تفسير المراغي/الجزء السادس عشر
[تتمة سورة الكهف ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الكهف (18): الآيات 75 الى 78]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
تفسير المفردات
فلا تصاحبنى: أي فلا تجعلنى صاحبا لك. بلغت من لدني عذرا: أي وجدت عذرا من قبلي، قرية: هي أنطاكية كما روى عن ابن عباس أو الأبّلة أو الناصرة، ولا يوثق بصحة شيء من هذا، استطعما أهلها: أي طلبا منهم أن يطعموهما، أن يصيفوهما: أي ينزلوهما أضيافا: يقال، ضافه إذا كان له ضيفا، وأضافه وضيّفه: أنزله لديه ضيفا وأصل ضاف: مال، من قولهم ضاف السهم عن الهدف: أي مال، جدارا: أي حائط، أن ينقض: أي يسقط بسرعة، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم كما قال:
يريد الرمح صدر أبى براء ويعدل عن دماء بنى عقيل
أقامه: أي مسحه بيده فقام كما روى عن ابن عباس، والتأويل: من آل الأمر إلى كذا: أي صار إليه، فإذا قيل ما تأويله: أي ما مصيره.
المعنى الجملي
لا يزال الكلام متصلا في قصص موسى والخضر عليهما السلام، ولكن لوحظ في تقسيم القرآن الكريم إلى أجزائه الثلاثين جانب اللفظ لا جانب المعنى، ولذا تجد نهاية جزء وبداءة آخر حيث لا يزال الكلام في معنى واحد لم يتم بعد كما هنا.
الإيضاح
(قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا) زاد كلمة (لك) على سابقه لتشديد العتاب على رفض الوصية، ووسمه بقلة الصبر والثبات حين تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار مع عدم الارعواء بالتذكير أول مرة.
قال البغوي: روى أن يوشع كان يقول لموسى: اذكر العهد الذي أنت عليه.
(قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبنى) أي قال موسى عليه السلام للخضر: إن سألتك عن شيء بعدها من عجيب أفعالك التي أشاهدها وطلبت منك بيان حكمته، فضلا عن المناقشة والاعتراض عليه، فلا تجعلنى لك صاحبا.
(قد بلغت من لدني عذرا) أي قد بلغت الغاية التي تعذر بسببها في فراقى، إذ خالفتك مرة بعد أخرى، وهذا كلام نادم أشد الندم قد اضطر، الحال إلى الاعتراف، وسلوك سبيل الإنصاف.
وقد روى في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: « رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب، لكن أخذته من صاحبه ذمامة (حياء وإشفاق من الذم) فقال (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا) ».
(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما) أي فانطلق الخضر وموسى بعد المرتين الأوليين حتى وصلا إلى قرية طلبا من أهلها أن يطعموهما فأبوا أن يضيفوهما، وفي الحديث « كانوا أهل قرية لئاما بخلاء »
وفي قوله (فأبوا أن يضيفوهما) دون أن يقول فأبوا أن يطعموهما - زيادة تشنيع عليهم، ووصفهم بالدناءة والشح، فإن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب، ولكن لا يرد الغريب المستضيف إلا لئيم، ألا تراهم يقولون في أهاجيهم. فلان يطرد الضيف. وعن قتادة: شر القرى التي لا يضاف فيها، ولا يعرف لابن السبيل حقه (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) أي فوجدا في القرية حائطا مائلا مشرفا على السقوط فمسحه بيده فقام واستوى، وكان ذلك من معجزاته.
(قال لو شئت لأتخذت عليه أجرا) أي قال موسى ذلك تحريضا للخضر وحثا له على أخذ الجعل (الأجر) على فعله، لإنفاقه في ثمن الطعام والشراب وسائر مهامّ المعيشة.
(قال هذا فراق بيني وبينك) أي قال الخضر عليه السلام لموسى: هذا الاعتراض المتوالى منك هو سبب الفراق بيني وبينك بحسب ما شرطت على نفسك، وإنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين، لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا دون هذا، إذ لا ينكر الإحسان إلى المسيء بل يحمد.
(سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) أي سأخبرك بعاقبة هذه الأفعال التي صدرت مني، وهي: خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة، وخلاص أبوى الغلام من شره مع الفوز ببدل حسن، واستخراج اليتيمين للكنز.
وفي قوله: (بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) دون أن يقول بتأويل ما فعلت، أو بتأويل ما رأيت ونحوهما - تعريض به عليه السلام وعتاب له:
[سورة الكهف (18): الآيات 79 الى 82]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْرًا مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحًا فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
تفسير المفردات
المساكين: واحدهم مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب، لأمر في نفسه وفى بدنه، يعملون في البحر، أي يؤاجرون ويكتسبون، أعيبها: أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها، وراءهم: أي أمامهم وهو لفظ يستعمل في الشيء وضده كما قال:
أليس ورائي أن أدبّ على العصا فيأمن أعدائي ويسأمنى أهلي؟
وعن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يقرأ: أمامهم. خشينا: أي خفنا، أن يرهقهما: أي يحملهما، طغيانا: أي مجاوزة للحدود الإلهية، زكاة: أي طهارة من الذنوب، رحما: أي رحمة كالكثر والكثرة، عن أمري: أي عن رأيى واجتهادي، ما لم تسطع: أي تستطع ماضيه اسطاع، الذي أصله استطاع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأمور التي رآها موسى عليه السلام حين صاحب الخضر، وذكر ما كان من اعتراض موسى عليه مرة بعد أخرى، وقد كان أعلمه من قبل أنه لا يستطيع معه صبرا، وكان من جراء ذلك أنه فارقه ولم يستطع صحبته - أردف ذلك بتفسير ما أشكل عليه أمره، مما ينكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر على حكمة باطنة، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم يحكمون بناء على الظواهر كما قال النبي ﷺ « نحن نحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر ».
وأحكام هذا العالم مبنية على الأسباب الحقيقة الواقعة في نفس الأمر، وهذه لا يطلع الله عليها إلا بعض خواص عباده، ومن ثمّ اعترض موسى على ما رأى ولم يعلم ما آتاه الله الخضر من قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور، ويطلع على حقائق الأشياء، فكانت مرتبة موسى في معرفة الشرائع والأحكام بناء على الظواهر، ومرتبة هذا العالم الوقوف على بواطن الأمور وحقائق الأشياء، والاطلاع على أسرارها الكامنة.
وخلاصة المسائل الثلاث - إنه حين يتعارض ضرران يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى، فلو لم يغب تلك السفينة بالتخريق لغصبها الملك وفاتت منافعها بتاتا، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه في دينهم ودنياهم، ولأن المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضررا من سقوطه، إذ بالسقوط كان يضيع مال أولئك الأيتام.
ومجمل الأمر في ذلك - إن الله أطلع الخضر على بواطن الأشياء وحقائقها في أنفسها، وهذا لا يمكن تعلمه إلا بتصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسمية، ومن ثمّ قال في صفة علمه: « وعلمناه من لدنا علما » وموسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم، ليعلمه أن كمال المعرفة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليها في الواقع.
الإيضاح
(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) أي أما فعلى ما فعلت بالسفينة، فلأنها كانت لقوم ضعفاء، لا يقدرون على دفع الظّلمة، وكانوا يؤاجرونها ويكتسبون قوتهم منها، فأردت أن أعيبها بالخرق الذي خرقته، وكان قدامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة للاستعمال غصبا، ويدع كل معيبة، فعبتها لأرده عنها.
وخلاصة ذلك - إن السفينة كانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها، فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافون ويعجزون عن دفعه من غصب ملك قدامهم، من عادته غصب السفن الصالحة.
(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) أي وأما الغلام فإنه كان كافرا وكان أبواه مؤمنين فخفنا أن يحملهما حبه على متابعته على الكفر.
قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحبّ، وفي الحديث « لا يقضى الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له »، وقال تعالى. « وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ».
وخلاصة ذلك - إنا قد علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فأجاباه ودخلا معه في دينه لفرط حبهما له.
(فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما) أي قال هذا العالم: أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين ولدا يكون خيرا من هذا الولد دينا وصلاحا وأقرب عطفا ورحمة بأبويه، وبرّا بهما وشفقة عليهما.
(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) أي إن الداعي إلى إقامة الجدار أنه كان تحته كنز، وكان ليتيمين في المدينة، وكان أبوهما امرأ صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين رعاية لحقهما ولصلاح أبيهما، فأمرني بإقامة الجدار لتلك المصالح إذ لو سقط الجدار لضاع الكنز وقد كان مشرفا على السقوط.
(وما فعلته عن أمري) أي وما فعلت الذي رأيتنى أفعله عن رأيى، ومن تلقاء نفسي، بل فعلته عن أمر الله إياي به، لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا تجوز إلا بالوحي والنص القاطع.
(ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) أي هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها، هو بيان ما تئول إليه الأفعال التي ضقت بها ذرعا، ولم تصبر حتى أخبرك بها ابتداء.
تنبيه
لذكر هذه القصة في الكتاب الكريم فوائد:
(1) ألا يعجب المرء بعلمه، وأ لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه، فلعل فيه سرا لا يعرفه.
(2) إن فيها تأديبا لنبيه بترك طلب الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوه واستهزءوا به وبكتابه، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا، واستحقاقهم من الله في الآخرة الخزي والعذاب الدائم.
(3) إن ما حدث فيها يجرى مثله كل يوم في هذه الحياة، ألا ترى أن قتل الغلام وهو صغير لا ذنب له يشبه الطاعون الذي يهلك الأمم ويفتك بها فتكا ذريعا، والبهائم التي تفتك بها السباع أو تأكلها الناس - ولو تأمل الناس حكمة ذلك لعلموا أنهم لو بقوا على الأرض مائة عام أو نحوها ولم يمت منهم أحد لضاقت بهم الأرض، ولماتوا جوعا، ولأكل الابن أباه، ولأصبحت الأرض منتنة قذرة، ولهلك الناس جميعا، وأن أكل كواسر الطير لصغارها ليخلوا الجو والأرض من الحيوان المزدحمة، ولو لا ذلك لأصبحت الأرض مضرة بالناس والحيوان، فاقتناصها رحمة ونعمة على الناس.
وأن خرق السفينة التي هي لمساكين أشبه بموت بقرة فلاح فقير بجانبه رجل غنى لم تصب بقرته بسوء، وذلك إنما يكون لحكم لا يعلمها إلا الله، وقد يكون منها أن الفقير حين موته يخرج من هذا العالم خفيفا لا يحزنه شيء، وأن الغنى إذا لم يهذب نفسه تكون روحه مجذوبة إلى هذا العالم متطلعة إلى ما فيه، فيصير في حسرة حين موته.
وأن ذكر الجدار وإقامته تشيران إلى كل من نرى أنه ليس أهلا للنعمة ظاهرا وقد أغدقت عليه، فأهل هذه القرية اللؤماء الأشحاء ليسوا أهلا للإكرام.
وخلاصة ما قاله الخضر: إن هذه الأعمال ليست من جنس أعمال الناس، بل هي من أعمال الله، وإنما كنت واسطة فيها، فهي نماذج لفعل ربكم في هذه الحياة.
قصص ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وسدهما
[سورة الكهف (18): الآيات 83 الى 99]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْمًا قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكْرًا (87) وأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْرًا (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْمًا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعًا (99)
تفسير المفردات
ذكرا: أي نبأ مذكورا وهو القرآن. ومكنه ومكن له، كنصحه ونصح له: أي مهد له الأسباب وجعله قادرا على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي، سببا: أي طريقا يوصله إليه من علم أو قدرة أو آلة، حمئة: أي ذات حمأة وهي الطين الأسود، حسنا: أي أمرا ذا حسن، نكرا: أي منكرا فظيعا، الحسنى: أي المثوبة الحسنى، يسرا: أي سهلا ميسرا غير شلقّ، سترا: أي بناء وكانوا إذا طلعت الشمس تغوّروا في المياه، وإذا غربت خرجوا، خبرا أي علما يتعلق بظواهره وخفاياه. السدين أي الجبلين، يفقهون: يفهمون، خرجا أي جعلا من أموالنا على سبيل التبرع، والخراج: ما لزمك أداؤه. بقوة أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس، ردما أي حاجزا حصينا، والردم: أكبر من السد وأوثق، يقال ثوب مردّم: أي فيه زقاع فوق رقاع، وزبر: واحدها زبرة (بضم فسكون) كغرفة: وهي القطعة العظيمة، والصدفين: واحدها صدف، وهو جانب الجبل، قطرا: أي نحاسا مذابا، وقيل رصاصا مذابا، أن يظهروه أي أن يعلوه ويرقوا فوقه لارتفاعه وملاسته. رحمة أي أثر رحمة: دكاء أي مثل دكاء وهي الناقة لا سنام لها والمراد بها الأرض المستوية، حقا أي ثابتا واقعا لا محالة، يموج أي يضطرب اضطراب البحر، والصور: قرن ينفخ فيه.
المعنى الجملي
هذه القصة رابعة ثلاثة من القصص التي ذكرت في هذه السورة، وقد قدمنا أن كفار مكة بعثوا إلى أهل الكتاب يطلبون إليهم ما يمتحنون به النبي ﷺ فقالوا: سلوه عن رجل طوّاف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح؟ فنزلت سورة الكهف.
وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الكريمة لا بد من بيان أمور تمس الحاجة إليها:من ذو القرنين؟ من يأجوج ومأجوج؟ أين سد ذي القرنين؟
ذو القرنين
يرى كثير من العلماء والمؤرخين أنه هو إسكندر بن فيلبس الرومي تلميذ أرسطاطاليس الفيلسوف المسمى بالمعلم الأول الذي انتشرت فلسفته في الأمة الإسلامية، وقد كان قبل الميلاد بنحو 330 سنة، وكان من أهل مقدونيا، وحارب الفرس واستولى على ملك دارا وتزوج ابنته، ثم سافر إلى الهند وحارب هناك، ثم حكم مصر وبنى الاسكندرية والدليل على ذلك: أنه لم يعرف التاريخ أن أحدا من الملوك دوّخ العالم وسار شرقا وغربا وغلب أكثر المعمور غيره.
ويرى أبو الريحان البيروني المنجّم في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) أنه من حمير واسمه أبو بكر بن إفريقش، وقد رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فمر بتونس ومرّاكش وغيرهما، وبنى مدينة إفريقيّة فسميت القارة كلها باسمه، وهو الذي افتخر به أحد شعراء حمير حيث يقول:
قد كان ذو القرنين جدّي مسلما ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المشارق والمغارب يبتغى أسباب ملك من كريم مرشد
فرأى مآب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد 1
وسمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس.
والدليل على أنه حميري أن الأذواء إنما يعرفون في بلاد حمير دون بلاد اليونان، وهو من الدولة الحميرية التي حكمت من سنة 115 ق م إلى 552 ب م من الطبقة الثانية من ها، وملوكها يسمون التبابعة واحدهم تبّع (بضم التاء وتشديد الباء).
يأجوج ومأجوج
يأجوج: هم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما من أب واحد يسمى (ترك) وكانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وتنتهى غربا بما يلي بلاد التركستان وقد ذكر مؤرخو العرب والإفرنج أن هذه الأمم كانت تغير في أزمنة مختلفة على الأمم المجاورة لها، فكثيرا ما أفسدوا في الأرض، ودمّروا كثيرا من الأمم، فمنهم الأمم المتوحشة التي انحدرت من الهضبات المرتفعة من آسيا الوسطى وذهبت إلى أوربا في العهد القديم كأمة التحيت والسّمريان والهون، وكثيرا ما أغاروا على بلاد الصين وآسيا الغربية التي كانت مقر الأنبياء.
ثم لم يزالوا في حدود بلادهم لا يتجاوزونها بعد زمن النبوة، إلى أن ظهر فيهم الداهية الرحالة (تموجين) الذي لقب نفسه (جنكيزخان - ملك العالم) بلغة المغول فخرج في أوائل القرن السابع من الهجرة من الهضبات المرتفعة والجبال الشاهقة التي في آسيا الوسطى، فأخضع الصين الشمالية أولا، ثم ذهب إلى البلاد الإسلامية فأخضع السلطان قطب الدين بن أرميلان من الملوك السلجوقية ملك خوارزم، وفعل بهذه الدولة من الفظائع ما لم يسمع بمثله في التاريخ.
ولما مات جنكيزخان قام مقامه ابنه (أقطاى) وأغار ابن أخيه (باتو) على بلاد الروس سنة 723 هـ ودمر بولنيا وبلاد المجر وأحرق وخرّب.
وبعد أن مات أقطاي قام مقامه (جالوك) فحارب الروم وألزم ملكها دفع الجزية ثم مات (جالوك) فقام مقامه ابن أخيه (منجو) فكلّف أخويه (كيلاى) و(هولاكو) أن يستمرا في طريق الفتح، فأخضع كيلاى بلاد الصين، وزحف هولاكو على الممالك الإسلامية ومقر الخلافة العباسية، وكان الخليفة إذ ذاك المستعصم بالله، فأخذ بغداد عنوة في أواسط القرن السابع من الهجرة، وأسلمت للسلب والنهب سبعة أيام سالت فيها الدماء أنهارا، وطرحوا كتب العلم في دجلة وجعلوها جسرا يمرون عليه بخيولهم وبذلك انتهت الخلافة العباسية ببغداد.
ولما استولت ذرية جنكيزخان على آسيا كلها وأوربا الشرقية، اقتسموا بينهم ما فتحوه، وأنشئوا أربع ممالك، فاختصت أسرة كيلاي بالصين والمغول، وملك جافاقاي أخو أقطاي تركستان، وملكت ذرية باطرخان البلاد التي على شواطىء نهر فلجا، وصارت الروسيا تدفع لها الجزية زمنا طويلا، وأخذ هولاكو بلاد الفرس وبغداد حتى بلاد الشام - وقد لخصنا ذلك من دائرة المعارف وابن خلدون وابن مسكويه ورسائل إخوان الصفا.
سد ذي القرنين
كانت البلاد التي شرقى البحر الأسود يسكنها قوم من الصقالبة (السلاف) وكان هناك سد منيع بالقرب من مدينة (باب الأبواب) أو (دربت) بجبل قوقاف وقد كشفوه في القرن الحاضر وهو غير السدّ الشهير الذي بناه ذو القرنين، فإن هذا وراء جيحون في عمالة (بلخ) واسمه (باب الحديد) بمقربة من مدينة (ترمذ) وقد اجتازه تيمور لنك بجيشه، ومر به أيضا (شاه روخ) وكان في بطانته العالم الألماني (سيلدبرجر) وذكر السد في كتابه وكان ذلك في أوائل القرن الخامس عشر، وكذلك ذكره المؤرخ الاسباني (كلافيجو) في رحلته سنة 1403 وكان رسولا من ملك كستيل (قشتالة) بالأندلس إلى تيمورلنك، وقال إن سد مدينة (باب الحديد) على الطريق الموصل بين سمرقند والهند انتهى ملخصا من مقتطف سنة 1888 م.
وبذلك تعلم أن السد موجود فعلا، وأن هذا معجزة للقرآن الكريم حقا، وهي إحدى المعجزات التي أيدها التاريخ وعلم تقويم البلدان، وقد قال النبي ﷺ « ويل للعرب من شرّ قد اقترب » وقد صدق رسوله، فأزال هؤلاء المغول دولة العرب وانتهت بقتل المستعصم آخر ملوكها، وبقي خليفة رسمى في مصر، وزال ملكهم بتاتا في حدود الألف، وتفرق ملك الإسلام شذر مذر، ولم تحفظه إلا الدولة العثمانية بعد العرب وقد كوّن أولئك التتار أغلب المسلمين في الهند والصّين وأغلب آسيا، فهم كما ورثوا بلادهم ورثوا دينهم.
الإيضاح
(ويسئلونك عن ذي القرنين) أي تسألك قريش بتلقين اليهود سؤال اختبار وامتحان.
(قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) أي قل لهؤلاء المتعنتين: سأقص عليكم قصصا وافيا جامعا لما تريدون، أعلمنيه ربى وأخبرني به.
ثم فصّل ذلك فقال:
(إنا مكنا له في الأرض، وآتيناه من كل شيء سببا) أي مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء، بحيث يصل إلى جميع مسالكها، ويظهر على سائر ملوكها، وآتيناه من كل شيء أراده من مهامّ ملكه وبسطة سلطانه طريقا يوصله إليه، فآتيناه العلم والقدرة والآلات التي توصله إلى ذلك.
(فاتبع سببا. حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة) أي فأراد بلوغ المغرب فاتّبع طريقا يوصله إليه، حتى إذا بلغ منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يمكن تجاوزه، ووقف على حافة البحر المحيط الاطلانطى (المحيط الأطلسى) وجد الشمس تغرب في عين ذات حمأة وطين أسود.
وخلاصة ذلك - إنه بلغ بلادا لا بلاد بعدها تغرب عليها الشمس، إذ لم يكن عمران إلا ما عرفوه عند بحر الظلمات، فهو قد سار إلى بلاد تونس ثم مرّاكش ووصل إلى البحر فوجد الشمس كأنها تغيب فيه، وهو أزرق اللون كأنه طين وماء.
(ووجد عندها قوما) أي ووجد عند تلك العين قوما كفارا فخيّره الله بين أن يعذبهم بالقتل، وأن يدعوهم إلى الإيمان، وهذا تفصيل قوله:
(قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) أي قلنا له بطريق الإلهام: إما أن تقتلهم إن هم لم يقرّوا بوحدانيتى ويذعنوا لك فيما تدعوهم إليه من طاعتى، وإما أن تأمر بتعليمهم طريق الهدى والرشاد، وتبصيرهم بالشرائع والأحكام.
(قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا) أي قال ذو القرنين لبعض خاصته وبطانته: أما من ظلم نفسه فأصرّ على الشرك بربه فسنعذبه بالقتل، ثم يرجع إلى ربه في الآخرة فيعذبه عذابا منكرا في نار جهنم (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا) أي وأما من صدّق بالله ووحدانيته وعمل عملا صالحا في الدارين فله المثوبة الحسنى جزاء وفاقا على تلك الخلال الجميلة التي عملها في دنياه، وسنعلّمه في الدنيا ما يتيسر لنا تعليمه مما يقرّبه إلى ربه، ويلين له قلبه، ولا يشق عليه فعله مشقة كبيرة كالصلاة والزكاة والجهاد ونحوها.
(ثم أتبع سببا. حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) أي ثم قفل راجعا من مغرب الشمس وسلك طريقا موصلا إلى مشرقها، حتى إذا بلغ الموضع الذي تطلع عليه الشمس أوّلا من المعمور، وجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنّهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم عن حر الشمس، فليس لهم سقوف ولا جبال تمنع من وقوع أشعة الشمس عليهم، لأن أرضهم لا تحمل بنيانا، بل لهم سروب يغيبون فيها حين طلوع الشمس، ويظهرون حين غروبها، فهم حين طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش، وحين غروبها يشتغلون بتحصيل مهماتهم، وأحوالهم على الضد من أحوال الناس.
وخلاصة ذلك - إنه بلغ غاية المعمور من الأرض جهة المشرق ووجد قوما لا لباس لهم ولا بناء، فهم عراة في العراء أو في سراديب في الأرض.
(كذلك) أي إن أمر ذي القرنين كما وصفنا من قبل من بلوغه طرفى المشرق والمغرب، ومن فعله الأفاعيل التي ذكرت، فهو قد بلغ الغاية في رفعة الشأن وبسطة الملك مما لم يتح لكثير غيره.
(وقد أحطنا بما لديه خبرا) أي ونحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا شيء منها وإن تفرّقت أممهم وتقطعت بهم الأرض كما قال « لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ».
وخلاصة ذلك - إنه كما وصف، وفوق ما وصف، بما لا يحيط بعلمه إلا اللطيف الخبير.
(ثم أتبع سببا) أي ثم سلك طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال.
(حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا) أي حتى إذا وصل بين الجبلين، (وقد تقدم وصف مكانهما بالتحديد كما رآه السائحون في القرن الخامس عشر الميلادي) وجد من دونهما أمة من الناس لا يكادون يفهمون كلام أتباعه ولا كلام غيرهم، لبعد لغتهم عن لغات غيرهم، مع قلة فطنتهم، إذ لو كان لهم فطنة لفهموا ما يراد من القول بالقرائن وفحوى الحال.
(قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) أي قال مترجموهم إن يأجوج ومأجوج يفسدون أرضنا بالقتل والتخريب وأخذ الأقوات وسائر ضروب الإفساد (تقدم تحقيق القوم في ذلك).
(فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟) أي فهل تحب أن تجعل لك جعلا من أموالنا فتجعل بيننا وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا؟.
وخلاصة ذلك - إنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم ما لا يعطونه إياه حتى يجعل بينهم وبينهم سدا.
(قال ما مكني فيه ربى خير) أي قال ذو القرنين: إن ما مكنني فيه ربى من بسطة الملك والسلطان ووفرة المال - خير مما تبذلونه لي من الخراج، فلا حاجة بي إليه، وهذا نحو ما قاله سليمان عليه السلام « أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم ».
والدول القوية يجب أن تحافظ على الدول الضعيفة، ولا تأخذ منها مالا ما دامت قادرة على إغاثتها.
وخلاصة ذلك - ما أنا فيه خير مما تبذلونه.
(فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) أي ولكن ساعدوني بفعلة وصنّاع يحسنون العمل والبناء، أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج سدا منيعا، وحاجزا حصينا أمنع مما تريدون.
ثم بين تلك القوة التي طلبها فقال:
(آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتونى أفرغ عليه قطرا) أيجيئونى بقطع الحديد، فلما جاءوه بها أخذ يبنى شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو، قال للعملة: انفخوا بالكيران في زبر الحديد التي وضعت بين الصدفين ففعلوا، ومازالوا كذلك حتى صارت كالنار اشتعالا وتوهجا، فصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض، وسدّ الفجوات التي بين الحديد وصار جبلا صلدا.
(فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) أي إن يأجوج ومأجوج ما قدروا أن يصعدوا من فوق السد لارتفاعه وملاسته، ولا استطاعوا نقبه لصلابته وثخانته.
(قال هذا رحمة من ربى) أي قال ذو القرنين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة من الله ورحمة بعباده، إذ صار حاجزا بينكم وبين يأجوج ومأجوج يمنعهم من أن يعيثوا في الأرض فسادا.
(فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء) أي فإذا دنا وقت خروجهم من وراء السد جعله ربى بقدرته وسلطانه أرضا مستوية، فسلط عليهم منهم أو من غيرهم من يهدمه ويسوي به الأرض.
(وكان وعد ربي حقا) أي وكان كل ما وعد به سبحانه حقا ثابتا لا ريب في تحققه، وقد جاء وعده تعالى بخروج جنكيزخان وسلائله فعاثوا في الأرض فسادا من الشرق والغرب وفعلوا الأفاعيل بالدولة الإسلامية، وأزالوا معالم الخلافة من بغداد كما علمت ذلك فيما سلف.
وقد ذكر المؤرخون أن سبب خروج جنكيز خان أن سلطان خوارزم السلجوقي قتل رسله وتجاره المرسلين من بلاده، وسلب أموالهم، وأغار على أطراف بلاده، فاغتاظ، وكتب إلى السلطان كتابا قال فيه: كيف تجرأتم على أصحابي ورجالى، وأخذتم تجارتى ومالى... ا تحركون الفتنة النائمة. وتنبهون الشرور الكامنة...
أوما جاءكم عن نبيكم (وعليكم أن تمنعوا من السفاهة غنيّكم، وعن ظلم الضعيف غويّكم) أوما بلّغكم عنه مرشدوكم (اتركوا الترك ما تركوكم) وكيف تؤذون الجار وتسيئون الجوار. ونبيكم قد أوصى به... ألا إن الفتنة نائمة فلا توقظوها، وهذه وصاياي إليكم فعوها واحفظوها، وتلافئوا التلف قبل أن ينهض داعي الانتقام، وينفتح عليكم سد يأجوج ومأجوج، وسينصر الله المظلوم ولينسلنّ عليكم يأجوج ومأجوج من كل حدب اه ملخصا.
روى البخاري عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن رسول الله ﷺ دخل عليها يوما فزعا يقول « لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون فقال: نعم إذا كثر الخبث ».
ولقد اتسع ذلك الفتح من هذا التاريخ شيئا فشيئا حتى فتح عن آخره في القرن السابع الهجري، وخرج هؤلاء القوم كما قدمنا، وقد عثر على آثاره كما علمت فيما سلف.
(وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) أي ويوم يدك السد يخرج هؤلاء من ورائه يموجون في الناس، ويفسدون عليهم زروعهم ويتلفون أموالهم، وهذا بمعنى قوله في سورة الأنبياء: « حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون » أي وهم من كل مرتفع من الأرض يسرعون في النزول من الآكام والمرتفعات، وتلك حال تنطبق على قوم جنكيزخان، فقد كان خروجهم من هضبات آسيا الوسطى، كما تقدم نقلا عن مؤرخى العرب والإفرنج.
كل هذا قبل النفخ في الصور بزمن مجهول غير معلوم.
(ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا) أي فإذا دنا ميقات الساعة نفخ في الصور وجمعنا الناس جمعا، وأحضرناهم للحساب كما قال: « قل إن الأولين والآخرين. لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم » وقوله: « وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ».
[سورة الكهف (18): الآيات 100 الى 106]
وعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
تفسير المفردات
عرضنا: أي أظهرنا وأبرزنا، غطاء: أي غشاوة محيطة بها، عن ذكرى: أي عن الآيات الموصلة إلى ذكرى بتوحيدي وتمجيدى، أولياء: أي معبودات يقونهم بأسى، أعتدنا: أي هيأنا، نزلا: أي طعاما يتمتعون به حين ورودهم إلى ربهم، ولقائه: أي حين البعث والحشر وما يتبع ذلك، الهزؤ: السخرية والاحتقار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة ينفخ في الصور لقيام الخلق من قبورهم بعد أن تقطعت أوصالهم وتمزقت أجسامهم، وجمعهم في صعيد واحد للحساب والجزاء - قفّى على ذلك ببيان أنه إذ ذاك يبرز النار للكافرين بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا، وفى ذلك تعجيل الهم والحزن لهم، من قبل أنهم تعاموا وتصامّوا عن قبول الهدى واتباع الحق وحسبوا أن اتخاذهم أولياء من دون الله ينجيهم من عذابه، وأن ما عملوه من
تلك الأعمال الباطلة نافع لهم، وكل ذلك وهم وخيال، فلا فائدة منه في ذلك اليوم، ولا نقيم له إذ ذاك وزنا.
روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وحنى الجبهة وأصغى الأذن. متى يؤمر أن ينفخ؟
ولو أن أهل منّى اجتمعوا على القرن أن يقلّوه من الأرض ما قدروا عليه، قال: فأبلس (بئس وتحير) أصحاب رسول الله ﷺ وشق عليهم، قال فقال رسول الله ﷺ قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا » والحديث يشير إلى قرب الساعة وأنها أوشكت تجىء.
الإيضاح
(وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) أي وأبرزنا جهنم يوم ينفخ في الصور، وأظهرناها للكافرين بالله، حتى يروا أهوالها وشديد نكالها، ويسمعوا لها تغيظا وزفيرا، وفى هذا تعجيل للهمّ والحزن، ومعرفة أنهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفا.
ثم بين أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال:
(الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا) أي إن هذا العذاب إنما بالهم من جراء أنهم كانوا لا ينظرون في آيات الله فيتفكروا فيها، ولا يتأملون حججه فيعتبروا بها، وينيبوا إلى ربهم، وينقادوا لآمره ونهيه، وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكرهم به، وبيانه الذي بيّنه لهم في آي كتابه، فتغافلوا، وتعاموا وتصامّوا عن قبول الهدى واتباع الحق كما قال: « ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ».
ذاك أنهم لما دنّسوا أنفسهم باجتراح المعاصي والآثام، وأطاعوا وساوس الشيطان، وما نصبه لهم من الحبائل، طبع الله على قلوبهم وجعل على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.
ثم بيّن أن ما اعتمدوا عليه من المعبودات الأخرى لا يجديهم نفعا فقال:
(أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء) أي أفظن الذين كفروا بي، واتخذوا عبادي الذين هم في قبضتى وتحت سلطاني كالملائكة وعيسى - معبودات من دوني - أظنوا أن ذلك يجديهم نفعا، أو يرفع عنهم ما يحل بهم من النكال والوبال؟.
وخلاصة هذا - أظنوا أن ذلك الاتخاذ ينفعهم، وأنه لا يغضبنى؟ - كلّا.
ثم أكد هذا الإنكار بقوله:
(إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) أي إنا هيأنا لهؤلاء الكافرين جهنم عوضا مما أعدوه لأنفسهم من الأولياء الذين اتخذوهم زادا ليوم المعاد.
والخلاصة - إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدّة والذّخر - عدّة هي جهنم وبئس المصير.
