

وجاء أيضا أنه قال « أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ».

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي أنه قال: « عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: إنما أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكونى بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون ».

وفي الأثر المروي « قال إبليس وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ».

ثم رغبهم سبحانه في امتثال ما يأمرهم به، ورهّبهم مما ينهاهم عنه فقال:

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي والله يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم، فاتقوه واستغفروه، فهو جدير بأن يتقى ويخشى، وأن يستغفر ويسترحم.

ونحو الآية قوله: « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ » وقوله: « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ».

[سورة محمد (47): الآيات 20 الى 23]

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)

تفسير المفردات

لو لا: كلمة تفيد الحثّ على حصول ما بعدها، أي هلا أنزلت سورة في أمر الجهاد، محكمة: أي بيّنة واضحة لا احتمال فيها لشيء آخر، مرض: أي ضعف ونفاق، نظر المغشي عليه من الموت: أي كما ينظر المصروع الذي لا يطرف بصره جبنا منه وهلعا، أولى لهم: أي فويل لهم، وهو من الولي بمعنى القرب، والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ويقرب منهم، عزم الأمر: أي جدّ أولو الأمر، عسى كلمة تدل على توقع حصول ما بعدها، توليتم أي توليتم أمور الناس. وتأمرتم عليهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه حال المنافقين والكافرين والمؤمنين حين استماع آيات التوحيد والحشر والبعث وغيرها من الأمور التي أوجب الدين علينا اعتقادها بقوله فيما سلف « وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ » وقوله: « وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً » - أردف هذا فذكر حالهم في الآيات العملية كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها، فأبان أن المؤمنين كانوا ينتظرون مجيئها ويرجون نزولها، وإذا تأخرت كانوا يقولون: هلا أمرنا بشىء من ذلك، لينالوا ما يقرّبهم من ربهم ويحصلوا على رضوانه والزلفى إليه، وأن المنافقين كانوا إذا نزل شيء من تلك التكاليف شق عليهم ونظروا نظرة المصروع الذي يشخص بصره خوفا وهلعا. ثم ذكر نتيجة لما سلف، وفذلكة لما تقدم، فأعقب هذا بأن الله طرد المنافقين وأبعدهم من الخير، ومن قبل هذا أصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين، وأعمى أبصارهم فلا يسيرون على الصراط المستقيم، أما المؤمنون فقد رضى عنهم وأرضاهم، ونالوا محبته، ودخلوا جنته، فضلا منه ورحمة، والله ذو الفضل العظيم.

الإيضاح

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي إن المؤمنين المخلصين في إيمانهم يشتاقون للوحى، ونزول آيات الجهاد حرصا على ثوابه ويقولون: هلا أنزلت سورة تأمرنا به، فإذا أنزلت سورة واضحة الدلالة في الأمر به فرحوا بها، وشق ذلك على المنافقين، وشخصت أبصارهم هلعا وجبنا من لقاء العدو ونظروا مغتاظين بتحديد وتحديق كمن يشخص بصره حين الموت.

ونحو الآية قوله « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ».

ثم هددهم وتوعدهم فقال:

(فَأَوْلى لَهُمْ) أي فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين، إذ حياتهم ليست في طاعة الله، فالموت خير منها، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد والدعاء عليهم بالهلاك، فكأنه قيل: أهلكهم الله هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، فهو نحو قولهم في الدعاء بعدا له وسحقا. قال الأصمعي معناه: قاربه ما يهلكه أي نزل به، وأنشد:

فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث

أي قارب أن يزيد.

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة لله وقول معروف أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجزع والجبن من لقاء العدو، فمتاع الحياة الدنيا متاع قليل، وظل زائل، والآخرة خير لمن اتقى.

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ) أي فإذا حضر القتال كرهوه وتخلّفوا عنه خوفا وفرقا، ولو صدقوا في إيمانهم واتباعهم للرسول، وأخلصوا النية في القتال لكان خيرا لهم عند ربهم، إذ ينالون به الثواب والزلفى عنده ويعطيهم ما تقرّ به أعينهم، ويدخلهم جنات النعيم.

ثم خاطب أولئك المنافقين خطاب توبيخ وتأنيب فقال:

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي فلعلّكم لما عهد فيكم من الحرص على الدنيا وزخرفها إذ قد أمرتم بالجهاد الذي هو الوسيلة إلى الثواب فكرهتموه، وظهر عليكم ما ظهر من الخوف والهلع والتشبث بالبقاء في هذه الحياة والتكالب على زينتها إن أنتم توليتم أمور الناس وصرتم عليهم أمراء أن تفسدوا في الأرض بالبغي وسفك الدماء، وتقطعوا أرحامكم فتعودوا إلى تباغض الجاهلية من إغارة بعضكم على بعض ونهب الأموال وسفك الدماء.

والخلاصة - إنه لاعجب بعد أن صدر منكم ما صدر من كراهة الدفاع عن حوزة الإسلام - أن تعيدوا أحوال الجاهلية جزعة إذا صرتم أمراء الناس وولاتهم.

وبعد أن ذكر هناتهم بين سببها فقال:

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي فهؤلاء هم الذين أبعدهم الله من رحمته، فأصمهم عن الانتفاع بما سمعوا، وأعمى أبصارهم عن الاستفادة مما شاهدوا من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق، فلم يكن سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله « إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال مه، قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وقد وردت أحاديث كثيرة في صلة الرحم.

[سورة محمد (47): الآيات 24 الى 31]

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)

تفسير المفردات

يتدبرون القرآن: أي يتصفحون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى يقلعوا عن الوقوع في الموبقات، ارتدوا على أدبارهم: أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، سوّل لهم: أي سهّل لهم وزين، وأملى لهم: أي مدّ لهم في الأماني والآمال، يضربون وجوههم وأدبارهم: أي يتوفونهم وهم على أهوال الأحوال وأفظعها، والأضغان: واحدها ضغن، وهو الحقد الشديد، وتضاغن القوم واضطغنوا إذا أبطنوا الأحقاد، قال:

قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصديق وشيّد الأضغانا؟

لأريناكهم: أي لعرّفناكهم، والسيمى: العلامة، ولحن القول: أسلوبه بإمالته عن وجهه من التصريح إلى التعريض والتورية، ولنبلونّكم: أي لنختبرنّكم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن أولئك المنافقين أبعدهم الله عن الخير، فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا - بين أن حالهم دائرة بين أمرين: إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم، أو أنهم يتدبرون ولكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة ثم ذكر أنهم رجعوا إلى الكفر بعد أن تبين لهم الهدى بالدلائل الواضحة، والمعجزات الباهرة، وقد زين لهم الشيطان ذلك وخدعهم بباطل الأماني، ثم بين سبب ارتدادهم وهو قولهم لبنى قريظة والنّضير من اليهود: سنطيعكم في بعض أحوالكم وهو ما حكى عنهم في قوله: « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ » والله يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح.

ثم أردف هذا ذكر ما يصادفونه من الأهوال إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم بسبب اتباعهم أهواءهم وعمل ما يغضب ربّهم، ومن ثم أحبط أعمالهم، وهل يعتقد هؤلاء المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل إنه سيوضح ذلك لذوي البصائر، ولو نشاء لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا، ولكن لم نفعل ذلك، سترا منا على عبادنا، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، وردّا للسرائر إلى عالمها، وإنك لتعرفنّهم فيما يبدو من كلامهم الدالّ على مقاصدهم، بمغامز يضعونها أثناء حديثهم، وقد كان يفهمها رسول الله ويفهم مراميها فلا تخفى عليه.

ثم ذكر أنه يبتلى عباده بالجهاد وغيره، ليعلم الصادق في إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف، من غيره، ويختبر أعمالهم حسناتهم وسيئاتهم فيجازيهم بما قدموا « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ».

الإيضاح

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي وعظ بها في آي كتابه، ويتفكرون في حججه التي بيّنها في تنزيله فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون، أم هم قد أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل في كتابه من العبر والمواعظ؟

والخلاصة - إنهم بين أمرين كلاهما شر، وكلاهما فيه الدمار، والمصير إلى النار، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبرون، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئا.

ولما أخبر بإقفال قلوبهم بيّن منشأ ذلك فقال:

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا من بعد ما تبين لهم الهدى وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجج، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله - الشيطان زين لهم ذلك وخدعهم بالآمال، وحسّن لهم ما في الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى حين، ثم يعودون كما كانوا مؤمنين، إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر، ولا يبلغها العدّ.

ثم ذكر كيف إنهم ضلوا فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ذلك الضلال من قبل أنهم مالئوا اليهود من بنى قريظة والنضير وناصحوهم سرا على المؤمنين كما هو شأن المنافقين في كل زمان، والله يعلم ما يسرون وما يخفون، وهو مطلع عليهم وعالم بهم.

ولا يخفى ما في ذلك من الوعيد وشديد التهديد.

ونحو الآية قوله: « وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ».

ثم ذكر أن هذه الحيل إن أجدت في حياتهم فماذا هم فاعلون حين وفاتهم فقال:

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها، وقد مثل ذلك بحال يخافونها في الدنيا، ويجبنون عن القتال من أجلها، وهو الضرب على الوجوه والأدبار، إذ في يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفرّ، فكيف يحترزون من الأذى، ويبتعدون من العذاب؟.

ثم بين سبب التوفي على تلك الحال الشنيعة فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الهول الذي يرونه من أجل أنهم انهمكوا في المعاصي، وزينت لهم الشهوات، وكرهوا ما يرضى الله من الإيمان به والعمل على طاعته والإخلاص له في السر والعلن، فأحبط ما عملوه من البر والخير، كالصدقات، والأخذ بيد الضعيف، ومساعدة البائس الفقير، وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك، إذ هم فعلوه وهم مشركون فلم تكن لله ولا بأمره، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس.

ثم بالغ في توبيخ المنافقين، وإظهار خباياهم، وإعلان نواياهم فقال:

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ) أي بل أحسب أولئك المنافقون الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن الله لا يكشف أستارهم ويبرز أحقادهم، بلى سيبرزها للرسول وللمؤمنين فلا تبقى مستورة، وقد أنزل الله في فضائحهم وما يبطنون من الأفعال سورة براءة، ولذا تسمى الفاضحة كقوله فيهم: « وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » وقوله: « فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ».

ثم أكد ما فهم من سالف الكلام وأنه سيظهرها فقال:

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي ولو نشاء أيها الرسول لعرّفناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا بعلامات هي غالبة عليهم، ولكنه لم يفعل ذلك في جميع المنافقين للستر على خلقه، وردّا للسرائر إلى عالمها، وحرصا على ألا يؤذي ذوي قرباهم من المخلصين.

(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي ولتعرفنهم فيما يداورونه من القول، فيعدلون عن التصريح بمقاصدهم إلى التعريض والإشارة، وإياه عنى القائل في مدح محبوبته فقال:

منطق صائب وتلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا

يريد أنها تتكلم بشىء وتريد غيره وتعرّض في حديثها فتزيله عن جهته، لفطنتها وذكائها.

وقد كانوا يخاطبون الرسول بألفاظ ظاهرها الحسن وهم يعنون بها القبيح. قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي منافق إلا عرفه، وقال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله ، عرّفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه.

وفي الحديث: « ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ».

وروي أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.

وقد ثبت في الحديث تعيين جماعة من المنافقين، فقد روى أحمد عن عقبة بن عامر قال: « خطبنا رسول الله خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فيكم منافقين فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين رجلا، ثم قال: إن فيكم منافقين فاتقوا الله، قال فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنّع قد كان يعرفه، فقال ما لك؟ فحدّثه بما قال رسول الله ، فقال بعدا لك سائر الدهر ».

ثم وعد سبحانه وأوعد، وبشر وأنذر فقال:

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم بما قدمتم من خير أو شر، إذ لا يضيع عمل عامل عدلا منه ورحمة.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة حتى يتميز المجاهد الصابر من غيره، ويعرف ذو البصيرة في دينه من ذي الشك والحيرة فيه، والمؤمن من المنافق، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم في إيمانه من الكاذب.

قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال:

اللهم لا تبتلنا، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

[سورة محمد (47): الآيات 32 الى 35]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)

تفسير المفردات

شاقوا الرسول: أي عادوه وخالفوه، وأصله صاروا في شقّ غير شقه، فلا تهنوا: أي فلا تضعفوا عن القتال، من الوهن وهو الضعف، وقد وهن الإنسان ووهّنه غيره، وتدعوا إلى السلم: أي تدعوا الكفار إلى الصلح خوفا وإظهارا للعجز، الأعلون: أي الغالبون، والله معكم: أي ناصركم، لن يتركم أعمالكم: أي لن ينقصكموها من وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبت ماله وذهبت به، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن المنافقين ستفضح أسرارهم، وأنهم سيلقون شديد الأهوال حين وفاتهم - أردف ذلك ذكر حال جماعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والنّضير كفروا بالله وصدوا الناس عن سبيل الله وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته في التوراة، وما ظهر على يديه من المعجزات، فهؤلاء لن يضروا الله شيئا بكفرهم، بل يضرون أنفسهم وسيحبط الله مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه، ثم ذكر قصص بني سعد وقد أسلموا وجاءوا إلى رسول الله وقالوا: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلينا، منّا بذلك عليه، فنهاهم عن ذلك وبين لهم أن هذا مما يبطل أعمالهم، ثم أعقب هذا ببيان أن من كفروا وصدوا عن السبيل القويم ثم ماتوا وهم على هذه الحال فلن يغفر الله لهم، ثم أرشد إلى أن عمل الكافرين الذي له صورة الحسنات محبط وأن ذنبهم غير مغفور، وبعدئذ أردف هذا أن الله خاذلهم في الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفا أمامهم، فإن الله ناصركم، ولن يضيع أعمالكم.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا الناس عن دينه الذي بعث به رسوله، وخالفوا هذا الرسول وحاربوه وآذوه من بعد أن استبان لهم بالأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة أنه مرسل من عند ربه - لن يضروا الله شيئا، لأن الله بالغ أمره، وناصر رسوله، ومظهره على من عاداه وخالفه، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها، لإبطال دينه ومشاقة رسوله، ولا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون له من الغوائل، وستكون ثمرتها إما قتلهم أو جلاءهم عن أوطانهم.

والمراد بصد الناس عن سبيل الله، منعهم إياهم عن الإسلام بشتى الوسائل، وعن متابعة الرسول والانضواء تحت لوائه.

ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي يا أيها الذين صدقوا بوحدانية الله وقدرته وسائر صفات كماله، وصدقوا رسوله فيما جاء على لسانه من الشرائع - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في اتباع أوامرهما والانتهاء عن نواهيهما.

ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطل الكفار أعمالهم فقال:

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أي ولا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي قاله الحسن، وقال الزهري بالكبائر. وقال مقاتل بالمنّ والأذى وقال عطاء بالنفاق والشرك والأولى أن يراد به النهي عن كل سبب من الأسباب التي تكون سببا في إبطال الأعمال كائنا ما كان بلا تخصيص بنوع معين.

وعن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت هذه الآية، فخافوا أن يبطل الذنب العمل وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها، قلنا قد هلك حتى نزل « إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » فكففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه، وإن لم يصب منها رجونا له.

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في الآية: من استطاع منكم ألا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى.

ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر والصدّ عن سبيل الله فقال:

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله وصدوا من أراد الإيمان بالله ورسوله عن ذلك، وحالوا بينهم وبين ما أرادوه، ثم ماتوا وهم على كفرهم فلن يعفو الله سبحانه عما صنعوا، بل يعاقبهم ويفضحهم به على رءوس الأشهاد.

وقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيا.

ثم ذكر سبحانه أن لا حرمة للكافر في الدنيا والآخرة، فأمر بقتالهم وأرشد إلى أن النصر حليف المؤمنين فقال:

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي فلا تضعفوا أيها المؤمنون عن جهاد المشركين وتجبنوا عن قتالهم، وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورا وإظهارا للعجز، وأنتم العالون عليهم والله معكم بالنصر لكم عليهم، ولا يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها.

[سورة محمد (47): الآيات 36 الى 38]

إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)

تفسير المفردات

كل ما اشتغلت به مما ليس فيه ضرر في الحال ولا منفعة في المآل ولم يمنعك عن مهامّ أمورك فهو لعب، فإن شغلك عنها فهو لهو، ومن ثم يقال آلات الملاهي، لأنها مشغلة عن غيرها، ويقال لما دون ذلك لعب كاللعب بالشّطرنج والنّرد والحمام، فيحفكم أي فيجهدكم بطلبها جميعا، والإلحاف والإحفاء بلوغ الغاية في كل شيء يقال أحفاه في المسألة: إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، أضغانكم: أي أحقادكم.

المعنى الجملي

بعد أن أمر المؤمنين بترك المعاصي لأنها محبطة لثواب الأعمال الصالحة، وأمرهم بالتشمير عن ساعد الجد للجهاد ومقاتلة الأعداء نصرة لدينه، ووعدهم بأن الله ناصرهم وهم الأعلون، فلا ينبغي لهم أن يطلبوا المهادنة من العدو خورا وجبنا خوفا على الحياة ولذاتها - أكد هذا المعنى فأبان أنه لا ينبغي لكم أيها المؤمنون الحرص على الدنيا، فإنها ظل زائل، وعرض غير باق، وما هي إلا لذات مؤقتة لا تلبث أن تزول، وهي مشغلة عن صالح الأعمال، فلا يليق بكم أن تعضّوا عليها بالنواجذ، بل اعملوا لما يرضى ربكم يؤتكم أجوركم وهو لا يسألكم من أموالكم إلا القليل النزر الذي فيه صلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة، دنيوية كانت أو دينية، وهو عليم بأنكم أشحة على أموالكم، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرت أحقادكم على طالبيها، والله قد طلب إليكم الإنفاق في سبيله، والقيام بما تحتاج إليه الدعوة، فإن بخلتم فضرر ذلك عائد إليكم، والله غني عن معونتكم، وإن أعرضتم عن الإيمان والتقوى يأت الله بخلق غيركم يقيمون دينه، وينصرون الدعوة.

الإيضاح

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) يقول سبحانه حاضّا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو لا يلبث أن يضمحل ويذهب إلا ما كان منها من عمل في سبيل الله وطلب رضاه.

ثم رغبهم في العمل للآخرة فقال:

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي وإن تؤمنوا بربكم وتتقوه حق تقاته، فتؤدوا فرائضه وتجتنبوا نواهيه - يؤتكم ثواب أعمالكم فيعوضكم عنها ما هو خير لكم يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم، وهو لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل يأمركم بإخراج القليل منها وهو ربع العشر للزكاة مواساة لإخوانكم الفقراء، ونفع ذلك عائد إليكم.

ثم بين شح الإنسان على ماله وشدة حرصه عليه فقال:

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي إن يسألكم ربكم أموالكم فيجهدكم بالمسألة ويلحف عليكم بطلبها - تبخلوا بها وتمنعوها إياه ضنا منكم بها، لكنه علم ذلك منكم فلم يسألكموها فيخرج ذلك السؤال أحقادكم لمزيد حبكم للمال.

قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان للاسلام من حيث محبة المال بالجبلّة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرّها.

والخلاصة - قد علم الله شح الإنسان على المال فلم يطلب منه إلا النزر اليسير في الصدقات، وبذل المال في المرافق العامة لإصلاح شئون المجتمع الإسلامي كسدّ الثغور، وبناء القناطر والجسور.

ثم أكد ما سلف وقرره بقوله:

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي هأنتم أيها المؤمنون تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونصرة دينه.

