شرح العقيدة الطحاوية/قوله ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة
ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة ، والعرض والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب والصراط والميزان
شرح : الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة ، والعقل والفطرة السليمة . فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز ، وأقام الدليل عليه ، ورد على منكريه في غالب سور القرآن . وذلك : أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالله ، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم ، وهو فطري ، كلهم يقر بالرب ، إلا من عاند ، كفرعون ، بخلاف الإيمان باليوم الآخر ، فإن منكريه كثيرون ، ومحمد ﷺ لما كان خاتم الأنبياء ، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين ، وكان هو الحاشر المقفي - بين تفضيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء . ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم ، أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد ﷺ ، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري .
والقرآن بين معاد النفس عند الموت ، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع . وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى ، وينكرون معاد الأبدان ، ويقول من يقول منهم : إنه لم يخبر به إلا محمد ﷺ على طريق التخييل ! وهذا كذب ، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء ، من آدم إلى نوح ، إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام ، وقد أخبر الله بها من حين أهبط آدم ، فقال تعالى : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون . ولما قال إبليس اللعين : رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم . وأما نوح عليه السلام فقال : والله أنبتكم من الأرض نباتاً * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً . وقال إبراهيم عليه السلام : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين . إلى آخر القصة . وقال : ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب . وقال : رب أرني كيف تحيي الموتى الآية ، وأما موسى عليه السلام ، فقال الله تعالى لما ناجاه : إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى . بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد ، وإنما آمن بموسى ، قال تعالى حكاية عنه : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ، إلى قوله تعالى : يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ، إلى قوله : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . وقال موسى : واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك . وقد أخبر الله في قصة البقرة : فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون . وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، في آيات من القرآن ، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها : ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا : بلى ، ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين . وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا . فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم ، من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة . فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد ، يذكر ذلك فيها : في الدنيا والآخرة . وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد ، فقال : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب الآيات . وقال تعالى : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين . وقال تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير . وأخبر عن اقترابها ، فقال : اقتربت الساعة وانشق القمر . اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ، سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ، إلى أن قال : إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً . وذم المكذبين بالمعاد ، فقال : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها . ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد . بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون . وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقا ، إلى أن قال : وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين . إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً . ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا . أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا . قالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا .
فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل : فإنهم قالوا أولا : أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ، فقيل لهم في جواب هذا السؤال : إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم ، فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت ، كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك ؟! فإن قلتم : كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء - فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقاً جديداً ؟! وللحجة تقدير آخر ، وهو : لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما ، فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم ، وينقلها من حال الى حال ، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام ، مع شدتها وصلابتها ، بالإفناء والإحالة - فما الذي يعجزه فيما دونها ؟ ثم أخبر أنهم يسألون آخراً بقولهم : من يعيدنا اذا استحالت جسومنا وفنيت ؟ فأجابهم بقوله : قل الذي فطركم أول مرة . فلما أخذتهم الحجة ، ولزمهم حكمها ، انتقلوا إلى سؤال اخر يتعللون به بعلل المنقطع ، وهو قولهم : متى هو ؟ فأجيبوا بقوله : عسى أن يكون قريبا .