وفي ذلك تهكم بهم، وتخطئة لهم في حسبانهم ذلك، وإيماء إلى أن لهم وراء جهنم ألوانا أخرى من العذاب، وما جهنم إلا أنموذج منه.
ثم ذكر سبحانه ما فيه تنبيه إلى جهلهم فقال:
(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل من أهل الكتابين اليهود والنصارى: هل نخبركم بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبغون به ثوابا وفضلا، فنالوا به هلاكا وبوارا كالمشترى سلعة يرجو بها ربحا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعه، ووكس في الذي رجا فضله؟
وخلاصة ذلك - إنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، وظنوا أنهم بفعلهم هذا مطيعون له، وأنهم يحسنون صنعا، ثم استبان لهم أنهم كانوا مخطئين، وفى ضلال مبين، وأن سعيهم الذي سعوه في الدنيا ذهب هباء، فلم يجدهم نقيرا ولا قطميرا.
ثم بين السبب في بطلان سعيهم فقال:
(أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) أي إن هؤلاء الأخسرين أعمالا هم الذين كفروا بالدلائل المنبثة في الآفاق والأنفس التي تدعو إلى توحيده، وكفروا بالبعث والحساب وما يتبع ذلك من أمور الآخرة، ومن ثمّ حبطت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها، بل لهم منها عذاب وخزى طويل، ولا تثقل بها موازينهم، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة وليس لهم منها شيء.
ثم بيّن مآلهم بسبب كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك الكفر فقال:
(ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتى ورسلي هزوا) أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم رسل الله ومعجزاتهم التي أظهرها على أيديهم هزؤا وسخرية، فلم يكتفوا بالكفر بها، بل ارتكبوا هذه الحماقة التي هي أعظم أنواع الاحتقار.
[سورة الكهف (18): الآيات 107 الى 110]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
تفسير المفردات
الفردوس: البستان بالرومية. وقال السدي: إنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا، حولا: أي تحولا، والمداد: ما يمد به الشيء واختصّ بما تمد به الدواة من الحبر، كلمات ربي: معلوماته غير المتناهية، والرجاء: طمع حصول ما فيه مسرة مستقبلة، ولقاء ربه: هو البعث وما يتبعه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكفار من العذاب في جهنم، جزاء كفرهم بربهم، واستهزائهم برسله وآياته - أردف ذلك بما يرغّب المؤمنين في العمل الصالح من جنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا على إنابتهم إليه وإخباتهم له، ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي ذكر فيه الدلائل والبينات على وحدانيته وإرساله الرسل والبعث والجزاء للدلالة على عظيم فضله، ومزيد إنعامه ثم أعقب ذلك ببيان أن العمل لا يتقبّل إلا إذا صاحبه أمران: أن يكون خالصا لوجهه تعالى، وأن يكون مبرأ من الشرك الخفي والجلي.
روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال « من سمّع سمّع الله به، ومن يرائى يرائى الله به »
أي من عمل عملا مراءاة للناس، وليشتهر به شهّره الله يوم القيامة
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول « إن الله تبارك وتعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ».
الإيضاح
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) أي إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، وعملوا صالح الأعمال ابتغاء المثوبة من ربهم - لهم بساتين الفردوس في أعلى الجنة وأوسطها منزلا.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى، ومنه تفجر الأنهار ».
(خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) أي لابثين فيها أبدا لا يبغون عنها تحولا إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى.
وخلاصة هذا - إنه لا مكان أعز منها عندهم، ولا أرفع شأنا حتى تنازعهم إليه أنفسهم، وتطمح إليه أبصارهم.
ثم نبّه إلى عظيم شأن القرآن بقوله:
(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا) أي قل لهم أيها الرسول: لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وعلومه لنفد ماء البحر قبل أن تنفد تلك الكلمات، ولو مددنا ماء البحر بمثل ما فيه من الماء مددا وعونا، لأن مجموع المتناهيين متناه، وعلوم الله وحكمته لا نهاية لها، والمتناهي لا يفى البتة بغير المتناهي.
ونحو الآية قوله « ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ».
روي أن اليهود قالوا: يا محمد تزعم أننا قد أوتينا الحكمة، وفى كتابك « ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا » ثم تقول « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا » يريدون بذلك الاعتراض بوجود التناقض فأنزل الله الآية ردا عليهم.
وقد أثبت العلم الحديث ما يتبين منه أن في كل عالم من العوالم الأرضية والسماوية ما لا يحصى من النعم على عباده، وعليك أن تلقى سمعك إلى آخر الآراء التي اهتدى إليها العلماء في العصر الحاضر.
قال الأستاذ جينس الإنكليزى المدرس لعلوم الرياضيات التطبيقية في جامعة (بنسلفانيا) بأمريقا في 7 من مارث 1928 وهي أحدث الآراء في منشأ الكائنات وعدم التناهى في الزمان والمكان. ما خلاصته:
(1) إن عمر الأرض نحو ألفي مليون سنة.
(2) إن الإنسان لم يعش على الأرض إلا منذ ثلاثمائة ألف سنة فحسب.
(3) إن الشمس ستظل بعد ألف ألف مليون سنة كما هي الآن تقريبا، وتدور الأرض حولها كما هي الآن.
(4) الإنسان في المستقبل يكون أحكم من الإنسان الحاضر بثلاثة ملايين مرة على الأقل، فسينظم معيشته وفق حال الكرة الأرضية إذ ذاك.
(5) مما تقدم نعلم أن الإنسان حديث العهد بالولادة على الأرض، فهو طفل في علومه ومعارفه، وكل همّ هذا الطفل كان موجها إلى غذائه ومسكنه، وهو يجهل العوالم الأخرى، ولكنه الآن عرف أن هناك عوالم أخرى لا نهاية لها، وأن معرفته بها تافهة جد التفاهة، وربما عاش بعد الآن ألفى مليون سنة على الأرض، وبعبارة أخرى إنه يعيش مدة تعادل عمر الأرض في الماضي.
(6) الأجرام التي حولنا لها نهاية، أما الفضاء الذي بعدها فلا نهاية له، فالشمس والكواكب والمجرّات لها نهاية، ولكن وراءها فضاء لا نهاية له.
(7) الأجرام العلويّة التي نراها والتي لا نراها كرية الشكل كقطرة الماء وكرة الأرض والشمس.
(8) الإشارات اللاسلكية التي تنبعث من جهاز لا سلكى كبير تدور حول الكرة الأرضية في أقل من سبع ثانية، وتعود إلى النقطة التي بدأت منها، وهكذا نحن لو اخترقنا هذه العوالم رجعنا إلى مبدإ سفرنا.
(9) إننا لو صنعنا منظارا قويا (تلسكوبا) لنرى الأجرام السماوية، لرأينا النجوم بهيئتها التي كانت عليها حينما أرسلت إلينا النور قبل ملايين السنين.
(10) إن الإنسان اليوم طفل في العلوم، وربما علم في المستقبل ما لا يتخيله الآن.
(11) إن سرعة النور في الثانية الواحدة 186 ألف ميل، ومثله في ذلك الكهرباء اللاسلكية، لأنهما شيء واحد في جوهرهما، ويرجح أن النور يسير حول الفضاء الكروي مائة ألف مليون سنة، أي إن النور يدور في هذا العالم المملوء بالأجرام العلوية الذي مجموعه كرة واحدة مدة مائة ألف مليون سنة مع العلم بأنه يدور حول الأرض في سبع ثانية، فما أبعد النسبة بين سبع ثانية، وبين مائة ألف مليون سنة. إلا أن الأرقام لا تقدر أن تحصى المسافة المحصورة بين أي نقطتين كانتا على محيط الفضاء الكروي.
(12) الشمس أكبر من الأرض حجما بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وما هي إلا حبة رمل على شاطىء هذا الفضاء الكروي، وهي واحدة من أسرة من أسر الكائنات التي في الفضاء الكروي التي قدرها العلامة (سيرز) بثلاثين ألف مليون مجموعة، وشمسنا وتوابعها حبة رمل في مجموعة واحدة من هذه الثلاثين ألف مليون مجموعة.
(13) إن هناك سدما لولبية في خارج المجرة، وهي مجموعة من النجوم التي تمّ نشوءها أولا تزال في طور التكوين، وفى بعضها من المادة ما يكفى لخلق ألف مليون شمس كشمسنا.
(14) يقول (هويل) إن مرقب (تلسكوب) مونت ويلسون بأمريقا يريك نحو مليونين من تلك السدم، وإذا تمكن الإنسان من صنع مرقب أكبر من هذا فإنه يرى بلا شك ملايين كثيرة أخرى منها، وفيها من المادة ما يكفى لخلق ملايين الشموس والأجرام الفلكية، ويقول: إذا أردت أن تعرف عدد النجوم التي تسبح في الفضاء على وجه التقريب، فضع رقم 2 وعلى يمينه 24 صفرا، وهذا العدد يغطى الجزائر البريطانية إلى عمق مئات من الأمتار.
(15) أضعف النجوم المعروفة هي نجم (وولف) ونوره جزء من عشرين جزءا من نور الشمس، ونور النجم (دورادوس) يساوى ثلاثمائة ألف ضعف بالنسبة للنور المنبثق من الشمس. وأصغر النجوم هو نجم (فان مانن) وحجمه كحجم الأرض، وأكبر النجوم الجوزاء، وهي أكبر من الشمس خمسا وعشرين مليون مرة، ونسبة نورها إلى نور الشمس كنسبة نور المصابيح الكهربائية إلى نور حشرة (الحباحب).
(16) إن الشمس تخرج أشعة تعادل قوتها خمسين حصانا من كل بوصة مربعة، وبعض النجوم التي هي أعظم من الشمس تشعّ نورا من البوصة المربعة يساوى قوة ثلاثين ألف حصان لكل بوصة مربعة.
(17) إن الشمس تفقد كل يوم من المادة بسبب خروج الأشعة منها ما يساوى 250 مليون طن في الدقيقة، ففي اليوم تفقد 360 ألف مليون طن.
(18) يظن أن عمر الشمس الآن عشرة آلاف مليون سنة، ويمكن أن تعيش ملايين ملايين السنين دون أن تنطفىء.
(19) عمر الأجرام الفلكية يختلف من خمسة آلاف مليون سنة إلى عشرة آلاف مليون سنة اهـ.
هذه آراء علماء الفلك في العصر الحاضر استنبطوها بالحساب تارة، وبوجه التقريب تارة أخرى، مما يرشد إلى تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) الآية.
فهذه هي الكلمات الإلهية التي أدهشت الألباب، وضاعت الأعمار في البحث عن علم شيء منها، ولا يزال الناس في عماية من أمرها، ولم يصلوا إلا إلى معرفة القليل كما قال: « والله يعلم وأنتم لا تعلمون ».
(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد) أي قل لهم أيها الرسول: إنما أنا بشر مثل ما أنتم كذلك، ولا ادّعى الإحاطة بكلمات الله جلت قدرته، ولا علم لي إلا ما علمنى ربي، وأن الله أوحى إلي أن معبودكم الذي يجب أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا هو معبود واحد لا ثاني له ولا شريك.
(فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) أي فمن كان يطمع في ثواب الله على طاعته فليخلص له العبادة، وليفرد له الربوبية، ولا يشرك به سواه، لا إشراكا جليّا كما فعل الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، ولا إشراكا خفيّا كما فعل أهل الرياء ممن يطلب بعمله الدنيا، وهذا هو الشرك الأصغر كما صح في الحديث، وروى مستفيضا في الأخبار من أن كل عمل أريد به الدنيا لا يقبل.
فقد أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي ﷺ يرويه عن ربه قال: « أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو الذي أشرك »
نسأل المولى القدير أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، لا يراد به رضا أحد من خلقه
إجمال ما تضمنته السورة من الأغراض والمقاصد
(1) وصف الكتاب الكريم بأنه قيم لا عوج فيه، جاء للتبشير والإنذار.
(2) ما جاء على ظهر الأرض هو زينة لها، وقد خلقه الله ابتلاء للإنسان ليرى كيف ينتفع به.
(3) ما جاء من قصص أهل الكهف ليس بالعظيم إذا قيس بما في ملكوت السموات والأرض.
(4) وصف الكهف وأهله، مدة لبثهم فيه، عدد أهله.
(5) أمر النبي ﷺ بالجلوس مع فقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى أغنيائهم إجابة لدعوتهم.
(6) ذكر ما يلاقيه الكفار من الوبال والنكال يوم القيامة.
(7) ضرب مثل يبين حال فقراء المؤمنين وأغنياء المشركين.
(8) ضرب المثل لحال الدنيا.
(9) عرض كتاب المرء عليه في الآخرة وخوف المجرمين منه.
(10) عداوة إبليس لآدم وبنيه.
(11) قصص موسى والخضر.
(12) قصص ذي القرنين وسد يأجوج ومأجوج، وكيف صنعه ذو القرنين
(13) وصف أعمال المشركين وأنها ضلال وخيبة في الآخرة.
(14) ما يلقاه المؤمنون من النعيم في الآخرة.
(15) علوم الله تعالى لا نهاية لها.
سورة مريم
هي مكية إلا آيتي 58، 71 فمد نيتان، وآيها ثمان وتسعون.
ومناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من أعاجيب القصص كقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى عليهما السلام.
[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 11]
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
تفسير المفردات
زكريا (يمد ويقصر) من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وكان نجارا، نادى ربه: أي دعاه، خفيا: أي مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم، وهن العظم: ضعف ورقّ من الكبر إذ قد بلغ خمسا وسبعين سنة أو ثمانين، واشتعل الرأس شيبا: أي صار الشيب كالنار والشعر كأنه الحطب، ولقوتها وشدّتها أحرقت الرأس نفسه، شقيا. يقال شقى بكذا: أي تعب فيه ولم يحصّل مقصوده منه، والمراد أنه خائب غير مستجاب الدعوة، الموالي: هم عصبة الرجل، من ورائي: أي من بعدي، ويقال رجل عاقر وامرأة عاقر إذا كانا عقيمين، وليا: أي ولدا من صلبي، ويعقوب: هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وكان متزوجا أخت مريم بنت عمران من ولد سليمان عليه السلام، رضيا: أي مرضيا عندك قولا وفعلا، سميا: أي شريكا له في الاسم فلم يسمّ أحد بهذا الاسم قبله، وهذا دليل على أن الأسماء السّنع - الشريفة - جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنتحى في التسمية كما قال قائلهم في المدح:
سنع الأسامي مسبلي أزر حمر تمسّ الأرض بالهدب
أنى: أي كيف، عتيا من عتا يعتو: أي يبست مفاصله وعظامه، شيئا: أي موجودا، آية: علامة، سويا: أي سوي الخلق سليم الجوارح ليس به بكم ولا خرس، المحراب: المصلّى، أوحى: أي أومأ وأشار، سبّحوا: أي صلوا، بكرة وعشيا أي صلاة الفجر وصلاة العصر.
المعنى الجملي
روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة - أن جعفر بن أبي طالب قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.
الإيضاح
(كهيعص) تقدم الكلام في المراد من أوائل السور، وأن المختار أن المقصود بها التنبيه كحروف التنبيه التي تقع أول الكلام نحو ألا ويا وغيرهما، وتقرأ بأسمائها فيقال (كاف. ها. يا. عين. صاد).
(ذكر رحمت ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفيا) أي مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا حين دعا ربه دعاء خفيا مستورا عن أعين الناس.
وإنما أخفى دعاءه، لأنه أدل على الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من لائمة الناس، على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة.
وقصارى ذلك - إن في هذه السورة ذكر الرحمة التي رحم الله بها عبده زكريا حين أسرّ بدعائه إليه.
ثم فصّل كيفية دعائه بقوله:
(قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتي عاقرا) أورد زكريا عليه السلام قبل سؤاله أمورا ثلاثة، كل منها يستحق الرحمة والشفقة:
(1) ضعفه ظاهرا وباطنا، وأثر الأول قد ظهر في العظام التي هي حاملة سائر الأعضاء، ومتى وصل إليها الضعف كان ضعف ما عداها أولى وأجدر، وأثر الثاني واضح باستيلاء الشيب على الرأس واضطرامه في السواد كما قال ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكى لونه طرّة صبح تحت أذيال الدجى
واشتعل المبيضّ في مسودّه مثل اشتعال النار في جمر الغضا
(2) إنه ما ردّ دعاؤه ولا خاب استعطافه حينا من الدهر، بل كان كلما دعا استجيب له، وهو في هذه الحال أجدر بالإجابة لضعفه وشيخوخته، وفى هذا إشارة إلى لطف الله به، وعظيم فضله عليه، مدى حياته.
وقد روى التاريخ أن معن بن زائدة أتاه سائل فقال من أنت؟ قال أنا الذي أحسنت إليه حين كذا، قال مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته.
(3) إن في إجابة الطلب منفعة دينية، إذ أنه خاف أن الموالي أي الورثة الذين يخلفونه في إقامة الشعائر الدينية - لا يؤدون ما يجب عليهم نحو الدين من نشره وتبليغه الناس وعبادة الله كما أمر، والذبّ عنه إذا جد الجدّ، ووجب الدفاع عنه، فقد أثر عنهم أنهم كانوا من شرار بني إسرائيل، فخافهم ألا يحسنوا خلافته في أمته، لا في الدين ولا في المال، ولا في السياسة التي تتبع في إدارة شؤونها.
وقد عرف زكريا عليه السلام ببعض الأمارات أن عصبته وهم إخوته وبنو عمه ربما استمروا على عادتهم في الشر والفساد فخافهم على الدين أن يغيّروه، وألا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه يقتدى به في إحيائه، وينهج نهجه فيه فقال:
(فهب لي من لدنك وليا. يرثنى ويرث من آل يعقوب 2 واجعله رب رضيا) أي أعطني من واسع فضلك، وعظيم جودك وعطائك، لا بطريق الأسباب العادية ولدا من صلبى، يرث الحبورة مني، ويرث من بنى ماثان ملكهم (قال الكلبي كان بنو ماثان رؤس بني إسرائيل وملوكهم، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ) ويكون برا تقيا مرضيا عندك وعند خلقك، تحبه ويحبونه لدينه وخلقه ومحاسن شيمه.
ونحو الآية قوله في سورة آل عمران حكاية عنه « قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة » وقوله في سورة الأنبياء « وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين ».
ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه وتولى تسمية الولد بنفسه فقال:
(يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) أي فاستجاب دعاءه وقال: يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحي ى (معرّب يوحنا، ففي إنجيل متى أنه يدعى يوحنا المعمداني لأنه كان يعمّد الناس في زمانه) لم يسم أحد من قبله بمثل اسمه.
ثم ذكر جواب زكريا عند هذه البشرى مظهرا التعجب مما سمع:
(قال رب إني يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا؟) أي ومن أي وجه يكون لي ذلك وامرأتي عاقر لا تحبل، وقد ضعفت من الكبر عن مباضعة النساء، أبأن تقوّيني على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجي ولودا وأنت القادر على ما تشاء، أم بأن أتزوج زوجا غير تلك العاقر؟
وخلاصة ذلك - إنه يستثبت ربه الخبر عن الوجه الذي يكون من قبله الولد الذي بشره به، لا إنكار منه لذلك وكيف يكون منه الإنكار لذلك وهو المبتدئ مسألة ربه به بقوله: فهب لي من لدنك وليا.
وإجمال المعنى - إنه تعجب حين أجيب إلى ما سأل وبشّر بالولد، وفرح فرحا شديدا وسأل عن الوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته عاقر لم تلد من أول عمرها، والآن قد كبرت وهو قد كبر وعتا: أي يبس عظمه ونحل ولم يبق له قدرة على قربان النساء، وكأنّه يقول: إني حين كنت شابا وكهلا لم أرزق الولد لاختلال أحد السببين وهو عقم المرأة، أفحين اختل السببان أرزقه؟
(قال كذلك) أي قال الله تعالى: الأمر كما قلت، فسنهب لك الولد مع ما أنتما عليه من العقم والشيخوخة.
ثم علل هذا بقوله:
(قال ربك هو على هين) أي قال ربك الذي عوّدك الإحسان: خلق ولد منكما على هذه الحال هيّن، فإني إذا أردت شيئا كان دون توقف على الأسباب العادية التي رسمتها للحمل والولادة.
ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال:
(وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) أي وليس خلق الغلام الذي وعدتك أن أهبه لك مع كبر سنك وعقم زوجك بأعجب من خلق البشر جملة من العدم، فإن خلق آدم ما هو إلا أنموذج لسائر أفراد الجنس، مستتبع لجريان آثاره عليه، فإبداعه عليه السلام على هذا النمط إبداع لجميع أفراد ذريته، والقادر على خلق الذوات والصفات من العدم المحض يكون أجدر بالقدرة على تبديل الصفات بخلق الولد من الشيخ والشيخة.
وخلاصة ذلك - أن من قدر على خلق الذوات والصفات والآثار من العدم، أجدر به أن يكون قادرا على تبديل الصفات، فيعيد إليه وإلى زوجه القوة وسائر الوسائل التي بها يمكن أن ينشأ منهما الولد كما قال « فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه ».
ثم أخبر سبحانه أن زكريا تاقت نفسه إلى سرعة وجود المبشّر به، ليطمئن قلبه بما وعد به كما قال إبراهيم من قبله « رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي » فقال حاكيا عنه:
(قال رب اجعل لي آية) أي قال رب اجعل لي علامة تدلنى على تحقق المسئول في زمن معين، إذ كانت البشارة غير مقيدة بوقت، والحمل خفي في مبدئه ولا سيما ممن انقطع حيضها لكبرها - إلى أنه أراد أن يطلعه على ذلك ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر حين حدوثها.
ثم بين أنه أجابه إلى ما طلب فقال:
(قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) أي علامتك على وجود المبشر به وحصول الحمل، ألا تقدر على تكليم الناس بكلامهم المعروف في محاوراتهم وثلاث ليال وأنت صحيح، سوي الخلق، سليم الجوارح، ليس بك علة ولا مرض؟.
وجاء في سورة آل عمران « قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ».
(فخرج على قومه من المحراب) أي فخرج غبّ إعلام الله له بهذه الآية على قومه من المحراب (وهو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدّم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد) ممتقع اللون منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس (وقد كانوا ينتظرون أن يفتح لهم الباب، إذ كان من عادتهم أن يصلوا معه صلاتى الغداة والعشى في محرابه) فقالوا مالك يا نبي الله؟.
(فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) أي فأومأ إليهم وأشار كما جاء في الآية الأخرى « إلا رمزا » أي سبحوا الله ونزهوه عن الشريك والولد، وعن كل نقص طرفى النهار.
وقد كان أخبرهم بما بشر به قبل وجود الآية، فلما تعذّر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشّر به من ذلك الأمر العجيب في مجرى العادة فسرّوا به.
فلما ولد وبلغ سنا يؤمر فيه مثله قلنا:
[سورة مريم (19): الآيات 12 الى 15]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
تفسير المفردات
الكتاب: هو التوراة، والقوة: الجد والاجتهاد، والحكم والحكمة: الفقه في الدين، وحنانا: أي عطفا على الناس، وزكاة: أي طهارة من الذنوب والآثام، تقيا: أي مطيعا لأمر ربه، منتهيا عما نهى عنه، وبرا بوالديه: أي كثير البر والإحسان إليهما، جبارا: أي متعاليا عن قبول الحق والإذعان له، عصيا: أي مخالفا أمر مولاه، سلام: أي أمان من الله عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه دعاء زكريا ربه أن يهبه غلاما سريا، وذكر أنه أجاب طلبه وجعل لذلك أمارة يعلم منها وقت الحمل به - ذكر هنا أنه بعد أن ظهر ذلك المولود إلى عالم الوجود وترعرع ونما، أمره بالجد والعمل لطاعته، وجعله برّا بوالديه، لا يعصى أوامر ربه، ولا يتعالى عن قبول الحق.
الإيضاح
(يا يحيى خذ الكتاب بقوة) أي خذ التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل بجدّ واجتهاد، وحرص على العمل بها.
ثم وصفه الله بصفات كلها مناهج للخير ووسائل للطاعة فقال:
(1) (وآتيناه الحكم صبيا) أي وأعطيناه الحكمة والفقه في الدين والإقبال على الخير وهو صغير لم يتم سبع سنين، روى أن الغلمان قالوا له يوما: هيّا بنا نلعب، قال: ما للعب خلقنا اذهبوا بنا نصلي.
(2) (وحنانا من لدنا) أي وجعلناه ذا حنان وشفقة على الناس وحسن نظر فيما وليه من الحكم فيهم، وقد وصف الله نبيه محمدا ﷺ بمثل هذا في قوله « فبما رحمة من الله لنت لهم » وقوله « حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم » (3) (وزكاة) أي طهارة من الدنس وبعدا من اجتراح الذنوب والآثام.
(4) (وكان تقيا) أي مطيعا لما به أمر وعنه نهى، فلم يفعل معصية ولا همّ بها.
(5) (وبرا بوالديه) أيكثير البر بهما والإحسان إليهما والحدب عليهما بعيدا عن عقوقهما قولا وفعلا، وقد جعل الله طاعة الوالدين في المرتبة التي تلى مرتبة طاعته فقال: « وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ».
(6) (ولم يكن جبارا) أيلم يكن متكبرا على الناس، بل كان ليّن الجانب متواضعا لهم، وقد أمر الله نبيه محمدا ﷺ بمثل هذا في قوله: « واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين » ووصفه بقوله: « ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك » ومن ثم لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعدا من رحمة ربه.
(7) (عصيا) أي مخالفا لما أمره ربه.
ثم ذكر سبحانه جزاءه على ما قدم من عمل صالح وأسلف من طاعة ربه فقال:
(وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) أيوتحية من الله عليه أول ما يرى الدنيا، وأول يوم يرى فيه أمر الآخرة، وأول يوم يرى فيه الجنة والنار.
وإنما خص هذه المواضع الثلاثة، لأن العبد أحوج ما يكون إلى رضا ربه فيها لضعفه وحاجته وقلة حيلته، وافتقاره إلى رحمة ربه ورأفته به.
[سورة مريم (19): الآيات 16 الى 21]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجابًا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
تفسير المفردات
انتبذت: أي اعتزلت وتنحّت، مكانا شرقيا: أي شرقى بيت المقدس، حجابا: أي ساترا تورات به منهم، روحنا: هو جبريل عليه السلام، سويا: أي سويّ الخلق كامل البنية، أعوذ: أي أعتصم وألتجئ، تقيا: أي مطيعا، لأهب لك: أي لأكون سببا في هبته، غلاما: أي ولدا ذكرا، زكيا: أي طاهرا من الأدناس والأرجاس، أنى: أي كيف يكون ذلك؟ آية: أي علامة على قدرة خالقكم، مقضيا: أي محتوما قد تعلق به قضاؤنا الأزلي.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجه ولدا زكيا مباركا - أردف ذلك بذكر قصص مريم وأنه أنجب منها ولدا من غير أب، وبين القصصين مناسبة ظاهرة، ومن ثم ذكرهما مقترنين في سورة آل عمران وهنا وفى الأنبياء، وبدأ بقصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد بلا أب، ثم ثنّى بقصة عيسى لأنها أغرب من تلك.
ومن حسن طرق التعليم والتفهيم التدرج بالانتقال من الأقرب منالا إلى أصعب منه، وهكذا صعدا.
الإيضاح
(واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) أيواتل أيها الرسول في كتاب الله الذي أنزله إليك بالحق، قصص مريم بنة عمران حين اعتزلت من أهلها وانفردت عنهم إلى مكان شرقى بيت المقدس لتتخلى للعبادة.
وعن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذ النصارى المشرق قبلة، لقول الله عز وجل: « إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا » فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؟.
(فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا) أيفاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس، فأرسلنا إليها جبريل عليه السلام فجاءها بصورة رجل معتدل الخلق ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، إذ ربما يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها أسى وغما، وإنما مثّل لها بهذا المثال، لتأنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته، ولأنّه لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع محاورته.
ثم حكى عنها سبحانه ما قالته حينئذ فقال:
(قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) أيفلما رأته فزعت منه وقالت: إني أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرّم الله عليك إن كنت ذا تقوى له، تتقى محارمه، وتجتنب معاصيه، فمن يتق الله يجتنب ذلك.
وإجمال المعنى - إنه لما تبدى لها في صورة البشر وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت: إني أعوذ بالله منك إن كنت تخافه - وقد فعلت المشروع في الدفع وهو أن يكون بالهوينى والأسهل فالأسهل.
وخلاصة ذلك - إن الاستعاذة لا تؤثر إلا في التقى، لأن الله تعالى يخشى في حال، دون حال، فهو كقوله: « وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين » أي إن الإيمان يوجب ذلك.
فلما علم جبريل خوفها:
(قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) أيفقال الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست ممن تظنين، ولا يقع مني ما تتوهمين من الشر، ولكني رسول ربك بعثني إليك، لأهب لك غلاما طاهرا مبرّأ من العيوب، وقد أضاف الهبة إلى نفسه من قبل أنها جرت على يده بأن نفخ في جيبها بأمر الله.
ولما عجبت مريم مما سمعت:
(قالت إني يكون لي غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا) أي قالت لجبريل: من أي وجه يكون لي غلام، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور؟.
(قال كذلك قال ربك هو على هين) أي قال الملك مجيبا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلام وإن لم تكونى ذات بعل، ولا تقترفين فاحشة، فإنه تعالى على ما يشاء قدير، ولا يمتنع عليه فعل ما يريده، ولا يحتاج في إنشائه إلى الموادّ والآلات.
ونحو الآية قوله في سورة آل عمران: « كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ».
(ولنجعله آية للناس) أي وفعلنا ذلك لنجعل خلقه برهانا على قدرتنا، فقد خلقنا أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلقنا عيسى من أنثى فحسب، وخلقنا بقية الذرية من ذكر وأنثى، وإلى الأولين أشار القائل:
ألا رب مولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان
(ورحمة منا) أي ورحمة من الله لعباده، إذ بعثه نبيا يدعوا إلى عبادته وتوحيده.
(وكان أمرا مقضيا) أي قد قضاه الله في سابق علمه، ومضى به حكمه، فلا يغير.
ولا يبدّل: « ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد ».
[سورة مريم (19): الآيات 22 الى 26]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
تفسير المفردات
فانتبذت: أي فاعتزلت، قصيا: أي بعيدا من أهلها وراء الجبل، فأجاءها المخاض: أي فألجأها واضطرها، والمخاض: الطلق حين تحرك الولد للخروج من البطن والنسي: (بفتح النون وكسرها) الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، والمنسى: ما لا يخطر بالبال لتفاهته، والسري: السيد الشريف، والهز: تحريك الشيء بعنف أو بدونه، تساقط: أي تسقط، ورطبا: أي بسرا ناضجا جنيا: أي صالحا للاجتناء، فقولي: أي أشيرى إليهم. قال الفرّاء: العرب تسمى كل ما أفهم الإنسان شيئا - كلاما بأى طريق كان، إلا إذا أكد بالمصدر فيكون حقيقة في الكلام كقوله: « وكلم الله موسى تكليما » صوما: أي صمتا.
الإيضاح
(فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) أي فلما قال لها جبريل ما قال: استسلمت لقضاء الله، فنفخ جبريل في جيب درعها (الفتحة التي من الأمام في القميص) فدخلت النفخة في جوفها فحملته قاله ابن عباس، وقال غيره: نفخ في كمها، والقرآن قد أثبت النفخ فقال: فنفخنا فيها من روحنا » ولم يعين موضع النفخ فلا نجزم بشىء من ذلك إلا بالدليل القاطع، وحينئذ اعتزلت بالذي حملت وهو عيسى عليه السلام مكانا قاصيا عن الناس.
والقرآن الكريم لم يعين مدة الحمل (ولا حاجة إليها في العبرة) فنقول إنها كانت كما يكون غيرها من النساء إلا إذا ثبت غيره، وكذلك لا حاجة إلى تعيين سنها حينئذ، إذ لا يتعلق به كبير فائدة.
وإنما اتخذت المكان البعيد حياء من قومها وهي من سلائل بيت النبوة، ولأنها استشعرت منهم اتهامها بالريبة، فرأت أن لا تراهم وأن لا يروها.
(فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) أي فألجأها وجع الولادة وألم الطلق أن تستند إلى جذع النخلة للتشبث به، لسهولة الولادة، وتمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت، حياء من الناس وخوفا من لأئمتهم، أو كانت شيئا لا يعتد به ولا يخطر ببال أحد من الناس.
(فناداها من تحتها: ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا) أي فناداها عيسى عليه السلام كما قال الحسن البصري وسعيد بن جبير، (وقد أنطقه الله حين وضعته تطييبا لقلبها، وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد بادى ذي بدء علوّ شأن ذلك المولود الذي بشرها به جبريل عليه السلام) ألا تحزنى فقد جعل ربك المحسن إليك، تحتك غلاما رفيع الشأن، سامى القدر ذا سخاء في مروءة.
(وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) أي أميلى إليك جذع النخلة واجذبيه بتحريكه، يسقط عليك رطبا جنيا تأكلين منه ما تشائين.