(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي فمنكم من يبخل عن النفقة في هذا السبيل، ومن يبخل فإنما ضرر ذلك عائد إلى نفسه، لأنه ينقصها أجرها من الثواب، ويبعدها من رضا الله والقرب منه في جنات النعيم، والله لا حاجة إليه في أموالكم ولا نفقاتكم، فهو الغنى عن خلقه، وخلقه فقراء إليه، وإنما حضكم على النفقة في سبيله، لتنالوا بذلك الأجر والثواب.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي وإن تعرضوا عن طاعة الله واتباع شرائعه، وترتدوا راجعين عنها، يهلككم ثم يجىء بقوم آخرين غيركم يصدقون بها، ويعملون بالشرائع التي أنزلها على رسوله، ويقومون بذلك كله على ما يؤمرون به، والمراد بهم على ما صح في الحديث أهل فارس.

أخرج عبد الرازق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي والترمذي عن أبي هريرة قال: « تلا رسول الله هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) إلخ فقالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونون أمثالنا؟ فضرب رسول الله على منكب سلمان، ثم قال هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو أن هذا الدين تعلق بالثريا لتناوله رجال من فارس ».

وقد طعن بعض رواة الحديث فيه وجرّحوا بعض رواته، قال ابن كثير وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم.

قال الكلبي: شرط في الاستبدال توّليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم بهم.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله، ونصر دينه بأتباعه المؤمنين، وجعلهم للعمل بنشره دائبين.

اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد

(1) وصف الكافرين والمؤمنين من أول السورة إلى قوله: « كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ».

(2) جزاء الفريقين في الدنيا والآخرة من خذلان ونصر ونار وجنة من قوله: « فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ - إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ ».

(3) الوعد والتهديد للمنافقين والمرتدين من قوله: « وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ » إلى آخر السورة.

سورة الفتح

هي مدنية، وآيها تسع وعشرون، نزلت بعد سورة الجمعة.

ووجه مناسبتها لما قبلها:

(1) إن الفتح المراد به النصر مرتب على القتال.

(2) إن في كل منهما ذكرا للمؤمنين والمخلصين والمنافقين المشركين.

(3) إن في السورة السالفة أمرا بالاستغفار، وفى هذه ذكر وقوع المغفرة.

[سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 3]

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

تفسير المفردات

أصل الفتح: إزالة الأغلاق، وفتح البلد: دخله عنوة أو صلحا، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية (والحديبية بئر) على المشهور، وهو المروي عن ابن عباس وأنس والشعبي والزهري، وسمى هذا فتحا لأنه كان سببا لفتح مكة، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها والخلاصة - إنه كان من نتائج هذا الصلح الأمور الآتية:

(1) تمّ في هذا الصلح ما يسمونه في العصر الحديث (جسّ النبض) لمعرفة قوة العدو ومقدار كفايته وإلى أي حد هي.

(2) معرفة صادقى الإيمان من المنافقين كما علم ذلك من المخلفين فيما يأتي.

(3) إن اختلاط المسلمين بالمشركين حبب الإسلام إلى قلوب كثير منهم فدخلوا في دين الله أفواجا.

مبينا: أي بيّنا ظاهر الأمر مكشوف الحال.

المعنى الجملي

نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفه من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، لما صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام وحالوا بينه وبين قضاء عمرته، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكرّه من جماعة من الصحابة كعمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل هذا الصلح فتحا لما فيه من المصلحة، ولما آل إليه أمره فقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعدّ الفتح صلح الحديبية.

وروى البخاري « أن رسول الله كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب كان يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر، كررت على رسول الله ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبك، قال عمر: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال: لقد أنزلت علي سورة لهى أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ».

وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - إلى قوله: فَوْزًا عَظِيمًا » مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحروا الهدى بالحديبية، قال النبي ، لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعها ».

هذا، ولما كان لكل عامل ثمرة يجنيها من عمله، وغاية يبتغيها منه - كان للنبوّة نهاية مطلوبة في هذه الحياة وثمرة تتبع هذه النهاية، فنهاية أمر النبوة أن تلتئم الأمور ويجتمع شملها، وتكمل نظمها التي تبنى عليها الحياة الهنية حتى يعيش العالم في طمأنينة وهدوء، ولن يتم ذلك إلا بعد بث الدعوة والجهاد العلمي والعملي بقتال الأعداء وخضد شوكتهم، ومتى تمّ هذا وأنقذ المستضعفون ودخل الناس في دين الله أفواجا كرها ثم طوعا انتظم أمر النبوة، وأدى الرسول واجبه واستوجب أن يجنى ثمرة أعماله، وهي:

(1) مغفرة ما فرط من ذنبه مما يعدّ ذنبا بالنظر إلى مقامه الشريف.

(2) تمام النعمة باجتماع الملك والنبوة بعد أن كانت له النبوة وحدها.

(3) الهداية إلى الصراط المستقيم في تبليغ الرسالة، وإقامة مراسم الرياسة.

(4) المنعة والعزة ونفاذ الكلمة ورهبة الجانب وحمى الذمار.

فهذا الفتح كان كفيلا بهذه الشئون الأربعة، فكأنه سبحانه يقول لرسوله:

لقد بلّغت الرسالة، ونصبت في العمل، وجاهدت بلسانك وسيفك، وجمعت الرجال والكراع والسلاح، وتلطفت وأغلظت، وأخلصت في عملك، وفعلت في وجيز الزمن ما لم ينله مثلك في طويله، حتى تمّ ماندبناك له، فلتجن ثمار عملك، ولتقرّ عينا بما آل إليه أمرك في الدنيا والآخرة.

الإيضاح

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) أي إنا فتحنا لك فتحا ظاهرا لا يختلج فيه شك بذلك الصلح الذي تم على يديك في الحديبية، إذ لم يمض إلا القليل من الزمن حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وكان هو السّلّم الذي فيه رقيت إلى فتح مكة، وتسابق العرب إلى الدخول في الدين زرافات ووحدانا.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي ليغفر لك ربك جميع ما فرط منك من الهفوات مما يصح أن يسمى ذنبا بالنظر إلى مقامك الشريف، وإن كان لا يسمى ذنبا بالنظر إلى سواك، ومن ثم قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

والمراد غفران الذنوب التي قبل الرسالة والتي بعدها، قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال: « كان النبي يصلى حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ ».

قال صاحب الكشاف: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة - قلت لم يجعله علة للمغفرة، ولكنه جعله علة لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة، وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز، كأنه قيل: يسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك، لنجمع لك بين عز الدارين، وأغراض الآجل والعاجل اهـ.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء شأن دينك، وانتشاره في البلاد، ورفع ذكرك في الدنيا والآخرة.

(وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا) أي ويرشدك طريقا من الدين لا اعوجاج فيه، يستقيم بك إلى رضا ربك.

(وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) أي وينصرك على من ناوأك من أعدائك نصرا ذا عزّ بالغ، لا يدفعه دافع، لما يؤيدك به من بأس، وينيلك من ظفر.

[سورة الفتح (48): الآيات 4 الى 7]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

تفسير المفردات

أنزل السكينة: أي خلقها وأوجدها، قال الراغب: إنزال الله تعالى نعمته على عبد: إعطاؤه إياها، إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن، أو بإنزال أسبابه بالهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه اهـ. والسكينة: الطمأنينة والثبات من السكون، إيمانا مع إيمانهم: أي يقينا مع يقينهم، جنود السموات والأرض: أي الأسباب السماوية والأرضية، ويكفر عنهم سيئاتهم: أي يغطيها ولا يظهرها، والسوء: (بالضم والفتح): المساءة، وظن السوء: أي ظن الأمر السوء فيقولون في أنفسهم: لا ينصر الله رسوله والمؤمنين، عليهم دائرة السوء. الدائرة في الأصل الحادثة التي تحيط بمن وقعت عليه، وكثر استعمالها في المكروه، والسوء: العذاب والهزيمة والشر (وهو بالضم والفتح لغتان) وقال سيبويه: السوء هنا الفساد، أي عليهم ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم، لعنهم: أي طردهم طردا نزلوا به إلى الحضيض، عزيزا: أي يغلب ولا يغلب.

المعنى الجملي

بعد أن أخبر سبحانه بأنه سينصر رسله - بيّن سبيل النصر بأنه رزقهم ثبات أقدام ليزدادوا يقينا إلى يقينهم، ثم أخبر بأن من سننه أن يسلّط بعض عباده على بعض، وهو العليم بالمصالح واستعداد النفوس، وقد وعد المؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار وأوعد عباده الكافرين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمؤمنين - بالعذاب الأليم، وغضب عليهم وطردهم من رحمته.

روى أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نزلت على النبي « لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ » مرجعه من الحديبية، فقال النبي « لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض » ثم قرأها عليهم، فقالوا هنيئا مريئا يا رسول الله، لقد بيّن لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه « لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ - حتى بلغ - فَوْزًا عَظِيمًا » وأخرجه الشيخان من رواية قتادة.

الإيضاح

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ) أي هو الذي أنزل في قلوب المؤمنين طمأنينة وثبات أقدام عند اللقاء ومقاتلة الأعداء (وهو المسمى في العصر الحديث الروح المعنوية في الجيوش) ليزدادوا يقينا في دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوي الأحلام، ويزلزل العقائد بصدّ الكفار لهم عن المسجد الحرام ورجوعهم دون بلوغ مقصدهم، ولكن لم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا زلزالا شديدا حتى إن عمر بن الخطاب لم يكن راضيا عن هذا الصلح وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ وكان للصديق من القدم الثابتة ورسوخ الإيمان ما دل على أنه لا يجارى ولا يبارى.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي يدبر أمر العالم، ويسلط بعض جنده على بعض، فيجعل جماعة يجاهدون لإعلاء كلمة الحق، ويجعل آخرين يقاتلون في سبيل الشيطان، ولو شاء لأرسل عليهم جندا من السماء فأباد خضراءهم، لكنه سبحانه شرع الجهاد والقتال، لما في ذلك من مصلحة هو عليم بها، وحكمة قد تغيب عنا، وهذا ما عناه بقوله:

(وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) فهو لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا) أي وإنما دبر ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله ويشكروها فيدخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا، وليكفر عنهم سيئات أعمالهم بالحسنات التي يعملونها، شكرا لربهم على ما أنعم به عليهم، وكان ذلك ظفرا لهم بما كانوا يرجون ويسعون له، ونجاة مما كانوا يحذرونه من العذاب الأليم، وهذا منتهى ما يرون من منفعة مجلوبة، ومضرة مدفوعة.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي وليعذب هؤلاء في الدنيا بإيصال الهمّ والغمّ إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبما يشاهدونه من ظهور الإسلام وقهر المخالفين، وبتسليط النبي عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا، وفى الآخرة بعذاب جهنم.

وهم قد كانوا يظنون أن النبي سيغلب، وأن كلمة الكفر ستعلو كلمة الإسلام، ومما ظنوه ما حكاه الله بقوله: « بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ».

وإنما قدم المنافقين على المشركين، لأنهم كانوا أشد ضررا على المؤمنين من الكفار المجاهرين، لأن المؤمن كان يتوقى المجاهر، ويخالط المنافق لظنه إيمانه، وكان يفشي سره إليه، وفى هذا دلالة على أنهم أشد منهم عذابا، وأحق منهم بما أوعدهم الله به.

والخلاصة - إن الفريقين ظنوا أن الله لا ينصر رسوله ولا المؤمنين على الكافرين.

وقد دعا سبحانه عليهم بأن ينزل بهم ما كانوا يظنونه بالمؤمنين من الدوائر وأحداث الزمان فقال:

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم تدور الدوائر، وسيحيق بهم ما كانوا يتربصونه بالمؤمنين من قتل وسبى وأسر لا يتخطاهم.

ثم بين ما يستحقونه من الغضب واللعنة فقال:

(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا) أي ونالهم غضب من الله وأبعدهم فأقصاهم من رحمته، وأعدّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة، وساءت منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجن، والصيحة والرجفة والحجارة والزلازل والخسف والغرق ونحو ذلك - أنصارا على أعدائه إن أمرهم بإهلاكهم أهلكوهم وسارعوا مطيعين لذلك.

وفائدة إعادة هذه الجملة - بيان أن لله جنودا للرحمة وجنودا للعذاب، فذكرهم أوّلا بيانا لإنزالهم للرحمة، وأنهم يدخلون الجنة مكرمين معظمين، وذكرهم ثانيا بيانا لإنزال العذاب على الكافرين في نار جهنم كما قال: « عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ ».

روي أنه لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبي: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدو، فأين فارس والروم - فبيّن سبحانه أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم.

(وكان الله عزيزا حكيما) أي وكان الله غالبا فلا يرد بأسه، حكيما فيما دبره لخلقه.

خلاصة ما سلف

إنه قد ترتب على هذا الفتح أمور أربعة للنبي :

(1) مغفرة الذنوب.

(2) اجتماع الملك والنبوة.

(3) الهداية إلى الصراط المستقيم.

(4) العزة والمنعة.

وهكذا فاز المؤمنون بأمور أربعة:

(1) الطمأنينة والوقار.

(2) ازدياد الإيمان.

(3) دخول الجنات.

(4) تكفير السيئات.

وجازى الكفار بأربعة أشياء:

(1) العذاب.

(2) الغضب.

(3) اللعنة.

(4) دخول جهنم.

[سورة الفتح (48): الآيات 8 الى 10]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

تفسير المفردات

شاهدا: أي على أمتك لقوله تعالى: « لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ » ومبشرا: أي بالثواب على الطاعة، ونذيرا: أي بالعذاب على المعصية، وتعزروه: أي تنصروه، وتوقروه: أي تعظموه، بكرة: أي أول النهار، وأصيلا: أي آخر النهار، والمراد جميع النهار، إذ من سنن العرب أن يذكروا طرفى الشيء ويريدوا جميعه، كما يقال شرقا وغربا لجميع الدنيا، يبايعونك: أي يوم الحديبية إذ بايعوه على الموت في نصرته والذبّ عنه كما روى عن سلمة بن الأكوع وغيره، أو على ألا يفروا من قريش كما روى عن ابن عمر وجابر، إنما يبايعون الله، لأن المقصود من بيعة الرسول وطاعته طاعة الله وامتثال أوامره، يد الله فوق أيديهم: أي نصرته إياهم أعلى وأقوى من نصرتهم إياه، كما يقال اليد لفلان: أي الغلبة والنصرة له، نكث: أي نقض، يقال أوفى بالعهد ووفى به: إذا أتمه، وقرأ الجمهور (عليه) بكسر الهاء، وضمها حفص، لأنها هاء هو وهي مضمومة فاستصحب ذلك كما في له وضربه.

المعنى الجملي

بعد أن أتم الكلام على ما لكلّ من النبي والمؤمنين من الثمرات التي ترتبت على عمله - أعقبه بما يعمهما معا، فذكر أنه أرسل رسوله شاهدا على أمته، ومبشرا لها بالثواب، ومنذرا إياها بالعقاب، ثم أبان أن فائدة هذا الإرسال هو الإيمان بالله وتعظيمه وتسبيحه غدوة وعشيا ونصرة دينه، ثم ذكر بيعة الحديبية (قرية صغيرة على أقل من مرحلة من مكة، سميت باسم بئر هناك) وأن الذين بايعوا هذه البيعة إنما بايعوا الله ونصروا دينه، وأن من نقض منهم العهد فوبال ذلك عائد إليه، ولا يضرنّ إلا نفسه، ومن أوفى بهذا العهد فسينال الأجر العظيم، والثواب الجزيل.

بيعة الرضوان - بيعة الشجرة

سبب هذه البيعة أن رسول الله دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية، فبعثه إلى قريش بمكة ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا جمل رسول الله وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش (واحدهم أحبوش، وهو الفوج من قبائل شتى) فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله فأخبره، فدعا رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه، فقال إني أخافهم على نفسي، لما أعرف من عداوتي إياهم وما بمكة عدوي (قبيلته بنو عدى) ولكني أدلّك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم - عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة فجعله في جواره حتى فرغ من رسالته لعظماء قريش، ثم احتبسوه عندهم، فشاع بين المسلمين أن عثمان قد قتل، فقال رسول الله : لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وبايعه القوم على ألا يفرّوا أبدا إلا جدّ بن قيس الأنصاري، فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا داعين إلى الموادعة والصلح، وكان قد أتى رسول الله أن الذي بلغه من أمر عثمان كذب، فتمّ الصلح ومشى بعضهم إلى بعض على أن يحج رسول الله في العام القابل ويدخل مكة.

روى البخاري من حديث قتادة قلت لسعيد بن المسيّب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال خمس عشرة مائة، والمشهور الذي رواه غير واحد أنهم كانوا أربع عشرة مائة.

الإيضاح

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي إنا أرسلناك أيها الرسول شاهدا على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه مما أرسلتك به إليهم، مبشرا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دعوتهم إليه من الدين القيم، ونذيرا لهم عذاب الله إن تولّوا وأعرضوا عما جئتهم به من عنده، فآمنوا بالله ورسوله وانصروا دينه وعظموه وسبحوه في الغدوّ والعشي.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) أصل البيعة العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للامام والوفاء بالعهد الذي التزمه له، والمراد بها هنا بيعة الرضوان بالحديبية، وقد بايعه جماعة من الصحابة على ألا يفروا، منهم معقل بن يسار، أي إن الذين يبايعونك بالحديبية من أصحابك على ألا يفروا عند لقاء العدو، ولا يولّوهم الأدبار، إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك، وقد ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى: « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ».

(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي فمن نقض العهد الذي عقده مع النبي فإن ضرر ذلك راجع إليه ولا يضرّنّ إلا نفسه.

(وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) أي ومن وفّى بعهد البيعة فله الأجر والثواب في الآخرة، وسيدخله جنات يجد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

[سورة الفتح (48): الآيات 11 الى 14]

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

تفسير المفردات

المخلفون: واحدهم مخلّف، وهو المتروك في المكان خلف الخارجين منه، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم: أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في القلب فهو كذب صراح، والملك: إمساك بقوة وضبط تقول ملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما، ومنه لا أملك رأس بعيري: إذا لم تستطع إمساكه إمساكا تاما، والمراد بالضر: ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما، وبالنفع: ما ينفع من حفظ المال والأهل، ينقلب: أي يرجع، إلى أهليهم: أي عشائرهم وذوي قرباهم، بورا: أي هالكين لفساد عقائدكم وسوء نياتكم، سعيرا: أي نارا مسعورة موقدة ملتهبة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حال المنافقين فيما سلف وبين أن الله غضب عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاب السعير - أردف ذلك ذكر قبائل من العرب جهينة ومزينة وغفار وأشجع والدّيل وأسلم - تخلفوا عن رسول الله لما استنفرهم عام الحديبية حين أراد السير إلى مكة معتمرا، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حربا، واعتلوا بأن أموالهم وأهليهم قد شغلتهم، لكنهم في حقيقة أمرهم كانوا ضعاف الإيمان خائفين من مقاتلة قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش، وقالوا: كيف نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذا السفر، ففضحهم الله في هذه الآية وأخبر بأنه أعدّ لهؤلاء وأمثالهم نارا موقدة تطّلع على الأفئدة، وأعدّ للمؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وهو ذو مغفرة لمن أقلع من ذنبه، وأناب إلى ربه.

الإيضاح

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) أي أيها الرسول سيقول لك الذين تخلفوا عن صحبتك والخروج معك في سفرك حين سرت إلى مكة معتمرا زائرا بيت الله الحرام وعاقبتهم على التخلف: شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا وإصلاح معايشنا وأهلونا، إذ لم يكن لنا من يقوم بتدبير شئونهم وقضاء حاجهم، فاطلب لنا المغفرة من ربك، إذ لم يكن تخلفنا عن عصيان لك، ولا مخالفة لأمرك.