ومن هذا قوله : وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه ، قال : من يحيي العظام وهي رميم ؟ إلى آخر السورة . فلو رام أعلم البشر وأفضحهم وأقدرهم على البيان ، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة ، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضح الأدلة وصحة البرهان لما قدر . فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد ، اقتضى جواباً ، فكان في قوله : ونسي خلقه ما وفى بالجواب . وأقام الحجة وأزال الشبهة لما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ، فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى . إذ كل عاقل يعلم ضروريا أن من قدر على هذه قدر على هذه ، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله : وهو بكل خلق عليم . فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ، ومواده وصورته ، فكذلك الثاني . فإذا كان تام العلم ، كامل القدرة ، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم ؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة ، وبرهان ظاهر ، يتضمن جواباً عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام اذا صارت رميماً عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث ، ففيه الدليل والجواب معا، فقال : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون . فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة ، من الشجر الأخضر المتلىء بالرطوبة والبرودة ، فالذي يخرج الشيء من ضده ، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها و لا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه ، من إحياء العظام وهي رميم . ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم ، على الأيسر الأصغر ، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر ، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد أقتداراً ، فقال : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ؟ فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض ، على جلالتهما ، وعظم شأنهما ، وكبر أجسامها ، وسعتهما ، وعجيب خلقهما ، أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً ، فيردها إلى حالتها الأولى . كما قال في موضع آخر : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وقال : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم . ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر ، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره ، الذي يفعل بالآلات والكلفة ، والنصب والمشقة ، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل ، بل لا بد معه من آلة ومعين ، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته ، وقوله للمكون : كن ، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده . ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده ، فيتصرف فيه بفعله وقوله : وإليه ترجعون . ومن هذا قوله سبحانه : أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى . فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء ، كما قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ، إلى آخر السورة . فإن من نقله من النطفة إلى العلقة ، ثم إلى المضغة ، ثم شق سمعه وبصره ، وركب فيه الحواس والقوى ، والعظام والمنافع ، والأعصاب والرباطات التي هي أشده ، وأحكم خلقه غاية الإحكام ، وأخرجه على هذا الشكل والصورة ، التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية ؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى ؟ فلا يليق ذلك بحكمته ، ولا تعجز عنه قدرته . فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب ، بالقول الوجيز، الذي لا يكون أوجز منه ، والبيان الجليل ، الذي لا يتوهم أوضح منه ، ومأخذه لقريب ، الذي لا تقع الظنون على أقرب منه .
وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج ، كما في قوله تعالى : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ، إلى أن قال : وأن الله يبعث من في القبور . وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، إلى أن قال : ثم إنكم يوم القيامة تبعثون . وذكر قصة أصحاب الكهف ، وكيف أبقاهم موتى ثلاثماثة سنة شمسية ، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية ، وقال فيها : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها .
والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة ، لهم في المعاد خبط واضطراب . وهم فيه على قولين : منهم من يقول : تعدم الجواهر ثم تعاد. ومنهم من يقول : تفرق الأجزاء ثم تجمع . فأورد عليهم : الإنسان الذي يأكله حيوان ، وذلك الحيوان أكله إنسان ، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا ، لم تعد من هذا ؟ وأورد عليهم : أن الإنسان يتحلل دائماً ، فماذا الذي يعاد ؟ أهو الذي كان وقت الموت ؟ فإن قيل بذلك ، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة ، وهو خلاف ما جاءت به النصوص ، وإن كان غير ذلك ، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض ! فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل ، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني ! والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل ، ليس فيه شيء باق ، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان .
والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء : أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال ، فتستحيل تراباً ، ثم ينشئها الله نشأة أخرى ، كما استحال في النشأة الأولى : فإنه كان نطفة ، ثم صار علقة ، ثم صار مضغة ، ثم صار عظاماً ولحماً ، ثم أنشأه خلقاً سوياً . كذلك الإعادة : يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب ، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ ، أنه قال : كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ، منه خلق ابن آدم ، ومنه يركب . وفي حديث آخر : إن السماء تمطر مطراً كمني الرجال ، ينبتون في القبور كما ينبت النبات .
فالنشأتان نوعان تحت جنس ، يتفقان ويتماثلان من وجه ، ويفترقان ويتنوعان من وجه . والمعاد هو الأول بعينه ، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداءة فرق ، فعجب الذنب هو الذي يبقى ، وأما سائره فيستحيل ، فيعاد من المادة التي استحال إليها . ومعلوم أن من رأى شخصاً وهو صغير ، ثم رآه وقد صار شيخاً ، علم أن هذا هو ذاك ، مع أنه دائماً في تحلل واستحالة . وكذلك سائر الحيوان والنبات ، فمن رآى شجرة وهي صغيرة ، ثم رآها كبيرة ، قال : هذه تلك . وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة ، حتى يقال إن الصفات هي المغيرة ، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة آدم ، طوله ستون ذراعاً ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، وروي : أن عرضه سبعة أذرع . وتلك نشأة باقية غير معرضة للآفات ، وهذه النشأة فانية معرضة للآفات .