وتلك آية أخرى لها إذ روى أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء، فأنزل الله لها رزقا فجعل للنخلة رأسا وخوصا وجعل لها ثمرا رطبا - وهذه رواية يعوزها الدليل.
وفي هذا إيماء وتنبيه إلى أن من يقدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء يقدر أن يجعلها تحمل من غير السنن العادية، وإلى أن السعي في الرزق مطلوب ولا ينافى التوكل، ولله در القائل:
ألم تر أن الله أوحى لمريم وهزّى إليك الجذع يسّاقط الرّطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه إليها ولكن كل شيء له سبب
(فكلى واشربى وقرى عينا) أي فكلى من ذلك الرطب، واشربى من عصيره، وطيبى نفسا، وأبعدى عنك الأحزان، فإن الله قدير أن ينزّه ساحتك ويبعد عنك تخرّصات المبطلين الذين يتقيدون بالسنن التي جعلها الله الطريق للولادة في البشر، ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك حتى يثبتوا لك القداسة والطهر.
(فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) أي فإن رأيت أحدا من بنى آدم يسألك عن أمرك، وأمر ولدك وكيف ولدته، فأشيرى إليهم - إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألّا أكلم اليوم أحدا، فإن كلامى يقبل الرد والجدل، ولكن يتكلم عنى ذلك المولود الذي لا يقبل كلامه الدفع والرد، وإني أنزّه نفسي عن مجادلة السفهاء، ولا أكلم إلا الملائكة أو أناجي الخالق.
وليس الصمت عن الكلام من شريعة الإسلام، فقد روى أن أبا بكر دخل على امرأة قد نذرت ألا تتكلم، فقال: إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمى، وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه جاءه رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا، فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلّم؟ قال إنه نذر صوما، لا يكلم اليوم إنسيا، فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت، إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت، وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا - فتكلّم، وأمر بالمعروف، وأنه عن المنكر، فإنه خير لك.
[سورة مريم (19): الآيات 27 الى 33]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْك ِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
تفسير المفردات
فريّا: أي عظيما خارقا للعادة، وهي الولادة بلا أب، من فرى الجلد أي قطعه على وجه الإفساد أو الإصلاح، ومنه في وصف عمر « فلم أر عبقريا يفرى فريّه » وفى المثل: جاء يفري الفري، وهارون هو أخو موسى عليه السلام، وقيل هو رجل صالح من بني إسرائيل، والأخت على هذا بمعنى المشابهة، وشبهوها به تهكما، أو لما رأوا من قبل من صلاحها، والمهد: الموضع يهيّأ للصبى ويوطّأ له والجمع مهود، والكتاب: الإنجيل، مباركا: نفّاعا للناس، أو ثابتا في دين الله، الجبار: المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقا، والشقي: العاصي لربه.
الإيضاح
(فأتت به قومها تحمله قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريا) أي إن مريم حين أمرت أن تصوم يومها، ولا تكلم أحدا من البشر، وأنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها - سلمت أمرها إلى الله، واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها وأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا ما رأوا، واستنكروا وقالوا يا مريم، لقد جئت أمرا عظيما منكرا.
ثم زادوا تأكيدا في توبيخها وتعييرها فقالوا:
(يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا) أي يا من أنت من نسل هارون أخي موسى، كما يقال للتميمى يا أخا تميم، وللمصرى يا أخا مصر، أو يا من أنت شبيهة بذلك الرجل المسمى بهذا الاسم الذي كنت تتأسّين به في العبادة والزهد - ما كان أبوك بالفاجر وما كانت أمك بالبغي، فمن أين لك هذا الولد؟!.
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال « بعثني رسول الله ﷺ إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال فرجعت، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم »
وهذا التفسير النبوي يغنى عن سائر ما روى عن السلف في ذلك.
(فأشارت إليه) أي فأشارت إلى عيسى أن كلّموه، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام، أو اقتصرت على ذلك للمبالغة في إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة، ويقدر على العبارة.
(قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا) أي قالوا لها، متهكمين بها، ظانين أنها تزدري بهم وتهزأ: كيف نكلم من هو صبى في المهد، ولم يعهد في مثله وهو لم يدرج بعد من حجر أمه أن يكلم أحدا؟.
روي أن عيسى لما سمع كلامهم أقبل عليهم وترك الرضاع وأشار بيمينه، ثم بدأ يتكلم فوصف نفسه بجملة صفات:
(1) (قال إني عبد الله) أي إني عبد الله الذي له صفات الكمال لا أعبد غيره، وفى هذا إيماء إلى أن من كان لا يتخذ إلها من دونه، ولا يستعبده شيطان ولا هوى.
(2) (آتاني الكتاب) أي سينزل علي الإنجيل.
(3) (وجعلنى نبيا) أي وسيجعلنى نبيا، وفى هذا براءة لأمه، لأن الله لا يصطفى لنبوته أولاد سفاح.
(4) (وجعلنى مباركا أين ما كنت) أي سيجعلنى نفاعا للناس هاديا لهم إلى سبيل الرشاد في أي مكان كنت، وقد جعل هذه الصفات كأنها حدثت له فعلا وهي لم تحصل بعد، من قبل أنها لما كانت واقعة حتما نزّلت منزلة ما قد حصل.
(5) (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) أي وأمرني بالصلاة، إذ في إقامتها وإدامتها على الوجه الذي سنه الدين - تطهير النفوس من الأرجاس ومنع لها عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأمرني بالزكاة بإعطاء جزء من المال للبائس والمحتاج، لما في ذلك من تطهير المال - ما دمت حيا في الدنيا.
(6) (وبرا بوالدتى) أي وجعلنى برا بوالدتي، مطيعا لها محسنا، وفى هذا رمز إلى نفى الريبة عنها، إذ لو لم تكن كذلك لما أمر الرسول المعصوم بتعظيمها.
(7) (ولم يجعلنى جبارا شقيا) أي ولم يجعلنى جبارا مستكبرا عن عبادته، ولا شقيا بعقوق والدتي وعدم البر بها.
(8) (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) أي والأمنة من الله علي، فلا يقدر أحد على ضرّى في هذه المواطن الثلاثة التي هي أشق ما تكون على العباد.
واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم في المهد، واحتج النصارى على ذلك بأن هذا من الأحداث التي لو وجدت لتوافرت الدواعي على نقلها تواترا، لأنه من المناقب السامية، والفضائل التي لها الميزة العظمى بين الناس، ولما لم يعرف ذلك لدينا مع تتبعنا لفضائله، وشدة بحثنا عن الجليل والحقير من أحواله - علمنا أنه لم يوجد وأيضا فاليهود أظهروا عداوته حين ادعى النبوة، فلو أنه تكلم إذ ذاك لكانت عداوتهم له أشد، ولكان تحيلهم في قتله أعظم، ومن حيث لم يحصل شيء من هذا علمنا أنه لم يتكلم.
والمسلمون يقولون: كفى إثباتا لذلك نص القرآن القاطع - إلى أن العقل يرشد إليه، إذ لو لا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا الحد عليها، وربما كان الحاضرون حين كلامه عددا قليلا ومن ثم لم يشتهر بينهم، وربما لم يحضر اليهود كلامه، ولم يسمعوا به.
[سورة مريم (19): الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
تفسير المفردات
قول الحق: أي قول الصدق الذي لا شبهة فيه، يمترون: أي يشكّون ويتنازعون، ما كان لله أن يتخذ من ولد. أي ما ينبغي ولا يصح أن يجعل له ولدا، صراط مستقيم: أي طريق لا يضل سالكه، الأحزاب: فرق النصارى الثلاث، مشهد: أي شهود وحضور، يوم عظيم: هو يوم القيامة، اليوم: أي في الدنيا، يوم الحسرة، هو يوم القيامة حين يندم الناس على ما فرّطوا في جنب الله، قضى الأمر: أي فرغ من الحساب.
الإيضاح
(ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) أي ذلك الذي فصّلت نبوّته، وذكرت مناقبه وأوصافه، هو عيسى بن مريم، نقول ذلك قول الصدق الذي لا ريب فيه، لا كما يقول اليهود من أنه ساحر وحاشاه، ولا كما تقول طائفة من النصارى إنه ابن الله، ولا كما تزعم طائفة أخرى أنه هو الله، ويخلعون عليه من صفات الألوهية ما هو منه براء.
ثم أكد ما دل عليه سابق الكلام من كونه ابنا لمريم لا لغيرها بقوله:
(ما كان لله أن يتخذ من ولد) أي لا يليق بحكمة الله وكمال ألوهيته أن يتخذ الولد لأنه لو أراده لخلقه بقول « كن » فلا حمل ولا ولادة، ولأن الولد إنما يرغب فيه، ليكون حافظا لأبيه يعوله وهو حي، وذكرا له بعد الموت، والله تعالى لا يحتاج إلى شيء من ذلك لعالم كله خاضع له، لا حاجة له إلى ولد ينفعه، وهو حي أبدا.
ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى تنزيهه تعالى عن ذلك فقال:
(سبحانه) أي تنزه ربنا عن كل نقص من اتخاذ الولد أو غيره.
ثم ذكر علة هذا التنزيه وبيان الوجه فيه فقال:
(إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) أي إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء كما قال: « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » ومن كان هذا شأنه فكيف يتوهم أن يكون له ولد، لأن ذلك من أمارات النقص والاحتياج؟.
(وإن الله ربى وربكم فاعبدوه) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم بقوله - إن الله ربى وربكم، وأمرهم بعبادته.
(هذا صراط مستقيم) أي هذا الذي أوصيتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم فمن سلكه نجا، ومن اتبعه اهتدى، لأنه هو الدين الذي أمر به أنبياءه، من خالفه ضل وغوى، وسلك سبيل الردى.
ثم أشار إلى أنه مع وضوح الأمر في شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - اختلفوا فيه كما قال:
(فاختلف الأحزاب من بينهم) أي فاختلف قوم عيسى في شأنه فرقا ثلاثا.
فقالت اليعقوبية: (نسبة إلى عالم منهم يسمى يعقوب) هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وقالت النسطورية (نسبة إلى عالم يسمى نسطور). هو ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه. وقالت الملكانية (نسبة إلى الملك قسطنطين وكان فيلسوفا عالما) إنه عبد الله كسائر خلقه. وهذا الرأي هو الذي نصره الملك ونصره غيره من شيعته.
ثم توعد من كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا فقال:
(فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) أي فعذاب شديد للكافرين من شهود ذلك اليوم وهو يوم القيامة، لشدة بأسه وعذابه، فالأيدي والأرجل والألسن تشهد على أصحابها، وقد أجل الله عقابهم إلى هذا اليوم حلما منه وثقة بقدرته عليهم، فهو لا يعجّل عقوبة من عصاه كما جاء في الصحيحين « إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ثم قرأ رسول الله ﷺ (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)
وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله ﷺ قال « لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله - إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ».
ثم عجب ربنا من قوة سمع الكفار وحذّة أبصارهم يوم القيامة وقد كانوا على الضد من هذا في الدنيا فقال:
(أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) أي لئن كان هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله أندادا وزعموا أن له ولدا - عميا في الدنيا عن إبصار الحق والنظر إلى حجج الله التي أودعها في الكون دالة على وحدانيته وعظيم قدرته وبديع حكمته، صما عن سماع آي كتبه وما دعتهم إليه الرسل مما ينفعهم في دينهم ودنياهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم - فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم في الآخرة، وما أبصرهم حينئذ، حيث لا يجدى السماع والإبصار شيئا، ويعضّون على أناملهم حسرة وأسفا، ويتمنون على الله الأماني، فيودون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات هيهات فقد فات الأوان.
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب
ومن ثم لا يجاب لهم طلب، بل يقال لكل أفاك أثيم « خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ».
ثم أمر سبحانه نبيه أن ينذر قومه والمشركين جميعا فقال:
(وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) أي وأنذر الناس جميعا يوم يتحسر الظالمون على ما فرّطوا في جنب الله حين فرغ من الحساب، وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، ونودى كل من الفريقين لا خروج من هنا بعد اليوم، ولا موت بعد اليوم.
روى الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ « يؤتى بالموت بهيئة كبش أملح (يخالط بياضه سواد) فينادى مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رأوه، ثم ينادى مناد يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رأوه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ « وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ».
وقوله إذ قضى الأمر أي إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها، ولأهل الجنة بمقام الأبد فيها بذبح الموت.
وذبحه تصوير لأن كلّا من الفريقين يفهم فهما لا لبس فيه أنه لا موت بعد ذلك.
وقوله: وهم في غفلة: أي عن ذلك اليوم، وعن حسراته وأهواله، وقوله: وهم لا يؤمنون: أي وهم لا يصدّقون بالقيامة والبعث ومجازاة الله لهم على سييء أعمالهم بما أخبر أنه مجازيهم به.
ثم سلى رسوله وتوعد المشركين فقال:
(إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون) أي لا يحزنك أيها الرسول تكذيب المشركين لك فيما أتيتهم به من الحق، فإن إلينا مرجعهم ومصيرهم ومصير الخلق أجمعين، ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس بعد فنائهم، ثم نجازى كل نفس بما عملت حينئذ، فنجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب.
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة مريم (19): الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
تفسير المفردات
واذكر في الكتاب: أي اتل في هذه السورة، صدّيقا: أي مبالغا في الصدق لم يكذب قط، صراطا سويا: أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل السعادة، وليا: أي قرينا تليه ويليك في العذاب، أراغب أنت عن آلهتي: أي أكاره لها، لأرجمنك: أي لأشتمنك باللسان أو لأرجمنك بالحجارة، مليّا: أي دهرا طويلا. قال مهلهل:
فتصدعت صمّ الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليّا
حفيا: أي مبالغا في برّى وإكرامى يقال: حفى به إذا اعتنى بإكرامه، شقيا: أي خائب المسعى، لسان صدق: أي ثناء حسنا.
المعنى الجملي
اعلم أن المقصد من هذه السورة إثبات الوحدانية والنبوة والبعث، والمنكرون للتوحيد فريقان: فريق أثبتوا معبودا سوى الله حيا عاقلا وهم النصارى. وفريق أثبتوا معبودا هو جماد ليس بحي ولا عاقل وهم عبدة الأصنام. والفريقان وإن اشتركا في الضلال، فضلال الفريق الثاني أشد، ومن ثم قدم الكلام في النصارى على الكلام في عبدة الأصنام. وذكر قصص إبراهيم أوّلا لأنه أبو العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه، معترفين بدينه كما قال « ملة أبيكم إبراهيم » إلى أنه تعالى نبههم إلى أن الطريق التي جروا عليها وهي التقليد بنحو قولهم « إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون » تخالف طريق الاستدلال التي سار عليها أبوهم إبراهيم في حجاجه مع أبيه آزر.
الإيضاح
(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبية يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟) أيواتل أيها الرسول على قومك الذين يعبدون الأصنام ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدّعون أنهم على ملته (وهو الصّدّيق النبي). حين نهى قومه عن عبادتها وقال لأبيه: ما الذي حبّب إليك أن تعبد ما لا يسمع ثناءك على حين عبادتك له، ولا يبصر خشوعك وخضوعك بين يديه، ولا ينفعك فيدفع عنك ضرا إذا استنصرت به؟.
وقد سلك عليه السلام في دعوته أجمل الآداب في الحجاج، واحتج بأروع البرهانات ليرده عن غيه، ويقفه على طريق الهدى والرشاد، فاستهجن منه أن يعبد ما يستخفّ به كل ذي لبّ، ويأبى الركون إليه كل ذي عقل، فالعبادة هي الغاية القصوى في التعظيم، فلا يستحقها إلا الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، لا الأصنام التي لا تسمع الأصوات، ولا تنظر الأشياء، وتعجز عن جلب المنافع، ودفع المضار.
وقصارى ما قال - إن الإنسان السميع البصير يأنف أن يعبد نظيره، فكيف تعبد ما خرج عن الألوهية بفقره وضعفه واحتياجه إلى من يصنعه، وعن الإنسانية بفقد العقل، وعن الحيوانية بفقد الحواس.
أما كان لك عبرة في حاجته وفقده السمع والبصر؟.
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) أي يا أبى إني وإن كنت من صلبك، وتراني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم إني قد اطّلعت من العلم على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه، فاتبعني أهدك طريقا مستقيما لا زيغ فيه، يوصلك إلى نيل المطلوب، وينجيك من كل مرهوب.
وفي قوله: قد جاءني إيماء إلى أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبّىء، ولم يعين ما جاءه ليشمل كل ما يوصّله إلى الجنة ونعيمها، ويبعد به عن النار وعذابها.
(يا أبت لا تعبد الشيطان) أي لا تطع الشيطان في عبادة هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى عبادتها والموسوس بها.
ونحو الآية قوله: « ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين » وقوله: « إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ».
ثم بين سبب النهي عن طاعته بقوله:
(إن الشيطان كان للرحمن عصيا) أي إن الشيطان عاص مستكبر عمن شملته رحمتك، وعمّته نعمتك، ولا ريب في أن من أطاع العاصي يكون عاصيا وجديرا بأن تسترد منه النعم، وحقيقا بأن تنزل عليه النقم.
ثم حذره من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام فقال:
(يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) أي يا أبى إني أخاف لمحبتى لك، وغيرتى عليك، أن يصيبك عذاب من الرحمن على شركك وعصيانك.
(فتكون للشيطان وليا) أي قرينا وتابعا له في النار.
وقصارى ذلك - إني أخاف أن تكون تابعا للشيطان في الدنيا، فيمسّك عذاب من الرحمن في العقبى.
ولما دعا إبراهيم أباه إلى التوحيد، وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ واللطف، قابله أبوه بجواب هو على الضد من ذلك.
(قال أراغب أنت عن آلهتى يا إبراهيم؟) أي أتكره آلهتي، ولا ترغب في عبادتها يا إبراهيم؟.
(لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتنى إليه، لأرجمنك بالحجارة، فاحذرنى وابعد عنى بالمفارقة من الدار والبلد دهرا طويلا.
وقد قابل الأب رفق الابن بالعنف، فلم يقل يا بني كما قال الابن يا أبت، وقابل وعظه بالسفاهة، إذ هدده بالشتم أو بالضرب بالحجارة بقوله: لئن لم تنته لأرجمنك.
وفي ذلك تسلية للنبي ﷺ وتأسية له بإبراهيم فيما كان يلقى من الأذى من قومه ويقاسيه منهم ومن عمه أبى لهب من العنت والمكروه.
ولما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجابه بأمرين:
(1) (قال س لام عليك) أيسلمت مني لا أصيبك بمكروه ما لم أومر فيك بشىء، وهذا جواب الحليم للسفيه، وفيه توديع ومتاركة ومقابلة للسيئه بالحسنة، وزاد على ذلك أن قال:
(2) (سأستغفر لك ربى) أي سأطلب لك من ربى الغفران، بأن يوفقك للهداية، وينير بصيرتك لقبول الحق، ويرشدك إلى ما فيه الخير. ونحو الآية قوله: « واغفر لأبي إنه كان من الضالين ».
وقصارى دعائه - رب اهد أبي، وأخرجه من الضلال. وإنما استغفر له، لأنه كان قد وعده أن يؤمن كما قال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ».
ثم ذكر أنه محبب إلى ربه فإذا هو استغفر له أجاب طلبه فقال:
(إنه كان بى حفيا) أي إنه سبحانه للطفه بي، وإنعامه علي، عوّدنى الإجابة، فإذا أنا استغفرت لك أغاثك بجوده وكرمه، وغفر لك ذنوبك إن تبت إليه وأنبت ثم بين ما بيّت النية عليه، وعزم على إنفاذه فقال:
(وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) أي وأتباعد عنك وعن قومك وعما تعبدون من الأوثان والأصنام، وأفر بديني وأتشاغل بعبادة ربى الذي ينفعنى ويضرنى، إذ لم تؤثر فيكم نصائحي.
وقد روى أنه عليه السلام هاجر إلى بلاد الشام، وفى هجرته هذه تزوج سارّة.
(وادعوا ربى) أي وأعبده سبحانه وحده، وأجتنب عبادة غيره من المعبودات.
(عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا) أي لعلى لا أكون بدعاء ربى المنعم علي خائب المسعى، كما خبتم أنتم وشقيتم بعبادة تلك الأوثان التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم.
وقد حقق ما عزم عليه، فحقق الله رجاءه، وأجاب دعاءه فقال:
(فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب، وكلا جعلنا نبيا) أي فلما اعتزل إبراهيم أباه وقومه لم يضره ذلك لا في دين ولا دنيا، بل نفعه إذ أبدله بهم من هم خير منهم ووهبه بنين وحفدة هم آباء الأنبياء من بني إسرائيل ولهم الشأن الخطير، والقدر العظيم، فقد وهبه إسحاق وولد لإسحاق يعقوب وقاما مقامه بعد موته وورثا منه النبوة. أما إسماعيل فتولى الله تربيته بعد نقله رضيعا إلى المسجد الحرام فأحيا تلك المشاعر العظام، ومن ثم أفرده بالذكر بقوله: « واذكر في الكتاب إسماعيل » الآية.
ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته بقوله:
(وكلا جعلنا نبيا) أي وجعلنا لكل منهما نسلا وعقبا من الأنبياء أقر الله بهم عينيه في حياته.
(ووهبنا لهم من رحمتنا) أي وآتينا هم من فضلنا الديني والدنيوي ما لم نؤته أحدا من العالمين، فآتيناهم النسل الطاهر، والذرية المباركة، وإجابة الدعاء، واللطف في القضاء، والبركة في المال والأولاد إلى نحو أولئك من خيري الدنيا والآخرة.
(وجعلنا لهم لسان صدق عليا) فمحامدهم مذكورة في جميع الأزمان، سطّرها الدهر على صفحاته، استجابة لدعوته عليه السلام بقوله: « واجعل لي لسان صدق في الآخرين » قال ابن جرير وإنما قال عليّا، لأن جميع الملل والأديان تثنى عليهم وتمدحهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد اجتمعت لإبراهيم خلال لم تجتمع لسواه:
(1) إنه اعتزل قومه حبا في الله، فآتاه الله من هم خير منهم، فوهب له إسماعيل وإسحاق ويعقوب.
(2) إنه تبرأ من أبيه حين تبين منه أنه عدو لله، لا جرم سماه الله أبا المسلمين بقوله: « ملة أبيكم إبراهيم ».
(3) إنه تلّ ولده للجبين، ليذبحه إطاعة لأمر الله ففداه الله بذبح عظيم.
(4) إنه أسلم نفسه للنار ابتغاء رضوان الله فكانت عليه بردا وسلاما.
(5) إنه أشفق على هذه الأمة فقال: « ربنا وابعث فيهم رسولا منهم » فأشركه الله في الدعاء وفى الصلوات الخمس - وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
(6) إنه عادى كل الخلق في الله فقال: « فإنهم عدو لي إلا رب العالمين » فاتخذه الله خليلا كما أخبر بذلك الكتاب: « واتخذ الله إبراهيم خليلا ».
(7) إن الله مدحه بقوله: « وإبراهيم الذي وفى » لا جرم جعل موطىء قدميه مباركا كما قال: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ».
قصص موسى عليه السلام
[سورة مريم (19): الآيات 51 الى 53]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصًا وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
تفسير المفردات
مخلصا: أي مختارا مصطفى، وقربناه: أي تقريب تشريف وتكريم، والطور: هو الجبل الذي بين مصر ومدين، ونجيا: أي مناجيا مكلّما لله بلا واسطة.
الإيضاح
(واذكر في الكتاب موسى) أي واتل أيها الرسول على قومك ما اتصف به موسى عليه السلام من صفات الجلال والكمال التي سأقصها عليك، ليستبين لك علو قدره وعظيم شأنه، وتلك هي:
(1) (إنه كان مخلصا) أي إن الله أخلصه واصطفاه، وأبعد عنه الرجس، وطهّره من الذنوب والآثام كما جاء في الآية الأخرى: « إني اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى ».
(2) (وكان رسولا نبيا) أي إن الله أرسله إلى الخلق داعيا ومبشرا ونذيرا، والرسول هو من أرسله الله إلى الناس ومعه كتاب فيه شريعته التي أرسله بها كموسى عليه السلام، والنبي هو الذي ينبىء عن الله ويخبر قومه عنه، وليس معه كتاب كيوشع عليه السلام.
(3) (وناديناه من جانب الطور الأيمن) أي وكلمناه من الجانب الأيمن للطور أي الذي عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجها إلى مصر، وأنبأناه بأنه رسولنا، ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون، ورحمنا بني إسرائيل بإنزال الكتاب عليهم.
(4) (وقربناه نجيا) أي وقربناه تقريب تشريف وإجلال حين مناجاته لنا وقد مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته، واصطفاه لمصاحبته، ورفع الوسائط بينه وبينه.
وقصارى ذلك - إنه تجاوز العالم المادي، وانغمس في العالم الرّوحى، فقرب من ربه وارتقت نفسه حتى بلغت أقصى مناها، واستعدت للاطلاع على عالم الملكوت، ورؤية ما غاب عن عالم المادة.
(5) (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) أي ووهبنا له من رحمتنا معاضدة أخيه ومؤازرته، إجابة لدعوته عليه السلام بقوله: « واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي » وحققنا ما طلبه له، وجعلناه نبيا: « قال قد أوتيت سؤلك يا موسى » قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هرون أن يكون نبيا، قال ابن عباس: كان هرون أكبر من موسى بأربع سنين.
قصص إسماعيل عليه السلام
[سورة مريم (19): الآيات 54 الى 55]
واذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
المعنى الجملي
قدم الكلام في موسى على الكلام في إسماعيل ليكون الحديث عن يعقوب وبنيه في نسق واحد دون فاصل بينهما، وإسماعيل هو إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقد أثنى عليه ربه بما هو أهله ووصفه بصفات هي مفخرة البشر ومنتهى السموّ والفضل في هذه الدنيا.
الإيضاح
(واذكر في الكتاب إسماعيل) أي اتل أيها الرسول على قومك صفات أبيهم إسماعيل، علّهم يهتدون بهديه، ويحتذون حذوه، ويتخلقون بمثل ما له من مناقب وفضائل منها:
(1) (إنه كان صادق الوعد) فما وعد عدة إلا وفّى بها، حتى وعد أباه بالصبر على الذبح فقال: « ستجدني إن شاء الله من الصابرين » فصدق في ذلك ووفّى بما قال وامتثل حتى جاءه الفداء.
وصدق الوعد من الصفات التي حث عليها الدين، وشدد فيها أيّما تشديد فقال تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ »
وقال رسول الله ﷺ « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن خان »
وقد فقدت هذه الصفة من كثير من المسلمين، فلا تجد عالما ولا جاهلا إلا وهو بمنأى عنها ولا سيما التجار والصناع والعمال.
(2) (وكان رسولا نبيا) أي وكان رسولا إلى جرهم الذين حلّوا بمكة معه ومع أمه، وكان مرسلا من الله بتبليغ شريعة إبراهيم، فنبأ بها قومه وأنذرهم وخوفهم ومن هذا يعلم أن الرسول لا يجب أن ينزل عليه كتاب مستقل.
(3) (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) أي إنه بعد أن كمل نفسه اشتغل بتكميل أمته وأقرب الناس إليه، على نحو ما قاله لنبيه محمد ﷺ: « وأنذر عشيرتك الأقربين » وقال: « وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها » وقال: « قوا أنفسكم وأهليكم نارا ».
(4) (وكان عند ربه مرضيا) عمله، محمودا فيما كلفه به، غير مقصّر في طاعته، فاقتد أيها الرسول به، لأنه من أجلّ آبائك.
قصص إدريس عليه السلام
[سورة مريم (19): الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا (57)
الإيضاح
(واذكر في الكتاب إدريس) بالثناء عليه، والنسابون يقولون: إنه جد أبى نوح عليه السلام، ويقولون: إنه أول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من نظر في النجوم وتعلم الحساب. وجعل الله ذلك من معجزاته.
وإن تقادم العهد، وطول الزمن، وعدم وجود السند الصحيح الذي يعوّل عليه في الرواية، يجعلنا في شك من كل هذا، فعلينا أن نكتفى بما جاء به الكتاب الكريم في شأنه، وقد وصفه الله بجملة صفات كلها مفاخر ومناقب إعظام وإجلال:
(1) (إنه كان صديقا) تقدم القول في هذا.
(2) (نبيا) (3) (ورفعناه مكانا عليا) أي أعلينا قدره ورفعنا ذكره في الملأ، ونحو هذا قوله لنبيه محمد ﷺ: « ورفعنا لك ذكرك »
ويرى بعض الباحثين في الآثار المصرية أن إدريس تعريب لكلمة (أوزريس - أموريس) وهو الذي ألف له المصريون القدماء رواية خلّدت في بطون تواريخهم، ومنها أنه حصل بينه وبين أخيه تحاسد وشقاق أدى إلى قتله وتقطيعه إربا إربا، فجمعت امرأته تلك القطع وحفظتها وحنطتها، واتخذوه إلها بعد أن كان مصلحا عظيما.
وهذا القصص الخرافي جعل المصريين يعنون بتحنيط الموتى، وقد أفاد هذا العمل صناعة التحنيط ورقّاها حتى صارت مضرب الأمثال في الخافقين.
وقد كان الملك والدين في عهد تلك الدولة أمرا واحدا، فالملك يجمع بين شئون الدين والدنيا، فمن عصى الملك فقد عصى الله.
ويعتقدون أن أوزريس صعد إلى السماء وصار إلى العالم العلوي وله عرش عظيم في السماء، ويتمتع بأعظم الخيرات، وكل من حفظ جسمه ووزنت أعماله بعد الموت وحكم القضاة وهم اثنان وأربعون قاضيا بأن حسناته غلبت سيئاته - يلحق بأوزريس وهذا النبي الذي جعلوه إلها بعد ذلك هو الذي علمهم العلوم والمعارف وينسبون الفضل في ذلك إليه.
وقد ارتقت الأمة المصرية في العلوم والمعارف إلى حد لم تصل إليه أمة أخرى لا في القديم ولا في الحديث، وخدمت النوع البشرى خدمة جليلة، فارتفاع إدريس إلى السماء راجع إلى رقى تعاليمه وانتفاع أمته بها، فالنبي بأمته، ومن ثم تجد آثار أمته بادية للعيان، بعد أن كانت خافية عن الأنظار.
وبعد أن ذكّر الله أولئك المرسلين أخذ يعدد مناقبهم ويذكر صفاتهم فقال:
[سورة مريم (19): آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
تفسير المفردات
إسرائيل: يعقوب عليه السلام، واجتباه. اصطفاه واختاره، والسجّد، واحدهم ساجد، والبكي: وأحدهم باك، يقال: بكى يبكى بكاء، وبكيا: قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الجزن: أي لا صوت معه كما قال الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغنى البكاء ولا العويل
المعنى الجملي
بعد أن أفرد الله كل رسول من رسله العشرة الذين سبق ذكرهم بالثناء عليه بما هو جدير به - أردفه بذكر بعض ما جازاهم به من النعم، فقد هداهم إلى سبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه.
الإيضاح
(اولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) أي هؤلاء النبيون الذين قصصت أنباءهم عليك أيها الرسول هم الذين أنعم الله عليهم بما خصصهم به من مزيد القرب منه، وعظيم المنزلة لديه، وهداهم إلى سبيل الرشاد، ورفع ذكرهم بين العباد.
(من ذرية آدم) أبى البشر الأول.
(وممن حملنا مع نوح) أي ومن ذرية من حملنا مع نوح أبى البشر الثاني في الفلك كإبراهيم خليل الرحمن.
(ومن ذرية إبراهيم) وهم إسحاق ويعقوب وإسماعيل.
(وإسرائيل) أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه السلام، وهم: موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريم.
(وممن هدينا واجتبينا) أي ومن جملة من هديناهم إلى سبيل الحق، واجتبيناهم للنبوة والكرامة.
(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) أي إذا تتلى على هؤلاء الأنبياء الذين أنعم الله عليهم أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم في كتبه - خروا لله سجدا استكانة له وتذللا، وخضوعا لأمره وانقيادا له، وهم باكون خشية منه وحذرا من عقابه.
قال صالح المرّي: قرأت القرآن على رسول الله ﷺ في المنام فقال: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟
وفي الحديث « اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا »
وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه ».
وقصارى ذلك - إنه سبحانه أبان علوّ أمرهم في الدين والنسب والقرب منه.
جزاء خلف هؤلاء ممن ضل وغوى
[سورة مريم (19): الآيات 59 الى 60]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
تفسير المفردات
الخلف: (بسكون اللام) عقب السوء، ويقال لعقب الخير والصدق خلف (بفتح اللام)، أضاعوا الصلاة: أي تركوها بتاتا، اتبعوا الشهوات: أي انهمكوا في المعاصي واللذات، غيّا: أي ضلالا، والمراد يلقون جزاءه في نار جهنم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حزب السعداء وهم الأنبياء ومن تبعهم بإحسان ممن قاموا بحدود الدين فاتبعوا أوامره وأدّوا فرائضه وتركوا نواهيه - أردف هذا ذكر من خلفهم ممن أضاعوا واجباته، وأقبلوا على شهوات الدنيا ولذاتها، وأعقب هذا بذكر ما ينالهم من النكال والوبال في الآخرة إلا من تاب وأناب، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولا ينقصه شيئا من جزاء أعماله. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء.
وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم في جماعة آخرين عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ وتلا هذه الآية قال: « يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤن القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر ».
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ قال: « سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن قلت يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال: قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا. قلت وما أهل اللبن؟ قال: قوم يتبعون الشهوات، ويضيعون الصلوات ».
الإيضاح
(فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) أي فجاء من بعد الأنبياء الذين ذكروا - خلف سوء خلفوهم في الأرض كاليهود والنصارى ومن على شاكلتهم من أهل الضلال، إذ تركوا الصلوات المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم على طاعة الله، فانكبوا على شرب الخمور، وشهادة الزور، ولعب الميسر، وإتيان الفاحشة خفيّة وعلانية.
ثم ذكر عاقبة أعمالهم، وسوء مآلهم فقال:
(فسوف يلقون غيّا) أي شرا وخسرانا، لإهما لهم أداء واجبات الدين، وانهما كهم في المعاصي والآثام.
(إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة) أي لكن من أنابوا إلى ربهم، وأقلعوا عن ذنبهم، وآمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمر به وأدّوا فرائضه، فأولئك يدخلهم ربهم جناته، ويغفر لهم حوباتهم، فالتوبة تجبّ ما قبلها كما جاء في الحديث « التائب من الذنب كمن لا ذنب له ».
(ولا يظلمون شيئا) أي ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم، إذ أفعالهم السابقة ذهبت هباء، وصارت نسيا منسيا بكرم اللطيف الخبير، وعظيم حلمه على عباده.
ولما ذكر أن التائب يدخل الجنة وصف هذه الجنة بأمور فقال:
[سورة مريم (19): الآيات 61 الى 63]
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
تفسير المفردات
جنات عدن: أي جنات إقامة، وهذا وصف لها بالدوام، بالغيب: أي وهي غائبة عنهم، وعده، أي ما وعد به من الجنات: مأتيا، أي يأتيه من وعد به لا محالة، لغوا أي فضولا من الكلام لا طائل تحته، سلاما: أي سلاما من الله أو من الملائكة.
المعنى الجملي
لما ذكر أنه سبحانه يدخل التائبين الجنة - وصف هذه الجنة بجملة أوصاف كلها غاية في تعظيم أمرها، وشريف قدرها، وجليل خطرها.
الإيضاح
أوصاف هذه الجنة:
(1) (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا) أي هذه الجنات هي جنات إقامة دائمة لا كجنات الدنيا، وقد وعد بها المتقين وهي غائبة عنهم لم يشاهدوها، ووعد الله لا يخلف، فهم آتوها لا محالة.
(2) (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) أي لا يسمع المتقون فيها فضول القول وما لا طائل تحته، ولكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم بما يشعرهم بالأمان والاطمئنان، وهما منتهى السعادة، والدنيا لا طمأنينة فيها ولا استقرار، فلا سعادة فيها ولا نعيم، ومن ثم طلب إلينا أن ندعو في الصلاة بالأمان ونقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ولا شك أن تكرار هذه العبارة في الصلوات يحدث في النفس أثرا إذا أدركت مغزاها، ويشعر بأن الله لم يخلق العالم إلا لغاية واحدة وهي الطمأنينة، ولا تكون إلا إذا أمن المرء الفقر والمرض والشيخوخة، وإني لنا بذلك في الدنيا؟ وإنما تكون الطمأنينة لعباده المتقين في الآخرة، وهذا المعنى هو الذي تترجم عنه الجملة (السلام عليكم) أي إن الأمان سيحققه الله لكم، بأن يأمن يعضكم بعضا في الدنيا وفى الآخرة بالخروج من جميع المآزق.
وهذا الدعاء أمنية من أماني النفوس، لا تتحقق إلا إذا أمن الإنسان العذاب والعقاب، وانتهى الحساب، وارتفع السوء كالمرض والموت والفقر والذل يوم القيامة.
(3) (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) أي ولهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب في قدر وقت البكرة ووقت العشى من نهار أيام الدنيا: أي إن الذي بين غدائهم وعشائهم في الجنة قدر ما بين غداء أحدنا في الدنيا وعشائه.
وخلاصة ذلك - إنه لا بكرة في الجنة ولا عشى، إذ لا ليل ولا نهار، وإنما يؤتون بأرزاقهم في مقدار طرفى النهار كما كانوا في الدنيا ولما ذكر أن هذه الجنة تخالف جنات الدنيا - ذكر الدواعي التي توجب استحقاقها فقال:
(تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) أي هذه الجنة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة، نورثها عبادنا المتقين الذين يطيعون الله في السر والعلن، ويحمدونه على السراء والضراء، والمراد أننا نجعلها ملكا لهم كملك الميراث الذي هو أقوى تمليك.
وجاء بمعنى الآية قوله: « قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون » إلى أن قال: « أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون »
[سورة مريم (19): الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
تفسير المفردات
التنزل: النزول وقتا غب وقت، ما بين أيدينا: أي ما قدامنا من الزمان المستقبل، وما خلفنا: أي من الزمان الماضي، وما بين ذلك: هو الزمان الحاضر، نسيّا: أي تاركا لك، واصطبر عليها: أي اثبت لشدائد العبادة وما فيها من المشاق كما تقول للمبارز: اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من حملاته، سميّا: أي مثلا ونظيرا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تثبيتا له ﷺ وأعقبه بذكر ما أحدثه الخلف بعدهم، وذكر جزاء الفريقين، أعقب ذلك بقصص تأخر نزول جبريل على النبي ﷺ إذا زعم المشركون أن الله ودّعه وقلاه، وقد رد عليهم زعمهم وأبان لهم أن الأمر على غير ما زعموا.
روى « أن جبريل عليه السلام احتبس عنه ﷺ أياما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟
فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون إن ربه ودّعه وقلاه، فلما نزل قال له عليه السلام يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى، واشتقت إليك، فقال إني إليك لأشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، وأنزل الله هذه الآية »
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ لجبريل « ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت هذه الآية إلى آخرها ».
الإيضاح
(وما نتنزل إلا بأمر ربك) أي وما تنزل الملائكة بالوحي على الرسل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته، وتدعو إليه مصلحة عباده، ويكون فيه الخير لهم في دينهم ودنياهم.
ثم علل الملك ذلك بقوله:
(له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) أي إنه تعالى هو المدبر لنا في جميع الأزمنة مستقبلها وماضيها وحاضرها.
وقصارى ذلك - إن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته لا اعتراض لأحد عليه، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل.
(وما كان ربك نسيا) أي إنه تعالى لإحاطة علمه بملكه، لا يطرأ عليه غفلة ولا نسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك، وإنما كان تأخير الوحي لحكمة علمها جل شأنه.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني في جماعة آخرين عن أبي الدرداء مرفوعا قال « ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا: وما كان ربك نسيا ».
ثم أقام الدليل على ما تقدم بقوله:
(رب السماوات والأرض وما بينهما) فلا يجوز عليه النسيان، فإن من بيده ملكوت كل شيء، كيف يتصور أن تحوم حوله الغفلة والنسيان.
ثم بين ما ينبغي لرسوله أن يفعله بعد أن عرف هذا فقال:
(فاعبده واصطبر لعبادته) أي وإذ قد علمت أنه الرب المسيطر على ما في السموات والأرض وما بينهما، القابض على أعنّتهما، فاعبده ودم على مشاقّ العبادة وشدائدها، وإياك أن يصدّك عنها ما يحدث من إبطاء الوحي وتقوّل المشركين الخرّاصين عن سببه:
ثم أكد الأمر بالعبادة بقوله:
(هل تعلم له سميا؟) أي هل تعلم له شبيها ومثلا يقتضى العبادة لكونه منعما متفضلا بجليل النعم وحقيرها، ومن ثم يجب تعظيمه غاية التعظيم بالاعتراف بربوبيته، والخضوع لسلطانه؟.
[سورة مريم (19): الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
تفسير المفردات
يذكر: أي يتذكر ويتفكر، لنحشرنهم: أي لنجمعنهم، جثيا: واحدهم جاث وهو البارك على ركبتيه، شيعة: أي جماعة تعاونت على الباطل وتشايعت عليه. عتيا: أي تكبرا ومجاوزة للحد، صليّا: أي دخولا فيها من صلّى بالنار إذا قاسى حرها، واردها: أي مارّ عليها، حتما: أي واجبا، مقضيا: أي قضى بوقوعه البتة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالعبادة والمصابرة عليها على ما فيها من مشاق وشدائد - أبان فائدة ذلك وهي أنها تنجيهم يوم الحشر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو يوم لا ريب فيه ولا وجه لإنكاره، فإن إعادة الإنسان أهون من بدئه، ثم ذكر ما يلقاه الكافرون يومئذ من الذل والهوان، ثم أردف ذلك ببيان أن جميع الخلائق ترد على النار ولا ينجو منها إلا من اتقى ربه وأخلص في عمله.
روى الكلبي أنها نزلت في أبي بن خلف أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا، إن هذا لن يكون أبدا.
الإيضاح
(ويقول الإنسان ا اذا ما مت لسوف أخرج حيا) أي ويقول الكافر الذي لا يصدّق بالبعث بعد الموت متعجّبا مستبعدا: أأخرج حيا مرة أخرى فأبعث بعد الموت والبلى؟ وأسند القول إلى الكفرة جميعا وإن لم يقل هذه المقالة إلا بعضهم، من حيث رضاهم عن هذا المقال وسكوتهم عن إنكاره كما سلف لك من قبل.
ثم أقام الدليل على صحة ذلك بقوله:
(أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا؟) أي أولا يتفكر الإنسان المجترئ على ربه، المنكر لتلك الإعادة بعد الفناء، وللإحياء بعد الممات، أن الله خلقه من قبل مماته، فأنشأه بشرا سويا من غير شيء، فليعتبر بذلك وليعلم أن من أنشأه كذلك لا يعجز عن إحيائه بعد مماته، وإيجاده بعد فنائه.
ونحو الآية قوله تعالى: « وإن تعجب فعجب قولهم: ا اذا كنا ترابا ا انا لفى خلق جديد » وقوله: « وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم » وقوله: « وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه » وفى الحديث القدسي: يقول الله تعالى: كذّبنى ابن آدم ولم يكن له أن يكذبنى، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذينى، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علي من آخره، وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ».
ولما قرر القضية وأقام عليها الدليل أردفها بالتهديد من وجوه فقال:
(1) (فو ربك لنحشرنهم والشياطين) أقسم الرب بذاته الكريمة أنه حاشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله.
وفي قسمه على جمعهم وسوقهم إلى المحشر دون القسم على بعثهم، تنبيه إلى أن ذلك غني عن الإثبات بعد أن أقام البرهان على إمكانه، وإنما الذي يحتاج إلى ذلك ما بعده من الشدائد والأهوال.
روي أن الكافرين يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم، كلّ منهم مع شيطانه.
(2) (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) أي ثم لنحضرنهم بعد طول الوقوف حول جهنم من خارجها - جاثين على ركبهم إهانة لهم، أو لعجزهم عن القيام لما حل بهم من المكاره والأهوال.
(3) (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا) أي لنأخذن من كل جماعة منهم من هو أشد على الرحمن الذي غمر هم بإحسانه - تكبرا ومجاوزة للحدود التي سهّا لخلقه وقصارى ذلك - إن الله تعالى يحضرهم أولا حول جهنم، ثم يميز بعضهم عن بعض، فمن كان أشدهم تمردا في كفره، خص بعذاب أعظم، فعذاب الضالّ المضلّ فوق عذاب من يضلّ بالتبع لغيره.
(ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) أي ثم لنحن العالمون بظواهر أعمالهم وبواطنها، وبما اجترحوا من السيئات، وبما دسّوا به أنفسهم من الموبقات، من هم أولى بجهنم دخولا واحتراقا، فنبدأ بهم أولا ثم بمن يليهم.
وخلاصة هذا - إنهم جميعا يستحقون العذاب، لكنا ندخلهم في جهنم بحسب عتيّهم وتجبرهم في كفرهم.
ثم خاطب سبحانه الناس جميعا فقال:
(وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) أي وما أحد منكم أيها الناس إلا يدنو من جهنم ويصير حولها، قد قضى ربك بذلك وجعله أمرا محتوما مفروغا منه.
روى السدي عن ابن مسعود قال: « يرد الناس جميعا الصراط، ويقومون حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل... » في حديث طويل، وقال رسول الله ﷺ: « يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون بأعمالهم »
. (ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة على قدر ما اجترحوا من الآثام والذنوب - نجى الله المتقين منها بحسب أعمالهم، وترك الكافرين جاثين على الركب كما جاءوا.
[سورة مريم (19): الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثًا وَرِءْيًا (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
تفسير المفردات
بينات: أي ظاهرات الإعجاز، مقاما: أي مكانا ومنزلا، نديّا: أي مجلسا ومجتمعا، ومثله النادي وقيل هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة، ومنه دار الندوة التي كان المشركون يتشاورون فيها في أمورهم، والقرن: أهل كل عصر، والأثاث: متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها ولا واحد له، والرئى المنظر والمراد به النضارة والحسن، فليمدد: أي فليمهله بطول العمر والتمكن من سائر التصرفات، جندا: أي أنصارا، والباقيات الصالحات: أي الطاعات التي تبقى آثارها، مردّا: أي مرجعا وعاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث بعد الفناء، وللعودة إلى حياة أخرى - أتبعه بذكر شبهة أخرى قالوها وعارضوا بها حجة الله التي يشهد بصحتها كل منصف، ويعتقدها من له أدنى مسكة من عقل.
تلك أنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، من قبل أن الحكيم لا يجدر به أن يوقع المخلصين من أوليائه في الذل والمهانة، وأعداءه في العز والراحة، لكنا نجد الأمر على العكس من هذا، فإنا نحن الذين يمتعون برفاهية العيش والرخاء والنعيم، وأنتم في ضنك وفقر وخوف وذل، فهذا دليل على أنا على الحق وأنتم على الباطل.
وقد رد الله عليهم مقالتهم بأن الكافرين قبلكم وكانوا أحسن منكم حالا، وأكثر مالا، قد أبادهم الله وأهلكهم بعذاب الاستئصال، فدل هذا على أن نعيم الدنيا لا يرشد إلى محبة الله لمن أوتوه، ولا إلى أنهم مصطفون له من بين خلقه.
روي أن قائل هذه المقالة النضر بن الحرث ومن على شاكلته من قريش، للمؤمنين من أصحاب النبي ﷺ وكانوا في خشونة من العيش وفى رثاثة من الثياب، وهم كانوا يرجّلون شعورهم ويلبسون فاخر الثياب.
ثم أمر الله رسوله ﷺ أن يجيب هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية ببيان مآل الفريقين يوم القيامة، وأن ما كان للمشركين في الدنيا من المال وسعة الرزق فإنما ذلك استدراج وإمهال من الله لهم، ثم يلقون النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.
الإيضاح
(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟) أي وإذا تتلى على المشركين آياتنا واضحات الدلالة قالوا مفتخرين على المؤمنين، ومحتجين على صحة ما هم عليه من الباطل، أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا، وأنعم بالا، وأفضل مسكنا، وأحسن مجلسا، وأجمع عددا؟ أنحن أم أنتم؟ فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك المستخفّون المستترون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟
ونحو الآية قوله تعالى « وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ».
وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله:
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) أي وكم من أمة من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم وقد كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأثاثا ومناظر ذات جمال وزخرف.
وخلاصة هذا - إن كثيرا ممن كانوا أعظم منكم نعمة في الدنيا كعاد وثمود وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله، فلو صدق ما تدّعون من أن النعمة في الدنيا تدل على الكرامة عند الله، ما أهلك أحدا من المتنعمين بها.
وفي هذا تهديد ووعيد لا يخفى، وكأنه قد قيل: فليرتقب هؤلاء، فسيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات.
ثم أمر عز اسمه نبيه أن يجيب هؤلاء المفتخرين بقوله:
(قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا. حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المدّعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: إن ما افتخرتم به من زخرف الدنيا وزينتها لا يدل على حسن الحال في الآخرة، فقد جرت سنة الله بأن من كانوا منهمكين في الضلالة، مرخين لأنفسهم الأعنّة، في سلوك المعاصي والآثام، يبسط لهم نعيم الدنيا، ويطيب عيشهم فيها، ويمتعهم بأنواع اللذات، ولا يزال يمهلهم استدراجا لهم إلى أن يشاهدوا ما وعدوا به رأي العين، إما عذابا في الدنيا كما حصل يوم بدر، وإما مجىء الساعة وهم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها مفرّطون، وإذ ذاك يعلمون من هو شر من الفريقين مكانا، وأن الأمر على عكس ما كانوا يقدّرون، وسيرون أنهم شر مكانا وأضعف جندا وأقل ناصرا من المؤمنين، وهذا رد على قولهم (أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا).
وقصارى ذلك - إن من كان في الضلالة فسنة الله أن يمدّ له ويستدرجه ليزداد
إثما، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، إما بعذاب في الدنيا يأتيه من حيث لا يحتسب، وإما بعذاب في الآخرة لا قبل له بدفعه، وحينئذ يعلم أنه كان في ضلال مبين، ويندم، ولات ساعة مندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ولا يجد عن النار محيصا ولا مهربا.
(ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) أي ويزيد الله الذين اهتدوا إلى الإيمان هدى بما ينزل عليهم من الآيات، عوضا مما منعوا من زينة الدنيا كرامة لهم من ربهم، كما بسط للضالين فيها لهوانهم عليه.
ومجمل هذا - إن من كان في الضلالة من الفريقين يمهله الله وينفّس له في حياته ليزداد في الإثم والغي ويجمع له عذاب الدارين، ومن كان في الهداية منهما يزيد الله في هدايته ويجمع له خيري السعادتين.
(والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) أي والطاعات التي بها تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، وتصل إلى القرب من الله، ونيل رضوان - خير عند ربك منفعة وعاقبة مما منع به أولئك الكفرة من النعم الفانية التي يفخرون بها من مال وولد وجاه ومنافع تحصل منها، فإن عاقبة الأولين السعادة الأبدية، وعاقبة أولئك الحسرة الدائمة والعذاب المقيم.
وخلاصة هذا - إن الطاعات التي يبقى ثوابها لأهلها خير عند ربهم جزاء وخير عاقبة من مقامات هؤلاء المشركين بالله وأنديتهم التي بها يفخرون على أهل الإيمان في الدنيا.
[سورة مريم (19): الآيات 77 الى 80]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْدًا (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْدًا (80)
تفسير المفردات
أطلع الغيب؟ من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه: أي أظهر له علم الغيب؟ عهدا: أي عملا صالحا، كلا: كلمة زجر وتنبيه إلى الخطأ، سنكتب ما يقول: أي سنظهر له أنا كتبنا، ونمد له من العذاب: أي سنطيل له العذاب الذي يستحقه ونرثه ما يقول: أي نسلب ذلك منه بموته ونأخذه أخذ الوارث ما يرثه، والمراد بما يقول مدلوله ومصداقه، وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد، فردا: أي لا يصحبه مال ولا ولد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الدلائل على صحة البعث، ثم أورد شبه المنكرين له وأجاب عنها بما فيه مقنع لكل ذي لب - قفّى على ذلك بذكر مقالتهم التي قالوها استهزاء وطعنا في القول بالحشر والبعث.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وابن حبان عن خبّاب بن الأرت قال: « كنت رجلا قينا (حدادا) وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت لا والله لا أكفر بمحمد ﷺ حتى تموت ثم تبعث، قال فإني إذ متّ ثم بعثت جئتنى ولى ثمّ مال وولد فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أفرأيت الآية ».
الإيضاح
(أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) أي انظر إلى حال هذا الكافر، وأعجب من مقالته الشنيعة، وجرأته على الله، إذ قال لأعطينّ في الآخرة مالا وولدا.
ولما كان ما ادعاه لا يحصل له العلم له إلا بأحد أمرين - الاطلاع على الغيب أو اتخاذ العهد - ولم يحصل له واحد منهما، فتكون دعوى لا برهان عليها، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا؟) أي إن ما ادعى أنه سيكون، لا يعلم إلا بأحد الأمرين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما هو قد وصل إليه؟.
وقصارى ذلك - أو قد بلغ من عظم شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي انفرد به الواحد القهار، أم أعطاه الله عهدا موثقا وقال له: إن ذلك كائن لا محالة؟.
ثم زاد في تأكيد خطئه وهدده بقوله:
(كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) أي ليس الأمر كذلك، ما اطلع على الغيب، فعلم صدق ما يقول وحقيقة ما يذكر، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا موثّقا بذلك، بل كذب وكفر بربه، وسنظهر له أننا كتبنا قوله، ونزيده من العذاب في جهنم بقيله الكذب والباطل في الدنيا زيادة على كفره بالله وتكذيبه برسوله.
(ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) أي ونسلبه ما عنده من المال والولد ونأخذه منه أخذ الوارث ما يرث، ويأتينا إذ ذاك فردا لا يصحبه مال ولا ولد مما كان له في الدنيا.
[سورة مريم (19): الآيات 81 الى 87]
واتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا (85) ونَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْدًا (87)
تفسير المفردات
العز: المنعة والقوة، سيكفرون: أي سيجحدون، ضدّا: أي أعداء وأعوانا عليهم والأزّ والهز والاستفزاز: شدة الإزعاج والمراد الإغراء على المعاصي والتهييج لها بالتسويلات، وتحبيب الشهوات، فلا تعجل عليهم: أي فلا تطلب الاستعجال بهلاكهم، الوفد والوفود والأوفاد: واحدهم وافد، وهم القوم يقدمون على الملوك يستنجزون الحوائج، والمراد يقدمون مكرمين مبجلين ركبانا إلى الرحمن: أي إلى دار كرامته وهي الجنة، وردا: أي مشاة مهانين باستخفاف واحتقار كأنهم نعم تساق إلى الماء، والمراد بالعهد شهادة أن لا إله إلا الله، والتبري من الحول والقوة، وعدم رجاء أحد إلا الله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنكار المشركين للبعث مع قيام الدليل على إمكانه بما يشاهد من أمر الخلق في النشأة الأولى - أردف ذلك الرد على عبّاد الأصنام الذين اتخذوا أصنامهم آلهة ليعتزوا بهم يوم القيامة عند ربهم، ويكونوا شفعاء لهم لديه، فبيّن أنهم سيكونون لهم أعداء، وأنه ما جرّأهم على تلك الغواية إلا وسوسة الشيطان لهم، ثم طلب إلى رسوله ألا يستعجل المشركين فإنما هي أنفاس معدودات ثم يهلكون، ثم ذكر ما يحوط المؤمنين من الكرامة حين وفودهم إلى ربهم. وما يحيق بالمشركين من الإهانة حين يردون عليه.
الإيضاح
(واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) أي واتخذ المشركون من قومك أيها الرسول - آلهة يعبدونهم من دون الله، ليعتزوا بهم ويجعلوهم شفعاء عند ربهم يقربونهم إليه (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) أي ليس الأمر كما ظنوا وأمّلوا في أنها تنقذهم من عذاب الله وتنجيهم منه، بل ستجحد الآلهة عبادتهم إياهم وينطق الله من لم يكن ناطقا منهم، فيقولون ما عبدتمونا كما قال سبحانه: « وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون » وقال: « إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا » وقال حاكيا عنهم: « ما كانوا إيانا يعبدون » ويكونون أعداء لهم وأعوانا عليهم إذ يلعنونهم ويتبرءون منهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم في الآخرة، ذكر ما لهم مع الشياطين في الدنيا، وأنهم يتولّونهم وينقادون لهم فقال:
(ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) أي ألم تعلم أنا سلطنا الشياطين على الكافرين ومكناهم من إضلالهم، فهم يغرونهم بالمعاصي، ويهيجونهم على الوقوع فيها.
وخلاصة ما سلف - تعجيب رسوله ﷺ مما حكته الآيات السالفة عن هؤلاء الكفرة من تماديهم في الغي، وانهما كهم في الضلال، وتصميمهم على الكفر بدون رادع ولا زاجر، ومدافعتهم للحق مع وضوحه، وتنبيه له إلى أن ذلك إنما كان بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا لقصور في التبليغ.
وفي هذا تسلية للرسول ﷺ وتهوين للأمر على نفسه.
(فلا تعجل عليهم) بأن تطلب إهلاكهم وإبادتهم بعذاب الاستئصال حتى تطهر الأرض من خبائث أعمالهم.
ثم علل هذا النهى بأن حين هلاكهم قريب فقال:
(إنما نعد لهم عدا) أي إنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قليلة نعدّها عدا، وعن ابن عباس أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك. آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك - وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأ الآية ثم قال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفذ:
إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها فتى يعدّ عليه اللفظ والنفس
وقد أفصح عن هذا شاعر مصر أحمد بك شوقى فقال:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانى
ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين في كيفية الحشر فقال:
(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) أي واذكر أيها الرسول لقومك، يوم نحشر المتقين إلى دار الكرامة ركبانا، كما يفد الوافدون على أبواب الملوك، ينتظرون إكرامهم وإنعامهم.
وقد أثر عن علي أنه قال: والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقا، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها. وعليها رحال الذهب. وأزمّتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة - وهذا تمثيل لحالهم في عزهم وعظمتهم وإكرام ربهم لهم.
(ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) أي ونسوق الكافرين بالله إلى جهنم مشاة قد تقطعت أعناقهم من العطش، فهم كالدواب التي ترد الماء.
(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) أي لا يملك العباد الشفاعة إلا من اتخذ عهدا عند الله، بأن أعد لها عدّتها فكان في الدنيا هاديا مصلحا، فيكون في الآخرة شافعا مشفّعا، لا جرم أن ينالها في الآخرة على مقدار هدايته في الدنيا، فالشفاعة حينئذ لا تكون إلا للأنبياء والعلماء والشهداء على مقدار أتباعهم.
روي أن ابن مسعود قرأ هذه الآية ثم قال: أتّخذ عند الله عهدا، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا يا أبا عبد الرحمن فعلّمنا، قال: قولوا « اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ألا تكلنى إلى عمل يقربنى من الشر ويباعدنى من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد ».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ « من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرّنى، ومن سرنى فقد اتخذ عند الرحمن عهدا، فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد »
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينتقص منها شيئا جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منها شيئا فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه ».
[سورة مريم (19): الآيات 88 الى 95]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدًا (95)
تفسير المفردات
جئتم: أي فعلتم والإدّ: (بالكسر والفتح) المنكر العظيم، والإدة: الشدة يقال أدّنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظم علي، والتفطر: التشقق، وتخر: تسقط وتنهدم، دعوا: أي نسبوا وأثبتوا، قال شاعرهم:
إنا بنى نهشل لا ندّعى لأب عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
عبدا: أي منقادا خاضعا كما يفعل العبيد، أحصاهم: عدّهم وأحاط بهم، وعدهم عدّا: أي عد أشخاصهم، فردا: أي منفردا لا شيء معه من الأنصار والأتباع.
المعنى الجملي
بعد أن ردّ على عبدة الأوثان، وأثبت لهم بقاطع الأدلة أنهم في ضلالهم يعمهون، وأنهم عن الحق معرضون - أردف ذلك الرد على من أثبت له الولد كاليهود الذين قالوا عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، والمشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الإيضاح
(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدا.) أي وقال الكافرون بالله: إن للرحمن ولدا، لقد جئتم أيها القائلون بمقالكم هذا شيئا منكرا عظيما يدل على الجرأة على الله وكمال القحة عليه سبحانه، وإنه ليغضبه أشد الغضب، ويسخطه أعظم السخط.
(تكاد السماوات يتفطرن منه) أي إن السموات، تكاد تتشقق منه لشدة هوله، وعظم شأنه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك. نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين.
(وتنشق الأرض) أي تخسف بهم.
(وتخر الجبال هدا) أي تسقط وتنهد هدا، فتنطبق عليهم، روى عن ابن عباس أنه قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت تزول منه، لعظمة الله وكماله.
وقصارى ذلك - إن هذه الكلمة الشنعاء لو صوّرت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام، وتفرقت أجزاؤها من شدتها.
وفي ذلك تنبيه إلى غضب الله تعالى على قائل هذه الكلمة، وأنه لو لا حلمه سبحانه لهلك.
ثم بين علة ذلك فقال:
(أن دعوا للرحمن ولدا) أي من أجل أنهم نسبوا إلى الله اتخاذ الولد.
ثم نفى ذلك عن نفسه بقوله:
(وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) أي وما يليق به اتخاذ الولد، لأن ذلك يقتضى التجانس بينهما وأن يكون كل منهما حادثا، ولأن الولد إنما يكون للسرور به، والاستعانة به حين الحاجة، وللذكر الجميل، إلى نحو أولئك من المقاصد التي يتنزه عنها ربنا جل وعلا.
ثم زاد الإنكار توكيدا فقال:
(إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا) أي ما من أحد من الملائكة والإنس والجن إلا وهو مملوك له سبحانه، ينقاد لحكمه، ويلتجىء إليه حين الحاجة، ويخضع له خضوع العبد لسيده.
(لقد أحصاهم) أي لقد حصرهم وأحاط بهم، فهم تحت أمره وتدبيره، يعلم ما خفي من أحوالهم وما ظهر، لا يفوته شيء منها.
(وعدهم عدا) أي وعدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وأقوالهم، فكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة.
(وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) أي وكل امرئ منهم يأتيه يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والأنصار، منقطعا إليه تعالى، محتاجا إلى معونته ورحمته.
[سورة مريم (19): الآيات 96 الى 98]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
تفسير المفردات
الود: المودة والمحبة، بلسانك: أي بلغتك، واللّدّ: واحدهم ألد، وهو الشديد الخصومة، وركزا: أي صوتا خفيّا.
المعنى الجملي
بعد أن فصّل سبحانه أحوال الكافرين في الدنيا والآخرة، وبالغ في الرد عليهم - ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين، وبين أنه سبحانه سيغرس محبتهم في قلوب عباده، وبعد أن استقصى في السورة دلائل التوحيد والنبوة والحشر ورد فيها على فرق المبطلين بين أنه يسر ذلك بلسان نبيه ﷺ ليبشر به المتقين، وينذر به قوما من المشركين ذوي الجدل والمماراة.
الإيضاح
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) أي إن الذين آمنوا بالله وصدّقوا برسله وبما جاءوهم به من عنده وعملوا به فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، سيجعل لهم الله محبة في قلوب عباده المؤمنين.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي في جمع كثير عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « إذا أحب الله تعالى عبدا يقول لجبريل: إني قد أحببت فلا نا فأحبه، فينادى في السماء، ثم تنزل له المحبة في الأرض، فذلك قول الله تعالى (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الآية ».
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله ﷺ لعلي كرم الله وجهه: « قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدور المؤمنين ودا، فأنزل الله سبحانه الآية ».
وكان هرم بن حيّان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
وخلاصة ذلك - سيجعل الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات مودة في القلوب يزرعها لهم من غير تودد منهم، ولا تعرّض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف.
وقد خصهم الله بهذه الكرامة كما: قذف الرعب في قلوب أعدائهم منهم إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم.
ثم ذكر الحكمة في إنزال القرآن بلغة العرب فقال:
(فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) أي فإنما سهلنا نزول القرآن بلغتك العربية لتقرأه على الناس وتبشر به من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه، بأن له الجنة، وتنذر به من عصاه من قريش، وهم أهل اللدد والجدل بالهوى ممن لا يقبل حقا، ولا يحيد عن باطل.
وقصارى ذلك - بلّغ هذا المنزّل وبشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك العربي المبين، ليسهل على الناس فهمه ثم ختم السورة بتلك العظة البالغة فقال:
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟) أي وقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبل هولاء المعاندين، حين سلكوا في خلافي مسلك هؤلاء، وركبوا معاصي، فهل تحس منهم أحدا فتراه وتعاينه أو تسمع له صوتا؟ لا - إنهم بادوا وخلت منهم الديار، وأقفرت المنازل، وصاروا إلى دار لا ينفع فيها إلا صالح العمل، وإن قومك لصائرون إلى مثل ما صاروا إليه، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك.
وفي هذا وعد لرسول الله ﷺ بالنصر والغلبة على هؤلاء المشركين، ووعيد لأولئك الكافرين الجاحدين، وحث له على التبشير والإنذار.
وقصارى ذلك - إنا أهلكنا هم، فلم نبق منهم أحدا تراه، ولا تسمع له صوتا خفيا ولا ظاهرا.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين.
خلاصة لما حوته السورة الكريمة من المقاصد
(1) دعاء زكريا ربه أن يهب له ولدا سريا مع ذكر الأسباب التي دعته إلى ذلك (2) استجابة الله دعاءه وبشارته بولد يسمى يحيى لم يسمّ أحد من قبله بمثل اسمه.
(3) تعجب زكريا من خلق ذلك الولد من أبوين: أمّ عاقر وأب شيخ هرم.
(4) طلبه العلامة على أن امرأته حامل.
(5) إيتاء يحيى النبوة والحكم صبيا.
(6) ما حدث لمريم من اعتزالها لأهلها، وتمثل جبريل لها بشرا سويا، والتجائها إلى الله أن يدفع عنها شر هذا الرجل، وإخباره لها أنه ملك لا بشر.
(7) حملها بعيسى عليه السلام وانتباذها مكانا قصيا حتى لا يراها الناس وهي على تلك الحال.
(8) نداء عيسى لها حين الولادة، وأمرها بهزّ النخلة حتى تساقط عليها رطبا جنيا.
(9) مجيئها بعيسى ومقابلتها لقومها وهي على تلك الحال وقد انهال عليها اللوم والتعنيف بأنها فعلت ما لم يسبقها إليه أحد من تلك الأسرة الشريفة التي اشتهرت بالصلاح والتقوى.
(10) كلام عيسى وهو في المهد تبرئة لأمه ووصفه نفسه بصفات الكمال من النبوة والبركة والبر بوالديه وأنه لم يكن جبارا متكبرا على خالقه.
(11) اختلاف النصارى في شأنه.
(12) قصص إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر ووصفه له بالجهل وعدم التأمل في المعبودات التي يعبدها من دون الله ثم تحذيره إياه بسوء مغبة أعماله، وردّ أبيه عليه مهددا متوعدا (13) هبة الله له إسحاق ويعقوب، وإيتاؤهما الحكم والنبوة.
(14) قصص موسى ومناجاته ربه في الطور، والامتنان عليه بجعل أخيه هارون وزيرا ونبيا.
(15) قصص إسماعيل ووصف الله له بصدق الوعد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
(16) قصص إدريس عليه السلام ووصف الله له بأنه صديق نبي رفيع القدر، عظيم المنزلة عند ربه.
(17) مجىء خلف من بعد هؤلاء الأنبياء أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.
(18) وعد الله لمن تاب وآمن وعمل صالحا بجنات لا لغو فيها ولا تأثيم.
(19) إن جبريل لا ينزل إلى الأنبياء إلا بإذن ربه.
(20) إنكار المشركين للبعث استبعادا له، ورد الله عليهم بأنه خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا.
(21) الإخبار بأن الله يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين ثم يحضرهم حول جهنم جثيا، ثم بدئه بمن هو أشد جرما والله أعلم بهم.
(22) الإخبار بأن جميع الخلق ترد على النار ثم ينجى الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.
(23) بيان أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن فخروا على المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا وأكرم منهم مكانا.
(24) تهديدهم بأنه أهلك كثيرا ممن كان مثلهم في العتو والاستكبار، وأكثر أثاثا ورياشا.
(25) بيان أن الله يمد للظالم ويمهله، ليجترح من السيئات ما شاء ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
(26) النعي على المشركين باتخاذ الشركاء، وأنهم يوم القيامة سيكونون لهم أعداء.
(27) نهى النبي ﷺ عن طلب تعجيل هلاك المشركين، إذ أن حياتهم مهما طالت فهي محدودة معدودة.
(28) التفرقة بين حشر المتقين إلى دار الكرامة، وسوق المجرمين إلى دار الخزي والهوان.
(29) النعي الشديد على من ادعى أن لله ولدا.
(30) بيان أن الله قد أنزل كتابه بلسان عربي مبين، ليبشر به المتقين، وينذر به الكافرين ذوي اللدد والخصومة.
سورة طه
هي مكية إلا آيتي 130، 131 فمدنيتان، وآيها خمس وثلاثون بعد المائة، نزلت بعد سورة مريم.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين، بعضها بطريق البسط والإطناب كقصص زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وبعضها بين البسط والإيجاز كقصص إبراهيم عليه السلام، وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام، ثم أشار إلى بقية النبيين بالإجمال - ذكر هنا قصة موسى التي أجملت فيما سلف، واستوعبها غاية الاستيعاب، ثم فصّل قصة آدم عليه السلام، ولم يذكر في سورة مريم إلا اسمه فحسب.
(2) إنه روى عن ابن عباس أن هذه السورة نزلت بعد سالفتها.
(3) إن أول هذه السورة متصل بآخر السورة السابقة ومناسب له في المعنى، إذ ذكر في آخر تلك أنه إنما يسّر القرآن بلسانه العربي المبين، ليكون تبشيرا للمتقين وإنذارا للمعاندين، وفى أوائل هذه ما يؤكد هذا المعنى
[سورة طه (20): الآيات 1 الى 8]
بسم الله الرحمن الرحيم
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
تفسير المفردات
لتشقى: أي لتتعب وتنصب، تذكرة: أي تذكيرا وعظة، يخشى: أي يخاف الله، العلى: واحدها العليا مؤنثة الأعلى كالكبرى مؤنثة الأكبر، والعرش: في اللغة سرير الملك، ويراد به في لسان الشرع مركز تدبير العالم، واستوى: استولى عليه قال شاعرهم:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
والثرى: التراب الندي والمراد هنا مطلق التراب، وأخفى: أي من السر وهو ما أخطرته ببالك دون أن تتفوّه به بحال، والأسماء: أي الصفات كما جاء في قوله: « وجعلوا لله شركاء قل سموهم » أي صفوهم، والحسنى: مؤنثة الأحسن.
المعنى الجملي
روى مقاتل أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي والنضر بن الحرث قالوا لرسول الله ﷺ: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال عليه السلام: بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردا عليهم، وتعريفا لمحمد ﷺ، بأن دين الإسلام هو السبيل إلى نيل كل فوز، وسبب إدراك كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه.
الإيضاح
(طه) تقدم أن قلنا إن أصح الآراء في الحروف المقطّعة التي في أوائل السور أنها حروف تنبيه كألا ويا ونحوهما مما يذكر في أوائل الجمل لقصد تنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها لأهميته وإرادة إصغائه إليه نحو ما جاء في قوله تعالى. « ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » وينطق بأسمائها حين القراءة فيقال (طا. ها)
(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب وتغلو في مكابدة الشدائد حين تحاور أولئك القوم الطغاة، وتقاول أولئك العتاة، وتفرط في الأسى على كفرهم، وتتحسر على عدم إيمانهم، بل أنزلناه عليك لتبلّغ وتذكّر وقد فعلت، فلا عليك إن لم يؤمنوا بعد هذا.
ونحو الآية قوله: « فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ».
وقصارى ذلك - إنا أنزلناه عليك لتذكر به، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، إن عليك إلا البلاغ، ولست عليهم بمسيطر.
وفي هذا تسلية له ﷺ على ما كان يعتريه من التعب والنّصب حين كان يدعو أولئك القوم ذوي اللدد والخصومة، ولا عجب فالكلام صنعتهم، وبه يتفاخرون، وعليه يعتمدون، إذ يقرعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وهو لديهم أمضى من السّنان.
(إلا تذكرة لمن يخشى) أي ما أنزلناه عليك لشقائك، ولكن أنزلناه تذكيرا لمن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه، وحسن استعداده، وقد كان عليه السلام يعظهم به بتلاوته وتفسير ما جاء به من مقاصد وأغراض ومصالح لهم في دنياهم وآخرتهم.
وخص الخاشعين بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم، من قبل أن غيرهم كأنه لا وجود له لعدم انتفاعه به.
وخلاصة ذلك - حسبك ما حمّلته من متاعب التبليغ والتبشير والإنذار، ولا تنهك بدنك بحملهم على قبول الدعوة والاستجابة لأمرك، فإن ذلك من شأننا لا من شأنك، وبيدنا لا بيدك.
(تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى) أي نزّل عليك تنزيلا من ربك الذي خلق الأرض والسموات العلى، والمراد بهما ما في جهة السفل والعلو، ويستتبع ذلك كل ما يتعلق بهما.
(الرحمن على العرش استوى) أي هو الرحمن الذي على عرشه ارتفع وعلا، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة الأعراف ببسط وإطناب.
(له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) أي له ما في السموات والأرض وما بينهما ملكا وتدبيرا وتصرفا، وله ما واراه التراب وأخفاه من المعادن والفلزّات وغيرها.
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) أي وإن تجهر بدعاء الله وذكره، فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك، لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع به صوتك، وأخفى منه مما تخطره ببالك دون أن تنفوّه به.
والدعاء والذكر باللسان إنما شرعا ليتصور الداعي والذاكر المعنى في نفسه، لا ليسمع صوته، ولا فضل للنطق والجهر به إلا في منع الشواغل الشاغلة عن حضور المعاني في القلوب كما قال تعالى: « وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور » ونحو الآية قوله: « واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ».
(الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) أي إن ما ذكر من صفات الكمال التي تقدمت ليس بأهل لها إلا ذلك المعبود الحق الذي لا رب غيره ولا إله سواه، وله الصفات الحسنى الدالة على التقديس والتمجيد، والأفعال التي هي غاية في الحكمة والسداد.
قصص موسى عليه السلام
[سورة طه (20): الآيات 9 الى 16]
وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
تفسير المفردات
الحديث: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو في منامه، والمكث: الإقامة، آنست: أي أبصرت، آتيكم: أجيئكم، بقبس: أي بشعلة مقتبسة على رأس عود ونحوه، هدى: أي هاديا يدلنى على الطريق، طوى (بالضم) منونا: اسم لذلك الوادي، اخترتك: أي اصطفيتك، لذكرى: أي لتكون ذاكرا لي، أكاد أخفيها: أي أبالغ في إخفائها ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية، هواه: أي ما تهواه نفسه، فتردى: أي فتهلك.
المعنى الجملي
بعد أن عظم سبحانه كتابه والرسول الذي أنزل عليه بما كلفه به من التبليغ بالإنذار والتبشير - أتبع ذلك بما يقوى قلبه من قصص الأنبياء وما فعلته أممهم معهم وكيف كانت العاقبة لهم والنصر حليفهم، ففي هذا سلوى له وتأسّ بهم فيما قاموا به من الذّود عن الحق مهما أصابهم من العنت والأذى من جراء الدعوة إليه، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: « وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ».
وبدأ بقصص موسى، لأن محنته كانت أشد، فقد تحمل من المكاره ما تنوء به راسيات الجبال، وقابل ذلك بعزم لا يفتر، وبقوة تفلّ الحديد.
الإيضاح
(وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا) أي وهل بلغك كيف كان ابتداء الوحي إلى موسى وتكليم الله إياه.
ومن سنن العربية أنه إذا أريد تثبيت الخبر، وتقرير الجواب في نفس المخاطب، أن يلقى إليه بطريق الاستفهام، فيقول المرء لصاحبه: هل بلغك كذا وكذا، فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر، ويصغى إليه أتم الإصغاء.
روي أن موسى عليه السلام استأذن شعيبا في الرجوع إلى والدته، فإذن له بعد أن قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، فخرج وسار قاصدا مصر بعد أن طالت غيبته عنها، فقد زادت على عشر سنين ومعه زوجه، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية ذات ثلج وبرد وسحاب وضباب وظلام، ونزل منزلا بين شعاب وجبال، وجعل يقدح بزند كان معه ليورى نارا، فلم تور المقدحة شيئا، وبينا هو يزال ذلك ويعالجه، إذ رأى نارا من بعد عن يسار الطريق.
(فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) أي فقال لامرأته وولدها وخادمها مبشرا لهم: أقيموا مكانكم إني أبصرت نارا وسأذهب إليها لعلنى أجيئكم منها بشعلة مقتبسة على رأس عود أو نحوه، أو أجد هاديا يدلنى على الطريق، وجاء في سورة القصص: « لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ».
وقصارى ذلك - إنه قال لأهله أقيموا مكانكم - وإني قد رأيت نارا فإما أن آتيكم منها بقبس تشعلون منه نارا تصطلون بها، وإما أن أجد دليلا يرشدنى إلى الطريق المسلوك وكان قد ضل عنه.
(فلما أتاها نودى يا موسى إني أنا ربك) أي فلما خرج موسى نحوها وجد نارا بيضاء تتقد كأضو إما يكون في شجرة خضراء، فلا ضوء النار يغير خضرتها، ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار - وهناك نودى يا موسى، قال من المتكلم؟ قال إني أنا ربك.
ثم أمره أن يخلع نعليه احتراما للبقعة المقدسة فقال:
(فاخلع نعليك) إذ أن الحفوة أقرب إلى التواضع وحسن الأدب، ومن ثم طاف السلف الصالح بالكعبة حافين.
ثم بين سبب الأمر بذلك بقوله:
(إنك بالواد المقدس طوى) أي لأنك بالوادي المطهّر المسمى بطوى، فاخلعها ليحصل للقدمين بركته.
(وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) أي وأنا اصطفيتك من قومك بالنبوة والرسالة، فعليك أن تسمع لما أوحيه إليك.
ونحو الآية قوله: « إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ».
وقصارى ذلك - لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه، وقد قالوا: إن من أدب الاستماع سكون الجوارح والأعضاء، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور القلب، والعزم على العمل.
وقد بين سبحانه أهم ما يوحى إليه بقوله:
(إننى أنا الله لا إله إلا أنا) أي إن أول الواجب على المكلف أن يعلم أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
(فاعبدنى) أي وإذ كنت أنا الإله حقا ولا معبود سواي، فخصنى بالعبادة والتذلل والانقياد في جميع ما كلفتك به.
(وأقم الصلاة لذكرى) أي وأدّ الصلاة على الوجه الذي أمرتك به مقوّمة الأركان مستوفاة الشرائط، لتذكرنى فيها وتدعونى دعاء خالصا لا يشو به إشراك ولا توجه إلى سواي.
وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات، لما لها من الفضل على سواها، إذ فيها ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذلك، ومن ثم تنهى عن الفحشاء والمنكر.
أخرج الترمذي وابن ماجه في جماعة آخرين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: أقم الصلاة لذكري »
ثم بين السبب في وجوب العبادة وإقامة الصلاة فقال:
(إن الساعة آتية أكاد أخفيها) أي إن الساعة آتية لا محالة، وإني أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري من الخلق، وقد جاء هذا على سنن العرب في تخاطبهم يقول أحدهم إذا بالغ في كتمان السر: كتمت سرى من نفسي، يريد أنه أخفاه غاية الإخفاء.
وفائدة إخفائها التهويل والتخويف، فإنهم إن لم يعلموا متى تقوم الساعة يكونوا منها على حذر، ولمثل تلك الفائدة أخفى الله وقت الموت، لأن المرء إذا علم وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الحين فيتوب ويصلح عمله، وقد وعد الله بقبول توبته، وهذا يكون كالإغراء على المعصية، لكنه إن لم يعلم حين منيّته كان منها على حذر، ولا يزال على قدم الخوف والوجل، فيترك المعاصي ويتوب منها في كل حين خوف معاجلة الموت.
(لتجزى كل نفس بما تسعى) أي إن الساعة آتية لا محالة، ليجزى كل عامل بعمله كما قال: « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره » وقال: « إنما تجزون ما كنتم تعملون ».
ثم خاطب سبحانه موسى محذّرا له فقال:
(فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) أي فلا يردنّك يا موسى عن التأهب للساعة من لا يقرّ بقيامها ولا يصدّق بالبعث، ولا يرجو ثوابا، ولا يخاف عقابا، بل يركب رأسه ويخالف أمر ربه ونهيه، فإنك إن فعلت ذلك وقعت في هاوية الخذلان والعصيان، وهذا الخطاب من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد بمثل هذا الخطاب جميع المكلفين كما تقدم غير مرة.
وخلاصة ذلك - لا تتّبعوا سبل من كذّب بالساعة، وأقبل على لذاته في دنياه، وعصى أمر ربه واتبع هواه، فإن من سلك سبيلهم خاب وخسر كما قال: « وما يغني عنه ماله إذا تردى ».
[سورة طه (20): الآيات 17 الى 21]
وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
تفسير المفردات
أتوكأ عليها: أعتمد عليها في المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك، وأهش بها: أي أخبط بها ورق الشجر، مآرب: أي منافع واحدها مأربة (مثلثة الراء) والحية: تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى من هذا النوع، والثعبان: العظيم من الحيات، والجانّ: الصغير منها، سيرتها الأولى: أي حالها الأولى وهي كونها عصا، يقال لكل من كان على أمر فتركه وتحول عنه ثم راجعه: عاد فلان سيرته الأولى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مناجاته لموسى حين رأى النار التي في الشجرة واختياره نبيا وإيحاءه إليه أن لا إله إلا هو، وأمره بإقامة الصلاة لما فيها من ذكره، وتخصيصه بالعبادة دون سواه، ثم إخباره بأن الساعة آتية لا محالة ليجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بما دسّى به نفسه جزاء وفاقا. قفّى على ذلك بذكر البرهانات التي آتاها موسى، دلالة على نبوته، وتصديقا له على رسالته، فبدأ بذكر العصا التي انقلبت حية تسعى حين ألقاها من يده، وكان قد سأله عنها استجماعا لقلبه، وتهدئة لروعه في هذا المقام الرهيب، وإعلاما بما سيكون لها بعد من عظيم الشأن وجليل المنافع والمزايا التي لم تكن تدور بخلده عليه السلام.
الإيضاح
(وما تلك بيمينك يا موسى) سأله سبحانه عما في يده وهو العليم به، ليبين له أنه سيجعل لتلك الخشبة التي ليس لها خطر كبير، ولا منفعة عظيمة - جليل المزايا والفوائد التي لم تكن تخطر له على بال، كانقلابها حية تسعى، وضرب البحر بها حتى ينفلق، وضرب الحجر حتى يتفجر منه الماء، ولينبهه بهذا الطريق إلى كمال قدرته، وبالغ عظمته، إذ أظهر لأحقر الأشياء هذه المنافع العظيمة - على سنن الناس في تخاطبهم، إذا أراد أحدهم أن يظهر من الشيء الحقير شيئا شريفا، أن يأخذه ويعرضه على النظّارة ويقول لهم: ما هذا؟ فيقولون هو كذا، فيفيض في شرح ما له من فائق المزايا، وجليل المنافع، التي لم تكن تدور بخلدهم، ولم تخطر ببالهم.
فأجابه موسى معدّدا ما لها من فوائد ومزايا بحسب ما وصلت إليه معرفة البشر.
(قال هي عصاى) وبهذا تم الجواب، ولكن موسى ذكر ما لها من فوائد، إذ أحب مكالمة ربه، فجعل ذلك كالوسيلة لهذا الغرض، فبين لها فائدتين على سبيل التفصيل، وواحدة على سبيل الإجمال فقال:
(1) (أتوكؤا عليها) أي أعتمد عليها إذا مشيت أو تعبت أو وقفت على رأس القطيع من الغنم.
(2) (وأهش بها على غنمى) أي أخبط ورق الشجر بها، ليسقط على غنمى فتأكله.
(3) (ولى فيها مآرب أخرى) أي ولى فيها مصالح ومنافع أخرى غير ذلك كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم، وإذا شئت ألقيتها على عاتقى، فعلّقت بها قوسى وكنانتى ومخلاتى وثوبى، وإذا وردت ماء قصر عنه رشائى وصلته بها.
وقد أجمل عليه السلام في المآرب رجاء أن يسأله ربه عنها، فيسمع كلامه مرة أخرى ويطول الحديث بهذا.
وبعد أن ذكر هذه الجوابات أمره بإلقائها، لتتبين لها فوائد لم يعرفها من قبل.
(قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حيه تسعى) أي قال له ربه: ألقها يا موسى لترى من شأنها ما ترى، فألقاها فإذا هي ثعبان عظيم ينتقل من مكان إلى آخر مسرعا، وجاء تشبيهها بالجان وهو الصغير من الحيات في قوله (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة، لا لصغرها.
ثم أمره بأخذها وهي على تلك الحال دون خوف ولا ذعر.
(قال خذها ولا تخف) أي قال له ربه: خذها بيمينك ولا تخف منها.
وهذا الخوف مما تقتضيه الطبيعة البشرية حين مشاهدة الأمر الجلل الذي لا يعرف له نظير، ولا يدرك له سبب، ولا ينقص ذلك من جلالة قدره عليه السلام.
ثم علل النهي عن الخوف بقوله:
(سنعيدها سيرتها الأولى) أي سنرجعها إلى الحال التي كانت عليها من قبل وهي العصوية فأقدم على ذلك برباطة جأش دون تردد ولا ذعر.
[سورة طه (20): الآيات 22 الى 35]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيرًا (35)
تفسير المفردات
الضم: الجمع، وأصل الجناح للطائر ثم أطلق على اليد والعضد والجنب وهو المراد هنا، والسوء: القبح في كل شيء، ويراد به هنا البرص والطباع تنفر منه، وآية أخرى: أي معجزة ثانية غير العصا، طغى: أي تجاوز الحد في عتوّه وتجبره، اشرح لي صدرى: أي وسّعه لتحمّل أعباء الرسالة، ويسر لي أمري: أي سهّل لي ما أمرتنى به من تبليغ الرسالة. واحلل عقدة من لسانى: أي أزل ذلك التعقد والحبسة التي في لسانى، لئلا يستخف بي الناس وينفروا مني ولا يستمعوا لكلامى، يفقهوا قولي: أي يفهموه، وزيرا: أي معينا، والأزر: القوة، يقال آزره أي قوّاه وأعانه، وأشركه في أمري: أي اجعله شريكا لي في النبوة والرسالة، إنك كنت بنا بصيرا: أي عالما بأحوالنا، لا نريد بالطاعة إلا رضاك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المعجزة الأولى الدالة على نبوة موسى عليه السلام، وعلى صدق رسالته وهي العصا وما صدر منها من الأفاعيل حين ألقاها من يده، ثم عودتها سيرتها الأولى حين أخذها من الأرض - قفى على ذلك بذكر المعجزة الثانية التي آتاها إياه وهي معجزة اليد، فإنه كان إذا وضع يده اليمينى إلى جنبه الأيسر تحت العضد ثم أخرجها أضاءت كشعاع الشمس تعشى البصر، ثم بذكر أمره له بالذهاب إلى فرعون لتبليغ رسالة ربه، ثم دعائه ربه أن يشرح له صدره ويسهل له أمره، وأن يجعل له أخاه هارون نبيا كى يشد أزره ويقوى على تبليغ الرسالة، ويتعاونا على ذكر الله وعبادته
الإيضاح
(واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء) أي أدخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك (قميصك) واجعلها تحت الإبط اليسرى تخرج بيضاء لامعة من غير برص ولا عيب.
روي أن موسى كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها - تتلالأ كأنها فلقة قمر، قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح فعلم أنه قد لقى ربه.
(آية أخرى) أي وهذه علامة أخرى غير الآية التي أرينا كها من قبل من تحويل العصا حية تسعى - تدل على صدقك فيما بعثناك به من الرسالة لمن بعثناك إليهم.
(لنريك من آياتنا الكبرى) أي افعل ذلك، كى نريك بعض أدلتنا، على عظيم سلطاننا، وكامل قدرتنا، وبديع تصرفنا، في ملكوت السموات والأرض.
وبعد أن أظهر له هذه الآيات أمره بالذهاب إلى فرعون المتكبر الجبار فقال:
(اذهب إلى فرعون إنه طغى) أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى، وادعه إلى عبادتى، وحذّره نقمتى، فإنه قد تجاوز قدره، وتمرد على ربه، حتى تجاسر على دعوى الربوبية، وقال: أنا ربكم الأعلى.
قال وهب بن منبّه: قال الله لموسى: اسمع كلامى، واحفظ وصيتي، وانطلق برسالتي، فإنك بعيني وسمعى، وإن معك يدي ونصرى، وإني ألبستك جبّة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمرك، أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقى، بطر نعمتى، وأمن مكرى، وغرّته الدنيا حتى جحد حقى، وأنكر ربوبيتى أقسم بعزتي، لو لا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقى لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان علي، وسقط من عيني، فبلّغه رسالتي، وادعه إلى عبادتى، وحذّره نقمتى، وقل له قولا لينا، لا يغتر بلباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي، قال: فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم حتى جاءه ملك فقال: أجب ربك فيما أمرك، فحينئذ.
(قال رب أشرح لي صدرى) أي رب وسّع لي صدرى، لأعى عنك ما تودعه فيه من وحيك، وأجترى به على خطاب فرعون، فإنك قد كلفتنى أمرا عظيما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فقد بعثتني إلى أعظم ملك على وجه الأرض، وأجبرهم وأشدهم كفرا، وأكثر هم جندا، وأعمر هم ملكا، وأطغاهم وأبلغهم تمردا، وقد بلغ من تمرده أنه لا يعلم إلها غيره.
وخلاصة ذلك - اجعلنى رابط الجأش حتى لا أخاف سواك، ولا أرهب غيرك، حين تبليغ رسالتك، وكن عونى ونصيرى، وإلا فلا طاقة لي بذلك.
(ويسر لي أمري) أي سهّل علي القيام بما تكلفنى به من تبليغ الرسالة، وتحمّلنى من الطاعة، وأفض علي من القوة ما يفى بالعمل على نشر الدين، وإصلاح حال الخلق.
(واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) أي وأطلق لساني بالنطق ليفهموا قولي حين تبليغ الرسالة، وكان في لسانه حبسة تمنعه من كثير من الكلام.
وقد روى أن الحسين رضي الله عنه كان في لسانه رتّة (حبسة) فقال النبي ﷺ: إن هذه ورثها من عمه موسى.
ولما كان التعاون على نشر الدين مع خلوص الود قربة عظيمة لله - طلب موسى المعاونة على ذلك فقال:
(واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي) أي واجعل لي عونا من أهل بيتي هرون أخي، ليحمل معى أعباء الرسالة، ويكون ظهيرا لي عند الشدائد، وحلول المكاره، ولمثل هذا قال عيسى عليه السلام « من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله »
وقال النبي ﷺ: « إن لي في السماء وزيرين وفى الأرض وزيرين، فاللذان في السماء جبريل وميكائيل، واللذان في الأرض أبو بكر وعمر »
وروي أن النبي ﷺ قال: « إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، وإن نوى خيرا أعانه، وإن أراد شرا كفّه »
وقال أنو شروان: لا يستثنى أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير.
وقد اختصّ هرون بأمور منها:
(1) الفصاحة لقول موسى هو أفصح مني لسانا.
(2) الرفق لقول هرون: يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي.
(3) الوسامة والجمال وبياض اللون، وكان موسى آدم اللون أقنى جعدا.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلا يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا لا ندري. قال: أنا والله أدري، قالت فقلت في نفسي، في حلفه لا يستثني إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قال موسى حين سأل لأخيه النبوة، فقلت صدق والله.
ثم طلب موسى من ربه أن يشدّ به أزره فقال:
(اشدد به أزري وأشركه في أمري) أي أحكم به قوتى، واجعله شريكى في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها على الوجه الذي يؤدى إلى أحسن الغايات، ويوصل إلى الغرض على أجمل السبل.
ثم حكى عنه سبحانه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال:
(كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) أي لكي ننزّهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من بينها ما يدّعيه فرعون الطاغية، وفئته الباغية من الألوهية له، ونذكرك وحدك ابتغاء مرضاتك، دون أن نشرك معك غيرك أثناء أداء الرسالة، ودعوة المردة الطّغاة إلى الحق.
ولا شك أن التعاون في الدعوة أنجع في الوصول إلى المقصد من الانفراد، فكل من النبيّين يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يصدر عنه مثله في حال الانفراد.
(إنك كنت بنا بصيرا) أي عليما بأحوالنا، وأن ما طلبناه مما يفيدنا في تحقيق ما كلفتنا به من إقامة مراسم الرسالة على أتم الوجوه وأكلها، فإن هرون نعم العون على أداء ما أمرت به من نشر معالم الدين، وكبح جماح المضلين، وإرشادهم إلى حق اليقين.
[سورة طه (20): الآيات 36 الى 41]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
تفسير المفردات
السؤل: بمعنى المسئول: أي المطلوب كالخبز بمعنى المخبوز، منّنا: أي أنعمنا، مرة أخرى: أي في وقت آخر غير هذا الوقت، أوحينا: أي ألهمنا كما جاء في قوله « وأوحى ربك إلى النحل » وقوله: « وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولي » اقذفيه: أي ألقيه واطرحيه، واليمّ: البحر. والمراد به هنا نهر النيل، والساحل: الشاطئ، ولتصنع على عيني: أي ولتربّى وتغذّى بمرأى مني وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء بعينيه دلالة على عنايته به، يكفله: أي يضمه إلى نفسه، تقر عينها: أي تسر، والغم: الكدر الناشئ من خوف شيء أو فوات مقصود، والفتون: الابتلاء والاختبار بالوقوع في المحن ثم تخليصه منها، لبثت: أي أقمت، مدين: بلد بالشام.
المعنى الجملي
اعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه أمورا ثمانية وكان قيامه بما كلّف به لا يتم على الطريق المرضي إلا إذا أجابه إليها - لا جرم أجابه الله تعالى إلى ما طلب، ليكون أقدر على الإبلاغ على الوجه الذي كلّف به، ثم ذكّره بنعمه السالفة حين كانت أمه ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه، فألهمها أن تصنع تابوتا وتضعه فيه وتلقيه في النيل ففعلت، فألقاه النيل في الساحل، فالتقطه آل فرعون وربّوه في منزلهم، وألقى الله محبة في قلوبهم له وصار كأنه ابنهم، ثم ذكّره بنجاته من القصاص حين قتل المصري وهرب إلى مدين.
الإيضاح
(قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي قال الله تعالى لموسى: قد أعطيتك جميع ما سألتني عنه من شرح صدرك، وتيسير أمرك، وحل عقدة لسانك، وجعل أخيك هارون وزيرا لك، وشد أزرك به، وإشراكه في الرسالة معك.
(ولقد مننا عليك مرة أخرى) أي ولقد تفضلنا عليك من قبل بنعم كثيرة، ومن راعى مصلحتك قبل سؤلك، وأعطاك ما ترجو، أفيمنع عنك ما تريد بعد سؤالك؟
ومن رقى بك إلى مراتب الكمال، وصعد بك في أوج المعالي، وسما بك إلى درجات الرفعة. ووكل إليك ذلك المنصب الخطير، أفيليق به وهو الجواد الكريم أن يحجز عنك ما تؤمّل مما أنت في شديد الحاجة إليه لتبليغ رسالته؟.
وفي التعبير عن تلك النعم بالمنن إيماء إلى أنها إنما وصلت إليه بمحض التفضل والإحسان.
وقد عد سبحانه من تلك النعم ثمانيا فقال:
(1) (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له) أيواذكر حين ألهمنا أمك وأوقعنا في قلبها عزيمة صادقة، أنّ أمثل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته، أن تضعك في تابوت - صندوق - ثم تطرح هذا التابوت في نهر النيل، ففعلت فألقاك النهر في الساحل، فأخذك فرعون عدو الله ورباك في بيته، وسيصير عدوا لك بعد ذلك كما هو عدو لي.
روي أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا ووضعته فيه، وطلت ظاهره بالجص والقار ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه (يتفرع) نهر كبير إلى بستان فرعون، فبينا هو جالس إلى رأس بركة مع زوجه إذا بتابوت يجرى به الماء، فأمر فرعون غلمانه وجواريه بإخراجه ففعلوا، وفتحوا رأسه فإذا صبى من أصبح الناس وجها فأحبه فرعون حبا شديدا لم يتمالك أن يصبر عنه.
(2) (وألقيت عليك محبة مني) أي وألقيت عليك محبة خالصة مني قد ركزتها في القلوب وزرعتها فيها، ومن ثم أحبك فرعون وزوجه حتى قالت « قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ».
(3) (ولتصنع على عيني) أي ولتربّى برعايتى، فأنا مراقبك وحافظك، كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا أراد شدة العناية به، يقول الرجل للصانع: اصنع هذا على عيني، أنظر إليه حتى يأتي وفق ما أحبّ وأبغى.
(4) (إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله؟ فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن) أي وألقيت عليك محبة مني حين تمشى أختك تتبعك متعرّفة حتى وجدتك وصادفتهم يطلبون لك مرضعا تقبل ثديها، حتى اضطروا إلى تتبع النساء، فلما رأت ذلك منهم جاءت إليهم متنكرة وقالت: هل أدلّكم على من يضمّه إليه ويحفظه ويربيه؟ فجاءت بالأم فقبل ثديها ورجع إليها بما لطف الله له من التدبير، وقرت عينها بسلامته، وزال عنها الحزن والغم الذي كان قد ألمّ بها.
(5) (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم) أي وقتلت بعد كبرك القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلي فنجّيناك من الغم الذي نزل بك من وجهين:
(ا) عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون كما جاء في الآية « فأصبح في المدينة خائفا يترقب ».
(ب) عقابنا إذ قتلته بغير أمر منا، فغفرنا لك ذنبك حين قلت: « رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي » ووفقناك للهجرة إلى مدين.
(6) (وفتناك فتونا) أي وأوقعناك في محنة بعد محنة وتفضلنا عليك بالخلاص منها، فمن ذلك:
(ا) إن أمك حملت بك في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأبناء، فنجاك الله من الذبح.
(ب) إن أمك ألقتك في البحر بعد وضعك في التابوت فالتقطك آل فرعون وعنوا بتربيتك ورعايتك.
(ح) إنك امتنعت عن الرضاع إلا من ثدى أمك وكان ذلك وسيلة إلى إرجاعك إليها.
(د) إنك أخذت بلحية فرعون فغضب من ذلك وأراد قتلك لو لا أن قالت له زوجه: إنه صغير لا يفرق بين الجمرة والتمرة وأتى لك بهما فأخذت الجمرة.
(ه) قتلك القبطي وخروجك إلى مدين هاربا.
(7) (فلبثت سنين في أهل مدين) قاسيت أثناءها من المحن ما قاسيت، وتحمّلت بسبب الفقر والغربة آلاما كثيرة حتى احتجت إلى أن تؤاجر نفسك لشعيب وترعى غنمه.
(ثم جئت على قدر يا موسى) أي ثم جئت وفق الوقت الذي سبق في قضائى وقدرى أن أكملك فيه، وأن أجعلك رسولا دون تقدم ولا تأخر عنه، ولو لا توفيق الله لما تهيأ لك شيء من ذلك.
(8) (واصطنعتك لنفسى) أي اخترتك لإقامة حجتى، وجعلتك واسطة بيني وبين خلقى في تبليغ الدين وهدايتهم إلى التوحيد والشرع القويم الذي به صلاح البشر في دينهم ودنياهم.
وخلاصة ذلك - إني جعلتك من خواصى، واصطفيتك برسالاتى وبكلامي، فصرت بما آتيتك من كرامة النبوة وجليل النعمة بالمكالمة، أشبه بمن يراه الملك أهلا لكرامته، فيقر به إليه ويجعله من خواصه وندمائه، ويصطنعه بالإحسان إليه في الحين بعد الحين والفينة بعد الفينة.
[سورة طه (20): الآيات 42 الى 48]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
تفسير المفردات
الآيات: هي المعجزات، والمراد بها العصا واليد البيضاء، فإن فرعون حين قال له: فأت بآية، ألقى العصا ونزع اليد وقال فذانك برهانان من ربك، ولا تنيا: أي لا تفترا ولا تقصّرا، في ذكرى: أي في تبليغ رسالتي، فالذكر يطلق على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، طغى: أي تجاوز الحد، قولا لينا: أي لا عنف فيه ولا غلظة: يتذكر: أي يتأمل فيذعن للحق ويؤمن، يخشى: أي يخاف من بطش الله وعذابه، يفرط: أي يعجّل بالعقوبة، من قولهم فرس فارط إذا كان سباقا للخيل، يطغى: أي يزداد طغيانا، أس مع وأرى: أي أسمع وأرى ما يجرى بينكما من قول أو فعل، فأتياه: أي فقابلاه وجها لوجه، فأرسل معنا بني إسرائيل: أي فأطلقهم من الأسر، ولا تعذبهم: أي ولا تبقهم على ما هم عليه من العذاب والتسخير في شاقّ الأعمال، والسلام على من اتبع الهدى: أي والسلامة من العذاب في الدارين لمن صدّق بآيات الله الهادية إلى الحق، تولى: أي أعرض.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه المنن الثمانية بإزاء ما طلبه موسى من المطالب الثمان - شرع يذكر الأوامر والنواهي التي طلب إليه أن يقوم بتنفيذها ويؤدى الرسالة على النهج الذي أمره به.
الإيضاح
(اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا في ذكرى) أي اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه، وإني ممدّ كما بحججي وبرهاناتى الدالة على صدق نبوتكما، ومظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل والمعاذير، ولا تفترا في دعوتهم وتبليغ الرسالة إليهم، فبيّنا لهم أن الله أرسلكما إليهم مبشرين بثوابه ومنذرين بعقابه.
(اذهبا إلى فرعون إنه طغى) أي اذهبا معا إلى فرعون، وناضلاه الحجة بالحجة، وقارعاه البرهان بالبرهان، لأنه طغى وتجبر وتمرّد حتى ادعى الربوبية فقال « أنا ربكم الأعلى ».
وتخصيص فرعون بالدعوة آخرا بعد أن كانت الدعوة عامة أوّلا، من قبل أنه إذا صادفت الدعوة من فرعون أذنا صاغية، واستجاب لدعوتهما وآمن بهما تبعه المصريون قاطبة كما قيل: الناس على دين ملوكهم.
ثم بين لهما سبيل الدعوة فقال:
(فقولا له قولا لينا) أي فكلماه بكلام رقيق لين، ليكون أوقع في نفسه، وأنجع في استجابته للدعوة، فبرقيق القول تلين قلوب العصاة، وتنكسر سورة الطغاة، ومن ثم جاء الأمر به لنبيه محمد ﷺ في قوله: « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن ».
ومن هذا ما حكى الله بعضه عن موسى في قوله لفرعون: « هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى » وقوله تعالى له: « والسلام على من اتبع الهدى ».
ثم علل الأمر بإلانة القول بقوله:
(لعله يتذكر أو يخشى) تقدم أن قلنا إن (لعل) في مثل هذا لتوقع حصول ما بعدها: أي أدّيا الرسالة، وقوما بتنفيذ ما دعوتكما إليه، واسعيا إلى إنجازه سعى من يرجو ويطمع أن يثمر عمله، ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد قدر استطاعته، ويحتشد بأقصى وسعه آملا أن تكلل أعماله بالنجاح والفوز والفلاح.
وقصارى ذلك - اصدعا بالأمر وأنتما طامعان أن أعمالكما ستثمر، وأنكما ستهديانه إلى سواء السبيل وقد جرت العادة أن من رجا شيئا طلبه، ومن يئس انقطع عمله، والمقصد من ذلك إلزامه الحجة، وقطع المعذرة، وإن لم يفد هدايته.
(قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) أي قال موسى وهارون: ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا أن ندعوه إليه، أن يعجّل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة، وإظهار المعجزة، أو يزداد طغيانا فيقول في شأنك ما لا ينبغي، لعظيم جرأته، وقساوة قلبه، وفجوره وشديد عصيانه.
(قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى) أي قال الله لهما: لا تخافا فرعون إننى معكما بالنصرة والتأييد، والحفظ من غوائله، وإننى أسمع وأرى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل، وأحدث في كل حال ما يصرف شره عنكما.
والخلاصة - لست بغافل عنكما، وإني سأفعل ما يؤدى إلى حفظكما ونصركما عليه، فلا تأبها به، ولا تهتمّا بأمره.
(فأتياه فقولا إنا رسولا ربك) أي فقابلاه وقولا له: إن الله أرسلنا إليك - وقد أمرا بتبليغه ذلك من أول وهلة، ليعرف لهما حقهما، ويفكر فيما يقابلهما به من الرد على ما ادعيا.
وفي التعبير بقولهما (ربك) إيماء إلى أن ما ادعيته من الربوبية لنفسك، مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه نظرة الاعتبار والصدق.
(فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) أي فأطلق بني إسرائيل من الأسر، ولا تعذبهم بتسخيرك إياهم في شاقّ الأعمال كالحفر والبناء ونقل الأحجار، وقد كان المصريون يستخدمونهم هم ونساء هم في تلك الأعمال.
وإنما بدأ بهذا الطلب دون دعوة هذا الطاغية وقومه إلى الإيمان، لأنه أخف وأسهل من ذلك، لما فيه من تبديل الاعتقاد وهو عسر شاقّ على النفس.
ثم ذكرا ما يوجب امتثال أمرهما، ويؤكد دعوى رسالتهما بقولهما.
(قد جئناك بآية من ربك) أي قد جئناك بالحجة البالغة، والبرهان الساطع، على أنه أرسلنا إليك، وإن لم تصدقنا فيما نقول أريناكها.
(والسلام على من اتبع الهدى) أي والسلامة والأمن من العذاب في الدنيا والآخرة على من اتبع رسل ربه، واهتدى بآياته التي ترشد إلى الحق، وتنيل البغية، وتبعد عن الغي والضلال.
قال الزجّاج: أي من اتبع الهدى سلّم من سخط الله وعذابه، وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب اهـ.
ويمثل هذا كتب رسول الله ﷺ إلى هرقل ملك الروم قال:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فاسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين.
وفي هذا ترغيب في التصديق على أتم وجوهه، وتنفير من مخالفته، وصد عنها على أقصى غاية كما لا يخفى.
ثم ذكرا علة لما سبق لهما من النصح والإرشاد بقولهما.
(إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) أي إنا قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا أن عذابه الذي لا نفاد له ولا انقطاع في الدنيا والآخرة، على من كذّب بما ندعو إليه من توحيده وطاعته وإجابة رسله، وأدبر معرضا عما جئناه به من الحق.
وجاء بمعنى الآية قوله تعالى: « فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هي المأوى » وقوله: « فأنذرتكم نارا تلظى. لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى » وقوله: « فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ».
[سورة طه (20): الآيات 49 الى 55]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
تفسير المفردات
أعطى كل شيء خلقه: أي أعطى كل نوع صورته وشكله الذي يشاكل ما نيط به من الخواص والمنافع، ثم هدى: أي ثم عرّفه كيف يرتفق بما أعطى له، البال: الفكر يقال خطر ببالي كذا، ثم أطلق على الحال التي يعتنى بها وهو المراد هنا في كتاب: أي دفتر مقيّد فيه والمراد بذلك كمال علمه الذي لا يضيع منه شيء، ضل الشيء: أخطأه ولم يهتد إليه، ونسيه: ذهب عنه ولم يخطر بباله، والمهد. ما يمهّد للصبى ويفرش له: أي جعل الأرض كالمهد، وسلك: أي سهّل، والسبل: واحد ها سبيل: أي طريق، أزواجا: أي أصنافا، شتى: واحدها شتيت كمريض ومرضى: أي مختلفة النفع والطعم واللون والشكل، لآيات: أي لدلالات، والنهى: واحدها نهية (بالضم) وهي العقل سمى بها لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح.
المعنى الجملي
اعلم أن موسى وهارون عليهما السلام سارعا إلى الامتثال وجاءا فرعون وأبلغاه ما أمرا به، فسألهما سؤال الإنكار والجحد للصانع الخالق لكل شيء وربه ومليكه، ودار بينهما من الحوار ما قصه الله علينا.
روي عن ابن عباس أنهما لما جاءا إلى بابه أقاما حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فدخلا وكان من الحوار ما أخبرنا الله به.
الإيضاح
(قال فمن ربكما يا موسى) أي إذا كنتما رسولي ربكما الذي أرسلكما فأخبرانى، من ربكما الذي أرسلكما؟.
وإنما خص موسى بالنداء مع توجيه الخطاب إليهما، لما ظهر له أنه هو الأصل وهارون وزيره.
فأجاب موسى عن سؤاله:
(قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه) أي ربنا الذي أعطى كل شيء ما يليق به مما قدر له من الخواص والمزايا، فأعطى العين الوضع الذي يطابق ما يراد بها من الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وهكذا الأنف واليد والرجل وجميع أعضاء الجسم.
(ثم هدى) أي ثم أرشده كيف ينتفع بما أعطاه ويرتفق به، وكيف يصل بذلك إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما في الحيوان وإما طبعا كما في النبات والجماد.
وخلاصة هذا - ربنا الذي خلق كل شيء على الوجه الذي يليق بما قدّر له من المنافع والخواص، وأرشده كيف ينتفع بما خلق له، وجعل ذلك دليلا على وجوده، وعظيم جوده، وكأنه يقول له: إن ذلك الخالق والهادي هو الله.
وبعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر - شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى الذين لم يعبدوا هذا الإله، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(قال فما بال القرون الأولى؟) أي فما حال القرون الماضية كعاد وثمود الذين لم يعبدوا الله بل عبدوا غيره؟.
فأجاب موسى:
(قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) أي إن ذلك من علوم الغيب التي لا يعلمها إلا الله، فهو الذي ضبط أعمالهم وأحصاها في كتاب لا يشذّ عنه شيء، ولا يفوته شيء، لا كبير ولا صغير، ولا ينسى شيئا، وسيجزيهم بما عملوا جزاء وفاقا.
وقصارى ذلك - إن علمه تعالى محيط بكل شيء، وأنه لا ينسى شيئا، تبارك وتعالى، فعلمه ليس كعلم المخلوقين الذي يعتريه النقص من وجهين: عدم الإحاطة بالأشياء، ونسيانها بعد علمها.
وإنما سأل فرعون هذا السؤال لخوفه أن يزيد موسى في إظهار تلك الحجة فيستبين للناس صدقه، فأراد صرفه عن ذلك، وشغله بالقصص والحكايات التي لا تعلق لها بشئون رسالته، لكن موسى كان أحرص من أن يهتم بمثل هذا، ومن ثم أوجز في رده. ووكل أمر ذلك إلى ربه.
وإجمال سؤاله - إنه إذا كان الأمر كما ذكرت ففضّل لنا حال الماضين من سعادة وشقاء، فرد عليه السلام عليه بأن علم ذلك إلى الله ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول بإبراز الدلائل على الوحدانية فقال:
(الذي جعل لكم الأرض مهدا) أي ربى الذي لا يضل ولا ينسى هو الذي جعل لكم الأرض كالمهاد، تتمهّدونها وتستقرون عليها، فتقومون وتنامون وتسافرون على ظهرها.
(وسلك لكم فيها سبلا) أي وجعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية تمشون في مناكبها وتسلكونها من قطر إلى قطر، لتقضوا مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها.
ونحو الآية قوله: « وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ».
(وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) أي وأنزل من السماء مطرا فأخرج به مختلف أنواع النبات من زروع وثمار حامضة وحلوة وهي أيضا مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للإنسان، وبعضها يصلح للحيوان وفى هذا بيان لنعمه على خلقه بما يحدث لهم من الغيث الذي يولد تلك المنافع.
(كلوا وارعوا أنعامكم) أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم كلوا وارعوا أنعامكم إلخ. فشىء منها أعد لطعامكم وفاكهتكم، وشىء أعد لأنعامكم قوتا لها أخضر ويابسا.
(إن في ذلك لآيات لأولى النهى) أي إن فيما وصفت لكم من قدرة ربكم وعظيم سلطانه - لأدلة على وحدانيته وأنه لا إله غيره إذا كنتم من ذوي العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة.
ولما ذكر سبحانه منافع الأرض والسماء بين أنها غير مقصودة لذاتها، بل هي وسائل إلى منافع الآخرة فقال:
(منها خلقناكم) أي من الأرض خلقنا النطفة المتولدة من الأغذية التي تكونت منها بوسائط، إذ الغذاء إما حيوإني وإما نباتى، والحيواني ينتهى إلى نباتى، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء بالتراب.
(وفيها نعيدكم) أي وفى الأرض نعيدكم بعد مماتكم فتصيرون ترابا كما كنتم قبل نشأتكم (ومنها نخرجكم تارة أخرى) أي وسنخرجكم منها بعد مماتكم مرة أخرى بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة، ثم نرد الأرواح من مقرّها إليها.
وجاء بمعنى الآية قوله: « فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون » وقوله: « يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ».
وفي الحديث « إن رسول الله ﷺ حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال وفيها نعيدكم، ثم أخذ أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال: « لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ في القبر قال رسول الله ﷺ: منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى، بسم الله، وفى سبيل الله، وعلى ملة رسول الله ».
[سورة طه (20): الآيات 56 الى 59]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكانًا سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
تفسير المفردات
أبى: امتنع، موعد: أي ميعادا معيّنا، سوى: مستويا لا جبال فيه ولا وهاد بحيث يستر النظارة، يوم الزينة: يوم عيد كان لهم، يحشر الناس: أي يجمعون، والضحى: وقت ارتفاع النهار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه سؤال فرعون عن رب موسى - قفى على ذلك ببيان أنه بصّره بالآيات الدالة على توحيد الله كقوله: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقوله: الذي جعل لكم الأرض مهدا، والدالة على نبوته كإلقاء العصا وصيرورتها ثعبانا ونزع يده من تحت جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء، فعلم كل هذا وكذّب به كفرا وعنادا كما قال « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا » الآية.
الإيضاح
(ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) أي ولقد بصّرنا فرعون وعرّفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وعلى نبوة موسى فكذب بها وأبى أن يذعن للحق.
وقد يكون المراد بها الآيات التسع المذكورة في قوله: « ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ».
ثم فصل سبحانه صفة تكذيبه وإبائه فقال:
(قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى؟) أي قال منكرا مستقبحا لما فعل موسى: أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا، لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر؟ إذ تستولى على عقول الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم.
وخلاصة ما قال - أجئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك والإيمان بما جئت به إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها ويكون لك الملك فيها، وإنما قال تلك المقالة، ليحمل قومه على السخط على موسى والغضب منه، بإظهار أن مراده ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم، بل مقصوده إخراج القبط من أوطانهم، وحيازة أموالهم وأملاكهم جملة، وبذا يسدّ عليه الباب فلا يتوجه أحد إلى اتباع دعوته، مبالغة في المدافعة عن بلادهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولا ينظرون إلى معجزاته، ولا يلتفتون إلى ما يدعو إليه من الخير، ثم ادّعى أنه سيعارضه بمثل عمله فقال:
(فلنأتينك بسحر مثله) أي فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك، فإن عندنا مثل ما عندك، فلا يغرنّك ما أنت فاعل.
(فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت) أي فاجعل بيننا وبينك ميقاتا وموعدا نجتمع نحن وأنتم فيه، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر.
وإنما قال تلك المقالة، ليبين أنه قوى القلب، جلد متمكن من تهيئة وسائل المعارضة، وترتيب أسباب المغالبة، طال الأمد أو قصر.
(مكانا سوى) أي ويكون الاجتماع في مكان مستو من الأرض لا انخفاض فيه ولا ارتفاع، فلا جبال ولا وهاد تستر بعض الحاضرين عن بعض.
وقصارى ذلك - عيّن لنا زمان المقابلة ومكانها على ألا يكون فيه ما يستر أحدا من الناس عن أحد ليروا ما يصدر منك ومن السحرة.
وغير خاف ما في ذلك من إظهار الجلد، وقوة الوثوق بالغلبة.
ثم ذكر رد موسى على ما طلب فقال:
(قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) أي قال موسى: ميعادكم للاجتماع يوم عيد النيروز وكان على رأس سنتهم حين يفرغ الناس من أعمالهم ويجتمعون، ليكون الحفل عاما، ويتحدث الناس بذلك الأمر العجيب في القرى والأمصار، فتعلو كلمة الله ويظهر دينه، ويزهق الباطل وينتصر الحق على رءوس الأشهاد.
وفي ذلك من وضوح الحجة ما لا خفاء فيه، ومن وثوقه بفلجه على خصمه، وعدم مبالاته به.
[سورة طه (20): الآيات 60 الى 64]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
تفسير المفردات
فتولى فرعون: أي انصرف عن المجلس، كيده: أي ما يكيد به من السحرة وأدواتهم، أتى: أي أتى الموعد ومعه ما جمعه من الأعوان والسحرة، ويلكم: أي هلاك لكم، والافتراء: الاختلاق والكذب، فيسحتكم بعذاب: أي يستأصلكم ويهلككم بعذاب شديد، فتنازعوا: أي فتفاوضوا وتشاوروا، وأسروا النجوى: أي بالغوا في إخفاء كلامهم، بطريقتكم المثلى: أي بمذهبكم الذي أنتم عليه وهو أفضل المذاهب وأمثلها، فأجمعوا كيدكم: أي اجعلوا كيدكم مجمعا عليه، صفا: أي مصطفين، لأنه أهيب للصدور، أفلح: أي فاز بالمطلوب، استعلى: أي غلب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن موسى وفرعون اتفقا على موعد يجتمعان فيه وهو يوم عيد لهم - أردف ذلك ذكر ما دبره فرعون بعد انصرافه عن المجلس من أمر السحرة وآلات السحر، وأتى بجميع ذلك، ثم ذكر أن موسى أوعدهم وحذرهم من عذاب لا قبل لهم به إن أقدمو ا على ما هم عازمون عليه، ثم بين أن السحرة حين سمعوا كلام موسى تنازعوا أمرهم وتشاوروا ماذا يفعلون، وبالغوا في إخفاء ما يريدون، وقالوا ما موسى وهرون إلا ساحران يريدان أن يغلباكم ويخرجاكم من دياركم ويرجوان أن تتركوا دينكم وهو أمثل الأديان وأفضلها، لتعتنقوا دينهما، فحذار أن تفعلوا ذلك ولا يتخلفنّ منكم أحد وائتوا صفا واحدا وقد فاز بالمطلوب من غلب.
الإيضاح
(فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) أي فانصرف عن مجلس الحجاج والمناظرة، وشرع يعدّ ما يكيد به من السحرة وآلاتهم وأنصاره وأعوانه، وكثير ما هم، ثم أقبل في الموعد الذي عيّن ومعه جمعه، وجلس على سرير ملكه وحوله أكابر دولته، واصطفت الرعية يمنة ويسرة، وأقبل موسى يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة صفوفا بين يدي فرعون يحرّضهم ويستحثهم ويرغّبهم في جودة العمل، ويتمنّون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، وقد جاء في سورة الشعراء: « قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين. قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين ».
ثم ذكر سبحانه ما كان من موسى حينئذ فقال:
(قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) أي قال موسى للسحرة: لا تختلقوا الكذب على الله ولا تتقولوه عليه، بأن تدّعوا أن الآيات التي ستظهر على يدي سحر كما فعل فرعون، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ولا يبقى منكم ولا يذر.
(وقد خاب من افترى) على الله الكذب، ولم يفلح في سعيه، ولم يصل إلى غرضه، فابتعدوا عن اختلاق الأكاذيب، ولا تضلّوا سواء السبيل، حتى لا يصيبكم ما أصاب المفترين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولما سمع السحرة كلام موسى وهارون هاجهم ذلك.
(فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) أي فتشاوروا وتفاوضوا ماذا يفعلون، وبالغوا في كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه حتى لا يسمعا ما يدور من القول، فيعدّا للأمر عدته، ويهيئا وسائل الدفاع، ومن الطّبعى في مثل هذه الأحوال أن يخفى أحد المتخاصمين كل ما يدبّره من وسائل الفوز والفلج عن خصمه الآخر.
ثم بين سبحانه خلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور بقوله:
(قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) أي إن السحرة قالوا فيما بينهم: إن هذا الرجل وأخاه ساحران خبيران بصناعة السحر، وهما يريدان أن يغلباكم وقومكم ويخرجاكم من دياركم وتخلص لهم الرياسة دونكم.
وخلاصة ما قالوه التنفير منهما لوجوه ثلاثة:
(1) الطعن في نبوتهما ونسبتهما إلى السحر، وكل ذي طبع سليم ينفر من السحر، ويبغض السحرة، ويعلم أن السحر لا بقاء له، ولا ينبغي اتباع من جاء به، ولا اعتناق مذهبه وطريقته.
(2) إنّ بغيتهما إخراجكم من أرضكم، ومفارقة الوطن شديدة الوطأة على النفوس ومن ثم قال فرعون: « أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ».
(3) إنهما يريدان أن يستوليا على جميع المناصب والرياسات، ولا يبقيا شيئا من شئون الدولة والتصرف في أمورها العامة.
وإجمال هذا - إنهما إذا تم لهما الأمر أخرجاكم من دياركم، وتمحّضت لهما الرياسة دونكم.
ثم بين السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم، والبلاء المقبل فقالوا:
(فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به، كما جاء في آية أخرى « فجمع كيده » ثم ائتوا مصطفين مجتمعين، وألقوا ما في أيديكم دفعة واحدة لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم لدى النظارة في هذا المشهد الحافل.
(وقد أفلح اليوم من استعلى) أي وقد فاز بالمطلوب من غلب منا، أما نحن فقد وعدنا بالعطاء الجزيل والقرب من الملك: « قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين » وأما هو فسينال الرياسة، وما مقصدهم من ذلك إلا تشديد العزائم، وحفز الهمم، ليبذلوا أقصى الجهد للفوز والفلج بالمطلوب.
[سورة طه (20): الآيات 65 الى 76]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) ومَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
تفسير المفردات
إيجاس الخوف: الإحساس بشىء منه، ما في يمينك: هي العصا وأبهمها تفخيما لشأنها، وتلقف: تبتلع بقوة وسرعة، صنعوا: أي زوّروا وافتعلوا، كيد ساحر: أي كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، حيث أتى: أي أينما كان، كبيركم: أي زعيمكم ومعلمكم. قال الكسائي: الصبى بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال جئت من عند كبيرى، من خلاف: أي من حال مختلفة، فتقطع الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى، أشد عذابا: أي أدوم، نؤثرك: أي نفضّلك ونختارك، فطرنا: أي ابتدعنا وأوجدنا من العدم، فاقض: أي فاحكم، جنات عدن: أي جنات أعدت للإقامة، من تحتها: أي من تحت غرفها، تزكى: أي تطهّر من أدناس الكفر وأرجاس المعاصي.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الموعد وهو يوم الزينة، وذكر أنهم قالوا ائتوا صفا - ذكر هنا أنهم بعد أن أتوا خيروه بين أن يبدأ بإلقاء ما معه، وأن يبدءوهم، فاختار الثانية، وحين بدءوا فألقو حبالهم وعصيهم خاف موسى عاقبة أمره، فأوحى إليه ربه « لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك » فسيكون لك الفلج والظفر عليهم، وقد تحقق ما وعد الله به، وكتب له النصر وآمن به السحرة، فلجأ فرعون إلى العناد والاستكبار، وتوعد السحرة بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسيصلبهم في جذوع النخل، فقابلوا تهديده بالازدراء والسخرية، وقالوا إنما أنت مسلّط علينا في هذه الحياة الدنيا، وعذابك لا يعدوها، وما عند الله من العذاب لا يضارعه عذاب، وما عنده من الثواب لا يقدر قدره، ففي جناته التي تجرى من تحتها الأنهار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
الإيضاح
(قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى) أي فأجمع السحرة كيدهم ثم أتوا صفا فقالوا لموسى: اختر لك أحد الأمرين، إما أن تلقى ما معك، وإما أن نلقى ما معنا.
وهذا التخيير منهم حسن أدب معه وتواضع منهم، وتنبيه إلى إعطائه النّصفة من أنفسهم، وكأن الله ألهمهم ذلك، وعلم موسى أن من الخير له اختيار إلقائهم أولا، لأنهم إذا أبرزوا ما معهم من مكايد السحر واستنفذوا أقصى مجهودهم، أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلّط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين، ومن ثم حكى عنه.
(قال بل ألقوا) أي بل ألقوا أنتم أوّلا لنرى ما تصنعون من السحر، ويظهر للناس حقيقة أمركم، وحين ألقوا: « قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ».
(فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصي فخيّل إلى موسى أنها تمشى، وجاء في آية أخرى « سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤ بسحر عظيم ».
قيل إنهم حشوها بالزئبق الذي من طبعه أن يتأثر سريعا بحرارة الشمس، فما أسرع ما تحركت تلك الحبال والعصى حين سقطت عليها أشعة الشمس، فامتلأ الوادي بحيات يركب بعضها بعضا.
وخلاصة ذلك - إنهم حشوها بزئبق أو بمادة أخرى إذا وقعت عليها الشمس اضطربت وتحركت واتصل بعضها ببعض، فمن رآها ظن أنها تمشي وتسعى.
(فأوجس في نفسه خيفة موسى) أي فأوجس موسى بشىء من الخوف حين فوجىء بذلك على مقتضى الطبيعة البشرية حين ترى الأمر المهول المخيف.
ثم أبان سبحانه أنه ربط على قلبه فقال:
(قلنا لا تخف) أي قلنا: له هدّىء روعك، واطمئن بالا.
ثم علل ذلك بقوله:
(إنك أنت الأعلى) أي إنك ستنتصر عليهم وستكون لك الغلبة، فالعاقبة للمتقين.
(وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) أي وألق عصاك تبتلع حبالهم وعصيهم التي سحروا بها أعين الناس حتى خيل إليك أنها تسعى.
وإنما أوتر إبهام العصا تهويلا لأمرها، وتفخيما لشأنها، وإيذانا بأنها ليست من جنس العصي المعهودة، لما سينشأ عنها من عجيب الأثر وغريب الصنع.
(إنما صنعوا كيد ساحر) أي إن الذي فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، كيد سحرى لا حقيقة له ولا بقاء.
وخلاصة ذلك - إن الذي، معك يا موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويه وتلفيق ظاهر عليه الزور والبهتان، فكيف يتعارضان؟.
(ولا يفلح الساحر حيث أتى) أي ولا ينال الساحر مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا حيثما كان.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على أنه امتثل أمر ربه وألقى العصا وكان ما وعد به من تلقفها لما صنعوا فقال:
(فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى) أي فألقى ما في يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر للسحرة جليّة الأمر وأن ما عمله ليس بالسحر، فهو ليس من فنون السحر التي حذقوها، ولا من أنواع الحيل التي عرفوها، وإنه الحق الذي لا مرية فيه، ولا يقدر على مثله إلا من يقول للشىء كن فيكون، حينئذ وقعوا سجدا لله وقالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهرون.
روي أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحرا فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على وجود الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى على كونه رسولا صادقا من عند الله، لا جرم تابوا وآمنوا وأتوا وهم خاضعون ساجدون.
قال صاحب الكشاف - سبحان الله، ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبا لهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود اهـ.
روي عن ابن عباس أنه قال: كانوا أول النهار سحرة، وفى آخره شهداء بررة وروى عنه عكرمة أنه قال: كان السحرة سبعين رجلا، أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.
وإنما قالوا برب هرون وموسى ولم يقصروا على قولهم (رب العالمين) لأن فرعون كان قد ادّعى الربوبية فقال: « أنا ربكم الأعلى » والألوهية إذ قال: « ما علمت لكم من إله غيري » فلو قالوا ذلك فحسب لقال فرعون: آمنوا بي، وإنما لم يقتصروا على ذكر موسى بل ذكروا هرون وقدموه عليه خوفا من هذه الشبهة أيضا، إذ أن فرعون كان يدعى ربوبيته لموسى، لأنه رباه في صغره كما قال: « ألم نربك فينا وليدا ».
ولما خاف فرعون أن يصير ذلك سببا لاقتداء الناس بهما في الإيمان بالله ورسوله ألقى شبهة في النبي ونبوته.
(قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) أي إنكم قد فعلتم جريرتين وارتكبتم جرمين:
(1) إنكم آمنتم له قبل البحث والتفكير، فإيمانكم لم يكن عن بصيرة وأناة فلا يعتدّ به.
(2) إنكم تلاميذه في السحر، فتواطأتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لدعوته وتفخيما لأمره.
وبعد أن أورد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيرا لهم من الإيمان، وتحذيرا لغيرهم عن الاقتداء بهما فقال:
(فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي أقسم بالله لأقطّعنها مختلفات، بأن تقطع الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى، وإنما اختار ذلك دون القطع من وفاق، لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة.
(ولأصلبنكم في جذوع النخل) زيادة في إيلامكم وتشهيرا بكم.
وخلاصة ذلك - لأجعلنكم مثلة، ولأزيلن مالكم من منافع، ولأشهرنّ بكم، قال ابن عباس: فكان أول من عذب بهذا العذاب.
(ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) أي ولتعلمن أنا أو موسى أشد عذابا وأبقى.
وفي ذلك إيماء إلى اقتداره وقهره وبيان ما ألفه وضرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، كما فيه تحقير لشأن موسى واستضعاف له مع السخرية منه.
ثم لما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله.
(قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) أي لن نختارك بالإيمان والانقياد على ما جاءنا من الله على يد موسى من المعجزات التي اشتملت عليها العصا.
وفي هذا إشارة إلى أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان بموسى، وإلا فعل بهم ما أوعدهم به.
(والذي فطرنا) أي لن نختارك على ما جاءنا من الهدى، وعلى فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، إذ هو المستحق للعبادة والخضوع، لا أنت.
ولما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان، فعل فرعون ما أوعدهم به قالوا:
(فاقض ما أنت قاض) أي فافعل ما شئت، وما وصلت إليه يدك فوعيدك لا يزحزحنا عن إيماننا واطمئناننا بما صرنا إليه.
ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا:
(إنما تقضى هذه الحياة الدنيا) أي إنما لك تسلط علينا في هذه الدار دار الزوال ونحن نرغب في دار البقاء.
وقصارى ردهم - إنك إنما تصنع ما تهوى في هذه الدنيا فحسب، وإنا لا نأبه بنعيمها، ولا نرهب عذابها.
(إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر) أي إنا آمنا بربنا المحسن إلينا طوال أعمارنا، ليستر ما اجترحنا من الذنوب والآثام، ولا سيما ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آيات الله ومعجزاته.
روى الحسن أن السحرة الذين حشدوا من المدائن ليعارضوا موسى، أحضروا مكرهين، وأكرهوا على إظهار السحر، وروى أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان منهم من القبط، والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلّم السحر.
(والله خير وأبقى) أي والله خير منك جزاء وأدوم ثوابا مما كنت دعوتنا إليه ومنيتنا به.
ولم يرد دليل على أنه نفّذ ما صمم عليه في عقابهم، ولكن الراجح أنه نفّذ ذلك كما يرشد إلى ذلك قول ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة.
ثم ختم السحرة كلامهم بشرح أحوال المجرمين وأحوال المؤمنين يوم العرض والحساب، عظة لفرعون وتحذيرا له من نقمة الله وعذابه السرمدي وترغيبا له في ثوابه الأبدى.
(إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) أي إن من يلق الله وهو مجرم بكفره ومعاصيه فإن له جهنم لا يموت فيها فينتهى عذابه، ولا يحيا حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم المقيم، قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة، ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حالة الموت في المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت. إذا كان غير منتفع بحياته.
كما قالت زوج صخر حين سئلت عنه وهو مريض: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى.
ونحو الآية قوله « لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور » وقوله « ويتجنبها الأشقى. الذي يصلى النار الكبرى. ثم لا يموت فيها ولا يحيى » وقوله « ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ».
(ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) أي ومن لقى ربه مؤمنا به وبما جاء به رسوله من عنده من المعجزات التي من جملتها ما رأيناه وشاهدناه، ثم عمل صالح الأعمال، فهؤلاء لهم بسبب إيمانهم وجليل أعمالهم المنازل الرفيعة والدرجات العالية.
وفي الصحيحين: « إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب العابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء، قال بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين »
. وفى السنن: إن أبا بكر وعمر لمنهم ونعمّا.
ثم فسر تلك الدرجات العلى بقوله:
(جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي تلك الدرجات العلى هي جنات إقامة تجرى من تحت غرفها الأنهار ماكثين فيها أبدا.
ثم بين سبب فوزهم بهذا النعيم فقال:
(وذلك جزاء من تزكى) أي وذلك الفوز الذي أوتوه جزاء لهم على طهارة أنفسهم من دنس الكفر ومن تدسية أنفسهم بأوضار الذنوب والآثام، وعلى عبادتهم لله وحده لا شريك له واتباعهم للنبيين والمرسلين فيما جاءوا به من عند ربهم.
[سورة طه (20): الآيات 77 الى 82]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخافُ دَرَكًا وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى (82)
تفسير المفردات
السرى والإسراء: السير ليلا، اضرب لهم: أي اجعل لهم، يبسا: أي طريقا يابسا لا ماء فيه، والدرك (بالفتح والسكون): الإدراك واللحوق، تخشى: أي تخاف غرقا، وأتبع وتبع: بمعنى، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم: أي فغمرهم وعلاهم من البحر ما علاهم من الأمر الهائل الذي لا يعلم كنهه إلا الله، وأضل فرعون قومه: أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الخسران في دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا، وما هدى: أي وما أرشدهم إلى طريق يصل بهم إلى طريق السعادة، الأيمن: أي الذي عن يمين من ينطلق من مصر إلى الشام، المنّ: نوع من الحلوى يسمى الترنجبين، والسلوى:
طائر شبيه بالسّمانى، ولا تطغوا فيه: أي فلا تأخذوه من غير حاجة إليه، فيحل عليكم غضبى: أي ينزل بكم، هوى: سقط وهلك، غفار: كثير المغفرة والستر للذنوب، اهتدى: أي لزم الهداية واستقام.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص موسى مع سحرة فرعون، وأنه تم له الغلب عليهم، وأن السحرة آمنوا به، وأن فرعون أبى أن يذعن للحق، وتمادى هو وقومه في العناد والإعراض عن سبيل الرشاد - أردف ذلك ذكر ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الغرق في البحر حين تبعوا موسى للحاق به لما خرج من مصر ذاهبا إلى الطور، وطوى في البين ذكر ماجرى على فرعون وقومه بعد أن غلبت السحرة - من الآيات المفصّلة التي حدثت على يد موسى في مدى عشرين سنة بحسب ما فصل في سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءته آية عذاب وعد أن يرسل بني إسرائيل حين ينكشف عنه العذاب، فإذا هو انكشف نكص على عقبيه ونكث في عهده، حتى أمر الله موسى بالهجرة والخروج ليلا من مصر، ثم عدد بعدئذ نعمه الدينية والدنيوية على بني إسرائيل، فذكر أنه أنجاهم من عدوهم وقد كان ينزل بهم ضروبا من الظلم: من قتل وإذلال وتعب في الأعمال، وأنه ذكر أنه أنزل عليهم كتابا فيه بيان دينهم وتفصيل شريعتهم، وأنه أنزل
لهم المن والسلوى، وأنه أمرهم بأكل الطيبات من الرزق وزجرهم عن العصيان، وأن من عصى ثم تاب كانت توبته مقبولة عند ربه.
الإيضاح
(ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) أي ولقد أوحينا إلى نبينا موسى حين تابعنا له الحجج على فرعون فأبى أن يستجيب لأمر ربه وتمادى في طغيانه: أن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من هذا الطاغية، واخرج بهم من مصر، فاتخذ لهم طريقا يابسا في البحر، ولا تخف من فرعون وقومه أن يدركوك، ولا تخش أن يغرقك البحر.
وفي التعبير عن بني إسرائيل (بعبادي) إظهار للعناية بأمرهم والرحمة لهم، وتنبيه إلى قبح صنيع فرعون بهم، إذ هو قد استعبدهم، وفعل بهم من ضروب الظلم ما فعل، ولم يراقب فيهم مولاهم الحق.
(فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) أي ولما سرى بهم موسى أتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشيهم من اليم ما لا سبيل إلى إدراك كنهه، فغرقوا جميعا.
(وأضل فرعون قومه وما هدى) أي وقد سلك بقومه سبيل الضلال في دينهم ودنياهم، وما هداهم إلى سبيل الرشاد، وفى هذا تهكم به إذ قال « وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ».
ثم شرع سبحانه يعدّد نعمه على بني إسرائيل فقال:
(1) (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) فرعون وقومه حين كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وأقر عينكم منهم، إذ أغرقهم وأنتم تنظرون كما قال: « وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ».
(2) (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) فكلمناك تكليما وأعطيناك التوراة وفيها تفصيل شريعتك.
(3) (ونزلنا عليكم المن والسلوى) فكان ينزل عليكم المن وأنتم في التيه مثل الثلج بياضا مع حلاوة شديدة من الفجر إلى طلوع الشمس، وتبعث إليكم ريح الجنوب بطير السماني فيأخذ كل منكم ما يكفيه.
(كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي وقلنا لكم، كلوا من تلك اللذائذ التي أنعمنا بها عليكم.
(ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى) أي ولا تطغوا في رزقى بالإخلال بشكره وتعدى حدودى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على المعاصي ومنع الحقوق الواجبة فيه فينزل عليكم غضبى، وتجب عليكم عقوبتى.
(ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى) أي ومن ينزل به غضبى فقد شقى وهلك.
(وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) أي وإني لذو مغفرة عظيمة لمن يتوب من شركه، ويقلع عن ذنبه، ويخلص لي في العمل، ويؤدى فرائضى، ويجتنب المعاصي، ويستقيم حتى الموت.
[سورة طه (20): الآيات 83 الى 89]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89)
تفسير المفردات
يقال جاء على أثره (بفتحتين وبكسر فسكون): إذا جاء لاحقا به بلا تأخير، فتنا قومك: أي اختبرناهم، وأضلهم: أي أوقعهم في الضلال والخسران، والسامري: من شعب إسرائيل من بطن يقال له السامرة واسمه موسى، والأسف: الحزين، والوعد الحسن: إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، والعهد: زمان الإنجاز، موعدي: أي وعدكم إياي بالثبات على الإيمان، وقيامكم بأداء ما أمرتم به من التكاليف، بملكنا: أي بقدرتنا واختيارنا، والأوزار: الأثقال والأحمال والمراد بالقوم هنا القبط، فقذفناها: أي طرحناها في النار، جسدا: أي جثة لا روح فيها، والخوار: صوت العجل، فنسى: أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه في الطور، أن لا يرجع إليهم قولا: أي لا يردّ عليهم جوابا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا: أي لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أوحى إلى موسى أن يخرج هو وقومه من مصر ليلا ويخترق بهم البحر ولا يخشى غرقا ولا دركا من فرعون وجنده، وأن البحر أغرق فرعون وقومه جميعا حينما أرادوا اللحاق ببني إسرائيل، ثم عدد نعمه عليهم من إنجائهم من عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم أمرهم بأكل الطيبات من الرزق ونهاهم عن الطغيان، ثم ذكر أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا - أعقب هذا بما جرى بينه سبحانه وبين موسى من الكلام حين موافاته الميقات بحسب المواعدة التي ذكرت آنفا، وبما حدث من فتنة السامري لبني إسرائيل ورجوع موسى إليهم غضبان أسفا، ثم معاقبته لهم على ما صنعوا، ثم ذكر الحيلة التي فعلها السامري حين أخرج لهم من حليهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى، فرد الله عليهم ووبخهم بأن هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا في دينهم ولا دنياهم.
الإيضاح
(وما أعجلك عن قومك يا موسى؟) المراد بالقوم النقباء السبعون، وإعجاله عنهم تقدمه عليهم، أي أي شيء عجّل بك عن قومك، وجعلك تتقدمهم؟.
والمراد الإنكار عليه في تقدمه عليهم، لأن ذلك يقتضى إغفال أمرهم وعدم العناية بهم، مع أنه مأمور باستصحابهم وإحضارهم معه، وإنكار للعجلة في ذاتها أيضا، ولا سيما من أولى العزم الذين يجدر بهم مزيد الجزم.
(قال هم أولاء على أثرى) أي قال موسى مجيبا ربه: هم أولاء بالقرب مني آتون على أثرى، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة لا يعتدّ بها، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض.
(وعجلت إليك رب لترضى) أي وعجلت إليك رب لتزداد عنى رضا، بالمسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء بعهدك.
وخلاصة معذرته - إني اجتهدت أن أتقدم قومي بخطإ يسيرة، ظنا مني أن مثل ذلك لا ينكر، فأخطأت في اجتهادي، وقد حملنى على ذلك طلب الزيادة في مرضاتك، وكأنه عليه السلام يقول: إنما أغفلت هذا الأمر مبادرة إلى رضاك ومسارعة إلى الميعاد، والموعود بما يسرّ يود لو ركب أجنحة الطير ليحظى بما يبتغى ويريد.
(قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) أي قال: إنا قد اختبرنا قومك الذين خلفتهم مع هرون من بعد فراقك. قال ابن الأنبارى: صيّرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل من بعد انطلاقك من بينهم، وهم الذين خلفهم مع هرون اهـ. وهذه الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى بعشرين يوما.
(وأضلهم السامري) أي دعاهم إلى الضلال باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر وفى قلبه حنين لعبادة البقر، فأطاعه بعض وامتنع آخرون.
(فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) أي فانصرف موسى إلى قومه بني إسرائيل بعد انقضاء الليالي الأربعين - مغتاظا من قومه، حزينا لما أحدثوا من بعده من الكفر بالله. روى أنه لما رجع موسى سمع الصياح والضجيج وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة.
قال القرطبي: سئل الإمام أبو بكر الطرشوشى عن جماعة يجتمعون ويكثرون من ذكر الله وذكر رسوله ﷺ، ثم إنهم يضربون بالقضيب على شيء من الطبل ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه، فهل الحضور معهم جائز أم لا؟ فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فقاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعبّاد العجل وأما الطبل فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله، وإنما كان مجلس النبي مع أصحابه، كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسطان أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين اهـ.
(قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) لا سبيل لكم إلى إنكاره، فقد وعدكم بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع والأحكام، ووعدكم الثواب العظيم في الآخرة بقوله: « وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى » ووعدكم أنكم ستملكون أرض الجبارين وديارهم.
(أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى؟) أي أفطال عليكم الزمان، فنسيتم وعدكم إياي بالثبات على ديني إلى أن أرجع من الميقات؟ أم تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم بعبادتكم للعجل وكفركم به؟.
وخلاصة ذلك - أفطال عليكم العهد فنسيتم أم تعمدتم المعصية فأخلفتم؟.
(قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) أي قالوا ما أخلفنا عهدك بالثبات على دينك إلا لأنا لم نملك أمرنا، فلو خلّينا وأنفسنا ولم يسوّل لنا السامري ما سوّله، لما أخلفنا.
وفي هذا إيماء إلى أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ وأنهم لم يطيقوا حمل أنفسهم على الصواب، ومن ثم وقعوا فيما وقعوا فيه من الفتنة.
وقصارى كلامهم: إن السامري سول لنا ماسول، وغلب على عقولنا فخالفنا عهدك.
(ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها) أي ولكن غلبنا موسى السامري إذ حمّلنا أحمالا من حلى القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر بعلة أن لنا عيدا غدا، وقال: إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها ثم أمرنا أن نحفر حفرة ونملأها نارا وأن نقذف الحلي فيها فقذفناه.
وسميت أوزارا: أي آثاما، لأنه لا يحل لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم.
(فكذلك ألقى السامري) أي فكما قذفنا نحن تلك الأثقال، ألقى السامري ما كان معه منها.
(فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) أي فأخرج لهم من تلك الأثقال التي قذفوها جسد عجل من ذهب لا روح فيه، وله خوار كخواره، إذ هو قد صنعه بدقة وجعل فيه أنابيب يظهر فيها الصوت بمرور الريح بعد أن جعله في اتجاهه.
(فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى) أي فقال السامري ومن افتتن به أول ما رآه:
هذا هو إلهكم وإله موسى فاعبدوه، وقد غفل عنه موسى وذهب يطلبه في الطور.
فرد عليهم سبحانه، مقبّحا أفعالهم، مسفها أحلامهم فقال:
(أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟) أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع إليهم كلاما، ولا يرد عليهم جوابا وأنه لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا، ولا يجلب لهم نفعا؟
وقصارى ما يقول - إنه عاجز عن الخطاب، وعن النفع والضر، فكيف يتخذونه إلها؟
[سورة طه (20): الآيات 90 الى 98]
ولَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
تفسير المفردات
فتنتم به: أي وقعتم في الفتنة والضلال، فاتبعوني: أي في الثبات على الحق، لن نبرح: أي لا نزال، عاكفين: أي مقيمين، بلحيتي ولا برأسى: أي بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى، خشيت: أي خفت، ولم ترقب قولي: أي ولم تراع، فما خطبك: أي ما شأنك، وما الأمر العظيم الذي صدر منك، بصرت بما لم يبصروا به (بضم الصاد فيهما): أي علمت ما لم يعلمه القوم، وفطنت لما لم يفطنوا له يقال بصر بالشيء إذا علمه، وأبصره إذا نظر إليه، والرسول موسى عليه السلام، وأثره: سنته، فنبذتها: أي طرحتها وسوّلت لي نفسي: أي زينت وحسنت، لا مساس: أي لا مخالطة فلا يخالطه أحد ولا يخالط أحدا، فعاش وحيدا طريدا، لن تخلفه: أي سيأتيك به الله حتما، ظلت (أصله ظللت دخله حذف): أي أقمت، لنحرقنه: أي لنبردنّه بالمبرد، لننسفنه: أي لنذرينه، في اليمّ: أي في البحر، وسع كل شيء علما: أي وسع علمه كل شيء وأحاط به.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن عبادتهم للعجل مخالفة لقضية العقل، لأنه لا يستجيب لهم دعاء ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا - أكد هذا وزاد عليهم في التشنيع ببيان أنهم قد عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطإ ما فعلوا، ثم حكى معاتبة موسى لهرون على سكوته على بني إسرائيل وهو يراهم يعبدون العجل، ثم ذكر أنه اعتذر له، ولكنه لم يقبل معذرته، ثم قص علينا ما قاله السامري وما أنّبه به موسى وما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة، وما صنعه موسى بالعجل من نسفه وإلقائه في البحر، ثم بين لهم أن الإله الحق هو الذي يحيط علمه بما في السموات والأرض، لا ذاك الجماد الذي لا يضر ولا ينفع، ولا يرد جوابا، ولا يسمع خطابا.
الإيضاح
(ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) أي ولقد قال هرون لعبدة العجل من بني إسرائيل ناصحا لهم من قبل رجوع موسى إليهم يا قوم إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض الشاك في دينه.
(وإن ربكم الرحمن) أي وإن خالقكم وخالق كل شيء هو الذي عمت رحمته جميع مخلوقاته، فآتاهم ما فيه كمالهم الجسمى والروحي، وما به سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
وفي ذكر الربوبية والرحمة استمالة لهم إلى الحق إثر زجرهم عن الباطل، وتذكير لهم بإنجائهم من فرعون وعذابه، وتنبيه لهم إلى أنهم متى تابوا قبلت توبتهم.
(فاتبعوني وأطيعوا أمري) أي فاتبعوني فيما آمركم به من عبادتى وترك عبادة العجل، وأطيعونى في اتباع ما يبلغكم رسولي.
ثم بين أنهم لم يسمعوا نصحه، ولم يطيعوا أمره.
(قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) أي قال عبدة العجل من قوم موسى لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يرجع موسى إلينا، لنرى ماذا يقول، وماذا يرى في ذلك؟.
وما مقصدهم من ذلك إلا التعلل والتسويف وعدم إجابة طلب هرون.
ثم ذكر مقال موسى لهرون بعد أن فرغ من خطاب قومه وبيان خطأ فعلهم.
(قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) أي قال موسى لهرون: أي شيء منعك حين رأيت ضلالهم أن تلحقنى إلى جبل الطور بمن آمن معك من بني إسرائيل؟.
وقد كان موسى يرى أن مفارقة هرون لهم، وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية يكون أزجر لهم من الاقتصار على النصائح وحدها، لما في ذلك من الدلالة على شديد الغضب والإنكار عليهم، فإن مفارقة الرئيس المحبوب لديهم من أجل أمر مبغوض لديهم مما تشق على النفوس، وتقتضى ترك ذلك الأمر الذي يكرهه.
(أفعصيت أمري) فيما قدمت إليك من قولي: « اخلفنى في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ».
فلما أقام بينهم ولم يبالغ في الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره.
فترفّق هرون في خطاب موسى استعطافا له وترقيقا لقلبه إذ أضافه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه.
(قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) أي فامتلأ موسى غضبا مما رأى، وألقى ما في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه فقال: يا بن أمي لا تأخذ بشعر لحيتي ولا بشعر رأسي.
وقد روى أن موسى أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله، وكان عليه السلام حديدا غضوبا لله تعالى، وقد شاهد ما شاهد، وغلب على ظنه تقصير هرون عليه السلام ففعل ما فعل.
قال صاحب الكشاف: كان موسى عليه السلام رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحميّة، وعنّف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف، قابضا على شعر رأسه (وكان أفرع) وعلى شعر وجهه يجره إليه اهـ.
ثم بين علة هذا النهى بأني لست عاصيا أمرك ولا مقصرا في المصلحة، بل إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) أي إني خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا، فتريثت حتى تكون أنت المتدارك ذلك بنفسك، المتلافيه برأيك، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتنى به، ولم يكن بد من مراقبة ذلك والعمل على موجبه.
وخلاصة ذلك - إني رأيت من صواب الرأي أن أحفظ العامة وأداريهم على وجه لا يختل به نظامهم، ولا يكون سببا للومك حتى ترجع فتتدارك الأمر بحسب ما ترى ولا سيما أن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوننى.
وبعد أن انتهى من سماع اعتذار قومه وإسنادهم الفساد إلى السامري ومن سماع اعتذار هارون - وجه الكلام إلى السامري.
(قال فما خطبك يا سامري) أي قال موسى للسامري: ما شأنك وما الذي دهاك حتى فعلت ذلك الأمر الجلل؟ وقد خاطبه بهذا ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه، ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم.
(قال بصرت بما لم يبصروا به) أي قال السامري: إني عرفت ما لم يعرفه القوم ولم تعرفه أنت، وعرفت أن ما أنتم عليه ليس بالحق.
(فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها) أي وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من سنتك ودينك فطرحته، كما يقال فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه، ويتبع طريقته، وأجرى الكلام على طريق الغيبة وهو يخاطبه على نهج قول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا وبماذا يأمر الأمير؟ قاله أبو مسلم الأصفهاني، وأيده الرازي وقال إنه أقرب إلى التحقيق.
وخلاصة هذا - إن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم - رد عليه بأنه كان استن بسنته، واقتفى أثره وتبع دينه، ثم استبان له أن ذلك هو الضلال بعينه، وأنه ليس من الحق في شيء فطرحه وراءه ظهريا وسار على النهج الذي رأى وفى التعبير بكلمة (الرسول) على هذا نوع من التهكم والسخرية، لأنه جاحد مكذب له، فهو على نحو ما حكى الله عن بعض الجاحدين بقوله: « وقالوا يا ايها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون » وهم لا يؤمنون بالإنزال عليه.
(وكذلك سولت لي نفسي) أيكما زينت لي نفسي أولا اتباع سنتك واقتفاء أثرك، زينت لي أيضا ترك ذلك بمحض الهوى لا لشيء آخر من برهان عقلي أو نقلي أو إلهام إلهي.
والخلاصة - لم يدعني إلى ما فعلت إلا هوى النفس فحسب.
ولما سمع موسى من السامري ما سمع بيّن له ما سينزل به من الجزاء في الدنيا والآخرة وذكر له حال إلهه، أما عزاؤه هو في الدنيا فما حكاه سبحانه عنه.
(قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) أي قال له: اذهب فأنت طريد من بين الناس، فلا يخالطك أحد ولا تخالط أحدا، حتى لو سئلت عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس: أي لا يماسّنى أحد، ولا أماسّ أحدا، قال مقاتل: إن موسى عليه السلام أمره هو وأهله بالخروج من محلة بني إسرائيل، فخرج طريدا في البراري.
وروي أنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم في البريّة مع السباع والوحش، ولا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه.
وقصارى ذلك - إنه خاف وهرب، وجعل يهيم في الصحارى والقفار حتى صار لبعده عن الناس كأنه قائل ذلك.
وأما جزاؤه في الآخرة فقد ذكره بقوله:
(وإن لك موعدا لن تخلفه) أي وإن لك موعدا في الآخرة لن يخلفكه الله، بل سينجزه لك البتة، بعد أن يعاقبك في الدنيا، وهو آت لا محيص منه.
وأما حال إلهه فقد بينه بقوله:
(وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) أي وانظر إلى هذا المعبود بزعمك الذي عكفت على عبادته، لنبردنّه بالمبرد ثم لنذرينه في البحر إذا صار سحالة كذرات الهباء.
ولقد برّ موسى في قسمه وفعل ما أوعده به كما يدل على ذلك قوله (وانظر إلى إلهك) ولم يصرح بهذا تنبيها إلى وضوحه واستحالة الخلف في وعيده المؤكد باليمين.
وفي فعله ذلك به عقوبة للسامري، وإظهار لغباوة المفتونين به لمن له أدنى نظر.
وبعد أن فرغ من إبطال الباطل شرع في تحقيق الدين الحق فقال:
(إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو) أي ليس هذا بإلهكم، وإنما المستحق للعبادة والتعظيم الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغى العبادة إلا له، فكل شيء فقير إليه، وهو الخالق لكل شيء.
(وسع كل شيء علما) أي هو العالم بكل شيء وقد أحاط بكل شيء عدّا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
[سورة طه (20): الآيات 99 الى 104]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْرًا (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا (104)
تفسير المفردات
ذكرا: أي قرآنا كما قال: « يا أيها الذي نزل عليه الذكر » وسمى بذلك، لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، والوزر: الحمل الثقيل.
والمراد به العقوبة التي تثقل على حاملها، والصور: قرن ونحوه ينفخ فيه حين يدعى الناس إلى المحشر كما ينفخ فيه في الدنيا حين الأسفار وفى المعسكرات، زرقا: أي زرق الأبدان سود الوجوه، لما هم فيه من الشدائد والأهوال، يتخافتون بينهم: أي يخفضون أصواتهم ويخفونها، لشدة ما يرون من الهول، إلا عشرا: أي عشرة أيام، أمثلهم طريقة: أي أعدلهم رأيا، وأرجحهم عقلا.
المعنى الجملي
بعد أن شرح قصص موسى عليه السلام مع فرعون أولا ثم مع السامري ثانيا على نمط بديع وأسلوب قويم - بين لنبيه ﷺ أن مثل هذا القصص عن الأمم الماضية والقرون الغابرة كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، نلقيه إليك تسلية لقلبك، وإذهابا لحزنك إذ به تعرف ما حدث للرسل من قبلك من شدائد الأهوال، وتذكيرا للمستبصرين في دينهم، وتأكيدا للحجة على من عاند وكابر من غيرهم.
الإيضاح
(كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) يخاطب الله تعالى نبيه ﷺ، ويبين له أنه كما قص عليه خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على هذا الأسلوب الرائع والمسلك البديع - يقص عليه أخبار الحوادث التي جرت على الأمم الخالية، ليكون له في ذلك سلوة، ليتأسى بالأنبياء السالفين وما لا قوه من أممهم من شديد العناد والجحود والتكذيب ومكابدة الشدائد والأهوال.
(وقد آتيناك من لدنا ذكرا) أي وقد أعطيناك من لدنا كتابا جديرا بالتذكر به، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يعط نبي قبلك مثله، فهو جامع للأخبار، حاو للأحكام التي فيها صلاح حال البشر في دينهم ودنياهم، مشتمل على مكارم الأخلاق، وسامى الآداب التي بها يرتفع قدر الأمم وينبه ذكرها
(من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) أي من كذب به وأعرض عن اتباعه وابتغى الهدى من غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم، وسيحمل يوم القيامة من الأوزار والآثام ما لا يقدر على حمله، بل ينقض ظهره، وبمعنى الآية قوله: « ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ».
وكل من بلغه القرآن من العرب والعجم من أهل الكتاب وغيرهم فهو نذير له، فمن اتبعه هدى ومن أعرض عنه ضل وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة كما قال « لأنذركم به ومن بلغ ».
(خالدين فيه) أي مقيمين في ذلك الوزر أي في عقوبته لا يجدون عنها محيصا ولا انفكاكا.
(وساء لهم يوم القيامة حملا) أي وبئس الحمل الذي حملوه من الأوزار والآثام جزاء إعراضهم وسائر ذنوبهم.
(يوم ينفخ في الصور) أي هذا اليوم هو يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية إيذانا بالقيام للحشر والحساب.
(ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) أي وفى هذا اليوم يساق المجرمون إلى المحشر شاحبى الألوان زرق الوجوه، لما هم فيه من مكابدة الأهوال ومقاساة الشدائد التي تحلّ بهم.
(يتخافتون بينهم) أي يخفضون أصواتهم ويهمس بعضهم في أذن بعض، لما امتلأت به قلوبهم من الرعب والذعر.
وبمعنى الآية قوله تعالى: « فلا تسمع إلا همسا ».
(إن لبثتم إلا عشرا) أي يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا عشرة أيام، ذاك أنهم لما عاينوا تلك الأهوال ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدنيا، ولم يذكروا إلا القليل فقالوا ما عشنا إلا تلك الأيام القلائل.
والإنسان حين الشدائد والأهوال تغيب عنه أظهر الأشياء، وأكثرها خطورا بباله.
(نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) أي نحن أعلم بالذي يقولونه في مدة لبثهم، لا هم، حين يقول أعدلهم رأيا وأكملهم عقلا: ما لبثتم إلا يوما واحدا.
ذاك أن الدنيا وإن تكررت أوقاتها، وتعاقبت لياليها وأيامها - قصيرة المدى إذا قيست بالنظر إلى يوم القيامة وكأن غرضهم بذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر الأجل على نحو ما جاء في قوله: « ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة » وقوله « قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين ».
[سورة طه (20): الآيات 105 الى 112]
ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112)
تفسير المفردات
ينسفها: أي يجعلها ذرات صغيرة ثم يصيرها هباء منثورا، يذرها: أي يتركها، القاع: الأرض التي لا بناء فيها ولا نبات قاله ابن الأعرابي، والصفصف: الأرض الملساء، والعوج: الانخفاض، والأمت: النتوء اليسير يقال مد حبله حتى ما فيه أمت، والداعي: هو داعي الله إلى المحشر لا عوج له: أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس، بل ليسمع الجميع، خشعت: ذلت، والهمس: الصوت الخفي، وعنت: خضعت وانقادت، ومن ذلك العاني: وهو الأسير، والقيوم: القائم بتدبير أمور عباده ومجازاة كل نفس بما كسبت، خاب: أي خسر، والظلم الأول: الشرك.
والظلم الثاني: منع الثواب عن المستحق، والهضم: النقص.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه حال يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال التي تجعل المجرمين يتخافتون في حديثهم وينسون مقدار لبثهم في الدنيا، ويحشرون زرق الوجوه والأبدان إلى نحو أولئك مما سلف - قفى على ذلك بذكر سؤال من لم يؤمن بالحشر - عن الجبال وأحوالها في ذلك اليوم ثم الإجابة عنه، وضم إلى الجواب أمورا أخر تشرح شؤون هذا اليوم وأهواله، فبين أن الأرض في ذلك اليوم تكون مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، وأن الناس يسرعون إلى إجابة الداعي، ولا يسمع لهم كلام إلا همس، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين إلا إذا أذن لهم الرحمن ورضى للمشفوع له قولا، ثم ذكر أن الله هو العليم بما أصابوا من خير أو شر، وهم لا يحيطون به علما، وفى ذلك اليوم تذل الوجوه وتخضع للواحد الديان، وقد خسر حينئذ من ظلم نفسه، فأشرك مع الله غيره، وعبد معه سواه، وعصى أوامره ونواهيه.
أما المتقون فإنهم لا يظلمون، فلا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت الآية (ويسئلونك عن الجبال) إلخ.
ولا شك أن سؤالهم هذا سؤال تهكم واستهزاء وطعن في الحشر والنشر، لا سؤال معرفة للحق وتثبيت له.
الإيضاح
(ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن الجبال كيف تكون يوم القيامة؟ فقل مجيبا لهم يدكّها ربى دكا، ويصيّرها هباء تذروه الرياح.
(فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) أي فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساء مستوية، لا نبات فيها ولا بناء، ولا ارتفاع ولا انخفاض.
وخلاصة هذا - لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية، ولا مكانا مرتفعا ولا منخفضا.
(يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له) أي يوم يرى الناس هذه الأهوال يتبعون صوت داعي الله الذي يجمعهم إلى موقف الحساب والجزاء، ولا يكون لهم ميل عنه ولا انحراف، ولكنهم سراعا إليه يقبلون، إذا أمروا بشىء قالوا لبّيك، ونحن بين يديك، والأمر منك وإليك كما قال: « مهطعين إلى الداع » وقال: « أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ».
(وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) أي وعلمت الخلائق أن لا مالك لهم سواه، ولا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس الذي لا يكاد يفهم إلا بتحريك الشفتين لضعفه، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه، ويضعف صوته، ويختلط قوله، ويطول غمه، قاله أبو مسلم.
(يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا) أي يومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضى له قولا صدر منه.
والفاسق قد قال قولا يرضاه الرحمن فقد قال لا إله إلا الله كما روى عن ابن عباس.
والخلاصة - إن الشفاعة لا تكون نافعة للمشفوع له إلا بشرطين:
(1) إذن الله للشافع بالشفاعة.
(2) رضا الله عن قول صدر من المشفوع له، ليأذن بشفاعة الشافع له.
وقصارى ذلك - إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضى.
وبمعنى الآية قوله تعالى: « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » وقوله « وكم من ملك في السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى » وقوله: « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون » وقوله: « يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ».
ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك بقوله:
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) أي يعلم ما بين أيدي عباده من شؤون الدنيا، وما خلفهم من أمور الآخرة، وهم لا يعلمون جملة ذلك ولا تفصيله.
ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها فقال:
(وعنت الوجوه للحى القيوم) أي واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القائم على خلقه بتدبير شؤونهم، وتصريف أمورهم.
وخص الوجوه بالذكر، لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة، ولأن آثار الذل والغبطة والسرور تظهر عليها.
(وقد خاب من حمل ظلما) أي وقد حرم الثواب من وافى الموقف وهو مشرك بالله، كافر بأنبيائه، أو تارك لأوامره، منغمس في معاصيه.
وبعد أن ذكر أهوال يوم القيامة بين حال المؤمنين حينئذ فقال:
(ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) أي ومن يعمل صالح الأعمال على قدر طاقته، وهو مؤمن بربه ورسله، وما أنزله عليهم من كتبه فلا يخاف من الله ظلما بأن يحمل عليه سيئات غيره وأوزاره، ولا يخاف أن يهضمه حسناته فينقصه ثوابها، ونحو الآية قوله: « ولا تزر وازرة وزر أخرى ».
وخلاصة ذلك - إنه لا يؤاخذ العبد بذنب لم يعمله، ولا تبطل له حسنة قد عملها.
[سورة طه (20): الآيات 113 الى 114]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
تفسير المفردات
صرّفنا: كررنا وفصلنا، ذكرا: أي عظة وعبرة، فتعالى الله: أي تنزه وتقدس الحق: أي الثابت في ذاته وصفاته، يقضى إليك وحيه: أي يتم جبريل تبليغه لك.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أنه كما أنزل الآيات المشتملة على الوعيد المنبئة بما سيحدث من أحوال القيامة وأهوالها - أنزل القرآن كله كذلك على نمط واحد قرآنا عربيا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم البديع، والأسلوب العجيب الخارج عن طوق البشر، ثم بين عز اسمه نفع هذا القرآن لعباده، وأنه سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وأنه يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي.
روي أن النبي ﷺ كان يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل إياه مخافة النسيان، فنهى عن ذلك وقيل له: لا تعجل به إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون، وادع ربك أن يزيدك فهما وعلما.
الإيضاح
(وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا) أي وكما أنزلنا ما ذكر من الوعد والوعيد وأحوال يوم القيامة وأهوالها - أنزلنا القرآن كله بأسلوب عربي مبين، ليتفهمه العرب الذين نزل عليهم، ويتفقهوا بدراسته، ويسعدوا بالعمل بما حواه مما فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم.
(وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) أي وخوفناهم فيه بضروب من الوعيد، كى يجتنبوا الشرك والوقوع في المعاصي والآثام، أو يحدث لهم عظة تدعوهم إلى فعل الطاعات.
وخلاصة ذلك - إنهم بدراستهم إما أن يصلوا إلى مرتبة هي ترك المعاصي والوقوع في الآثام، وإما أن يرتقوا إلى مرتبة هي فوق ذلك، وهي أن يفعلوا الطاعات ويؤدوا الفرائض والواجبات.
وبعد أن عظم الله كتابه أردفه بتعظيم نفسه فقال:
(فتعالى الله الملك الحق) أي تقدس الله المتصرف بالأمر والنهي، الحقيق بأن يرجى وعده، ويخشى وعيده، وهو الثابت الذي لا يزول ولا يتغير - من ألا يكون إنزال القرآن على من أنزل عليهم مؤديا إلى الغاية التي أنزل لأجلها وهي تركهم للمعاصى وفعلهم للطاعات.
ولا يخفى ما في هذا من طلب الإقبال على دراسة القرآن وبيان أن قوارعه وزواجره سياسات إلهية، فيها صلاح الدارين، لا يحيد عنها إلا من خذله الله، وأن ما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله، لا يحوم الباطل حول حماه، وأن المحق من أقبل عليه بشراشره، والمبطل من أعرض عن تدبر زواجره.
(ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أي ولا تعجل بقراءته في نفسك من قبل أن يتم جبريل تبليغه لك، وقد كان ﷺ إذا ألقى عليه جبريل القرآن يتبعه حين يتلفظ بكل حرف وكل كلمة خوفا أن يصدر عليه الصلاة والسلام ولم يحفظه، فنهى عن ذلك، إذ ربما يشغله التلفظ بالكلمة عن سماع ما بعدها. وفي هذا أنزل قوله تعالى: « لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ».
وخلاصة ذلك - أنصت حين نزول الوحي بالقرآن عليك، حتى إذا فرغ الملك من قراءته، اقرأه بعده.
(وقل رب زدنى علما) أي سل الله زيادة في العلم دون استعجال بتلاوة الوحي، فإن ما أوحى إليك يبقى لا محالة.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ﷺ يقول: « اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار »
وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدنى إيمانا وفقها، ويقينا وعلما.
[سورة طه (20): الآيات 115 الى 127]
ولَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
تفسير المفردات
العهد: الوصية يقال عهد إليه الملك بكذا وتقدم إليه بكذا: إذا أمره وأوصاه به، من قبل: أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين، فنسى: أي فترك، ولم نجدله: أي ولم نعلم، والعزم على الشيء: تصميم الرأي والثبات عليه، أبى أي امتنع، فتشقى: أي تتعب بمتاعب الدنيا وهي لا تكاد تحصى، تظمأ: تعطش، تضحى، أي تصيبك الشمس يقال ضحا كسعى وضحى كرضى: إذا أصابته الشمس بحرها اللافح، شجرة الخلد: أي الشجرة التي إذا أكل منها الإنسان خلد ولم يمت، لا يبلى: أي لا يفنى، طفقا يخصفان أي شرعا يلزقان ورق التين على سوءاتهما لسترها، غوى: أي ضل عن الرشد حيث اغترّ بقول عدوه، اصطفاه وقربه إليه، وهدى: أي إلى الثبات على التوبة، عن ذكرى: أي عن الهداية بكتبي السماوية، والضنك: الضيق الشديد، أعمى: أي عن النظر في الحجج والبراهين الإلهية، عن آياتنا: أي عن أدلتنا، فنسيتها: أي فتركتها، وتنسى: أي تترك، أسرف: أي انهمك في الشهوات واسترسل فيها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه صرّف الوعيد في القرآن وكرره لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا - قفي على هذا ببيان أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم آدم إلى الوعيد ونسى العهد، فمخالفتهم قديمة، وعرقهم فيها راسخ ثم فصل عهده لآدم وبين كيف نسيه وفقد العزم، ثم ذكر عصيان إبليس للسجود لآدم وتحذيره من الخروج من الجنة إذا هو اتبع نصائحه، وهو بعد كل هذا قد أطاع وساوسه وقبل إرشاده، فأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها، فأخرج من الجنة مع إعلامه بأن الشيطان عدو له ولذريته، ثم بين أن من جاءه الهدى من ربه واتبعه عاش في الدنيا قرير العين هاديء البال، ويؤتى في الآخرة ما شاء الله أن يؤتى من ألوان النعيم والسعادة، ومن أعرض عن ذلك عاش في الدنيا عيشة ضنكا، إذ هو لشدة حرصه عليها يخاف انتقاصها، ومن ثمّ يغلب عليه الشح والبخل، ويفعل كل منكر في سبيل جمع المال من أي وجه كان، ولا يبالى أمن حلال كان أم من حرام؟ ولذلك تراهم يقولون (الغاية تبرر الواسطة). أما المؤمن الذي لا يعنيه جمع حطام الدنيا فإنه في سرور وراحة قلّ ماله أو كثر.
وهو في الآخرة يكون أعمى عن الحجة التي تنقذه من ذلك الخزي الدائم، والعذاب المقيم.
ثم أردف هذا ببيان سبب ذلك وهو إعراضه في الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد، ومن ثم يسير في جهالته إلى يوم القيامة، وهذا مما يوجب له أشد الآلام الروحية من حين مماته إلى حين الحشر، وهكذا يجازى الله المسرفين المكذبين بآياته في الدنيا والآخرة جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات، وارتكبوا من الذنوب والآثام كما قال سبحانه: « لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق ».
الإيضاح
(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) أي ولقد وصينا آدم وقلنا له: إن إبليس عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة، فوسوس إليه الشيطان فأطاعه، وخالف أمري، وترك العهد الذي أمرته، به ولم يهتم بالعمل به، ولم نجد له ثباتا في الرأي ولا تصميما في العزيمة.
وخلاصة ذلك - إنه ترك ما وصّى به من الاحتراس من الأكل من الشجرة.
ثم بين سبحانه ما عهد إليه به وكيفية نسيانه وفقدان عزمه فقال:
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) أي واذكر أيها الرسول الكريم ما وقع في ذلك الحين منا ومن آدم، حتى يستبين لك نسيانه وفقدان عزمه إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فلبّوا الأمر إلا إبليس فإنه امتنع وأبى أن يكون مع الساجدين.
وقد تقدم هذا القصص في سورة البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف، وسيأتي ذكره في سورة ص، وفيه إشارة إلى تكريم آدم وتشريفه، وتفضيله على كثير ممن خلق.
(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) أي فقلنا له عقب ذلك رعاية لإرشاده ونصحه: إن هذا الذي رأيت منه ما رأيت - عدوّ لك ولزوجك، ومن ثم لم يسجد لك وخالف أمري وعصانى، فلا تطيعاه فيما يأمر كما به.
(فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أي فلا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعبا بمتاعب الدنيا التي لا تكاد تحصى.
وخلاصة ذلك - إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتشقى في طلب رزقك، وأنت هاهنا في عيش رغد هنىء بلا كلفة ولا مشقة.
ثم علل ما يوجبه النهي عن ذلك فقال:
(إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) أي لا يكون لك في الجنة جوع ولا عرى، ولا ظمأ ولا إصابة بحر الشمس.
وقرن بين الجوع والعرى أوّلا، لأن في الجوع ذل الباطن وفى العرى ذل الظاهر، وبين حر الباطن وهو العطش وحر الظاهر وهو الضّحى ثانيا.
وخلاصة ذلك - إن الجنة اجتمعت فيها الأسباب التي توجب راحة الإنسان، وذلك مما يوجب الاهتمام بتحصيل الوسائل التي توجب البقاء فيها، والابتعاد عما يدعو إلى الخروج منها.
وقصارى ذلك - إن لك فيها تمتعا بأنواع المعاش، وتنعما بأصناف النعم، من المآكل الشهية، والملابس البهية.
وبعد أن بين أنه عظم آدم وعرفه شدة عداوة إبليس له بين أنه قبل نصحه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها فقال:
(فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟) أي فألقى الشيطان النصيحة إلى آدم وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت ولم تمت، وملكت ملكا لا ينقضى ولا يفنى.
(فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها وأطاعا أمر إبليس وخالفا أمر ربهما، فانكشفت عورتهما وكانت مستورة عن أعينهما، فشرعا يلزقان ورق التين عليهما، ليغطيا جسمهما.
(وعصى آدم ربه فغوى) أي وخالف أمر ربه، وتعدى ما لم يكن له أن يتعدى إليه، من الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.
(ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) أي ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته، ورزقه التوبة والعمل بما يرضيه حين قال هو وزوجه: « ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ».
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) أي قال الرب الذي انتهكت حرمة داره وخولف أمره. انزلا من الجنة إلى الأرض، أنتما عدو لإبليس وذريته، وإبليس عدوكما وعدو ذريتكما.
(فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) أي فإن يأتكم
يا آدم وحواء وذريتهما بيان لسبيلى وما أختاره لخلقى من دين بإرسال الرسل والكتب فمن اتبع ذلك وعمل به ولم يزغ عنه فإني أهديه في الدنيا وأرشده إلى محجة الصواب ولا يشقى في الآخرة.
أخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: « أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة، ثم قرأ الآية »
وروي عنه مرفوعا إلى النبي ﷺ « من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة ».
(ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) أي ومن أعرض عن ذكرى الذي أذكّره به وتولى عنه، ولم يتعظ به فينزجر عما هو مقيم عليه من مخالفة أمر ربه، فإن له معيشة ضيقة شديدة لما يكون فيه من القلق والحرص على الدنيا والتهالك على ازديادها والخوف من انتقاصها، فترى الشح غالبا عليه، والبخل راسخا في أعراقه:
(ونحشره يوم القيامة أعمى) عن الجنة، لأن الجهالة التي كانت له في الدنيا تبقى كذلك في الآخرة، وهذا يصير سببا لأعظم الآلام الروحية له:
وقصارى ذلك - إن الله عز اسمه جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه العيش الهنيء الذي لا همّ فيه ولا غم، وجعل لمن أعرض عن دينه التعب والنصب، وهو في الآخرة أشد تعبا، وأعظم ضيقا، وأكثر ألما.
(قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا؟) أي قال رب لم حشرتنى أعمى عن حجتى وعن رؤية الأشياء على حقيتها، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله؟، ونحو الآية: « ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما »:
(قال) ربه مجيبا هذا السائل:
(كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) أي فكما تركت آياتنا ترك للنسى الذي لا يذكر أصلا وأعرضت عنها - اليوم ننساك فنتركك في النار.
(وكذلك نجزى من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه) أي وهكذا نعاقب من أسرف، فعصى ربه ولم يؤمن برسله وكتبه، فنجعل له معيشة ضنكا.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: يقول كل مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر لا يتقينى فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة.
وعن عكرمة ومالك بن دينار نحوه، وقيل إن تلك المعيشة له في القبر بأن يعذّب فيه، وقد روى ذلك عن جماعة منهم ابن مسعود وأبو سعيد الخدري ومجاهد، وروي ذلك مرفوعا أيضا.
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن حبّان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « المؤمن في قبره في روضة خضراء، ويرحب له قبره سبعين ذراعا، ويضىء حتى يكون كالقمر ليلة البدر، وهل تدرون فيم أنزلت (فإن له معيشة ضنكا)؟ قالوا: الله ورسوله اعلم، قال عذاب الكافر في قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رءوس يخدشونه ويلسعونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون ».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: المعيشة الضنك في النار شوك وزقّوم وغسلين وضريع، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة، وما المعيشة والحياة إلا في الآخرة.
(ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) أي ولعذاب الآخرة في النار أشد مما نعذبهم به في الدنيا وأكثر بقاء، لأنه لا أمد له ولا نهاية.
[سورة طه (20): الآيات 128 الى 132]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
تفسير المفردات
أفلم يهد لهم: أي أفلم يبيّن لهم العبر، لأولى النهى: أي لذوي العقول الراجحة لزاما: أي لازما لهم لا يتأخر عنهم، فسبح بحمد ربك: أي اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه آناء الليل: ساعاته واحدها إني وإنو (بكسر الهمزة وسكون النون) ولا تمدن عينيك: أي لا تطيلن النظر رغبة واستحسانا، متعنا: أي جعلناهم يتلذذون بما يدركون من المناظر الحسنة، ويسمعون من الأصوات المطربة، ويشمّون من الروائح الطيبة، أزواجا: أي أشكالا وأشباها، زهرة الحياة الدنيا: أي زينتها وبهجتها، لنفتنهم: أي لنبتليهم ونختبرهم، ورزق ربك: أي ما ادّخره لك، واصطبر عليها: أي دم عليها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال من أعرض عن ذكر الله في الآخرة بقوله: ونحشره يوم القيامة أعمى - أتبعه بما يكون عبرة للمشركين لو تفكروا فيه، وهو ما نزل بالمكذبين بالرسل ممن قبلهم من الأمم الذين يمرون بديارهم بكرة وعشيا كقوم عاد وثمود، وكيف أصبحت ديارهم خرابا بلقعا ليس فيها ديّار ولا نافخ نار، ثم بين أنه لولا سبق الكلمة بتأخير عذابهم إلى أجل مسمى لحاق بهم مثل ما حاق بمن قبلهم، ثم أمر رسوله بالصبر على ما يسمونه به من نحو قولهم: إنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مجنون وعدم المبالاة بمقالتهم، وعليه أن يكثر من التسبيح وعبادة ربه آناء الليل وأطراف النهار ولا يلتفت إلى شيء مما متّع به الكفار من زهرة الدنيا التي أوتيت لهم لتكون ابتلاء واختبارا، وما عند الله خير منها وأبقى، ثم طلب إليه أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، وهو لا يكلفه رزقا لنفسه ولا لغيره، فالله يرزقه من واسع فضله، وعظيم عطائه، والعاقبة لمن اتقى: « فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ».
الإيضاح
(أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم؟) أي أفلم يرشدهم إلى وجه العبر، إهلاكنا كثيرا من الأمم الماضية، والقرون الغابرة، التي يمرون عليها مصبحين وبالليل كعاد وثمود الذين يشاهدون آثارهم العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعيم ثم ما حلّ بهم من صنوف البلاء، فيتعظوا ويعتبروا ويؤمنوا بالله ورسوله خوف أن يصيبهم بكفرهم مثل ما أصاب هؤلاء السابقين.
وللمشاهدة من العبرة ما ليس لغيرها فقد قالوا « ليس الخبر كالخبر » وقالوا: « ما راءٍ كمن سمع ».
وخلاصة ذلك - إن في مشاهدة ما حصل للأمم الماضية، ورؤية آثارها البائدة التي يمرون عليها في رحلاتهم في الصيف لعبرة وزاجرا لهم لو كانوا يعقلون.
ثم علل هذا الزجر والإنكار بقوله:
(إن في ذلك لآيات لأولى النهى) أي إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذبة لرسلنا وحلول المثلات بهم لكفرهم بربهم - لعبرا وعظات لأرباب الحجا الدين ينهاهم دينهم، ويؤنّهم عقلهم، من مواقعة ما يضرهم.
ولما هدد المشركين بالهلاك كهلاك المكذبين من الماضين، ذكر سبب تأخير ذلك عنهم فقال:
(ولو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) أي ولو لا الكلمة النافذة التي سبقت منا في الأزل، وهي أن أمة محمد - وإن كذبوا - سيؤخر عذابهم
ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من عذاب الاستئصال، كما قال: « بل الساعة موعدهم » لعجّل لهم العذاب كفاء ما قاموا به من تكذيب الرسول وإيذائه.
وقد جعل العلماء من الحكمة في تأخير العذاب أنه ربما تاب بعضهم أو خرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، فيكون في ذلك إكرام لنبيّه، ورحمة لأمته، وتكثير لسواد أتباعه، وإلى ذلك أشار ﷺ بقوله: « وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا ».
وبعد أن أخبر سبحانه بأنه لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله - أمره بالصبر على ما يقولون فقال:
(فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار) أي فاصبر أيها الرسول على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من نحو قولهم: إنك لساحر، وإنك لمجنون، وإنك لشاعر، واشتغل بتنزيه الله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وفى ساعات الليل المختلفة وفى أطراف النهار، والمراد من مثل ذلك عموم الأوقات.
وفي صحيح مسلم سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لن يلج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ».
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله ﷺ « إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا وقرأ هذه الآية ».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ « يقول الله تعالى يا بن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك ».
وعن زيد بن ثابت سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ».
(لعلك ترضى) أي سبحه رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب ونحو الآية قوله تعالى: « ولسوف يعطيك ربك فترضى »
وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: « يقول الله تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، فيقول هل رضيتم؟ فيقولون ربنا ومالنا لا ترضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضوإني فلا أسخط عليكم بعده أبدا »
ولما صبّر رسوله على ما يقولون وأمره بالتسبيح - أتبع ذلك بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متّعوا به من زينة الدنيا فقال:
(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) أي ولا تطل النظر استحسانا ورغبة فيما متّع به هؤلاء المترفون من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، نختبرهم بها، ونعلم هل يؤدون شكرها أو تكون وبالا عليهم ونكالا لهم، وقد آتاك ربك خيرا مما آتاهم، فرضاه خير وأبقى كما قال: « ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ».
وخلاصة هذا - التنفير من الانهماك في التمتع بزهرة الدنيا لسوء عاقبتها.
وبعد أن أمر الله نبيه بتزكية النفس أمره أن يأمر أهله بالصلاة فقال:
(وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) أي وأمر أهلك أيها الرسول بالصلاة، وحافظ أنت عليها فعلا، فإن الوعظ بالفعل أشد أثرا منه بالقول كما قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلّا لنفسك كان ذا التعليم
وإنا إنما نريد منك ومنهم العبادة والتقوى، ولا نطلب منك رزقا كما تطلب السادة من عبيدهم الخراج - والعاقبة الجميلة لمن اتقى الله وأطاعه، فإن ما عندهم ينقطع، وما عند الله دائم لا يفنى كما قال: « ما عندكم ينفد وما عند الله باق ».
والخلاصة - داوم على الصلاة، لا نكلفك مالا، بل نكلفك عملا نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا، ونحن نعطيك المال ونكسبكه ولا نسألكه، والعاقبة الصالحة لأهل الخشية والتقوى، لا لمن لا يخاف عقابا ولا يرجو ثوابا كما قال: « ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب » وقال: « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ».
عن أبي رافع قال: « نزل ضيف برسول الله ﷺ ولم يكن عنده ما يصلحه فأرسلنى إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب، فقال لا إلا برهن، فأتيت النبي ﷺ فأخبرته فقال أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، ولئن أسلفنى أو باعني لأدّيت إليه، اذهب بدرعي الحديد، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية كأنه يعزيه عن الدنيا » أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي شيبة في جماعة آخرين.
وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي ﷺ إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا: وأمر أهلك بالصلاة.
وأخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلى من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلى حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية.
[سورة طه (20): الآيات 133 الى 135]
وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
تفسير المفردات
لولا: أي هلا وهي كلمة تفيد الحث على حدوث ما بعدها، آية: أي معجزة تدل على صدقه، البينة: القرآن، والصحف الأولى: التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، نذل: أي نهان، ونخزى: أي نفتضح، متربص: أي منتظر، الصراط: الطريق، والسوي: أي المستقيم.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه رسوله بالصبر على أقاويلهم التي أرادوا بها تكذيبه وكيده له وشديد أذاه - حكى بعض تلك الأقاويل الباطلة، ومنها ادعاؤهم أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على نبوة محمد ﷺ، ثم أبان لهم أنهم يوم القيامة سيعترفون بأنه آية بينة، فلو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا، ومن ثم لم نهلكهم قبله حتى تنقطع معذرتهم كما حكى الله عنهم من قوله: « قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ».
ثم ختم السورة بضرب من الوعيد وكأنه قال: قل لهم كل منا ومنكم منتظر لما يئول إليه أمرنا وأمركم، وحينئذ يتميز المحق من المبطل بما يظهر على الأول من أنواع الكرامة والتعظيم، وعلى الثاني من ضروب الخزي والإهانة، ويظهر من منا سار على الطريق السوي ومن المهتدي؟.
الإيضاح
(وقالوا لو لا يأتينا بآية من ربه) أي وقال المشركون: هلا يأتينا بمعجزة تدل على صدقه في دعوى النبوة كما أتى صالح قومه بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه، وهم بذلك قد بلغوا في العناد والمكابرة شأوا بعيدا، أفلا يعدّون ما شاهدوه من المعجزات التي تخر لها صمّ الجبال من قبيل الآيات حتى يجترئوا على التفوه بهذه الكلمة الشنعاء؟
ونحو الآية قوله في سورة العنكبوت: « وقالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم، إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون » وقوله: « فلياتنا بآية كما أرسل الأولون ».
(أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى؟) أي ألم يأتهم القرآن وهو أم الآيات وأنفع المعجزات، فالعلم هو أجلّ الأمور وأعلاها، وهو مبدأ الأمور ومنتهاها، فبه تنال السعادة الأبدية، فأى معجزة تطلب بعده، وهو الذي جمع ما فيه مصلحة البشر، وصلاح المجتمع، في معاشه ومعاده، وهو الشاهد على حقية ما في الكتب قبله وما جاء فيها من العقائد وأصول الأحكام التي اتفقت عليها الرسل كافة.
وخلاصة ذلك - أليس قد جاءهم القرآن وهو البينة والشاهد على صحة ما في الكتب الأولى، وكفى بذلك آية، ولا حاجة للرسول بعدها إلى آية.
ثم بين أن المشركين يوم القيامة يعترفون بأن القرآن آية بينة، فقال:
(ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) أي ولو أنا أهلكناهم في الدنيا بعذاب الاستئصال من قبل إتيان البينة وهي القرآن لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا في الدنيا رسولا معه الآيات الدالة على صدقه، فنتبع حججك وما تنزله عليه من أمرك ونهيك من قبل أن نذل بتعذيبك ونفتضح به.
والخلاصة - إنا لو أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننزل عليهم الكتاب العظيم - لقالوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، لكنا لم نهلكهم قبله فانقطعت معذرتهم.
(قل كل متربص فتربصوا، فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ومن اهتدى) أي قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين بالله: كلنا منتظر لمن يكون الفلاح؟ وإلام يئول أمري وأمركم؟ فتربصوا وارتقبوا فستعلمون من أهل الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه إذا جاء أمر الله وقامت القيامة؟ أنحن أم أنتم؟ وستعلمون من المهتدى الذي هو على سنن الطريق القاصد؟.
ونحو الآية قوله: « وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا؟ ».
وقوله: « سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ».
وغير خاف ما في بدء السورة وخاتمتها من المناسبة، فإنها بدئت ببيان أن القرآن قد أنزل لتحمل تعب الإبلاغ، وحيث قد بلغت فلا عليك، وختمت بطلب الإقبال على طاعة الله قدر الطاقة وأمر أهله بالصلاة وترك الذين لا ينجع فيهم الإنذار، فإنه تذكرة لمن يخشى، وسيندم المخالف حيث لا ينفع الندم.
خلاصة لما تضمنتة السورة الكريمة
(1) إن القرآن أنزل على نبيه ﷺ تذكرة لمن يخشى، أنزله من خلق الأرض والسموات العلى.
(2) قصص موسى عليه السلام وتكليمه ربه في الطور، وحديث العصا واليد البيضاء من غير سوء، وطلبه من ربه أن يجعل له أخاه هرون وزيرا وإجابة سؤاله في ذلك، وامتنانه عليه بما حدث له حين وضع في التابوت وألقى في اليمّ وقصّ أخته ورجوعه إلى أمه، ثم طلب ربه منه أن يبلغ فرعون دعوته وينصح له في قبول دينه وإقامة شعائره، وإجابة فرعون له بأنه ساحر كذاب، وأنه سيجمع له السحرة ثم إيمان السحرة به فتوعدهم فرعون بالعذاب فلم يأبهوا له، واستمر فرعون في غيه حتى أوحى الله إلى موسى أن يخرج من مصر فأتبعه هو وجنوده فأغرقوا.
(3) حديث السامري وإضلاله بني إسرائيل باتخاذه عجلا جسدا له خوار حين كان موسى بالطور، وحين رجع ورأى ذلك هاله الأمر وغضب من أخيه هرون وأخذ يجره من رأسه، ثم إغلاظه القول للسامري ودعوته عليه بأنه يعيش طريدا في الحياة وسيعذبه الله في الآخرة أشد العذاب، ثم نسف إلهه وإلقاؤه في اليمّ.
(4) بيان أن من أعرض عن القرآن فإنه سيلقى الجزاء والوبال يوم القيامة.
(5) ذكر أوصاف المجرمين حينئذ، وأنهم يختلفون في مدة لبثهم في الدنيا.
(6) سؤال المشركين عن حال الجبال يوم القيامة، وأن الأصوات حينئذ تخشع للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وأن الوجوه تخضع لربها القائم بأمرها.
(7) وصف القرآن الكريم بأنه عربي مبين أنزل تذكرة للناس، وأن الله سيعصم رسوله من نسيانه، فلا ينبغي أن يعجل بتلاوته قبل أن يتم تبليغ جبريل له.
(8) قصص آدم عليه السلام مع إبليس، وترك آدم للعهد الذي وصاه به ربه وقبول نصيحة إبليس مما كان سببا في إخراجه من الجنة.
(9) بيان أن من أعرض عن ذكر ربه عاش في الدنيا عيشة ضنكا وعمى في الآخرة عن الحجة التي تنقذه من العذاب، لأنه قد كان في الدنيا أعمى عنها تاركا لها فتركه ربه من إنعامه.
(10) بيان أن في المثلات التي سلفت للأمم قبلهم ممن يمرون على ديارهم مصبحين وبالليل كعاد وثمود - ما كان ينبغي أن يكون رادعا لهم وزاجرا لو تدبروا وعقلوا.
(11) إن كلمة الله قد سبقت بأنه سيؤخر عذاب المشركين إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة.
(12) طلبه من رسوله تنزيهه والثناء عليه آناء الليل وأطراف النهار رجاء أن يعطيه ما يرضيه.
(13) أمر رسوله أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر هو عليها وهي لا تكون شاغلا لهم عن الرزق.
(14) طلب المشركين من الرسول أن يأتيهم بآية من نوع ما أوتى الرسل الأولون (15) إن إنزال القرآن على رسوله ليزيح العلة ويمنع المعذرة يوم القيامة، فلا يقولون: لو لا أرسلت إلينا رسولا وأتيتنا بكتاب نتبعه.
(16) وعيد المشركين بأنهم يتربصون، وسيعلمون يوم القيامة لمن يكون حسن العاقبة؟.
ربنا إنك رءوف بعبادك رحيم بهم، ربنا اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل ربنا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تمت مسودّة هذا الجزء في صبيحة اليوم الرابع والعشرين من شوال سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث
4 في الحديث « رحمة الله علينا وعلى موسى »
7 إذا تعارض ضرران وجب تحمل الأدنى
8 « لا يقضى الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له »
9 لذكر قصص الخضر في القرآن فوائد
13 يأجوج ومأجوج
15 سد ذي القرنين
19 سبب خروج جنكيزخان
22 في الحديث « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه »
26 ما أثبته العلم الحديث في عمر الأرض
28 الشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة
34 دعاء زكريا ربه
35 إجابة الله دعاءه
37 علامة إجابة الدعاء
39 ما وصف الله به يحيى
42 الاستعاذة لا تؤثر إلا في التقى
45 السعي في الرزق لا ينافى التوكل
47 من هارون الذي نسبت إليه مريم؟
48 ما وصف به عيسى نفسه
49 اليهود والنصارى ينكرون تكلم عيسى في المهد
52 قوة سمع الكفار وحدة أبصارهم يوم القيامة
55 الحوار الذي دار بين إبراهيم وأبيه آزر
59 قد اجتمعت لإبراهيم خلال لم نجتمع لغيره
61 قصص إسماعيل
63 قصص إدريس - ما وصفه الله به
65 ما جازى به سبحانه أولئك الأنبياء
68 « التائب من الذنب كمن لا ذنب له »
68 أوصاف الجنة
70 احتبس جبريل عليه السلام عن النبي ﷺ أياما
71 لا تتنزل الملائكة بالوحي إلا بأمر الله
73 جميع الخلائق ترد على النار
74 تهديد منكري البعث
75 ينجّى الله المتقين، ويترك الكافرين جاثين على الركب
78 سنة الله أن يستدرج أهل الضلال ليزدادوا إثما
79 الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا
80 قال الكافر لأعطينّ مالا وولدا يوم القيامة
82 اتخذ المشركون آلهة يعبدونهم ويجعلونهم شفعاء عند ربهم
83 الشياطين يغرون الكافرين بالمعاصي
84 يحشر المتقون ركبانا والكافرون مشاة
86 قال الكافرون اتخذ الرحمن ولدا
87 يأتي المرء يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والإخوان
88 في الحديث « اللهم اجعل لي عهدا، واجعل لي في صدور المؤمنين ودا ».
94 أصح الآراء في الحروف المقطعة التي في أوائل السور
95 القرآن تذكرة لمن يخشى الله
98 ما حدث لموسى وهو عائد إلى مصر
100 أمر موسى بإقامة الصلاة
102 صفات العصا
104 اليد البيضاء
105 أمر موسى بدعوة فرعون إلى التوحيد
106 ما طلبه موسى من ربه
107 اختص هارون بأمور
109 منن الله على موسى وهارون
113 تبليغ موسى وهارون الرسالة إلى فرعون
119 الدلائل التي أتى بها موسى لفرعون
120 العناد الذي أظهره فرعون بعد أن أظهر له موسى الأدلة
122 ما أعده فرعون ليوم الزينة
125 خلاصة ما استقر رأى السحرة عليه بعد التشاور
125 ما ذكره السحرة لدفع هذا الخطر
127 تخيير موسى بين أن يلقي أو يلقي السحرة
128 ما عشا به السحرة عصيهم
129 لا يفلح الساحر حيث أتى
130 ما قاله فرعون للسحرة مهددا لهم
132 أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة
133 « إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر »
135 نعمة الله على بني إسرائيل
139 أضل السامري قومه بني إسرائيل
142 عتاب موسى لهارون على سكوته على بني إسرائيل
144 كان موسى رجلا حديدا مجبولا على التصلب في كل شيء
145 مقالة موسى للسامري ورده عليه
146 خاف السامري وهرب إلى البرية
148 في قصص الأنبياء الماضين عبرة وتسلية لرسوله ﷺ
149 يحشر المجرمون زرق الوجوه شاحبى الألوان
151 قال المشركون للرسول ﷺ ما يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟
152 الشفاعة لا تنفع إلا بشروط
153 تستسلم الخلائق للحى الذي لا يموت
154 نهي النبي ﷺ عن العجلة بالقرآن قبل أن يستتم الوحي
156 كان النبي ﷺ يقول اللهم انفعني بما علمتنى إلخ
159 نصح آدم وإرشاده
160 وسوسة إبليس لآدم
161 من اتبع هدى الله فلا يضل ولا يشقى
164 في إهلاك من قبلهم من الأمم عبرة لهم
165 رؤية الله سبحانه يوم القيامة
169 طلب المشركين من النبي ﷺ آية كآيات موسى وعيسى
170 لا يعذب الله أمة إلا إذا أرسل إليها رسولا
هامش
- ↑ الخلب: الطين: والثأط: الحمأة. والحرمد: الأسود.
- ↑ هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان والد مريم.
أجزاء تفسير المراغي | |
---|---|
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون |