مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/سئل عمن يقول الكلام غير المتكلم


سئل عمن يقول الكلام غير المتكلم

عدل

وسئل رحمه الله:

ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن يقول: الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى؟ بينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا؛ ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد، أثابكم الله بمنه؟.

فأجاب رضي الله عنه:

الحمد لله، من قال: إن الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، وأراد أنه مباين له ومنفصل عنه فهذا خطأ وضلال، وهو قول من يقول: إن القرآن مخلوق؛ فإنهم يزعمون أن الله لا يقوم به صفة من الصفات، لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم: العلم غير العالم والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم، ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق، وهذا تلبيس منهم.

فإن لفظ الغير يراد به ما يجوز مباينته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال: علم الله غيره، ولا يقال: إن الواحد من العشرة غيرها، وأمثال ذلك، وقد يراد بلفظ الغير ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف، لكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته مخلوقًا؛ لأن صفاته ليست هي الذات، لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسمًا لذات لا صفات لها، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها.

والصواب في مثل هذا أن يقال: الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس باينا منه، بل أسمعه لجبريل، ونزل به على محمد ، كما قال تعالى { أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 1، ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، بل يقال كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. فقولهم: منه بدأ رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ. فبينوا أن الله هو المتكلم به منه بدأ لا من بعض المخلوقات وإليه يعود أي: فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف، وأما القرآن فهو كلام الله.

فمن قال: إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال: إن الكلام غير المتكلم. وكذلك من قال: إن كلام الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به فخطؤه ظاهر، وكذلك من قال: إن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون، فقد أخطأ.

وإن أراد ب القرآن مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا، وقال: أردت أن القراءة غير المقروء،، فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر غير المقروء، كما يجعل التكلم الذي هو فعله غير الكلام الذي هو يقوله، وأراد بالغير أنه ليس هو إياه، فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني؛ ولهذا يجعل القول قسيمًا للفعل تارة، وقسما منه أخرى.

فالأول كما يقول: الإيمان قول وعمل، ومنه قوله : «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به»، ومنه قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } 2، ومنه قوله تعالى: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } 3، وأمثال ذلك مما يفرق بين القول والعمل. وأما دخول القول في العمل، ففي مثل قوله تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 4. وقد فسروه بقول: لا إله إلا الله، ولما سئل : أي الأعمال أفضل؟ قال: »الإيمان بالله» مع قوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ونظائر ذلك متعددة.

وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا، إذا قال قولا كالقراءة ونحوها، هل يحنث؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، بناء على هذا.

فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب، والله سبحانه وتعالى أعلم.


هامش

  1. [الأنعام: 114]
  2. [فاطر: 10]
  3. [يونس: 61]
  4. [الحجر: 92، 93]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثاني عشر
فصل التنازع في الحروف الموجودة في كلام الآدميين | فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها | تابع فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها | فصل في المراد بلفظ الحروف | فصل في بيان أن القرآن العظيم كلام الله | فصل في منشأ النزاع والاشتباه | فصل في معرفة الأصل الذي تفرع منه النزاع | سئل عمن قال اختلاف المسلمين في كلام الله على ثلاثة أنحاء | تابع مسألة أختلاف الناس على ثلاثة أنحاء | سئل عن ما يجب على الإنسان أن يعتقده | فصل في نزول القرآن | سئل عن قوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وقوله إنه لقول رسول كريم | فصل عن قوله تعالى إنه لقول رسول كريم | فصل وأما قول القائل أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه | فصل قول القائل تقولون إن القرآن صفة الله | فصل في قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره | سئل عمن يقول كلام الناس قديم | فصل مسألة اللفظ بالقرآن | فصل فيما قاله الكفار في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم | فصل في الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله | فصل في الذين غلطوا مذهب اللفظية | فصل في ذكر بعض جهالات اللفظية | فصل رد الإمام أحمد على اللفظية | فصل فيمن أدرك من درجات الكلام بعض الحق | فصل في ذكر نصوص الإمام أحمد في الرد على اللفظية | فصل في العلة من ذكر ابن تيمية لنصوص الإمام أحمد | فصل في ذكر المواضع التي نص فيها الإمام أحمد على هذه المسألة | فصل في ذكر من قال إن الإمام أحمد قال ذلك خوفا من الناس | فصل في ذكر شبهة هؤلاء | فصل في سؤال السائل هل يجب على ولي الأمر زجرهم وردعهم | فصل في تكفير قائل هذا القول | فصل مسألة التكفير والتفسيق من مسائل الأسماء والأحكام | فصل في معرفة مسألة الأحكام | فصل في مسألة تكفير أهل البدع والأهواء | سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما | سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما فقال له آخر بل كلمه تكليما | سئل عن هذا القرآن الذي نتلوه هو كلام الله الذي تكلم به | فصل في أن القرآن الذي نقرأه هو كلام الله | سئل عن رجلين قال أحدهما القرآن كلام الله وقال الآخر هو كلام جبريل | سئل عمن يقول الكلام غير المتكلم | سئل عن المصحف هل هو نفس القرآن | فصل في أن القرآن الذي بين دفتي المصحف متواتر | هل الحروف مخلوقة أو غير مخلوقة | سئل عمن يقول إن الشكل والنقط من كلام الله تعالى | فصل في الكلام في القرآن هل هو حرف وصوت | سئل عن رجلين تباحثا في موضوع الحروف والصوت | سئل عن المصحف العتيق إذا تمزق ما يصنع به