وقوله : وجزاء الأعمال - قال تعالى : مالك يوم الدين . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين . والدين : الجزاء ، يقال : كما تدين تدان ، أي كما تجازي تجازى ، وقال تعالى : جزاء بما كانوا يعملون . جزاءً وفاقاً . من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ، من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون . من جاء بالحسنة فله خير منها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون . وأمثال ذلك . وقال ﷺ ، فيما يروي عن ربه عز وجل ، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه : يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب ، إن شاء الله تعالى .
وقوله : والعرض والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب . قال تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ، إلى آخر السورة . يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه * فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا * وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى إن ربه كان به بصيرا . وعرضوا على ربك صفاً ، لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة . ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا . يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ، إلى آخر السورة . رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ، إلى قوله : إن الله سريع الحساب . واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون . وروى البخاري رحمه الله في صحيحه ، عن عائشة ، أن النبي ﷺ قال : ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك ، فقلت : يا رسول الله ، أليس قد قال الله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً ، فقال رسول الله ﷺ : إنما ذلك العرض ، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب . يعني أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولكنه تعالى يعفو ويصفح . وسيأتي لذلك زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى . وفي الصحيح عن النبي ﷺ ، أنه قال : إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش ، فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة يوم الطور ؟ وهذا صعق في موقف القيامة ، إذا جاء الله لفصل القضاء ، وأشرقت الأرض بنوره ، فحينئذ يصعق الخلائق كلهم . فإن قيل : كيف تصنعون بقوله في الحديث : إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من تنشق عنه الارض ، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش ؟ قيل : لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا ، ومنه نشأ الإشكال . ولكنه دخل فيه على الراوي حديثاً في حديث ، فركب بين اللفظين ، فجاء هذان الحديثان هكذا : أحدهما : أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، كما تقدم ، والثاني : أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ، فدخل على الراوي هذا الحديث في الآخر . وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي ، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم ، وشيخنا الشيخ عماد بن كثير ، رحمهم الله . وكذلك اشتبه على بعض الرواة، فقال : فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل ؟ والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول ، وعليه المعنى الصحيح ، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده إذا لفصل القضاء ، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم ، فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً ، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي ربه يوم القيامة . فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله . وروى الإمام أحمد ، و الترمذي ، و أبو بكر بن أبي الدنيا ، عن الحسن ، قال : سمعت أبا موسى الأشعري يقول : قال رسول الله ﷺ : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فعرضتان جدال ومعاذير ، وعرضة تطاير الصحف ، فمن أوتي كتابه بيمينه ، وحوسب حساباً يسيراً ، دخل الجنة ، ومن أوتي كتابه بشماله ، دخل النار . وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك : أنه أنشد في ذلك شعراً :
وطارت الصحف في الأيدي منشرة.......فيها السرائر والأخبار تطلع
فكيف سهوك والأنبـــاء واقعـــة.....عما قليل ولا تدري بما تقـع
أفي الجنان وفوز لا انقـطاع له.....أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع
تهوي بساكنها طوراً وترفعهم......إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعوا
طال البكاء فلم يرحم تضرعهم فيها....ولا رقية تغني ولا جزع
لينفع العلم قبل الموت عالمـه.....قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا
قوله : والصراط ، أي : وتؤمن بالصراط ، وهو جسر على جهنم ، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة التي دون الصراط ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله ﷺ سئل : أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ؟ فقال : هم في الظلمة دون الجسر . وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ، ويتخلفون عنهم ، ويسبقهم المؤمنون ، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم . وروى البيهقي بسنده ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : يجمع الله الناس يوم القيامة ، إلى أن قال : فيعطون نورهم على قدر أعمالهم ، وقال : فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه ، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك ، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه ، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه ، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه ، يضيىء مرة ويطفأ مرة ، إذا أضاء قدم قدمه ، وإذا طفيء قام ، قال : فيمر ويمرون على الصراط ، والصراط كحد السيف ، دحض ، مزلة ، فيقال لهم : امضوا على قدر نوركم ، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالطرف ، ومنهم من يمر كشد الرجل ، يرمل رملاً ، فيمرون على قدر أعمالهم ، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه ، تخر يد ، وتعلق يد ، وتخر رجل ، وتعلق رجل ، وتصيب جوانبه النار ، فيخلصون ، فإذا خلصوا قالوا : الحمد الله الذي نجانا منك بعد أن أراناك ، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد . . . الحديث .
واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها ، ما هو ؟ والأظهر والأقوى أنه المرور الصراط ، قال تعالى : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً . وفي الصحيح أنه ﷺ قال : والذي نفسي بيده ، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة ، قالت حفصة : فقلت : يا رسول الله ، أليس الله يقول : وإن منكم إلا واردها ، فقال : ألم تسمعيه قال : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً . أشار ﷺ إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها ، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله ، بل تستلزم انعقاد سببه ، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه ، يقال : نجاه الله منهم . ولهذا قال تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هوداً . ؟ فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً . ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً . ولم يكن العذاب أصابهم ، ولكن أصاب غيرهم ، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك . وكذلك حال الوارد في النار ، يمرون فوقها على الصراط ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً . فقد بين ﷺ في حديث جابر المذكور : أن الورود هو الورود على الصراط . وروى الحافظ أبو نصر الوائلي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال ﷺ : علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك ، وإن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة ، فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك . أورد القرطبي . وروى أبو بكر بن أحمد بن سليمان النجار ، عن يعلى بن منية ، عن رسول الله ﷺ ، قال : تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي .
وقوله : والميزان ، أي : ونؤمن بالميزان . قال تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ، فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين . وقال تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون . قال القرطبي : قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ، لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة ، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال ، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها . قال : وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة . يحتمل أن يكون ثم موازين متعددة توزن فيها الأعمال ، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات ، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة ، والله أعلم .
والذي دلت عليه السنة : أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان . روى الإمام أحمد ، من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله ﷺ : إن الله سيختص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئاً أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال : لا ، يا رب ، فيقول : ألك عذر أوحسنة ؟ فيبهت الرجل ، فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم اليوم عليك ، فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول أحضروه ، فيقول : يا رب ، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم . وهكذا روى الترمذي ، و ابن ماجه ، و ابن أبي الدنيا ، من حديث الليث ، زاد الترمذي : ولا يثقل مع اسم الله شيء . وفي سياق آخر : توضع الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة وفي هذا السياق فائدة جليلة ، وهي أن العامل يوزن مع عمله ، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ ، قال : أنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرؤوا إن شئتم : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً . وروى الإمام أحمد ، عن ابن مسعود : أنه كان يجني سواكاً من الأراك ، وكان دقيق الساقين ، فجعلت الريح تكفؤه ، فضحك القوم منه ، فقال رسول الله ﷺ : مم تضحكون ؟ قالوا : يا نبي الله ، من دقة ساقية ، فقال : والذي نفسي بيده ، لهما أثقل في الميزان من أحد . وقد وردت الأحاديث أيضاً بوزن الأعمال أنفسها ، كما في صحيح مسلم ، عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله ﷺ : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان . وفي الصحيح ، وهو خاتمة كتاب البخاري ، قوله ﷺ : كلمتان خفيفتان على اللسان ، حبيبتان إلى الرحمن ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم . وروى الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ ، قال : يؤتى بابن آدم يوم القيامة ، فيوقف بين كفتي الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خف ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً . فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول : الأعمال أعراض لا تقبل الوزن ، وإنما يقبل الوزن الأجسام ! ! فإن الله يقلب الأعراض أجساماً ، كما تقدم ، وكما روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : يؤتى بالموت كبشاً أغر ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال ، يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، ويقال : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، ويرون أن قد جاء الفرج ، فيذبح ، ويقال : خلود لا موت . ورواه البخاري بمعناه . فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال ، وثبت أن الميزان له كفتان . والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات .
فعلينا الإيمان بالغيب ، كما أخبرنا الصادق ﷺ ، من غير زيادة ولا نقصان . ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع ، لخفاء الحكمة عليه ، ويقدح في النصوص بقوله : لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال ! ! وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً . ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده ، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين . فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه . فتأمل قول الملائكة ، لما قال الله لهم : إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال : إني أعلم ما لا تعلمون . وقال تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه الله ، أن الحوض قبل الميزان ، والصراط بعد الميزان . ففي الصحيحين : أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة . وجعل القرطبي في التذكرة هذه القنطرة صراطاً ثانياً للمؤمنين خاصة ، وليس يسقط منه أحد في النار ، والله تعالى أعلم .