فرد الله عليهم وكذبهم بقوله:

(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي إنهم لم يكونوا صادقين في اعتذارهم بأن الامتناع كان لهذا السبب، لأنهم إنما تخلفوا اعتقادا منهم أن النبي والمؤمنين يغلبون بدليل قوله بعد: « بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ».

ثم أمر رسوله أن يرد عليهم حين اعتذروا بتلك الأباطيل فقال:

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعًا؟) أي قل لهم: إنكم بعملكم هذا تحترسون من الضرّ وتتركون أمر الله ورسوله وتقعدون طلبا للسلامة، ولكن لو أراد الله بكم ضرا لا ينفعكم قعودكم شيئا، أو أراد بكم نفعا فلا رادّ له، إذ من ذا الذي يمنع من قضائه؟ وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع.

ثم أبان لهم أنه عليم بجميع نواياهم وأن ما أظهروه من العذر هو غير ما أبطنوه من الشك والنفاق فقال:

(بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) فيعلم أن تخلفكم لم يكن لما أظهرتم من المعاذير، بل كان شكا ونفاقا كما فصل ذلك بقوله:

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي إن تخلفكم لم يكن لما أبديتم من الأسباب، بل إنكم اعتقدتم أن الرسول والمؤمنين سيقتلون وتستأصل شأفتهم، فلا يرجعون إلى أهليهم أبدا، وزين لكم الشيطان ذلك الظن حتى قعدتم عن صحبته، وظننتم أن الله لن ينصر محمدا وصحبه المؤمنين على أعدائهم، بل سيغلبون ويقتلون، وبلغ الأمر بكم أن قلتم: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس (قليلو العدد) فأين يذهبون؟

وقد صرتم بما قلتم قوما هلكى لا تصلحون لشيء من الخير، مستوجبين سخط الله وشديد عقابه.

ثم أخبر سبحانه عما أعدّه للكافرين به فقال:

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيرًا) أي ومن لم يصدق بما أخبر الله به ويقرّ بصدق ما جاء به رسوله من الحق من عنده، فإنا أعتدنا له سعيرا من النار تستعر عليه في جهنم إذا وردها يوم القيامة جزاء كفره.

ثم بين قدرته على ذلك وأنه يفعل ما يشاء لا رادّ لحكمه، ولا معقّب لقضائه فقال:

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي ولله السلطان والتصرف في السموات والأرض، فلا يقدر أحد أن يدفعه عما أراد بكم من تعذيب على نفاقكم إن أصررتم عليه، أو منعه من العفو عنكم إن أنتم تبتم من نفاقكم وكفركم.

وهذا حسم لأطماعهم في استغفاره لهم وهم على هذه الحال.

ثم أطمعهم في مغفرته وعفوه إن تابوا وأنابوا إليه فقال:

(وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أي وكان الله كثير المغفرة والرحمة، يختص من يشاء بمغفرته ورحمته دون من عداهم من الكافرين فهم بمعزل عن ذلك.

وفي الآية حثّ لهؤلاء المتخلفين عن رسول الله على التوبة والمراجعة إلى أمر الله في طاعة رسوله وطلب المبادرة بها، فإن الله يغفر للتائبين ويرحمهم إذا أنابوا إليه، وأخلصوا العمل له.

[سورة الفتح (48): آية 15]

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلًا (15)

تفسير المفردات

المراد بالمغانم: مغانم خيبر، فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة خمس وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالا كثيرة خصهم بها والمراد بتبديل كلام الله الشركة في المغانم دون أن ينصروا دين الله ويعلوا كلمته، يفقهون: أي يفهمون والمراد بالفهم القليل فهمهم لأمور الدنيا دون أمور الدين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه اعتذارهم عن التخلف فيما سلف بأنه إنما كان لمعالجة معايشهم وصلاح أموالهم، وما كان له من سبب آخر يقعدهم عن نصرته - أعقب ذلك بما يكذبهم في هذه المعذرة، فإنهم قد طلبوا السير مع النبي في وقعة خيبر لما يتوقعونه من مغانم يأخذونها، ولو كانت التعلّة السالفة حقا ما طلبوا السير معه بحال.

ثم أخبر بأن الله سبحانه رفض طلبهم الذهاب مع رسول الله إلى خيبر، فقالوا إن ذلك حسد من المؤمنين لهم أن ينالوا شيئا من الغنيمة، فرد الله عليهم ما قالوا، وأبان أنهم قوم ماديون لا يسعون إلا للدنيا، ولا يفهمون ما يعلى شأن الدين ويرفع قدره.

الإيضاح

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي سيقول لك الذين تخلفوا عنك في عمرة الحديبية واعتلوا بشغلهم بأموالهم وأهليهم: دعونا نتبعكم ونسر معكم إلى غزو خيبر، حين توقعوا ما سيكون فيها من مغانم. وفى هذا وعد للمبايعين الموافقين بالغنيمة، وللمتخلفين المخالفين بالحرمان.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) فإنه تعالى وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب، فقد جاء في صحيح الأخبار « إن الله وعد أهل الحديبية أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا.

ثم أمر رسوله أن يقول لهم إقناطا وتيئيسا من الذهاب معه إلى خيبر.

(قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أي لا تأذن لهم في الخروج معك معاقبة لهم من جنس ذنبهم فإن امتناعهم عن الخروج إلى الحديبية ما حصل إلا لأنهم كانوا يتوقعون المغرم وهو جلاد العدو ومصاولته، ولا يتوقعون المغنم، فلما انعكست الآية في خيبر طلبوا ذلك فعاقبهم الله بطردهم من المغانم.

ثم أكد هذا المنع بقوله:

(كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) أي هكذا قال الله لنا من قبل مرجعنا من الحديبية إليكم: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا لأن غنيمتها لغيركم.

ثم أخبر بأنهم سيردون عليك مقالك السابق « كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ » فقال:

(فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي إن الله ما قال ذلك من قبل، بل أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنما، ومن ثم منعتمونا.

فردّ عليهم اتهام رسوله وصحبه بالحسد فقال:

(بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب من أنكم تمنعونهم عن اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدو مغنما، بل إنما كان لأنهم لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، ولو فقهوا ما قالوا ذلك لرسوله وللمؤمنين، بعد أن أخبرهم بأن الله منعهم غنائم خيبر.

وفي هذا إشارة إلى أن ردّهم حكم الله، وإثبات الحسد لرسوله والمؤمنين - ناشىء من الجهل وقلة التدبر.

[سورة الفتح (48): الآيات 16 الى 17]

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذابًا أَلِيمًا (17)

تفسير المفردات

قال الزهري ومقاتل وجماعة: المراد بالقوم أولى البأس الشديد بنو حنيفه أصحاب مسيلمة الكذاب، وقال قتادة: هم هوازن وغطفان، وقال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس، وقال الحسن: هم فارس والروم، قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين اهـ.

والبأس: النجدة وشدة المراس في القتال، والحرج: الإثم والذنب.

المعنى الجملي

بعد أن رفض سبحانه إشراك المتخلفين في قتال خيبر عقابا لهم على تقاعدهم عن نصرة الله ورسوله في الحديبية - أردف ذلك بيان أن باب القتال لا يزال مفتوحا أمامكم، فإن شئتم أن تبرهنوا على مالكم من بلاء في ميدان القتال فاستعدوا فستندبون إلى مواجهة قوم أولى بأس ونجدة، فإما أن يسلموا وإما أن تبارزوهم حتى تبيدوا خضراءهم ولا تبقوا منهم ديّارا ولا نافخ نار، فإن أجبتم داعي الله أثابكم على ما فعلتم جزيل الأجر، وإن نكصتم على أعقابكم كما فعلتم من قبل فستجزون العذاب الأليم، ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد، ومنها ما هو لازم كالعمى والعرج، ومنها ما هو عارض يطرأ ويزول كالمرض، ثم أعقب ذلك بالترغيب في الجهاد والوعيد بالعذاب الأليم من مذلة في الدنيا، ونار موقدة في الآخرة لمن نكل عنه وأقبل على الدنيا، وترك ما يقرّ به من ربه.

الإيضاح

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي قل لهؤلاء المخلفين الذين تقدم ذكرهم - إنكم ستندبون إلى قتال قوم من أولى البأس والنجدة، فعليكم أن تخيّروهم بين أمرين: إما السيف، وإما الإسلام.

وهذا حكم عام في مشركي العرب والمرتدين يجب اتباعه.

ثم وعدهم إذا أجابوا بقوله:

(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا) أي فإن تستجيبوا وتنفروا للجهاد وتؤدوا ما طلب منكم أداؤه - يؤتكم ربكم الأجر الحسن، والثواب الجزيل، فتنالوا المغانم في الدنيا، وتدخلوا الجنة في الآخرة.

كما أوعد من نكص على عقبه بقوله:

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا أَلِيمًا) أي وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته، وتخالفوا أمره، فتتركوا قتال أولى النجدة والبأس إذا دعيتم إلى قتالهم، كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسوله إلى مكة يعذبكم العذاب الأليم بالمذلة في الدنيا، والنار في الآخرة.

ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلف عن القتال فقال:

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي لا إثم على ذوي الأعذار إذا تخلفوا عن الجهاد وشهود الحرب مع المؤمنين إذا هم لقوا عدوهم للعلل التي بهم، والأسباب التي تمنعهم من شهودها كالعمى والعرج والمرض.

روي أنه لما نزل قوله « وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ » الآية. قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: « لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ » الآية.

وقال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية.

ثم رغّب سبحانه في الجهاد وطاعة الله ورسوله، وأوعد على تركه بقوله:

(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذابًا أَلِيمًا) أي ومن يطع الله ورسوله فيجيب الداعي إلى حرب أعدائه أهل الشرك دفاعا عن دينه وإعلاء لكلمته - يدخله يوم القيامة جنات تجرى من تحتها الأنهار، ومن يعص الله ورسوله فيتخلف عن القتال إذا دعى إليه - يعذبه عذابا موجعا في نار جهنم.

[سورة الفتح (48): الآيات 18 الى 19]

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

تفسير المفردات

الرضا: ما يقابل السخط، يقال رضى عنه ورضى به ورضيته، والمراد بالمؤمنين أهل الحديبية، ورضاه عنهم لمبايعتهم رسوله ، والشجرة: سمرة (شجرة طلح - وهي المعروفة الآن بالسنط) بايع المؤمنون تحت ظلها رسول الله ، ما في قلوبهم: أي من الصدق والإخلاص في المبايعة، والسكينة: الطمأنينة والأمن وسكون النفس، فتحا قريبا: هو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما علمت، مغانم كثيرة: هي مغانم خيبر، وكانت خيبر أرضا ذات عقار وأموال قسمها رسول الله بين المقاتلة فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما، عزيزا: أي غالبا، حكيما: أي يفعل على مقتضى الحكمة في تدبير خلقه.

المعنى الجملي

بعد أن بيّن حال المخلّفين فيما سلف - عاد إلى بيان حال المبايعين الذين ذكرهم فيما تقدم بقوله: « إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ » فأبان رضاهم عنه لأجل تلك البيعة، لما علم من صدق إيمانهم، وإخلاصهم في بيعتهم، وأنزل عليهم طمأنينة ورباطة جأش وجازاهم بمغانم كثيرة أخذوها من خيبر بعد عودتهم من الحديبية، وكان الله عزيزا: أي غالبا على أمره، موجدا أفعاله وأقواله على مقتضى الحكمة.

عن سلمة بن الأكوع قال: « بينا نحن قائلون، إذ نادى منادى رسول الله ، أيها الناس: البيعة البيعة، نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول الله وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قوله تعالى: « لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ » الآية. فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، فقال الناس هنيئا لابن عفان، يطوف بالبيت ونحن هنا، فقال رسول الله لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف » أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه.

وأخرج البخاري عن سلمة أيضا قال: « بايعت رسول الله تحت الشجرة، قيل على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت ».

وعن جابر أن النبي قال: « لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة » أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.

الإيضاح

(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان، وقد عرفت أنهم كانوا أربع عشرة مائة، كما عرفت أسباب هذه البيعة.

ولما أراد أصحاب رسول الله أن يعلّموا هذه الشجرة بعد ذلك كثر اختلافهم فيها، فلما اشتبهت عليهم وصار كل واحد يشير إلى شجرة غير التي يشير إليها الآخر، قال عمر: سيروا ذهبت الشجرة، وقال ابن عمر: ما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، وكانت رحمة من الله.

وعن نافع قال: بلغ عمرَ أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف.

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) أي فعلم ما في قلوبهم من الصدق والسمع والطاعة، فأنزل عليهم الطمأنينة وسكون النفس ورباطة الجأش وأعطاهم جزاء ما وهبوه من الطاعة فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما علمت.

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) أي وعوضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم - فتح خيبر فأخذوا أموال يهودها وعقارها وكان كثيرا، وخصهم بأهل بيعة الرضوان لا يشركهم فيه سواهم.

(وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) وكان الله ذا عزة في انتقامه ممن انتقم من أعدائه، حكيما في تدبير أمور خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء من قضائه.

[سورة الفتح (48): الآيات 20 الى 24]

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

تفسير المفردات

المغانم الكثيرة: ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة، فعجل لكم هذه: أي مغانم خيبر، أيدي الناس: أي أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول منها إلى الحديبية، آية: أي أمارة للمؤمنين يعرفون بها: (1) صدق الرسول . (2) حياطة الله لرسوله وللمؤمنين وحراسته لهم في مشهدهم ومغيبهم. (3) معرفة المؤمنين الذين سيأتون بعد أن كلاءته تعالى ستعمهم أيضا ماداموا على الجادّة، الصراط المستقيم: هو الثقة بفضل الله والتوكل عليه فيما تأتون وما تذرون، وأخرى: أي مغانم أخرى هي مغانم فارس والروم، أحاط الله بها: أي أعدها لكم وهي تحت قبضته يظهر عليها من أراد، لولّوا الأدبار: أي لانهزموا، والولي الحارس الحامى، والنصير: المعين والمساعد، سنة الله: أي سنّ سبحانه غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال: « لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » أيديهم عنكم: أي أيدي كفار مكة، وأيديكم عنهم ببطن مكة، يعني بالحديبية، أظفركم عليهم: أي على كلمته وجعلكم ذوي غلبة عليهم، فإن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد.

المعنى الجملي

بعد أن وعدهم فيما سلف بمغانم خيبر - أردف ذلك بيان أن ما آتاهم من الفتح والمغانم ليس هو الثواب وحده، بل الجزاء أمامهم، وإنما عجل لهم هذه لتكون علامة على صدق رسوله وحياطته له، وحراسته للمؤمنين وليثبتكم على الإسلام، وليزيدكم بصيرة، وسيؤتيكم مغانم أخرى من فارس والروم وغيرهما ما كنتم تقدرون عليها لو لا الإسلام، فقد كانت بلاد العرب شبه مستعمرات لهذه الدول فأقدرهم الله عليها بعز الإسلام.

ثم ذكر أنه لو قاتلكم أهل مكة ولم يصالحوكم لانهزموا ولم يجدوا وليّا ولا نصيرا يدافع عنهم، وتلك هي سنة الله من غلبة المؤمنين، وخذلان الكافرين، ثم امتنّ على عباده المؤمنين بأنه كفّ أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، فصان كلّا من الفريقين عن الآخر، وأوجد صلحا فيه خيرة للمؤمنين، وعافية لهم في الدنيا والآخرة.

الإيضاح

(وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا) أي وعدكم الله مغانم كثيرة من غنائم أهل الشرك إلى يوم القيامة، ولكن عجل لكم مغانم خيبر، وكف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي إلى الحديبية وخيبر قاله قتادة واختاره ابن جرير الطبري، لتشكروه ولتكون أمارة للمؤمنين يعلمون بها أن الله حافظهم وناصرهم على أعدائهم على قلة عددهم، وليهديكم صراطا مستقيما بانقيادكم لأمره، وموافقتكم رسوله ، ويزيدكم يقينا بصلح الحديبية وفتح خيبر.

روى إياس بن سلمة قال: حدثنى أبى قال: « خرجنا إلى خيبر مع رسول الله فجعل عمّى عامر يرتجز بالقوم ثم قال:

تالله لو لا الله ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبّت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا

فقال رسول الله : من هذا؟ قال: أنا عامر، قال: غفر لك ربك (وما استغفر لأحد إلا استشهد) قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له، يا نبي الله لو أمتعتنا بعامر، فلما قدمنا خيبر خرج قائدهم مرحب يخطر بسيفه ويقول:

قد علمت خيبر إني مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب

إذا الحرب أقبلت تلتهب

فبرز له عامر بن عثمان فقال:

قد علمت خيبر إني عامر شاكي السلاح بطل مغامر

فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، فرجع سيف عامر على نفسه، فقطع أكحله (الأكحل: عرق في اليد) فكانت فيها نفسه، قال فأتيت النبي وأنا أبكى فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر، فقال من قال ذلك؟ قلت ناس من أصحابك، قال من قال ذلك؟ بل له أجره مرتين، ثم أرسلنى إلى علي وهو أرمد وقال: لأعطينّ الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فأتيت عليّا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله فتفل في عينيه فبريء وأعطاه الراية فخرج مرحب وقال:

أنا الذي سمتني أمي مرحب شاكى السلاح بطل مجرّب

فقال علي كرم الله وجهه:

أنا الذي سمتنى أمي حيدره كليث غابات كريه المنظرة

أكيلكم بالسيف كيل السّندره 5 قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه ».

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها) أي ووعدكم الله فتح بلاد أخرى لم تقدروا عليها، قد حفظها لكم حتى تفتحوها، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها كفارس والروم، أقدركم عليهم بعز الإسلام وقد كنتم قبل ذلك مستضعفين أمامهم لا تستطيعون دفعهم عن أنفسكم.

(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) أي وكان الله على كل ما يشاء من الأشياء ذا قدرة لا يتعذر عليه شيء.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) يقول سبحانه مبشرا عباده المؤمنين بأنه لوناجزهم المشركون لنصرهم عليهم ولا نهزم جيش الكفر فارّا مدبرا لا يجد وليّا يتولى رعايته ويكلؤه ويحرسه، ولا نصيرا يساعده، لأنه محارب لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين.

(سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) أي هذه هي سنة الله في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله المؤمنين على الكافرين ورفع الحق ووضع الباطل كما نصر يوم بدر أولياءه المؤمنين على قلة عددهم وعددهم، وكثرة المشركين وكثرة عددهم.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي إن الله كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله بالحديبية يلتمسون غرّتهم ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله سريّة، فأتى بهم أسرى، ثم خلى سبيلهم ولم يقتلهم منة منه وفضلا.

روى أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي في آخرين عن أنس قال: « لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من جبل التنعيم (التنعيم: موضع بين مكة وسرف) فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية: « وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ » إلخ.

وروى أحمد عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنهما قال: « كنا مع رسول الله في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله ، وكان علي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله لعلي رضي الله عنه - اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف. قال اكتب باسمك اللهم - وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابّا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله . هل جئتم في عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا لا، فخلّى سبيلهم فأنزل الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية.

(وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) أي وكان الله بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم ومجازيهم بها.

[سورة الفتح (48): الآيات 25 الى 26]

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

تفسير المفردات

الهدى: ما يقدّم قربانا لله حين أداء مناسك الحج أو العمرة، معكوفا: أي محبوسا تقول عكفت الرجل عن حاجته: إذا حبسته عنها، محله: أي المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو مني، والوطء: الدوس، والمراد به الإهلاك.

وفي الحديث « اللهم اشدد وطأتك على مضر »، والمعرة: المكروه والمشقة، من عرّه إذا عراه ودهاه بما يكره والتنزيل: التفرق والتميز، والحميّة: الأنفة، يقال حميت من كذا حميّة إذا أنفت منه وداخلك منه عار، والمراد بها ثوران القوة الغضبية، وحمية الجاهلية: حمية في غير موضعها لا يؤيدها دليل ولا برهان، وكلمة التقوى هي: لا إله إلا الله، وأهلها: أي المستأهلين.

المعنى الجملي

بعد أن أبان فيما سلف أن الله كف أيدي المؤمنين عن الكافرين، وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين - عيّن هنا مكان الكف وهو البيت الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه، ومنعوا الهدى معكوفا أن يبلغ محله، والسبب الذي لأجله كفوهم هو كفرهم بالله، ثم أخبرهم بأنه لو لا أن يقتلوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لا علم لهم بهم فيلزمهم العار والإثم - لأذن لهم في دخول مكة، ولقد كان الكف ومنع التعذيب عن أهل مكة ليدخل الله في دين الإسلام من يشاء منهم بعد الصلح وقبل دخولها، وليمنعنّ الأذى عن المؤمنين منهم، ولو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما بالقتل والسبي حين جعلوا في قلوبهم أنفة الجاهلية التي تمنع من الإذعان للحق، ولكن أنزل الله الثبات والوقار على رسوله وعلى المؤمنين فامتنعوا أن يبطشوا بهم، وألزمهم الوفاء بالعهد وكانوا أحق بذلك من غيرهم إذ اختارهم الله لدينه وصحبة نبيه.

روي أنه لما همّ رسول الله بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع في عامه على أن تخلى قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام فأجابهم وكتبوا بينهم كتابا، فقال عليه الصلاة السلام لعلي ورضي الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا لا نعرف هذا: اكتب باسمك الله، ثم قال عليه السلام: اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة، فقالوا كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة، فقال اكتب ما يريدون، فهمّ المؤمنون أن يأبوا ذلك وأن يبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم فتوقّروا واحتملوا كل هذا

، وقد تقدم ذلك برواية أخرى.

الإيضاح

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي هم الذين جحدوا توحيد الله وصدوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام وصدوا الهدى محبوسا أن يبلغ محلّ نحره وهو الحرم عنادا منهم وبغيا، وكان رسول الله ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولو لا هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم - وهم بين أظهرهم - لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات من لا تعرفونهم حين القتل، ولو قتلتموهم للحقتكم المعرة والمشقة، بما يلزمكم في قتلهم من كفارة وعيب.

والخلاصة - إنه لو لا وجود مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم - لوقع ما كان جزاءهم لصدهم وكفرهم، ولو حصل ذلك لزمكم العيب إذ يقول المشركون إن المسلمين قتلوا أهل دينهم.

(لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي وقد حال بينكم وبين قتالهم لدخول مكة: إخراج المؤمنين من بين أظهرهم، وليدخل في ذينه من يشاء منهم قبل أن تدخلوها.

عن أبي جمعة جنيد بن سبع قال: « قاتلت رسول الله أول النهار كافرا وقاتلت معه آخر النهار مسلما، وفينا نزلت: ولو لا رجال إلخ. وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين »، وفى رواية ابن أبي حاتم: « كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة » أخرجه الطبراني وأبو يعلى وابن مردويه.

(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا) أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم قتلا ذريعا.

ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب بيّن وقته فقال:

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم أنفة الجاهلية، فامتنع سهيل بن عمرو أن يكتب في كتاب الصلح الذي بين رسول الله والمشركين (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن يكتب فيه (محمد رسول الله) وامتنع هو وقومه أن يدخل رسول الله عامه هذا المسجد الحرام، فأنزل الله الصبر والطمأنينة على رسوله، ففهم عن الله مراده وجرى على ما يرضيه، وأنزله على المؤمنين فألزمهم أمره وقبلوه، وحماهم من همزات الشياطين، وألزمهم كلمة التوحيد والإخلاص لله في العمل، وكانوا أحق بها، وكانوا أهلها، إذ هم أهل الخير والصلاح.

(وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) سواءا كان من المؤمنين أم من الكفار فيجازى كلا بما عمل.

[سورة الفتح (48): الآيات 27 الى 28]

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

تفسير المفردات

الرؤيا: هي رؤيا منام وحلم، وصدق الله رسوله الرؤيا: أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه، محلقين رءوسكم ومقصرين: أي يحلق بعضكم ويقصّر بعض آخر بإزالة بعض الشعر، ليظهره على الدين كله: أي ليعليه على سائر الأديان حقها وباطلها، وأصل الإظهار جعل الشيء باديا ظاهرا للرائى ثم شاع استعماله في الإعلاء.

المعنى الجملي

رأى عليه الصلاة والسلام في المنام. وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين، منهم من يحلق ومنهم من يقصر، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة عامهم هذا، فلما انصرفوا لم يدخلوا شق ذلك عليهم، وقال المنافقون: أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا في العام المقبل.

ومما روي « أن عمر بن الخطاب قال: أتيت النبي فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال بلى، قلت فلم نعطى الدنية في ديننا إذن؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر: أليس هذا نبي الله حقا؟ قال بلى، قلت ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال بلى. قلت فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه (سر على نهجه) فوالله إنه لعلى الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال بلى. قال فأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت لا، قال فإنك تأتيه وتطوف به ».

الإيضاح

(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) أي لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه البيت الحرام آمنين لا يخافون أهل الشرك، محلقا بعضهم ومقصرا بعضهم الآخر، فعلم جل ثناؤه ما لم تعلموا، وذلك هو علمه تعالى بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها هذا العام لوطئوهم بالخيل والرّجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك، فجعل من دون دخولهم المسجد فتحا قريبا هو صلح الحديبية وفتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر اليوم الموعود.

ثم أكد صدق الرسول في الرؤيا بقوله:

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الإسلام، ليبطل به المثل كلها بنسخ سائر الديانات، وإظهار فساد العقائد الزائفات، حتى لا يكون دين سواه.

ولما كان هذا وعدا لا بد من تحققه أعقبه بقوله:

(وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا) على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان كائن لا محالة.

وفي هذا تسلية له على ما وقع من سهيل بن عمرو، إذ لم يرض بكتابة « محمد رسول الله » وقال ما قال.

[سورة الفتح (48): آية 29]

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

تفسير المفردات

أشداء: واحدهم شديد، رحماء: واحدهم رحيم، فضلا: أي ثوابا، والسيماء والسيمياء من السومة (بالضم) وهي العلامة قال:

غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر

مثلهم: أي وصفهم العجيب الجاري مجرى الأمثال في الغرابة، والشطء: فروخ الزرع، وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه: أي جانبيه وجمعه أشطاء، وشطأ الزرع وأشطأ: إذا أخرج فراخه، وهو في الحنطة والشعير والنخل وغيرها، وآزره: أعانه وقوّاه وأصله من المؤازة وهي المعاونة، واستوى على سوقه: أي استقام على قصبه وأصوله، والسوق، واحدها ساق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الإسلام، ليعلى شأنه على سائر الأديان أردف هذا بيان حال الرسول والمرسل إليهم، فوصفهم بأوصاف كلها مدائح لهم، وذكرى لمن بعدهم، وبها سادوا الأمم، وامتلكوا الدول، وقبضوا على ناصية العالم أجمع، وهي:

(1) إنهم غلاظ على من خالف دينهم وناوأهم العداء، رحماء فيما بينهم.

(2) إنهم جعلوا الصلاة والإخلاص لله ديدنهم في أكثر أوقاتهم.

(3) إنهم يرجون بعملهم الثواب من ربهم والزلفى إليه ورضاه عنهم.

(4) إنّهم لهم سيمى يعرفون بها، فلهم نور في وجوههم، وخشوع وخضوع يعرفه أولو الفطن.

(5) إن الإنجيل ضرب بشأنهم المثل فقال: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

ذاك أنهم في بدء الإسلام كانوا قليلى العدد ثم كثروا واستحكموا وترقى أمرهم يوما قيوما حتى أعجب الناس بهم، فإن النبي قام وحده ثم قوّاه الله بمن معه كما يقوّى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتوالد منها.

الإيضاح

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) أي إن محمدا رسول الله بلا شك ولا ريب مهما أنكر المنكرون، وافترى الجاحدون.

(وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي إن صحابته الذين معه غليظة قلوبهم على الكفار، رقيقة قلوب بعضهم على بعض، لينة أنفسهم لهم، هينة عليهم.

ونحو الآية قوله: « فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ » وقوله: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً »

وفي الحديث « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر » وقوله « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه »

وعلى هذا جاء قوله:

حليم إذا ما الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهيب

(تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا) أي تراهم دائبين على الصلاة مخلصين لله محتسبين فيها الأجر وجزيل الثواب عنده طالبين رضاه عنهم « ورضوان من الله أكبر ».

(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي لهم سمت حسن وخشوع وخضوع يظهر أثره في الوجوه، ومن ثم قيل: إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.

روي عن عمر أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.

وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للناس كائنا ما كان ».

والخلاصة - إن كل ما يفعله المرء أو يتصوره يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله عز وجل ظاهره للناس.

ثم أخبر سبحانه أنه نوّه بفضلهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة فقال:

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي هذه الصفة التي وصفت لكم من صفات أتباع محمد هي صفتهم في التوراة.

(وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي إن أصحاب محمد يكونون قليلين ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون كزرع أخرج فراخه التي تتفرخ على جانبيه كما يشاهد في الحنطة والشعير وغيرهما، فيقوى ويتحول من الدقة إلى الغلط، ويستقيم على أصوله، فيعجب به الزراع لقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره.

والخلاصة - إن هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم وأعجب الناس.

روي أنس بن مالك أن النبي قال: « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ».

ثم بين أنه إنما جعلهم كذلك

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي إنه تعالى ثماهم وأكثر عددهم ليغيظ بهم الكفار، إذ يعتقدون أن الله متم نوره ولو أبى الجاحدون.

[ تنبيه ] هذه أوصاف الأمة الإسلامية أيام عزها، فانظر الآن وتأمل في تخاذلها وجهلها حتى أصبحت مثلا في الخمول والجهل، وأصبحت زرعا هشيما تذروه الرياح، فكيف يجتمع عصفه وتبنه؟

ولعل الله يبدل الحال غير الحال ويخضر الزرع بعد ذبوله، وتعود الأمة سيرتها الأولى مهيبة مرعية الجانب مخشية القوة.

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) أي وعد سبحانه هؤلاء الذين آمنوا بمحمد أن يغفر ذنوبهم ويجزل أجرهم بإدخالهم جنات النعيم، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل.

وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم السبق والفضل والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله « لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه (نصفه) » رضي الله عنهم وأرضاهم.

[خاتمة] هذه السورة آخر القسم الأول من القرآن الكريم وهو المطول، وسيأتي القسم الثاني، وهو المفصل.

خلاصة مقاصد هذه السورة

(1) بشارة النبي بالفتح وإعزاز دين الله.

(2) وعد المؤمنين ووعيد الكافرين والمنافقين.

(3) ذم المخلّفين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار.

(4) رضوان الله على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة، ووعده إياهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.

(5) البشرى بتحقق رؤيا رسول الله أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، وقد تمّ لهم ذلك في العام المقبل.

(6) وصف النبي والذين آمنوا معه بالرحمة والشدة.

(7) وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم.

سورة الحجرات

هي مدنية آيها ثماني عشرة، نزلت بعد سورة المجادلة.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه:

(1) ذكر في هذه قتال البغاة، وفى تلك قتال الكفار.

(2) إن السابقة ختمت بالذين آمنوا، وافتتحت هذه بهم.

(3) إن كلا منهما تضمن تشريفا وتكريما للرسول ولا سيما في مطلعيهما.

[سورة الحجرات (49): الآيات 1 الى 3]

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

تفسير المفردات

لا تقدموا: أي لا تتقدموا، من قولهم مقدمة الجيش لمن تقدم منهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا تقدّم بين يدي الإمام وبين يدي الأب: أي لا تعجل بالأمر دونه، وقيل إن المراد لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة، ورجّح هذا، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي: أي إذا كلمتموه ونطق ونطقتم فلا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، يغضون أصواتهم: أي يخفضونها ويلينونها، امتحن الله قلوبهم: أي طهّرها ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة والتنقية من كل غشّ.

المعنى الجملي

ذكرت سورة الفتح بعد سورة القتال لأن الأولى كالمقدمة والثانية كالنتيجة وذكرت هذه بعد الفتح، لأن الأمة إذا جاهدت ثم فتح الله عليها والنبي بينها، واستتبّ الأمر، وجب أن توضع القواعد التي تكون بين النبي وأصحابه، وكيف يعاملونه؟ وكيف يعامل بعضهم بعضا؟ فطلب إليهم ألا يقطعوا أمرا دون أن يحكم الله ورسوله به ولا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي ولا أن يجهروا له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض، لما في ذلك من الاستخفاف الذي قد يؤدى إلى الكفر المحبط للأعمال.

الإيضاح

أدب الله المؤمنين إذا قابلوا الرسول بأدبين: أحدهما فعل، وثانيهما قول، وأشار إلى أولهما بقوله:

(1) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يا أيها المؤمنون لا تعجلوا بالقضاء في أمر قبل أن يقضى الله ورسوله لكم فيه، إذ ربما تقضون بغير قضائهما، وراقبوا الله أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به، إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم.

وبنحو هذا أجاب معاذ بن جبل رضي الله عنه رسول الله حين بعثه إلى اليمن قال له « بم تحكم؟ قال بكتاب الله تعالى، قال فإن لم تجد، قال بسنة رسوله، قال فإن لم تجد، قال أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى رسوله » رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

فتراه قد أخر رأيه واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه لكان من المتقدمين بين يدي الله ورسوله.

والخلاصة - إنه طلب إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه، ولا يعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول الرسول أو أن يفعل، فلا يذبحوا يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح، ولا يصوم أحد يوم الشك وقد نهى عنه.

وأشار إلى ثانيهما بقوله:

(2) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) أي إذا نطق ونطقتم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، ولا تبلغوا بها وراء الحد الذي يبلغه، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام.

روى البخاري بسنده عن ابن أبي مليكة « أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أخبره أنه قدم ركب من تميم على النبي ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية. فكان أبو بكر بعدها لا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار، وما حدّث عمر النبي بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ».

ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي وإذا كلمتموه وهو صامت فإياكم أن تبلغوا به الجهر الذي يدور بينكم، أو أن تقولوا يا محمد، يا أحمد، بل خاطبوه بالنبوة مع الإجلال والتعظيم، خشية أن يؤدى ذلك إلى الاستخفاف بالمخاطب فتكفروا من حيث لا تشعرون.

ولما نزلت هذه الآية تخلف ثابت بن قيس عن مجلس رسول الله فدعاه إليه ، فقال يا رسول الله: لقد أنزلت هذه الآية وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك في أهل الجنة، فقال: رضيت ببشرى رسول الله ، لا أرفع صوتى على رسول الله أبدا، فأنزل الله:

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أيإن الذين ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة حتى طهرت وصفت بما كابدت من الصبر على المشاقّ، لهم مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم لغضهم أصواتهم ولسائر طاعاتهم.

روى أحمد في الزهد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر، يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهى المعصية ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهى المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه، إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

[سورة الحجرات (49): الآيات 4 الى 5]

إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

تفسير المفردات

من وراء الحجرات: أي من خارجها سواء كان من خلفها أو من قدامها، إذ أنها من المواراة وهي الاستتار، فما استتر عنك فهو وراء، خلفا كان أو قداما، فإذا رأيته لا يكون وراءك. ويرى بعض أهل اللغة أن وراء من الأضداد فتطلق تارة على ما أمامك، وأخرى على ما خلفك، والحجرات (بضم الجيم وفتحها وتسكينها) واحدها حجرة: وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ونحوه، والمراد بها حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام، وكانت تسعة لكل منهن حجرة من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، وكانت غير مرتفعة يتناول سقفها باليد، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله فبكى الناس لذلك. وقال سعيد بن المسيّب يومئذ: لوددت أنهم تركوها على حالها لينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التفاخر والتكاثر فيها.

المعنى الجملي

ذم الله تبارك وتعالى الذين ينادون رسول الله من وراء الحجرات وهو في بيوت نسائه كما يفعل أجلاف الأعراب، ثم أرشدهم إلى ما فيه الخير والمصلحة لهم في دينهم ودنياهم، وهو أن ينتظروا حتى يخرج إليهم.

روى ابن جرير بسنده عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: « اجتمع ناس من العرب فقالوا انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش بجناحه، قال: فأتيت رسول الله فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرة النبي فجعلوا ينادونه وهو في حجرته يا محمد يا محمد، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال فأخذ رسول الله بأذنى فمدها وجعل يقول: لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد. لقد صدق الله قولك يا زيد ».

وقال قتادة: نزلت في وفد تميم وكانوا سبعين رجلا منهم الزّبرقان بن بدر وعطارد ابن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم، جاءوا إلى النبي للمفاخرة، فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا لزين، وإن ذمنا لشين، فخرج إليهم رسول الله وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمه شين، فقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله: ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه، فقال لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبي ، قم فأجبه فأجابه، وقام الزّبرقان بن بدر فقال:

نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع

إلى أن قال:

فلا ترانا إلى حي يفاخرهم إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع

فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه فيرجع القوم والأخبار تستمع

فقال رسول الله لحسان بن ثابت أجبه فقال:

إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بيّنوا سنة للناس تتّبع

يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وكل الخير يَصطنع

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجيّة تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلمْ شرُّها البدع

في قصيدة طويلة، فلما فرغ حسان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤتّى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم دنا من رسول الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله : ما يضرك ما كان من قبل هذا، ثم جوّزهم فأحسن جوائزهم.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي إن الذين ينادونك من وراء حجرات نسائك أكثرهم جهال بما يجب لك من الإجلال والتعظيم.

والمراد بالحجرات موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ) أي ولو أن هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات صبروا ولم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم عند الله، لأنه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك.

(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب إن هو تاب من معصيته بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك وفى غيره، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.

والخلاصة - إن الله سبحانه هجّن الصياح برسول الله في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول يكون صنيع مثل هؤلاء معه من المنكر الذي يبلغ من التفاحش مبلغا لا يقدر قدره.

[سورة الحجرات (49): الآيات 6 الى 8]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

تفسير المفردات

الفاسق: هو الخارج عن حدود الدين، من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره والتبين: طلب البيان، والنبأ: الخبر، قال الراغب: ولا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة وبه يحصل علم أو غلبة ظن بجهالة: أي جاهلين حالهم، فتصبحوا: أي فتصيروا، نادمين: أي مغتمّين غما لازما متمنين أنه لم يقع فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمنى عدم وقوعه، لعنتّم: أي لوقعتم في الجهد والهلاك، والكفر: تغطية نعم الله تعالى بالجحود لها، الفسوق: الخروج عن الحد كما علمت، والعصيان: عدم الانقياد، من قولهم: عصت النواة: أي صلبت واشتدت، والرشاد: إصابة الحق واتباع الطريق السوي.

المعنى الجملي

أدب الله عباده المؤمنين بأدب نافع لهم في دينهم ودنياهم - أنه إذا جاءهم الفاسق المجاهر بترك شعائر الدين بأيّ خبر، لا يصدقونه بادى ذي بدء حتى يتثبتوا، ويتطلبوا انكشاف الحقيقة ولا يعتمدوا على قوله، فإن من لا يبالى بالفسق لا يبالى بالكذب الذي هو من فصيلته - كراهة أن يصيبوا بأذى قوما هم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم، وتتمنوا أنه لو لم يكن قد وقع.

روي عن ابن عباس « أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان قد بعثه رسول الله إلى بنى المصطلق ليأخذ الصدقات، فلما أتاهم الخبر فرحوا به وخرجوا يستقبلونه، فلما حدّث بذلك الوليد حسب أنهم جاءوا لقتاله.

فرجع قبل أن يدركوه وأخبر رسول الله أنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله غضبا شديدا، وبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا يا رسول الله: إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أنه إنما رده كتاب جاء منك لغصب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية ». أخرجه أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

وقال ابن كثير: وهذا من أحسن ما روى في سبب نزول الآية.

وقال الرازي: هذه الرواية ضعيفة لأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع يراد به من خرج من ربقة الإيمان لقوله: « إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » اهـ.

ثم بين أن صحبه كانوا يريدون أن يتبع رأيهم في الحوادث، ولو فعل ذلك لوقعوا في العنت والهلاك، ولكن الله حبب إلى بعضهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وهؤلاء أهل الرشاد والسالكون الطريق السوي.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي يا أيها المؤمنون إن جاءكم الفاسق بأى نبإ فتوقفوا فيه وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قوله، فإن من لا يبالى بالفسق فهو أجدر ألا يبالى بالكذب ولا يتحاماه - خشية إصابتكم بالأذى قوما أنتم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك.

ثم وعظهم سبحانه بعظة هم أحرى الناس باتباعها فقال:

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) أي واعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم كما قال تعالى: « النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ».

ثم بين أن رأيه أنفع لهم وأجدر بالرعاية فقال:

(لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر وأجاب ما أشرتم به عليه من الآراء لوقعتم في الجهد والإثم، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه.

عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية وقال: هذا نبيكم يوحى إليه، وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا، فكيف بكم اليوم، أخرجه الترمذي.

ثم استدرك على ما سلف لبيان براءة بعضهم من أوصاف الأولين فقال:

(وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي ولكنّ جمعا منكم براء مما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم، لأن الله تعالى جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع في الأخبار، وكرّه إليهم هذه الأمور الثلاثة: الكفر والفسوق والعصيان.

والخلاصة - إن الإيمان الكامل إقرار باللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، فكراهة الكفر في مقابلة محبة الإيمان، وتزيينه في القلوب هو التصديق بالجنان، والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان، والعصيان في مقابلة العمل بالأركان.

(أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم السالكون طريق السعادة ولم يميلوا عن الاستقامة.

(فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) أي هذا العطاء الذي منحكموه تفضل منه عليكم وإنعام من لدنه.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية، حكيم في تدبير شئون خلقه وصرفهم فيما شاء من قضائه.

والخلاصة - إن رسول الله بين أظهركم وهو أعلم بمصالحكم، لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدّى ذلك إلى عنتكم ووقوعكم في مهاوى الردى، ولكنّ بعضا منكم حبّب إليهم الإيمان في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأولئك هم الذين أصابوا الحق، وسلكوا سبيل الرشاد.

[سورة الحجرات (49): الآيات 9 الى 10]

وإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

تفسير المفردات

الطائفة: الجماعة أقل من الفرقة بدليل قوله: « فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ » فأصلحوا بينهما: أي فكفوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب، بغت: أي تعدّت وجارت، تفيء: أي ترجع، وأمر الله: هو الصلح، لأنه مأمور به في قوله: « وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ » فأصلحوا بينهما بالعدل: أي بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات بحيث يكون الحكم عادلا حتى لا يؤدى النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى، وأقسطوا: أي واعدلوا في كل شأن من شئونكم وأصل الإقساط: إزالة القسط (بالفتح) وهو الجور، والقاسط: الجائز كما قال: « وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا »

والإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، واحدهم أخ، وقد جعلت الأخوّة في الدين كالأخوّة في النسب وكأن الإسلام أب لهم قال قائلهم:

أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم

المعنى الجملي

بعد أن حذر سبحانه المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق - بين هنا ما ربما ترتب على خبره من النزاع بين فئتين وقد يئول الأمر إلى الاقتتال، فطلب من المؤمنين أن يزيلوا ما نتج من كلامه، وأن يصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى ترجع إلى الصلح بدفعها عن الظلم مباشرة إن أمكن، أو باستعداء الحاكم عليها، وإن كان الباغي هو الحاكم فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها بشرط ألا تثير فتنة أشدّ من الأولى.

ثم تمم الإرشاد وأبان أن الصلح كما يلزم بين الفئتين - يجب بين الأخوين، ثم أمرهم بتقوى الله ووجوب اتباع حكمه وعدم الإهمال فيه رجاء أن يرحمهم إذا هم أطاعوه ولم يخالفوا أمره.

روى قتادة أن الآية نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق، فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقى منك عنوة، لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى النبي فأبى أن يتّبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.

الإيضاح

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي وإن اقتتلت طائفتان من أهل الإيمان، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم الله والرضا بما فيه، سواء كان لهما أو عليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم الله وتعدت ما جعله الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى فقاتلوا التي تعتدى وتأبى الإجابة إلى حكمه حتى ترجع إليه وتخضع طائعة له.

(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم الله - فأصلحوا بينهما بالإنصاف والعدل حتى لا يتجدد بينهما القتال في وقت آخر.

ثم أمرهم سبحانه بالعدل في كل أمورهم فقال:

(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي واعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون، إن الله يحب العادلين في جميع أعمالهم ويجازيهم أحسن الجزاء.

وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: « انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قلت يا رسول الله: هذا نصرته ظالما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه ».

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للسعادة الأبدية، وفي الحديث: « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه ولا يخذله ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها، ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل ». وفي الصحيح أيضا: « إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله ».

ولما كانت الأخوة داعية إلى الإصلاح ولا بد - تسبب عن ذلك قوله:

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) في الدين كما تصلحون بين أخويكم في النسب.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) في كل ما تأتون وما تذرون، ومن ذلك ما أمرتم به من إصلاح ذات البين.

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي رجاء أن يرحمكم ربكم ويصفح عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه واتبعتم أمره ونهيه.

[سورة الحجرات (49): آية 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

تفسير المفردات

السخرية: الاحتقار وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، يقال سخر به وسخر منه، وضحك به ومنه، وهزىء به ومنه والاسم السخرية والسخرى (بالضم والكسر) وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه إذا غلظ فيه، أو على صنعته، أو على قبح صورته.

والقوم: شاع إطلاقه على الرجال دون النساء كما في الآية وكما قال زهير:

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

ولا تلمزوا أنفسكم: أي لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما، والمؤمنون كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه، والتنابز: التعاير والتداعي بما يكرهه الشخص من الألقاب، والاسم: الذكر والصيت، من قولهم:

طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن، فذكر أنه لا ينبغي أن يسخر منه ولا أن يعيبه بالهمز واللمز، ولا أن يلقبه باللقب الذي يتأذى منه، فبئس العمل هذا، ومن لم يتب بعد ارتكابه فقد أساء إلى نفسه وارتكب جرما كبيرا.

روي أن الآية نزلت في وفد تميم إذ كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي كعمار وصهيب وبلال وخبّاب وابن فهيرة وسلمان الفارسي وسالم مولى أبى حذيفة في آخرين غيرهم لما رأوا من رثاثة حالهم.

وروي أنها نزلت في صفيّة بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها: أتت رسول الله فقالت: « إن النساء يقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: هلّا قلت: أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد ».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) أي لا يهزأ ناس من المؤمنين بآخرين.

ثم ذكر العلة في ذلك فقال:

(عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) أي فقد يكون المسخور منهم خيرا عند الله من الساخرين كما جاء في الأثر « فربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله تعالى لأبرّه ».

فينبغي ألا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تتقحمه عينه لرثاثة حاله، أو لكونه ذا عاهة في بدنه، أو لكونه غير لبق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله تعالى.

(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) أي ولا يسخر نساء من نساء عسى أن يكون المسخور منهن خيرا من الساخرات، وأتى بالجمع في الموضعين، من قبل أن الأغلب في السخرية أن تكون في مجامع الناس، وكم من متلذذ بها، وكم من متألم منها.

روى الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي رجلا فقال: « ما يسرنى إني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا، قالت فقلت يا رسول الله إن صفية امرأة وقالت 6 بيدها هكذا تعني أنها قصيرة، فقال: لقد مزحت بكلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ».

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »

وفي هذا إيماء إلى أن المرء لا يقطع بمدح أحد أو عيبه كما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا منه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه، فالأعمال أمارات ظنية، لا أدلة قطعية.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة على وجه الخفية.

وفي قوله: « أنفسكم » تنبيه إلى أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، ومن ثم قال النبي : « المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى »

وقال عليه الصلاة والسلام: « يبصر أحدكم القذاة 7 في عين أخيه ويدع الجذع في عينه ».

وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر:

لا تكشفن من مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا عن مساويكا

واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب الذي يسوءه ويكرهه كأن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي، أو يا نصراني.

قال قتادة وعكرمة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: في بنى سلمة نزلت (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قدم رسول الله المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا واحدا باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه فنزلت. أخرجه البخاري في الأدب وأهل السنن وغيرهم.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب وراجع الحق، فنهى الله تعالى أن يعيّر بما سلف من عمله.

أما الألقاب التي تكسب حمدا أو مدحا وتكون حقّا وصدقا فلا تكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلى: أبو تراب، ولخالد سيف الله.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم في الإيمان واشتهارهم به.

وفي هذا إيماء إلى استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول بئس الصبوة بعد الشيخوخة أي معها.

(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها عقاب الله بعصيانهم إياه.

[سورة الحجرات (49): آية 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

تفسير المفردات

اجتنبوا: أي تباعدوا، وأصل اجتنبته: كنت منه على جانب، ثم شاع استعماله في التباعد اللازم له، والإثم: الذنب، والتجسس: البحث عن العورات والمعايب والكشف عما ستره الناس، والغيبة: ذكر الإنسان بما يكره في غيبته، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي « أن النبي قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه ».

المعنى الجملي

أدب الله عباده المؤمنين بآداب إن تمسكوا بها دامت المودة والوئام بينهم: منها ما تقدم قبل هذا، ومنها ما ذكره هنا من الأمور العظام التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإسلامي قوة وهي:

(1) البعد عن سوء الظن بالناس وتخوّنهم في كل ما يقولون وما يفعلون، لأن بعض ذلك قد يكون إثما محضا فليجتنب كثير منه، وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا.

(2) البحث عن عورات الناس ومعايبهم.

(3) عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون في غيبتهم، وقد مثل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعا له.

قال قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة ممدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) أي يا أيها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلا، ففي الحديث « إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظن به ظن السوء ».

ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة، أما من يجاهر بالفجور كمن يدخل إلى الخانات أو يصاحب الغواني الفواجر فلا يحرم سوء الظن به.

أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيّب قال: كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول . أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظننّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرّض نفسه للتهم فلا يلومنّ إلا نفسه، ومن كتم سرّه كانت الخيرة في يده، وما كافأت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدّة عند عظيم البلاء، ولا تتهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون، ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.

ثم علل الأمر باجتناب كثير من الظن بقوله:

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي إن ظن المؤمن بالمؤمن الشرّ إثم، لأن الله قد نهاه عنه ففعله إثم. ونحو الآية قوله: « وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ».

قال ابن عباس في الآية: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءا اهـ.

ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال:

(وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره يبتغى بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمون من الخفايا.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: « إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام »

التجسس: البحث عما يكتم عنك، والتحسس: طلب الأخبار والبحث عنها، والتناجش: البيع على بيع غيرك (الزيادة عليه) والتدابر: الهجر والقطيعة.

وعن أبي برزة الأسلمى قال: قال رسول الله « يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في عقر بيته ».

وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله « ثلاث لازمات لأمتي: الطّيرة والحسد وسوء الظن، فقال رجل وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال : إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت فامض ».

وقال عبد الرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة، إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب، فما ترى؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى: « وَلا تَجَسَّسُوا » وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم.

وقال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس. فخرج عمر وتركه.

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) أي ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته، والمراد بالذكر الذكر صريحا أو إشارة أو نحو ذلك مما يؤدى مؤدى النطق، لما في ذلك من أذى المغتاب، وإيغار الصدور وتفريق شمل الجماعات، فهي النار تشتعل فلا تبقى ولا تذر، والمراد بما يكره ما يكره في دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ملبسه أو غير ذلك مما يتعلق به.

قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله: الغيبة، والإفك، والبهتان.

(1) فأما الغيبة: فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه.

(2) وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه.

(3) وأما البهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه.

ولا خلاف بين العلماء في أن الغيبة من الكبائر وأن على من اغتاب أحدا التوبة إلى الله أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه.

وعن شعبة قال: قال لي معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت هذا أقطع كان غيبة، قال شعبة فذكرته لأبى إسحاق فقال صدق.

ثم ضرب سبحانه مثلا للغيبة للتنفير والتحذير منها فقال:

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) أي أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته؟ فإذا كنتم لا تحبون ذلك بل تكرهونه لأن النفس تعافه، فكذلك فاكرهوا أن تغتابوه في حياته.

والخلاصة - إنكم كما تكرهون ذلك طبعا فاكرهوا ذلك شرعا لما فيه من شديد العقوبة.

وقد شبهت بأكل اللحم لما فيها من تمزيق الأعراض المشابه لأكل اللحم وتمزيقه، وقد جاء هذا على نهج العرب في كلامهم. قال المقنّع الكندي:

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وقد زادت الآية فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعا.

سمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس، وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا.

وقال رجل للحسن البصري: بلغني أنك تغتابني، فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.

وقد ثبت في الصحيح من غير وجه أن النبي قال حين خطب في حجة الوداع: « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ».

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي فاكرهوا الغيبة، واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وراقبوه واخشوه.

ثم علل هذا بقوله:

(إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي إن الله يتوب على من تاب إليه عما فرط منه من الذنب، رحيم به أن يعذبه بعد توبته.

ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه، بأن يقلع عنها ويندم على ما فرط منه، ويعزم عزما مؤكدا على ألا يعود إلى مثل ما فرط منه.

ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا بها، وينحصر ذلك في ستة أمور:

(1) التظلم، فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه.

(2) الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.

(3) الاستفتاء، فيجوز للمستفتى أن يقول للمفتى: ظلمنى فلان بكذا فهل يجوز له ذلك.

(4) تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمتصدّين للافتاء مع عدم أهليتهم لذلك، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد التزوج أو مخالطة غيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفى، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين ذكر ذلك.

(5) أن يجاهروا بالفسق كالمدمنين على شرب الخمور وارتياد محالّ الفجور، ويتباهوا بما يفعلون.

(6) التعريف بلقب أو نحوه، كالأعور والأعمش ونحو ذلك إذا لم تمكن المعرفة بغيره.

والأمة مجمعة على قبح الغيبة وعظم آثامها مع ولوع الناس بها حتى إن بعضهم ليقولون: هي صابون القلوب، وإن لها حلاوة كحلاوة التمر، وضراوة كضراوة الخمر.

[سورة الحجرات (49): آية 13]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

تفسير المفردات

من ذكر وأنثى: أي من آدم وحواء، قال إسحاق الموصلي:

الناس في عالم التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حوّاء

فإن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء

والشعوب: واحدهم شعب (بفتح الشين وسكون العين) وهو الحي العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومضر، والقبيلة دونه كبكر من ربيعة، وتميم من مضر.

وحكى أبو عبيدة أن طبقات النسل التي عليها العرب سبع: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، وكل واحد منها يدخل فيما قبله، فالقبائل تحت الشعوب، والعمائر تحت القبائل، والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة (بفتح العين وكسرها) وقصي بطن، وعبد مناف فخذ، وهاشم فصيلة، والعباس عشيرة، وسمى الشعب شعبا لتشعب القبائل منه كتشعب أغصان الشجرة.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن السخرية بالناس والازدراء بهم، وعن اللمز والتنابز بالألقاب - ذكر هنا ما يؤكد النهى ويؤيد ذلك المنع، فبين أن الناس جميعا من أب واحد وأمّ واحدة، فكيف يسخر الأخ من أخيه؟ إلى أنه تعالى جعلهم شعوبا وقبائل مختلفة، ليحصل بينهم التعارف والتعاون في مصالحهم المختلفة، ولا فضل لواحد على آخر إلا بالتقوى والصلاح وكمال النفس، لا بالأمور الدنيوية الزائلة.

ذكر أبو داود أن الآية نزلت في أبى هند وكان حجام النبي قال: إن رسول الله أمر بنى بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله : نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: « إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ » الآية.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي إنا أنشأناكم جميعا من آدم وحواء، فكيف يسخر بعضكم من بعض، ويلمز بعضكم بعضا وأنتم إخوة في النسب، وبعيد أن يعيب الأخ أخاه أو يلمزه أو ينبزه.

وعن أبي مليكة قال: لما كان يوم فتح مكة رقى بلال فأذّن على ظهر الكعبة فقال عتّاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبى حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره، فأتى جبريل النبي وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله الآية زجرا لهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء، وبين أن الفضل بالتقوى.

وروى الطبري قال: « خطب رسول الله بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمى، ولا لعجمى على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب ».

وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله : « إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم ».

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) أي للتعارف لا للتناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضى إلى ذلك.

ثم ذكر سبب النهي عن التفاخر بالأنساب بقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) أي إن الأكرم عند الله الأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى، فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى، فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها.

روى ابن عمر رضي الله عنهما « أن النبي خطب الناس يوم فتح مكة وهو على راحلته فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقى كريم على الله، ورجل فاجر شقى هيّن على الله تعالى، إن الله عز وجل يقول: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) ثم قال: أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن الله عليم بكم وبأعمالكم، خبير بباطن أحوالكم، فاجعلوا التقوى زادكم لدى معادكم.

[سورة الحجرات (49): الآيات 14 الى 18]

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

تفسير المفردات

الأعراب: سكان البادية، آمنّا: أي صدقنا بما جئت به من الشرائع، وامتثلنا ما أمرنا به، فالإيمان هو التصديق بالقلب. أسلمنا: أي انقدنا لك، ودخلنا في السّلم وهو ضد الحرب: أي فلسنا حربا للمؤمنين، ولا عونا للمشركين، لا يلتكم: أي لا ينقصكم، يقال: لاته يليته إذا نقصه، حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية « الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمّه الأصوات » يمنون عليك: أي يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة، وأسدى إليك نعمة.

المعنى الجملي

بعد أن حثّ الناس على التقوى - وبّخ من في إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم وغلة، لأنهم كانوا يريدون المغانم وعرض الدنيا، إذ جاءوا في سنة مجدبة، وكانوا يقولون لرسوله : جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون بذكر ذلك الصدقة والمنّ على النبي ، فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم، وأنهم لم يؤمنوا إيمانا حقيقيا، وهو الذي وافق القلب فيه اللسان، وأمرهم أن يقولوا: استسلمنا وخضعنا، ثم أخبرهم بأنهم إن اتقوا الله حق تقاته وفّاهم أجورهم كاملة غير منقوصة، ثم بين أن من علامة الإيمان الكامل التضحية بالنفس والمال في سبيل الله ببذلهما في تقوية دعائم الدين وإعلاء شأنه وخضد شوكة العدو بكل السبل الممكنة، ثم أعقب هذا بأن الله يعلم ما هم عليه من إيمان ضعيف

أو قوى إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يمتنّ على الرسول بإيمانه، بل من حق الرسول أن يمتنّ عليه بأن وفّق للهداية على يديه إن كان صادق الإيمان. ثم ختم الآيات بالإخبار عن واسع علمه، وإحاطته بمكنون سرّ خلقه في السموات والأرض لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، وهو البصير بما يعمل عباده من خير أو شر، قال مجاهد: نزلت في أعراب من بنى أسد بن خزيمة (وكانوا يجاورون المدينة) قدموا على رسول الله وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين حقّا.

وقال السّدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا.

الإيضاح

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) أي قالت الأعراب: صدقنا بالله ورسوله ونحن له مؤمنون فردّ الله عليهم مكذبا لهم مع عدم التصريح بذلك فقال:

(قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي قل لهم: إن الإيمان هو التصديق مع طمأنينة القلب والوثوق بالله ولم يحصل لكم بعد، بدليل أنكم مننتم على الرسول بترك مقاتلته، ولكن قولوا: انقدنا لك واستسلمنا، ولا ندخل معك في حرب، ولا نكون عونا لعدوك عليك.

وجاءت الآية على هذا الأسلوب، ولم يقل لهم كذبتم، ولكن قولوا أسلمنا، حملا له عليه السلام على الأدب في التخاطب ليتأسّى به أتباعه، فيلينوا لمن يخاطبونهم في القول.

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي قولوا أسلمنا فحسب، لأنه لم يدخل الإيمان في قلوبكم بعد، إذ لم يوافق القلب ما جرى به اللسان، ولم يكن لشرائع الدين ولا آدابه أثر في أعمالكم، فلم تتغذّ بها أرواحكم، ولم تصطبغ بهديها نفوسكم.

قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك هو الإيمان وصاحبه المؤمن اهـ.

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئًا) أي وإن تطيعوا الله ورسوله وتخلصوا له في العمل وتتركوا النفاق لا ينقص سبحانه من أجوركم شيئا، بل يضاعف ذلك أضعافا كثيرة.

ولما كان الإنسان كثير الهفوات مهما اجتهد - ذكر أنه غفور لزلاته فقال:

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه ستار للهفوات، غفار لزلات من تاب وأناب وأخلص لربه، رحيم به أن يعذبه بعد التوبة، بل يزيد في إكرامه، ويصفح عن آثامه.

ثم بين سبحانه حقيقة الإيمان بقوله:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي إنما المؤمنون حق الإيمان الذين صدقوا الله ورسوله، ثم لم يشكوا ولم يتزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه - أولئك هم الصادقون في قولهم: آمنا، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة، وقد دخلوا الملة خوفا من السيف، ليحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم.

ثم أكد ما سبق من قوله: لم تؤمنوا بقوله:

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟) أي قل لهم: أتخبرون الله بما في ضمائركم، وما تنطوى عليه جوانحكم من صادق الإيمان بقولكم: آمنا حقا.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يخفى عليه مثقال ذرة فيهما.

وفي هذا تجهيل وتوبيخ لهم لا يخفى أمره (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم فتنالكم عقوبته، إذ لا يخفى عليه شيء.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعدّون إسلامهم ومتابعتهم لك ونصرتهم إياك منّة يطلبون منك أجرها، فقد قالوا جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان.

ثم أمر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المنّ عليه بما يدّعونه من الإسلام فقال:

(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تعدوا إسلامكم الذي سميتموه إيمانا منة علي، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه، ومن ثم قال:

(بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل الله هو الذي يمن عليكم، إذ أمدكم بتوفيقه وهدايته للإيمان إن كنتم صادقين في إيمانكم.

وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان.

روي أن النبي قال للأنصار يوم حنين « يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل ».

والخلاصة - إن الله تعالى سمى ما كان منهم إسلاما وخضوعا لا إيمانا إظهارا لكذبهم في قولهم آمنا، ثم لما منّوا على رسول الله بما كان منهم قال سبحانه لرسوله:

أيعتدّون عليك بما ليس جديرا أن يعتد به من إسلامهم الذي سموه إيمانا وليس بذاك؟

بل الله هو الذي يعتد عليهم إيمانهم إن صدقوا، فهو قد أمدّهم بهديه وتوفيقه. ثم أعاد الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال:

(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إن الله يعلم ما غاب فيهما، وهو بصير بسركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه ما في ضمائركم.

وفي ذلك رمز إلى أنهم كاذبون في إيمانهم، وإعلان للنبي وأتباعه من المؤمنين بما في أنفسهم.

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة

مباحث هذه السورة قسمان: قسم بين النبي وأمته، وقسم يخص أمته وهو إما ترك للرذائل وإما تحلية بالفضائل. والقسم الأول هو:

(1) ألا يقضى المؤمنون في أمر قبل أن يقضى الله ورسوله فيه.

(2) الهيبة والإجلال لرسول الله ، وألا تتجاوز أصواتهم صوته.

(3) ألا يخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضهم بعضا، بل يخاطبونه بالنبي والرسول.

(4) إن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله أولئك هم المتقون.

(5) إن من نادوه من وراء الحجرات كعيينة بن حصن ومن معه أكثرهم لا يعقلون.

(6) ذمّ المنّ على الله ورسوله بالإيمان.

والقسم الثاني هو:

(1) ألا نسمع كلام الفاسق حتى نتثبّت منه وتظهر الحقيقة.

(2) إذا بغت إحدى طائفتين من المؤمنين على أخرى وجب قتال الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.

(3) حبب الله الصلح بين المؤمنين.

(4) النهي عن السخرية واللمز والتنابز.

(5) النهي عن سوء الظن بالمسلم وعن تتبع العورات المستورة وعن الغيبة والنميمة.

(6) الناس جميعا سواسية مخلوقون من ذكر وأنثى، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.

سورة ق

هي مكية إلا آية 38 فمدنية، وآيها خمس وأربعون، نزلت بعد المرسلات.

ومناسبتها لما قبلها - أنه أشار في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا، وذلك يقتضى إنكار النبوة وإنكار البعث، وافتتح هذه السورة بما يتعلق بذلك.

حدّث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة أنه عليه الصلاة والسّلام كان يقرأ هذه السورة في الركعة الأولى من صلاة الفجر.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي واقد الليثي « أنه كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت ».

وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام ابنة حارثة قالت « ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا من في رسول الله كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس ».

وكل ذلك دليل على أنه كان يقرأ بها في المجامع الكبيرة كالعيدين والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب.

[سورة ق (50): الآيات 1 الى 5]

بسم الله الرحمن الرحيم

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

تفسير المفردات

المجيد من المجد، وهو كما قال الراغب: السعة في الكرم من قولهم: مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع، وصف به القرآن لكثرة ما تضمنه من المكارم الدنيوية والأخروية، رجع بعيد: أي بعث بعد الموت بعيد عن الأوهام، ما تنقص الأرض: أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم، حفيظ: أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، بالحق: أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات، مريج: أي مضطرب من قولهم: مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال.

الإيضاح

(ق) تقدم أن قلنا غير مرة إن الحروف المفردة. التي جاءت في أوائل السور حروف لتنبيه السامع إلى ما يرد بعدها، وأكثر ما جاء ذلك إذا ورد بعدها وصف القرآن كما هنا.

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أقسم الله سبحانه بكتابه الكثير الخير والبركة - إنك أيها الرسول جئتهم منذرا بالبعث، يدل على ذلك قوله تعالى « يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - إلى أن قال - لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ».

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي إنك جئتهم منذرا بالبعث، فلم يقبلوا ولم يكتفوا بالشك في أمرك وردّ رسالتك، بل جزموا بنفيها، وجعلوها من عجائب الأمور التي تستحق الدهشة، وكثير التأمل والاعتبار.

ثم فسر تعجبهم وفصّل محل التعجب وهو إنذاره بالقرآن فقال:

(فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي فقال المكذبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم: هذا شيء عجيب، أي إن مجىء رجل منا برسالة من الله إلينا أمر عجيب، هلا أنزل إلينا ملكا فيكون لنا نذيرا، كما حكى عنهم من قولهم: « أَبَشَرًا مِنَّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ » وقوله حكاية عنهم « قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ».

وبعد أن أظهروا التعجب من رسالته أظهروا استبعاد ما جاء به فقالوا:

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما يقول النذير؟ إن ذلك الرجوع بعد الموت لبعيد عن الأوهام، لا يصدّقه العقل وتحيله العادة.

ثم أشار إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه فقال:

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي قد علمنا ما تأكل الأرض من لحوم موتاهم وعظامهم، ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان، وأين ذهبت، وإلى أين صارت؟ فلا يصعب علينا البعث ولا يستبعد.

ثم أكد علمه بجميع الأشياء فقال:

(وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، وهذا تمثيل لحال علمه تعالى للكائنات جميعا علما كاملا بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء، فيضبط ما يعلم أتم الضبط ويحصيه أكمل الإحصاء.

ثم حكى عنهم ما هو أفظع من تعجبهم وهو تكذيبهم بالنبوة الثابتة بالمعجزات من أول وهلة بلا تدبر ولا تفكر فقال:

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي بل كذبوا، بالنبوة التي قامت الأدلة على صدقها وأيدتها المعجزات الباهرة، وهم إذا كذبوا بها فقد كذبوا بما أنبأ به الرسول من البعث وغيره، ولا شك أن هذا الإنكار أعظم جرما وأشد بلية من الإنكار بما جاء به الرسول، إذ به أنكروا الصلة الروحية بين الله ومن يصطفيه من خلقه من ذوي النفوس الصافية، وأرباب الأرواح العالية.

(فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي فهم في قلق واضطراب، فتارة ينفون الرسالة عن البشر، وأخرى يزعمون أنها لا تليق إلا بأهل الجاه والرياسة كما ينبئ بهذا قولهم: « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » وثالثة يقولون: إنها سحر أو كهانة، إذ قالوا للنبي : ساحر أو كاهن إلى نحو ذلك من أقاويلهم التي تدل على اضطراب في الأمر، وقلق في الفكر، فهم لا يدرون ما ذا يفعلون حين جاءهم النذير الذي أقضّ مضاجعهم، وجعلهم حيارى دهشين، إلام هم صائرون؟ وإلى أي منقلب ينقلبون؟

[سورة ق (50): الآيات 6 الى 11]

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)

تفسير المفردات

بنيناها: أي أحكمنا بناءها، فجعلناها بغير عمد، وزيناها: أي بالكواكب، فروج: أي شقوق، مددناها: أي بسطناها، رواسي: أي جبالا ثوابت تمنعها من الميد والاضطراب، زوج: أي صنف، بهيج: أي ذي بهجة وحسن، تبصرة وذكرى: أي تبصيرا وتذكيرا، منيب: من أناب إذا رجع وخضع، حب الحصيد: أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير، باسقات: أي طويلات، والطلع ما ينمو ويصير بلحا ثم رطبا ثم تمرا، ونضيد: أي منضود بعضه فوق بعض، الخروج: أي من القبور.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنهم استبعدوا البعث فقالوا رجع بعيد - أردف ذلك الدليل الذي يدحض كلامهم، فإن من خلق السماء وزينها بالكواكب، وبسط الأرض وجعل فيها رواسي وأنبت فيها صنوف النبات، وجعل ذلك تذكرة وتبصرة لأولى الألباب، ونزل من السماء ماء فأنبت به ناضر الجنان، والزرع المختلف الأصناف والألوان، والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقا لعباده، وأحيا به الأرض الموات - أفلا يستطيع من هذا شأنه أن يخرج الناس من قبورهم بعد بلاهم، وبعد أن يصيروا عظاما ورفاتا، وينشئهم خلقا آخر في حياة أخرى وعالم غير هذا العالم؟

الإيضاح

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد البلى - إلى السماء فوقهم كيف رفعناها بلا عمد، وزيناها بالكواكب ومالها من فتوق، فهي ملساء متلاصقة الطباق، وهذا هو الرأي الحديث في عالم السموات، إذ يقولون: إن هناك عالما لطيفا أرق من الهواء وألطف من كل ما نراه وهو مبدأ كل شيء وأول كل شيء وهو العالم المسمى بالأثير، وهذا العالم وإن لم يره الناس فقد عرفوه من وصول أضواء الكواكب إلينا، فإن من الكواكب ما لا يصل ضوءه إلينا إلا فيما يزيد على ألف ألف سنة، ونور الشمس (التي تبعد عنا مقدار سير القطار إليها لو أمكن في نحو خمس ستين وثلاثمائة سنة) يصل إلينا في مدة ثمان دقاق وثماني عشرة ثانية.

فانظر كيف يكون بعد تلك الكواكب التي تحتاج بسير النور إلى مليون سنة ونصف مليون ألا يدل هذا على أن ذلك الضوء محمول على شيء موجود وهو الأثير فلو أن طبقة من الطبقات لم يكن فيها الأثير لا نقطع سير النور إلى الأرض ولم نره.

وهذا ما يشير إليه الكتاب بقوله « وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ » فلو كان هناك فروج تتخلل السموات لا نقطع سير النور إلينا.

وآراء الجهلة في كل أمة أن كل سماء منفصلة عن الأخرى وبينهما فضاء كما يظن لأول وهلة فيما بيننا وبين السماء، فجاء الكتاب الكريم وعكس هذه القضية وقال لا فروج في السماء أي لا خلاء في العالم.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي والأرض بسطناها وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد وتضطرب، وأنبتنا فيها من كل صنف من صنوف النبات ما حسن منظره، وراق مخبره.

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي فعلنا ذلك لتبصرة العبد المنيب وادكاره فإن رفعنا السماء، أو زيناها بالكواكب فلاستبصاره، وإن بسطنا الأرض أو أرسيناها بالجبال أو أنبتنا النبات زينة للأرض فلاعتباره.

ثم شرع يبين كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج فقال:

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي ونزلنا من السماء ماء كثير المنافع، إذ أنبتنا به جنات غناء، وحدائق فيحاء، وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالشعير والقمح وغيرهما.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقًا لِلْعِبادِ) أي وأنبتنا به النخل الطوال التي لها طلع منضود متراكم بعضه فوق بعض، لأقوات العباد وأرزاقهم.

عن قطبة قال: « سمعت النبي يقرأ في الصبح ق فلما أتى على هذه الآية - والنّخل باسقات - فجعلت أقول ما بسوقها؟ قال طولها » أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه.

ولم يقيد هنا العباد بالإنابة كما قيد به في قوله: « تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ » لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب، والرزق يعم كل أحد، غير أن المنيب يأكل ذاكرا وشاكرا للإنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام، ومن ثم لم يخصص الرزق بقيد.

(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) أي وأحيينا بذلك الماء الأرض المجدبة التي لا نبات فيها فتربو وتنبت من كل زوج بهيج.

ثم جعل ما سلف كالدليل على البعث لأنه شبيه به فقال:

(كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي ومثل هذه الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور.

وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث: وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه لأفهام الناس.

[سورة ق (50): الآيات 12 الى 15]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

تفسير المفردات

الرس: البئر التي لم تطو أي لم تبن، وأصحابه هم من بعث إليهم شعيب عليه الصلاة والسلام، والأيكة: الغيضة الملتفة الشجر، تبّع: هو تبع الحميري، والعي عن الأمر. العجز عنه: قال الكسائي تقول أعييت من التعب، وعييت من العجز عن الأمر وانقطاع الحيلة، ولبس: أي شك شديد وحيرة واختلاط.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر تكذيب المشركين للرسول - أردف ذلك ذكر المكذبين للرسل من قبله وبيان ما آل إليه أمرهم، تسلية لرسوله وعبرة لهم، وتنبيها إلى أن حاله معهم كحال من تقدمه من الرسل كذّبوا فصبروا فأهلك الله مكذبيهم ونصرهم وأعلى كلمتهم كما قال: « وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ » وقال: « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ».

ثم ذكر الدليل على البعث الذي أنكرته الأمم التي كذبت رسلها بأن من خلق العالم بادىء ذي بدء فهو على إعادته أقدر.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ. وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ. وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) هدد سبحانه كفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم من المكذبين قبلهم من النقم والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فقد أغرق قوم نوح بالطوفان، وأهلك جميع من ذكروا بعدهم من الأمم التي كذبت رسلها بضروب شتى من العذاب، وحق عليهم وعيده، ونصر رسله، وأعلى كلمتهم وكانت العاقبة لهم كما قال (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) وقد تقدمت هذه القصص في مواضع متفرقة من الكتاب الكريم.

ثم ذكر ما يؤكد صحة البعث فقال:

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى يشكّوا في الإعادة؟ أي إن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل من الابتداء، فلا حق لهم في تطرق الشبهة إليهم والشك فيه، كما قال: « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » وقال: « وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ » وجاء في الحديث القدسي: « يقول الله تعالى: يؤذينى ابن آدم يقول لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ».

[سورة ق (50): الآيات 16 الى 22]

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

تفسير المفردات

الوسوسة: الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي والمراد بها هنا حديث النفس وما يخطر بالبال من شتى الشئون، وحبل الوريد: عرق كبير في العنق، وللانسان وريدان مكتنفان بصفحتى العنق في مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه، وقعيد: بمعنى مقاعد كالجليس بمعنى المجالس، والرقيب: ملك يرقب قوله ويكتبه، فإن كان خيرا فهو صاحب اليمين، وإن كان شرا فهو صاحب الشمال، عتيد: أي مهيأ لكتابة ما يؤمر به من الخير والشر، سكرة الموت: شدته، بالحق: أي بحقيقة الحال، تحيد: أي تميل وتعدل، يوم الوعيد: أي يوم إنجاز الوعيد، السائق والشهيد: ملكان أحدهما يسوق النفس إلى أمر الله، والآخر: يشهد عليها بعملها، والغطاء: الحجاب المغطى لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في اللذات وقصر النظر عليها، حديد: أي نافذ، لزوال المانع للابصار.

المعنى الجملي

بعد أن استدل على إمكان البعث بقوله: أفعيينا بالخلق الأوّل - أردف ذلك دليلا آخر على إمكانه وهو علمه بما في صدورهم وعدم خفاء شيء من أمرهم عليه، فإن من كان كذلك لا يبعد أن يعيدهم كرة أخرى، ثم أخبر بأنهم سيعلمون بعد الموت أن ما جاء به الدين حق لا شك فيه، وأنه يوم القيامة تأتى كل نفس ومعها ملكان أحدهما سائق لها إلى المحشر والثاني شهيد عليها، وأن الخزنة سيقولون لأهل النار: لقد كنتم في غفلة عن حلول هذا اليوم الذي توفّى فيه كل نفس جزاء ما عملت، والآن أزلنا عنكم هذه الغفلة فأبصرتم عاقبة أمركم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي إنه تعالى قادر على بعث الإنسان، لأنه خالقه وعالم بجميع أموره حتى إنه ليعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر ولا عقاب على حديث النفس.

وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: « إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل ».

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي ونحن أعلم به وبخفيات أحواله لا يخفى علينا شيء من أمره، من علمكم بحبل الوريد، لأن العرق تحجبه أجزاء من اللحم، وعلم الله لا يحجب عنه شيء.

أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي قال « نزل الله من ابن آدم أربع منازل، هو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصية كل دابة، وهو معهم أينما كانوا ».

قال القشيري: في هذه الآية - هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.

ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال:

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي نحن أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به، مع أننا أغنياء عن استحفاظ الملكين لشدة قربنا منه.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد أي مقاعد ومجالس له يترصد ما يقول ويعمل، فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات.

قال الحسن وقتادة: المتلقيان ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك.

ثم ذكر عملهما واستعدادهما لأدائه فقال:

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي لا يلفظ بكلمة من فيه إلا لديه ملك حاضر معه مراقب لأعماله، يكتب ما فيه ثوابه أو عقابه.

قال الحسن البصري وتلا هذه الآية: « عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ » يا بن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا » ثم قال: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.

وروى أبو أسامة أن رسول الله قال: « كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر ».

والحكمة في هذا أن الله لم يخلق الناس لتعذيبهم، بل خلقهم لتربيتهم وتهذيبهم، فكل ألم فهو لرقي النفس. والعالم المادي من طبعه أن يكون نفعه أكثر من ضره، والله تعالى خلقنا لغاية شريفة لنا، والحسنات هي الأصل والسيئات عارضة كما أن المنافع في الطبيعة هي الأصل والمضارّ عارضة، فالنار خلقت لنفعه، والماء لنفعه، والهواء لنفعه فإذا أحرق ثوب الناسك، أو أغرق رب صبية لا عائل لهم، فهذا عارض، والأصل في ذلك المنافع، وهكذا خلق نوع الإنسان للخير، والشر عارض، ولفعل الحسنات، والسيئات عارضة.

وبعد أن ذكر استبعادهم البعث للجزاء، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، أعلمهم بأنهم يلاقون صدق ذلك حين الموت وحين قيام الساعة فقال:

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) أي وكشفت لك سكرة الموت عن اليقين الذي كنت تمترى فيه، وأن البعث لا شك فيه.

(ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي ذلك الحق الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص.

ولما ثقل أبو بكر جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بقول حاتم:

لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فكشف رضي الله عنه عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: « وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ».

وفي الصحيح « أن النبي لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: سبحان الله، إن للموت لسكرات ».

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي ونفخ في الصور نفخة البعث، وذلك الزمان العظيم الأهوال هو اليوم الذي أوعد الله الكفار أن يعذبهم فيه.

وفي الحديث أن رسول الله قال: « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له؟ قالوا يا رسول الله ماذا نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل ».

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي وجاءت في هذا اليوم كل نفس ربها ومعها سائق يسوقها إليه، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن هذا الذي عاينت من الأهوال والشدائد، فجلّينا ذلك لك، وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته، فزالت عنك هذه الغفلة.

وقد جعل سبحانه الغفلة غطاء غطّى به الجسد كله، أو غشاوة غشّى بها عينيه فلا يبصر شيئا، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فأبصر ما لم يكن يبصره من الحق.

[سورة ق (50): الآيات 23 الى 30]

وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

تفسير المفردات

القرين: هو الملك الموكّل بالمرء، عتيد: أي معدّ محضر، عنيد: أي مبالغ في العناد وترك الانقياد للحق، مناع للخير: أي كثير المنع للمال في الحقوق المفروضة عليه، معتد: أي متجاوز للحق ظالم، مريب: أي شاكّ في الله وفى دينه، القرين هنا: الشيطان المقيّض له، بعيد: أي من الحق، لا تختصموا لدي: أي لا يجادل بعضكم بعضا عندي، بالوعيد: أي على الطغيان في دار الدنيا في كتبى وعلى ألسنة رسلي، ما يبدل القول لدى: أي لا يقع فيه الخلف والتغيير فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي، مزيد: زيادة.

الإيضاح

(وَقالَ قَرِينُهُ: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي وقال الملك الموكل به: هذا الذي وكلتني به من بنى آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله.

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ) أي قال تعالى للسائق والشهيد: ألقيا في جهنم كل من كفر بالله، أو أشرك به معبودا سواه من خلقه أو كذب الحق وعارضه بالباطل، ومنع الحقوق المفروضة عليه، واعتدى الناس بلسانه بالبذاء والفحش، وبيده بالسطوة والبطش ظلما.

ثم كرر ما سلف توكيدا فقال:

(فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي فألقياه في النار ذات العذاب الشديد.

(قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي قال الكافر معتذرا: رب إن قرينى من الشياطين أطغانى، فقال الشيطان المقيّض له: ربنا ما أطغيته، ولكن كان طبعه وديدنه الضلال والبعد عن الحق، فسار على النهج الذي يشاكل أخلاقه.

وخلاصة ذلك - إنه في ضلال بعيد المدى لا يرجع عنه إلى الحق.

ونحو الآية قوله: « وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ».

(قالَ: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي قال عز اسمه للإنسي وقرينه من الجن حين اختصما - فقال الإنسي: رب إن هذا أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءني، وقال الشيطان: ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد عن منهج الحق - لا تختصموا عندي، فقد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل وأنزلت الكتب، وقامت عليكم الحجج.

والخلاصة - إنهم اعتذروا بغير ما يصلح أن يكون عذرا، فأبطل الله حجتهم وردّ عليهم بقوله:

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي لا يغيّر قضائى الذي قضيته، ووعيدي الذي أوعدته بتخليد الكفار في النار ومجازاة العصاة على قدر ما يستحقون.

(وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا أعذب أحدا بغير جرم اجترمه، ولا ذنب جناه ولا أعذب أحدا مكان أحد.

ثم ذكر مكان حلول الوعيد فقال:

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟) أي وأنذر قومك يوم نقول لجهنم: هل امتلأت بما ألقى إليك فوجا بعد فوج؟ فتقول: لا مزيد بعد ذلك.

وفي هذا بيان لأنها مع اتساعها وتباعد أقطارها، يطرح فيها من الجنّة والناس جماعات بعد جماعات حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة.

وهذا السؤال والجواب جىء بهما للتمثيل وتصوير المعنى بإبرازه في لباس المحسوس ليتضح أمره.

روي عن ابن عباس أنه قال: سبقت كلمته: لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين، فلما سيق أعداء الله إليها صارت لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء فتقول ألست قد أقسمت لتملأنّى؟ فيضع قدمه عليها فيقول: هل امتلأت؟ فتقول: قطّ قطّ (كفى كفى) قد امتلأت لا مزيد.

[سورة ق (50): الآيات 31 الى 35]

وأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)

تفسير المفردات

أزلفت: أي أدنيت وقرّبت، غير بعيد: أي في مكان غير بعيد منهم بل هو بمرأى منهم، هذا ما توعدون: أي هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل، أوّاب: أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة، حفيظ: أي حافظ لحدود الله وشرائعه، خشى الرحمن بالغيب: أي خاف عقاب ربه وهو غائب عن الأعين حين لا يراه أحد، منيب: أي مخلص مقبل على طاعة الله، بسلام: أي سالمين من العذاب وزوال النعم، الخلود: أي في الجنة إذ لا موت فيها، مزيد: أي مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الحوار بين الكافر وقرينه من الشياطين، واعتذار الكافر وردّ القرين عليه، وأن الله سبحانه نهاهم عن الاختصام لديه، لأنه لا فائدة فيه بعد أن أوعدهم على ألسنة رسله - أردف هذا ذكر حال المتقين، فذكر أن الجنة تكون قريبة منهم بحيث يرونها رأي العين، فتطمئن إليها نفوسهم وتثلج لمرآها صدورهم، ويقال لهم هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الأنبياء والرسل، وهو دائم لا نفاد له ولا حصر، فكل ما يريدون من لذة ونعيم فهو حاضر، ولهم فوق هذا رضوان من ربهم « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ».

الإيضاح

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي وأدنيت الجنة للذين اتقوا ربهم، واجتنبوا معاصيه، بحيث تكون بمرأي العين منهم، إكراما لهم، واطمئنانا لنفوسهم، فيرون ما أعدّ لهم من نعيم وحبور، ولذة وسرور، لا نفاد له ولا فناء.

(هذا ما تُوعَدُونَ) أي وتقول لهم الملائكة: هذا هو النعيم الذي وعدكم به ربكم على ألسنة رسله، وجاءت به كتبه.

ثم بين المستحق لهذا النعيم فقال:

(لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي هذا الثواب للمتقين الذين يرجعون من معصية الله إلى طاعته تائبين من ذنوبهم ويلقون الله بقلوب منيبة إليه، خاضعة له.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي وتقول لهم الملائكة تكرمة لهم: ادخلوا الجنة سالمين من العذاب والهموم والأكدار، فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

ثم يبشّرون ويقال لهم:

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي فاطمئنوا وقرّوا عينا، فهذا يوم الخلود الذي لا موت بعده، ولا ظعن ولا رحيل.

ثم زاد في البشرى فقال:

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي لهم إجابة لسؤالهم كل ما يشتهون، ثم نزيدهم فوق ما سألوا مما لم تره أعينهم ولم يدر بخلدهم.

ونحو الآية قوله: « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ».

[سورة ق (50): الآيات 36 الى 45]

وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) واسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعًا ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)

تفسير المفردات

القرن: الجيل من الناس، بطشا: أي قوة، فنقبوا في البلاد: أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمكاسب، ويقال لمن طوّف في الأرض نقّب فيها، قال امرؤ القيس:

فقد نقّبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب

محيص: أي مهرب، لذكرى: أي لعبرة، قلب: أي لبّ يعى به، أو ألقى السمع: أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي، شهيد: أي حاضر فهو من الشهود بمعنى الحضور، والمراد به الفطن، إذ غيره كأنه غائب، لغوب: أي تعب، سبح بحمد ربك: أي نزهه عن كل نقص، أدبار السجود: أي أعقاب الصلوات، واحدها دبر (بضم فسكون وبضمتين) واستمع أي لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة، يوم ينادى المنادى: أي يخرجون من القبور يوم ينادى المنادى، من مكان قريب: أي بحيث لا يخفى الصوت على أحد، والمنادى هو جبريل عليه السلام، على ما ورد في الآثار، يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزّقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. والصيحة: النفخة الثانية. بالحق: أي بالبعث والجزاء، يوم الخروج: أي من القبور، تشقق: أي تتصدع، بجبار: أي بمسيطر ومسلط، إنما أنت داع ومنذر.

المعنى الجملي

بعد أن أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم - أنذرهم بما يعجل لهم في الدنيا من ضروب العذاب، سنة الله فيمن تقدمهم من المكذبين قبلهم ممن ساروا في البلاد طولا وعرضا وكانوا ذوي قوة وأيد، ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئا، ووسط بين ذلك ذكر المتقين وما يلاقونه من النعيم، ليكون أمرهم بين الخوف والطمع، ومن ثم ذكر حال الكفور المعاند، وحال الشكور العابد، ثم ذكر أن هذا عظة وذكرى لكل ذي لبّ واع سميع لما يلقى إليه، ثم أعاد الدليل مرة أخرى على إمكان البعث، فأبان أنه قد خلق السموات والأرض في ستة أطوار مختلفة وما أصابه تعب ولا لغوب كما قال: « أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ » ثم أمره بالصبر على ما يقولون، وتنزيه الله عن كلّ نقص آناء الليل وأطراف النهار، فها هو ذا قد اقترب يوم البعث والنشور، وسمع صوت الداعي لذلك بعد النفخ في الصور، وتشققت الأرض سراعا وخرج الناس من القبور، وما ذلك بالصعب على رب العالمين، خالق السموات والأرضين، وإنا لنعلم ما يقول المشركون في البعث والنشور، فدعهم في غيّهم يعمهون، فما أنت عليهم بجبار تلزمهم الإيمان بهذا اليوم، وما فيه من هول، إن أنت إلا نذير، ولا يؤمن بك إلا من يخاف عقابي، وشديد وعيدي، ولا تنفع العظة إلا ذوي الأحلام الراجحة، والقلوب الواعية.

الإيضاح

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟) أي وكثير من الأمم التي قبلك أهلكناهم وكانوا أشد من قومك بطشا، وأكثر منهم قوة، كعاد وثمود وتبّع، فتقلبوا في البلاد وسلكوا كل طريق ابتغاء للرزق، ولم يجدوا لهم من أمر الله مهربا ولا ملجأ حين حمّ القضاء، وهكذا حالكم، فحذار أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب العاجل في الدنيا، والآجل يوم القيامة.

وبعد أن ذكر في هذه السورة وما قبلها بارع الحكم ونفائس المعارف الإلهية جملة وتفصيلا، فمن أدب للأمة مع نبيها، إلى أدب للأمة بعضها مع بعض، إلى حفظ للسلام بين الناس والصلح بينهم، وصيانة اللسان من الهزؤ والسخرية والهمز واللمز، ثم إلى النظر في ملكوت السموات والأرض، وبذا يحل التواصل محل التقاطع، ويتعلم الجهال، ويجتمع الشمل، ويخيم الأمن في ربوع البلاد، أبان أن تلك الزواجر لا ينتفع بها إلا ذوو الألباب فقال:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي إن فيما تقدم لتذكرة وعبرة لمن كان له قلب واع يتدبر به الحقائق، ويعى ما يقال له.

ثم أعقب ذلك بذكر ما هو كالدليل على ما سلف فقال:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي قسما بربك إنا خلقنا السموات والأرض وملأناهما بالعجائب في ستة أطوار مختلفة وما مسنا تعب ولا إعياء، ولا تزال عجائبنا تترى كل يوم، فانظروا إليها، وناملوا في محاسنها، فهي لا تحصى، ولا يبلغها الاستقصاء، وكذّبوا اليهود الذين قالوا: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش، فنحن لا يمسنا لغوب ولا إعياء.

ونحو الآية قوله: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي فاصبر على ما يقوله المشركون في شأن البعث من الأباطيل التي لا مستند لها إلا الاستبعاد، فإن من خلق الخلق في تلك المدة اليسيرة بلا إعياء - قادر على بعثهم وجزائهم على ما قدموا من الحسنات والسيئات.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي ونزه ربك عن العجز عن كل ممكن كالبعث ونحوه، حامدا له أنعمه عليك، وقت الفجر ووقت العصر وبعض الليل، وفى أعقاب الصلوات.

وقال ابن عباس: الصلاة قبل طلوع الشمس صلاة الفجر، وقبل الغروب الظهر والعصر، ومن الليل العشاءان، وأدبار السجود النوافل بعد الفرائض.

روى البخاري عن ابن عباس قال: أمر رسول الله أن يسبح في أدبار الصلوات كلها، يعني قوله: « وَأَدْبارَ السُّجُودِ »

وفي حديث مسلم تحديد التسبيح بثلاث وثلاثين، والتحميد بثلاث وثلاثين، والتكبير بثلاث وثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، دبر كل صلاة.

(وَاسْتَمِعْ) أيها الرسول لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة، وفى إبهام أمره، تعظيم لشأنه.

ثم بين ذلك الخبر وزمانه بقوله:

(يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي يوم ينادى المنادى من موضع قريب فيصل نداؤه إلى كل الخلائق على السوية، ويقول: هلموا إلى الحساب، فيخرجون من قبورهم ويقبلون. كأنهم جراد منتشر.

ثم زاد الأمر تفصيلا فقال:

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ) أي يوم يسمعون النفخة الثانية منذرة بالبعث والجزاء على ما قدموا من الأعمال.

ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال:

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي هذا اليوم هو يوم الخروج من القبور.

ثم لخص ما تقدم من أول السورة إلى هنا فقال:

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي إنا نحن نحيى في الدنيا ونميت فيها حين انقضاء الآجال، وإلينا الرجوع للحساب والجزاء في الآخرة.

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعًا ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي إلينا المصير في ذلك اليوم الذي تتصدع فيه الأرض فتخرج الموتى من صدوعها مسرعة، وذلك جمع هين علينا، لا عسر فيه ولا مشقة.

ثم سلى رسوله وهدد المشركين بقوله:

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي نحن أعلم بما يقولون من فريتهم على ربهم وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم قدرته على البعث بعد الموت.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي وما أنت بمسلّط عليهم تقسرهم على الإيمان وتسيرهم على ما تهوى وتريد، إنما أنت نذير، وما عليك إلا التبليغ وعلينا الحساب.

ثم أكد أنه مذكّر لا مسيطر وأن التذكير لا ينفع إلا من خشى ربه فقال:

(فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي فذكر أيها الرسول بهذا القرآن الذي أنزلته عليك من يخاف وعيدي الذي أوعدته من عصاني وخالف أمري، أي بلغ رسالة ربك، وما يتذكر بها إلا من يخاف وعيد الله وشديد عذابه.

ونحو الآية قوله: « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله: « لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ».

وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك، يا برّ يا رحيم.

موجز لما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات

(1) إنكار المشركين للنبوة والبعث.

(2) الحث على النظر في السماء وزينتها وبهجة بنائها، وفى الأرض وجبالها الشامخات، وزروعها النضرات، وأمطارها الثجّاجات.

(3) العبرة بالدول الهالكات كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبّع وما استحقوا من وعيد وعذاب.

(4) تقريع الإنسان على أعماله، وأنه مسئول عن دخائل نفسه، في مجلس أنسه، وعند إخوته، وفى خلوته، وأنه محوط بالكرام الكاتبين، يحصون أعماله، ويرقبون أحواله حتى إذا جاءت سكرته، وحانت منيته، حوسب على كل قول وكل عمل، وشهدت عليه الشهود وكشفت له الحجب.

(5) إنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا.

(6) إن القرآن عظة وذكرى لمن كان له قلب واع يستمع ما يلقى إليه.

(7) تسلية رسوله على ما يقول المشركون من إنكار البعث وتهديدهم على ذلك (8) أمر الرسول بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

(9) أمر الرسول بالتذكير بالقرآن من يخاف وعيد الله ويخشى عقابه.

سورة الذاريات

هي مكية وآيها ستون، نزلت بعد الأحقاف، ومناسبتها لما قبلها:

(1) إنه قد ذكر في السورة السابقة البعث والجزاء والجنة والنار، وافتتح هذه بالقسم بأن ما وعدوا من ذلك صدق وأن الجزاء واقع.

(2) إنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل.

[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 14]

بسم الله الرحمن الرحيم

والذَّارِياتِ ذَرْوًا (1) فَالْحامِلاتِ وِقْرًا (2) فَالْجارِياتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْرًا (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

تفسير المفردات

الذاريات: الرياح تذرو التراب وغيره: أي تفرقه، والوقر: حمل البعير وجمعه أوقار: أي أثقال، والحاملات وقرا: هي الرياح الحاملات للسحاب المشبع ببخار الماء، واليسر: السهولة، والجاريات يسرا: هي الرياح الجارية في مهابّها بسهولة، والمقسمات أمرا: هي الرياح التي تقسم الأمطار بتصريف السحاب، وما توعدون: هو البعث والحشر للحساب والجزاء، والدين: الجزاء، وواقع: أي حاصل، والحبك: الطرق واحدها حبيكة، مختلف: أي متناقض مضطرب في شأن الله، فبينا تقولون إنه خالق السموات تقولون بصحة عبادة الأوثان معه، وفى شأن الرسول فتارة تقولون إنه مجنون وتارة تقولون إنه ساحر، وفى شأن الحشر فتارة تقولون لا حشر ولا بعث، وأخرى تقولون: الأصنام شفعاؤنا عند الله يوم القيامة، يؤفك عنه من أفك: أي يصرف عن القول المختلف: أي بسببه من صرف عن الإيمان، والخرّاصون: أي الكذابون من أصحاب القول المختلف، في غمرة: أي في جهل يشملهم ويغمرهم شمول الماء الغامر، ساهون: أي غافلون عما أمروا به، أيان يوم الدين: أي متى يوم الجزاء: أي متى حصوله، يفتنون: أي يحرقون، وأصل الفتن: إذابة الجوهر ليعرف غشه، فاستعمل في الإحراق والتعذيب، فتنتكم: أي عذابكم المعدّ لكم.

المعنى الجملي

هاهنا أمور يجمل بك أن تتفهمها:

(1) بعد أن بين الحشر بدلائله وقال: « ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ » ثم أصروا على ذلك غاية الإصرار لم يبق إلا اليمين فقال « وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا -... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ».

(2) إن الأيمان التي حلف بها الله تعالى في كتابه كلها دلائل على قدرته أخرجها في صورة الأيمان، كما يقول القائل للمنعم عليه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك، فيذكر النعم وهي سبب لدوام الشكر ويسلك بها مسلك القسم، وجاءت الآية هكذا مصدّرة بالقسم، لأن المتكلم إذا بدأ كلامه به علم السامع أن هاهنا كلاما عظيما يجب أن يصغى إليه، فإذا وجّه همه لسماعه خرج له الدليل والبرهان المتين في صورة اليمين.

(3) في السور التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف المقطعة كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والحشر وهي التي يتم بها الإيمان، فأقسم لإثبات الوحدانية في سورة الصافات فقال: « إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ » وأقسم في سورتى النجم والضحى لإثبات الرسالة فقال في الأولى: « وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى » وقال في الثانية: « وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » وأقسم في سور كثيرة على إثبات البعث والجزاء.

(4) في السورة التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات فقال: « وَالصَّافَّاتِ صَفًّا » وفى السور التي أقسم فيها لإثبات الحشر أقسم بالمتحركات فقال: « وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا - وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا - وَالنَّازِعاتِ غَرْقًا - وَالْعادِياتِ ضَبْحًا » لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وهو بالحركة أليق.

(5) كانت العرب تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع، وقد جرى النبي على سننهم، فحلف بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا، وكانوا يعلمون أنه لا يحلف إلا صادقا، وإلا أصابه شؤم الأيمان، وناله المكروه في بعض الأيمان.

الإيضاح

(وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا، فَالْحامِلاتِ وِقْرًا، فَالْجارِياتِ يُسْرًا، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْرًا. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أقسم سبحانه بالرياح وذروها التراب، وحملها السحاب، وجريها في الهواء بيسر وسهولة، وتقسيمها الأمطار، إن هذا البعث لحاصل، وإن هذا الجزاء لا بد منه في ذلك اليوم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

وهنا أقسم سبحانه بالرياح وأفعالها، لما يشاهدون من آثارها ونفعها العظيم لهم فهي التي ترسل الأمطار مبشرات برحمته، ومنها تسقى الأنعام والزروع، وبها تنبت البساتين والجنات وتصير الأرض القفر مروجا، وعليها يعتمدون في معاشهم، فآثارها واضحة أمامهم، ولا عجب أن تكون لها المنزلة العظمى في نفوسهم.

وأفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية، فإن ما على الأرض منجذب إليها، واقع عليها، ولكن هذه الرياح تتصرف تصرفا عجيبا تابعا لسير الكواكب، فبجريها وجرى الشمس تؤثر في أرضنا وهوائها بنظام محكم، فما ذرت الرياح التراب، ولا حملت السحاب، ولا قسمت المطر على البلاد إلا بحركات فلكية منتظمة، من أجل هذا جعل ذلك براهين على البعث والإعادة.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي والسماء ذات الجمال والبهاء، والحسن والاستواء، إنكم أيها المشركون المكذبون للرسول، لفى قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع، ولا يروج إلا على من هو ضالّ في نفسه، لأنه قول باطل يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله وبما جاء به.

والخلاصة - قسما بالسماء وزينتها وجمالها، إن أمركم في شأن محمد وكتابه لعجب عاجب، فهو متناقض مضطرب، فحينا تقولون هو شاعر، وحينا آخر تقولون هو ساحر، ومرة ثالثة تقولون هو مجنون، وبينا تقولون عن القرآن إنه سحر إذا بكم تقولون إنه شعر أو إنه كهانة.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي قتل الكذابون من أصحاب القول المختلف الذين هم في جهل عميق وغفلة عظيمة عما أمروا به.

وهذا دعاء عليهم يراد به في عرف التخاطب لعنهم، إذ من لعنه الله فهو بمنزلة الهالك المقتول، وقد جاء في القاموس: قتل الإنسان ما أكفره: أي لعن، وقاتلهم الله، أي لعنهم (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يسألك المشركون استهزاء فيقولون: متى يوم الجزاء، وقد كان لهم من أنفسهم لو تدبروا ما يدفعهم إلى الاعتقاد بمجىء هذا اليوم، فإن أحدا منهم لا يترك عبيده وأجراءه في عمل دون أن يحاسبهم وينظر في أحوالهم، ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم، فكيف يترك أحكم الحاكمين عبيده الذين أبدع لهم هذا الكون وهيأ لهم كل ما يحتاجون إليه - سدى ويوجدهم عبثا؟.

ثم أجاب عن هذا السؤال وذكر أنه يكون يوم القيامة فقال:

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يوم الجزاء هو يوم نعذب الكفار وتقول لهم الخزنة:

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون وقوعه استهزاء وتظنون أنه غير كائن.

[سورة الذاريات (51): الآيات 15 الى 23]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

تفسير المفردات

في جنات وعيون: أي في بساتين تجرى من تحتها الأنهار، محسنين: أي مجوّدين لأعمالهم، والهجوع: النوم ليلا والهجعة النومة الخفيفة، والأسحار: واحدها سحر وهو السدس الأخير من الليل، حق: أي نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم تقربا إلى ربهم وإشفاقا على عباده، والسائل: هو المستجدى الطالب العطاء، والمحروم: هو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس، آيات: أي دلائل على قدرته تعالى من وجود المعادن والنبات والحيوان، والدحو في بعض المواضع والارتفاع في بعضها الآخر عن الماء، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص. للموقنين: أي للموحدين الذين سلكوا الطريق الموصل إلى معرفة الله، فهم نظارون بعيون باصرة، وأفهام نافذة، وما توعدون: أي والذي توعدونه من خير أو شر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال المغترين الذين أنكروا يوم الدين، وكذبوا بالبعث والنشور، وأنكروا نبوة محمد وعبدوا مع الله غيره من وثن أو صنم - أردف ذلك ذكر حال المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم في جنات تجرى من تحتها الأنهار، جزاء إحسانهم في أعمالهم، وقيامهم بالليل للصلاة، والاستغفار بالأسحار، وإنفاقهم أموالهم للفقراء والمساكين، ونظرهم في دلائل التوحيد التي في الآفاق والأنفس، وتفكيرهم في ملكوت السموات والأرض مصدقين قوله تعالى: « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ».

ثم أقسم برب السماء والأرض إن ما توعدون من البعث والجزاء حق لا شك فيه، كما لا شك في نطقكم حين تنطقون.

الإيضاح

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين اتقوا الله وأطاعوه واجتنبوا معاصيه، في بساتين وجنات تجرى من تحتها الأنهار، قريرة أعينهم بما آتاهم ربهم، إذ فيه ما يرضيهم ويغنيهم ويفوق ما كانوا يؤملون.

ثم ذكر الثمن الذي دفعوه لنيل هذا الأجر العظيم فقال:

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي إنهم كانوا في دار الدنيا يفعلون صالح الأعمال، خشية من ربهم وطلبا لرضاه، ومن ثم نالوا هذا الفوز العظيم، والمكرمة التي فاقت ما كانوا يؤملون ويرجون.

ونحو الآية قوله: « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ »، ثم فصل ما أحسنوا فيه فقال:

(كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون القليل من الليل ويتهجدون في معظمه، قال ابن عباس: ما تأتى عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها شيئا إما من أولها أو من وسطها، وقال الحسن البصري: كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، وربما نشطوا فجدّوا إلى السحر. وعن أنس قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي فهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.

ولما ذكر أنهم يقيمون الصلاة ثنى بوصفهم بأداء الزكاة والبر بالفقراء فقال:

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي وجعلوا في أموالهم جزءا معينا ميزوه وعزلوه للطالب المحتاج، والمتعفف الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يسأل الناس، ولا يفطنون إليه ليتصدقوا عليه.

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله « ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان، قيل فمن المسكين؟ قال الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه، فذلك المحروم ».

وبعد أن ذكر أوصاف المتقين بين أنه قد لاحت لهم الأدلة الأرضية والسماوية التي بها أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه فقال:

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي وفى الأرض دلائل على وجود الخالق وعظيم قدرته، استبانت لمن فكر وتدبر في هذا الكون وبديع صنعه، مما يشاهد من صنوف النبات والحيوان، والمهاد والجبال، والقفار والبحار إلى نحو أولئك مما بهر المخلوقات كما قال: « وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ».

فالموقنون كلما رأوا آية عرفوا وجه تأويلها فازدادوا إيقانا، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرونه فينتفعون به.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) أي أفلا تنظرون نظر من يعتبر في اختلاف الألسنة والألوان، والتفاوت في العقول والأفهام، واختلاف الأعضاء، وتعدد وظائف كل منها على وجه يحار فيه اللّبّ، ويدهش منه العقل؟

وخلاصة ما سلف - إنّ الله تعالى وصف المتقين بأنهم مجدّون في العبادة البدنية وفى بذل المال للمستحقين من ذوي الحاجة والبائسين، والإيمان بالله والعلم بقدرته بالنظر في الآفاق والأنفس.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي وفى السماء أسباب رزقكم من النيّرين (الشمس والقمر) والكواكب والمطالع والمغارب التي بها تختلف الفصول فتنبت الأرض أنواع النبات وتسقى بماء الأمطار التي تحملها السحب وتسوقها الرياح لأسباب فلكية وطبيعية أوضحها علماء الفلك وعلماء الطبيعة. وكذلك ما توعدون من خير وشر، قاله مجاهد.

ثم أقسم ربنا بعزته وجلاله إن البعث لحق فقال:

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أقسم ربنا جلت قدرته بجلاله وكبريائه: إن ما وعدكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء حق لا مرية فيه، فلا تشكّوا فيه كما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون، وهذا كما يقول الناس: إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها: بلغني أن رسول الله قال « قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا ».

عن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال ممن الرجل؟ قلت من بنى أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرجل؟ قلت من بنى أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: اتل علي فتلوت والذّاريات فلما بلغت: وفى السّماء رزقكم قال حسبك، فقام إلي ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفتّ فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: فوربّ السّماء والأرض إنّه لحقّ. فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه حتى حلف (قالها ثلاثا) وخرجت معها نفسه.

وإنما قصصت عليك هذا القصص لما فيه من أدب بارع وظرف وحسن فهم من ذلك الأعرابي لكتاب الله، ولك بعد ذلك أن تصدقه أو تتشكك فيه، فكم للأصمعى من مثله، فهو الأديب البارع، والراوية الحافظ، فلا يعجزه أن يصنعه ويصنع أمثاله.

[سورة الذاريات (51): الآيات 24 الى 30]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

تفسير المفردات

الضيف: لفظ يستعمل للواحد والكثير، المكرمين: أي عند إبراهيم إذ خدمهم هو وزوجه وعجل لهم القرى وأجلسهم في أكرم موضع، قوم منكرون: أي قوم لا عهد لنا بكم من قبل، وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام للتعرف بهم كما تقول لمن لقيته وسلم عليك: أنا لا أعرفك، تريد عرّف لي نفسك وصفها، فراغ إلى أهله: أي ذهب إليهم خفية من ضيفه، سمين: أي ممتلىء بالشحم واللحم، فقربه إليهم: أي وضعه لديهم، فأوجس منهم خيفة: أي أضمر في نفسه الخوف منهم، امرأته هي سارّة لما سمعت بشارتهم له، صرّة: أي صيحة، فصكت وجهها: أي ضربت بيدها على جبهتها وقالت: يا ويلتا، عجوز عقيم: أي أنا كبيرة السن لا ألد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه إنكار قومه للبعث والنشور حتى أقسم لهم بعزته أنه كائن لا محالة - سلى رسوله فأبان له أنه ليس ببدع في الرسل، وأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، وأنهم إن تمادوا في غيهم وأصروا على كفرهم ولم يقلعوا عماهم عليه، فسيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية.

وذكر إبراهيم من بين الأنبياء لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي على سننه كما قال تعالى: « ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ولأن العرب كانت تجلّه وتحترمه وتدعى أنها على دينه.

وأتى بالقصص بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن الحديث كما تقول لمخاطبك هل بلغك كذا وكذا، وأنت تعلم أنه لم يبلغه، توجيها لأنظاره حتى يصغى إليه ويهتم بأمره، ولو جاء على صورة الخبر لم يكن له من الروعة والجلال مثل ما كان وهو بهذه الصورة، وتنبيها إلى أن الرسول لم يعلم به إلا من طريق الوحي.

الإيضاح

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ؟) أي هل عندك نبأ بما حدث بين إبراهيم وضيوفه من الملائكة الذين وفدوا عليه وهم ذاهبون في طريقهم إلى قوم لوط، فسلموا عليه فرد عليهم التحية بأحسن منها.

ثم أراد أن يتعرف بهم فقال:

(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي إنكم قوم لا عهد لنا بكم من قبل فعرفونى أنفسكم - من أنتم؟

واستظهر بعض العلماء أن هذه مقالة أسرّها في نفسه أو لمن كان معه من أتباعه وجلسائه من غير أن يشعرهم بذلك، لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا له، إلى أنه لو كان أراد ذلك لكشفوا له أحوالهم، ولم يتصد لمقدمات الضيافة، ثم ذكر أنه أسرع في قرى ضيوفه فقال:

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي فذهب خفية مسرعا وقدم لضيوفه عجلا سمينا أنضجه شيّا، كما جاء في سورة هود « فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ » أي مشوى على الرضف.

(قالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي قال مستحثا لهم على الأكل: ألا تأكلون؟ وفى هذا تلطف منه في العبارة وعرض حسن، وقد انتظم كلامه وعمله آداب الضيافة، إذ جاء بطعام من حيث لا يشعرون، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتي مشوى، ووضعه بين أيديهم، ولم يضعه بعيدا منهم حتى يذهبوا إليه، وتلطف في العرض فقال: ألا تأكلون؟

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فأعرضوا عن طعامه ولم يأكلوا فأضمر في نفسه الخوف منهم، ظنا منه أن امتناعهم إنما كان لشرّ يريدونه، فإنّ أكل الضيف أمنة ودليل على سروره وانشراح صدره، وللطعام حرمة، وفى الإعراض عنه وحشة موجبة لسوء الظن، وقد جاء في سورة هود: « فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ».

ثم ذكر أنهم طمأنوه حينئذ فقال:

(قالُوا لا تَخَفْ) منا إنا رسل ربك، وجاء في الآية الأخرى: « قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ».

(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي فبشروه بإسحاق بن سارّة كما جاء في سورة هود: « فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » وجاءت البشارة بذكر لأنه أسرّ للنفس، وأقر للعين، ووصفه بالعلم لأنه الصفة التي يمتاز بها الإنسان الكامل، لا الصورة الجميلة ولا القوة ولا نحوهما.

ثم أخبر عما حدث من امرأته حينئذ فقال:

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي فأقبلت امرأته سارّة حين سمعت بشارتهم (كانت في ناحية من البيت تنظر إليهم) وهي تصرخ صرخة عظيمة وضربت بيديها على جبيتها وقالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ وجاء في الآية الأخرى: « قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخًا » فأجابوها عما قالت:

(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي قالوا لها: مثل الذي أخبرناك به قال ربك، فنحن نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين، وهو الحكيم في أفعاله، العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

والخلاصة - إنها استبعدت الولادة لسببين: كبر السن والعقم، وقد كانت لا تلد في عنفوان شبابها والآن قد عجزت وأيست، فأجدر بها الآن ألا تلد، فكأنها قالت: ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة، ظنا منها أن ذلك منهم كما يصدر من الضيف من الدعوات الطيبات كما يقول الداعي: أعطاك الله مالا، ورزقك ولدا، فردوا عليها بأن هذا ليس منا بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى.

قد تمّ ما أردنا تصنيفه في تفسير هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية في اليوم العاشر من شهر ربيع الثاني من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

الصفحة المبحث

4 القرآن الكريم من عند الله، لا من عند محمد

9 الردّ على المشركين في طعنهم في النبوة

11 ما ينسب إلى بعض الأولياء من علمهم بشئون الغيب فهو فرية على الله

14 إسلام عبد الله بن سلام وحديثه مع قومه اليهود

15 الرد على المشركين في أن القرآن ليس مفترى

17 الوصية بالوالدين

18 حوار بين علي وعثمان في أقل مدة الحمل

19 لم يبعث الله نبيا قبل الأربعين إلا ابني الخالة عيسى ويحيى

20 الدعاء الذي كان يعلّمه رسول الله لأصحابه في التشهد

23 خطبة مروان في المسجد دعاية ليزيد بن معاوية وردّ عبد الرحمن بن أبي بكر عليه

26 غضب رسول الله حين رأى على الحسن والحسين قلبين من فضة

31 كان رسول الله إذا عصفت الريح يدعو بدعاء خاص

34 استماع الجن للقرآن

35 لا دليل من العقل على عالمي الملائكة والجن، بل الدليل من السمع وأخبار الأنبياء

37 ورد أن الجن استمعت القرآن مرات كثيرة

39 ضرب القرآن للأمثال

49 الحرب ترقى الصناعات، وتوقظ الشعور، وتزيد عدد الأمم

50 سيأتي يوم تسعد فيه الأمم بسعادة أعدائها

52 يعرف أهل الجنة منازلهم فيها كما يعرفون منازلهم في الدنيا

56 لما خرج النبي من مكة مهاجرا التفت إليها وقال: أنت أحب بلاد الله إلي، أنت أحب بلاد الله إلي

58 صفة الجنة كما وصفها القرآن

63 في الحديث: « إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة »

64 ما كان يقول المنافقون حين نزول آيات الجهاد؟

70 ممالأة المنافقين لليهود من بنى قريظة

71 يعرف المنافقون من غيرهم بلحن القول والعدول عن التصريح إلى الإشارة

72 في الحديث: « ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها »

75 المعاصي تبطل الحسنات

81 نتائج صلح الحديبية

86 من سنن الله أن يسلط بعض عباده على بعض

87 لله جنود للرحمة، وجنود للعذاب

90 بيعة الرضوان - بيعة الشجرة

92 معاذير بعض القبائل للتخلف عن الجهاد

99 الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد

101 نادى منادى رسول الله للبيعة وهو تحت الشجرة

102 أمر عمر بقطع الشجرة التي بويع عندها رسول الله حين رأى الناس يحجون إليها.

104 فتح خيبر ومغانمها ليست بشىء إذا قيست إلى ما بعدها

105 قال النبي : « لأعطينّ الراية رجلا يحبه الله ورسوله »

107 كتاب الصلح الذي كتب بين يدي رسول الله

111 ما دار من الحديث بين سهيل بن عمرو، ورسول الله

112 حوار بين أبي بكر وعمر

116 قال عمر: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته

124 ما أنشده الوفود أمام النبي

128 رأى الرسول أنفع للمؤمنين من آرائهم لأنفسهم

131 وجوب قتال الفئة الباغية

131 المؤمنون بعضهم إخوة لبعض

133 النهي عن السخرية والهمز واللمز

137 من عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه

138 في الحديث: « إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث »

140 قال علي بن الحسين: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس

140 لا تحرم الغيبة في ستة مواضع

144 خطبة النبي يوم فتح مكة وهو على راحلته

146 القرآن علم المؤمنين الأدب في التخاطب

147 الفرق بين الإسلام والإيمان

148 مقال النبي للأنصار يوم حنين

161 في الحديث: « كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات »

171 الرسول مذكر وليس بمسيطر

176 أفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية

181 القصص الذي رواه الأصمعي عن أعرابي قابله

184 بشرى الملائكة لإبرهيم

185 استبعاد سارّة للولادة في هذه السن


هامش

  1. يريد أن البيعة لأولاد الملوك ستة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم.
  2. الصلاء. الشواء بالمد والكسر، والصناب: صباغ (سلطة) يتخذ من الخردل والزبيب، والصلائق: الحملان المشوية.
  3. واحدها لهاة: وهي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.
  4. الصبا: ريح الشمال، والدبور: ريح الجنوب. [.....]
  5. السندرة: مكيال واسع، وكيلهم بها: قتلهم قتلا واسعا ذريعا.
  6. تطلق العرب القول على جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان توسعا في الاستعمال.
  7. ما يقع في العين والماء والتراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.
أجزاء تفسير المراغي
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون